الكتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع بيروت - لبنان عام النشر: 1415 هـ - 1995 مـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مشكول وضمن خدمة مقارنة التفاسير]   الكتاب مرتبط بنسخة مصورة مخالفة في الترقيم وهي ط عالم الفوائد بإشراف الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - ---------- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن الشنقيطي، محمد الأمين الكتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع بيروت - لبنان عام النشر: 1415 هـ - 1995 مـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مشكول وضمن خدمة مقارنة التفاسير]   الكتاب مرتبط بنسخة مصورة مخالفة في الترقيم وهي ط عالم الفوائد بإشراف الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - ـ[أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن]ـ المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان الطبعة: 1415 هـ - 1995 مـ [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مشكول وضمن خدمة مقارنة التفاسير]   الكتاب مرتبط بنسخة مصورة مخالفة في الترقيم وهي ط عالم الفوائد بإشراف الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْفَاتِحَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . لَمْ يَذْكُرْ لِحَمْدِهِ هُنَا ظَرْفًا مَكَانِيًّا وَلَا زَمَانِيًّا، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الرُّومِ أَنَّ مِنْ ظُرُوفِهِ الْمَكَانِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي قَوْلِهِ: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ أَنَّ مِنْ ظُرُوفِهِ الزَّمَانِيَّةِ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ فِي قَوْلِهِ: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي (الْحَمْدُ) لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَهُوَ ثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَفِي ضِمْنِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا الْعَالَمُونَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) [26 \ 23، 24] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اشْتِقَاقُ الْعَالَمِ مِنَ الْعَلَامَةِ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ عَلَامَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [3 \ 190] ، وَالْآيَةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَلَامَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) همَا وَصْفَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَالرَّحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الرَّحِيمِ ; لِأَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَالرَّحِيمُ ذُو الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا. وَفِي تَفْسِيرِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَدُلُّ لَهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِيسَى كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، إِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الْآخِرَةِ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حَيْثُ قَالَ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ) ، وَقَالَ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، فَذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنُ لِيَعُمَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ بِرَحْمَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) أَيْ: وَمِنْ رَحْمَانِيَّتِهِ: لُطْفُهُ بِالطَّيْرِ، وَإِمْسَاكُهُ إِيَّاهَا صَافَّاتٍ وَقَابِضَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ. وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، وَقَالَ: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) فَخَصَّهُمْ بِاسْمِهِ الرَّحِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَرَّرْتُمْ، وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحْمَانُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا» . فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الرَّحِيمَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ؛ بَلْ يَشْمَلُ رَحْمَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا، فَيَكُونُ مَعْنَى: «رَحِيمُهُمَا» رَحْمَتُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِيهِمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) لِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَيْهِمْ وَصَلَاةَ مَلَائِكَتِهِ وَإِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ رَحْمَةٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَإِنْ كَانَتْ سَبَبَ الرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [9 \ 117] فَإِنَّهُ جَاءَ فِيهِ بِالْبَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّحِمِ الْجَارَّةِ لِلضَّمِيرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَوْبَتُهُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَةِ الْآخِرَةِ أَيْضًا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا، وَبَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) الْآيَةَ [82 \ 17، 18، 19] . وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِي الْآيَةِ الْجَزَاءُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) أَيْ: جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ بِالْعَدْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ. فَالنَّفْيُ: خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ. وَالْإِثْبَاتُ: إِفْرَادُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى النَّفْيِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ الَّذِي هُوَ (إِيَّاكَ) وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ. وَفِي الْمَعَانِي فِي مَبْحَثِ الْقَصْرِ: أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ. وَأَشَارَ إِلَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (نَعْبُدُ) . وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهَا الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) الْآيَةَ [2 \ 21] ، فَصَرَّحَ بِالْإِثْبَاتِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، وَصَرَّحَ بِالنَّفْيِ مِنْهَا فِي آخِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [2 \ 22] ، وَكَقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فَصَرَّحَ بِالْإِثْبَاتِ بِقَوْلِهِ: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) وَبِالنَّفْيِ بِقَوْلِهِ: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ، وَكَقَوْلِهِ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [2 \ 256] فَصَرَّحَ بِالنَّفْيِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) ، وَبِالْإِثْبَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) ، وَكَقَوْلِهِ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [43 \ 26، 27] ، وَكَقَوْلِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [21 \ 25] وَقَوْلِهِ: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [43 \ 45] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أَيْ: لَا نَطْلُبُ الْعَوْنَ إِلَّا مِنْكَ وَحْدَكَ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلُّهُ بِيَدِكَ وَحْدَكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُ مَعَكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِتْيَانُهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِيَدِهِ الْأَمْرُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا وَاضِحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) الْآيَةَ [11 \ 123] ، وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) الْآيَةَ [9 \ 129] وَقَوْلِهِ: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [73 \ 9] وَقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) [67 \ 29] وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) . تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صِحَّةُ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَنْ أَمَرَنَا اللَّهُ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ - أَعْنِي الْفَاتِحَةَ - بِأَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُمْ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صِرَاطَهُمْ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وَقَدْ بَيَّنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، فَعَدَّ مِنْهُمُ الصِّدِّيقِينَ. وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ الصِّدِّيقِينَ، فَاتَّضَحَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ إِلَى صِرَاطِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ لَبْسٌ فِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَنَّ إِمَامَتَهُ حَقٌّ. الثَّانِي: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ صِدِّيقَةٌ فِي قَوْلِهِ: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [5 \ 75] وَإِذَنْ فَهَلْ تَدْخُلُ مَرْيَمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَنَّ دُخُولَهَا فِيهِمْ يَتَفَرَّعُ عَلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا مَعْرُوفَةٍ، وَهِيَ: هَلْ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْجُمُوعِ الصَّحِيحَةِ الْمُذَكَّرَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِجَمَاعَةِ الذُّكُورِ تَدْخُلُ فِيهِ الْإِنَاثُ أَوْ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ: فَمَرْيَمُ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى تَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الْجَمْعِ. وَالثَّانِي: وُرُودُ آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِنَّ فِي الْجُمُوعِ الصَّحِيحَةِ الْمُذَكَّرَةِ وَنَحْوِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ نَفْسِهَا: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [66 \ 12] ، وَقَوْلِهِ فِي امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) [12 \ 29] ، وَقَوْلِهِ فِي بِلْقِيسَ: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) [27 \ 43] ، وَقَوْلِهِ فِيمَا كَالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) الْآيَةَ [2 \ 38] ; فَإِنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِ حَوَّاءُ إِجْمَاعًا. وَذَهَبَ كَثِيرٌ إِلَى أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ كَقَوْلِهِ: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [33 \ 35] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [24 \ 31] ، ثُمَّ قَالَ: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) الْآيَةَ [24 \ 31] ، فَعَطْفُهُنَّ عَلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِنَّ. وَأَجَابُوا عَنْ حُجَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَغْلِيبَ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الْجَمْعِ لَيْسَ مَحَلَّ نِزَاعٍ. وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَنَحْوِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَعَنِ الْآيَاتِ بِأَنَّ دُخُولَ الْإِنَاثِ فِيهَا إِنَّمَا عُلِمَ مِنْ قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَدَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَدُخُولُهُنَّ فِي حَالَةِ الِاقْتِرَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَرْيَمُ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْآيَةِ وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَمَا شُمُولُ مَنْ لِلْأُنْثَى جَنَفُ ... وَفِي شَبِيهِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا وَقَوْلُهُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ جَمَاهِيرُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الْيَهُودُ، وَ «الضَّالُّونَ» النَّصَارَى. وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ جَمِيعًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ الْغَضَبَ إِنَّمَا خُصَّ بِهِ الْيَهُودُ، وَإِنْ شَارَكَهُمُ النَّصَارَى فِيهِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيُنْكِرُونَهُ، وَيَأْتُونَ الْبَاطِلَ عَمْدًا، فَكَانَ الْغَضَبُ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ. وَالنَّصَارَى جَهَلَةٌ لَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ، فَكَانَ الضَّلَالُ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَقَدَ يُبَيِّنُ أَنَّ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الْيَهُودَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) الْآيَةَ [2 \ 90] ، وَقَوْلُهُ فِيهِمْ أَيْضًا: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الْآيَةَ [5 \ 60] ، وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ) الْآيَةَ [7 \ 152] ، وَقَدْ يُبَيِّنُ أَنَّ (الضَّالِّينَ) النَّصَارَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [5 \ 77] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ - أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ الْمَعْرُوفِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ - أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِينَ لَيْسَ هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لَهُمْ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [41 \ 44] وَقَوْلِهِ: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) وَقَوْلِهِ: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [9 \ 124، 125] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) الْآيَتَيْنِ [5 \ 64، 68] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْهُدَى الْخَاصُّ؛ الَّذِي هُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، لَا الْهُدَى الْعَامُّ؛ الَّذِي هُوَ إِيضَاحُ الْحَقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «بِمَنْ» التَّبْعِيضِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ بَعْضَ مَالِهِ لَا كُلِّهِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي إِمْسَاكُهُ. وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ: هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْحَاجَةِ وَسَدِّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا) [2 \ 219] ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ: الزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى عَفَوْا) [7 \ 95] ، أَيْ: كَثُرُوا، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجَهْدِ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجَهْدَ وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ] خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِحٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَبَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) [17 \ 29] فَنَهَاهُ عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) وَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْرَافِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) ، فَيَتَعَيَّنُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [25 \ 67] فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْفِقِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُودِ وَالتَّبْذِيرِ، وَبَيْنَ الْبُخْلِ وَالِاقْتِصَادِ. فَالْجُودُ غَيْرُ التَّبْذِيرِ، وَالِاقْتِصَادُ غَيْرُ الْبُخْلِ. فَالْمَنْعُ فِي مَحَلِّ الْإِعْطَاءِ مَذْمُومٌ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) ، وَالْإِعْطَاءُ فِي مَحَلِّ الْمَنْعِ مَذْمُومٌ أَيْضًا وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: [الْبَسِيطُ] لَا تَمْدَحَنَّ ابْنَ عَبَّادٍ وَإِنْ هَطَلَتْ ... يَدَاهُ كَالْمُزْنِ حَتَّى تَخْجَلَ الدِّيَمَا فَإِنَّهَا فَلَتَاتٌ مِنْ وَسَاوِسِهِ ... يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمَا وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْرِفُهُ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الْآيَةَ [2 \ 215] وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ حَسْرَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِهِ: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) الْآيَةَ [8 \ 36] وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تُعَدُّ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي قَرَّرْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ هُوَ إِنْفَاقُ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ بِالْإِنْفَاقِ وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَا أَنْفَقُوا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [59 \ 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا، فَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ الْإِيثَارُ مَمْنُوعًا. وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَتْ عَلَى الْمُنْفِقِ نَفَقَاتٌ وَاجِبَةٌ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَنَحْوِهَا فَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ، وَتَرَكَ الْفَرْضَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» وَكَأَنْ يَكُونَ لَا صَبْرَ عِنْدَهُ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ فَيُنْفِقُ مَالَهُ وَيَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يَسْأَلُهُمْ مَالَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْإِيثَارُ فِيمَا إِذَا كَانَ لَمْ يُضَيِّعْ نَفَقَةً وَاجِبَةً وَكَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ بِالصَّبْرِ وَالتَّعَفُّفِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) يَعْنِي بِهِ الزَّكَاةَ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) الْآيَةَ، لَا يَخْفَى أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: (وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) مُحْتَمِلَةٌ فِي الْحَرْفَيْنِ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى مَا قَبْلِهَا، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ قَوْلَهُ (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ (عَلَى قُلُوبِهِمْ) ، وَأَنَّ قَوْلَهُ (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) اسْتِئْنَافٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ (غِشَاوَةٌ) وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ فِيهِ اعْتِمَادُهَا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذَا الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالْمُبْتَدَأِ كَمَا عَقَدَهُ فِي [الْخُلَاصَةِ] بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَنَحْوَ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِي وَطَرْ ... مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقُدُّمُ الْخَبَرْ فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْخَتْمَ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ، وَأَنَّ الْغِشَاوَةَ عَلَى الْأَبْصَارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [45 \ 23] ، وَالْخَتْمُ: الِاسْتِيثَاقُ مِنَ الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهُ دَاخِلٌ فِيهِ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ خَارِجٌ عَنْهُ، وَالْغِشَاوَةُ: الْغِطَاءُ عَلَى الْعَيْنِ يَمْنَعُهَا مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ: [الطَّوِيلُ] هَوَيْتُكِ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ «غِشَاوَةٌ» فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [45 \ 23] ، كَمَا فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» وَهُوَ كَقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وَقَوْلِ الْآخَرِ: [مُرَفَّلُ الْكَامِلِ] وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: [الْوَافِرُ] إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعَيُونَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْمَجْرُورِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ الطَّبْعُ عَلَى الْأَبْصَارِ أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) [الْآيَةَ 108] . فَالْجَوَابُ: أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى الْأَبْصَارِ الْمَذْكُورَ فِي آيَةِ النَّحْلِ: هُوَ الْغِشَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْجَاثِيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا بَيَانًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَصَرَّحَ بِذِكْرِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) [9 \ 101] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنِ اسْتِهْزَائِهِ بِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ فِي قَوْلِهِ: (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) [57 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) الْآيَةَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُتَّصِفُونَ بِالصَّمَمِ، وَالْبُكْمِ، وَالْعَمَى. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَعْنَى صَمَمِهِمْ، وَبُكُمِهِمْ، وَعِمَاهُمْ، هُوَ عَدَمُ انْتِفَاعِهِمْ بِأَسْمَاعِهِمْ، وَقُلُوبِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [46 \ 26] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) الْآيَةَ، الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَثَلًا لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْهُدَى، وَالْعِلْمِ بِالْمَطَرِ ; لِأَنَّ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ، كَمَا أَنَّ بِالْمَطَرِ حَيَاةَ الْأَجْسَامِ. وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) [7 \ 58] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وَقَدْ أَوْضَحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَثَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا. فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ؛ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ) ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَثَلَ لِمَا يَعْتَرِي الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي الْقُرْآنِ، بِظُلُمَاتِ الْمَطَرِ الْمَضْرُوبِ مَثَلًا لَلْقُرْآنِ، وَبَيَّنَ بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ كَالظُّلْمَةِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عَمًى فِي آيَاتٍ أُخَرَ لِقَوْلِهِ: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) [2 \ 143] ; لِأَنَّ نَسْخَ الْقِبْلَةِ يَظُنُّ بِسَبَبِهِ ضِعَافُ الْيَقِينِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِ حَيْثُ يَسْتَقْبِلُ يَوْمًا جِهَةً، وَيَوْمًا آخَرَ جِهَةً أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [2 \ 142] . وَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ نَسْخَ الْقِبْلَةِ كَبِيرٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَقَوَّى يَقِينَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [17 \ 60] ; لِأَنَّ مَا رَآهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ، كَانَ سَبَبًا لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاذِبٌ ; لِزَعْمِهِمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ. فَهُوَ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الضَّالِّينَ ضَلَالًا. وَكَذَلِكَ الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فَهِيَ سَبَبٌ أَيْضًا لِزِيَادَةِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) [37 \ 64] قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُهُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ فَكَيْفَ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ النَّارِ؟ ! وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [74 \ 31] ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) [74 \ 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 قَالَ بَعْضُ رِجَالِ قُرَيْشٍ: هَذَا عَدَدٌ قَلِيلٌ فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَاحْتِلَالِ الْجَنَّةِ بِالْقُوَّةِ ; لِقِلَّةِ الْقَائِمِينَ عَلَى النَّارِ الَّتِي يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّا سَنَدْخُلُهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ اخْتِبَارًا وَابْتِلَاءً، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَعْدٌ) ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِالرَّعْدِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الزَّوَاجِرِ الَّتِي تَقْرَعُ الْآذَانَ، وَتُزْعِجُ الْقُلُوبَ. وَذَكَرَ بَعْضًا مِنْهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً) الْآيَةَ [41 \ 13] ، وَكَقَوْلِهِ: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) الْآيَةَ [4 \ 47] ، وَكَقَوْلِهِ: (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [34 \ 46] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [52 \ 35] إِلَى قَوْلِهِ (الْمُسَيْطِرُونَ) كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ الَّتِي خَوَّفَتِ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) [63 \ 4] ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبَرْقٌ) ضَرَبَ تَعَالَى الْمَثَلَ بِالْبَرْقِ ; لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نُورِ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ يَكْشِفُ اللَّهُ بِهِ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ، كَمَا تُكْشَفُ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ ظُلُمَاتُ الدُّجَى كَقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) [4 \ 174] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [42 \ 52] وَقَوْلِهِ: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [7 \ 157] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: (مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) أَيْ: مُهْلِكُهُمْ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ) [12 \ 66] أَيْ: تُهْلَكُوا عَنْ آخِرِكُمْ. وَقِيلَ: تُغْلَبُوا. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ ; لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا يَهْلَكُ حَتَّى يُحَاطَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَنْفَذٌ لِلسَّلَامَةِ يَنْفُذُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْمَغْلُوبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ] أَحَطْنَا بِهِمْ حَتَّى إِذَا مَا تَيَقَّنُوا ... بِمَا قَدْ رَأَوْا مَالُوا جَمِيعًا إِلَى السِّلْمِ وَمِنْهُ أَيْضًا: بِمَعْنَى الْهَلَاكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) الْآيَةَ [18 \ 42] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) الْآيَةَ [10 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) أَيْ: يَكَادُ نُورُ الْقُرْآنِ لِشِدَّةِ ضَوْئِهِ يُعْمِي بَصَائِرَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الْخَاطِفَ الشَّدِيدَ النُّورِ يَكَادُ يَخْطَفُ بَصَرَ نَاظِرِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْبَصَرُ ضَعِيفًا ; لِأَنَّ الْبَصَرَ كُلَّمَا كَانَ أَضْعَفَ كَانَ النُّورُ أَشَدَّ إِذْهَابًا لَهُ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [الْكَامِلُ] مِثْلَ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى ... نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ وَقَالَ الْآخَرُ: [الطَّوِيلُ] خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ ... وَوَافَقَهَا قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ وَبَصَائِرُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. فَشِدَّةُ ضَوْءِ النُّورِ تَزِيدُهَا عَمًى. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْعَمَى فِي قَوْلِهِ: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) [13 \ 19] وَقَوْلِهِ: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ؛ أَيْ: يَكَادُ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) ضَرَبَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَثَلَ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَصْحَابِ هَذَا الْمَطَرِ إِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِي ضَوْئِهِ، وَإِذَا أَظْلَمَ وَقَفُوا، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ مُوَافِقًا لِهَوَاهُمْ وَرَغْبَتِهِمْ عَمِلُوا بِهِ، كَمُنَاكَحَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِرْثِهِمْ لَهُمْ، وَالْقَسْمِ لَهُمْ مِنْ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِصْمَتِهِمْ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ مَعَ كُفْرِهِمْ فِي الْبَاطِنِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِهَوَاهُمْ كَبَذْلِ الْأَنْفُسِ، وَالْأَمْوَالِ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ وَقَفُوا وَتَأَخَّرُوا. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [24 \ 48، 49] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أَيْ: إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ وَالْعَافِيَةِ قَالُوا: هَذَا الدِّينُ حَقٌّ، مَا أَصَابَنَا مُنْذُ تَمَسَّكْنَا بِهِ إِلَّا الْخَيْرَ (وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) أَيْ: وَإِنْ أَصَابَهُمْ فَقْرٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ وُلِدَتْ لَهُمُ الْبَنَاتُ دُونَ الذُّكُورِ قَالُوا: مَا أَصَابَنَا هَذَا إِلَّا مِنْ شُؤْمِ هَذَا الدِّينِ وَارْتَدُّوا عَنْهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [22 \ 11] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِضَاءَتُهُ لَهُمْ مَعْرِفَتَهُمْ بَعْضَ الْحَقِّ مِنْهُ، وَإِظْلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبَيَّنَهَا مُفَصَّلَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ: الْأَوَّلُ: خَلْقُ النَّاسِ أَوَّلًا الْمُشَارُ إِلَيْهِ بُقُولِهِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ; لِأَنَّ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ أَعْظَمُ بُرْهَانٍ عَلَى الْإِيجَادِ الثَّانِي، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) الْآيَةَ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [21 \ 104] ، وَكَقَوْلِهِ: (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، وَقَوْلِهِ: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) الْآيَةَ [50 \ 15] ، وَكَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) [22 \ 5] ، وَكَقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى) الْآيَةَ [56 \ 62] . وَلِذَا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ فَقَدْ نَسِيَ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الْآيَةَ [36 \ 78] ، وَقَوْلِهِ: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [19 \ 67، 68] ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الدَّلِيلَ بِقَوْلِهِ: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) الْآيَةَ [19 \ 68] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الْبُرْهَانُ الثَّانِي: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَعْظَمِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِ قَادِرٌ مِنْ بَابٍ أَحْرَى. وَأَوْضَحَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْبُرْهَانَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [40 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [36 \ 81] ، وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى) [46 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [17 \ 99] ، وَقَوْلِهِ: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) الْآيَةَ [79 \ 27] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ: إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا ; فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) وَأَوْضَحَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [41 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [50 \ 11] ، يَعْنِي: خُرُوجُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ عِظَامًا رَمِيمًا. وَقَوْلِهِ: (وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [30 \ 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [7 \ 57] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) لَمْ يُصَرِّحْ هَنَا بَاسِمِ هَذَا الْعَبْدِ الْكَرِيمِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ بِاسْمِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) [47 \ 2] صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) هَذِهِ الْحِجَارَةُ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنْوَاعَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [47 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا صِفَاتِ تِلْكَ الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ صِفَاتِهِنَّ الْجَمِيلَةَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [37 \ 48] ، وَقَوْلِهِ: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [55 \ 58] ، وَقَوْلِهِ: (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) [56 \ 22، 23] ، وَقَوْلِهِ: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) [78 \ 33] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِجَمِيلِ صِفَاتِهِنَّ، وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ بِلَا هَاءٍ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَالزَّوْجَةُ بِالْهَاءِ لُغَةٌ: لَا لَحْنَ كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا زَوْجَتِي» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: [الطَّوِيلُ] وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْكَامِلُ] فَبَكَى بَنَاتِي شَجْوُهُنَّ وَزَوْجَتِي ... وَالظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مِنْهُ الْأَرْحَامَ بِقَوْلِهِ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [47 \ 22] . وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضِهِمُ الْآخَرِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) [4 \ 150، 151] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ظَاهِرُهُ: أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا خُلِقَ بِالْفِعْلِ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِهِ قَبْلَ السَّمَاءِ، تَقْدِيرُهُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي التَّقْدِيرَ خَلْقًا كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) [41 \ 10] ، ثُمَّ قَالَ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) الْآيَةَ [2 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) الْآيَةَ فِي قَوْلِهِ: (خَلِيفَةً) وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ أَبُونَا آدَمُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ صَارَ خَلَفًا مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْأَرْضَ قَبْلَهُ، وَعَلَيْهِ فَالْخَلِيفَةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ يَخْلُفُهُ مَنْ بَعْدَهُ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ فَعِيلَةٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَكَوْنُ الْخَلِيفَةِ هُوَ آدَمُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: (خَلِيفَةً) مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ؛ أَيْ: خَلَائِفُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَالْمُفْرَدُ إِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُهُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) [54 \ 54] يَعْنِي «وَأَنْهَارٍ» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الْآيَةَ [47 \ 15] . وَقَوْلِهِ: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [25 \ 74] ، وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) [4 \ 4] وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَقِيلِ بْنِ عُلَّفَةَ الْمُرِّيِّ: [الْوَافِرُ] وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمٍّ ... وَكُنْتَ لَهُمْ كَشَرٍّ بَنِي الْأَخِينَا وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ: [الْوَافِرُ] فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ سَلَمَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ وَأَنْشَدَ لَهُ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ التَّمِيمِيِّ: [الطَّوِيلُ] بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ وَقَوْلَ الْآخَرِ: [الْوَافِرُ] كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعُفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنُ خَمِيصُ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ: الْخَلَائِفُ مِنْ آدَمَ وَبَنِيهِ لَا آدَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 نَفْسُهُ وَحْدَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) الْآيَةَ [2 \ 30] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِمَّنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَلَا مِمَّنْ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وَكَقَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) الْآيَةَ [35 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) الْآيَةَ [6 \ 165] ، وَقَوْلِهِ: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ) الْآيَةَ [27 \ 62] . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ آدَمُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفَسَادَ، وَسَفْكَ الدِّمَاءِ. فَقَالُوا مَا قَالُوا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِخِلَافَةِ آدَمَ الْخِلَافَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَبِخِلَافَةِ ذُرِّيَّتِهِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ قَرْنٌ وَيَخْلُفُهُ قَرْنٌ آخَرُ. تَنْبِيهٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي نَصْبِ إِمَامٍ وَخَلِيفَةٍ ; يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ ; لِتَجْتَمِعَ بِهِ الْكَلِمَةُ وَتُنَفَّذَ بِهِ أَحْكَامُ الْخَلِيفَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْأَصَمِّ؛ حَيْثُ كَانَ عَنِ الشَّرِيعَةِ أَصَمَّ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [2 \ 30] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [38 \ 26] . وَقَالَ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [24 \ 55] أَيْ: يَجْعَلُ مِنْهُمْ خُلَفَاءَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ الصِّدِّيقِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فِي التَّعْيِينِ حَتَّى قَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَدَفَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَدِينُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَوُوا لَهُمُ الْخَبَرَ فِي ذَلِكَ فَرَجَعُوا وَأَطَاعُوا لِقُرَيْشٍ. فَلَوْ كَانَ فَرْضُ الْإِمَامَةِ غَيْرَ وَاجِبٍ لَا فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ، لَمَا سَاغَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاوَرَةُ عَلَيْهَا. وَلَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَا فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ. فَمَا لِتَنَازُعِكُمْ وَجْهٌ وَلَا فَائِدَةَ فِي أَمْرٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، ثُمَّ إِنَّ الصَّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى عُمَرَ فِي الْإِمَامَةِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَحَدٌ: هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عَلَيْكَ. فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا، وَأَنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ الَّذِي بِهِ قَوَامُ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْوَاضِحِ الْمَعْلُومِ مِنْ ضَرُورَةِ الدِّينِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَصْبُ إِمَامٍ تَجْتَمِعُ بِهِ الْكَلِمَةُ، وَتُنَفَّذُ بِهِ أَحْكَامُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ الْمُعْتَزِلِيِّ، الَّذِي تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَكَضِرَارٍ وَهِشَامٍ الْفُوَطِيِّ وَنَحْوِهِمْ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى بِطَرِيقِ الشَّرْعِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَأَشْبَاهُهَا وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِعْمَالِ السَّيْفِ عِنْدَ الْإِبَاءِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ. وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ: إِنَّ الْإِمَامَةَ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ لَا بِالشَّرْعِ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْجَاحِظِ وَالْبَلْخِيِّ: أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعًا، وَاعْلَمْ أَنَّمَا تَتَقَوَّلُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنَ الْمُفْتَرِيَاتِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا تَتَقَوَّلُهُ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ إِمَامًا، وَفِي الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ الْمَعْصُومِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ، وَأَكَاذِيبِهِمُ الْبَاطِلَةِ كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَإِذَا أَرَدْتَ الْوُقُوفَ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ: فَعَلَيْكَ بِكِتَابِ «مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيعَةِ الْقَدَرِيَّةِ» لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، فَإِنَّهُ جَاءَ فِيهِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ عَلَى إِبْطَالِ جَمِيعِ تِلْكَ الْخُرَافَاتِ الْمُخْتَلَقَةِ، فَإِذَا حَقَّقْتَ وُجُوبَ نَصْبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَةَ تَنْعَقِدُ لَهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: مَا لَوْ نَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ فُلَانًا هُوَ الْإِمَامُ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ لَهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَهَمُّ شَيْءٍ، فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّقْدِيمِ لِلْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَهُوَ ظَاهِرٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الثَّانِي: هُوَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى بَيْعَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ مِنْهُ ; لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْخِلَافِ، وَلَا عِبْرَةَ بِعَدَمِ رِضَى بَعْضِهِمْ، كَمَا وَقَعَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ عَدَمِ قَبُولِهِ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الَّذِي قَبْلَهُ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ جَعْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخِلَافَةَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى النَّاسِ بِسَيْفِهِ، وَيَنْزِعَ الْخِلَافَةَ بِالْقُوَّةِ حَتَّى يَسْتَتِبَّ لَهُ الْأَمْرُ، وَتَدِينَ لَهُ النَّاسُ لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيَامُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَتْلِهِ إِيَّاهُ فِي مَكَّةَ عَلَى يَدِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَاسْتَتَبَّ الْأَمْرُ لَهُ. كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: تَنْعَقِدُ لَهُ الْإِمَامَةُ بِبَيْعَةِ وَاحِدٍ، وَجَعَلُوا مِنْهُ مُبَايَعَةَ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ. وَحَكَى عَلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ وَقِيلَ: بِبَيْعَةِ أَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى. وَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَيْمِيَّةَ فِي «الْمِنْهَاجِ» أَنَّهَا إِنَّمَا تَنْعَقِدُ بِمُبَايَعَةِ مَنْ تَقْوَى بِهِ شَوْكَتُهُ، وَيَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ ; لِأَنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كَآحَادِ النَّاسِ لَيْسَ بِإِمَامٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ تُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قُرَشِيًّا، وَقُرَيْشٌ أَوْلَادُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. فَالْفِهْرِيُّ قُرَشِيٌّ بِلَا نِزَاعٍ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ أَوْ أَوْلَادِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ؛ فِيهِ خِلَافٌ هَلْ هُوَ قُرَشِيٌّ أَوْ لَا؟ وَمَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ كِنَانَةَ مِنْ غَيْرِ النَّضْرِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ بِلَا نِزَاعٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي ذِكْرِ شَرَائِطِ الْإِمَامِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ قُرَيْشٍ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ قُرَشِيًّا ضَعِيفٌ. وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى تَقْدِيمِ قُرَيْشٍ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عُمَرَ؛ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَأَبُو عُبَيْدَةَ حَيٌّ اسْتَخْلَفْتُهُ» . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: «فَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَقَدْ مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ اسْتَخْلَفْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُعَاذًا غَيْرَ قُرَشِيٍّ وَتَأْوِيلُهُ بِدَعْوَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ عُمَرَ أَوْ تَغْيِيرِ رَأْيِهِ إِلَى مُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ. فَاشْتِرَاطُ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيمَ الْوَاجِبَ لَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ مَشْرُوطٌ بِإِقَامَتِهِمُ الدِّينَ وَإِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُطِيعُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ أَوْلَى مِنْهُمْ. فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ مُعَاوِيَةَ حَيْثُ قَالَ: بَابُ الْأُمَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ. حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ، فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالْأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ» . انْتَهَى مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» بِلَفْظِهِ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَقَامُوا الدِّينَ» لِأَنَّ لَفْظَةَ «مَا» فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، مُقَيِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ» ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمُ الدِّينَ، وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ. وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ هَذَا مَا نَصُّهُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَظِيرَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ سَقِيفَةَ بَنِي سَاعِدَةَ وَبَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَفِيهَا: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ. وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: الْأَوَّلُ: وَعِيدُهُمْ بِاللَّعْنِ إِذَا لَمْ يُحَافِظُوا عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ. كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ: «الْأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا فَعَلُوا ثَلَاثًا: مَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا» ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: «فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ» وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي خُرُوجُ الْأَمْرِ عَنْهُمْ. الثَّانِي: وَعِيدُهُمْ بِأَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي أَذِيَّتِهِمْ. فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: «إِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تُحْدِثُوا، فَإِذَا غَيَّرْتُمْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى الْقَضِيبُ» . وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَمِّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، هَذِهِ رِوَايَةُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَخَالَفَهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، فَرَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَلَفْظُهُ: «لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِيكُمْ وَأَنْتُمْ وُلَاتُهُ» الْحَدِيثَ. وَفِي سَمَاعِ عُبَيْدِ اللَّهِ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ نَظَرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى عَطَاءٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ لِقُرَيْشٍ: «أَنْتُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مَا كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا أَنْ تَعْدِلُوا عَنْهُ فَتُلْحَوْنَ كَمَا تُلْحَى هَذِهِ الْجَرِيدَةُ» وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِشْعَارٌ بِهِ. الثَّالِثُ: الْإِذْنُ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَالْإِيذَانُ بِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْهُمْ كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ: «اسْتَقِيمُوا لِقُرَيْشٍ مَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِيمُوا فَضَعُوا سُيُوفَكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ، فَأَبِيدُوا خَضْرَاءَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَكُونُوا زَرَّاعِينَ أَشْقِيَاءَ» . وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا ; لِأَنَّ رِوَايَةَ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ثَوْبَانَ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بِمَعْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ذِي مِخْبَرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهُمَا رَاءٌ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي النَّجَاشِيِّ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حِمْيَرَ فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَصَيَّرَهُ فِي قُرَيْشٍ، وَسَيَعُودُ لَهُمْ» وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِحَدِيثِ الْقَحْطَانِيِّ ; فَإِنَّ حِمْيَرَ يَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَى قَحْطَانَ، وَبِهِ يَقْوَى أَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: «مَا أَقَامُوا الدِّينَ» أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الدِّينَ خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْهُمْ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ إِذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْنِي بِهِ الْقَحْطَانِيَّ الَّذِي صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِمُلْكِهِ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ لِثُبُوتِ أَمْرِهِ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «كِتَابِ الْفِتَنِ» فِي «بَابِ تَغَيُّرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ» ، وَفِي «كِتَابِ الْمَنَاقِبِ» فِي «بَابِ ذِكْرِ قَحْطَانَ» ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «كِتَابِ الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ» فِي «بَابٍ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْمَيِّتِ مِنَ الْبَلَاءِ» وَهَذَا الْقَحْطَانِيُّ لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اسْمُهُ جَهْجَاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ صَالِحٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْقَحْطَانِيِّ هَذَا مَا نَصُّهُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ أَنَّ الْبَيْتَ يُحَجُّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ، وَأَنَّ الْكَعْبَةَ يُخَرِّبُهَا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ» فَيَنْتَظِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَبَشَةَ إِذَا خَرَّبَتِ الْبَيْتَ خَرَجَ عَلَيْهِمُ الْقَحْطَانِيُّ فَأَهْلَكَهُمْ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ ذَلِكَ يَحُجُّونَ فِي زَمَنِ عِيسَى بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَلَاكِهِمْ، وَأَنَّ الرِّيحَ الَّتِي تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَبْدَأُ بِمَنْ بَقِيَ بَعْدَ عِيسَى وَيَتَأَخَّرُ أَهْلُ الْيَمَنِ بَعْدَهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا يُفَسِّرُ بِهِ قَوْلُهُ: «الْإِيمَانُ يَمَانٌ» أَيْ: يَتَأَخَّرُ الْإِيمَانُ بِهَا بَعْدَ فَقْدِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْقَحْطَانِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ رَمَزَ إِلَى هَذَا. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ. الثَّانِي: مِنْ شُرُوطِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ: كَوْنُهُ ذَكَرًا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَيَدُلُّ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» . الثَّالِثُ: مِنْ شُرُوطِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ كَوْنُهُ حُرًّا. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْعَبْدِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي [صَحِيحِهِ] مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» . وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ أُطِيعَ وَأَسْمَعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ. فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ، فَإِطْلَاقُ الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا أَنْ يَلِيَ ذَلِكَ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا الْجَوَابَ عَنِ الْخَطَّابِيِّ، وَيُشْبِهُ هَذَا الْوَجْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) [43 \ 81] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ أَنْ يَكُونَ مُؤَمَّرًا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ وَهُوَ أَظْهَرُهَا، فَلَيْسَ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَبْدِ ; نَظَرًا لِاتِّصَافِهِ بِذَلِكَ سَابِقًا مَعَ أَنَّهُ وَقْتَ التَّوْلِيَةِ حُرٌّ، وَنَظِيرُهُ إِطْلَاقُ الْيُتْمِ عَلَى الْبَالِغِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِهِ سَابِقًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) الْآيَةَ [4 \ 2] ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ. أَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِالْقُوَّةِ فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ ; إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ، وَصَوْنًا لِلدِّمَاءِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالزَّبِيبَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاحِدَةُ الزَّبِيبِ الْمَأْكُولِ الْمَعْرُوفِ الْكَائِنِ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا جَفَّ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ: التَّحْقِيرُ وَتَقْبِيحُ الصُّورَةِ ; لِأَنَّ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ إِذَا وَجَبَا لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي الْمَعْصِيَةِ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يَأْتِي، وَيُشْبِهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنَّهُ زَبِيبَةٌ» قَوْلَ الشَّاعِرِ يَهْجُو شَخْصًا أَسْوَدَ: دَنِسُ الثِّيَابِ كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ ... غُرِسَتْ فَأَنْبَتَ جَانِبَاهَا فُلْفُلَا الرَّابِعُ: مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، فَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ الصَّبِيِّ إِجْمَاعًا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ الْمَجْنُونِ، وَلَا الْمَعْتُوهِ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، فَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ فَاسِقٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [2 \ 124] وَيَدْخُلُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ غَيْرَ مُسْلِمٍ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ، مُجْتَهِدًا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ اسْتِفْتَاءِ غَيْرِهِ فِي الْحَوَادِثِ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لِهَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، أَعْنِي: الْعِلْمَ وَسَلَامَةَ الْجِسْمِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي طَالُوتَ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [2 \ 247] . التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ ذَا خِبْرَةٍ وَرَأْيٍ حَصِيفٍ بِأَمْرِ الْحَرْبِ، وَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَحِمَايَةِ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَدْعِ الْأُمَّةِ، وَالِانْتِقَامِ مِنَ الظَّالِمِ، وَالْأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ. كَمَا قَالَ لَقِيطٌ الْإِيَادِيُّ: [الْبَسِيطُ] وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمْ ... رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُطَّلِعَا الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا تَلْحَقُهُ رِقَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَلَا فَزَعَ مِنْ ضَرْبِ الرِّقَابِ وَلَا قَطْعِ الْأَعْضَاءِ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. مَسَائِلُ: الْأُولَى: إِذَا طَرَأَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فِسْقٌ، أَوْ دَعْوَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ. هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 سَبَبًا لِعَزْلِهِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِذَا صَارَ فَاسِقًا، أَوْ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَةٍ جَازَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ لِخَلْعِهِ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ عَلَيْهِ لِخَلْعِهِ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ كُفْرًا بَوَاحًا عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ» . وَفِي «صَحِيحٍ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» قَالُوا: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، إِلَّا مِنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» . وَفِي «صَحِيحٍ مُسْلِمٍ» أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مِنْ رِضِيَ وَتَابَعَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا صَلَّوْا» . وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَكِبًا لِمَا لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْكُفْرَ الصَّرِيحَ الَّذِي قَامَ الْبُرْهَانُ الشَّرْعِيُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 كُفْرٌ بَوَاحٌ؛ أَيْ: ظَاهِرٌ بَادٍ لَا لَبْسَ فِيهِ. وَقَدْ دَعَا الْمَأْمُونُ وَالْمُعْتَصِمُ وَالْوَاثِقُ إِلَى بِدْعَةِ الْقَوْلِ: بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَعَاقَبُوا الْعُلَمَاءَ مِنْ أَجْلِهَا بِالْقَتْلِ، وَالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ، وَأَنْوَاعِ الْإِهَانَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَدَامَ الْأَمْرُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ حَتَّى وَلِيَ الْمُتَوَكِّلُ الْخِلَافَةَ، فَأَبْطَلَ الْمِحْنَةَ، وَأَمَرَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِإِمَامٍ وَلَا غَيْرِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا، وَلَا مَطْعَنَ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي النَّارِ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا ; إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) [60 \ 12] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَجُوزُ نَصْبُ خَلِيفَتَيْنِ كِلَاهُمَا مُسْتَقِلٌّ دُونَ الْآخَرِ؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ كَانَا إِمَامَيْنِ وَاجِبَيِ الطَّاعَةِ كِلَاهُمَا عَلَى مَنْ مَعَهُ، وَبِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقْوَمَ بِمَا لَدَيْهِ وَأَضْبَطَ لِمَا يَلِيهِ. وَبِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَعْثُ نَبِيَّيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ النُّبُوَّةِ كَانَتِ الْإِمَامَةُ أَوْلَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَدُّدُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، بَلْ يَجِبُ كَوْنُهُ وَاحِدًا، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّى عَلَى قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ إِلَّا أُمَرَاؤُهُ الْمُوَلَّوْنَ مِنْ قَبَلِهِ، مُحْتَجِّينَ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» . وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ عَرْفَجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» . وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» ثُمَّ قَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَعَاهُ قَلْبِي. وَأَبْطَلُوا احْتِجَاجَ الْكَرَّامِيَّةِ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ نِزَاعِهِ مَعَ عَلِيٍّ لَمْ يَدَّعِ الْإِمَامَةَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا ادَّعَى وِلَايَةَ الشَّامِ بِتَوْلِيَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ فِي عَصْرِهِمَا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ لَا كُلٌّ مِنْهُمَا. وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَقَوْمَ بِمَا لَدَيْهِ، وَأَضْبَطَ لِمَا يَلِيهِ، وَبِجَوَازِ بَعْثِ نَبِيَّيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، يَرُدُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» ; وَلِأَنَّ نَصْبَ خَلِيفَتَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى الشِّقَاقِ وَحُدُوثِ الْفِتَنِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، فَيُمْنَعُ نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ وَالْبِلَادِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْأَقْطَارِ الْمُتَنَائِيَةِ كَالْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: لَكِنْ إِنْ تَبَاعَدَتِ الْأَقْطَارُ وَتَبَايَنَتْ كَالْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ، جَازَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي كَلَامِهِ: نَصْبُ خَلِيفَتَيْنِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ: الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قُلْتُ: وَهَذَا يُشْبِهُ حَالَ الْخُلَفَاءِ؛ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْعِرَاقِ، وَالْفَاطِمِيِّينَ بِمِصْرَ، وَالْأُمَوِيِّينَ بِالْمَغْرِبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَهُ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَقِيلُونِي أَقِيلُونِي، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ. قَدَّمَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا فَمَنْ ذَا يُؤَخِّرُكَ، رَضِيَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاكَ؟ قَالَ: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لَأَنْكَرَتِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَقَالَتْ لَهُ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ تَقَلَّدَ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لَهُ التَّخَلِّي عَنْهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَ عَزْلُهُ لِنَفْسِهِ لِمُوجَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ كَإِخْمَادِ فِتْنَةٍ كَانَتْ سَتَشْتَعِلُ لَوْ لَمْ يَعْزِلْ نَفْسَهُ، أَوْ لِعِلْمِهِ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ، فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ عَزْلِ نَفْسِهِ. وَلِذَا أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِعَزْلِ نَفْسِهِ وَتَسْلِيمِهِ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، بَعْدَ أَنْ بَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ ; حَقْنًا لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ جَدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى عَقْدِ الْإِمَامَةِ؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجِبُ ; لِأَنَّ إِيجَابَ الْإِشْهَادِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنَ النَّقْلِ. وَهَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ; لِئَلَّا يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّ الْإِمَامَةَ عُقِدَتْ لَهُ سِرًّا، فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى الشِّقَاقِ وَالْفِتْنَةِ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى عَقْدِ الْإِمَامَةِ، قَالُوا: يَكْفِي شَاهِدَانِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ فِي اشْتِرَاطِهِ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ وَعَاقِدًا وَمَعْقُودًا لَهُ، مُسْتَنْبِطًا ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ عُمَرَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ فَوَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى عَاقِدٍ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَمَعْقُودٍ لَهُ، وَهُوَ عُثْمَانُ وَبَقِيَ الْأَرْبَعَةُ الْآخَرُونَ شُهُودًا، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) يَعْنِي مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ لَا الْأَسْمَاءَ كَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا الْمُسَمَّيَاتُ بِقَوْلِهِ: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) الْآيَةَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مَا كَانَ يُضْمِرُهُ إِبْلِيسُ مِنَ الْكِبْرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ أَوْ بَعْدَ خَلْقِهِ؟ وَقَدْ صَرَّحَ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» وَ «ص» بِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ. فَقَالَ فِي «الْحِجْرِ» : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الْآيَةَ 28، 29] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «ص» : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الْآيَةَ 71، 72] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مُوجِبَ اسْتِكْبَارِهِ فِي زَعْمِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [7 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: (قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [15 \ 33] . تَنْبِيهٌ مِثْلُ قِيَاسِ إِبْلِيسَ نَفْسَهُ عَلَى عُنْصُرِهِ، الَّذِي هُوَ النَّارُ وَقِيَاسِهِ آدَمَ عَلَى عُنْصُرِهِ، الَّذِي هُوَ الطِّينُ وَاسْتِنْتَاجُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ بِالسُّجُودِ لِمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الصَّرِيحِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اسْجُدُوا لِآدَمَ) يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا ... فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى فَكُلُّ مَنْ رَدَّ نُصُوصَ الْوَحْيِ بِالْأَقْيِسَةِ فَسَلَفُهُ فِي ذَلِكَ إِبْلِيسُ، وَقِيَاسُ إِبْلِيسَ هَذَا لَعَنَهُ اللَّهُ بَاطِلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ; لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، بَلِ الطِّينُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ ; لِأَنَّ طَبِيعَتَهَا الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَالْإِفْسَادُ وَالتَّفْرِيقُ، وَطَبِيعَتَهُ الرَّزَانَةُ وَالْإِصْلَاحُ فَتُودِعُهُ الْحَبَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فَيُعْطِيكَهَا سُنْبُلَةً، وَالنَّوَاةَ فَيُعْطِيكَهَا نَخْلَةً. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الطِّينِ فَانْظُرْ إِلَى الرِّيَاضِ النَّاضِرَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الثِّمَارِ اللَّذِيذَةِ، وَالْأَزْهَارِ الْجَمِيلَةِ، وَالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ تَعْلَمُ أَنَّ الطِّينَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ ; لِأَنَّ شَرَفَ الْأَصْلِ لَا يَقْتَضِي شَرَفَ الْفَرْعِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَصْلُ رَفِيعَ الْفَرْعِ وَضِيعًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [الْبَسِيطُ] إِذَا افْتَخَرْتَ بِآبَاءٍ لَهُمْ شَرَفٌ ... قُلْنَا صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوا وَقَالَ الْآخَرُ: [الْمُتَقَارِبُ] وَمَا يَنْفَعُ الْأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ ... إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ مِنْ بَاهِلَهْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، بِقَوْلِهِ: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الْآيَةَ 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) [2 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [28 \ 5، 6] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا عَهْدُهُ وَمَا عَهْدُهُمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [5 \ 12] فَعَهْدُهُمْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) وَعَهْدُهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَأَشَارَ إِلَى عَهْدِهِمْ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [3 \ 187] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) الْحَقُّ الَّذِي لَبَسُوهُ بِالْبَاطِلِ هُوَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْبَاطِلُ الَّذِي لَبَسُوا بِهِ الْحَقَّ هُوَ كُفْرُهُمْ بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَجَحْدُهُمْ لَهُ، كَصِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهَا مِمَّا كَتَمُوهُ وَجَحَدُوهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الْآيَةَ [2 \ 85] وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَأَمَّا نَتِيجَةُ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، فَقَدْ أَشَارَ لَهَا تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ نَتَائِجِ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا النَّهْيَ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [29 \ 45] ، وَأَنَّهَا تَجْلِبُ الرِّزْقَ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) ، وَلِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يُنَاجِيهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَرَهْبَةً مِنْهُ، فَيَتَبَاعَدُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ فَيَرْزُقُهُ اللَّهُ وَيَهْدِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ) ، الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا: الْيَقِينُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [2 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [23 \ 60] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) الْآيَةَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمُ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هِيَ الشَّفَاعَةُ لِلْكُفَّارِ، وَالشَّفَاعَةُ لِغَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. أَمَّا الشَّفَاعَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِهِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. فَنَصَّ عَلَى عَدَمِ الشَّفَاعَةِ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) [21 \ 28] ، وَقَدْ قَالَ: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [39 \ 7] ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) [26 \ 100] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَقَالَ: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [74 \ 48] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إِذْنِهِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [2 \ 255] ، وَقَالَ: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) [53 \ 26] ، وَقَالَ: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) [20 \ 109] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَادِّعَاءُ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا) [10 \ 18] . تَنْبِيهٌ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلْكُفَّارِ مُسْتَحِيلَةٌ شَرْعًا مُطْلَقًا، يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي نَقْلِهِ مِنْ مَحَلٍّ مِنَ النَّارِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهَا، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ فَرْقِ الْبَحْرِ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [26 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) الْآيَةَ [20 \ 77] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِمْ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [26 \ 60 إِلَى 66] ، وَقَوْلِهِ: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) [20 \ 78] . وَقَوْلِهِ: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) [44 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: (رَهْوًا) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أَيْ: سَاكِنًا عَلَى حَالَةِ انْفِلَاقِهِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِيهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ وَاعَدَهُ إِيَّاهَا مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَنَّهُ وَاعَدَهُ أَوَّلًا ثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [7 \ 124] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لظَّاهِرُ فِي مَعْنَاهُ: أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى، وَأَنَّمَا عَطَفَ عَلَى نَفْسِهِ تَنْزِيلًا لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ مَوْصُوفٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ كَتَبَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فُرْقَانٌ؛ أَيْ: فَارَقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَعَطَفَ الْفُرْقَانَ عَلَى الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ نَظَرًا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الْمُتَقَارِبُ] إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ بَلْ رُبَّمَا عَطَفَتِ الْعَرَبُ الشَّيْءَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ، فَاكْتَفُوا بِالْمُغَايَرَةِ فِي اللَّفْظِ. كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الْبَسِيطُ] إِنِّي لَأَعْظُمُ فِي صَدْرِ الْكَمِيِّ عَلَى ... مَا كَانَ فِيَّ مِنَ التَّجْدِيرِ وَالْقِصَرِ الْقِصَرُ: هُوَ التَّجْدِيرُ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْوَافِرُ] وَقَدَّدْتُ الْأَدِيمَ لِرَاهِشِيهِ ... وَأَلْفَى قَوْلُهَا كَذِبًا وَمَيْنَا وَالْمَيْنُ: هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ] أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ وَالْبُعْدُ: هُوَ النَّأْيُ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: [الْكَامِلُ] حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ وَالْإِقْفَارُ: هُوَ الْإِقْوَاءُ بِعَيْنِهِ. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ) الْآيَةَ [21 \ 48] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هَذَا الْعِجْلُ الْمَعْبُودُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) [7 \ 148] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) [20 \ 87، 88] وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلِاتِّخَاذِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَتَقْدِيرُهُ: بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي سُورَةِ «طَهَ» بِقَوْلِهِ: (فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) [87 \ 88] ، قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) [2 \ 63] ، أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [7 \ 171] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [2 \ 63] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي آتَاهُمْ مَا هُوَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ الْكِتَابُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [2 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أَجْمَلَ قِصَّتَهُمْ هُنَا وَفَصَّلَهَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) [الْآيَاتِ 163] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِيَ) لَمْ يُبَيِّنْ مَقْصُودَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: (مَا هِيَ) إِلَّا أَنَّ جَوَابَ سُؤَالِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ (مَا هِيَ) أَيْ: مَا سِنُّهَا؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ) الْآيَةَ. وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ (مَا هِيَ) فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ هَلْ هِيَ عَامِلَةٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ فِيهَا عَيْبٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ فِيهَا وَشْيٌ مُخَالِفٌ لِلَوْنِهَا أَوْ لَا؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا) [2 \ 71] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) لَمْ يُصَرِّحْ هَلْ هَذِهِ النَّفْسُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا ذَكَرٌ بِقَوْلِهِ: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) [2 \ 73] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) الْآيَةَ، أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ إِحْيَاءَ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا نَفْسًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَاحِدَةً بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ جَمِيعِ النُّفُوسِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [31 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) [5 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) الْآيَةَ [57 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ (بِالْأَمَانِيِّ) هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمْنِيَةِ الْقِرَاءَةُ؛ أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قِرَاءَةَ أَلْفَاظٍ دُونَ إِدْرَاكِ مَعَانِيهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ قَوْلِهِ (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) ; لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَقْرَأُ. الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ، لَكِنْ يَتَمَنَّوْنَ أَمَانِيَّ بَاطِلَةً، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) [2 \ 111] ، وَقَوْلِهِ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) [4 \ 123] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) الْآيَةَ، يَعْنِي: تَقْتُلُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ، كَثْرَةُ وُرُودِهِ كَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ قَوْلِهِ: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [49 \ 11] أَيْ: لَا يَلْمِزْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ وَقَوْلِهِ: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) [24 \ 12] أَيْ: بِإِخْوَانِهِمْ وَقَوْلِهِ: (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [2 \ 54] أَيْ: بِأَنْ يَقْتُلَ الْبَرِيءُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ مَنْ عَبَدَهُ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا أُصِيبَ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) يَتَبَيَّنُ مِمَّا قَبْلَهُ أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي آمَنُوا بِهِ هُوَ فِدَاءُ الْأَسَارَى مِنْهُمْ، وَالْبَعْضَ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ هُوَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَمُظَاهَرَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَفَرُوا بِغَيْرِ هَذَا مِنَ الْكِتَابِ وَآمَنُوا بِغَيْرِهِ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [3 \ 49] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) هُوَ جِبْرِيلُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [26 \ 193] ، وَقَوْلِهِ: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) الْآيَةَ [19 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ وَبَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) [7 \ 133] ، وَقَوْلِهِ: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ) الْآيَةَ [26 \ 32 - 33] ، وَقَوْلِهِ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) الْآيَةَ [26 \ 63] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مِنَ السَّمْعِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَمْعًا وَطَاعَةً؛ أَيْ: إِجَابَةً وَطَاعَةً، وَمِنْهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ - فِي الصَّلَاةِ - أَيْ: أَجَابَ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [24 \ 51] وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ (وَاسْمَعُوا) أَيْ: بِآذَانِكُمْ وَلَا تَمْتَنِعُوا مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمَاعِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ رُبَّمَا امْتَنَعَ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمَاعِ خَوْفَ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) [71 \ 7] . وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [41 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) [22 \ 72] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وَقَوْلِهِ: (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) [2 \ 93] ; لِأَنَّ السَّمْعَ الَّذِي لَا يُنَافِي الْعِصْيَانَ هُوَ السَّمْعُ بِالْآذَانِ دُونَ السَّمْعِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ أَحَدَ الْمَذْكُورِينَ يَتَمَنَّى أَنْ يَعِيشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطُولُ عُمُرِهِ لَا يُزَحْزِحُهُ، أَيْ: لَا يُبْعِدُهُ عَنِ الْعَذَابِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: (أَنْ يُعَمَّرَ) فَاعِلُ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مُزَحْزِحُهُ عَلَى أَصَحِّ الْأَعَارِيبِ، وَفِي «لَوْ» مِنْ قَوْلِهِ: (لَوْ يُعَمَّرُ) ، وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، وَهِيَ وَصِلَتُهَا فِي تَأْوِيلِ مَفْعُولٍ بِهِ لِـ «يَوَدُّ» وَالْمَعْنَى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) أَيْ: يَتَمَنَّى تَعْمِيرَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَ «لَوْ» : قَدْ تَكُونُ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا لِقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَّنَتْ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ أَيْ: مَا كَانَ ضَرَّكَ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ (لَوْ) هُنَا هِيَ الشَّرْطِيَّةُ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: لَوْ يُعَمَّرْ أَلْفَ سَنَةٍ، لَكَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَحُذِفَ جَوَابُ (لَوْ) مَعَ دَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) [102 \ 5] أَيْ: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَمَا (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [102 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) [13 \ 31] أَيْ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَوْ لَكَفَرْتُمْ بِالرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ ... وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا أَيْ: لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ لَدَفَعْنَاهُ. إِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْآيَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ مُتِّعَ مَا مُتِّعَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ انْقَضَى ذَلِكَ الْمَتَاعُ وَجَاءَهُ الْعَذَابُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَتَاعَ الْفَائِتَ لَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَحُلُولِ الْعَذَابِ مَحِلَّهُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [26 \ 205، 206، 207] وَهَذِهِ هِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أَعْظَمُ آيَةٍ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي هُوَ طُولُ الْأَمَلِ. كَفَانَا اللَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى الْقُرْآنَ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ قِرَاءَةٍ، وَنَظِيرُهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ) الْآيَةَ [26 \ 193، 194] وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنْهُ، فَتَصِلُ مَعَانِيهِ إِلَى قَلْبِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [75 \ 16، 19] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [20 \ 114] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ) ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُعَاهِدُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ) [8 \ 55، 56] ، وَصَرَّحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُمْ أَهْلُ خِيَانَةٍ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) [5 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْكِتَابِ هُمُ الْأَكْثَرُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [3 \ 110] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ مَا هُوَ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) الْآيَةَ [4 \ 153] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ) هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 هُوَ وَاضِحٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ (بِأَمْرِهِ) . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [9 \ 29] . وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وَاحِدُ الْأُمُورِ: فَهُوَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنَ الْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ كَقَوْلِهِ: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ) الْآيَةَ [59 \ 2، 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) . الْآيَةَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَتْ فِي صَدِّ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَالْخَرَابُ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ خَرَابُ الْمَسَاجِدِ بِمَنْعِ الْعِبَادَةِ فِيهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الْآيَةَ [48 \ 25] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْخَرَابُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْخَرَابُ الْحِسِّيُّ. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ بُخْتَنَصَّرُ أَوْ غَيْرُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) [17 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) هَذَا الْوَلَدُ الْمَزْعُومُ عَلَى زَاعِمِهِ لَعَائِنُ اللَّهِ، قَدْ جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [9 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) الْآيَةَ [16 \ 57] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ) يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ظَالِمِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَنَّ مِنْهُمْ ظَالِمًا وَغَيْرَ ظَالِمٍ كَقَوْلِهِ: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) ، وَقَوْلِهِ: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) الْآيَةَ [43 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَفْعُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِقَوَاعِدِ الْبَيْتِ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» أَنَّهُ أَرَاهُ مَوْضِعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [22 \ 26] أَيْ: عَيَّنَّا لَهُ مَحِلَّهُ وَعَرَّفْنَاهُ بِهِ. قِيلَ: دَلَّهُ عَلَيْهِ بِمُزْنَةٍ كَانَ ظِلُّهَا قَدْرَ مِسَاحَتِهِ. وَقِيلَ: دَلَّهُ عَلَيْهِ بِرِيحٍ تُسَمَّى الْخُجُوجُ كَنَسَتْ عَنْهُ حَتَّى ظَهَرَ اسْمُهُ الْقَدِيمُ فَبَنَى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي أَجَابَ اللَّهُ بِهَا دُعَاءَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا هَذَا الرَّسُولَ الْمَسْؤُولَ بَعَثَهُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ؟ وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ الْعَرَبُ، وَالرَّسُولَ هُوَ سَيِّدُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [62 \ 2، 3] ; لِأَنَّ الْأُمِّيِّينَ الْعَرَبُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالرَّسُولَ الْمَذْكُورَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِجْمَاعًا، وَلَمْ يُبْعَثْ رَسُولٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [6 \ 161] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) الْآيَةَ [16 \ 123] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ هُنَا بِقَوْلِهِ: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 [3 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [3 \ 85] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْأَعْلَى» أَنَّهُ صُحُفٌ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي تِلْكَ الصُّحُفِ: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [87 \ 16 - 17] وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [87 \ 18، 19] . وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا أُوتِيَهُ مُوسَى وَعِيسَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى هُوَ التَّوْرَاةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالصُّحُفِ فِي قَوْلِهِ: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) [6 \ 154] وَهُوَ التَّوْرَاةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ عِيسَى هُوَ الْإِنْجِيلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ) [57 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُوتِيَهُ جَمِيعُ النَّبِيِّينَ، وَأَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، حَيْثُ قَالَ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا هَلْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءَهُمْ إِذَا فَعَلُوهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [2 \ 285] وَذَكَرَ جَزَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [4 \ 152] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [1 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) الْآيَةَ؛ أَيْ: خِيَارًا عُدُولًا، وَيَدُلُّ لِأَنَّ الْوَسَطَ الْخِيَارُ الْعُدُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [3 \ 110] وَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: هُمُ وَسْطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ لِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) [4 \ 41، 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ) الْآيَةَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - بَلْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [3 \ 154] فَقَوْلُهُ: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (لِيَبْتَلِيَ) دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالِاخْتِبَارِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ; لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِغَنِيٌّ عَنِ الِاخْتِبَارِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ عَظِيمٌ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي يَذْكُرُ اللَّهُ فِيهَا اخْتِبَارَهُ لِخَلْقِهِ، وَمَعْنَى (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أَيْ: عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِبَارِ ظُهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ. أَمَّا عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى فَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلِهِ: (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) أَشَارَ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ مُخَاطِبًا لَهُ: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) الْآيَةَ ; لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَهُ إِجْمَاعًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ) أَيْ: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَسْتَرْوِحُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) بَيَّنَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الْآيَةَ [2 \ 144] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَئِكَ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنَهُمُ اللَّاعِنُونَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا اللَّاعِنُونَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [2 \ 161] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا وَجْهَ كَوْنِهِمَا آيَةً، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [50 \ 6، 7، 8] ، وَقَوْلِهِ: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) [67 \ 3، 4، 5] ، وَقَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [67 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا وَجْهَ كَوْنِ اخْتِلَافِهِمَا آيَةً، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [28 \ 71، 72، 73] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ تَسْخِيرِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [7 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) [24 \ 43] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا الْكُفَّارُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [167] وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: (يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [31 \ 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [2 \ 254] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) [10 \ 106] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الْآيَةَ، أَشَارَ هُنَا إِلَى تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ بَيَّنَ مِنْهُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ هُنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) [34 \ 31، 32، 33] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) لَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النُّورِ» بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) الْآيَةَ [24 \ 21] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يَقُولُونَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَقُولُونَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ هُوَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَنَحْوَهَا، وَأَنَّ لَهُ أَوْلَادًا، وَأَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) [5 \ 103] ، وَقَوْلِهِ: (وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ) الْآيَةَ [6 \ 140] ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) الْآيَةَ [10 \ 59] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) [16 \ 116] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومَةِ بِقَوْلِهِ: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [10 \ 18 وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْأَوْلَادِ الْمَزْعُومَةِ بِقَوْلِهِ: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ) [2 \ 116] وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ فَظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَفْصِيلُ (مَا) أُجْمِلَ فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) الْآيَةَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ خَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ) الْآيَةَ [5 \ 96] ، إِذْ لَيْسَ لِلْبَحْرِ طَعَامٌ غَيْرُ الصَّيْدِ إِلَّا مَيْتَتُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ قَدِيدُهُ الْمُجَفَّفُ بِالْمِلْحِ مَثَلًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِصَيْدِهِ الطَّرِيُّ مِنْهُ، فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ الْقَدِيدَ مِنْ صَيْدِهِ فَهُوَ صَيْدٌ جُعِلَ قَدِيدًا، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ مَيْتَتُهُ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَسْفُوحِ مِنَ الدِّمَاءِ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) [6 \ 145] فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمَسْفُوحِ كَالْحُمْرَةِ الَّتِي تَعْلُو الْقِدْرَ مِنْ أَثَرِ تَقْطِيعِ اللَّحْمِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَالْمَسْفُوحِ لَمَا كَانَ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: (مَسْفُوحًا) . فَائِدَةٌ وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَيْتَتَيْنِ وَدَمَيْنِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْأَنْعَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ «هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ «السُّنَنِ» وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِمَا، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» ، وَابْنُ الْجَارُودِ فِي «الْمُنْتَقَى» ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبُخَارِيُّ. وَظَاهِرُ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَطَعَامُهُ) يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَكَلَ مِنَ الْعَنْبَرِ، وَهُوَ حُوتٌ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ مَيْتًا وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ. وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ، وَإِنْ أُخْرِجَ مِنْهُ مَاتَ كَالْحُوتِ، وَقِسْمٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ، كَالضَّفَادِعِ وَنَحْوِهَا. أَمَّا الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ كَالْحُوتِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا مَاتَ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ، وَطَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَقَالَ فِيهِ: هُوَ مَكْرُوهُ الْأَكْلِ، بِخِلَافِ مَا قَتَلَهُ إِنْسَانٌ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ، فَإِنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ: كَالضَّفَادِعِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ وَتُرْسِ الْمَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ؛ فَذَهَبَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُبَاحَةُ الْأَكْلِ، وَسَوَاءٌ مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ وُجِدَ طَافِيًا أَوْ بِاصْطِيَادٍ، أَوْ أُخْرِجَ حَيًّا، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ. وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَابْنُ دِينَارٍ: مَيْتَةُ الْبَحْرِ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ نَجِسَةٌ. وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ قَوْلًا ثَالِثًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْمَاءِ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، أَوْ فِي الْبَرِّ فَيَكُونُ نَجِسًا، وَعَزَاهُ لِعِيسَى، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَالضَّفَادِعُ الْبَحْرِيَّةُ عِنْدَ مَالِكٍ مُبَاحَةُ الْأَكْلِ، وَإِنْ مَاتَتْ فِيهِ. وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» : وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّفَادِعِ وَإِنْ مَاتَتْ ; لِأَنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْمَاءِ. اهـ. أَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَهِيَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَنْعُ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا وَلَوْ ذُكِّيَتْ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا كَلْبُ الْمَاءِ وَخِنْزِيرُهُ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيهِمَا الْكَرَاهَةُ. قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي «مُخْتَصَرِهِ» عَاطِفًا عَلَى مَا يُكْرَهُ، وَكَلْبُ مَاءٍ وَخِنْزِيرُهُ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَمَّا كَلْبُ الْبَحْرِ وَخِنْزِيرُهُ، فَرَوَى ابْنُ شَعْبَانَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَقَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : لَمْ يَكُنْ مَالِكٌ يُجِيبُنَا فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ بِشَيْءٍ، وَيَقُولُ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَنَا أَتَّقِيهِ وَلَوْ أَكَلَهُ رَجُلٌ لَمْ أَرَهُ حَرَامًا، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَحُجَّتَهُ فِي إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ كَانَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ أَوْ لَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ) [5 \ 96] وَلَا طَعَامَ لَهُ غَيْرُ صَيْدِهِ إِلَّا مَيْتَتُهُ، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْحَقُّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَدْ قَدَّمْنَا ثُبُوتَ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ حَلَالٌ، وَهُوَ فَصْلٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ كَانَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. كَقَوْلِهِ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [24 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [14 \ 34] . وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ: [الرَّجَزُ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَمَا مُعَرَّفًا بِأَلْ قَدْ وُجِدَا أَوْ بِإِضَافَةٍ إِلَى مُعَرَّفٍ إِذَا تَحَقَّقَ الْخُصُوصُ قَدْ نَفَى وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَيْتَتُهُ» يَعُمُّ بِظَاهِرِهِ كُلَّ مَيْتَةٍ مِمَّا فِي الْبَحْرِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءً كَانَ طَافِيًا عَلَى الْمَاءِ أَمْ لَا. وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي «الْأُمِّ» وَ «مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ» ، وَاخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينِ: أَنَّ مَيْتَتَهُ كُلَّهُ حَلَالٌ ; لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا آنِفًا، وَمُقَابِلُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْعُ مَيْتَةِ الْبَحْرِيِّ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مُطْلَقًا. الثَّانِي: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ، كَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ فَتُبَاحُ مَيْتَةُ الْبَحْرِيِّ مِنْهُ، وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ كَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ فَتُحْرَمُ مَيْتَةُ الْبَحْرِيِّ مِنْهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُجَّةَ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَطَعَامُهُ) كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ أَنْ كُلَّ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ، وَالطَّافِي مِنْهُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَأَمَّا مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَمَيْتَتُهُ عِنْدَهُ حَرَامٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهِ إِلَّا مَا لَا دَمَ فِيهِ، كَالسَّرَطَانِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ، وَاحْتَجَّ لِعَدَمِ إِبَاحَةِ مَيْتَةِ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ ; بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَلَمْ يَبُحْ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، كَالطَّيْرِ. وَحَمَلَ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى خُصُوصِ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ. اهـ. وَكَلْبُ الْمَاءِ عِنْدَهُ إِذَا ذُكِّيَ حَلَالٌ، وَلَا يُخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ يَحْتَاجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إِلَى نَصٍّ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَظْهَرُ دَلِيلًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ لَا يُؤْكَلُ الْبَحْرِيُّ مِنْهُ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ، وَأَمَّا مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ وَهُوَ الْحُوتُ بِأَنْوَاعِهِ فَمَيْتَتُهُ عِنْدَهُ حَلَالٌ، إِلَّا إِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فِي الْبَحْرِ وَطَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ عِنْدَهُ، فَمَا قَتَلَهُ إِنْسَانٌ، أَوْ حَسَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ؛ حَلَالٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الطَّافِي عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَحُجَّتُهُ فِيمَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْهُ: أَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [7 \ 157] وَحُجَّتُهُ فِي كَرَاهَةِ السَّمَكِ الطَّافِي مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ» اهـ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَيُّوبُ، وَحَمَّادٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ. وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنِ الِاحْتِجَاجِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ أَلْفَاظَ النُّصُوصِ عَامَّةٌ فِي مَيْتَةِ الْبَحْرِ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ الْعَامِّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمُطْلَقُ ادِّعَاءِ أَنَّهُ خَبِيثٌ لَا يَرُدُّ بِهِ عُمُومَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي عُمُومِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ، وَعَنِ الِاحْتِجَاجِ الثَّانِي بِتَضْعِيفِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ، فَهُوَ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْمُنْتَشِرَةِ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 غَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِمَحْفُوظٍ، وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ خِلَافُهُ قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ لِأَثَرِ ابْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ شَيْئًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ بَقِيَّةُ، فَكَيْفَ بِمَا يُخَالِفُ؟ قَالَ: وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ جَابِرٍ مَعَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» اهـ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» فِي بَابِ «مَنْ كَرِهَ أَكْلَ الطَّافِي» مَا نَصُّهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ فَيْرُوزَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَا ضَرَبَ بِهِ الْبَحْرُ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ، أَوْ صِيدَ فِيهِ فَكُلْ، وَمَا مَاتَ فِيهِ، ثُمَّ طَفَا فَلَا تَأْكُلْ» وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفًا، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا، وَخَالَفَهُمْ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَرْفُوعًا وَهُوَ وَاهِمٌ فِيهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا طَفَا السَّمَكُ عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَإِذَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَكُلْهُ، وَمَا كَانَ عَلَى حَافَّتِهِ فَكُلْهُ» قَالَ سُلَيْمَانُ: لَمْ يَرْفَعْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ إِلَّا أَبُو أَحْمَدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي قَدَّمْنَا، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ النَّوَوِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - فَتَحَصَّلَ: أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَضْعِيفِهِ وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَحَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْحُفَّاظِ عَلَى ضَعْفِهِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، وَحَكَمُوا بِأَنَّ وَقْفَهُ عَلَى جَابِرٍ أَثْبَتُ. وَإِذَنْ فَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ مُعَارَضٌ بِأَقْوَالِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَبِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ صِنَاعَةَ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ بَرَدِّ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ رَفْعَهُ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبَعْضِهَا صَحِيحٌ، فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ لَهُ مَرْفُوعًا الَّتِي قَدَّمْنَا ضَعَّفُوهَا بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهَا يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيَّ، وَأَنَّهُ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ مَرْفُوعًا مَعَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ الْمَذْكُورَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَرِوَايَةُ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ لَهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارْقُطْنِيِّ، ضَعَّفُوهَا بِأَنَّهُ وَاهِمٌ فِيهَا، قَالُوا: خَالَفَهُ فِيهَا وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ، فَرَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيَّ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ دِرْهَمٍ الْأَسْدِيُّ ثِقَةٌ ثَبَتٌ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : إِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ بِرَفْعِهِ تُعَضِّدَانِ بِرِوَايَةِ بَقِيَّةِ بْنِ الْوَلِيدِ لَهُ مَرْفُوعًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَبَقِيَّةُ الْمَذْكُورُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لَهُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا. وَرِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ لَهُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَإِنْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْمَذْكُورَانِ ضَعِيفَيْنِ؛ لِاعْتِضَادِ رِوَايَتِهِمَا بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ، وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ لَهُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكُمَ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ ; لِمَا رَأَيْتَ مِنْ طُرُقِ الرَّفْعِ الَّتِي رُوِيَ بِهَا وَبَعْضِهَا صَحِيحٌ، كَرِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ. قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ... مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ إِلَخْ. . . نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ; لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اعْتِضَادُهُ بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْقِيَاسِ بَيْنَ الطَّافِي وَغَيْرِهِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي خُصُوصِ الطَّافِي فَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْإِبَاحَةِ. فَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي لَا يَخْلُو مِنْ بَعْضِ قُوَّةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَكِ الطَّافِي هُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ، فَيَطْفُو عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَكُلُّ مَا عَلَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَمْ يَرْسُبْ فِيهِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ طَافِيًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الْوَافِرُ] وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُحْكَى فِي نَوَادِرِ الْمَجَانِينِ أَنَّ مَجْنُونًا مَرَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي طُفَاوَةَ يَخْتَصِمُونَ فِي غُلَامٍ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَجْنُونُ: أَلْقُوا الْغُلَامَ فِي الْبَحْرِ فَإِنْ رَسَبَ فِيهِ فَهُوَ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ، وَإِنْ طَفَا عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ مِنْ بَنِي طُفَاوَةَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ) [5 \ 96] . قَالَ عُمَرُ: صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الطَّافِي حَلَالٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذُرَتْ مِنْهَا، وَالْجَرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ نَذْبَحَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتُ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا) [35 \ 12] وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ. وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِيِّ: ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ. انْتَهَى مِنَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ إِلَّا مَا كَانَ صَحِيحًا ثَابِتًا عِنْدَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ: قَالَ عُمَرُ - هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ - «صَيْدُهُ» مَا اصْطِيدَ، وَ «طَعَامُهُ» مَا رَمَى بِهِ. وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي «التَّارِيخِ» وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ الْبَحْرَيْنِ سَأَلَنِي أَهْلُهَا عَمَّا قَذَفَ الْبَحْرُ؟ فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ فَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ) [5 \ 96] فَصَيْدُهُ: مَا صِيدَ، وَطَعَامُهُ: مَا قَذَفَ بِهِ. قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - هُوَ الصَّدِّيقُ -: الطَّافِي حَلَالٌ، وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ حَلَالٌ. زَادَ الطَّحَاوِيُّ: لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَكَذَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْهَا. وَفِي بَعْضِهَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَكَلَ السَّمَكَ الطَّافِي عَلَى الْمَاءِ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ اللَّهَ ذَبَحَ لَكُمْ مَا فِي الْبَحْرِ فَكُلُوهُ كُلُّهُ فَإِنَّهُ ذَكِيٌّ. قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ) ، قَالَ طَعَامُهُ: مَيْتَتُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ صَيْدَ الْبَحْرِ: لَا تَأْكُلْ مِنْهُ طَافِيًا، فِي سَنَدِهِ الْأَجْلَحُ وَهُوَ لَيِّنٌ، وَيُوَهِّنُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي قَبْلَهُ، قَوْلُهُ: وَالْجَرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَرِّيِّ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كَرِهَتْهُ الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْجَرِّيِّ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ ; إِنَّمَا تُحَرِّمُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ نَحْوَهُ. وَالْجَرِّيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ ضَبْطُ الصِّحَاحِ، وَكَسْرُ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ قَالَ: وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْجَرِّيتُ وَهُوَ مَا لَا قِشْرَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا أَكْرَهُهُ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ الْمَمْسُوخِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْجَرِّيتُ نَوْعٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ. وَقِيلَ: سَمَكٌ لَا قِشْرَ لَهُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْمَرْمَاهِيُّ، وَالسَّلُّورُ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: نَوْعٌ عَرِيضُ الْوَسَطِ، دَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ. قَوْلُهُ: وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ، وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي «التَّارِيخِ» وَابْنُ مَنْدَهْ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 «الْمَعْرِفَةِ» مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا سَمِعَا شُرَيْحًا صَاحِبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَطَاءٍ. فَقَالَ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «الصَّحَابَةِ» مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ شَيْخًا كَبِيرًا يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا فِي الْبَحْرِ دَابَّةٌ إِلَّا قَدْ ذَبَحَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ رَفَعَهُ: «أَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَبَحَ كُلَّ مَا فِي الْبَحْرِ لِبَنِي آدَمَ» وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ نَحْوَهُ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ: الْحُوتُ ذَكِيٌّ كُلُّهُ، قَوْلُهُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتُ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا) [35 \ 12] ، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي «التَّفْسِيرِ» عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا سَوَاءٌ، وَأَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ «مَكَّةَ» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَفِيهِ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ حِيتَانِ بِرْكَةِ الْقُشَيْرِيِّ - وَهِيَ بِئْرٌ عَظِيمَةٌ فِي الْحَرَمِ - أَتُصَادُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَأَلْتُهُ عَنِ ابْنِ الْمَاءِ وَأَشْبَاهِهِ أَصَيْدُ بَحْرٍ أَمْ صَيْدُ بَرٍّ؟ فَقَالَ: حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ صَيْدٌ. وَقِلَاتٌ: بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ مُثَلَّثَةٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ: جَمْعُ قَلْتٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِثْلَ: بَحْرٌ وَبِحَارٌ، وَهُوَ النَّقْرَةُ فِي الصَّخْرَةِ، يُسْتَنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ. قَوْلُهُ: وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ، وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا. أَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ الْأَوَّلِ فَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: الْبَصْرِيُّ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ: وَرَكِبَ الْحَسَنُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْلِهِ: عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودٍ، أَيْ: مُتَّخَذٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: فَالضَّفَادِعُ جَمْعُ ضِفْدَعٍ، بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتَحِ الدَّالِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا، وَحُكِيَ ضَمُّ أَوَّلِهِ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ، وَالضَّفَادِي بِغَيْرِ عَيْنٍ لُغَةٌ فِيهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يُبَيِّنِ الشَّعْبِيُّ هَلْ تُذَكَّى أَمْ لَا؟ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تُؤْكَلُ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا مَأْوَاهُ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَا بُدَّ مِنَ التَّذْكِيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي نَجَاسَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [5 \ 3] وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ ; لِأَنَّهَا بَرِّيَّةٌ، كَمَا صَرَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ بِأَنَّ مَيْتَتَهَا نَجِسَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَطَّابُ وَالْمَوَّاقُ وَغَيْرُهُمَا فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَالْبَحْرِيُّ وَلَوْ طَالَتْ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ: وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فِي السُّلَحْفَاةِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِأَكْلِ السُّلَحْفَاةِ بَأْسًا، وَمِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، وَالسُّلَحْفَاةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ ثُمَّ أَلِفٌ ثُمَّ هَاءٌ، وَيَجُوزُ بَدَلُ الْهَاءِ هَمْزَةً حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَبْدُوسٍ. وَحُكِيَ أَيْضًا فِي الْمُحْكَمِ: بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ. وَحُكِيَ أَيْضًا: سُلَحْفِيَةٌ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ. قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَذَا فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ وَفِي بَعْضِهَا «مَا صَادَهُ» قَبْلَ لَفْظِ «نَصْرَانِيٌّ» . قُلْتُ: وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلْ مَا أَلْقَى الْبَحْرُ وَمَا صِيدَ مِنْهُ؛ صَادَهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَفْهُومُهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يُؤْكَلُ إِنْ صَادَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ قَوْمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَاهِيَةَ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ السَّمَكَ. انْتَهَى مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» بِلَفْظِهِ. وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فِي الْمُرْيِ ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ فِي لَفْظِهِ أَنَّ ذَبَحَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْخَمْرَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالنِّينَانُ فَاعِلُ ذَبَحَ، وَالشَّمْسُ بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ النِّينَانُ، وَهِيَ جَمْعُ نُونٍ وَهُوَ: الْحُوتُ وَالْمُرْيُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، خِلَافًا لِصَاحِبِ «الصِّحَاحِ» وَ «النِّهَايَةِ» فَقَدْ ضَبَطَاهُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ نِسْبَةً إِلَى الْمُرِّ وَهُوَ الطَّعْمُ الْمَشْهُورُ، وَالْمُرْيُ الْمَذْكُورُ طَعَامٌ كَانَ يُعْمَلُ بِالشَّامِ، يُؤْخَذُ الْخَمْرُ فَيُجْعَلُ فِيهِ الْمِلْحُ وَالسَّمَكُ، وَيُوضَعُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الشَّمْسِ فَيَتَغَيَّرُ عَنْ طَعْمِ الْخَمْرِ وَيَصِيرُ خَلًّا، وَتَغْيِيرُ الْحُوتِ وَالْمِلْحِ وَالشَّمْسِ لَهُ عَنْ طَعْمِ الْخَمْرِ إِزَالَةُ الْإِسْكَارِ عَنْهُ، هُوَ مُرَادُ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِذَبْحِ الْحِيتَانِ وَالشَّمْسِ لَهُ، فَاسْتَعَارَ الذَّبْحَ لِإِذْهَابِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الَّتِي بِهَا الْإِسْكَارُ، وَأَثَرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَذَكَرَهُ سَوَاءً. وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرَى إِبَاحَةَ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ مَنْعَ تَخْلِيلِهَا، فَإِنْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ إِجْمَاعًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٌ يَأْكُلُونَ هَذَا الْمُرْيَ الْمَعْمُولَ بِالْخَمْرِ. وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي طَهَارَةِ صَيْدِ الْبَحْرِ، يُرِيدُ أَنَّ السَّمَكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ، وَأَنَّ طَهَارَتَهُ وَحِلَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ كَالْمِلْحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَرَامُ النَّجِسُ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ طَاهِرًا حَلَالًا، وَهَذَا رَأْيُ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ مَنْعُ أَكْلِ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا ; لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ: أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي «سُنَنِهِ» : أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا، وَسَيَأْتِي لِتَحْرِيمِ أَكْلِ الضِّفْدَعِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) الْآيَةَ [6 \ 145] . وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الضِّفْدَعِ مُطْلَقًا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ جَمِيعَ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ كُلَّهَا حَلَالٌ إِلَّا الضِّفْدَعَ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التِّمْسَاحَ لَا يُؤْكَلُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنِ اشْتَهَاهُ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُؤْكَلُ التِّمْسَاحُ وَلَا الْكَوْسَجُ ; لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ النَّاسَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَحْرِ كَمَا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَرِّ، وَذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ: مَا حَرُمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْبَحْرِ كَكَلْبِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ وَإِنْسَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ إِلَّا فِي الْكَلْبِ ; فَإِنَّهُ يَرَى إِبَاحَةَ كَلْبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَكْلَ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ الدَّمُ أَصْلُهُ دَمِيَ، يَائِيُّ اللَّامِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَذَفَتِ الْعَرَبُ لَامَهَا، وَلَمْ تُعَوِّضْ عَنْهَا شَيْئًا، وَأَعْرَبَتْهَا عَلَى الْعَيْنِ، وَلَامُهُ تَرْجِعُ عِنْدَ التَّصْغِيرِ، فَتَقُولُ: دُمَيٌّ بِإِدْغَامِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فِي يَاءِ لَامِ الْكَلِمَةِ، وَتَرْجِعُ أَيْضًا فِي جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَالْهَمْزَةُ فِي الدِّمَاءِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ، وَرُبَّمَا ثَبَتَتْ أَيْضًا فِي التَّثْنِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمٍ الرِّيَاحِيِّ: [الْوَافِرِ] وَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذَبَحْنَا ... جَرَى الدَّمَيَانِ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ لَامُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، وَالْوَصْفِ فِي حَالَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنْهُ فَتَقُولُ: فِي الْمَاضِي دَمِيَتْ يَدُهُ كَرَضِيَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الرَّجَزِ] هَلْ أَنْتَ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ وَتَقُولُ فِي الْمُضَارِعِ: يَدْمَى بِإِبْدَالِ الْيَاءِ أَلِفًا كَمَا فِي يَرْضَى، وَيَسْعَى، وَيَخْشَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلِ] وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا وَتَقُولُ فِي الْوَصْفِ: أَصْبَحَ جُرْحُهُ دَامِيًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: [الرَّاجِزِ] نَرُدُّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا ... نَرُدُّهَا دَامِيَةً كُلَاهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَامَهُ أَصْلُهَا يَاءٌ، وَقِيلَ أَصْلُهَا: وَاوٌ وَإِنَّمَا أُبْدِلَتْ يَاءً فِي الْمَاضِي ; لِتَطَرُّفِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ كَمَا فِي قَوِيَ، وَرَضِيَ، وَشَجِيَ، الَّتِي هِيَ وَاوِيَّاتُ اللَّامِ فِي الْأَصْلِ ; لِأَنَّهَا مِنَ الرِّضْوَانِ، وَالْقُوَّةِ، وَالشَّجْوِ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَصْلُ فِيهِ دَمَى بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقِيلَ: بِإِسْكَانِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ) ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ اضْطِرَارِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الِاضْطِرَارِ الْمَذْكُورَ الْمَخْمَصَةُ، وَهِيَ الْجُوعُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) [5 \ 3] وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي الْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) . وَالْمُتَجَانِفُ: الْمَائِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: [الطَّوِيلِ] تَجَانَفُ عَنْ حَجَرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي ... وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا فَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْبَاغِي وَالْعَادِي كِلَاهُمَا مُتَجَانِفٌ لِإِثْمٍ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْبَاغِي: هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَغْيِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ، وَالْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْعَادِي: هُوَ إِخَافَةُ الطَّرِيقِ وَقَطْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِثْمُ الْبَاغِي وَالْعَادِي أَكْلُهُمَا الْمُحَرَّمَ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ كَالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ) [2 \ 173] ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ إِنْ خَافَا الْهَلَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبَا. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الْمَعْنَى (غَيْرَ بَاغٍ) أَيْ: فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ (وَلَا عَادٍ) ، بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً وَيَأْكُلُهَا. وَنَقَلَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمَعْنَى (غَيْرَ بَاغٍ) فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً وَتَلَذُّذًا (وَلَا عَادٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى (غَيْرَ بَاغٍ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ، (وَلَا عَادٍ) عَلَيْهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُسَافِرُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ، وَالْغَارَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَا شَاكَلَهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ ; فَإِنَّ أَصْلَ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ قَصْدُ الْفَسَادِ، يُقَالُ: بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا فَجَرَتْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) [24 \ 33] وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ الْبَغْيُ فِي طَلَبِ غَيْرِ الْفَسَادِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجَ الرَّجُلُ فِي بِغَاءِ إِبِلٍ لَهُ؛ أَيْ: فِي طَلَبِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [مُرَفَّلِ الْكَامِلِ] لَا يَمْنَعَنَّكَ مِنْ بِغَا ... ءِ الْخَيْرِ تَعْقَادُ الرَّتَائِمْ إِنَّ الْأَشَائِمَ كَالْأَيَا ... مِنِ وَالْأَيَامِنَ كَالْأَشَائِمْ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاضْطِرَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِكْرَاهُ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ، كَالرَّجُلِ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ، فَيُكْرِهُونَهُ عَلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَخْمَصَةُ الَّتِي هِيَ الْجُوعُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ آيَةَ (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) [5 \ 3] ، مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) [16 \ 106] بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاضْطِرَارِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ وَيُمْسِكُ حَبَّاتِهِ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْسِ الشِّبَعِ هَلْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَوْ لَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَةُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَيَتَزَوَّدَ مِنْهَا، قَالَ فِي «مُوَطَّئِهِ» : إِنَّ أَحَسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ مِمَّنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ، فَإِذَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ أَكَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ حَتَّى يَجِدَ غَيْرَهَا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيُمْسِكُ الْحَيَاةَ، وَحُجَّتُهُمَا: أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا تُبَاحُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِذَا حَصَلَ سَدُّ الرَّمَقِ انْتَفَتِ الضَّرُورَةُ فِي الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِهِمَا دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي «مُخْتَصَرِهِ» حَيْثُ قَالَ: وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرُ آدَمِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَحَلٌّ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَخْمَصَةُ نَادِرَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنْهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمَا فِي الْقَوْلَيْنِ كَحُجَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا. وَالْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ سَدَّ الرَّمَقِ، وَرَجَّحَهُ الْقَفَّالُ وَكَثِيرُونَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا حِلَّ الشِّبَعِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ أَيْضًا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْعُمْرَانِ حَلَّ الشِّبَعُ وَإِلَّا فَلَا، وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَادِيَةٍ وَخَافَ إِنْ تَرَكَ الشِّبَعَ أَلَّا يَقْطَعَهَا وَيَهْلَكَ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَشْبَعُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَتَوَقَّعَ طَعَامًا طَاهِرًا قَبْلَ عَوْدِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ حُصُولُ طَعَامٍ طَاهِرٍ وَأَمْكَنَ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِنْ لَمْ يَجِدِ الطَّاهِرَ، فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَفِي الشِّبَعِ رِوَايَتَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يُبَاحُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الْحَسَنُ: يَأْكُلُ قَدْرَ مَا يُقِيمُهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَاسْتَثْنَى مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ. وَلِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ لِلْآيَةِ. يُحَقِّقُهُ: أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَهُوَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرَّ، وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ كَذَا هَاهُنَا. وَالثَّانِيَةُ: يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ ; لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَسْلُخُهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ. فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ» ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: «فَكُلُوهَا» ، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ الْفُجَيْعِ الْعَامِرِيِّ عِنْدَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْمَيْتَةِ مَعَ أَنَّهُ يَغْتَبِقُ وَيَصْطَبِحُ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِ النَّفْسِ حَاجَتَهَا مِنَ الْقُوتِ مِنْهَا ; وَلِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ الشِّبَعُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْمَيْتَةِ مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبِلَةِ وَيُفْضِي إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً، فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنَ الْمَعْنَى بِلَفْظِهِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ مَعْنَى الشِّبَعِ أَنْ يَمْتَلِئَ حَتَّى لَا يَجِدَ مُسَاغًا، وَلَكِنْ إِذَا انْكَسَرَتْ سَوْرَةُ الْجُوعِ بِحَيْثُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَائِعٍ أَمْسَكَ. اهـ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَدُّ الِاضْطِرَارِ الْمُبِيحِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْهَلَاكِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا. قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» فِيمَنْ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ اهـ. وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى حَالٍ يُشْرِفُ مَعَهَا عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ ذَلِكَ يُفِيدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : الثَّانِيَةُ فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا خِلَافَ أَنَّ الْجُوعَ الْقَوِيَّ لَا يَكْفِي لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ إِلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ ; فَإِنَّ الْأَكْلَ حِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُ، وَلَوِ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهَا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ جُوعٍ أَوْ ضَعْفٍ عَنِ الْمَشْيِ أَوْ عَنِ الرُّكُوبِ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ رُفْقَتِهِ وَيَضِيعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَوْ خَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ مُخَوِّفٍ فِي جِنْسِهِ فَهُوَ كَخَوْفِ الْمَوْتِ، وَإِنْ خَافَ طُولَ الْمَرَضِ فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَوْلَانِ، وَلَوْ عِيلَ صَبْرُهُ، وَأَجْهَدَهُ الْجُوعُ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ الْمَيْتَةُ وَنَحْوُهَا أَمْ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَصَحُّهُمَا: الْحِلُّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَخَافُهُ تَيَقُّنُ وُقُوعِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ، بَلْ يَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ هِيَ الَّتِي يَخَافُ التَّلَفَ بِهَا إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ، قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءً كَانَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ يَخَافُ إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، وَانْقَطَعَ عَنِ الرُّفْقَةِ فَهَلَكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنِ الرُّكُوبِ فَيَهْلِكُ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مَحْصُورٍ. وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: أَنْ يَخَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَقِينًا كَانَ أَوْ ظَنًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ خَافَ الْهَلَاكَ، أَوْ يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْوُجُوبُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [2 \ 195] ، وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [4 \ 29] . وَمِنْ هُنَا قَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْكِيَا: وَلَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عَاصِيًا، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِمَّنِ اخْتَارَ عَدَمَ الْوُجُوبِ وَلَوْ أَدَّى عَدَمُ الْأَكْلِ إِلَى الْهَلَاكِ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُمْ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ لَهُ غَرَضًا صَحِيحًا فِي تَرْكِهِ وَهُوَ اجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي وَجْهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، مَا نَصُّهُ: وَهَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ؛ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُضْطَرِّ يَجِدُ الْمَيْتَةَ وَلَمْ يَأْكُلْ، فَذَكَرَ قَوْلَ مَسْرُوقٍ: مَنِ اضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ دَخَلَ النَّارَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ مَعَ إِمْكَانِهِ فِي هَذَا الْحَالِ إِلْقَاءٌ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [4 \ 29] وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلَالٌ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ طَاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ، وَجَعَلَ مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ، وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَالَ رَأْسُهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَخَشَوْا مَوْتَهُ، فَأَخْرَجُوهُ فَقَالَ: قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي ; لِأَنِّي مُضْطَرٌّ، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتُكَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ ; وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ رُخْصَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ ; وَلِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَفَارَقَ الْحَلَالَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا؛ وُجُوبُ تَنَاوُلِ مَا يُمْسِكُ الْحَيَاةَ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ إِهْلَاكُ نَفْسِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ يُقَدِّمُ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ أَوْ مَالَ الْغَيْرِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ مَالَ الْغَيْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يُجْعَلَ سَارِقًا وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ. فَفِي «مُوَطَّئِهِ» مَا نَصُّهُ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرًا لِقَوْمٍ، أَوْ زَرْعًا، أَوْ غَنَمًا بِمَكَانِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ، أَوِ الزَّرْعِ، أَوِ الْغَنَمِ يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ حَتَّى لَا يُعَدَّ سَارِقًا فَتُقْطَعُ يَدُهُ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ، وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ. وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ، وَأَنْ يُعَدَّ سَارِقًا بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ ; فَإِنْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَعَةٌ، مَعَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْدُوَ عَادٍ مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ يُرِيدُ اسْتِجَازَةَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَزُرُوعِهِمْ، وَثِمَارِهِمْ بِذَلِكَ بِدُونِ اضْطِرَارٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ حَضَرَ صَاحِبُ الْمَالِ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَجَائِزٌ لِلَّذِي خَافَ الْمَوْتَ أَنْ يُقَاتِلَهُ ; حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَكْلِ مَا يَرُدُّ نَفْسَهُ. الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ يَدْعُوهُ أَوَّلًا إِلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَبَى اسْتَطْعَمَهُ، فَإِنْ أَبَى، أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي «مُخْتَصَرِهِ» الَّذِي قَالَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى عَاطِفًا عَلَى مَا يُقْدِمُ الْمُضْطَرُّ عَلَى الْمَيْتَةِ وَطَعَامِ غَيْرٍ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا: هُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» بِقَوْلِهِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ، وَهُوَ غَائِبٌ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ أَكْلُ الطَّعَامِ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا، فَإِنْ بَذَلَهُ بِلَا عِوَضٍ، أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا وَمَعَهُ ثَمَنُهُ، أَوْ رَضِيَ بِذِمَّتِهِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ، وَلَمْ يَجُزْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالطَّبَرِيُّونَ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ فَهُوَ كَمَا إِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 يَبْذُلْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُ عَلَيْهِ الْمُضْطَرُّ إِنْ خَافَ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ خَافَ هَلَاكَ الْمَالِكِ فِي الْمُقَاتَلَةِ، بَلْ يَعْدِلُ إِلَى الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ ; لِضَعْفِ الْمَالِكِ، وَسُهُولَةِ دَفْعِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إِذَا كَانَ غَائِبًا، هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي، وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، ثُمَّ يَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى أَوْ ثَمَنُ الْمِثْلِ، قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْ أَصْلًا وَقُلْنَا طَعَامُ الْغَيْرِ أَوْلَى مِنَ الْمَيْتَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَهُ، وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. حَاصِلُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ عَلَى طَعَامِ الْغَيْرِ. قَالَ الْخِرَقِيُّ فِي «مُخْتَصَرِهِ» : وَمَنِ اضْطُرَّ فَأَصَابَ الْمَيْتَةَ وَخُبْزًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ أَكَلَ الْمَيْتَةَ. اه. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْكَلَامِ مَا نَصُّهُ: وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ أَكَلَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَشَرِبَ اللَّبَنَ، وَإِنْ خَافَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ أَوْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلَالِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ. وَلَنَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمَالُ الْآدَمِيِّ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ ; وَلِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ تَلْزَمُهُ غَرَامَتَهُ، وَحَقُّ اللَّهِ لَا عِوَضَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ مُحْرِمًا وَأَمْكَنَهُ الصَّيْدُ فَهَلْ يُقَدِّمَ الْمَيْتَةَ أَوِ الصَّيْدَ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلٌ بِتَقْدِيمِ الصَّيْدِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنْ ذَكَّى صَيْدًا لَمْ يَكُنْ مَيْتَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَكَاةَ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ لَغْوٌ وَيَكُونُ مَيْتَةً، وَالْمَيْتَةُ أَخَفُّ مِنَ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ ; لِأَنَّهُ يُشَارِكُهَا فِي اسْمِ الْمَيْتَةِ وَيَزِيدُ بِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ، وَحُرْمَةِ الْقَتْلِ، وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ عَلَى الْمَيْتَةِ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّيْدَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَعَ جَوَازِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَنْتَفِي الضَّرُورَةُ فَلَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حِلَّ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَإِبَاحَةَ الصَّيْدِ لِلضَّرُورَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ إِلَّا صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ، وَلَهُ الشِّبَعُ مِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّهُ بِالضَّرُورَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ صَارَ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً طَاهِرًا حَلَالًا فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ، وَلِذَا تَجِبُ ذَكَاتُهُ الشَّرْعِيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَالْأَكْلُ مِنْهُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً، وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إِنْسَانٍ مَيِّتٍ، فَالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ الْمَيْتَةِ عَلَى الْخِنْزِيرِ وَلَحْمِ الْآدَمِيِّ. قَالَ الْبَاجِيُّ: إِنْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً، وَخِنْزِيرًا فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ ; لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَيْتَةٌ وَلَا يُبَاحُ بِوَجْهٍ، وَكَذَلِكَ يُقَدِّمُ الصَّيْدَ عَلَى الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكْلُ الْإِنْسَانِ لِلضَّرُورَةِ مُطْلَقًا وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْمَعْصُومِ الدَّمِ لِأَكْلِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. وَإِنْ وُجِدَ إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ مَيِّتًا فَهَلْ يَجُوزُ لَحْمُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ مَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ لِمَنْعِهِ لِحَدِيثِ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ جَوَازَ أَكْلِهِ، وَقَالَ: لَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ هَاهُنَا ; لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنَ اللَّحْمِ لَا مِنَ الْعَظْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ التَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْحُرْمَةِ لَا فِي مِقْدَارِهَا بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الضَّمَانِ وَالْقِصَاصِ، وَوُجُوبُ صِيَانَةِ الْحَيِّ بِمَا لَا يَجِبُ بِهِ صِيَانَةُ الْمَيِّتِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ آدَمِيًّا غَيْرَ مَعْصُومٍ كَالْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ فَلَهُ قَتْلُهُ، وَالْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ. وَاللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلْ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَدْفَعَ ضَرُورَتَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ؟ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا. الثَّانِي: الْإِبَاحَةُ مُطْلَقًا. الثَّالِثُ: الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ إِلَى التَّدَاوِي بِهَا دُونَ الْعَطَشِ. الرَّابِعُ: عَكْسُهُ. وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّدَاوِيَ بِالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ ; لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ طَارِقُ بْنُ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيُّ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» وَالظَّاهِرُ إِبَاحَتُهَا ; لِإِسَاغَةِ غُصَّةٍ خِيفَ بِهَا الْهَلَاكُ ; وَعَلَيْهِ جُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِسَاغَةِ الْغُصَّةِ وَبَيْنَ شُرْبِهَا لِلْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَنَّ إِزَالَتَهَا لِلْغُصَّةِ مَعْلُومَةٌ، وَأَنَّهَا لَا يَتَيَقَّنُ إِزَالَتُهَا لِلْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَلْ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَنْ يَشْرَبَ لِجُوعِهِ أَوْ عَطَشِهِ الْخَمْرَ؟ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَشْرَبُهَا وَلَنْ تَزِيدَهُ إِلَّا عَطَشًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَقْرُبُ ضَوَالَّ الْإِبِلِ، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ غُصَّ بِطَعَامٍ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُجَوِّزَهُ بِالْخَمْرِ، وَقَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ. أَمَّا التَّدَاوِي بِهَا فَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ: وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِإِسَاغَةِ الْغُصَّةِ فَالْفَرْقُ أَنَّ التَّدَاوِيَ بِهَا لَا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْبُرْءُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ. اه. بِنَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَخَمْرٌ لِغُصَّةٍ، وَمَا نَقَلْنَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ لَا تَزِيدُ إِلَّا عَطَشًا، نَقَلَ نَحْوَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَقَدْ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ شُرْبِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 لِلْعَطَشِ ; مُعَلِّلًا بِأَنَّهَا تُجِيعُ وَتُعَطِّشُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: سَأَلْتُ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهَا تَرْوِي فِي الْحَالِ، ثُمَّ تُثِيرُ عَطَشًا عَظِيمًا. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «تَعْلِيقِهِ» : قَالَتِ الْأَطِبَّاءُ: الْخَمْرُ تَزِيدُ فِي الْعَطَشِ وَأَهْلُ الشُّرْبِ يَحْرِصُونَ عَلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ، فَجَعَلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي دَفْعِ الْعَطَشِ. وَحَصَلَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي الدَّوَاءِ فَثَبَتَ تَحْرِيمُهَا مُطْلَقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ مِنْ «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» . وَبِهِ تَعَلَمُ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ جَوَازِهَا لِلْعَطَشِ خِلَافَ الصَّوَابِ، وَمَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَبْهَرِيُّ مِنْ أَنَّهَا تَنْفَعُ فِي الْعَطَشِ خِلَافَ الصَّوَابِ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَنْ مَرَّ بِبُسْتَانٍ لِغَيْرِهِ فِيهِ ثِمَارٌ وَزَرْعٌ، أَوْ بِمَاشِيَةٍ فِيهَا لَبَنٌ، فَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا اضْطِرَارًا يُبِيحُ الْمَيْتَةَ فَلَهُ الْأَكْلُ بِقَدْرِ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ إِجْمَاعًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ مِنْهُ. فَقِيلَ: لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَطْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْمِلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَوَّطِ عَلَيْهِ فَيُمْنَعُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» وَعُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [4 \ 29] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَلَا يَحْمِلْ» اهـ. وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ، وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً» قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ. وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: «مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» قَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ، وَلَا يَتَّخِذْ ثِبَانًا» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُوَ يَحْمِلُ الْوِعَاءَ الَّذِي يَحْمِلُ فِيهِ الشَّيْءَ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ فَهُوَ ثِبَانٌ، يُقَالُ: قَدْ تَثَبَّنْتَ ثِبَانًا، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَهُوَ الْحَالُ، يُقَالُ: مِنْهُ قَدْ تَحَوَّلَتْ كِسَائِي، إِذَا جَعَلْتَ فِيهِ شَيْئًا ثُمَّ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكَ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ فِي حِضْنِكَ فَهُوَ خُبْنَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَرْفُوعُ: «وَلَا يَتَّخِذُ خُبْنَةً» يُقَالُ: فِيهِ خَبَنْتُ أَخْبِنُ خَبْنَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي زَيْنَبَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي بُرْدَةَ، فَكَانُوا يَمُرُّونَ بِالثِّمَارِ، فَيَأْكُلُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ، نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَحَمَلَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْيَشْكُرِيِّ الْغُبَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَصَابَتْنَا عَامًا مَخْمَصَةٌ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا، فَأَخَذْتُ سُنْبُلًا فَفَرَكْتُهُ وَأَكَلْتُهُ، وَجَعَلْتُهُ فِي كِسَائِي، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَضَرَبَنِي، وَأَخَذَ ثَوْبِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «مَا أَطْعَمْتُهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا أَوْ سَاغِبًا وَلَا عَلَّمْتُهُ إِذْ كَانَ جَاهِلًا» ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِوَسْقٍ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْقَطْعِ وَالْأَدَبِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ الْمَخْمَصَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَقِبَ نَقْلِهِ لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا يُوَجِّهُ هَذَا الْحَدِيثَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ لِلْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ، الَّذِي لَا شَيْءَ مَعَهُ يَشْتَرِي بِهِ، أَلَا يَحْمِلَ إِلَّا مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ قَدْرَ قُوُتِهِ، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ بِعَمَلِ ذَلِكَ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ كَمَا هُوَ الْآنَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَوْقَاتِ الْمَجَاعَةِ وَالضَّرُورَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنْهُ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَوَّطِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَنَّ إِحْرَازَهُ بِالْحَائِطِ دَلِيلٌ عَلَى شُحِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 صَاحِبِهِ بِهِ وَعَدَمِ مُسَامَحَتِهِ فِيهِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ كَانَ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَهُوَ حَرَامٌ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَلَا بَأْسَ، نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» وَغَيْرُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَالِ الْمُسْلِمِ فَيَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَبَيْنَ مَالِ الْكِتَابِيِّ (الذِّمِّيِّ) فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ غَيْرِ ظَاهِرٍ. وَيَجِبُ حَمْلُ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الْوَارِدِ فِي الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ بُيُوتِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْعِ الْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِهِمْ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى عَدَمِ الضَّرُورَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هَذَا الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى (مَنْ أَتَى الْمَالَ) ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا، أَوْ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى (عَلَى حُبِّهِ) أَيْ: حُبِّ مُؤْتِي الْمَالَ لِذَلِكَ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [3 \ 92] وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَلَازُمًا فِي الْمَعْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحِينَ الْبَأْسِ) ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا الْمُرَادُ بِالْبَأْسِ؟ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْبَأْسَ الْقِتَالُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) [33 \ 18] كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَعَاشُورَاءُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ رَمَضَانُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (شَهْرُ رَمَضَانَ) الْآيَةَ [2 \ 185] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ أُنْزِلَ فِي اللَّيْلِ مِنْهُ أَوِ النَّهَارِ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [97 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 [44 \ 3] ; لِأَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَفِي مَعْنَى إِنْزَالِهِ وَجْهَانِ: لْأَوَّلُ: أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهَا جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى إِنْزَالِهِ فِيهَا ابْتِدَاءُ نُزُولِهِ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَرِيبٌ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَعْلِيقَ ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا وَهِيَ قَوْلُهُ: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) الْآيَةَ [6 \ 41] . وَقَالَ بَعْضُهُمُ: التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ فِي دُعَاءِ الْكُفَّارِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَالْوَعْدُ الْمُطْلَقُ فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَيْهِ فَدُعَاؤُهُمْ لَا يُرَدُّ، إِمَّا أَنْ يُعْطُوا مَا سَأَلُوا أَوْ يُدَّخَرَ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ يُدْفَعَ عَنْهُمْ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ الْعِبَادَةُ، وَبِالْإِجَابَةِ الثَّوَابُ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: (مِنَ الْفَجْرِ) [2 \ 187] وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ضَوْءَ الصُّبْحِ خَيْطًا، وَظَلَامَ اللَّيْلِ الْمُخْتَلِطَ بِهِ خَيْطًا، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي دُوَادَ الْإِيَادِيِّ: [الْمُتَقَارِبِ] فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سُدْفَةٌ ... وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْبَسِيطِ] الْخَيْطُ الْأَبَيْضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ ... وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ جُنْحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالْمُرَادِ بِمَنِ اتَّقَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [2 \ 177] وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ؛ أَيْ: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ مَنِ اتَّقَى، وَقِيلَ وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى، وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: [الْبَسِيطِ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لَا تَسْأَمِ الدَّهْرَ مِنْهُ كُلَّمَا ... ذَكَرَتْ فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ أَيْ: ذَاتُ إِقْبَالٍ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْمُتَقَارِبِ] وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ ... أَصْبَحَتْ خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ أَيْ: كَخِلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلِ] لَعَمْرُكَ مَا الْفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدَى أَيْ: لَيْسَ الْفِتْيَانُ فِتْيَانَ نَبَاتِ اللِّحَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلْعُلَمَاءِ: لْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ - بِالَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْقِتَالُ؛ أَيْ: دُونَ غَيْرِهِمْ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْفَانِيَةِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ. الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ الدَّالَّةِ عَلَى قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَهْيِيجُ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْرِيضُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالِهِمْ، هُمْ خُصُومُكُمْ وَأَعْدَاؤُكُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ فَالْمَعْنَى يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [9 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) . اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ صَدُّ الْعَدُوِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْعُهُ إِيَّاهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِهِ حَبْسُ الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ عَدُوٍّ وَمَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) [2 \ 196] يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ هُنَا صَدُّ الْعَدُوِّ الْمُحْرِمِ ; لِأَنَّ الْأَمْنَ إِذَا أُطْلِقَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ انْصَرَفَ إِلَى الْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ لَا إِلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرِ الشَّيْءُ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْنُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِحْصَارِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَمَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْأَمْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَمْنِ مِنَ الْمَرَضِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنَ الشَّوْصِ، وَاللَّوْصِ، وَالْعِلَّوْصِ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْأَمْنَ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمَرَضِ، فَلَوْ أُطْلِقَ لَانْصَرَفَ إِلَى الْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَخَافُ وُقُوعَ الْمَذْكُورِ مِنَ الشَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ السِّنِّ، وَاللَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الْأُذُنِ، وَالْعِلَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الْبَطْنِ ; لِأَنَّهُ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَائِفٌ مِنْ وُقُوعِهَا، فَإِذَا أَمِنَ مِنْ وُقُوعِهَا بِهِ فَقَدْ أَمِنَ مِنْ خَوْفٍ. أَمَّا لَوْ كَانَتْ وَقَعَتْ بِهِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ أَمِنَ مِنْهَا ; لَأَنَّ الْخَوْفَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبِلٍ لَا وَاقِعٍ بِالْفِعْلِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ زَعْمَ إِمْكَانِ إِطْلَاقِ الْأَمْنِ عَلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَبْحَثَيْنِ: الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. الثَّانِي: فِي تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهَا فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِحْصَارَ هُوَ مَا كَانَ عَنْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، قَالُوا: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ يُحْصِرُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الصَّادِ إِحْصَارًا، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ فَهُوَ الْحَصْرُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: حَصَرَ الْعَدُوُّ يَحْصُرُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ حَصْرًا بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْحَصْرِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِحْصَارِ عَلَى غَيْرِ الْعَدُوِّ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الْآيَةَ [2 \ 273] وَقَوْلُ ابْنِ مَيَّادَةَ: [الطَّوِيلِ] وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ ... تَبَاعَدَتْ عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شَغُولُ وَعَكَسَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. فَقَالَ: الْإِحْصَارُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَالْحَصْرُ مِنَ الْمَرَضِ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي «الْمُجْمَلِ» نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ نَحْوَهُ عَنْ ثَعْلَبٍ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ الْإِحْصَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ الْحَصْرُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِاسْتِعْمَالِ الْإِحْصَارِ فِي الْجَمِيعِ الْفَرَّاءُ، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الْحَصْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَالْإِحْصَارَ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجَمِيعِ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا شَكَّ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ الْإِحْصَارِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ كَمَا سَتَرَى تَحْقِيقَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ. وَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَصْرُ الْعَدُوِّ خَاصَّةً دُونَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ مَرْوَانُ، وَإِسْحَاقُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ خَاصَّةً، فَمَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ، وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى، فَيَكُونُ مُتَحَلِّلًا بِعُمْرَةٍ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [2 \ 196] نَزَلَتْ فِي صَدِّ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ بِعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ بِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ فَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهَا بِمُخَصَّصٍ، فَشُمُولُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ، الَّذِي هُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَطْعِيٌّ، فَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْآيَةِ بِوَجْهٍ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ لَا قَطْعِيَّتُهُ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ ... وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِحْصَارِ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَدُوٍّ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِلَا شَكَّ كَمَا تَرَى، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ فِي أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرَ الْعَدُوِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابْنُ حَجَرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ شَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا أَوِ الدَّوَاءِ صَنَعَ ذَلِكَ وَافْتَدَى» وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَانَ قَدِيمًا أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ كُسِرَتْ فَخِذِي، فَأَرْسَلْتُ إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالنَّاسُ فَلَمْ يُرَخِّصْ لِي أَحَدٌ أَنْ أُحِلَّ، فَأَقَمْتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَحْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. وَالرَّجُلُ الْبَصْرِيُّ الْمَذْكُورُ الَّذِي أَبْهَمَهُ مَالِكٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ شَيْخُ أَيُّوبَ، وَمُعَلِّمُهُ كَمَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرَقٍ، وَسَمَّى الرَّجُلَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُزَابَةَ الْمَخْزُومِيَّ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَسَأَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَذَكَرَ لَهُمُ الَّذِي عَرَضَ لَهُ فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَيَفْتَدِيَ فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلُ، وَيَهْدِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» . قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ وَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَحِلَّا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَرْجِعَا حَلَالًا، ثُمَّ يَحُجَّانِ عَامًا قَابِلًا وَيَهْدِيَانِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: «الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَعْنِي غَيْرَ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الزَّرْقَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُوَطَّأِ» هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنْ خُصُوصِ الْعَدُوِّ دُونَ مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ أَنَّهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، مِنْ جَمِيعِ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَلْقَمَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ شُمُولِهِ لِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي حُجَّةِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ شُمُولِهِ لِلْإِحْصَارِ بِمَرَضٍ فَهِيَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا: صَدَقَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ عَرِجَ، أَوْ كُسِرَ، أَوْ مَرِضَ» فَذَكَرَ مَعْنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: «مَنْ حُبِسَ بِكَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ» هَذَا الْحَدِيثُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ هَذَا: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ قُوَّةَ حُجَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَرَدَّ الْمُخَالِفُونَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» قَالَ: وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بَعْدَ فَوَاتِهِ بِمَا يَحِلُّ بِهِ مَنْ يَفُوتُهُ الْحَجُّ بِغَيْرِ مَرَضٍ. فَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَابِتًا عَنْهُ، قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ عَدُوٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ حَمْلُ حِلِّهِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ فِي إِحْرَامِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ بِالْعُذْرِ، وَالتَّحْقِيقُ: جَوَازُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ بِأَنْ يُحْرِمَ وَيَشْتَرِطَ أَنَّ مَحِلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ مَنَعَ الِاشْتِرَاطَ ; لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: «لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟» قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً. فَقَالَ لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَأُهِلُّ؟ قَالَ: «أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» ، قَالَ: فَأَدْرَكَتْ. وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ: وَقَالَ: «فَإِنَّ لَكَ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ» . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ خَاصَّةً، دُونَ مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ الْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْصَارِ الْعَدُوِّ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّهُ مِنْ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَأَخْذِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، فَإِحْصَارُ الْعَدُوِّ عِنْدَهُمْ مُلْحَقٌ بِإِحْصَارِ الْمَرَضِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ نَزَلَتْ فِي إِحْصَارِ الْعَدُوِّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي الْآيَةِ إِحْصَارُ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ نَحْوُهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) [2 \ 196] . وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَدَّى مَحِلَّهَا، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا تَنْهَضُ بِهِ حُجَّةٌ ; لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ; بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي» وَلَوْ كَانَ التَّحَلُّلُ جَائِزًا دُونَ شَرْطٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو لَمَا كَانَ لِلِاشْتِرَاطِ فَائِدَةٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاشْتِرَاطِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا ... أَمْكَنَا إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بَيِّنَا وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْحَدِيثَيْنِ الثَّابِتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ، فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِغَيْرِ هَذَا، وَهُوَ حَمْلُ أَحَادِيثِ الِاشْتِرَاطِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلْزَمَهُ حُجَّةً أُخْرَى، وَحُمِلَ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ، وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ أُخْرَى، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ أَنَّ أَحَادِيثَ الِاشْتِرَاطِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ حَجَّةٍ أُخْرَى. وَحَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» . فَالْجَوَابُ أَنَّ وُجُوبَ الْبَدَلِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى أَوْ عُمْرَةٍ أُخْرَى لَوْ كَانَ يَلْزَمُ، لَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْضُوا عُمْرَتَهُمُ الَّتِي صَدَّهُمْ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» فِي بَابِ «مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ» مَا نَصُّهُ: وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا يَعُودُوا لَهُ وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرُوا الْهَدْيَ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ، ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا يَعُودُوا لِشَيْءٍ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنَ [الْمُوَطَّأِ] . وَلَا يُعَارَضُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قُتِلَ بِخَيْبَرَ، أَوْ مَاتَ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مُعْتَمِرِينَ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَلْفَيْنِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَالَّذِي أَعْقِلُهُ فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْمَغَازِي شَبِيهٌ بِمَا ذَكَرْتُ ; لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ مُتَوَاطِئِ أَحَادِيثِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، اهـ. فَهَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَزَمَ بِأَنَّهُمْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا إِنْ صَحَّ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ، بِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَازِمٌ بِأَنَّ جَمَاعَةً تَخَلَّفُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةِ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، اهـ. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ نَحْوَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: «وَقَالَ رَوْحٌ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ، وَلَا يَرْجِعُ» . انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا بِإِسْنَادٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَفِيهِ: فَإِنْ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، اهـ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا وَعَلِمْتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ عِكْرِمَةُ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ، وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، مَحِلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، تَعْلَمُ أَنَّ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ الْأَخِيرَ لَا يَصِحُّ ; لِتَعَيُّنِ حَمْلِ الْحَجَّةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، اهـ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا إِحْصَارَ إِلَّا بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً، وَأَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْرَأَ، وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، فَيَهْدِي أَوْ يَصُومُ، إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا كَمَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهُوَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَرِيضَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُحْصَرٍ، فَهُوَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَفَاتَهُ وُقُوفُ عَرَفَةَ يَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ، وَيَهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، اهـ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِحْصَارَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُذْرٍ كَائِنًا مَا كَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَسْخٌ، فَادِّعَاءُ دَفْعِهِ بِلَا دَلِيلٍ وَاضِحُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى، هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ الْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) [2 \ 196] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَاةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِنَّمَا هُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ دُونَ الْغَنَمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَبَحَ فِي تَحَلُّلِهِ ذَلِكَ شَاةً، وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَقَرَةٍ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَخْفَى أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يُسَمَّى هَدْيًا، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَنْعَامِ: مِنْ إِبِلٍ، وَبَقَرٍ، وَغَنَمٍ، فَإِنْ تَيَسَّرَتْ شَاةٌ أَجْزَأَتْ، وَالنَّاقَةُ وَالْبَقَرَةُ أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَهْدَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً غَنَمًا» . فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلِ: إِذَا كَانَ مَعَ الْمُحْصَرِ هَدْيٌ لَزِمَهُ نَحْرُهُ إِجْمَاعًا، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَنْحَرُهُ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي حُصِرَ فِيهِ، حِلًّا كَانَ أَوْ حَرَمَا، وَقَدْ نَحَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَجَزَمَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرُوا فِيهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْحِلِّ لَا مِنَ الْحَرَمِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [48 \ 25] فَهُوَ نَصٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْهَدْيَ لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحَرَمِ لَكَانَ بَالِغًا مَحِلَّهُ، وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمَّا حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ نَحَرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَحَمَلَتْ شُعُورَهُمْ، فَأَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ» وَعَقَدَهُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَنَحَرُوا وَحَلَّقُوا وَحَمَلَتْ ... شُعُورَهُمْ لِلْبَيْتِ رِيحٌ قَدْ غَلَتْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِذْكَارِ» : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ نَحَرُوا فِي الْحِلِّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَرْسَلُوا هَدْيَهُمْ مَعَ مَنْ يَنْحَرُهُ فِي الْحَرَمِ، قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ جُنْدَبِ بْنِ جُنْدَبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ حَتَّى أَنْحَرَهُ فِي الْحَرَمِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ، عَنْ نَاجِيَةَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، لَكِنْ قَالَ عَنْ نَاجِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ: لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ هَذَا وُجُوبُهُ، بَلْ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ نَحَرَ فِي مَكَانِهِ وَكَانُوا فِي الْحِلِّ، وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ، وَقَالَ: لَا يَنْحَرُ الْمُحْصَرُ هَدْيَهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إِلَى الْحَرَمِ، فَإِذَا بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حَلَّ، وَقَالَ: إِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ طَرَفِ الْحَرَمِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [2 \ 196] وَرُدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ نَحَرَ فِي الْحِلِّ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، لَا عَلَى قَوْلِهِ: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَحِلِّهِ الْمَحِلُّ الَّذِي يَجُوزُ نَحْرَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْصَرِ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحِلِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ أَنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ إِرْسَالَ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ أَرْسَلَهُ وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، إِذْ لَا وَجْهَ لِنَحْرِ الْهَدْيِ فِي الْحِلِّ مَعَ تَيَسُّرِ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ إِرْسَالَهُ إِلَى الْحَرَمِ نَحَرَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ مِنَ الْحِلِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي [صَحِيحِهِ] فِي «بَابِ مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ» مَا نَصُّهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَقَالَ رَوْحٌ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ، وَلَا يَرْجِعُ» وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، اهـ، مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِظُهُورِ وَجْهِهِ كَمَا تَرَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُحْصَرِ هَدْيٌ، فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْهَدْيَ وَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَهْدِيَ، أَوْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ بِدُونِ هَدْيٍ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْهَدْيَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ أَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَخَالَفَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَا: لَا هَدْيَ عَلَى الْمُحْصَرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ مَعَهُ قَبْلَ الْإِحْصَارِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ وَاضِحَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فَتَعْلِيقُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عَلَى الْإِحْصَارِ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ، يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْهَدْيِ بِالْإِحْصَارِ لِمَنْ أَرَادَ التَّحَلُّلَ بِهِ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ كَمَا تَرَى، فَإِنْ عَجَزَ الْمُحْصَرُ عَنِ الْهَدْيِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ بَدَلٌ عَنْهُ أَوْ لَا؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا بَدَلَ إِنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَمِمَّنْ قَالَ لَا بَدَلَ لِهَدْيِ الْمُحْصَرِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ; فَإِنَّ الْمُحْصَرَ عِنْدَهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْقَى مُحْرِمًا حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا، أَوْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ: إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا حَلَّ بِدُونِهِ، وَإِنْ تَيَسَّرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَدْيٌ أَهْدَاهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فَلَهُ بَدَلٌ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَدَلِ الْهَدْيِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ قِيَاسًا عَلَى مَنْ عَجَزَ عَمَّا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَدَلِ هَدْيِ الْمُحْصَرِ أَنَّهُ بِالْإِطْعَامِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي «كِتَابِ الْأَوْسَطِ» فَتُقَوَّمُ الشَّاةُ وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَقِيلَ إِطْعَامٌ كَإِطْعَامِ فِدْيَةِ الْأَذَى وَهُوَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَقِيلَ: بَدَلُهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَقِيلَ: بَدَلُهُ صَوْمٌ بِالتَّعْدِيلِ، تُقَوَّمُ الشَّاةُ وَيُعْرَفُ قَدْرُ مَا تُسَاوِي قِيمَتُهَا مِنَ الْأَمْدَادِ، فَيَصُومُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا، وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، وَأَقْرَبُهَا قِيَاسُهُ عَلَى التَّمَتُّعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: هَلْ يَلْزَمُ الْمُحْصَرُ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّلَ حَلْقٌ أَوْ تَقْصِيرٌ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا حَلْقَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَلْقَ وَلَوْ كَانَ لَازِمًا لَبَيَّنَهُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لِعَدَمِ لُزُومِ الْحَلْقِ ; بِأَنَّ الْحَلْقَ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُهُ نُسُكًا إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقَبْلُهُ جِنَايَةٌ، فَلَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَلِهَذَا الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ إِذَا مَنَعَهُمَا السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ لَا يُؤْمَرَانِ بِالْحَلْقِ إِجْمَاعًا. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي حَلْقِ الْمُحْصَرِ رِوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَلْقِ، هَلْ هُوَ نُسُكٌ أَوْ إِطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ؟ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ: هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ لُزُومِ الْحَلْقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) . وَلِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ حَلَقَ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَالْمُقَصِّرِينَ» . فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْحَلْقِ عَنِ الْمُحْصَرِ. وَقِيَاسُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اللُّزُومِ الْحَلْقَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ النُّسُكِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَثَلًا، كُلُّ ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْصَرُ وَصُدَّ عَنْهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَمُنِعَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْحِلَاقُ فَلَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ ; فَلَا وَجْهَ لِسُقُوطِهِ، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 شَكَّ أَنَّ الَّذِي تَدُلُّ نُصُوصُ الشَّرْعِ عَلَى رُجْحَانِهِ، أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ عَلَى مَنْ أَتَمَّ نُسُكَهُ، وَعَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ، وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ، فَالْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ النِّيَّةُ، وَذَبْحُ الْهَدْيِ، وَالْحِلَاقُ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ يَتَحَلَّلُ بِالنِّيَّةِ وَالذَّبْحِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» : (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الْآيَةَ: 28] . فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ) الْآيَةَ [22 \ 34] ذِكْرُ اسْمِهِ تَعَالَى عِنْدَ نَحْرِ الْبُدْنِ إِجْمَاعًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ عَاطِفًا بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلتَّرْتِيبِ (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [22 \ 29] . وَقَضَاءُ التَّفَثِ يَدْخُلُ فِيهِ بِلَا نِزَاعٍ إِزَالَةُ الشَّعْرِ بِالْحَلْقِ، فَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ النَّحْرِ عَلَى الْحَلَقِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ التَّفَثِ عَلَى الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ، قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: [الْبَسِيطِ] حَفُّوا رُؤُوسَهُمُ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا ... وَلَمْ يَسَلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا وَرَوَى بَعْضُهُمْ بَيْتَ أُمَيَّةَ الْمَذْكُورِ هَكَذَا: [الْبَسِيطِ] سَاخِينَ آبَاطِهِمْ لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا ... وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: [الْوَافِرِ] قَضَوْا تَفَثًا وَنَحْبًا ثُمَّ سَارُوا ... إِلَى نَجْدٍ وَمَا انْتَظَرُوا عَلِيًّا فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ بَعْدَ النَّحْرِ، وَلَكِنْ إِذَا عَكَسَ الْحَاجُّ أَوِ الْمُعْتَمِرُ، فَحَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ ذَلِكَ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا، وَقِيلَ فِيمَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحِرَ مُحْصَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ دَمٌ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: عَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. ذَكَرَهُ فِي الْمُحْصَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَالظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ ; لِعَدَمِ الدَّلِيلِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ: أَنَّ الدَّلِيلَ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ هُوَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ نَحَرَ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ فِي حَدِيثِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالصُّلْحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا» . وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ الْمِسْوَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، اهـ. فَدَلَّ فِعْلُهُ وَأَمْرُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ اللَّازِمُ لِلْمُحْصَرِ، وَمَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ فَقَدْ عَكَسَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ أَخَلَّ بِنُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّحْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَلْقِ، وَلَكِنْ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْمٍ وَلَا دَمٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ، بِأَنَّهُ ظَنَّ الْحَلْقَ قَبْلَ النَّحْرِ فَنَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ، وَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ: «لَا حَرَجَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ» ، وَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: «لَا حَرَجَ» ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: «لَا حَرَجَ» ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَهِيَ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْمٍ وَلَا فِدْيَةَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَا حَرَجَ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ رُكِّبَتْ مَعَ لَا فَبُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعُمُومِ، فَالْأَحَادِيثُ إِذَنْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ مِنْ إِثْمٍ وَفِدْيَةٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَا يَتَّضِحُ حَمْلُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ جَاهِلٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ النِّسْيَانِ وَلَا الْجَهْلِ، فَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ عُمُومِهَا حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَيْضًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ جَوَابَ الْمَسْئُولِ لِمَنْ سَأَلَهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوطِ بِالذِّكْرِ لِمُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَبْحَثِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَهُ: [الرَّجَزِ] أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبْ ... لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) الْآيَةَ [2 \ 229] وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ عَدَمِ الشُّعُورِ الْوَارِدِ فِي السُّؤَالِ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَتَعْلِيقُ سُؤَالِ بَعْضِهِمْ بِعَدَمِ الشُّعُورِ لَا يَسْتَلْزِمُ سُؤَالَ غَيْرِهِ بِهِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ يَخْتَصُّ الْحُكْمَ بِحَالَةِ عَدَمِ الشُّعُورِ، وَلَا يَجُوزُ اطِّرَاحُهَا بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهَا. وَلِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي التَّخْصِيصِ عَلَى وَصْفِ عَدَمِ الشُّعُورِ الْمَذْكُورِ فِي سُؤَالِ بَعْضِ السَّائِلِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمَطْلُوبِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الْفَضْلُ الَّذِي لَا جُنَاحَ فِي ابْتِغَائِهِ أَثْنَاءَ الْحَجِّ. وَأَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُ رِبْحُ التِّجَارَةِ كَقَوْلِهِ: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [62 \ 10] لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ يُسَافِرُونَ يَطْلُبُونَ رِبْحَ التِّجَارَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [62 \ 9] أَيْ: بِالْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) [92 \ 9] أَيْ: فَإِذَا انْقَضَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَاطْلُبُوا الرِّبْحَ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ عِنْدَ النِّدَاءِ لَهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ غَلَبَةَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْغَالِبِ أَوْلَى، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ رِبْحُ التِّجَارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [2 \ 199] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمَكَانَ الْمَأْمُورَ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 (حَيْثُ) الَّتِي هِيَ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ، كَمَا تَدُلُّ «حِينَ» عَلَى الزَّمَانِ. وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) [2 \ 198] وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقِفُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ عَرَفَاتَ خَارِجٌ عَنِ الْحَرَمِ وَعَامَّةُ النَّاسِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، أَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَهُوَ عَرَفَاتٌ لَا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ كَفِعْلِ قُرَيْشٍ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَعَلَيْهِ فَلَفْظَةُ «ثُمَّ» لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ بِمَعْنَى عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَيْهَا فِي مُطْلَقِ الذِّكْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [90 \ 13، 14، 15، 16، 17] . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْخَفِيفِ] إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَفِيضُوا الْآيَةَ؛ أَيْ: مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ: وَلَوْلَا إِجْمَاعُ الْحُجَّةِ عَلَى خِلَافِهِ لَكَانَ هُوَ الْأَرْجَحَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [2 \ 212] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سُخْرِيَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا الضَّحِكُ مِنْهُمْ وَالتَّغَامُزُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [83 \ 34، 35] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا فَوْقِيَّةَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [83 \ 34، 35] . وَقَوْلِهِ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [7 \ 49] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لَمْ يَصِفْ هَذَا الْخَيْرَ هُنَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ وَصَفَهُ بِهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [4 \ 19] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [2 \ 217] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ اسْتَطَاعُوا ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَأَنَّهُمْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ رَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْآيَةَ [5 \ 3] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مُظْهِرٌ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ دِينٍ كَقَوْلِهِ فِي «بَرَاءَةٌ» وَ «الصَّفِّ» ، وَ «الْفَتْحِ» هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [9 \ 33] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الْإِثْمُ الْكَبِيرُ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَالصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 91] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) الْآيَةَ، ظَاهِرُ عُمُومِهِ شُمُولُ الْكِتَابِيَّاتِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْكِتَابِيَّاتِ لَسْنَ دَاخِلَاتٍ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [5 \ 5] فَإِنْ قِيلَ: الْكِتَابِيَّاتُ لَا يَدْخُلْنَ فِي اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [98 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [98 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [2 \ 105] ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَاخِلُونَ فِي اسْمِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [9 \ 30، 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْمَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الْمَأْمُورَ بِالْإِتْيَانِ مِنْهُ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظَةِ «حَيْثُ» وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِتْيَانُ فِي الْقُبُلِ فِي آيَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: هِيَ قَوْلُهُ هُنَا: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [2 \ 223] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فَأْتُوا) أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ، وَقَوْلِهِ: (حَرْثَكُمْ) ، يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِتْيَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ يَعْنِي بَذْرَ الْوَلَدِ بِالنُّطْفَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُبُلُ دُونَ الدُّبُرِ كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ مَحَلُّ بَذْرٍ لِلْأَوْلَادِ، كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [2 \ 187] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمُ الْوَلَدُ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَدْ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ. فَالْقُبُلُ إِذَنْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيهِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَلْتَكُنْ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةُ فِي مَحَلِّ ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ، الَّذِي هُوَ الْقُبُلُ دُونَ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [2 \ 187] ، يَعْنِي الْوَلَدَ. وَيَتَّضِحُ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى شِئْتُمْ [2 \ 223] يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ شَاءَ الرَّجُلُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَلْقِيَةً، أَوْ بَارِكَةً، أَوْ عَلَى جَنْبٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: فَأْتُوهُنَّ فِي الْقُبُلِ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ شِئْتُمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ وَرَائِهَا. وَالْمُقَرَّرُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِسَبَبِ النُّزُولِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا عَقَدَهُ صَاحِبُ «طَلْعَةِ الْأَنْوَارِ» ، بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] تَفْسِيرُ صَاحِبٍ لَهُ تَعَلُّقٌ ... بِالسَّبَبِ الرَّفْعُ لَهُ مُحَقِّقٌ وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مَا نَصُّهُ: وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَّى شِئْتُمْ شَامِلٌ لِلْمَسَالِكِ بِحُكْمِ عُمُومِهَا، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا ; إِذْ هِيَ مُخَصَّصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ حِسَانٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 شَهِيرَةٍ، رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا، بِمُتُونٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلُّهَا مُتَوَارِدَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ، ذَكَرَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي «مُسْنَدِهِ» وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ بِطُرُقِهَا فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ «تَحْرِيمُ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ» . وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جُزْءٌ سَمَّاهُ «إِظْهَارُ إِدْبَارِ مَنْ أَجَازَ الْوَطْءَ فِي الْأَدْبَارِ» قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَّبَعُ، وَالصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَعْرُجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ بَعْدَ أَنْ تَصِحَّ عَنْهُ، وَقَدْ حَذَّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافُ هَذَا، وَتَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَهُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ كَذَّبَ نَافِعٌ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ النَّسَائِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَاسْتَعْظَمَهُ، وَكَذَّبَ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي حِينَ أُحَمِّضُ لَهُنَّ؟ قَالَ: وَمَا التَّحْمِيضُ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ الدُّبُرَ. فَقَالَ: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ وَأَسْنَدَ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ» وَمِثْلَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ، وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَرُوِيَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تِلْكَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى» يَعْنِي إِتْيَانَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا. وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِدْءُ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ: وَقَالَ مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ، وَعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، لَمَّا أَخْبَرَاهُ أَنَّ نَاسًا بِمِصْرَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيزُ ذَلِكَ، فَنَفَرَ مِنْ ذَلِكَ وَبَادَرَ إِلَى تَكْذِيبِ النَّاقِلِ، فَقَالَ: كَذَبُوا عَلَيَّ، كَذَبُوا عَلَيَّ، كَذَبُوا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، وَهَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْمَنْبَتِ؟ مِنْهُ بِلَفْظِهِ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ فِي الْحَيْضِ ; لِأَجْلِ الْقَذَرِ الْعَارِضِ لَهُ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ الْقَذَرَ هُوَ عِلَّةُ الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [2 \ 222] فَمِنْ بَابِ أَوْلَى تَحْرِيمُ الدُّبُرِ لِلْقَذَرِ وَالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ، وَلَا يَنْتَقِضُ ذَلِكَ بِجَوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ ; لِأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَيْسَ فِي الِاسْتِقْذَارِ كَدَمِ الْحَيْضِ، وَلَا كَنَجَاسَةِ الدُّبُرِ ; لِأَنَّهُ دَمُ انْفِجَارِ الْعِرْقِ فَهُوَ كَدَمِ الْجُرْحِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَنْعَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ إِطْبَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا مَعِيبَةٌ تُرَدُّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، إِلَّا شَيْئًا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّ الرَّتْقَاءَ لَا تُرَدُّ بِالرَّتْقِ. وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي إِجْمَاعِهِمْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ وَطْءٍ وَلَوْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَطْءِ مَا رُدَّتْ مَنْ لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ رَدُّ الرَّتْقَاءِ لِعِلَّةِ عَدَمِ النَّسْلِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُوطَأُ فِي الدُّبُرِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُقْمَ لَا يُرَدُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ رَدِّ الرَّتْقَاءِ عَدَمَ النَّسْلِ لَكَانَ الْعُقْمُ مُوجِبًا لِلرَّدِّ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْعُقْمَ لَا يُرَدُّ بِهِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ وَطْءَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ كَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ مَرَادَهُمْ بِالْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ إِتْيَانُهَا فِي الْفَرْجِ مِنْ جِهَةِ الدُّبُرِ، كَمَا يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّارِمِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي أَيُحَمَّضُ لَهُنَّ؟ قَالَ: وَمَا التَّحْمِيضُ؟ فَذَكَرَ الدُّبُرَ، فَقَالَ: وَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٌ، وَقُتَيْبَةُ، عَنِ اللَّيْثِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَنَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنْهُ مِمَّا يُحْتَمَلُ، وَيُحْتَمَلُ فَهُوَ مَرْدُودٌ إِلَى هَذَا الْمُحْكَمِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّى شِئْتُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لَا دَلِيلَ فِيهِ لِلْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ; لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ بِالْفَاءِ التَّعْقِيبِيَّةِ، عَلَى قَوْلِهِ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ مَحَلَّ حَرْثٍ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِجَوَازِ الْجِمَاعِ فِي عُكَنِ الْبَطْنِ، وَفِي الْفَخِذَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ لَيْسَ مَحَلَّ حَرْثٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى اسْتِمْنَاءً لَا جِمَاعًا. وَالْكَلَامُ فِي الْجِمَاعِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ الْجِمَاعُ، وَالْفَارِقُ مَوْجُودٌ ; لِأَنَّ عُكَنَ الْبَطْنِ وَنَحْوَهَا لَا قَذَرَ فِيهَا، وَالدُّبُرُ فِيهِ الْقَذَرُ الدَّائِمُ، وَالنَّجَسُ الْمُلَازِمُ. وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ [2 \ 222] أَنَّ الْوَطْءَ فِي مَحَلِّ الْأَذَى لَا يَجُوزُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، أَيْ: مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَجَنُّبِهِ ; لِعَارِضِ الْأَذَى وَهُوَ الْفَرْجُ وَلَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يُبَيِّنُهُ: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ الْآيَةَ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَحَلَّ الْأَذَى الَّذِي هُوَ الْحَيْضُ إِنَّمَا هُوَ الْقُبُلُ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ ; لِأَنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ أَمَرَ بِضِدِّهِ، وَلِذَا تَصِحُّ الْإِحَالَةُ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَالْخِلَافُ فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ أَمْرٌ بِضِدِّهِ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَالنَّهْيُ فِيهِ غَابِرُ الْخِلَافِ ... أَوْ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِائْتِلَافِ وَقِيلَ لَا قَطْعًا كَمَا فِي الْمُخْتَصَرْ ... وَهُوَ لَدَى السُّبْكِيِّ رَأْيٌ مَا انْتَصَرَ وَمُرَادُهُ بِغَابِرِ الْخِلَافِ: هُوَ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا مِنَ الْخِلَافِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، هَلْ هُوَ عَيْنُ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ؟ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ أَيْضًا فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ عَيْنُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ؟ أَوْ ضِدٌّ مِنْ أَضْدَادِهِ إِنْ تَعَدَّدَتْ؟ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ؟ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ؟ وَزَادَ فِي النَّهْيِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِالضِّدِّ اتِّفَاقًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا بِهِ قَطْعًا، وَعَزَا الْأَخِيرَ لِابْنِ الْحَاجِبِ فِي «مُخْتَصَرِهِ» ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السُّبْكِيَّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ لِغَيْرِ ابْنِ الْحَاجِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ: مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا أَنْ تُقْرَبَ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ لَا يَحِلُّ، كَمَا إِذَا كُنَّ صَائِمَاتٍ، أَوْ مُحْرِمَاتٍ، أَوْ مُعْتَكِفَاتٍ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يَعْنِي طَاهِرَاتٍ غَيْرِ حُيَّضٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالْمُرَادِ بِمَا كَسَبَتْهُ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَنِثَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَسَبَتِ الْقُلُوبُ، هُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ فِي ذَلِكَ إِذَا حَنِثَ كَفَّارَةٌ، هِيَ: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ الْآيَةَ [5 \ 89] . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ شُمُولُهَا لِجَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ خُرُوجَ بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، كَالْحَوَامِلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُنَّ وَضْعُ الْحَمْلِ، فِي قَوْلِهِ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] وَكَالْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَنَّهُنَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ أَصْلًا، بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [33 \ 49] . أَمَّا اللَّوَاتِي لَا يَحِضْنَ، لِكِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [65 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فِيهِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ الْقُرْءَ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْحَيْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» . وَيُطْلَقُ الْقُرْءُ لُغَةً أَيْضًا عَلَى الطُّهْرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: [الطَّوِيلِ] أَفِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرْءَ الَّذِي يَضِيعُ عَلَى الْغَازِي مِنْ نِسَائِهِ هُوَ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هَلْ هُوَ الْأَطْهَارُ أَوِ الْحَيْضَاتُ؟ وَسَبَبُ الْخِلَافِ اشْتِرَاكُ الْقَرْءِ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْءِ فِي الْآيَةِ الطُّهْرُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الْقُرُوءَ الْحَيْضَاتُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَاحْتَجَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّنَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ نُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ دَلِيلَهُ أَرْجَحُ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْقُرُوءُ الْحَيْضَاتُ، فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ قَالُوا: فَتَرْتِيبُ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ، وَالْأَشْهُرُ بَدَلٌ مِنَ الْحَيْضَاتِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [2 \ 228] . قَالُوا: هُوَ الْوَلَدُ أَوِ الْحَيْضُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» قَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُبَيِّنُ الْوَحْيِ وَقَدْ أَطْلَقَ الْقَرْءَ عَلَى الْحَيْضِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ اعْتِدَادِ الْأَمَةِ بِحَيْضَتَيْنِ، وَحَدِيثِ اسْتِبْرَائِهَا بِحَيْضَةٍ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ، فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [65 \ 1] قَالُوا: عِدَّتُهُنَّ الْمَأْمُورُ بِطَلَاقِهِنَّ لَهَا، الطُّهْرُ لَا الْحَيْضُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ» قَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَهُوَ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ دَلِيلَ هَؤُلَاءِ هَذَا - فَصْلٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 لِأَنَّ مَدَارَ الْخِلَافِ هَلِ الْقُرُوءُ الْحَيْضَاتُ أَوِ الْأَطْهَارُ؟ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلَّا عَلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ. وَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ يُقَاوِمُ هَذَا الدَّلِيلَ، لَا مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ بَيَانِ مَعْنَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، بِقَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ» رَاجِعَةٌ إِلَى حَالِ الطُّهْرِ الْوَاقِعِ فِيهِ الطَّلَاقُ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا» أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهَا طَاهِرًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَالَ الَّذِي هُوَ الطُّهْرُ هُوَ الْعِدَّةُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ. وَأَنَّثَ بِالْإِشَارَةِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَلَا تَخَلُّصَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ لِمَنْ يَقُولُ هِيَ الْحَيْضَاتُ إِلَّا إِذَا قَالَ: الْعِدَّةُ غَيْرُ الْقُرُوءِ، وَالنِّزَاعُ فِي خُصُوصِ الْقُرُوءِ كَمَا قَالَ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَرُدُّهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، عَلَى أَنَّ عِدَّةَ مَنْ تَعْتَدُّ بِالْقُرُوءِ هِيَ نَفْسُ الْقُرُوءِ لَا شَيْءَ آخَرَ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [65 \ 1] وَهِيَ زَمَنُ التَّرَبُّصِ إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، الَّتِي هِيَ مَعْمُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَرَبَّصْنَ [2 \ 228] فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ شَيْئًا يُسَمَّى الْعِدَّةَ زَائِدًا عَلَى ثَلَاثَةِ الْقُرُوءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْبَتَّةَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا، وَأَيَّامُ إِحْدَادِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ نَفْسُ الْقُرُوءِ لَا شَيْءَ زَائِدٌ عَلَيْهَا، وَفِي اللِّسَانِ: وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا أَيَّامُ إِحْدَادِهَا عَلَى بَعْلِهَا، وَإِمْسَاكُهَا عَنِ الزِّينَةِ شُهُورًا كَانَ أَوْ أَقْرَاءً أَوْ وَضْعُ حَمْلٍ حَمَلَتْهُ مِنْ زَوْجِهَا. فَهَذَا بَيَانٌ بَالِغٌ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْوُضُوحِ وَالصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، مَا لَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى كَلَامٍ آخَرَ. وَتُؤَيِّدُهُ قَرِينَةُ زِيَادَةِ التَّاءِ فِي قَوْلِهِ: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى تَذْكِيرِ الْمَعْدُودِ وَهُوَ الْأَطْهَارُ ; لِأَنَّهَا مُذَكَّرَةٌ وَالْحَيْضَاتُ مُؤَنَّثَةٌ. وَجَوَابُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْءِ مُذَكَّرٌ وَمُسَمَّاهُ مُؤَنَّثٌ وَهُوَ الْحَيْضَةُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَأَنَّ التَّاءَ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لَا لِلْمَعْنَى الْمُؤَنَّثِ. يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُذَكَّرًا، وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا لَا تَلْزَمُ التَّاءُ فِي عَدَدِهِ، بَلْ تَجُوزُ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، فَيُجَرَّدُ الْعَدَدُ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: [الطَّوِيلِ] وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتَّقِي ... ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمَعْصِرُ فَجَرَّدَ لَفْظَ الثَّلَاثِ مِنَ التَّاءِ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ مُسَمَّى الْعَدَدِ نِسَاءً، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الشَّخْصِ الَّذِي أَطْلَقَهُ عَلَى الْأُنْثَى مُذَكَّرٌ، وَقَوْلِ الْآخَرِ: [الطَّوِيلِ] وَإِنَّ كِلَابًا هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ فَمُجَرَّدُ الْعَدَدِ مِنَ التَّاءِ مَعَ أَنَّ الْبَطْنَ مُذَكَّرٌ ; نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْقَبِيلَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، كَقَوْلِهِ: [الْوَافِرِ] ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ لَفْظَ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ الْأَنْفُسَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْفُسُ ذُكُورٍ، وَتَجُوزُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فَيُجَرَّدُ مِنَ التَّاءِ فِي الْأَخِيرِ، وَتَلْحَقُهُ التَّاءُ فِي الْأَوَّلِ، وَلُحُوقُهَا إِذَنْ مُطْلَقُ احْتِمَالٍ، وَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دُونَ قَرِينَةٍ تُعِينُهُ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُذَكَّرِ لَفْظًا وَمَعْنًى، كَالْقُرْءِ بِمَعْنَى الطُّهْرِ، فَلُحُوقُهَا لَهُ لَازِمٌ بِلَا شَكٍّ، وَاللَّازِمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنَ الْمُحْتَمَلِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ بَدَلًا عَنْهُ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَمَا تَرَى. فَإِنْ قِيلَ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَذْكِيرِ وَاحِدِ الْمَعْدُودِ وَتَأْنِيثِهِ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّفْظِ، وَلَا تَجُوزُ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى إِلَّا إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ، أَوْ كَانَ قَصَدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَثِيرًا، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، قَالَ الْأَشْمُونِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ: [الرَّجَزِ] ثَلَاثَةٌ بِالتَّاءِ قُلْ لِلْعَشَرَهْ ... فِي عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ فِي الضِّدِّ جَرِّدْ إِلَخْ. . . مَا نَصُّهُ: الثَّانِي اعْتِبَارُ التَّأْنِيثِ فِي وَاحِدِ الْمَعْدُودِ إِنْ كَانَ اسْمًا فَبِلَفْظِهِ، تَقُولُ: ثَلَاثَةُ أَشْخُصٍ، قَاصِدًا «نِسْوَةٍ» ، وَثَلَاثُ أَعْيُنٍ قَاصِدًا «رِجَالٍ» ; لِأَنَّ لَفْظَ شَخْصٍ مُذَكَّرٌ، وَلَفْظُ عَيْنٍ مُؤَنَّثٌ، هَذَا مَا لَمْ يَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ مَا يُقَوِّي الْمَعْنَى ; أَوْ يَكْثُرْ فِيهِ قَصْدُ الْمَعْنَى. فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ ذَلِكَ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ وَكَقَوْلِهِ: وَإِنَّ كِلَابًا. . الْبَيْتَ. وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ . اهـ مِنْهُ. وَقَالَ الصَّبَّانُ فِي «حَاشِيَتِهِ» عَلَيْهِ: وَبِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ يَرُدُّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [2 \ 228] . بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [24 \ 4] عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ لَا الْحَيْضُ، وَعَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ جَمْعُ حَيْضَةٍ ; فَلَوْ أُرِيدَ الْحَيْضُ لَقِيلَ ثَلَاثٌ، وَلَوْ أُرِيدَ النِّسَاءُ لَقِيلَ بِأَرْبَعٍ. وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا اللَّفْظُ، وَلَفْظُ قُرْءٍ وَشَهِيدٍ مُذَكَّرَيْنَ، مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ جَوَازُ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى مُطْلَقًا، وَجَزَمَ بِجَوَازِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى فِي لَفْظِ الْعَدَدِ ابْنُ هِشَامٍ، نَقَلَهُ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ «التَّسْهِيلِ» وَشَارِحُهُ الدَّمَامِينِيُّ: بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى فِي وَاحِدِ الْمَعْدُودِ مُتَعَيِّنَةٌ. قَالَ الصَّبَّانُ فِي «حَاشِيَتِهِ» ، مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ فَبِلَفْظِهِ ظَاهِرُهُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَيُخَالِفُهُ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ مُذَكَّرًا، وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ اهـ. وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا مَا فِي «التَّسْهِيلِ» وَشَرْحِهِ لِلدَّمَامِينِيِّ. وَعِبَارَةُ «التَّسْهِيلِ» تَحْذِفُ تَاءَ الثَّلَاثَةِ وَأَخَوَاتِهَا، إِنْ كَانَ وَاحِدُ الْمَعْدُودِ مُؤَنَّثَ الْمَعْنَى حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. قَالَ الدَّمَامِينِيُّ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْوَاحِدِ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، فَلِهَذَا يُقَالُ: ثَلَاثَةُ طَلَحَاتٍ، ثُمَّ قَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» وَرُبَّمَا أُوِّلَ مُذَكَّرٌ بِمُؤَنَّثٍ، وَمُؤَنَّثٌ بِمُذَكَّرٍ، فَجِيءَ بِالْعَدَدِ عَلَى حَسَبِ التَّأْوِيلِ، وَمَثَّلَ الدَّمَامِينِيُّ الْأَوَّلَ بِنَحْوِ ثَلَاثِ شُخُوصٍ، يُرِيدُ نِسْوَةً وَعَشْرِ وَأَبْطُنَ يُرِيدُ قَبَائِلَ. وَالثَّانِي بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ؛ أَيْ: أَشْخَاصٍ وَتِسْعَةِ وَقَائِعَ أَيْ: مَشَاهِدَ، فَتَأَمَّلْ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ «التَّسْهِيلِ» وَشَارِحُهُ، مِنْ تَعَيُّنِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَعَيُّنُ كَوْنِ الْقُرْءِ فِي الْآيَةِ هُوَ الطُّهْرُ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَفِي «حَاشِيَةِ الصَّبَّانِ» أَيْضًا مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِي التَّوْضِيحِ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ذَلِكَ لَيْسَ قِيَاسِيًّا، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ مُذَكَّرًا وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا أَوْ بِالْعَكْسِ، يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَيْ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُرَجِّحٌ لِلْمَعْنَى، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ [التَّسْهِيلِ] وَشَرْحِهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمَعْنَى، فَتَأَمَّلْ. اهـ مِنْهُ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهَا الْحَيْضَاتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الْآيَةَ [65 \ 4] ، فَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْقُرُوءَ الْحَيْضَاتُ ; لِأَنَّ الْأَقْرَاءَ لَا تُقَالُ فِي الْأَطْهَارِ إِلَّا فِي الْأَطْهَارِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا حَيْضٌ، فَإِنْ عُدِمَ الْحَيْضُ عُدِمَ مَعَهُ اسْمُ الْأَطْهَارِ، وَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ تَرْتِيبِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهَرِ عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِ الْعِدَّةِ بِالطُّهْرِ ; لِأَنَّ الطُّهْرَ الْمُرَادَ يَلْزَمُهُ وُجُودُ الْحَيْضِ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ، فَانْتِفَاءُ الْحَيْضِ يَلْزَمُهُ انْتِفَاءُ الْأَطْهَارِ فَكَأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ مُرَتَّبَةٌ أَيْضًا عَلَى انْتِفَاءِ الْأَطْهَارِ، الْمَدْلُولُ عَلَّهُ بِانْتِفَاءِ الْحَيْضِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِآيَةٍ: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرُوءِ الْأَطْهَارُ لَا يُبِيحُ لِلْمُعْتَدَّةِ كَتْمَ الْحَيْضِ ; لِأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ لَا تُمَكَّنُ إِلَّا بِتَخَلُّلِ الْحَيْضِ لَهَا، فَلَوْ كَتَمَتِ الْحَيْضَ لَكَانَتْ كَاتِمَةً انْقِضَاءَ الطُّهْرِ، وَلَوِ ادَّعَتْ حَيْضًا لَمْ يَكُنْ كَانَتْ كَاتِمَةً ; لِعَدَمِ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» فَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيْضِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ. أَمَّا كَوْنُهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ إِطْلَاقِ الْقُرْءِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى الطُّهْرِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ: بِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ فِي: أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ فِي مَوْضِعٍ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَنْعُ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَاصِرَةِ وَالْجَارِيَةِ مَثَلًا، فَهَلْ تَقُولُ إِنَّ إِطْلَاقَهُ تَعَالَى لَفْظَ الْعَيْنِ عَلَى الْبَاصِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الْآيَةَ [5 \ 45] يَمْنَعُ إِطْلَاقَ الْعَيْنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى الْجَارِيَةِ، كَقَوْلِهِ: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [88 \ 12] . وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مَعَانِيهِ فِي الْحَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ، وَالْقُرْءُ فِي حَدِيثِ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» مُنَاسِبٌ لِلْحَيْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 دُونَ الطُّهْرِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُتْرَكُ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ دُونَ وَقْتِ الطُّهْرِ. وَلَوْ كَانَ إِطْلَاقُ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ يُفِيدُ مَنْعَ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، لَمْ يَكُنْ فِي اللُّغَةِ اشْتَرَاكٌ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ كُلُّ مَا أَطْلَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَنَعَ إِطْلَاقَهُ لَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَيُبْطِلُ اسْمَ الِاشْتِرَاكِ مِنْ أَصْلِهِ مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا تَصْرِيحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ» وَكُلُّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» لِأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ طُرُقِهِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ. وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَكَانَ مَرْدُودًا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَصْرَحُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا. وَكَذَلِكَ اعْتِدَادُ الْأَمَةِ بِحَيْضَتَيْنِ عَلَى تَقْرِيرِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُعَارِضُ مَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَصْرَحُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعِدَّةِ لَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ. وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الدَّالَّيْنِ عَلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ، بِأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الِاعْتِدَادُ بِالطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ كَوْنُ الْعِدَّةِ قُرْءَيْنِ وَكَسْرًا مِنَ الثَّالِثِ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تُعَارَضُ بِهِ نُصُوصُ الْوَحْيِ الصَّرِيحَةُ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ إِطْلَاقُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَالْمُرَادُ شَهْرَانِ وَكَسْرٍ. وَادِّعَاءُ أَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي أَسْمَاءِ الْعَدَدِ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي ذَكَرَ إِنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الْوَاقِعِ فِيهِ الطَّلَاقُ عِدَّةٌ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ الْمَذْكُورَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَاتُ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَمَا تَرَى. بَلْ لَفْظُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ صَرِيحٌ فِي نَقِيضِهِ، هَذَا هُوَ مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمُ إِلَيْهِ أَسْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [2 \ 228] ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَزْوَاجَ كَلِّ الْمُطَلَّقَاتِ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رَجْعِيَّةٍ وَغَيْرِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْبَائِنَ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [33 \ 49] . وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَائِنٌ، كَمَا أَنَّهُ أَشَارَ هُنَا إِلَى أَنَّهَا إِذَا بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ) رَاجِعَةٌ إِلَى زَمَنِ الْعِدَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِـ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ. وَاشْتَرَطَ هُنَا فِي كَوْنِ بُعُولَةِ الرَّجْعِيَّاتِ أَحَقَّ بِرَدِّهِنَّ إِرَادَتَهُمُ الْإِصْلَاحَ بِتِلْكَ الرَّجْعَةِ، فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَفْهُومِ هَذَا الشَّرْطِ هُنَا، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ إِذَا ارْتَجَعَهَا لَا بِنْيَةَ الْإِصْلَاحِ بَلْ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ بِهَا ; لِتُخَالِعَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَنَّ رَجْعَتَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَدْلُولُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [2 \ 231] . فَالرَّجْعَةُ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا الْآيَةَ، وَصِحَّةُ رَجَعَتِهِ حِينَئِذٍ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، فَلَوْ صَرَّحَ لِلْحَاكِمِ بِأَنَّهُ ارْتَجَعَهَا بِقَصْدِ الضَّرَرِ، لَأَبْطَلَ رَجَعَتَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [4 \ 34] فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ شَرَفٌ وَكَمَالٌ، وَالْأُنُوثَةَ نَقْصٌ خَلْقِيٌّ طَبِيعِيٌّ، وَالْخَلْقُ كَأَنَّهُ مُجْمِعٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأُنْثَى يَجْعَلُ لَهَا جَمِيعُ النَّاسِ أَنْوَاعَ الزِّينَةِ وَالْحُلِيِّ، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْخُلُقِيِّ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي هُوَ الْأُنُوثَةُ، بِخِلَافِ الذَّكَرِ فَجَمَالُ ذُكُورَتَهِ يَكْفِيهِ عَنِ الْحُلِيِّ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى نَقْصِ الْمَرْأَةِ وَضَعْفِهَا الْخُلُقِيَّيْنِ الطَّبِيعِيَّيْنِ بِقَوْلِهِ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 18] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 لِأَنَّ نَشْأَتَهَا فِي الْحِلْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى نَقْصِهَا الْمُرَادُ جَبْرُهُ وَالتَّغْطِيَةُ عَلَيْهِ بِالْحُلِيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [الطَّوِيلِ] وَمَا الْحَلْيُ إِلَّا زِينَةً مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحَسَنُ قَصَّرَا وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرَا وَلِأَنَّ عَدَمَ إِبَانَتِهَا فِي الْخِصَامِ إِذَا ظُلِمَتْ دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ الْخَلْقِيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [الطَّوِيلِ] بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ إِذَا عَرَضُوا لَهُ ... بِبَعْضِ الْأَذَى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ فَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ الْبَرِيءِ وَلَمْ تَزَلْ ... بِهِ سَكْتَةٌ حَتَّى يُقَالَ مُرِيبٌ وَلَا عِبْرَةَ بِنَوَادِرِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ النَّادِرَ لَا حُكْمَ لَهُ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَنَّ الْكَامِلَ فِي وَصْفِهِ وَقُوَّتِهِ وَخِلْقَتِهِ يُنَاسِبُ حَالَهُ، أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى الضَّعِيفِ النَّاقِصِ خِلْقَةً. وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا جُعِلَ مِيرَاثُهُ مُضَاعَفًا عَلَى مِيرَاثِهَا ; لِأَنَّ مَنْ يَقُومُ عَلَى غَيْرِهِ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ، وَمَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مُتَرَقِّبٌ لِلزِّيَادَةِ، وَإِيثَارُ مُتَرَقِّبِ النَّقْصِ عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ ظَاهِرُ الْحِكْمَةِ. كَمَا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حِكْمَةِ كَوْنِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ حَقْلَهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلزِّرَاعَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْغَمَ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِي حَقْلٍ لَا يُنَاسِبُ الزِّرَاعَةَ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ آلَةَ الِازْدِرَاعِ بِيَدِ الرَّجُلِ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَقَاءِ مَعَ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا حَتَّى تَرْضَى بِذَلِكَ، فَإِنَّهَا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُجَامِعَهُ لَا يَقُومُ ذَكَرُهُ وَلَا يَنْتَشِرُ إِلَيْهَا، فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ النَّسْلِ مِنْهُ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْغَرَضِ مِنَ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ ; فَإِنَّهُ يُوَلِّدُهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْمَرَّتَيْنِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُنْحَصِرَ فِي الْمَرَّتَيْنِ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ لَا مُطْلَقًا، وَذَلِكَ بِذِكْرِهِ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ بَعْدَهَا الْمُرَاجَعَةُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ [2 \ 230] ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [2 \ 229] يَعْنِي بِهِ عَدَمَ الرَّجْعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَنْبِيهٌ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ يُؤْخَذُ مِنْهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: " بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ الْمُرَادَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هُوَ مَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [2 \ 229] عَلِمْنَا أَنَّ إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَإِذَا جَازَ جَمْعُ التَّطْلِيقَتَيْنِ دَفْعَةً، جَازَ جَمْعُ الثَّلَاثِ، وَرَدَّ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ، وَجَعَلَ الْآيَةَ دَلِيلًا لِنَقِيضِ ذَلِكَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ غَيْرُ نَاهِضٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الطَّلَاقِ كُلَّهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فِي إِحْدَى التَّطْلِيقَتَيِنِ كَمَا ذَكَرَ، بَلِ الْمُرَادُ بِالطَّلَاقِ الْمَحْصُورِ هُوَ خُصُوصُ الطَّلَاقِ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ الدَّلِيلِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الْآيَةِ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لَا يُنَافِي أَنْ تَقُومَ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ، وَسَنَذْكُرُ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَأَدِلَّةَ مَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ إِيضَاحِ خُلَاصَةِ الْبَحْثِ كُلِّهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إِيضَاحًا تَامًّا. فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ لِعَانِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَزَوْجِهِ ; فَإِنَّ فِيهِ: " فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ". أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْهُ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ: أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَدَّ الْمُخَالِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ; بِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يُصَادِفْ تَطْلِيقَهُ الثَّلَاثَ مَحَلًّا، وَرَدَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ; بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً، فَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَأَنْكَرَهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَبِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ صَرِيحَةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ مَعًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَتَقَعُ عِنْدَ فَرَاغِ الزَّوْجِ مِنْ أَيْمَانِهِ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُمَا إِلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ ; وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا، وَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِنَّهُ قَالَ: " لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا " وَرَوَاهُ بَاقِي الْجَمَاعَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: إِنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ " فَرَّقَ " بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ خَطَأٌ، يَعْنِي فِي خُصُوصِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمِ، لَا مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَرَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ أَرَادَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ فَسَهْلٌ، وَإِلَّا فَمَرْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِطْلَاقَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ تَخْطِئَةَ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ " فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِخُصُوصِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ بَعْدَهُ لَمْ يُتَابِعِ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ " اهـ، مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: " فَكَانَتْ سُنَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ". وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ هَلْ هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُرْسَلًا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ أَوْ هُوَ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلٌ؟ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً. قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ، أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحَسَنُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَبِهَا تَعْلَمُ أَنَّ احْتِجَاجَ الْبُخَارِيِّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ ; لِأَنَّ الْمُطَّلِعَ عَلَى غَوَامِضِ إِشَارَاتِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الثَّابِتَ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مُطَابِقٌ لِتَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ، وَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُخَرِّجْهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ، فَتَصْرِيحُ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ: " بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَذَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً " يَبْطُلُ بِإِيضَاحٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِسُكُوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِهِ لَهُ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ كَمَا تَرَى. وَذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الزَّوْجُ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّهَا تَقَعُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَيْسَ أَمْرًا قَطْعِيًّا، حَتَّى تَرِدَ بِهِ دَلَالَةُ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَضَى أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِعَدَمِ إِيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ; لِلْمُلَاعَنَةِ بِعَدَمِ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَأَرَاهُ اجْتِهَادَهُ أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عَدَمُ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى هِيَ الْبَيْنُونَةُ بِمَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ وُقُوعِهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْفَسْخِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا. فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ. وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 عَنْهَا: " أَنَّهَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ فِي أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ. وَصَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنَ السُّنَّةِ مَا يُخَالِفُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهَا: " السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ ". فَقَالَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: السُّنَّةُ بِيَدِ فَاطِمَةَ قَطْعًا، وَأَيْضًا تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَوْلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِسَنَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا إِذَا لَقِينَاهُ، أَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى عُمَرَ، وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا حُقِّقَتْ أَنَّ السُّنَّةَ مَعَهَا وَأَنَّهَا صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ قَوْلَ عُمَرَ لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، قَالَتْ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [65 \ 1] ، حَتَّى قَالَ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [65 \ 1] . فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ السُّنَّةَ بِيَدِهَا وَكِتَابَ اللَّهِ مَعَهَا. وَهَذَا الْمَذْهَبُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ هُوَ أَوْضَحُ الْمَذَاهِبِ وَأَصْوَبُهَا. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي نَفَقَةِ الْبَائِنِ وَسُكْنَاهَا أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُمَا مَعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا يَرُدُّ تَعْلِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ، بَلْ يَكُونُ مَعَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَأَيْضًا فَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَهَذَا الصَّحَابِيُّ حَفِظَ إِنْفَاذَ الثَّلَاثِ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. فَإِنْ قِيلَ: إِنْفَاذُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً مِنَ الْمُلَاعِنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ تَجِبُ فِيهِ الْفُرْقَةُ الْأَبَدِيَّةُ. فَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بِخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ مِنْ إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ، وَقَالَ: " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ ! " كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الْكَلَامُ فِي حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ وِلَادَتُهُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ الرُّؤْيَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّسَائِيَّ قَالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرُ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ يَعْنِي ابْنَ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَرِوَايَةُ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا الْإِعْلَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ، وَمَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ الْمَذْكُورُ جُلُّ رِوَايَتِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " وَغَيْرِهِ. وَالْإِعْلَالُ الثَّانِي بِأَنَّ رِوَايَةَ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ فِيهِ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ فِي " صَحِيحِهِ " عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَالْمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى قَبُولِ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ إِلَّا بِمُوجِبٍ صَرِيحٍ يَقْتَضِي الرَّدَّ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ إِلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ يَرُدُّهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ حَدِيثَ مَحْمُودٍ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُنْفِذْهَا، وَحَدِيثُ سَهْلٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ أَنْفَذَهَا، وَالْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ بَلْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ احْتَجَّ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، بِحَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا. وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا يَظُنُّ لُزُومَهَا، فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ لِبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِمَامَ الْمُحَدِّثِينَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْرَجَ حَدِيثَ سَهْلٍ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: " بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ " وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِإِنْفَاذِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ اللِّعَانَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادٌ، وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ رُدَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الِاحْتِجَاجِ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمِرَ الْعَجْلَانِيَّ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، بِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا دَلِيلَ فِيهِ، بَلْ نَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ دَفْعَةً لَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَقَعُ دَفْعَةً، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ وَامْرَأَتِهِ، فَإِنَّ فِيهِ: " فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي " الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهَا " فَبَتَّ طَلَاقِي " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ نَاهِضٍ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ مُرَادَهَا بِقَوْلِهَا: فَبَتَّ طَلَاقِي؛ أَيْ: بِحُصُولِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهَا قَالَتْ: طَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهَا فَبَتَّ طَلَاقِي، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا: " أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: " لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوَّلُ " فَإِنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثًا ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَةً، وَاعْتَرَضَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةِ رِفَاعَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ مُفَرَّقَةٌ لَا مَجْمُوعَةٌ، وَرَدَّ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ غَيْرَ رِفَاعَةَ قَدْ وَقَعَ لَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِرِفَاعَةَ، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَدُّدِ، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجْرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ رِفَاعَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْوَاضِحُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، وَرِفَاعَةَ النَّضْرِيِّ وَقَعَ لَهُ مَعَ زَوْجَةٍ لَهُ طَلَاقٌ، فَتَزَوَّجَ كُلًّا مِنْهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَالْحُكْمُ فِي قِصَّتِهِمَا مُتَّحِدٌ مَعَ تَغَايُرِ الْأَشْخَاصِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ وَحَّدَ بَيْنَهُمَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ هُوَ رَفَاعَةُ بْنُ وَهْبٍ. اهـ، مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: " أُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ مُغْضَبًا، فَقَالَ: " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ ! " وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ: أَنَّ الْمُطَلِّقَ يَظُنُّ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ وَاقِعَةً، فَلَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَا تَقَعُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي حَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا: إِنَّ إِسْنَادَهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ ": رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ، وَقَالَ فِي " الْفَتْحِ ": رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، فَإِنْ قِيلَ: غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ لِلطَّلَقَاتِ لَعِبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ "، وَفِي رِوَايَةِ " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ "، فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهُ مَمْنُوعًا ابْتِدَاءً لَا يُنَافِي وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ: وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِهِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ " وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْقَعَهَا دَفْعَةً: " إِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ ". وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُنَاسِبُ لِمُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ التَّشْدِيدُ لَا التَّخْفِيفُ بِعَدَمِ الْإِلْزَامِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّهُ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: " لَا، كَانَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ " وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَّبَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَيْسَ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْكَ غَيْرُهُ، وَقَالَ شُعْبَةُ: كَانَ نَسِيًّا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ، يُخْطِئُ وَلَا يَدْرِي، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَأَيْضًا الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْحُجَّةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَعْنِي قَوْلَهُ: " أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا " إِلَخْ، مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عَطَاءٌ الْمَذْكُورُ. وَقَدْ شَارَكَهُ الْحُفَّاظُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ. وَفِي إِسْنَادِهَا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ الشَّامِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَعَلَّ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، بِأَنَّ فِي إِسِنَادِهِ مُعَلَّى بْنَ مَنْصُورٍ، وَقَالَ: رَمَاهُ أَحْمَدُ بِالْكَذِبِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ الْمَذْكُورُ فَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَأَمَّا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": ثِقَةٌ سُنِّيٌّ فَقِيهٌ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ، أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ رَمَاهُ بِالْكَذِبِ، أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ. وَأَمَّا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ أَبُو شَيْبَةَ الشَّامِيِّ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مَرْدُودَ الْحَدِيثِ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اعْتَضَدَتْ رِوَايَتُهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ قَالَ فِي [السُّنَنِ الْكُبْرَى] مَا نَصُّهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ: أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارِ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: لِتَهْنِكَ الْخِلَافَةُ، قَالَ: بِقَتْلِ عَلِيٍّ تُظْهِرِينَ الشَّمَاتَةَ، اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، يَعْنِي ثَلَاثًا قَالَ: فَتَلَفَّعَتْ بِثِيَابِهَا، وَقَعَدَتْ حَتَّى قَضَتْ عِدَّتَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِبَقِيَّةٍ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا وَعَشَرَةِ آلَافٍ صَدَقَةً، فَلَمَّا جَاءَهَا الرَّسُولُ قَالَتْ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهَا بَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ جَدِّي أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي يَقُولُ: " أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَقْرَاءِ " أَوْ " ثَلَاثًا مُبْهَمَةً لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " لَرَاجَعْتُهَا. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَضِعْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ بِأَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 حُمَيْدِ بْنِ حَيَّانَ الرَّازِيَّ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": حَافِظٌ ضَعِيفٌ، وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ، أَنَّ فِيهِ أَيْضًا سَلَمَةَ بْنَ الْفَضْلِ الْأَبْرَشَ، مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَاضِي الرَّيِّ قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ ": صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ إِنَّهُ قَالَ: " وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ ". وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَعَلَى ثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ; بِنَاءً عَلَى حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقَةً لَا مُجْتَمِعَةً، فَهُوَ بَعِيدٌ. وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مُجْتَمِعَةً ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَا يَسْأَلُ عَنِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَلَيْسَ مَحَلُّ نِزَاعٍ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " مُصَنَّفِهِ "، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: " طَلَّقَ جَدِّي امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا اتَّقَى اللَّهَ جَدُّكَ، أَمَّا ثَلَاثٌ فَلَهُ، وَأَمَّا تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا، بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ إِثْمٌ فِي عُنُقِهِ " وَفِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ، قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الْيَمَنِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوِّجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، فَأَخَافُ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيَّ فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ ". وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَنِ إِلَخْ. . . وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: " فَطَلَّقَنِي الْبَتَّةَ ". قَالُوا: فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ بِالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَلَا سِيَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ ; لِقَوْلِهَا فِيهِ: فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِإِجَازَتِهِ إِلَّا الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ، وَرَدَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا: أَنَّ فَاطِمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَتُظْهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مُفَرَّقًا لَا دَفْعَةً، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بَيْنَ صِيَغِ الْبَيْنُونَةِ الثَّلَاثِ، يَعْنُونَ لَفْظَ الْبَتَّةَ وَالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَالثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ ; لِتَعْبِيرِهَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ: طَلَّقَنِي الْبَتَّةَ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظٍ: فَطَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. فَلَمْ تَخُصَّ لَفْظًا مِنْهَا عَنْ لَفْظٍ ; لِعِلْمِهَا بِتَسَاوِي الصِّيَغِ. وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَحْرُمُ لَاحْتَرَزَتْ مِنْهُ. قَالُوا: وَالشَّعْبِيُّ قَالَ لَهَا: حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ، أَيْ: عَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَحَالِهِ. فَكَيْفَ يَسْأَلُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَيَقْبَلُ الْجَوَابَ بِمَا فِيهِ عِنْدَهُ إِجْمَالٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْهُ، وَأَبُو سَلَمَةَ رَوَى عَنْهَا الصِّيَغَ الثَّلَاثَ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ عِنْدَهُ تَفَاوُتٌ لَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا، وَتَثَبَّتَ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْهَا بِأَيِّ الصِّيَغِ وَقَعَتْ بَيْنُونَتُهَا، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَسَاوِي الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَجِلَّاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَتْهَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْأُخْرَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً "؟ فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ: مَا أَشْرَفَ هَذَا الْحَدِيثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ، فَهُوَ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكَانَةَ مَا أَرَادَ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ إِلَّا وَاحِدَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدَةِ لَوَقَعَ، وَالثَّلَاثُ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ الْبَتَّةَ كِنَايَةٌ وَالثَّلَاثَ صَرِيحٌ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، لَمَا كَانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى مَعَ اعْتِضَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَبِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَكَلَّمَ فِيهِ: بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيَّ. قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَيِّنُ الْحَدِيثِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِيهِ. يُقَالُ ثَلَاثًا، وَتَارَةً قِيلَ وَاحِدَةً. وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّ الثَّلَاثَ ذُكِرَتْ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ ": تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا تَصْحِيحَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ لَهُ، وَأَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ، وَإِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ السَّاعِدِيِّ فِي لِعَانِ عُوَيْمِرٍ وَزَوْجِهِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَعْتَضِدُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَيُّوبَ: هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي أَمْرِكَ بِيَدِكَ إِنَّهَا ثَلَاثٌ غَيْرَ الْحَسَنِ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرًا إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ - مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ - عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ثَلَاثٌ ". فَلَقِيتُ كَثِيرًا فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: نَسِيَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَعْرِفْهُ مَرْفُوعًا، وَقَالَ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا، وَجَلَالَتُهُمَا مَعْرُوفَةٌ. قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ ": [الرَّجَزِ] وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ... مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كَثِيرًا نَسِيَهُ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْخِ لَا يُبْطِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يَقِلُّ رَاوٍ يَحْفَظُ طُولَ الزَّمَانِ مَا يَرْوِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَسِيَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَإِنْ يُرِدْهُ بِلَا أَذْكُرُ أَوْ ... مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ فَقَدْ رَأَوْا الْحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ ... وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمُ كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إِذْ ... نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أَخَذْ عَنْهُ فَكَانَ بَعْدُ عَنْ رَبِيعِهِ ... عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهُ الثَّالِثَةُ: تَضْعِيفُهُ بِكَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إِنَّهُ مَجْهُولٌ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ فِي " التَّقْرِيبِ ": إِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا طَلَّقَ الْبَتَّةَ فَغَضِبَ، وَقَالَ: " أَتَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا؟ أَوْ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا، أَوْ لَعِبًا؟ مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " وَفِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُوفِيٌّ ضَعِيفٌ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَا مُعَاذُ مَنْ طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَلْزَمْنَاهُ بِدَعَتَهُ» وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ الذَّارِعُ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ فَإِنَّ كَثْرَتَهَا وَاخْتِلَافَ طُرُقِهَا، وَتَبَايُنَ مَخَارِجِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَالضِّعَافُ الْمُعْتَبَرُ بِهَا إِذَا تَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا شَدَّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَصَلَحَ مَجْمُوعَهَا لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ مِنْهَا مَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَحَدِيثِ طَلَاقِ رُكَانَةَ الْبَتَّةَ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ إِنْفَاذِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَاقَ عُوَيْمِرٍ ثَلَاثًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 مَجْمُوعَةً عِنْدٍ أَبِي دَاوُدَ. وَقَدْ عَلِمْتَ مُعَارَضَةَ تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ جِهَةِ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ، وَمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، وَشُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ: [الْخَفِيفِ] لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ ... فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» مَا نَصُّهُ: وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [65 \ 1] . قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكَهُ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ هَذَا إِلَّا رَجْعِيًّا، فَلَا يَنْدَمُ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْقُرْآنِيَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [65 \ 2] وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ، فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ. وَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ مُتَابَعَاتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْآيَةِ بِأَنَّهَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَجْمَعِ الطَّلَاقَ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ جَمَعَ الطَّلَقَاتِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بِهَا مُجْتَمِعَةً، هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ، الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ بِهِ قُرْآنًا، وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُلُّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ؛ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ: طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ طَلَّقْتَهَا» ؟ قَالَ: ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» فَارْتَجَعَهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرْدُودٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ، لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَلَا بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَلَا بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْمَتْنِ أَنَّ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ وَاقِعَةٌ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَادِّعَاءُ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى ; إِذْ لَمْ يَدُلَّ كَوْنُهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عَلَى كَوْنِهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بِنَقْلٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا لُغَةٍ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، بَلِ الْحَدِيثُ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَجْلِسِ ; إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَرْكِ الْأَخَصِّ وَالتَّعْبِيرِ بِالْأَعَمِّ بِلَا مُوجِبٍ كَمَا تَرَى. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الدَّلِيلُ يُقْدَحُ فِيهِ بِالْقَادِحِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ، فَيُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَافْهَمْ. وَسَتَرَى تَمَامَ هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ. الثَّانِي: أَنَّ دَاوُدَ بْنَ الْحُصَيْنِ الَّذِي هُوَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ بِثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ إِلَّا فِي عِكْرِمَةَ، وَرُمِيَ بِرَأْيِ الْخَوَارِجِ اهـ. وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ كَانَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ ثِقَةٍ. مَعَ أَنَّهُ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: الثَّالِثُ: أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَجَّحَ أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ كَمَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكَانَةَ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ، فَقَالَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الْمَذْكُورِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورِ. الْحَدِيثُ الثَّانِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً: هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، مِنْ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ ثَلَاثًا، فَاحْتُسِبَ بِوَاحِدَةٍ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ إِنَّمَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مَا نَصُّهُ: وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً فِي الْحَيْضِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكَانَ تَطْلِيقُهُ إِيَّاهَا فِي الْحَيْضِ وَاحِدَةً غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَلَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَجَابِرٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً. وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَيُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ. اه مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَسُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ: هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتُهُ أُمَّ رُكَانَةَ، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ - لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا - فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. فَأَخَذَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمِيَّةٌ، فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ: " أَتَرَوْنَ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ؟ وَفُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا "؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طَلِّقْهَا " فَفَعَلَ، فَقَالَ: " رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أُمَّ رُكَانَةَ " فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا " وَتَلَا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [65 \ 1] ". قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، فَسُقُوطُهَا كَمَا تَرَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ هَذَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ضَعْفِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْلَفَهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَقَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ ". وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الْأَخِيرَةُ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْسَرَةَ. وَقَالَ بَدَلَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ - يَعْنِي عُمَرَ - قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ، وَلِلْجُمْهُورِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الْأَوَّلُ: أَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَفْظُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَطَلَاقُهُ هَذَا طَلَاقُ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا قِيلَ لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ إِيقَاعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ كَوْنَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَهَلْ فِي لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَهَلْ يَمْنَعُ إِطْلَاقُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ عَلَى الطَّلَاقِ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا. يُقَالُ لَهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ إِلَّا إِذَا كَانَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ دَعْوَاهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَقَالَ: يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهُوَ أَشَدُّ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، قِيلَ لَهُ: وَإِذَنْ فَجَزْمُكَ بِكَوْنِهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا وَجْهَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَدِيثِ كَوْنُ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَوْنُهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيَّ مَعَ جَلَالَتِهِ وَعِلْمِهِ وَشِدَّةِ فَهْمِهِ مَا فَهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ فِيهِ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، بِتَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ أَظْهَرُ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلِذَا تَرْجَمَ فِي " سُنَنِهِ " لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: " بَابُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ " ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ قَالَ: حَدَّثْنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ تُرَدُّ إِلَى الْوَاحِدَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَرَى هَذَا الْإِمَامَ الْجَلِيلَ صَرَّحَ بِأَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا فَهِمَهُ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " زَادِ الْمَعَادِ " فِي الرَّدِّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ. الْحَدِيثَ. فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ: ثَلَاثًا، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِصِحَّةِ مَا فَهِمَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ أَظْهَرُ فِي أَنَّهَا طَلَقَاتٌ ثَلَاثٌ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ، الثَّلَاثُ الْمُفَرَّقَةُ بِأَلْفَاظٍ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، ابْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي تَكْرِيرِ اللَّفْظِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَكَانُوا أَوَّلًا عَلَى سَلَامَةِ صُدُورِهِمْ، يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّأْكِيدَ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْخِدَاعُ وَنَحْوُهُ ; مِمَّا يَمْنَعُ قَبُولُ مَنِ ادَّعَى التَّأْكِيدَ حَمَلَ عُمَرُ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِ التَّكْرَارِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَوَّاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٌ " مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَابِهِ وَتَأْوِيلِهِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَنْوِ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ طَلْقَةٍ ; لِقِلَّةِ إِرَادَتِهِمُ الِاسْتِئْنَافَ بِذَلِكَ، فَحَمَلَ عَلَى الْغَالِبِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ. فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَغَلَبَ مِنْهُمْ إِرَادَةُ الِاسْتِئْنَافِ بِهَا، حُمِلَتْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ ; عَمَلًا بِالْغَالِبِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الْحَالِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْقَصْدِ ; لِأَنَّ " الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ " وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ لِهَذَا كَمَا قَدَّمْنَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَادِّعَاءُ الْجَزْمِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ادِّعَاءٌ خَالٍ مِنْ دَلِيلٍ كَمَا رَأَيْتَ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى عَزْوِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ كَمَا تَرَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَيَدُلُّ لِكَوْنِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ قَوْلِهِ: طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْفَ طَلَّقْتَهَا "؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قَالَ: ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْمَجْلِسِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمَجْلِسِ، إِذْ لَا دَاعِيَ لِذِكْرِ الْوَصْفِ الْأَعَمِّ وَتَرْكِ الْأَخَصِّ بِلَا مُوجِبٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ الثَّانِي عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ: أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ ثَلَاثًا كَانَ يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَعْمِلُونَ الثَّلَاثَ أَصْلًا، أَوْ يَسْتَعْمِلُونَهَا نَادِرًا. وَأَمَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ صَنَعَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا كَانَ يُصْنَعُ قَبْلَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ. وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي إِنَّمَا تُطَلِّقُونَ أَنْتُمْ ثَلَاثًا، كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْخَبَرُ وَقَعَ عَنِ اخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ خَاصَّةً، لَا عَنْ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [2 \ 229] عَنِ الْمُحَقِّقِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَالْكِيَا الطَّبَرِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى النَّسْخِ إِلَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً؛ يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالَّذِي يُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ الشَّيْخُ: وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهَا تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُخَالِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافُهُ؟ اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ: الْجَوَابُ الثَّالِثُ دَعْوَى النَّسْخِ، فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ شَيْئًا نَسَخَ ذَلِكَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي ذَكَرَ تَحْتَهَا أَبُو دَاوُدَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ هِيَ قَوْلُهُ: " بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ ". وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ آنِفًا مَا نَصُّهُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَا أُطَلِّقُكِ أَبَدًا، وَلَا آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُ حَتَّى إِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: فَذَكَرَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ وَقْتٌ، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَكَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكِ لَا أَيِّمًا، وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، فَجَعَلَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَوَقَّتَ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وَابْنُ جَرِيرٍ كَذَلِكَ وَاخْتَارَ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ لِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَإِنْكَارُ الْمَازِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ادِّعَاءَ النَّسْخِ مَرْدُودٌ بِمَا رَدَّهُ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فَإِنَّهُ لَمَّا نَقَلَ عَنِ الْمَازَرِيِّ إِنْكَارَهُ لِلنَّسْخِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَالَ بَعْدَهُ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ: أَحُدُهَا: أَنَّ الَّذِي ادَّعَى نَسْخَ الْحُكْمِ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي نَسَخَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ، وَإِنَّمَا قَالَ مَا تَقَدَّمَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نُسِخَ؛ أَيِ: اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي رَوَاهُ مَرْفُوعًا، وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِخِلَافِهِ، وَقَدْ سَلَّمَ الْمَازَرِيُّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى نَاسِخٍ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ. الثَّانِي: إِنْكَارُهُ الْخُرُوجَ عَنِ الظَّاهِرِ عَجِيبٌ ; فَإِنَّ الَّذِي يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بِالتَّأْوِيلِ يَرْتَكِبُ خِلَافَ الظَّاهِرِ حَتْمًا. الثَّالِثُ: أَنَّ تَغْلِيطَهُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ ظُهُورُ النَّسْخِ عَجِيبٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِظُهُورِهِ انْتِشَارُهُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ. اهـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي " بِلَفْظِهِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ اطَّلَعَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعُمَرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمَذْكُورَانِ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَلَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَعُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ، حَتَّى أَخْبَرَتْهُ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ. وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا عِلْمٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " الْحَدِيثَ، حَتَّى طَلَبَا مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ عَنِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ الْمَذْكُورِ وُقُوعُ مِثْلِهِ، وَاعْتِرَافُ الْمُخَالِفِ بِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ مُتْعَةَ النِّسَاءِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا وَهَذَا مِثْلُ مَا وَقَعَ فِي طَلَاقِ الثَّلَاثِ طِبْقًا " مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ ": [الطَّوِيلِ] فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا فَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يُسَلِّمَ مُنْصِفٌ إِمْكَانَ النَّسْخِ فِي إِحْدَاهُمَا، وَيَدَّعِي اسْتِحَالَتَهُ فِي الْأُخْرَى، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِيهَا عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ: أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، فِي مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ ثُمَّ غَيَّرَهُ عُمَرُ. وَمَنْ أَجَازَ نَسْخَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَأَحَالَ نَسْخَ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، يُقَالُ لَهُ: مَا لِبَائِكَ تَجُرُّ وَبَائِي لَا تَجُرُّ؟ فَإِنْ قِيلَ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ صَحَّ النَّصُّ بِنَسْخِهِ قُلْنَا: قَدْ رَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ بِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِنَسْخِ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَأَى أَنَّ جَعْلَهَا وَاحِدَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ يَرْتَجِعُ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَأَكْثَرَ، قَالَ فِي " سُنَنِهِ ": " بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ " ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ الْآيَةَ [2 \ 228] وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": صَدُوقٌ يَهِمُ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا آوِيكِ وَلَا أُطَلِّقُكِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ، وَوَرَعِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ: أَنَّ كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ صَحَّ عَنْهُمُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَخَلْقٍ لَا يُحْصَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَالنَّاسِخُ الَّذِي نَسَخَ الْمُرَاجَعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا مَانِعَ عَقْلًا وَلَا عَادَةً مِنْ أَنْ يَجْهَلَ مِثْلَ هَذَا النَّاسِخِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِنَسْخِهَا وَتَحْرِيمِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ. وَمَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [23 \ 5، 6] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا سُرِّيَّةٍ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [4 \ 24] وَالَّذِينَ قَالُوا: بِالنَّسْخِ قَالُوا: فِي مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنَاةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَنَّوْنَ فِي الطَّلَاقِ فَلَا يُوقِعُونَ الثَّلَاثَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَمَعْنَى اسْتِعْجَالِهِمْ أَنَّهُمْ صَارُوا يُوقِعُونَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ هُوَ مَعْنَاهُ، وَإِمْضَاؤُهُ لَهُ عَلَيْهِمْ إِذَنْ هُوَ اللَّازِمُ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي أَلْزَمْنَاهُمْ بِمُقْتَضَى مَا قَالُوا، وَنَظِيرُهُ: قَوْلُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ: فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ. فَظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْ عُمَرَ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِيهِمَا مَعًا كَمَا رَأَيْتَ، وَلَيْسَتِ الْأَنَاةُ فِي الْمَنْسُوخِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي عَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. فَالظَّاهِرُ فِي إِمْضَائِهِ لَهَا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَغَيَّرَ قَصْدُهُمْ مِنَ التَّأْكِيدِ إِلَى التَّأْسِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا كَوْنُ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً، فَتَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهَا ثَلَاثًا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رِوَايَةَ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ لُزُومَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» : إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذَا الْحَدِيثَ ; لِمُخَالَفَةِ هَؤُلَاءِ لِرِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ؟ قَالَ: بِرِوَايَةِ النَّاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ خِلَافَهُ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: فَهَذَا إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ وَسَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِهِ الَّذِي تَدَارَكَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا كَادَ تَتَزَلْزَلُ قَوَاعِدُهُ، وَتُغَيَّرُ عَقَائِدُهُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِلْأَثْرَمِ وَابْنِ مَنْصُورٍ: إِنَّهُ رَفَضَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَصْدًا ; لِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي لُزُومِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ; لِرِوَايَةِ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ هُوَ، ذَكَرَ عَنْهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْحَدِيثَ عَمْدًا ; لِذَلِكَ الْمُوجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مَا تَرَكَاهُ إِلَّا لِمُوجِبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: رِوَايَةُ طَاوُسٍ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَرْفُوعُ لَا يُعَارَضُ بِالْمَوْقُوفِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا خَالَفَ مَا رُوِيَ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأُولَى: أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ ; لِأَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ رَاوِيهِ وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ عَدْلٌ عَارِفٌ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلَا إِشْكَالَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِقَوْلِهِ. فَإِنَّهُ لَا تُقَدَّمُ رِوَايَتُهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صَرِيحَةَ الْمَعْنَى، أَوْ ظَاهِرَةً فِيهِ ظُهُورًا يَضْعُفُ مَعَهُ احْتِمَالُ مُقَابِلِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى احْتِمَالًا قَوِيًّا فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لِمَا رَوَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ الَّذِي تُرِكَ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى مَا رَوَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ مُحْتَمِلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا لِأَنْ تَكُونَ الطَّلَقَاتُ مُفَرَّقَةً، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَرْكَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَعْلِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ لَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 كَوْنَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا سَتَرَى بَيَانَهُ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْجَوَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَفْتَى فِي الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ نَفْسُهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ لَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتُرَجَّحُ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى رِوَايَةِ حَمَّادٍ بِمُوَافَقَةِ الْحُفَّاظِ لِإِسْمَاعِيلَ، فِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا لَا وَاحِدَةً. الْجَوَابُ الْخَامِسُ: هُوَ ادِّعَاءُ ضَعْفِهِ وَمِمَّنْ حَاوَلَ تَضْعِيفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقُرْطُبِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ: زَلَّ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالُوا: إِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ لَا يَلْزَمُ، وَجَعَلُوهُ وَاحِدَةً وَنَسَبُوهُ إِلَى السَّلَفِ الْأَوَّلِ فَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَزَوْهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ الضَّعِيفِ الْمَنْزِلَةِ، الْمَغْمُورِ الْمَرْتَبَةِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، وَغَوَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسَائِلِ فَتَتَبَّعُوا الْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةَ فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَذِبٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَحْلِفُ ثَلَاثًا كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً. وَلَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ، وَلَقِيتُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ كُلَّ صَادِقٍ، فَمَا سَمِعْتُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخَبَرٍ، وَلَا أَحْسَسْتُ لَهَا بِأَثَرٍ، إِلَّا الشِّيعَةَ الَّذِينَ يَرَوْنَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ جَائِزًا، وَلَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ وَاقِعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ سُكَّرَةَ الْهَاشِمِيُّ: [السَّرِيعِ] يَا مَنْ يَرَى الْمُتْعَةَ فِي دِينِهِ ... حِلًّا وَإِنْ كَانَتْ بِلَا مَهْرٍ وَلَا يَرَى تِسْعِينَ تَطْلِيقَةً ... تُبِينُ مِنْهُ رَبَّةُ الْخِدْرِ مِنْ هَاهُنَا طَابَتْ مَوَالِيدُكُمْ ... فَاغْتَنِمُوهَا يَا بَنِي الْفِطْرِ وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَأَرْبَابُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَبِدْعَةً فِي قَوْلِ الْآخَرِينَ، لَازِمٌ. وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الْبُؤَسَاءُ مِنْ عَالِمِ الدِّينِ، وَعَلَمِ الْإِسْلَامِ، مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَالَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 «صَحِيحِهِ» : «بَابُ جَوَازِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ» ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ ; وَلِأَنَّهُ جَمَعَ مَا فَسَحَ لَهُ فِي تَفْرِيقِهِ، فَأَلْزَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ حُكْمَهُ وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابٍ وَلَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ. وَقَدْ أَدْخَلَ مَالِكٌ فِي «مُوَطَّئِهِ» عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْحَرَامَ ثَلَاثٌ لَازِمَةٌ فِي كَلِمَةٍ، فَهَذَا فِي مَعْنَاهَا، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْمِلَّةِ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْمَذْكُورِ، قُلْنَا: هَذَا لَا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؟ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ إِلَّا عَنْ قَوْمٍ انْحَطُّوا عَنْ رُتْبَةِ التَّابِعِينَ وَقَدْ سَبَقَ الْعَصْرَانِ الْكَرِيمَانِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى لُزُومِ الثَّلَاثِ، فَإِنْ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَقْبَلُونَ مِنْكُمْ: نَقْلُ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ. وَلَا تَجِدْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَنْسُوبَةً إِلَى أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَبَدًا. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يَرْوِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَاحِدٌ وَمَا لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ إِلَّا وَاحِدٌ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَسَكَتُوا عَنْهُ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا طَاوُسًا؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرِوَايَةُ طَاوُسٍ وَهْمٌ وَغَلَطٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَالْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ لَا يُعْرَفُ فِي مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ كَمَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ إِمَامٌ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ. وَانْفِرَادُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ وَلَوْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَصْلًا إِلَّا وَاحِدٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي «أَلْفِيَّتِهِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] فِي الصَّحِيحِ أَخْرَجَا الْمُسَيَّبَا ... وَأَخْرَجَ الْجُعْفِيُّ لِابْنِ تَغْلِبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يَعْنِي: أَنَّ الشَّيْخَيْنِ أَخْرَجَا حَدِيثَ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ ابْنِهِ سَعِيدٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ النَّمَرِيِّ، وَيُقَالُ الْعَبْدِيُّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ هَذَا مُرَادُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ تَغْلِبَ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا الْحَكَمُ بْنُ الْأَعْرَجِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ ثَابِتٌ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَضْعِيفُهُ إِلَّا بِأَمْرٍ وَاضِحٍ، نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ خَبَرَ الْآحَادِ إِذَا كَانَتِ الدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةً إِلَى نَقْلِهِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا وَاحِدٌ وَنَحْوُهُ، أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ النَّقْلَ تَوَاتُرًا وَالِاشْتِهَارَ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ، أَشَارَ إِلَيْهَا فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ: [الرَجَزِ] وَخَبَرُ الْآحَادِ فِي السُّنِّيِّ ... حَيْثُ دَوَاعِي نَقْلِهِ تَوَاتُرًا نَرَى لَهَا لَوْ قَالَهُ تَقَرُّرَا وَجَزَمَ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَالَ صَاحِبُ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» عَاطِفًا عَلَى مَا يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ. وَالْمَنْقُولُ آحَادًا فِيمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمُرَادُهُ أَنَّ مِمَّا يُجْزَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ» مَسْأَلَةٌ: إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ فِيمَا يَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ، وَقَدْ شَارَكَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. كَمَا لَوِ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِقَتْلِ خَطِيبٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي مَدِينَةٍ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا خِلَافًا لِلشِّيعَةِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مُنَاقَشَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ عَنْهَا مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ غَيَّرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ أَوْ جُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. فَالدَّوَاعِي إِلَى نَقْلٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِ، مُتَوَفِّرَةٌ تَوَفُّرًا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، لِأَنْ يَرُدَّ بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 عُمَرُ فَسُكُوتُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ مِنْهُ حَرْفٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ. وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ تَغْيِيرَ عُمَرَ لِلْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَغْيِيرِ قَصْدِهِمْ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى التَّأْكِيدَ فَوَاحِدَةٌ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ فَثَلَاثٌ. وَاخْتِلَافُ مَحَامِلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ نِيَّاتِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِصِحَّتِهِ لِنَقْلِهِ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَخَفُّ مِنَ الثَّانِي، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ: وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ يَقْتَضِي عَنْ جَمِيعِهِمْ أَنَّ مُعْظَمَهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَفْشُوَ الْحُكْمُ وَيَنْتَشِرَ فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ بِهِ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ؟ قَالَ: فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ، إِنْ لَمْ يَقْتَضِ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِهِ. اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» عَنْهُ، وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ كَمَا تَرَى. الْجَوَابُ السَّادِسُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ حَمْلُ لَفْظِ الثَّلَاثِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَتَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ رُكَانَةَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ مَا نَصُّهُ: وَهُوَ قَوِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ إِدْخَالُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ، الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا الْبَتَّةَ، وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالثَّلَاثِ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْبَتَّةَ إِذَا أُطْلِقَتْ حُمِلَ عَلَى الثَّلَاثِ إِلَّا إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ وَاحِدَةً فَيُقْبَلُ، فَكَأَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ حَمَلَ لَفْظَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِاشْتِهَارِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، فَرَوَاهَا بِلَفْظِ الثَّلَاثِ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَفْظَةُ الْبَتَّةَ، وَكَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يَقْبَلُونَ مِمَّنْ قَالَ أَرَدْتُ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً، فَلَمَّا كَانَ عَهْدُ عُمَرَ أَمْضَى الثَّلَاثَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. اهـ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» بِلَفْظِهِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَا يَذْكُرُهُ كُلٌّ مِمَّنْ قَالَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا مِنَ الْأُمُورِ النَّظَرِيَّةِ لِيُصَحِّحَ بِهِ كُلٌّ مَذْهَبَهُ، لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ سُقُوطُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 تَحْقِيقُهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَقِيَاسُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَيْمَانِ اللِّعَانِ فِي أَنَّهُ لَوْ حَلَفَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ، قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ; لَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا، بِخِلَافِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا اعْتُبِرَتْ إِجْمَاعًا، وَحَصَلَتْ بِهَا الْبَيْنُونَةُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِجْمَاعًا. الْجَوَابُ السَّابِعُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَهُ، وَالدَّلِيلُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُ، لَا فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ ; لِأَنَّ جَمَاهِيرَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ مَا أَسْنَدَهُ الصَّحَابِيُّ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ. الْجَوَابُ الثَّامِنُ: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ بَانَتْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَلَوْ قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُصَادِفْ لَفْظُ الثَّلَاثِ مَحِلًّا ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَهَا. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ جَاءَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ هُوَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزِ] وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبَ ... إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبُ وَمَا ذَكَرَهُ الْأَبِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ، أَمَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ فَمِنْ زِيَادَةِ الْعَدْلِ فَمَرْدُودٌ ; بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي فِيهَا التَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّوَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ، لَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، لَا مِنْ مَسَائِلِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، فَالرِّوَايَاتُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الدُّخُولِ كَمَا تَرَى، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِنِ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا. نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ وَارِدٌ عَلَى سُؤَالِ أَبِي الصَّهْبَاءِ، وَأَبُو الصَّهْبَاءِ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا عَنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لِمُطَابَقَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، كَوْنَ الْكَلَامِ وَارِدًا جَوَابًا لِسُؤَالٍ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوقِ بِالذِّكْرِ لِمُطَابَقَةِ السُّؤَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ عَنِ الْمَنْطُوقِ. وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي ذِكْرِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ: أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ ... لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةَ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ أَيُّوبُ مَجْهُولُونَ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مَنْ هُوَ، لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِرِوَايَتِهِ. وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي لِأَبِي دَاوُدَ فَضَعِيفَةٌ، رَوَاهَا أَيُّوبُ عَنْ قَوْمٍ مَجْهُولِينَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي «مُخْتَصَرِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مَا نَصُّهُ: الرُّوَاةُ عَنْ طَاوُسٍ مَجَاهِيلُ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَضَعْفُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى لِلْجَهْلِ بِمَنْ رَوَى عَنْ طَاوُسٍ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ لَفْظَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَهُوَ بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ فَانْظُرْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ. هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَشْتَهِرِ الْعِلْمُ بِنَسْخِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ، كَمَا وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» مَا نَصُّهُ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً، يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي يُشْبِهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فَنُسِخَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ الشَّيْخُ: رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافُ مَا قَالَ؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْحَقَّ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. . . إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَعَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ بِفَمٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَعْلِهَا وَاحِدَةً، فَالَّذِي يُشْبِهُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الظَّاهِرَ لَنَا دَوَرَانُ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِنَسَقٍ وَاحِدٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ لُغَةً فِي مَعْنَى طَلَاقِ الثَّلَاثِ دُخُولًا لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ الَّتِي جَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ إِسْنَادَهَا أَصَحُّ إِسْنَادًا، فَإِنَّ لَفْظَهَا: أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى! كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَايِعُوا فِيهَا قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا مُتَفَرِّقَةً بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَدِّهِ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ. فَقَدْ قَالَ فِي «زَادِ الْمَعَادَ» مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: «لَا، حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» فَهَذَا مِمَّا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ، نَعَمْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي. وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَقَالَ ثَلَاثًا، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا، وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَعَيِّنَةٍ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» قَالَ مَا نَصُّهُ: وَذَهَبَ أَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قَالَ لِلْبِكْرِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. كَانَتْ وَاحِدَةً فَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَهَا ثَلَاثًا، قَالَ الشَّيْخُ: وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَهِيَ الْمُطَابِقُ لَفْظُهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ الطَّلَقَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ بِفَمٍ وَاحِدٍ، بَلْ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِأَلْفَاظٍ مُتَتَابِعَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، مُبَيِّنٌ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي تَكُونُ وَاحِدَةً هِيَ الْمَسْرُودَةُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِلصِّيغَةِ الْأُولَى. فَفِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» لِلْبَيْهَقِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّيْخُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا تَتْرَى، رَوَى جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، قَالَ عُقْدَةٌ كَانَتْ بِيَدِهِ أَرْسَلَهَا جَمِيعًا. وَإِذَا كَانَتْ تَتْرَى فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ تَتْرَى يَعْنِي أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهَا تَبِينُ بِالْأَوْلَى، وَالثِّنْتَانِ لَيْسَتَا بِشَيْءٍ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ مَسْرُودَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَيُّوبَ الَّتِي صَحَّحَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَوْضَحْنَاهُ آنِفًا مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ يُعَيِّنُ كَوْنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لَا مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ، وَلَا مِنَ الْعُرْفِ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَمُجَرَّدُ لَفْظِ الثَّلَاثِ، أَوْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ، أَوِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِصِدْقِ كُلِّ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ عَلَى الثَّلَاثِ الْوَاقِعَةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 رَأَيْتَ، وَنَحْنُ لَا نُفَرِّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَلَا بَيْنَ زَمَنٍ وَزَمَنٍ، وَإِنَّمَا نُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ نَوَى التَّأْكِيدَ، وَمَنْ نَوَى التَّأْسِيسَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، وَنَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا عَلِمَ مِنْ كَثْرَةِ قَصْدِ التَّأْسِيسِ فِي زَمَنِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ قَصْدُ التَّأْكِيدِ هُوَ الْأَغْلَبَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَتَغْيِيرُ مَعْنَى اللَّفْظِ لِتَغَيُّرِ قَصْدِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَقُوَّةُ هَذَا الْوَجْهِ وَاتِّجَاهُهُ وَجَرَيَانُهُ عَلَى اللُّغَةِ، مَعَ عَدَمِ إِشْكَالٍ فِيهِ كَمَا تَرَى. وَبِالْجُمْلَةِ بِلَفْظِ رِوَايَةِ أَيُّوبَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهَا بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ مُطَابِقٍ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا الثَّانِي كَمَا ذَاقَهَا الْأَوَّلُ. وَبِهِ تُعْرَفُ أَنَّ جَعْلَ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُتَفَرِّقَةً فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، وَجَعْلَهَا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ تَفْرِيقٌ لَا وَجْهَ لَهُ مَعَ اتِّحَادِ لَفْظِ الْمَتْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَمَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ إِلَى وَاحِدَةٍ لَا يَجِدُونَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى بَيْنَ رِوَايَةِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ إِلَى وَاحِدَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّهَا مُجْتَمِعَةٌ أَوْ مُفَرَّقَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُهَا وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَلَا حُجَّةَ لَكُمْ أَصْلًا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي خُصُوصِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. أَمَّا جَعْلُكُمُ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُفَرَّقَةً، وَفِي حَدِيثِ طَاوُسٍ مُجْتَمِعَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ مُطَابِقٌ لَفْظُهُ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ فَرْقًا بَيْنَ مَعَانِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً لَا مُتَفَرِّقَةً. وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، هِيَ الْمَجْمُوعَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ النَّسْخُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَأَيْتَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّسْخِ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، أَنَّهُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ، وَلَوْ مُتَفَرِّقَةً ; لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ بَعْدَ مِائَةِ تَطْلِيقَةٍ، مُتَفَرِّقَةً كَانَتْ أَوْ لَا. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ اشْتُهِرَ النَّسْخُ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَادِّعَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ يَرُدُّهُ بِإِيضَاحٍ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَفِي بَعْضٍ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ قَالَ: فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَادِّعَاءُ إِمْكَانِ إِحْدَاهُمَا وَاسْتِحَالَةِ الْأُخْرَى فِي غَايَةِ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، رَوَى فِيهَا مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ، أَنَّ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، ثُمَّ غَيَّرَ حُكْمَهَا عُمَرُ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ ; لِأَنَّ نِسْبَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَخَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءُوا بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ عَمْدًا غَيْرُ لَائِقٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُدَّعِي لِهَذَا الْإِجْمَاعِ هُوَ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْقَائِلِ: بِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعْلَ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَوْقَعَ عَلَيْهِمُ الثَّلَاثَ مُجْتَمِعَةً عُقُوبَةً لَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالظَّاهِرُ عَدَمُ نُهُوضِهِ ; لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَ فَرْجًا أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبِيحُ ذَلِكَ الْفَرْجَ بِجَوَازِ الرَّجْعَةِ، وَيَتَجَرَّأُ هُوَ عَلَى مَنْعِهِ بِالْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [95 \ 7] ، وَيَقُولُ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [01 \ 95] ، وَيَقُولُ: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [24 \ 12] . وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي عُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الطَّلَاقِ هُوَ التَّعْزِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ، كَالضَّرْبِ. أَمَّا تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ مِنَ الْفُرُوجِ فَلَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرَاتِ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى حُرْمَتِهِ عَلَى مَنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ وَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ حَرَّمُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ أُكْرِهَ عَلَى إِبَانَتِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَهِيَ غَيْرُ بَائِنٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُبِنْهَا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ وَفَتْوَاهُ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَإِنَّ فِيهِ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» وَيُشِيرُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [33] ; لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكْهَا اخْتِيَارًا لِقَضَائِهِ وَطَرَهُ مِنْهَا مَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» مَا نَصُّهُ: وَفِي الْجُمْلَةِ فَالَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ، أَعْنِيَ قَوْلَ جَابِرٍ، إِنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا، فَالرَّاجِحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ وَإِيقَاعُ الثَّلَاثِ لِلْإِجْمَاعِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا فِي عَهْدِ عُمَرَ خَالَفَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ وَإِنْ كَانَ خَفِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ لِجَمِيعِهِمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَالْمُخَالِفُ بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنَّا بِذِلَّةٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَنْ أَحْدَثَ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَحَاصِلُ خُلَاصَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبَحْثَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ النَّصِّ الْقَوْلِيِّ أَوِ الْفِعْلِيِّ الصَّرِيحِ. الثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْأُصُولِ. الثَّالِثَةُ: مِنْ جِهَةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، أَمَّا أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَجُلَّ الصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى نُفُوذِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَادَّعَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِعْلِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْ فِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، وَقَدْ مَرَّ لَكَ أَنْ أَثْبَتَ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ طَلَاقِ رُكَانَةَ أَنَّهُ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ حَلَّفَهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَمَا كَانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: «لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ، وَشُعَيْبَ بْنَ زُرَيْقٍ الشَّامِيَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عَطَاءً الْمَذْكُورَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ شُعَيْبًا الْمَذْكُورَ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا يُعْتَضَدُ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصِيتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ. وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ وَيُعْتَضَدُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ ; لِتَحْلِيفِهِ رُكَانَةَ وَبِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَبِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، فِي لِعَانِ عُوَيْمِرٍ وَزَوْجِهِ، وَلَا سِيَّمَا رِوَايَةَ فَأَنْفَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ وَبِبَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كَثْرَةَ طُرُقِهَا وَاخْتِلَافَ مَنَازِعِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا وَأَنْ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا فَيَصْلُحُ الْمَجْمُوعُ لِلِاحْتِجَاجِ. وَلَا سِيَّمَا أَنْ بَعْضَهَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَحَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ، كَحَدِيثِ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ حَدِيثَ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فَإِذَا حَقَّقْتَ أَنَّ الْمُرْوَيَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ يَدُلُّ إِلَّا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً، فَاعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ آيَةُ ذِكْرِ الثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَأَحْرَى آيَةٍ تُصَرِّحُ بِعَدَمِ لُزُومِهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [65 \ 1] ، قَالُوا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ إِلَّا رَجْعِيًّا، فَلَا يَنْدَمُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهَا تَلْزَمُ مُجْتَمِعَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا، فَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي صَرِيحِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْأُصُولِ، فَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كَانَ يُفْعَلُ كَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَوْجُهَ الْجَوَابِ عَنْهُ بِإِيضَاحٍ. وَرَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بَعْدَ «لِثَلَاثٍ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ مُوَافِقَةٌ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ مَجْمُوعَةٌ فَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَصَحُّ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَلَا دَلِيلَ إِذَنْ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ تَارَةً تَقُولُونَ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْسُوخٌ، وَتَارَةً تَقُولُونَ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِنَا: أَنَّ الطَّلَقَاتِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَجَعْلُهَا وَاحِدَةً مَنْسُوخٌ هَذَا هُوَ مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَنِسْبَةُ الْعَلَمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الطَّلَاقِ حِكْمَةَ كَوْنِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ حَقْلٌ تُزْرَعُ فِيهِ النُّطْفَةُ كَمَا يُزْرَعُ الْبَذْرُ فِي الْأَرْضِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ حَقْلَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلزِّرَاعَةِ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُرْغَمَ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِيهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ وَشَأْنُهُ ; لِيَخْتَارَ حَقْلًا صَالِحًا لِزِرَاعَتِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [2 \ 223] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَإِنْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَحِلُّ لَهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى زَوْجَتَهُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُلْعِ، إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا إِذَنْ فِي الْخُلْعِ. أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا هِيَ فِي الدَّفْعِ، وَلَا عَلَيْهِ هُوَ فِي الْأَخْذِ. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالنَّهْيِ عَنِ الرُّجُوعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى الْأَزْوَاجُ زَوْجَاتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْطَى قِنْطَارًا وَبَيَّنَ أَنَّ أَخْذَهُ بُهْتَانٌ وَإِثْمٌ مُبِينٌ، وَبَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ أَفْضَى إِلَيْهَا بِالْجِمَاعِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [4 \ 20، 21] . وَبَيِّنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ مِنَ الْمَرْأَةِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [4 \ 4] . وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [4 \ 24] . تَنْبِيهٌ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَا يُعَدُّ طَلَاقًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ بِقَوْلِهِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [2 \ 229] ; لَمْ يَعْتَبِرْهُ طَلَاقًا ثَالِثًا ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ [2 \ 230] . وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يُعَدُّ طَلَاقًا لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي ; لِمَا تَقَدَّمَ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ. قَالَ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ حَسَنٌ يَعْتَضِدُ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ: «إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثَّالِثَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا فَيُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، أَوْ يُسَرِّحَهَا فَلَا يَظْلِمَهَا مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا» . وَعَلَيْهِ فَفِرَاقُ الْخُلْعِ الْمَذْكُورُ لَمْ يُرَدْ مِنْهُ إِلَّا بَيَانُ مَشْرُوعِيَّةِ الْخُلْعِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا إِنَّمَا كَرَّرَهُ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ. وَلَوْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [2 \ 229] ، يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، وَأَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ الْآيَةَ [2 \ 230] ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا عَدَمُ عَدِّ الْخُلْعُ طَلَاقًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخُلْعَ فِي مَعْرِضِ مَنْعِ الرُّجُوعِ فِيمَا يُعْطَاهُ الْأَزْوَاجُ. فَاسْتَثْنَى مِنْهُ صُورَةً جَائِزَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 طَلَاقًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْخُلْعَ يُعَدُّ طَلَاقًا بَائِنًا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ الْبَتِّيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَتَى نَوَى الْمُخَالِعُ بِخُلْعِهِ تَطْلِيقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، أَوْ أَطْلَقَ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْخُلْعِ وَهُوَ: أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَعُرِّيَ عَنِ النِّيَّةِ فَلَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَهْمَانَ مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ، عَنْ أُمِّ بَكْرٍ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَأَتَيَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَطْلِيقَةٌ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَمَّيْتَ شَيْئًا فَهُوَ مَا سَمَّيْتَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَعْرِفُ جَهْمَانَ، وَكَذَا ضَعَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَذَا الْأَثَرَ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَتُكَلِّمُ فِيهِ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَأَنَّهُ سَيْئُ الْحِفْظِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَرَوْعٌ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخُلْعَ يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنَ الصَّدَاقِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِمَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [2 \ 229] ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِّمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ; لِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صَلَاتُهَا كَمَا عَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] صِيَغُهُ كُلُّ أَوِ 2 (212) الْجَمِيعُ ... وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعُ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرْنَا أَيُّوبُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ: أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتِ كَثِيرِ الزِّبْلِ، ثُمَّ دَعَاهَا فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتِ؟ فَقَالَتْ: مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُنْذُ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كُنْتَ حَبَسْتَنِي. فَقَالَ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمِرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ فَحَبَسَهَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَشَكَتْ زَوْجَهَا فَأَبَاتَهَا فِي بَيْتِ الزِّبْلِ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ قَالَ لَهَا: كَيْفَ وَجَدَتْ مَكَانَكَ؟ قَالَتْ: مَا كُنْتُ عِنْدَهُ لَيْلَةً أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ. فَقَالَ: خُذْ وَلَوْ عِقَاصَهَا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: كَانَ لِي زَوْجٌ يَقِلُّ عَلَيَّ الْخَيْرَ إِذَا حَضَرَنِي، وَيَحْرِمُنِي إِذَا غَابَ، قَالَتْ: فَكَانَتْ مِنِّي زَلَّةٌ يَوْمًا، فَقُلْتُ لَهُ: أَخْتَلِعُ مِنْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَفَعَلَتْ، قَالَتْ: فَخَاصَمَ عَمِّي مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَ الْخُلْعَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِي، فَمَا دُونَهُ، أَوْ قَالَتْ مَا دُونُ عِقَاصِ الرَّأْسِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا كُلُّ مَا بِيَدِهَا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلَا يَتْرُكُ لَهَا سِوَى عِقَاصِ شِعْرِهَا، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَالْحُسْنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ قِبَلِهَا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا، وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَإِنِ ازْدَادَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ أَخَذَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَقَالَ مَعْمَرٌ وَالْحَكَمُ: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْقُضَاةُ لَا يُجِيزُونَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا سَاقَ إِلَيْهَا، قُلْتُ: وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْحَدِيقَةَ وَلَا يَزْدَادَ، وَبِمَا رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَيْثُ قَالَ: أَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، يَعْنِي: الْمُخْتَلِعَةَ، وَحَمَلُوا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، أَيْ: مِنَ الَّذِي أَعْطَاهَا ; لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [2 \ 229] ، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ وَهَكَذَا كَانَ يَقْرَؤُهَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْهُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 229] . اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعُرْوَةُ، وَسَالِمٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو عِيَاضٍ، وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو، وَقَتَادَةُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو الْعُبَيْدِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَأْخَذُهُمْ فِي هَذَا: أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ فَتُعْتَدُّ كَسَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَكَوْنُ الْخُلْعِ طَلَاقًا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لِلزَّوْجِ مِنْ جِهَتِهَا إِنَّمَا بَذَلَتْهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهَا فِرَاقًا شَرْعًا إِلَّا بِالطَّلَاقِ، فَالْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتِهِ. وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ مُخَالَعَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ زَوْجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ مِنْ خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً "، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ مَبْذُولٌ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ عَقِبَ سَوْقِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَا يُسْقِطُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ ; لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَزْهَرَ بْنَ جَمِيلٍ لَا يُتَابِعُهُ غَيْرُهُ فِي ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ: خُصُوصُ طَرِيقِ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ خَالِدٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ خَالِدٍ، وَهُوَ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، ثُمَّ بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مُرْسَلًا، وَعَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا. وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ الْمَوْصُولَةُ، وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي " الْفَتْحِ "، فَظَهَرَ اعْتِضَادُ الطُّرُقِ الْمُرْسَلَةِ بَعْضِهَا بِبِضْعٍ، وَبِالطُّرُقِ الْمَوْصُولَةِ. وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ الْمَوْصُولَةِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّ مُرَادَهُ بِالْفِرَاقِ الطَّلَاقُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ ; بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِذِكْرِ التَّطْلِيقَةِ، وَالرِّوَايَاتُ بَعْضُهَا يُفَسِّرُ بَعْضًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُخَالِعَ إِذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَسْخًا فَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ بِإِيجَابِ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةٍ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَهُوَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ، وَيَقُولُ فِي أَشْهَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا: إِنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَالْمُطَلَّقَةِ، فَظَهَرَ عَدَمُ الْمُلَازَمَةِ عِنْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِعَ إِذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ طَلَاقًا، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالطَّلَاقِ فِي الْخُلْعِ فَلَا يَكُونُ الْخُلْعُ طَلَاقًا، فَالْجَوَابُ: أَنَّ مُرَادَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً ": أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 مِنْ قِبَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ عِوَضُ الْمَالِ إِذْ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنَ الْفِرَاقِ غَيْرَ الطَّلَاقِ. فَالْعِوَضُ مَدْفُوعٌ لَهُ عَمَّا يَمْلِكُهُ كَمَا يَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ دَلَالَةً وَاضِحَةً. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَعْتَدُّ الْمُخْتَلِعَةُ بِحَيْضَةٍ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، وَعَمِّهَا، وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ أَسَانِيدِهِ أَقَلُّ دَرَجَاتِهَا الْقَبُولُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ فَلَا كَلَامَ. وَلَوْ خَالَفَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَدَمَ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ كَوْنِهِ فَسْخًا، وَبَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، وَمَا وَجَّهَهُ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِيُطَوِّلَ زَمَنَ الرَّجْعَةِ وَيَتَرَوَّى الزَّوْجُ وَيَتَمَكَّنَ مِنَ الرَّجْعَةِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَالْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْلِ. وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ حَيْضَةٌ كَالِاسْتِبْرَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ حِكْمَةَ جَعْلِ الْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي تَطْوِيلِ زَمَنِ الرَّجْعَةِ، بَلِ الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْهَا: الِاحْتِيَاطُ لِمَاءِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بِتَكَرُّرِ الْحَيْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَنَّ الرَّحِمَ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى حَمْلٍ مِنْهُ. وَدَلَالَةُ ثَلَاثِ حِيَضٍ عَلَى ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ دَلَالَةِ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهَا إِجْمَاعًا. فَلَوْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ مَا ذُكِرَ لَكَانَتِ الْعِدَّةُ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَيْضَةً وَاحِدَةً، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ بَابَ الطَّلَاقِ جُعِلَ حُكْمُهُ وَاحِدًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ وَاحِدًا إِلَّا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ وَاحِدَةٌ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدَّةَ لَهُ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ إِجْمَاعًا، بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [33 \ 49] ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَنْدَمُ عَلَى الطَّلَاقِ كَمَا يَنْدَمُ الْمُطَلِّقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ مُجَرَّدَ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الرَّجْعَةِ، لَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحِكْمَةُ الْكُبْرَى فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ هِيَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مِنْ مَاءِ الْمُطَلِّقِ ; صِيَانَةً لِلْأَنْسَابِ، كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدَّةَ فِيهِ أَصْلًا ; لِأَنَّ الرَّحِمَ لَمْ يَعْلَقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى تَطْلُبَ بَرَاءَتَهَا مِنْهُ بِالْعِدَّةِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ اعْتِدَادِ الْمُخْتَلِعَةِ بِحَيْضَةٍ؟ قُلْنَا: إِنْ كَانَ ثَابِتًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالطَّبَرَانِيُّ فَهُوَ تَفْرِيقٌ مِنَ الشَّارِعِ بَيْنَ الْفِرَاقِ الْمَبْذُولِ فِيهِ عِوَضٌ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي قَدْرِ الْعِدَّةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ قَبْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الدُّخُولِ فَأَوْجَبَ فِيهِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وَبَيْنَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ عِدَّةً أَصْلًا، مَعَ أَنَّ الْكُلَّ فِرَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَاقِ بَعِوَضٍ، وَالْفِرَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ظَاهِرٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا رَجْعَةَ فِي الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الثَّانِي. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَالَعَةِ هَلْ يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ مِنْ خَالِعِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ ; لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَبَانَتْ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْخُلْعِ، وَبِهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعِكْرِمَةَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ أَتْبَعَ الْخُلْعَ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَهُمَا وَقَعَ، وَإِنْ سَكَتَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَقَعْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا يُشْبِهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَبِهِ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ، وَطَاوُسٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ عَنْهُمَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ بِحَسْبِ النَّظَرِ أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ ; لِأَنَّ الْمُخَالَعَةَ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ صِيغَةِ الْخُلْعِ تَبِينُ مِنْهُ، وَالْبَائِنُ أَجْنَبِيَّةٌ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ ; لِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ لِأَحَدٍ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: لَيْسَ لِلْمُخَالِعِ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُخْتَلِعَةَ فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِمَا بَذَلَتْ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَمَاهَانَ الْحَنَفِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ رَدَّ إِلَيْهَا الَّذِي أَعْطَتْهُ جَازَ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَهُوَ فُرْقَةٌ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ سَمَّى طَلَاقًا فَهُوَ أَمْلَكُ لَرَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَبِهِ يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُخْتَلِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فِي الْعِدَّةِ، وَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا تَزْوِيجَهَا لِمَنْ خَالَعَهَا، كَمَا يَمْنَعُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَالٍ. كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ الْآيَةَ، ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [2 \ 236] ، انْقِضَاءُ عِدَّتِهِنَّ بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ إِلَّا فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [2 \ 228] ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى زَمَنِ الْعِدَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ [2 \ 228] . فَاتَّضَحَ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَى فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ. أَيْ: قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَأَشْرَفْنَ عَلَى بُلُوغِ أَجَلِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا الْآيَةَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالنَّهْيِ عَنْ إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ مُضَارَّةً لَهَا ; لِأَجْلِ الْاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِأَخْذِهِ مَا أَعْطَاهَا ; لِأَنَّهَا إِذَا طَالَ عَلَيْهَا الْإِضْرَارُ افْتَدَتْ مِنْهُ ; ابْتِغَاءَ السَّلَامَةِ مِنْ ضَرَرِهِ. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهَا إِذَا أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ جَازَ لَهُ عَضْلُهَا، حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [4 \ 19] ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ هِيَ: الزِّنَا، وَقَالَ قَوْمٌ هِيَ: النُّشُوزُ وَالْعِصْيَانُ وَبَذَاءُ اللِّسَانِ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُ الْآيَةِ لِلْكُلِّ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ جَيِّدٌ، فَإِذَا زَنَتْ أَوْ أَسَاءَتْ بِلِسَانِهَا، أَوْ نَشَزَتْ جَازَتْ مُضَاجَرَتُهَا ; لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ لِوَلَدِهِ مُرْضِعَةً غَيْرَ أُمِّهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، إِذَا سَلَّمَ الْأُجْرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الْعَقْدِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْوَجْهَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [65 \ 6] ، وَالْمُرَادُ بِتَعَاسُرِهِمْ: امْتِنَاعُ الرَّجُلِ مِنْ دَفْعِ مَا تَطْلُبُهُ الْمَرْأَةُ، وَامْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبُولِ الْإِرْضَاعِ بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 يَبْذُلُهُ الرَّجُلُ وَيَرْضَى بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ مُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا كَانَتْ عِدَّتُهَا وَضْعَ حَمْلِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ إِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ فِي الزَّوَاجِ بِوَضْعِ حَمْلِهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَيَّامٍ، وَكَوْنُ عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا هُوَ الْحَقُّ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَقَوْلَهُ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الْأَعَمَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَالرَّاجِحُ مِنْهُمَا يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْمَرْجُوحِ كَمَا عَقَدَهُ فِي «الْمَرَاقِي» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَإِنْ يَكِ الْعُمُومُ مِنْ وَجْهٍ ظَهَرْ فَالْحُكْمُ بِالتَّرْجِيحِ حَتْمًا مُعْتَبَرْ وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ عُمُومَ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ مُخَصَّصٌ لِعُمُومِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الْآيَةَ. مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأُصُولِيِّينَ ذَكَرُوا أَنَّ الْجُمُوعَ الْمُنْكَرَةَ لَا عُمُومَ لَهَا، وَعَلَيْهِ فَلَا عُمُومَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا جَمْعُ مُنْكَرٍ فَلَا يَعُمُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ، فَإِنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مُعَرَّفٍ بِأَلْ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْمُعَرَّفِ بِهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، كَمَا عَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ: [الرَّجَزِ] . . . . . . . . ... وَمَا مُعَرَّفًا بِأَلْ قَدْ وُجِدَا أَوْ بِإِضَافَةٍ إِلَى مُعَرَّفٍ ... إِذَا تَحَقَّقَ الْخُصُوصُ قَدْ نَفَى الثَّانِي: الضَّمِيرُ الرَّابِطُ لِلْجُمْلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ ; لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ أَيْ: وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُوَنَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَقَوْلِ الْعَرَبِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ: مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتْعَةَ حَقٌّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ عَلَى مُطَلَّقِهَا الْمُتَّقِي، سَوَاءٌ أَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ لَا؟ فَرَضَ لَهَا صَدَاقٌ أَمْ لَا؟ وَيَدُلُّ لِهَذَا الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [33 \ 21] ، مَعَ قَوْلِهِ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [33 \ 21] ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُمُّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأَمَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا عَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَمَا بِهِ قَدْ خُوطِبَ النَّبِيُّ ... تَعْمِيمُهُ فِي الْمَذْهَبِ السُّنِّيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ الْقَائِلِ بِخُصُوصِهِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ: أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ مَفْرُوضٌ لَهُنَّ وَمَدْخُولٌ بِهِنَّ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُتْعَةَ لِخُصُوصِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَفَرْضِ الصَّدَاقِ مَعًا ; لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ تَسْتَحِقُّ الصَّدَاقَ، وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ فَرْضِ الصَّدَاقِ تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الصَّدَاقِ. وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَهُمَا لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا، فَالْمُتْعَةُ لَهَا خَاصَّةً لِجَبْرِ كَسْرِهَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ [2 \ 236] ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [2 \ 237] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ مَفْرُوضًا لَهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [33 \ 49] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ عُمُومِهَا يَشْمَلُ الْمَفْرُوضَ لَهَا الصَّدَاقُ وَغَيْرَهَا، وَبِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَحْوَطُ الْأَخْذُ بِالْعُمُومِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَمْرِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَنَاقِلٌ وَمُثْبِتٌ وَالْآمِرُ ... بَعْدَ النَّوَاهِي ثُمَّ هَذَا الْآخَرِ عَلَى إِبَاحَةٍ إِلَخْ. . . فَقَوْلُهُ ثُمَّ هَذَا الْآخَرُ عَلَى إِبَاحَةِ، يَعْنِي: أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى أَمْرٍ مُقَدَّمٍ عَلَى النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى إِبَاحَةٍ، لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَدْرَ الْمُتْعَةِ لَا تَحْدِيدَ فِيهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، فَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْحَاكِمُ يَجْتَهِدُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَيُعَيِّنُ الْقَدْرَ عَلَى ضَوْءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ الْآيَةَ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ، وَقَوْلُهُ: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ [2 \ 241] ، يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُتْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ أَصْلًا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [2 \ 236] ، وَقَالَ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [2 \ 241] ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَكَانَتْ حَقًّا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَبِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَعَيَّنَ فِيهَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا لَا يَنْهَضُ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَعَلَى الْمُتَّقِينَ تَأْكِيدٌ لِلْوُجُوبِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَسْتُ مُتَّقِيًا مَثَلًا ; لِوُجُوبِ التَّقْوَى عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ الْآيَةَ مَا نَصُّهُ: وَقَوْلُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهَا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَمَعَاصِيهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2] ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَعَيَّنَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِيهَا، ظَاهِرُ السُّقُوطِ. فَنَفَقَةُ الْأَزْوَاجِ وَالْأَقَارِبِ وَاجِبَةٌ وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا الْقَدْرَ اللَّازِمَ، وَذَلِكَ النَّوْعُ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، تَشْجِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ بِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يُنْجِي، فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ فِرَارَهُ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لَا يُنْجِيهِ، هَانَتْ عَلَيْهِ مُبَارَزَةُ الْأَقْرَانِ، وَالتَّقَدُّمُ فِي الْمَيْدَانِ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُهُ بِالْآيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 حَيْثُ أَتْبَعَهَا بِقَوْلِهِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 244] ، وَصَرَّحَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [33 \ 16] ، وَهَذِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي التَّشْجِيعِ عَلَى الْقِتَالِ ; لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْقَتْلِ لَا يُنْجِي مِنْهُ، وَلَوْ فُرِضَ نَجَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ مَيِّتٌ عَنْ قَرِيبٍ، كَمَا قَالَ قُعْنُبُ ابْنُ أُمِّ صَاحِبٍ: [الْمُتَقَارِبِ] إِذَا أَنْتَ لَاقَيْتَ فِي نَجْدَةٍ ... فَلَا تَتَهَيَّبْكَ أَنْ تُقْدِمَا فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا ... فَسَوْفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا وَإِنْ تَتَخَطَّكَ أَسْبَابُهَا ... فَإِنَّ قُصَارَاكَ أَنْ تَهْرَمَا وَقَالَ زُهَيْرٌ: [الطَّوِيلِ] رَأَيْتُ الْمَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ ... مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ وَقَالَ أَبُو الطِّيبِ: [الْخَفِيفِ] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ ... فَمِنَ الْعَجْزِ أَنْ تَكُونَ جَبَانًا وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: [الْبَسِيطِ] فِي الْجُبْنِ عَارٌ وَفِي الْإِقْدَامِ مَكْرُمَةٌ ... وَالْمَرْءُ فِي الْجُبْنِ لَا يَنْجُو مِنَ الْقَدَرِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمُ جَوَازِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتِ فِيهَا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ، وَعَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا إِذَا كُنْتَ خَارِجًا عَنْهَا. تَنْبِيهٌ لَمْ تَأْتِ لَفْظَةُ أَلَمْ تَرَ وَنَحْوُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا تَقَدَّمَهُ لَفْظُ أَلَمْ، مُعَدَّاةً إِلَّا بِالْحَرْفِ الَّذِي هُوَ إِلَى. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ، وَالتَّحْقِيقُ عَدَمُ لُزُومِهِ وَجَوَازُ تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الطَّوِيلِ] أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا قَدْرَ هَذِهِ الْأَضْعَافِ الْكَثِيرَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا تَبْلُغُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ وَتَزِيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عَنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ [2 \ 162] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ كَقَوْلِهِ: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [21 \ 80] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [34 \ 11، 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّكَ لِمَنَ الْمُرْسَلِينَ يُفْهَمُ مِنْ تَأْكِيدِهِ هُنَا بَأَنَّ وَاللَّامِ أَنَّ الْكُفَّارَ يُنْكِرُونَ رِسَالَتَهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [13 \ 43] . قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [4 \ 164] ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [7 \ 144] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، يَعْنِي مُوسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ آدَمُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي «صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ» عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: تَكْلِيمُ آدَمَ الْوَارِدُ فِي «صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ» يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [2 \ 35] ، وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ حَوَّاءَ عَنِ الشَّجَرَةِ عَلَى لِسَانِهِ، فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهَا بِذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، مَا نَصُّهُ: وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آدَمَ أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ هُوَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ» ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَكْلِيمَ آدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، فَعَلَى هَذَا تَبْقَى خَاصِّيَّةُ مُوسَى اهـ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [2 \ 38] ، فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مَا نَصُّهُ: لِأَنَّ آدَمَ كَانَ هُوَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَّامَ حَيَاتِهِ، بَعْدَ أَنْ أُهْبِطَ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الْأَرْضِ، وَالرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى وَلَدِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا وَهُوَ، الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، أَيْ: رُسُلٌ اهـ مَحَلُّ الْحُجَّةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَفِيهِ وَفِي كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ «صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ» التَّصْرِيحُ بِأَنَّ آدَمَ رَسُولٌ وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلُ الرُّسُلِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [4 \ 163] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلْجَمْعِ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ لِزَوْجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَنُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ فِي الْأَرْضِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا، وَيَقُولُ: «وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ» ، الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ: «إِلَى أَهْلِ» الْأَرْضِ، لَوْ لَمْ يُرَدْ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ رَسُولٍ بُعِثَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَكَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ حَشْوًا، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ مَا ذَكَرْنَا. وَيَتَأَنَّسُ لَهُ بِكَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ الَّذِي قَدَّمْنَا نَقْلَ الْقُرْطُبِيِّ لَهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ كُفْرٌ فَأَطَاعُوهُ، وَنُوحٌ هُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ لِقَوْمٍ كَافِرِينَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيَأْمُرُهُمْ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً الْآيَةَ [10 \ 19] . أَيْ: عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ، أَيْ حَتَّى كَفَرَ قَوْمُ نُوحٍ، وَقَوْلُهُ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ [2 \ 213] . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، أَشَارَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [17 \ 79] ، أَوْ قَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الْآيَةَ [34 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25] ، وَأَشَارَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمَ كَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [4 \ 125] ، وَقَوْلِهِ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [2 \ 124] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ دَاوُدَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [17] ، وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [19 \ 57] ، وَأَشَارَ هُنَا إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ عِيسَى بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [2 \ 87] . تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْآيَةَ، إِشْكَالٌ قَوِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى ; فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ» ، وَثَبَتَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ ; فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ» . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ، وَالْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ» ، رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ، أَيْ: لَا تَقُولُوا فُلَانٌ خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا فُلَانٌ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ، اهـ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِالتَّفْضِيلِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَالَهُ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا عِنْدَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ. الرَّابِعُ: لَا تُفَضِّلُوا بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ. الْخَامِسُ: لَيْسَ مَقَامُ التَّفْضِيلِ إِلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» أَجْوِبَةً كَثِيرَةً عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَاخْتَارَ أَنَّ مَنْعَ التَّفْضِيلِ فِي خُصُوصِ النُّبُوَّةِ، وَجَوَازَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ، وَالْخُصُوصِ، وَالْكَرَامَاتِ فَقَدْ قَالَ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ هُوَ الَّتِي هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فِي زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ، وَالْكَرَامَاتِ، وَالْأَلْطَافِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُتَبَايِنَاتِ. وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِأُمُورٍ أُخَرَ زَائِدَةٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ وَأُولُو عَزْمٍ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتُّخِذَ خَلِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [17] ، قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْآيِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، وَالْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، إِنَّمَا هُوَ بِمَا مَنَحَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَأَعْطَى مِنَ الْوَسَائِلِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى هَذَا فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَقَالُوا: بِمَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [21 \ 29] ، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [48] ، قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [14 \ 4] ، وَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [34 \ 28] ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: خَيْرُ بَنِي آدَمَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَهَذَا نَصٌّ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّعْيِينِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أُرْسِلَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يُرْسَلْ ; فَإِنَّ مَنْ أُرْسِلَ فَضُلَ عَلَى غَيْرِهِ بِالرِّسَالَةِ، وَاسْتَوُوا فِي النُّبُوَّةِ إِلَى مَا يَلْقَاهُ الرُّسُلُ مِنْ تَكْذِيبِ أُمَمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ جَوَازُ التَّفْضِيلِ إِجْمَالًا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» ، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَمَنَعَ التَّفْضِيلَ عَلَى طَرِيقِ الْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى» ، وَقَوْلِهِ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ إِنْفَاقَهُ الْمَنَّ وَالْأَذَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 262] . وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى الْآيَةَ [2 \ 264] . قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2 \ 257] ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَرَّحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ وَلِيُّهُمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِيُّهُمْ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [5] ، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [9 \ 71] ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِخُصُوصِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47 \ 11] ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [33 \ 6] ، وَبَيَّنَ فِي آيَةِ «الْبَقَرَةِ» هَذِهِ، ثَمَرَةَ وِلَايَتِهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ لَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2 \ 257] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ ثَمَرَةِ وِلَايَتِهِ إِذْهَابَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ وِلَايَتَهُمْ لَهُ تَعَالَى بِإِيمَانِهِنَّ وَتَقْوَاهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [10 \ 62، 63] ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَيْضًا يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [7 \ 196] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ الضَّلَالَةُ، وَبِالنُّورِ الْهُدَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ طُرُقَ الضَّلَالِ مُتَعَدِّدَةٌ ; لِجَمْعِهِ الظُّلُمَاتِ وَأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ ; لِإِفْرَادِهِ النُّورَ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [6 \ 153] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَا نَصُّهُ: وَلِهَذَا وَحَّدَ تَعَالَى لَفْظَ النُّورِ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْكُفْرَ أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا قَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [6] ، وَقَالَ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ [70 \ 37] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي لَفْظِهَا إِشْعَارٌ بِتَفَرُّدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الْحَقِّ وَانْتِشَارِ الْبَاطِلِ وَتَعَدُّدِهِ وَتَشَعُّبِهِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [3 \ 175] ، أَيْ يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [4] ، وَقَوْلُهُ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ الْآيَةَ [18 \ 50] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ الْآيَةَ [7] ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ طَاغُوتٌ وَالْحَظُّ الْأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [36 \ 60] ، وَقَالَ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [4 \ 117] ، وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [19 \ 44] ، وَقَالَ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [6 \ 121] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ بَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِـ الَّذِي الَّذِينَ بِقَوْلِهِ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [2 \ 264] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 273] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ فَقْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ سَبَبَ فَقْرِهِمْ هُوَ إِخْرَاجُ الْكُفَّارِ لَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ الْآيَةَ [59 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ الْآيَةَ، مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ يَزْجُرُهُ بِهَا عَنْ أَكْلِ الرِّبَا فَانْتَهَى أَيْ: تَرَكَ الْمُعَامَلَةَ بِالرِّبَا ; خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ: مَا مَضَى قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْإِنْسَانَ بِفِعْلِ أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُحَرِّمَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَقَدْ قَالَ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُونَ مَالَ الْمَيْسِرِ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا الْآيَةَ [5 \ 93] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَقَالَ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ أَزْوَاجَ آبَائِهِمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [4 \ 22] ، أَيْ: لَكِنْ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [4 \ 23] . وَقَالَ فِي الصَّيْدِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ الْآيَةَ [5 \ 95] . وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [2 \ 143] ، أَيْ: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ النَّسْخِ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ لَمَّا اسْتَغْفَرُوا لِقُرَبَائِهِمُ الْمَوْتَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [9 \ 113] ، وَنَدِمُوا عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [9 \ 115] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُضِلُّهُمْ بِفِعْلِ أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ اتِّقَائِهِ. [مَبْحَثٌ فِي الرِّبَا] قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبَا أَيْ: يُذْهِبُهُ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ أَوْ يَحْرِمُهُ بَرَكَةَ مَالِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَمَا ذَكَرَ هُنَا مِنْ مَحْقِ الرِّبَا، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ [30 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ الْآيَةَ [5 \ 100] ، وَقَوْلِهِ: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ: وَحَرَّمَ الرِّبَا [2 \ 235] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْمُتَعَامِلَ بِالرِّبَا مُحَارِبُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [2 \ 278، 279] . وَصَرَّحَ بِأَنَّ آكِلَ الرِّبَا لَا يَقُومُ أَيْ: مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [2 \ 275] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّبَا مِنْهُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ وَذَلِكَ كَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَزِيدَهُ فِي الْأَجَلِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ الْآخَرُ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ، وَرِبَا النَّسَاءِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ، وَبَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَبَيْنَ الْبُرِّ وَالْبُرِّ، وَبَيْنَ الشَّعِيرِ وَالشَّعِيرِ، وَبَيْنَ التَّمْرِ وَالتَّمْرِ، وَبَيْنَ الْمِلْحِ وَالْمِلْحِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ، بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَجُوزُ الْفَضْلُ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالذَّهَبِ، وَلَا بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا بَيْنَ الْبُرِّ وَالْبُرِّ، وَلَا بَيْنَ الشَّعِيرِ وَالشَّعِيرِ، وَلَا بَيْنَ التَّمْرِ وَالتَّمْرِ، وَلَا بَيْنَ الْمِلْحِ وَالْمِلْحِ، وَلَوْ يَدًا بِيَدٍ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ مَنْعُ رِبَا الْفَضْلِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ قِيلَ: ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ» وَثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَا: كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: «مَا كَانَ مِنْهُ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَمَا كَانَ مِنْهُ نَسِيئَةً فَلَا» ، فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ الْفَضْلِ وَمَنْعِ النَّسِيئَةِ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أُسَامَةُ، وَالْبَرَاءُ، وَزَيْدٌ، إِنَّمَا هُوَ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، بِدَلِيلِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ جَوَازِ التَّفَاضُلِ، وَأَنَّهُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مَمْنُوعٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، مَا نَصُّهُ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، دُونَ ذِكْرِ عَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، مَعَ ذِكْرِ عَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ إِلَى الْمَوْسِمِ أَوْ إِلَى الْحَجِّ، فَذَكَرَهُ وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ رَوْحٍ عَنْ سُفْيَانَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي بِالْكُوفَةِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ. عِنْدِي أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا أُطْلِقَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ وَارِدًا فِي بَيْعِ الْجِنْسَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَقَالَ: «مَا كَانَ مِنْهُ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَمَا كَانَ مِنْهُ نَسِيئَةً فَلَا» ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ: أَنَا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي حَبِيبٌ هُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنِ الصَّرْفِ فَكِلَاهُمَا يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْنًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي عُمَرَ حَفَصِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ اهـ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَوَازِ الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ كَوْنُهُ فِي جِنْسَيْنِ لَا جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَفِي تَكْمِلَةِ «الْمَجْمُوعِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الْبَيْهَقِيِّ مَا نَصُّهُ: وَلَا حُجَّةَ لِمُتَعَلِّقٍ فِيهِمَا ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيْعَ دَرَاهِمَ بِشَيْءٍ لَيْسَ رِبَوِيًّا، وَيَكُونُ الْفَسَادُ لِأَجْلِ التَّأْجِيلِ بِالْمَوْسِمِ أَوِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّرٍ وَلَا سِيَّمَا عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَيَدُلُّ لَهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنِ الصَّرْفِ فَكِلَاهُمَا يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا لَفَظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِمَعْنَاهُ. وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْنًا، فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ صَرْفُ الْجِنْسِ بِجِنْسٍ آخَرَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، وَالرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ، وَاللَّتَانِ فِي «الصَّحِيحِ» وَكُلُّهَا أَسَانِيدُهَا فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَلَكِنْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ فِي سُفْيَانَ فَخَالَفَ الْحُمَيْدِيُّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَكُلٌّ مِنَ الْحُمَيْدِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ فِي غَايَةِ الثَّبْتِ. وَيَتَرَجَّحُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ هُنَا بِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ لَهُ، وَشَهَادَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ لِرِوَايَتِهِ، وَشَهَادَةِ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ لِرِوَايَةِ شَيْخِهِ، وَلِأَجْلٍ ذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ بَاعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ خَطَأٌ عِنْدَهُ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» مَا نَصُّهُ: وَقَالَ الطَّبَرَيُّ مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ» إِذَا اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الْبَيْعِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذُكِرَ. وَقَالَ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» أَيْضًا مَا نَصُّهُ: تَنْبِيهٌ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا قَالَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ: يَعْنِي الْبُخَارِيَّ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ يَقُولُ: لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ، هَذَا عِنْدَنَا فِي الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ، وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، مُتَفَاضِلًا وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً. قُلْتُ: وَهَذَا مُوَافِقٌ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَعَلَى هَامِشِ النُّسْخَةِ أَنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَهَذَا مُوَافِقٌ بَيَاضًا بِالْأَصْلِ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا الْجَوَابِ إِلَى شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْهُمَا تَصْرِيحُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَالرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَكْفِي فِي الْحُكْمِ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ بِجَوَازِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمِ أَنَّهَا خَطَأٌ ; إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا أُطْلِقَ فِيهِ الصَّرْفُ وَمِنْهَا مَا بَيَّنَ أَنَّهَا دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ، فَيَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنَّ إِحْدَاهُمَا بَيَّنَتْ مَا أَبْهَمَتْهُ الْأُخْرَى، وَيَكُونُ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ حَدِيثًا آخَرَ وَارِدًا فِي الْجِنْسَيْنِ، وَتَحْرِيمُ النَّسَاءِ فِيهِمَا، وَلَا تَنَافِي فِي ذَلِكَ وَلَا تُعَارِضٌ. فَالْجَوَابُ عَلَى تَسْلِيمِ هَذَا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِبَاحَةَ رِبَا الْفَضْلِ مَنْسُوخَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَادِيثَ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ أَرْجَحُ، وَأَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّسْخِ مِنْ أَحَادِيثَ إِبَاحَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ إِلَى الْمَوْسِمِ أَوْ إِلَى الْحَجِّ، فَجَاءَ إِلَيَّ فَأَخْبَرَنِي فَقُلْتُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَصِحُّ، قَالَ: قَدْ بِعْتُهُ فِي السُّوقِ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ، فَقَالَ: «مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَهُوَ رِبًا» ، وَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ تِجَارَةً مِنِّي، فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. هَذَا لَفَظَ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ إِبَاحَةَ رِبَا الْفَضْلِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ كَانَتْ مُقَارَنَةً لِقُدُومِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ أَيْضًا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ فَفَصَلْتُهَا، فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَلَ» ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا عَنْ فَضَالَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ نُبَايِعُ الْيَهُودَ الْوُقِيَّةَ الذَّهَبَ بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ» هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَفْعَلْ بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِهِ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 تَصْرِيحِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، فَقَدِ اتَّضَحَ لَكَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ إِبَاحَةَ رِبَا الْفَضْلِ كَانَتْ زَمَنَ قُدُومِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا، وَأَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِالْمَنْعِ صَرَّحَتْ بِهِ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ وَبَعْدَهُ، فَتَصْرِيحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ بِنَحْوِ سِتِّ سِنِينَ وَأَكْثَرَ مِنْهَا، يَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى النَّسْخِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِالْمُتَأَخِّرِ، وَقَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ. وَأَيْضًا فَالْبَرَاءُ، وَزَيْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا غَيْرَ بَالِغَيْنِ فِي وَقْتِ تَحَمُّلِهِمَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ ; فَإِنَّهُمْ بَالِغُونَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ، وَرِوَايَةُ الْبَالِغِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ تَحَمَّلَ وَهُوَ صَبِيٌّ ; لِلْخِلَافِ فِيهَا دُونَ رِوَايَةِ الْمُتَحَمِّلِ بَالِغًا، وَسِنُّ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ وَقْتَ قُدُومِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، نَحْوُ عَشْرِ سِنِينَ ; لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ: أَنَّهُ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَصْغَرَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَسَعْدَ بْنَ حَبْتَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَوَّلَ غَزْوَةٍ شَهِدَاهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ مَنْسُوخٌ، رَاوِيهِ الْحُمَيْدِيِّ. وَنَاهِيكَ بِهِ عِلْمًا وَاطِّلَاعًا. وَقَوْلُ رَاوِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، فِي كَوْنِهِ يَكْفِي فِي النَّسْخِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا يَكْفِي عِنْدَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا قَدَّمْتُمْ مِنْ كَوْنِ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَاقِعًا بَعْدَ إِبَاحَتِهِ، يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ، لِعِلْمِ التَّارِيخِ فِيهِمَا، وَأَنَّ حَدِيثَ التَّحْرِيمِ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ، وَلَكِنْ أَيْنَ لَكُمْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ؟ وَمَوْلِدُ أُسَامَةَ مُقَارِبٌ لِمَوْلِدِ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ ; لِأَنَّ سِنَّ أُسَامَةَ وَقْتَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَسِنُّ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ وَقْتَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ الْعِشْرِينَ، كَمَا قَدَّمْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَكْفِي فِي النَّسْخِ مَعْرِفَةُ أَنَّ إِبَاحَةَ رِبَا الْفَضْلِ وَقَعَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُتَقَدِّمِ. الْجَوَابُ الثَّانِي: عَنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ أَنَّهُ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَرِوَايَاتُ مَنْعِ رِبَا الْفَضْلِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَوْهَا صَرِيحَةً عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَاطِقَةً بِمَنْعِ رِبَا الْفَضْلِ، مِنْهُمْ: أَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَبِلَالٌ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وَمَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمْ وَرِوَايَاتُ جُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا ثَابِتَةٌ فِي «الصَّحِيحِ» كَرِوَايَةِ: أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَبِي بَكْرَةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرِهِمْ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْعُدُولِ أَقْوَى وَأَثْبَتُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْخَطَأِ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ كَثْرَةَ الرُّوَاةِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَدِلَّةِ كَمَا عَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ، بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْوِيِّ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَكَثْرَةُ الدَّلِيلِ وَالرِّوَايَةِ ... مُرَجَّحٌ لَدَى ذَوِي الدِّرَايَةِ وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ ضَعِيفٌ، وَقَدْ ذَكَرَ سُلَيْمٌ الدَّارِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْمَأَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: عَنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَأَحَادِيثُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ دَلَّتْ عَلَى مَنْعِهِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ تَرْكَ مُبَاحٍ أَهْوَنُ مِنِ ارْتِكَابِ حَرَامٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ عَنْ صَاحِبِ «الْمَرَاقِي» ، وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ وَأَبِي هَاشِمٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ قَالُوا: هُمَا سَوَاءٌ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: عَنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ أَنَّهُ عَامٌّ بِظَاهِرِهِ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسَيْنِ، وَأَحَادِيثُ الْجَمَاعَةِ أَخَصُّ مِنْهُ ; لِأَنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِالْمَنْعِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَبِالْجَوَازِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ لَهُ وَلَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَمِنْ مُرَجِّحَاتِ أَحَادِيثِ مَنْعِ رِبَا الْفَضْلِ عَلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ الْحِفْظُ ; فَإِنَّ فِي رُوَاتِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ، وَغَيْرَهُمَا، مِمَّنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْحِفْظِ، وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» مَا نَصُّهُ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَقِيلَ: مَنْسُوخٌ لَكِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: «لَا رِبَا» ، الرِّبَا الْأَغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمُ، الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدًا، مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَلِ لَا نَفْيُ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ. فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ ; لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: النَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ مَرْدُودٌ بِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَمَعْرِفَةِ الْمُتَأَخِّرِ كَافِيَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى النَّسْخِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا رَجَعَا عَنِ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» مَا نَصُّهُ: «بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى رُجُوعِ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ عَنْ قَوْلِهِ وَنُزُوعِهِ عَنْهُ» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ: أَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثْنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: سَأَلْتَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا، وَإِنِّي لِقَاعِدٌ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: مَا زَادَ فَهُوَ رِبَا، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ: لَا أُحَدِّثُكُمْ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَاءَهُ صَاحِبُ نَخْلَةٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ طَيِّبٍ، وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الدُّونَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّى لَكَ هَذَا؟» قَالَ: انْطَلَقْتُ بِصَاعَيْنِ وَاشْتَرَيْتُ بِهِ هَذَا الصَّاعَ ; فَإِنَّ سِعْرَ هَذَا بِالسُّوقِ كَذَا، وَسِعْرَ هَذَا بِالسُّوقِ كَذَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَبِّيتَ؟ إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ فَبِعْ تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ اشْتَرِ بِسِلْعَتِكَ أَيَّ تَمْرٍ شِئْتَ» ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ رِبًا، أَمِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؟ قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ بَعْدُ فَنَهَانِي، وَلَمْ آتِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَكَرِهَهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ: وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا اللَّوْنَ. أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو عَلِيٌّ الْمَاسَرْجِسِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ بِنْتِ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى، حَدَّثَنَا جَدِّي الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، أَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَنَا يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي الْقَعْقَاعِ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْجَوْزَاءِ يَقُولُ: كُنْتُ أَخْدِمُ ابْنَ عَبَّاسٍ تِسْعَ سِنِينَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، فَصَاحَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَأْمُرُنِي أَنْ أُطْعِمَهُ الرِّبَا، فَقَالَ نَاسٌ حَوْلَهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعْمَلُ هَذَا بِفُتْيَاكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كُنْتُ أُفْتِي بِذَلِكَ حَتَّى حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ فَأَنَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، وَفِي نُسْخَتِنَا مِنْ «سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ» فِي هَذَا الْإِسْنَادِ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَبُو الْمُبَارَكِ كَمَا يَأْتِي. أَخْبَرْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دُرُسْتَوَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي شَمَخِ بْنِ فَزَارَةَ، سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَرَأَى أُمَّهَا فَأَعْجَبَتْهُ، فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ ; لِيَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، قَالَ: لَا بَأْسَ فَتَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ يَبِيعُ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ يُعْطِي الْكَثِيرَ، وَيَأْخُذُ الْقَلِيلَ، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ لِهَذَا الرَّجُلِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَصِحُّ الْفِضَّةُ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ ; فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ انْطَلَقَ إِلَى الرَّجُلِ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَوَجَدَ قَوْمَهُ فَقَالَ: إِنِ الَّذِي أَفْتَيْتَ بِهِ صَاحِبَكُمْ لَا يَحِلُّ، فَقَالُوا: إِنَّهَا قَدْ نَثَرَتْ لَهُ بَطْنَهَا قَالَ: وَإِنْ كَانَ، وَأَتَى الصَّيَارِفَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الصَّيَارِفَةِ، إِنَّ الَّذِي كُنْتُ أُبَايِعُكُمْ لَا يَحِلُّ، لَا تَحِلُّ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا وَزِنَا بِوَزْنٍ. اهـ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِرُجُوعِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَخَالَفَ فِيهِ يَعْنِي: مَنَعَ رِبَا الْفَضْلِ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ رَجَعَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ الْعَدَوِيِّ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، سَأَلَتْ أَبَا مِجْلَزٍ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ، مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَالْحَدِيثَ، وَفِيهِ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَدًا بِيَدٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَا زَادَ فَهُوَ رِبًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ. اهـ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» بِلَفْظِهِ. وَفِي «تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ» لِتَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ حَيَّانَ هَذَا مَا نَصُّهُ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ، وَفِي حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ إِفْرَادَاتٌ يَتَفَرَّدُ بِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَتِهِ حَدِيثَهُ فِي الصَّرْفِ هَذَا بِسِيَاقِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مِجْلَزٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، تَفَرَّدَ بِهِ حَيَّانُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَحَيَّانُ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِهِ، وَتَبْيِينِ صِحَّتِهِ مِنْ سَقَمِهِ ; لِأَمْرٍ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا تَضْعِيفُ الْحَدِيثِ جُمْلَةً، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ، أَعَلَّهُ بِشَيْءٍ أُنَبِّهُ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ: وَهُوَ أَنَّهُ أَعَلَّهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: لِذِكْرِهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ، وَاعْتِقَادِ ابْنِ حَزْمٍ: أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ; لِمُخَالَفَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ ; لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ أَدْرَكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَأَدْرَكَ أَبَا سَعِيدٍ وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى عَدَمِ السَّمَاعِ إِلَّا بِثَبَتٍ، وَأَمَّا مُخَالَفَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ، فَإِنْ أَرَادَ مَجْهُولَ الْعَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هُوَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ الصَّرْفِ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمِنْ جِهَتِهِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ، وَمِنْ جِهَتِهِ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ جِهَتِهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَدِيٍّ، بَصْرِيٌّ سَمِعَ أَبَا مِجْلَزٍ لَاحِقَ بْنَ حُمَيْدٍ وَالضَّحَّاكَ، وَعَنْ أَبِيهِ، وَرَوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ بُرَيْدَةَ، رَوَى عَنْهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَقَدَ لَهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ تَرْجَمَةً، فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْضَ مَا ذَكَرْتُهُ، وَلَهُ تَرْجَمَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ عَدِيٍّ أَيْضًا، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، فَزَالَ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ جَهَالَةَ الْحَالِ فَهُوَ قَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ. فَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ: أَخْبَرْنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالصِّدْقِ مِنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، فَرَوْحٌ مُحَدِّثٌ، نَشَأَ فِي الْحَدِيثِ عَارِفٌ بِهِ، مُصَنِّفٌ مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَصْرِيٌّ بَلَدِيٌّ الْمَشْهُودُ لَهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَإِنَّ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ فَنَاهِيكَ بِهِ، وَمَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ إِسْحَاقُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا. وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَشَاهِيرِ مِمَّنْ رَوَوْا عَنْهُ وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُمْ، وَقَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْهُ فَقَالَ: صَدُوقٌ، ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّبَعِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَوْسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَعِيِّ، قَالَ سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِالصَّرْفِ، يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ، وَتُحُدِّثَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بَلَغَنِي أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَلَقِيتُهُ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجَعْتَ، قَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّي، وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّرْفِ، رُوِّينَاهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، بِإِسْنَادِ رِجَالِهِ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ؟ وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ ; لِمَا تَبَيَّنَ. ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ قَالَ: كُنْتُ أَخْدِمُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الَّذِي قَدَّمْنَا عَنِ الْبَيْهَقِيِّ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» بِإِسْنَادٍ فِيهِ أَبُو الْمُبَارَكِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَشَهِدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادٍ فَقَدَ أَرْبَى» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتُ أُفْتِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ تَابِعِيٌّ، ثِقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ عَنِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ: لَا أَرَى فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ بَأْسًا، ثُمَّ قَدِمْتُ مَكَّةَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنَ الصَّرْفِ ; إِنَّمَا هَذَا مِنْ رَأْيِي، وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، مَشْهُورُونَ مُصَرِّحُونَ بِالتَّحْدِيثِ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ. عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَبِالْفَاءِ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ: تُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَقَالَ: «إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرِّبَا» ، قَالَ فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ: قُلْتُ لِعَطِيَّةَ: مَا الرِّبَا؟ قَالَ: الزِّيَادَةُ وَالْفَضْلُ بَيْنَهُمَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، إِلَى عَطِيَّةَ. وَعَطِيَّةُ مِنْ رِجَالِ السُّنَنِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، فَالْإِسْنَادُ بِسَبَبِهِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَاءَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ وَجِئْتُ مَعَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّرْفِ، مَا كَانَ مِنْهُ يَدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بِيَدٍ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، فَطَارَتْ كَلِمَتُهُ فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْمَوْسِمُ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَلْتَ الرِّبَا وَأَطْعَمْتَهُ؟ قَالَ: أَوَفَعَلْتُ؟ ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ: تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ. فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجِئْتُ مَعَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَكَلَّمْتُ عَامَ أَوَّلٍ بِكَلِمَةٍ مِنْ رَأْيِي، وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَزِنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ، فَمَنْ زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» ، وَأَعَادَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ السِّتَّةَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ مُتَابَعَةً لِمَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا: فَمَنْ زَادَ وَاسْتَزَادَ بِالْوَاوِ لَا بَأَوْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو جَابِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِ «الْمَعَانِي وَالْآثَارِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَقُولُ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ؟ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَنَزَعَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ نَصْرِ بْنِ مَرْزُوقٍ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَلَ عَنِ الصَّرْفِ وَهَذَا أَصْرَحُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ وَهُوَ عَلَيْنَا أَمِيرٌ: مَنْ أَعْطَى بِالدِّرْهَمِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَلْيَأْخُذْهَا وَذَكَرَ حَدِيثًا إِلَى أَنْ قَالَ: فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ؟ قَالَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مِنِّي. وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْوَاسِطِيِّ وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ دِينَارٍ عَنْ زِيَادٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَرَجَعَ عَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِسَبْعِينَ يَوْمًا، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِذْكَارِ» ، وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ أَبِي حُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ سِيرِينَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِرَأْيِكَ. فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِيهِ بِرَأْيِي ثُمَّ يَبْدُو لِي غَيْرُهُ فَأَطْلُبُكَ فَلَا أَجِدُكَ، إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَأَى فِي الصَّرْفِ رَأْيًا، ثُمَّ رَجَعَ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ الْهُذَيْلِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، ابْنِ أُخْتِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَرَجَعَ عَنْهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقَالَ: النَّاسُ يَقُولُونَ مَا شَاءُوا. اهـ مِنْ «تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ» ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: فَهَذِهِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ وَحَسَنَةٍ مِنْ جِهَةِ خَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 رُجُوعِهِ أَيْضًا غَيْرُ ذَلِكَ، وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ غَنِيَّةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي «تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ» أَيْضًا قَبْلَ هَذَا مَا نَصُّهُ: وَرَوَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ تَدْرُسَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَدَالٍّ سَاكِنَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَابْنَ عَبَّاسٍ يُفْتِي الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ فَقَالَ لَهُ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ وَأَغْلَظَ لَهُ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَعْرِفُ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مِثْلَ هَذَا يَا أَبَا أُسَيْدٍ؟ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَصَاعُ حِنْطَةٍ بِصَاعِ حِنْطَةٍ، وَصَاعُ شَعِيرٍ بِصَاعِ شَعِيرٍ، وَصَاعُ مِلْحٍ بِصَاعِ مِلْحٍ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ» . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَقُولُهُ بِرَأْيِي وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي سَنَدِهِ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ شَيْخٌ قُرَشِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبُو أُسَيْدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَرَوَيْنَا فِي «مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَالَ: هُوَ حَلَالٌ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، وَالْتَقَيَا وَأَنَا مَعَهُمَا فَابْتَدَأَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا هَذِهِ الْفُتْيَا الَّتِي تُفْتِي بِهَا النَّاسَ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَشْتَرُوهُ بِنُقْصَانٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ يَدًا بِيَدٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا أَنَا بِأَقْدَمِكُمْ صُحْبَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُولَانِ: سَمِعْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا رُجُوعَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَمَّا رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَثَبَتَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْجِعْ وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقٍ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي ; لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ، فِي السُّنَةِ كِفَايَةٌ عَنْ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَمَنْ خَالَفَهَا رُدَّ إِلَيْهَا، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَّةِ. اهـ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مَرْوِيًّا عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ رِبَا الْفَضْلِ مَنْطُوقَةً، وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا، لَمَا رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاسْتَغْفَرَ، لَمَّا حَدَّثَهُ أَبُو سَعِيدٍ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَى الْحَازِمِيُّ رُجُوعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتِغْفَارَهُ عِنْدَ أَنْ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ، وَقَالَ: حَفِظْتُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ أَحْفَظْ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَازِمِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ بِرَأْيِي. وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يُحَدِّثُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَرَكْتُ رَأْيِي إِلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعٌ فَهُوَ عَامٌّ مُخَصَّصٌ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ ; لِأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْهُ مُطْلَقًا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ بَعْدَ هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَنْعِ رِبَا الْفَضْلِ. قَالَ: فِي «تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ» مَا نَصُّهُ: الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ انْقِرَاضِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَيَعْقُوبُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ، وَلَا فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، وَلَا بُرٍّ بِبُرٍّ، وَلَا شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ، وَلَا تَمْرٍ بِتَمْرٍ، وَلَا مِلْحٍ بِمِلْحٍ، مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، وَلَا نَسِيئَةً، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرْبَى وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِظَاهِرٍ حَدِيثِ أُسَامَةَ قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِهِ لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ، مَا عَدَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ. اهـ، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، هَلْ يُلْغِي الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَوْ لَا بُدَّ مِنَ اتِّفَاقِ كُلٍّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَهَلْ إِذَا مَاتَ وَهُوَ مُخَالِفٌ ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُ يَكُونُ إِجْمَاعًا؟ وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْمَيِّتَ لَا يَسْقُطُ قَوْلُهُ بِمَوْتِهِ، خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ مَنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ رَجَعَ عَنْهَا، وَعَلِمْتَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا مُصَرِّحَةٌ بِكَثْرَةٍ بِمَنْعِهِ، عَلِمْتَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ بَيْنَ كُلِّ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ السِّتَّةِ مَعَ نَفْسِهِ، وَجَوَازُ الْفَضْلِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 يَدًا بِيَدٍ، وَمَنْعُ النَّسَاءِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَبَيْنَ التَّمْرِ وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ مُطْلَقًا، وَلَا يُمْنَعُ طَعَامٌ بِنَقْدٍ نَسِيئَةً كَالْعَكْسِ، وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ، وَيَبْقَى غَيْرُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ، فَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرِّبَا لَا يَخْتَصُّ بِالسِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ كَوْنُهُمَا جَوْهَرَيْنِ نَفِيسَيْنِ. هُمَا ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ غَالِبًا فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الدُّنْيَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالْعِلَّةُ فِيهِمَا قَاصِرَةٌ عَلَيْهِمَا عِنْدَهُمَا، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَوْزُونٌ جِنْسٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ فَعِلَّةُ الرِّبَا فِيهَا عِنْدَ مَالِكٍ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ، وَقِيلَ وَغَلَبَةُ الْعَيْشِ فَلَا يُمْنَعُ رِبَا الْفَضْلِ عِنْدَ مَالِكٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ إِلَّا فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالطَّعَامِ الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ بِالطَّعَامِ الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مَعَ الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ غَلَبَةُ الْعَيْشِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَالِكٌ الْعِلَّةَ مَا ذَكَرَ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ أَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَنَظَّمَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مَا فِيهِ رِبَا النَّسَاءِ وَرِبَا الْفَضْلِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي بَيْتَيْنِ وَهُمَا: [الطَّوِيلِ] رِبَاءُ نَسَا فِي النَّقْدِ حَرُمَ وَمِثْلُهُ ... طَعَامٌ وَإِنْ جِنْسَاهُمَا قَدْ تَعَدَّدَا وَخُصَّ رِبَا فَضْلٍ بِنَقْدٍ وَمِثْلُهُ ... طَعَامُ الرِّبَا إِنْ جِنْسُ كُلٍّ تَوَحَّدَا وَقَدْ كُنْتُ حَرَّرْتُ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرِّبَا فِي الْأَطْعِمَةِ فِي نَظْمٍ لِي طَوِيلٍ فِي فُرُوعِ مَالِكٍ بِقَوْلِي: [الرَّجَزِ] وَكُلُّ مَا يُذَاقُ مِنْ طَعَامِ ... رِبَا النَّسَا فِيهِ مِنَ الْحَرَامِ مُقْتَاتًا أَوْ مُدَّخَرًا أَوْ لَا اخْتَلَفَ ... ذَاكَ الطَّعَامُ جِنْسُهُ أَوِ ائْتَلَفَ وَإِنْ يَكُنْ يُطْعِمُ لِلدَّوَاءِ ... مُجَرَّدًا فَالْمَنْعُ ذُو انْتِفَاءٍ وَلِرِبَا الْفَضْلِ شُرُوطٌ يُحَرَّمُ ... بِهَا وَبِانْعِدَامِهَا يَنْعَدِمُ هِيَ اتِّحَادُ الْجِنْسِ فِيمَا ذَكَرَا ... مَعَ اقْتِيَاتِهِ وَأَنْ يَدَّخِرَا وَمَا لِحَدِّ الِادِّخَارِ مُدَّةً ... وَالتَّادِلِيِ بِسِتَّةٍ قَدْ حَدَّهُ وَالْخَلْفُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ اتَّخَذَ ... لِلْعَيْشِ عُرْفًا، وَبِالْإِسْقَاطِ أَخَذَ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي أَرْبَعٍ ... غَلَبَةُ الْعَيْشِ بِهَا لَمْ تَقَعْ وَالْأَرْبَعُ الَّتِي حَوَى ذَا الْبَيْتِ ... بَيْضٌ وَتِينٌ وَجَرَادٌ زَيْتٌ فِي الْبَيْضِ وَالزَّيْتِ الرِّبَا قَدِ انْحَظَرْ ... رَعْيًا لِكَوْنِ شَرْطِهَا لَمْ يُعْتَبَرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَقَدْ رُعِيَ اشْتِرَاطُهَا فِي الْمُخْتَصَرِ ... فِي التِّينِ وَحْدَهُ فَفِيهِ مَا حَظَرَ وَرُعِيَ خَلْفٌ فِي الْجَرَادِ ... بَادٍ لِذِكْرِهِ الْخِلَافَ فِي الْجَرَادِ وَحَبَّةٌ بِحَبَّتَيْنِ تُحَرَّمُ ... إِذِ الرِّبَا قَلِيلُهُ مُحَرَّمُ ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ الْخِلَافَ فِي رِبَوِيَّةِ الْبِيضِ بِقَوْلِي: [الرَّجَزِ] وَقَوْلُ إِنَّ الْبَيْضَ مَا فِيهِ الرِّبَا ... إِلَى ابْنِ شَعْبَانَ الْإِمَامِ نُسِبَا وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْأَرْبَعَةِ الطَّعْمُ، فَكُلُّ مَطْعُومٍ يُحَرَّمُ فِيهِ عِنْدَهُ الرِّبَا كَالْأَقْوَاتِ، وَالْإِدَامِ، وَالْحَلَاوَاتِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَالْأَدْوِيَةِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الطَّعْمُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ. وَالطَّعَامُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُؤْكَلُ، قَالَ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [3 \ 93] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا الْآيَةَ [80 \ 24 \ 28] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [5 \ 5] ، وَالْمُرَادُ: ذَبَائِحُهُمْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَكَثْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةً مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قَصِّهِ إِسْلَامِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟» قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، قَالَ: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ لَبِيَدٌ: [الْكَامِلِ] لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ ... غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا يَعْنِي بِطَعَامِهَا الْفَرِيسَةَ، قَالُوا: وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرِّبَا عَلَى اسْمِ الطَّعَامِ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ عَلَى اسْمٍ مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِلَّتُهُ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ الْآيَةَ [5 \ 38] ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَبَّ مَا دَامَ مَطْعُومًا يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا زُرِعَ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَطْعُومًا لَمْ يُحَرَّمْ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا انْعَقَدَ الْحَبُّ وَصَارَ مَطْعُومًا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مَطْعُومًا، وَلِذَا كَانَ الْمَاءُ يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [2 \ 249] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ: مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ، وَلِقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلِ] فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعِمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا وَالنُّقَاخُ: الْمَاءُ الْبَارِدُ، هَذَا هُوَ حُجَّةُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْأَرْبَعَةِ الطَّعْمُ، فَأَلْحَقُوا بِهَا كُلَّ مَطْعُومٍ ; لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ مَعْمَرٍ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الطَّعْمُ لَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ نَظَرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ; لِأَنَّ مَعْمَرًا الْمَذْكُورَ لَمَّا قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . قَالَ عَقِبَهُ: وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الطَّعَامَ فِي عُرْفِهِمْ يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعُرْفَ الْمُقَارَنَ لِلْخِطَابِ مِنْ مُخَصَّصَاتِ النَّصِّ الْعَامِّ، وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْمُخَصَّصِ الْمُنْفَصِلِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُخَصِّصُ الْعُمُومَ: [الرَّجَزِ] وَالْعُرْفُ حَيْثُ قَارَنَ الْخِطَابَا ... وَدَعْ ضَمِيرَ الْبَعْضِ وَالْأَسْبَابَا وَأَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْأَرْبَعَةِ كَوْنُهَا مَكِيلَةَ جِنْسٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ يُحَرَّمُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ، وَلَوْ غَيْرَ طَعَامٍ كَالْجِصِّ وَالنَّوْرَةِ وَالْأُشْنَانِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُبَادَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا وُزِنَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إِذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا وَمَا كِيلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ» ، قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : حَدِيثُ أَنَسٍ وَعُبَادَةَ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «التَّلْخِيصِ» وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبَزَّارُ أَيْضًا، وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» قَالَ: إِنَّا لَنَأْخُذَ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، وَقَالَ: فِي الْمِيزَانِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الدَّلَالَةِ مِنْهُ، أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمِيزَانِ، يَعْنِي فِي الْمَوْزُونِ ; لِأَنَّ نَفْسَ الْمِيزَانِ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ بْنِ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبَا» ، ثُمَّ قَالَ: «وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَيْضًا» وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمَانِعِينَ بِأَنَّ حَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيِّ لَمْ يَثْبُتْ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْحَاكِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا سَابِقًا مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ حَدِيثِ حَيَّانَ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا كَلَامَ الشَّوْكَانِيِّ فِي أَنَّ حَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا، وَأَنَّهُ يَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَنَّ الرَّبِيعَ بْنَ صُبَيْحٍ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ سَيْئُ الْحِفْظِ، وَكَانَ عَابِدًا مُجَاهِدًا، وَمُرَادُ الشَّوْكَانِيِّ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ الْمَذْكُورِ، هُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» اهـ. فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَوَاءً بِسَوَاءٍ، مِثْلًا بِمَثَلٍ» يَدُلُّ عَلَى الضَّبْطِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُهَا دَلِيلًا. وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: جَوَابُ الْبَيْهَقِيِّ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ، مِنْ كَلَامِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. الثَّانِي: جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَآخَرِينَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُرَادٍ ; لِأَنَّ الْمِيزَانَ نَفْسَهُ لَا رِبَا فِيهِ، وَأَضْمَرْتُمْ فِيهِ الْمَوْزُونَ، وَدَعْوَى الْعُمُومِ فِي الْمُضْمِرَاتِ لَا تَصِحُّ. الثَّالِثُ: حَمْلُ الْمَوْزُونِ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْإِجَابَاتِ لَا تَنْهَضُ ; لِأَنَّ وَقْفَهُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَقَصْدُ مَا يُوزَنُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ لَا لَبْسَ فِيهِ، وَحَمْلُ الْمَوْزُونِ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَاللَّهِ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي عِلَّةِ الرِّبَا فِي الْأَرْبَعَةِ مَذَاهِبُ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَافَقَهُمْ: الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّهُ لَا رِبَا أَصْلًا فِي غَيْرِ السِّتَّةِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ طَاوُسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. الثَّانِي: مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَصَمِّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا كَوْنُهَا مُنْتَفِعًا بِهَا، حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. الثَّالِثُ: مَذْهَبُ ابْنِ سِيرِينَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَوْدَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْجِنْسِيَّةَ ; فَيُحَرَّمُ الرِّبَا فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ كَالتُّرَابِ بِالتُّرَابِ مُتَفَاضِلًا، وَالثَّوْبِ بِالثَّوْبَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ. الرَّابِعُ: مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْفَعَةُ فِي الْجِنْسِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا دِينَارٌ، وَيُحَرَّمُ بَيْعُ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارَيْنِ. الْخَامِسُ: مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْعِلَّةَ تَقَارُبُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْجِنْسِ، فَحَرَّمَ التَّفَاضُلَ فِي الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالْبَاقِلِيِّ بِالْحِمَّصِ، وَالدُّخْنِ بِالذُّرَّةِ مِثْلًا. السَّادِسُ: مَذْهَبُ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُ جِنْسًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ; فَحَرَّمَ الرِّبَا فِي كُلِّ جِنْسٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْمَوَاشِي وَالزَّرْعِ وَغَيْرِهَا. السَّابِعُ: مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومًا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ وَنَفَاهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُشْرَبُ، أَوْ يُؤْكَلُ وَلَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَالسَّفَرْجَلِ وَالْبِطِّيخِ، وَقَدْ تَرَكْنَا الِاسْتِدْلَالَ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَالْمُنَاقَشَةَ فِيهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ. فُرُوعٌ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: الشَّكُّ فِي الْمُمَاثَلَةِ كَتَحَقُّقِ الْمُفَاضَلَةِ، فَهُوَ حَرَامٌ فِي كُلِّ مَا يَحْرُمُ فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الصَّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ التَّرَاخِي فِي قَبْضِ مَا يُحَرَّمُ فِيهِ رِبَا النَّسَاءِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَقْبَلْتُ؟ أَقُولُ: مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ، فَقَالَ طَلْحَةُ: أَرِنَا الذَّهَبَ حَتَّى يَأْتِيَ الْخَازِنُ، ثُمَّ تَعَالٍ فَخُذْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وَرَقَكَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ، أَوْ لَتَنْقُدَنَّهُ وَرَقَهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَا وَهَا، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَا وَهَا، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَا وَهَا، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَا وَهَا ". الْفَرْعُ الثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ رِبَوِيٍّ بِرِبَوِيٍّ كَذَهَبٍ بِذَهَبٍ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ آخَرُ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ ". وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ شَيْبَةَ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَحْوَهُ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ "، عِنْدَ ذِكْرِ صَاحِبِ " الْمُنْتَقَى ": لِحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ، الْحَدِيثَ. قَالَ فِي " التَّلْخِيصِ ": لَهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي بَعْضِهَا قِلَادَةٌ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ، وَفِي بَعْضِهَا ذَهَبٌ وَجَوْهَرٌ، وَفِي بَعْضِهَا خَرَزٌ مُعَلَّقَةٌ بِذَهَبٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، وَفِي بَعْضِهَا بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ، وَفِي أُخْرَى بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ. وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ، بِأَنَّهَا كَانَتْ بُيُوعًا شَهِدَهَا فَضَالَةُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالْجَوَابُ الْمُسَدَّدُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَا يُوجِبُ ضَعْفًا، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مَحْفُوظٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُفْصَلْ، وَأَمَّا جِنْسُهَا وَقَدْرُ ثَمَنِهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالِاضْطِرَابِ. وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي التَّرْجِيحُ بَيْنَ رُوَاتِهَا وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ ثِقَاتٍ فَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ رِوَايَةِ أَحْفَظِهِمْ وَأَضْبَطِهِمْ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ الْبَاقِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ شَاذَّةً، وَبَعْضُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَ " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ "، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَصُوغِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِجِنْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: مَا صَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَأَنَّ مَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَجَاءَهُ صَائِغٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي أَصُوغُ الذَّهَبَ، ثُمَّ أَبِيعُ الشَّيْءَ مِنْ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ، فَأَسْتَفْضِلُ فِي ذَلِكَ قَدْرَ عَمَلِ يَدِي فِيهِ، فَنَهَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ الصَّائِغُ يُرَدِّدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَنْهَاهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى دَابَّتِهِ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَهَا. ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنِهِمَا، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْنَا وَعَهْدُنَا إِلَيْكُمْ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ مَضَى حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ حَيْثُ بَاعَ سِقَايَةَ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَنَهَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنِّي أَصُوغُ الذَّهَبَ فَأَبِيعُهُ بِوَزْنِهِ وَآخُذُ لِعِمَالَةَ يَدِي أَجْرًا، قَالَ: لَا تَبِعِ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا تَأْخُذْ فَضْلًا " اهـ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ نَهْيِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُمَرَ لِمُعَاوِيَةَ، هُوَ قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَسَنِ وَغَيْرُهُمَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَنَا الرَّبِيعُ، أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ، أَنَا مَالِكٌ، وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي الْقَعْنَبِيَّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ مَثْلِ هَذَا إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِهَذَا بَأْسًا. فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا، ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لَا يَبِيعَ ذَلِكَ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَوَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَمْ يَذْكَرِ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا قُدُومَ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُزْنِي. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَنَحْوُ هَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " الصَّحِيحِ " مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عَنْهُ - مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثِ قَالَ: غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أُعْطِيَّاتِ النَّاسِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقَامَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ، فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ أَوْ قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ مَا أُبَالِي أَلَّا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ. قَالَ حَمَّادٌ هَذَا أَوْ نَحْوَهُ. اهـ. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّنَاعَةَ الْوَاقِعَةَ فِي الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ لَا أَثَرَ لَهَا، وَلَا تُبِيحُ الْمُفَاضَلَةَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الصِّنَاعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَأَجَازَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُعْطِيَ دَارَ الضَّرْبِ نَقْدًا وَأُجْرَةَ صِيَاغَتِهِ وَيَأْخُذَ عَنْهُمَا حُلِيًّا قَدْرَ وَزْنِ النَّقْدِ بِدُونِ الْأُجْرَةِ ; لِضَرُورَةِ السَّفَرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ خَلِيلُ بْنُ إِسِحَاقَ فِي " مُخْتَصَرِهِ " بِقَوْلِهِ: بِخِلَافِ تِبْرٍ يُعْطِيهِ الْمُسَافِرُ وَأُجْرَتُهُ دَارُ الضَّرْبِ لِيَأْخُذَ زِنَتَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ; لِضَرُورَةِ السَّفَرِ كَمَا اسْتَظْهَرَ عَدَمَ جَوَازِهِ ابْنُ رُشْدٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " الْمُخْتَصَرِ ": وَالْأَظْهَرُ خِلَافُهُ يَعْنِي: وَلَوِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرَرٍ يُبِيحُ الْمَيْتَةَ، كَمَا قَرَّرَهُ شُرَّاحُ " الْمُخْتَصَرِ ". الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَوْرَاقِ الْمُتَعَامَلِ بِهَا هَلْ يَمْنَعُ الرِّبَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّقْدَيْنِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا سَنَدٌ، وَأَنَّ الْمَبِيعَ الْفِضَّةُ الَّتِي هِيَ سَنَدٌ بِهَا فَيُمْنَعُ بَيْعُهَا وَلَوْ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَيُمْنَعُ بَيْعُهَا بِالذَّهَبِ أَيْضًا وَلَوْ يَدًا بِيَدٍ ; لِأَنَّهُ صَرْفُ ذَهَبٍ مَوْجُودٍ أَوْ فِضَّةٍ مَوْجُودَةٍ بِالْفِضَّةِ غَائِبَةً، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ سَنَدٌ بِهَا فَقَطْ فَيُمْنَعُ فِيهَا لِعَدَمِ الْمُنَاجَزَةِ ; بِسَبَبِ عَدَمِ حُضُورِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ لَا يُمْنَعُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا بِمَثَابَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى أَنَّهَا كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، فَيَجُوزُ الْفَضْلُ وَالنَّسَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَمِمَّنْ أَفْتَى بِأَنَّهَا كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ عُلَيْشٌ الْمِصْرِيُّ صَاحِبُ " النَّوَازِلِ "، وَ " شَرْحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ "، وَتَبِعَهُ فِي فَتْوَاهُ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَأَنَّهَا سَنَدٌ بِفِضَّةٍ وَأَنَّ الْمَبِيعَ الْفِضَّةُ الَّتِي هِيَ سَنَدٌ بِهَا. وَمَنْ قَرَأَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهَا فَهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَوْ يَدًا بِيَدٍ ; لِعَدَمِ الْمُنَاجَزَةِ بِسَبَبِ غَيْبَةِ الْفِضَّةِ الْمَدْفُوعِ سَنَدُهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَمَوِّلَةً وَلَا مُنَفِّعَةً فِي ذَاتِهَا أَصْلًا. فَإِنَّ قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَوْرَاقِ وَبَيْنَ فُلُوسِ الْحَدِيدِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ مُتَمَوِّلًا فِي ذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ رَائِجٌ بِحَسْبِ مَا جَعَلَهُ لَهُ السُّلْطَانُ مِنَ الْمُعَامَلَةِ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا حَقَّقْنَا أَنِ الْفُلُوسَ الْحَدِيدِيَّةَ الْحَالِيَّةَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا أَصْلًا، وَأَنَّ حَقِيقَتَهَا سَنَدٌ بِفِضَّةٍ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ نَمْنَعَ فِيهَا الرِّبَا مَعَ النَّقْدِ، وَالنُّصُوصُ صَرِيحَةٌ فِي مَنْعِهِ بَيْنَ النَّقْدَيْنِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ إِجْمَاعٌ يَمْنَعُ إِجْرَاءَ النُّصُوصِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا بَلْ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ فُلُوسَ الْحَدِيدِ لَا تَجُوزُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ نَسِيئَةً، فَسَلَّمَ الدَّرَاهِمَ فِي الْفُلُوسِ كَالْعَكْسِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ. وَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رِبَا بَيْنَ النَّقْدَيْنِ وَبَيْنَ فُلُوسِ الْحَدِيدِ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيدَ الَّذِي مِنْهُ تِلْكَ الْفُلُوسُ فِيهِ مَنَافِعُ الْحَدِيدِ الْمَعْرُوفَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [57 \ 25] ، فَلَوْ جُمِعَتْ تِلْكَ الْفُلُوسُ وَجُعِلَتْ فِي النَّارِ لَعُمِلَ مِنْهَا مَا يُعْمَلُ مِنَ الْحَدِيدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَفُلُوسِنَا الْحَالِيَةَ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا أَصْلًا، لِمَا قَالُوا بِالْجَوَازِ ; لِأَنَّ مَا هُوَ سَنَدٌ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَبِيعَ فِيهِ مَا هُوَ سَنَدٌ بِهِ لَا نَفْسُ السَّنَدِ. وَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ فِي بَيْعِ الصِّكَاكِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي " الصَّحِيحِ " وَغَيْرِهِ أَنَّهُ الرِّزْقُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا لَا نَفْسَ الصِّكَاكِ الَّتِي هِيَ الْأَوْرَاقُ الَّتِي هِيَ سَنَدٌ بِالْأَرْزَاقِ. الثَّانِي: أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْفُلُوسَ الْحَدِيدِيَّةَ لَا يَتَعَامَلُ بِهَا بِالْعُرْفِ الْجَارِي قَدِيمًا وَحَدِيثًا، إِلَّا فِي الْمُحَقَّرَاتِ فَلَا يُشْتَرَى بِهَا شَيْءٌ لَهُ بَالٌ بِخِلَافِ الْأَوْرَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَقْرَبُ لِلْفِضَّةِ مِنَ الْفُلُوسِ. الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمَلٌ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكُ "، وَيَقُولُ: " فَمَنْ تَرَكَ الشُّبَهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ "، وَيَقُولُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 " وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ " الْحَدِيثَ. وَقَالَ النَّاظِمُ وَذُو احْتِيَاطٍ فِي أُمُورِ الدِّينِ ... مَنْ فَرَّ مِنْ شَكٍّ إِلَى يَقِينِ وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ تَرْكَ مُبَاحٍ أَهْوَنُ مِنِ ارْتِكَابِ حَرَامٍ، وَلَا سِيَّمَا تَحْرِيمُ الرِّبَا الَّذِي صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ مُرْتَكِبَهُ مُحَارِبُ اللَّهِ، وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعْنُهُ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْعِهِ، كَمَا إِذَا كَانَ الْبَيْعُ ظَاهِرُهُ الْحِلْيَةُ، وَلَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِهِ التَّوَصُّلُ إِلَى الرِّبَا الْحَرَامِ عَنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ الْمُبَاحَةِ فِي الظَّاهِرِ كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ اشْتَرَى تِلْكَ السِّلْعَةَ بِعَيْنِهَا بِثَمَنٍ أَقَلَّ مِنَ الْأَوَّلِ نَقْدًا، أَوْ لِأَقْرَبَ مِنَ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِأَكْثَرَ لِأَبْعَدَ فَظَاهِرُ الْعَقْدَيْنِ الْإِبَاحَةُ ; لِأَنَّهُ بَيْعُ سِلْعَةٍ بِدَرَاهِمَ إِلَى أَجَلٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دَفْعَ دَرَاهِمَ وَأَخْذَ دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَجْلِ أَنِ السِّلْعَةَ الْخَارِجَةَ مِنَ الْيَدِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهَا مُلْغَاةٌ، فَيَئُولُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ دَفْعُ دَرَاهِمَ وَأَخْذُ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَجَلٍ، وَهُوَ عَيْنُ الرِّبَا الْحَرَامِ وَمِثْلُ هَذَا مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ كَمَا فِي " الِاسْتِذْكَارِ "، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ. وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَقَالَتْ: أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ لَمْ يَتُبْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ مُخَالِفٌ لِعَائِشَةَ، وَإِذَا اخْتَلَفَ صَحَابِيَّانِ فِي شَيْءٍ رَجَّحْنَا مِنْهُمَا مَنْ يُوَافِقُهُ الْقِيَاسُ، وَالْقِيَاسُ هُنَا مُوَافِقٌ لِزَيْدٍ ; لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: لَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا عَنْ عَائِشَةَ فَإِنَّهَا إِنَّمَا عَابَتِ التَّأْجِيلَ بِالْعَطَاءِ ; لِأَنَّهُ أَجَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالْبَيْعُ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ. وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ عَنْ عَائِشَةَ، وَبِأَنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ ذَكَرَ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كُنْ يَشْتَرِينَ إِلَى الْعَطَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَبِأَنَّ عَائِشَةَ لَا تَدَّعِي بُطْلَانَ الْجِهَادِ بِمُخَالَفَةِ رَأْيِهَا، وَإِنَّمَا تَدَّعِيهِ بِأَمْرٍ عَلِمَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْبَيْعُ الَّذِي ذَكَرْنَا تَحْرِيمَهُ هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِبَيْعِ الْعَيِّنَةِ وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ بُيُوعَ الْآجَالِ، وَقَدْ نَظَّمْتُ ضَابِطَهُ فِي نَظْمِي الطَّوِيلِ فِي فُرُوعِ مَالِكٍ بِقَوْلِي: [الرَّجَزِ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 بُيُوعُ الْآجَالِ إِذَا كَانَ الْأَجَلُ ... أَوْ ثَمَنٌ كَأَخَوَيْهِمَا تَحِلُّ وَإِنْ يَكُ الثَّمَنُ غَيْرَ الْأَوَّلِ ... وَخَالَفَ الْأَجَلَ وَقْتَ الْأَجَلِ فَانْظُرْ إِلَى السَّابِقِ بِالْإِعْطَاءِ ... هَلْ عَادَ لَهُ أَكْثَرُ أَوْ عَادَ أَقَلُّ فَإِنْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَهُ ... فَإِنَّ ذَاكَ سَلَفٌ بِمَنْفَعَةِ وَإِنْ يَكُنْ كَشَيْئِهِ أَوْ قَلَّا ... عَنْ شَيْئِهِ الْمَدْفُوعِ قَبْلُ حَلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ الْآيَةَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ تَعَالَى وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْإِرْبَاءَ مُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [30 \ 39] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَاجِبَةٌ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا إِيجَابٍ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ الْآيَةَ ; لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجِبُ إِجْمَاعًا وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْكِتَابَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا فِي الْآيَةِ فَلَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ وَاجِبَةً لَكَانَ بَدَلُهَا وَاجِبًا وَصَرَّحَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ الْآيَةَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ لِلنَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ ; لِأَنَّ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يَهَبَهُ وَيَتْرُكَهُ إِجْمَاعًا، فَالنَّدْبُ إِلَى الْكِتَابَةِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ الْحَيْطَةِ لِلنَّاسِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَشْهَدْتَ فَحَزْمٌ، وَإِنِ ائْتَمَنْتَ فَفِي حِلٍّ وَسَعَةِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَمِنَ نَاسِخٌ لِأَمْرِهِ بِالْكَتْبِ، وَحَكَى نَحْوَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَذَهَبَ الرَّبِيعُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ثُمَّ خَفَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَمَسَّكَ جَمَاعَةٌ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ كَتْبَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ فَرْضٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا ; لِئَلَّا يَقَعَ فِيهِ نِسْيَانٌ أَوْ جُحُودٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَنْ أَدَانَ فَلْيَكْتُبْ وَمَنْ بَاعَ فَلْيُشْهِدْ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ وَسَيَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا. تَنْبِيهٌ: أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ الْآيَةَ. أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلَّا فِي السَّفَرِ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَدَاوُدُ وَالتَّحْقِيقُ جَوَازُهُ فِي الْحَضَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّهَا دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهَنَ دِرْعًا عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ. وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَدَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ، لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الْكَاتِبَ لَا يَتَعَذَّرُ فِي الْحَضَرِ وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ غَالِبًا فِي السَّفَرِ، وَالْجَرْيُ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ، ظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبُ أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَاعَ أَنْ يُشْهِدَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَانْتَصَرَ لَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ غَايَةَ الِانْتِصَارِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمُبَايَعَةِ وَكِتَابِ الدَّيْنِ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَا وَاجِبٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: إِنَّ هَذَا قَوْلُ الْكَافَّةِ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ إِلَّا الضَّحَّاكُ قَالَ: وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ قَالَ: وَنُسْخَةُ كِتَابِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَا دَاءَ، وَلَا غَائِلَةَ، وَلَا خِبْثَةَ، بَيْعُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ» . وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ هَذَا مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا الْوُجُوبَ عَنْ غَيْرِ الضَّحَّاكِ وَحَدِيثُ الْعَدَّاءِ هَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ، وَهُوَ الْقَائِلُ: قَاتَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَمْ يُظْهِرْنَا اللَّهُ وَلَمْ يَنْصُرْنَا. ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَذَكَرَ حَدِيثَهُ هَذَا. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ عَنِ الْغَائِلَةِ فَقَالَ: الْإِبَاقُ، وَالسَّرِقَةُ، وَالزِّنَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْخِبْثَةِ فَقَالَ: بَيْعُ أَهْلِ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوُجُوبُ فِي ذَلِكَ قَلَقٌ أَمَّا فِي الْوَثَائِقِ فَصَعْبٌ شَاقٌّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ التَّاجِرُ الْاسْتِئْلَافَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَادَةً فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَقَدْ يُسْتَحَى مِنَ الْعَالِمِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ الْمُوَقَّرِ فَلَا يُشْهِدُ عَلَيْهِ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الِائْتِمَانِ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ نَدْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَغْلَبِ مَا لَمْ يَقَعْ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ، وَالنَّحَّاسُ، وَمَكِّيٌّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ، مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَأَسْنَدَهُ النَّحَّاسُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَّهُ تَلَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ، قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ مَا قَبْلَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يَجِدْ كَاتِبًا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَيْ فَلَمْ يُطَالِبْهُ بِرَهْنٍ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ، قَالَ: وَلَوْ جَازَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ الْآيَةَ [4 \ 43] ، نَاسِخًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ الْآيَةَ [5 \ 6] ، وَلَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [4 \ 92] ، نَاسِخًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لَمْ يَتَبَيَّنْ بِآخِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 نُزُولِهِ عَنْ صَدْرِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ بَلْ وَرَدَا مَعًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مَعًا جَمِيعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مَنْسُوخَةٌ قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ، قَالَ: وَالْإِشْهَادُ إِنَّمَا جُعِلَ لِلطُّمَأْنِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِتَوْثِيقِ الدَّيْنِ طُرُقًا مِنْهَا الْكِتَابُ، وَمِنْهَا الرَّهْنُ، وَمِنْهَا الْإِشْهَادُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الرَّهْنَ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ النَّدْبِ لَا بِطْرِيقَ الْوُجُوبِ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُهُ فِي الْإِشْهَادِ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَبَرًّا وَبَحْرًا، وَسَهْلًا وَجَبَلًا مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ، مَعَ عِلْمِ النَّاسِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَادُ مَا تَرَكُوا النَّكِيرَ عَلَى تَارِكِهِ، قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ مِنْهُ مَا جَاءَ فِي صَرِيحِ السُّنَّةِ فِي تَرْكِ الْإِشْهَادِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَقْبَلْنَا فِي رَكْبٍ مِنَ الرَّبْذَةِ وَجَنُوبِ الرَّبْذَةِ حَتَّى نَزَلْنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ لَنَا، فَبَيْنَمَا نَحْنُ قُعُودٌ إِذْ أَتَانَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ الْقَوْمُ؟» فَقُلْنَا: مِنَ الرَّبْذَةِ وَجَنُوبِ الرَّبْذَةِ، قَالَ: وَمَعَنَا جَمَلٌ أَحْمَرُ، فَقَالَ: «تَبِيعُونِي جَمَلَكُمْ هَذَا؟» فَقُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «بِكُمْ؟» قُلْنَا: بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، قَالَ: فَمَا اسْتَوْضَعَنَا شَيْئًا، وَقَالَ: «قَدْ أَخَذْتُهُ» ، ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْسِ الْجَمَلِ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَتَوَارَى عَنَّا فَتَلَاوَمْنَا بَيْنَنَا وَقُلْنَا: أَعْطَيْتُمْ جَمَلَكُمْ مَنْ لَا تَعْرِفُونَهُ، فَقَالَتِ الظَّعِينَةُ: لَا تَلَاوَمُوا فَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ مَا كَانَ لِيَخْفِرَكُمْ مَا رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ أَشْبَهَ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ وَجْهِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشَاءُ أَتَانَا رَجُلٌ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْكُمْ وَإِنَّهُ أَمَرَكُمْ أَنَّ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا حَتَّى تَشْبَعُوا، وَتَكْتَالُوا، حَتَّى تَسْتَوْفُوا قَالَ: فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا، وَاكْتَلْنَا حَتَّى اسْتَوْفَيْنَا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ أَنِّي بِعْتُكَ، قَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ بِعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: «بِمَ تَشْهَدُ؟» قَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَفِيمَا نَقَلْنَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ وَالْكِتَابَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِمَا لَا فَرْضَانِ وَاجِبَانِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي: قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ، اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَلَكِنَّهُ بَيَنَّهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَقَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65] . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ أَجَابَ دُعَاءَهُمْ هَذَا أَوْ لَا؟ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْخَطَأِ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [33 \ 5] ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ أَجَابَهُ فِي النِّسْيَانِ بِقَوْلِهِ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَبْلَ الذِّكْرَى لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا أَنَّ آيَةَ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ مَكِّيَّةٌ ; وَآيَةَ: لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا، مَدَنِيَّةٌ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ بَيَانِ الْمَدَنِيِّ بِالْمَكِّيِّ كَعَكْسِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَعَمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ أَجَابَ دُعَاءَهُمْ هَذَا أَوْ لَا؟ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَجَابَ دُعَاءَهُمْ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [7 \ 157] ، وَقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] ، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ الْآيَةَ [2 \ 185] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ الْإِصْرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِقَوْلِهِ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [2 \ 54] ; لِأَنَّ اشْتِرَاطَ قَتْلِ النَّفْسِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْإِصْرِ، وَالْإِصْرُ الثِّقْلُ فِي التَّكْلِيفِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: [الْبَسِيطِ] يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمْ ... وَالْحَامِلُ الْإِصْرَ عَنْهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ آلِ عِمْرَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّفْسِيرُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ. يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ الْغَالِبَ هُوَ الْمُرَادُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْأَغْلَبِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ التَّأْوِيلِ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [12 \ 100] ، وَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ الْآيَةَ [10 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [10 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [4 \ 59] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَأَصْلُ التَّأْوِيلُ مِنْ آلَ الشَّيْءُ إِلَى كَذَا إِذَا صَارَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ يَئُولُ أَوْ لَا، وَأَوَّلْتُهُ أَنَا صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بَيْتَ الْأَعْشَى: [الطَّوِيلِ] عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا قَالَ: وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَأَوُّلُ حُبِّهَا مَصِيرُ حُبِّهَا وَمَرْجِعُهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ حُبَّهَا كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ فَآلَ مِنَ الصِّغَرِ إِلَى الْعِظَمِ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْبُتُ حَتَّى أَصْحَبَ فَصَارَ قَدِيمًا كَالسَّقْبِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى أَصْحَبَ، فَصَارَ كَبِيرًا مِثْلَ أُمِّهِ. قَالَ وَقَدْ يُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتَ: [الطَّوِيلِ] عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابِعُ حُبِّهَا ... تَوَالِي رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا اهـ. وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِيهِ، وَالرِّبْعِيُّ السَّقْبُ الَّذِي وُلِدَ فِي أَوَّلِ النِّتَاجِ، وَمَعْنَى أَصْحَبُ انْقَادَ لِكُلِّ مَنْ يَقُودُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الْمُتَقَارِبِ] وَلَسْتُ بِذِي رَثْيَةٍ إِمَّرٍ ... إِذَا قِيدَ مُسْتَكْرَهًا أَصْحَبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَالرَّثْيَةُ: وَجَعُ الْمَفَاصِلِ، وَالْإِمَّرُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا رَاءٌ، هُوَ الَّذِي يَأْتَمِرُ لِكُلِّ أَحَدٍ ; لِضَعْفِهِ. وَأَنْشَدَ بَيْتَ الْأَعْشَى الْمَذْكُورَ الْأَزْهَرِيُّ وَ «صَاحِبُ اللِّسَانِ» : [الطَّوِيلِ] وَلَكِنَّهَا كَانَتْ نَوَى أَجْنَبَيْهِ ... تَوَالِي رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا وَأَطَالَا فِي شَرْحِهِ وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِيهِ أَيْضًا. تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ يُطْلَقُ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا الْأَمْرُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَاهُ فِي الْقُرْآنِ. الثَّانِي: يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» . وَقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَا وَكَذَا أَيْ: تَفْسِيرُهُ وَبَيَانُهُ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ تَعْنِي يَمْتَثِلُهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: هُوَ مَعْنَاهُ الْمُتَعَارَفُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى مُحْتَمَلٍ مَرْجُوحٍ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ مَسْأَلَةِ التَّأْوِيلِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ: الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، وَالتَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ» ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، وَحَمْلُ الْجَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى خُصُوصِ الشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ حَمْلٌ لَهُ عَلَى مُحْتَمَلٍ مَرْجُوحٍ، إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ إِذَا صُرِّفَتِ الطُّرُقُ وَضُرِبَتِ الْحُدُودُ، فَلَا شُفْعَةَ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَمْرٍ يَظُنُّهُ الصَّارِفُ دَلِيلًا وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ، وَالتَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، وَمَثَّلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 لَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ بِحَمْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَرْأَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، بَاطِلٌ» عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَالصَّغِيرَةِ، وَحَمْلِهِ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمِسْكِينٍ فِي قَوْلِهِ: سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلَى الْمُدِّ، فَأَجَازَ إِعْطَاءَ سِتِّينَ مُدًّا لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لَا لِدَلِيلٍ أَصْلًا، وَهَذَا يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ لَعِبًا، كَقَوْلِ بَعْضِ الشِّيعَةِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [2 \ 67] ، يَعْنِي عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى حَدِّ التَّأْوِيلِ، وَبَيَانِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ مُعَرِّفًا لِلتَّأْوِيلِ: [الرَّجَزِ] حَمْلٌ لِظَاهِرٍ عَلَى الْمَرْجُوحِ ... وَاقْسِمْهُ لِلْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ صَحِيحُهُ وَهُوَ الْقَرِيبُ مَا حَمَلَ ... مَعَ قُوَّةِ الدَّلِيلِ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ وَغَيْرُهُ الْفَاسِدُ وَالْبَعِيدُ ... وَمَا خَلَا فَلَعِبًا يُفِيدُ إِلَى أَنْ قَالَ: [الرَّجَزِ] فَجَعْلُ مِسْكِينٍ بِمَعْنَى الْمُدِّ ... عَلَيْهِ لَائِحُ سِمَاتِ الْبُعْدِ كَحَمْلِ امَرْأَةٍ عَلَى الصَّغِيرَةِ ... وَمَا يُنَافِي الْحُرَّةَ الْكَبِيرَةَ وَحَمْلُ مَا وَرَدَ فِي الصِّيَامِ ... عَلَى الْقَضَاءِ مَعَ الِالْتِزَامِ أَمَّا التَّأْوِيلُ فِي اصْطِلَاحِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ الْخَاصِّ بِهِ فِي «مُخْتَصَرِهِ» ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اخْتِلَافِ شُرُوحِ «الْمُدَوَّنَةِ» فِي الْمُرَادِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَشَارَ لَهُ فِي «الْمَرَاقِي» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَالْخَلْفُ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ صَيَّرَ ... إِيَّاهُ تَأْوِيلًا لَدَى الْمُخْتَصَرِ وَالْكِتَابُ فِي اصْطِلَاحِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ «الْمُدَوَّنَةُ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الْآيَةَ [3 \ 7] ، لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ مُحْتَمِلَةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ يَقُولُونَ، وَعَلَيْهِ فَالْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا تَامٌّ عَلَى لَفْظَةِ الْجَلَالَةِ وَمُحْتَمَلَةٌ لِأَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَعَلَيْهِ فَالْمُتَشَابِهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي رَوْضَةِ النَّاظِرِ مَا نَصُّهُ: وَلِأَنَّ فِي الْآيَةِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُتَفَرِّدٌ بِعِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ الصَّحِيحَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ عَطْفَ الرَّاسِخِينَ لَقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ بِالْوَاوِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ ذَمُّ مُبْتَغِي التَّأْوِيلِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِلرَّاسِخِينَ مَعْلُومًا لَكَانَ مُبْتَغِيهِ مَمْدُوحًا لَا مَذْمُومًا ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ آمَنَّا بِهِ يَدُلُّ عَلَى نَوْعِ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِشَيْءٍ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مَعْنَاهُ سِيَّمَا إِذَا تَبِعُوهُ بِقَوْلِهِمْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فَذِكْرُهُمْ رَبَّهُمْ هَاهُنَا يُعْطِي الثِّقَةَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لِأَمْرِهِ، وَأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ الْمُحْكَمُ ; وَلِأَنَّ لَفْظَةَ أَمَّا لِتَفْصِيلِ الْجُمَلِ فَذِكْرُهُ لَهَا فِي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ مَعَ وَصْفِهِ إِيَّاهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ يَدُلُّ عَلَى قِسْمٍ آخَرَ يُخَالِفُهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُمُ الرَّاسِخُونَ. وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ لَمْ يُخَالِفُوا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ فِي ابْتِغَاءِ التَّأْوِيلِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ التَّأْوِيلِ لِأَحَدٍ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. اهـ مِنْ «الرَّوْضَةِ» بِلَفْظِهِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ، دَلَالَةُ الِاسْتِقْرَاءِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا نَفَى عَنِ الْخَلْقِ شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ شَرِيكٌ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [27 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [7 \ 187] ، وَقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [28 \ 88] ، فَالْمُطَابِقُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: لَوْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِلنَّسَقِ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فَائِدَةٌ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَامٌّ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِلْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو نَهِيكٍ الْأَسَدِيُّ: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنَّهَا مَقْطُوعَةٌ وَمَا انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ إِلَّا إِلَى قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ مَرْوِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَأَطَالَ فِيهِ ابْنُ فُورَكٍ وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي احْتِمَالِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْعَطْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [مُرَفَّلِ الْكَامِلِ] الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَالْبَرْقُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ يَلْمَعُ كَالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيحِ، وَيَلْمَعُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي أَيْ: لَامِعًا. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ يَمْدَحُهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ جُهَّالٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: يُجَابُ عَنْ كَلَامِ شَيْخِ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ رُسُوخَهُمْ فِي الْعِلْمِ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَنْتَهُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ وَيَقُولُونَ فِيمَا لَمْ يَقِفُوا عَلَى عِلْمِ حَقِيقَتِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا بِخِلَافِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «الْكَشَّافِ» . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: هِيَ عَاطِفَةٌ جَعَلُوا مَعْنَى التَّأْوِيلِ التَّفْسِيرَ وَفَهْمَ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» ، أَيِ: التَّفْسِيرَ وَفَهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالرَّاسِخُونَ يَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: هِيَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ جَعَلُوا مَعْنَى التَّأْوِيلَ حَقِيقَةَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ وَلَكِنَّهُ يُشْكَلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: تَفْسِيرُ: لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي فَهْمِهِ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَاتِهَا، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ لَا مَا تَئُولُ إِلَيْهِ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ هَذَا يُنَافِي التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ. الثَّانِيَ: أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ السُّورِ لَا يَعْلَمُ الْمُرَادَ بِهَا إِلَّا اللَّهُ إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. فَالْجَزْمُ بِأَنَّ مَعْنَاهَا كَذَا عَلَى التَّعْيِينِ تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ فَإِنَّ إِعْرَابَ جُمْلَةِ «يَقُولُونَ» مُسْتَشْكَلٌ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتِ: الْأُولَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ الرَّاسِخُونَ، دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ. وَالْمَعْرُوفُ إِتْيَانُ الْحَالِ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعًا كَقَوْلِكِ: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو رَاكِبَيْنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ [14 \ 33] . وَهَذَا الْإِشْكَالُ سَاقِطٌ ; لِجَوَازِ إِتْيَانِ الْحَالِ مِنَ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] ، فَقَوْلُهُ صَفًّا حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ الْمَلَكُ، دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَفْظَةُ: رَبُّكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا الْآيَةَ [59 \ 10] ، فَجُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ جَاءُوا، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [59 \ 8] ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [59 \ 9] ، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِهَاتِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيِّ قَالَ عَنْهُ: وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَقَالَ مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 آمَنَّا، وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ يَقُولُونَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضْمِرُ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولَ مَعًا، وَلَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ فَلَا يَكُونُ حَالٌ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا يَعْنِي: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُصْلِحُ حَالًا لَهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَنِيهِ أَبُو عُمَرَ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: [الرَّجَزِ] أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا لُكَالِكًا ... يُقَصِّرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكًا أَيْ يَقْصُرُ مَاشِيًا وَهَذَا الْإِشْكَالُ أَيْضًا سَاقِطٌ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ مُضْمَرٍ ; لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ يَعْلَمُ وَلَكِنَّ الْحَالَ مِنَ الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَهُوَ وَاضِحٌ. الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَوَصْفٌ لِصَاحِبِهَا، فَيُشْكَلُ تَقْيِيدُ هَذَا الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ يَعْلَمُ بِهَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هِيَ يَقُولُونَ آمَنَّا ; إِذْ لَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ عِلْمِ الرَّاسِخِينَ بِتَأْوِيلِهِ بِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ ; لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُمْ فِي حَالِ عَدَمِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ قَوِيٌّ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَنْعِ الْحَالِيَّةِ فِي جُمْلَةٍ يَقُولُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَطْفِ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتْ جُمْلَةُ يَقُولُونَ: لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ حَالًا لِمَا ذَكَرْنَا فَمَا وَجْهُ إِعْرَابِهَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ. الْجَوَابُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ وَالْعَطْفُ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، أَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ جَوَازُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِهِ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ الْآيَةَ [88 \ 8] ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا شَكٍّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [88] ، بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ وَيَدُلُّ لَهُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْقِيَامَةِ» : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ الْآيَةَ [22، 24] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي «عَبَسَ» : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ الْآيَةَ [40 \ 38] . وَجَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الْآيَةَ [9 \ 92] ، قَالَ: يَعْنِي وَقُلْتَ: بِالْعَطْفِ بِوَاوٍ مَحْذُوفَةٍ وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَاتٍ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ فِي [الْمُغْنِي] ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [3 \ 19] ، عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ إِنْ قَالَ: هُوَ مَعْطُوفٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ عَلَى قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [3 \ 18] ، أَيْ: وَشَهِدَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَاتٍ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْمُغْنِي» أَيْضًا وَمِنْهُ حَدِيثُ: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ» يَعْنِي وَمِنْ دِرْهَمِهِ وَمِنْ صَاعٍ إِلَخْ. حَكَاهُ الْأَشْمُونِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَمِنْ شَوَاهِدِ حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْخَفِيفِ] كَيْفَ أَصْبَحْتَ كَيْفَ أَمْسَيْتَ مِمَّا ... يَغْرِسُ الْوُدَّ فِي فُؤَادِ الْكَرِيمِ يَعْنِي: وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: [الْبَسِيطِ] إِنَّ امْرَأً رَهْطُهُ بِالشَّامِ مَنْزِلُهُ بِرَمْلِ يَبْرِينَ جَارٌ شَدَّ مَا اغْتَرَبَا أَيْ: وَمَنْزِلُهُ بِرَمْلٍ يَبْرِينَ. وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لَا مَعْطُوفَةٌ وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ، وَمِمَّنْ أَجَازَ الْعَطْفَ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ عُصْفُورٍ خِلَافًا لِابْنِ جِنِّيِّ وَالسُّهَيْلِيِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ كَحَقِيقَةِ الرُّوحِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الْآيَةَ [17 \ 85] ، وَكَمَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي نَصَّ عَلَى أَنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ الْآيَةَ [6 \ 59] . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الْآيَةَ [31] . وَكَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَكَنَعِيمِ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ [32 \ 17] ، وَفِيهِ أَشْيَاءُ يَعْلَمُهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [15 \ 94] ، وَقَوْلِهِ: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 6] ، مَعَ قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [55 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [28 \ 78] ، وَكَقَوْلِهِ: وَرُوحٌ مِنْهُ [4 \ 171] ، وَالرُّسُوخُ وَالثُّبُوتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلِ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تُغَيَّرَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ شَيْئًا، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ أَيْ: حَطَبُهَا الَّذِي تَتَّقِدُ فِيهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ نَفْيُهُ لِذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِدَعْوَاهُمْ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ تَنْفَعُهُمْ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ مَا أَعْطَاهُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ كَالدُّنْيَا يَسْتَحِقُّونَ فِيهَا ذَلِكَ أَيْضًا فَكَذَّبَهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 35] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا [19 \ 77] ، وَقَالَ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ كَمَا أُوتِيتُهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [41 \ 50] ، أَيْ: بِدَلِيلٍ مَا أَعْطَانِي فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] ، قِيَاسًا مِنْهُ لِلْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ الْآيَةَ [3 \ 116] ، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 56] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [34 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178] ، وَقَوْلِهِ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 44، 45] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَقُودَ النَّارِ الْمَذْكُورَ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [3 \ 116] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ذُنُوبُهُمُ الَّتِي أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِهَا. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِنْهُمْ قَوْمَ نُوحٍ، وَقَوْمَ هُودٍ، وَقَوْمَ صَالِحٍ، وَقَوْمَ لُوطٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وَقَوْمَ شُعَيْبٍ ; وَأَنَّ ذُنُوبَهُمُ الَّتِي أَخَذَهُمْ بِهَا هِيَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، كَعَقْرِ ثَمُودَ لِلنَّاقَةِ، وَكَلِوَاطِ قَوْمِ لُوطٍ، وَكَتَطْفِيفِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لِلْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ فِي نُوحٍ وَقَوْمِهِ: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [29 \ 14] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ هُودٍ: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [51 \ 41] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ صَالِحٍ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [11 \ 67] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا الْآيَةَ [15] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ شُعَيْبٍ: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [26 \ 189] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ عَلَى صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ لَمَا غَلَبَتِ الْفِئَةُ الْقَلِيلَةُ الضَّعِيفَةُ الْمُتَمَسِّكَةُ بِهِ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي لَمْ تَتَمَسَّكْ بِهِ. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ بَيِّنَةٌ أَيْ: لَا لَبْسَ فِي الْحَقِّ مَعَهَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [8 \ 42] . وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ فُرْقَانٌ فَارِقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ الْآيَةَ [8 \ 41] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَمْ يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْأَصْنَافِ. وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهَا ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ هِيَ الْجَمَلُ، وَالنَّاقَةُ، وَالثَّوْرُ، وَالْبَقَرَةُ، وَالْكَبْشُ، وَالنَّعْجَةُ، وَالتَّيْسُ، وَالْعَنْزُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [6 \ 142] ، ثُمَّ بَيَّنَ الْأَنْعَامَ بِقَوْلِهِ: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [6 \ 143] ، يَعْنِي الْكَبْشَ وَالنَّعْجَةَ: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، يَعْنِي: التَّيْسَ وَالْعَنْزَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ [6 \ 144] يَعْنِي: الْجَمَلَ وَالنَّاقَةَ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ، يَعْنِي: الثَّوْرَ وَالْبَقَرَةَ وَهَذِهِ الثَّمَانِيَةُ هِيَ الْمُرَادَّةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39 \ 6] ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الْآيَةَ [42 \ 11] . تَنْبِيهٌ: رُبَّمَا أَطْلَقَتِ الْعَرَبُ لَفْظَ النَّعَمِ عَلَى خُصُوصِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ» يَعْنِي: الْإِبِلَ. وَقَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الْوَافِرِ] وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ أَيْ: إِبِلٌ وَشَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ مُوجِبٌ لِمَحَبَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ الْمُتَّبِعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ عَيْنُ طَاعَتِهِ تَعَالَى، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 80] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] . تَنْبِيهٌ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَلَامَةَ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ اتِّبَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي يُخَالِفُهُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُحِبُّهُ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ ; إِذْ لَوْ كَانَ مُحِبًّا لَهُ لَأَطَاعَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتَجْلِبُ الطَّاعَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْكَامِلِ] لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: [الْمُتَقَارِبِ] وَمَنْ لَوْ نَهَانِي مِنْ حُبِّهِ ... عَنِ الْمَاءِ عَطْشَانَ لَمْ أَشْرَبِ وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: [الْبَسِيطِ] قَالَتْ: وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ حَالِ عَاشِقِهَا ... بِاللَّهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا تَزِدِ فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ رَهْنَ الْمَوْتِ مِنْ ظَمَأٍ ... وَقُلْتِ: قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَدْرَ الَّذِي بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» أَنَّهُ بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [19 \ 8] ، وَالْعِتِيُّ: الْيُبْسُ وَالْقُحُولُ فِي الْمَفَاصِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَالْعِظَامِ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» : وَكُلُّ مُتَنَاهٍ إِلَى غَايَتِهِ فِي كِبْرٍ أَوْ فَسَادٍ أَوْ كُفْرٍ فَهُوَ عَاتٍ، وَعَاسٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: امْرَأَتِي عَاقِرًا [19 \ 8] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ كَانَتْ كَذَلِكَ أَيَّامَ شَبَابِهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» أَنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ قَبْلَ كِبَرِهَا بِقَوْلِهِ عَنْهُ: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هَلِ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ بُكْمٌ طَرَأَ لَهُ، أَوْ آفَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ لَا مَانِعَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا عِلَّةَ لَهُ. وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ وَأَنَّ انْتِفَاءَ التَّكَلُّمِ عَنْهُ لَا لِبُكْمٍ، وَلَا مَرَضٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [19 \ 10] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ سَوِيًّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تُكَلِّمَ مُفِيدٌ لِكَوْنِ انْتِفَاءِ التَّكَلُّمِ بِطَرِيقِ الْإِعْجَازِ وَخَرْقِ الْعَادَةِ، لَا لِاعْتِقَالِ اللِّسَانِ بِمَرَضٍ، أَيْ: يَتَعَذَّرُ عَلَيْكَ تَكْلِيمُهُمْ وَلَا تُطِيقُهُ، فِي حَالِ كَوْنِكَ سَوِيَّ الْخَلْقِ سَلِيمَ الْجَوَارِحِ، مَا بِكَ شَائِبَةٌ بُكْمٌ وَلَا خَرَسٌ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [3 \ 41] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَوِيًّا عَائِدٌ إِلَى اللَّيَالِي. أَيْ: كَامِلَاتٍ مُسْتَوِيَاتٍ، فَيَكُونُ صِفَةَ الثَّلَاثِ، وَعَلَيْهِ فَلَا بَيَانَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِآيَةِ «آلِ عِمْرَانَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي أُطْلِقَتْ عَلَى عِيسَى ; لِأَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ فِي وُجُودِهِ مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ وَإِرَادَةِ مُسَبِّبِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا لَفْظَةُ كُنْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ [3 \ 59] ، وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ بِشَارَةُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا بِأَنَّهَا سَتَلِدُهُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ فِي الْمَهْدِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» بِقَوْلِهِ: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [19 \ 29 \ 33] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قِصَّةِ حَمْلِهَا بِعِيسَى وَبَسْطِهَا مُبَيَّنَةً فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا الْآيَةَ [16 \ 17] . إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ وَبَيَّنَ النَّفْخَ فِيهَا فِي سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» وَ «الْأَنْبِيَاءِ» ، مُعَبِّرًا فِي التَّحْرِيمِ بِالنَّفْخِ فِي فَرْجِهَا، وَفِي «الْأَنْبِيَاءِ» بِالنَّفْخِ فِيهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ الْحَوَارِيِّينَ مَعَ عِيسَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الصَّفِّ» أَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ قِصَّتِهِمْ هِيَ أَنْ تَتَأَسَّى بِهِمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نُصْرَةِ اللَّهِ وَدِينِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ [14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَكْرَ الْيَهُودِ بِعِيسَى، وَلَا مَكْرَ اللَّهِ بِالْيَهُودِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ مَكْرَهُمْ بِهِ مُحَاوَلَتُهُمْ قَتْلَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [4 \ 157، 158] ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَكْرَهُ بِهِمْ إِلْقَاؤُهُ الشَّبَهُ عَلَى غَيْرِ عِيسَى وَإِنْجَاؤُهُ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [4 \ 157] ، وَقَوْلُهُ: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْآيَةَ [157 \ 158] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ مُنْجِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا إِطْلَاقُ الْوَفَاةِ عَلَى النَّوْمِ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الْآيَةَ [6 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [39 \ 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا وَجْهُ مَحَاجَّتِهِمْ فِي إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ مَحَاجَّتَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ هِيَ قَوْلُ الْيَهُودِ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، وَالنَّصَارَى: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [2 \ 140] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا الْآيَةَ [3 \ 66 \ 67] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَعْنِي إِذَا أَخَّرُوا التَّوْبَةَ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ فَتَابُوا حِينَئِذٍ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [4 \ 18] . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لَنْ يُوَفَّقُوا لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تُقْبَلَ مِنْهُمْ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [4 \ 137] ، فَعَدَمُ غُفْرَانِهِ لَهُمْ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِمُ السَّبِيلَ الَّذِي يَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [4 \ 168، 169] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا الْآيَةَ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ. وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَوْ زِيدَ بِمِثْلِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [5 \ 36] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِدَاءٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْهُمْ بَتَاتًا كَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [57 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا [6 \ 70] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ [2 \ 123] ، وَالْعَدْلُ: الْفِدَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ كُفْرَ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وَقَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [39 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [64 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [10 \ 68] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ الْخَلْقَ وَيَنْهَاهُمْ لَا لِأَنَّهُ تَضُرُّهُ مَعْصِيَتُهُمْ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُمْ، بَلْ نَفْعُ طَاعَتِهِمْ لَهُمْ وَضَرَرُ مَعْصِيَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [17 \ 7] ، وَقَالَ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [41 \ 46] ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] . وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» الْحَدِيثَ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ كَافِرٌ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ. وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ أَوْجُهٌ لِلْعُلَمَاءِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ أَيْ: وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، فَقَدْ كَفَرَ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّهُمَا قَالَا لَمَّا نَزَلَتْ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [3 \ 85] ، قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا، وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا» . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ [3 \ 97] ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ الْبَالِغِ فِي الزَّجْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَقَوْلِهِ لِلْمِقْدَادِ الثَّابِتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فِي الْحَرْبِ: «لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ» . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فَلَا يَضُرُّهُ، مَاتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا ; وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» [3 \ 97] . رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ هِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، وَهِلَالٌ هَذَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا الْحَارِثُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي «الْكَافِي الشَّافِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ» : فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَقَالَ: غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ عَنْ عَلِيٍّ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْعَقِيلِيُّ فِي تَرْجَمَةِ هِلَالٍ، وَنَقْلًا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» : تَفَرَّدَ بِهِ هِلَالٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ بِلَفْظِ: «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنِ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، فَمَاتَ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، أَوْ إِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» ، أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْهُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرْ أَبَا أُمَامَةَ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي «الْمَوْضُوعَاتِ» مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَدِيٍّ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَوْرَدَهُ فِي «الْكَامِلِ» فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْمَهْزُومِ يَزِيدَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَنَقَلَ عَنِ الْقَلَّاسِ أَنَّهُ كَذَّبَ أَبَا الْمَهْزُومِ، وَهَذَا مِنْ غَلَطِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي تَصَرُّفِهِ ; لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ لَيْسَ فِيهَا مَنِ اتُّهِمَ بِالْكَذِبِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَسَوَاءٌ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ الْآيَةَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنْهَا فَقَوْلُهُ: حَقَّ تُقَاتِهِ، أَيْ: بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا بَلَغَتْهُ مُعَادَاتُهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مُعَادَاتَهُمْ بَلَغَتْ مِنَ الشِّدَّةِ أَمْرًا عَظِيمًا حَتَّى لَوْ أَنْفَقَ مَا فِي الْأَرْضِ كُلِّهِ ; لِإِزَالَتِهَا وَلِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [8 \ 62 \ 63] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ بَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ اسْوِدَادِ الْوُجُوهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ الْآيَةَ [3 \ 106] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [39 \ 60] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ اكْتِسَابَ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [10 \ 27] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَالْفُجُورَ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [80 \ 40 \ 42] . وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ شِدَّةَ تَشْوِيهِ وُجُوهِهِمْ بِزُرْقَةِ الْعُيُونِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [20 \ 102] ، وَأَقْبَحُ صُورَةً أَنْ تَكُونَ الْوُجُوهُ سُودًا وَالْعُيُونُ زُرْقًا، أَلَا تَرَى الشَّاعِرَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَوِّرَ عِلَلَ الْبَخِيلِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَأَشْوَهِهَا اقْتَرَحَ لَهَا زُرْقَةَ الْعُيُونِ، وَاسْوِدَادَ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، ذَكَرَ هُنَا مِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُؤْمِنَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهَا قَائِمَةٌ، أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهَا تَتْلُو آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَتُصَلِي، وَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا تَتْلُو الْكِتَابَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [2 \ 121] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَاشِعُونَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [3 \ 199] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [13 \ 36] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [6 \ 114] ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ خَرُّوا لِأَذْقَانِهِمْ سُجَّدًا، وَسَبَّحُوا رَبَّهُمْ، وَبَكَوْا، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [17 \ 107 \ 109] . وَقَالَ فِي بُكَائِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ أَيْضًا: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [5 \ 83] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، تُؤْتَى أَجْرُهَا مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [28 \ 51 \ 54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ الْآيَةَ، يَعْنِي: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [42 \ 15] ، وَقَوْلُهُ: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ الْآيَةَ [2 \ 285] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ يَعْنِي: عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [57 \ 21] ، وَآيَةُ «آلِ عِمْرَانَ» هَذِهِ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاءِ فِي آيَةِ «الْحَدِيدِ» جِنْسُهَا الصَّادِقُ بِجَمِيعِ السَّمَاوَاتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، الْمُرَادُ بِالْقَرْحِ الَّذِي مَسَّ الْمُسْلِمِينَ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [3 \ 143] ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ الْآيَةَ [3 \ 140] ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [3 \ 152] ، وَقَوْلُهُ: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [3 \ 153] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالْقَرْحِ الَّذِي مَسَّ الْقَوْمَ الْمُشْرِكِينَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَعَلَيْهِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [8 \ 12 \ 13] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْقَرْحَيْنِ مَعًا بِقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [3 \ 165] ، فَالْمُرَادُ بِمُصِيبَةِ الْمُسْلِمِينَ الْقَرْحُ الَّذِي مَسَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْمُرَادُ بِمُصِيبَةِ الْكُفَّارِ بِمِثْلَيْهَا قَبْلَ الْقَرْحِ الَّذِي مَسَّهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَالْكُفَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُصِيبَةَ الَّتِي أَصَابَتِ الْمُشْرِكِينَ هِيَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ قَتْلٍ وَهَزِيمَةٍ، حَيْثُ قُتِلَ حَمَلَةُ اللِّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَبَقِيَ لِوَاؤُهُمْ سَاقِطًا حَتَّى رَفَعَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَسَّانُ: [الطَّوِيلِ] فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيَّةِ أَصْبَحُوا ... يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلَائِبِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ: فَالْقَرْحُ الَّذِي أَصَابَ الْقَوْمَ الْمُشْرِكِينَ يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ الْآيَةَ [3 \ 152] . وَمَعْنَى تَحُسُّونَهُمْ: تَقْتُلُونَهُمْ، وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ، فَمَعْنَى حَسَّهُ أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: [الْوَافِرِ] تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي أَجَمِ الْحَصِيدِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلِ] حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شَرَدُوا وَتَبَدَّدُوا وَقَوْلُ رُؤْبَةَ: [الرَّجَزِ] إِذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسًا ... تَأْكُلُ بَعْدَ الْأَخْضَرِ الْيَبِيسَا يَعْنِي بِالسَّنَةِ الْحَسُوسِ: السَّنَةَ الْمُجْدِبَةَ الَّتِي تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا احْتِمَالَانِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَنَذْكُرُهُمَا مَعًا، وَمَا يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْحَ الَّذِي أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مَا وَقَعَ بِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَلَكِنَّ التَّثْنِيَةَ فِي قَوْلِهِ: مِثْلَيْهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرْحَ الَّذِي أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مَا وَقَعَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أُحُدٍ أُصِيبُوا بِمِثْلَيْ مَا أُصِيبَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ: تَحُسُّونَهُمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِسَّ وَالِاسْتِئْصَالَ فِي خُصُوصِ الَّذِي قُتِلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَقَلُّ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: قَرْحٌ مِثْلُهُ [3 \ 140] ، وَبَيْنَ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا، فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ قَتْلُ سَبْعِينَ وَأَسْرُ سَبْعِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي مُقَابَلَةِ سَبْعِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَالْمُرَادُ بِإِفْرَادِ الْمِثْلِ: تَشْبِيهُ الْقَرْحِ بِالْقَرْحِ فِي مُطْلَقِ النِّكَايَةِ وَالْأَلَمِ، وَالْقِرَاءَتَانِ السَبْعِيَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ [3 \ 140] ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا فِي الْحَرْفَيْنِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فَهُمَا لُغَتَانِ كَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْقَرْحُ بِالْفَتْحِ الْجُرْحُ وَبِالضَّمِّ أَلَمُهُ اهـ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْقَرْحِ عَلَى الْجُرْحِ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ: [الطَّوِيلِ] قَعِيدُكَ أَلَا تُسْمِعِينِي مَلَامَةً ... وَلَا تَنْكَئِي قَرْحَ الْفُؤَادِ فَيَيْجَعَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، أَنْكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دُونَ أَنْ يُبْتَلَى بِشَدَائِدِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّابِرِ الْمُخْلِصِ فِي دِينِهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [2 \ 214] ، وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [9 \ 16] ، وَقَوْلُهُ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [29] . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ سِرٌّ لَطِيفٌ وَعِبْرَةٌ وَحِكْمَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَانَا آدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شَاءَ فِي أَتَمِّ نِعْمَةٍ وَأَكْمَلِ سُرُورٍ، وَأَرْغَدِ عَيْشٍ. كَمَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [20 \ 118 \ 119] ، وَلَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 تَنَاسَلْنَا فِيهَا لَكُنَّا فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ وَأَتَمِّ نِعْمَةٍ، وَلَكِنَّ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ احْتَالَ بِمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ عَلَى أَبَوَيْنَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ، إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ. وَحِينَئِذٍ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ جَنَّتَهُ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ بِالشَّدَائِدِ وَصُعُوبَةِ التَّكَالِيفِ. فَعَلَى الْعَاقِلِ مِنَّا مَعَاشِرَ بَنِي آدَمَ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْوَاقِعَ وَيَعْلَمَ أَنَّنَا فِي الْحَقِيقَةِ سَبْيٌ سَبَاهُ إِبْلِيسُ بِمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ مِنْ وَطَنِهِ الْكَرِيمِ إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ وَالْبَلَاءِ، فَيُجَاهِدُ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ وَنَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْوَطَنِ الْأَوَّلِ الْكَرِيمِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: [الطَّوِيلِ] وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوُّ فَهَلْ تُرَى ... نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنَسْلَمُ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ أَكْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْلِيسَ مَعَ آدَمَ لِتَكُونَ نُصْبَ أَعْيُنِنَا دَائِمًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ الْآيَةَ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ قُتِلَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ يَحْتَمِلُ نَائِبُ الْفَاعِلِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ لَفْظَةَ رِبِيُّونَ وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ أَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى النَّبِيِّ، وَعَلَيْهِ فَمَعَهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَرِبِيُّونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ اعْتِمَادُهُ عَلَى الظَّرْفِ قَبْلَهُ وَوَصْفُهُ بِمَا بَعْدَهُ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَالرَّابِطُ الضَّمِيرُ، وَسَوَّغَ إِتْيَانَ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ نَبِيٌّ وَصْفُهُ بِالْقَتْلِ ظُلْمًا، وَهَذَا هُوَ أَجْوَدُ الْأَعَارِيبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبِهَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي نَائِبِ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورِ يَظْهَرُ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِجْمَالًا. وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ النَّبِيَّ الْمُقَاتِلَ غَيْرُ مَغْلُوبٍ بَلْ هُوَ غَالِبٌ، كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [58 \ 21] ، وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [58 \ 20] ، وَقَالَ بَعْدَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. وَأَغْلَبُ مَعَانِي الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ الْغَلَبَةُ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ كَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [8 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ، وَقَوْلِهِ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [30 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [2 \ 249] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [3 \ 12] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَقْتُولَ لَيْسَ بِغَالِبٍ بَلْ هُوَ قِسْمٌ مُقَابِلٌ لِلْغَالِبِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [4 \ 74] ، فَاتَّضَحَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ وَاقِعًا عَلَى النَّبِيِّ الْمُقَاتِلِ ; لِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ وَقَضَى لَهُ فِي أَزَلِهِ أَنَّهُ غَالِبٌ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْمَقْتُولَ غَيْرُ غَالِبً. وَقَدْ حَقَّقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ غَلَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: غَلَبَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَغَلَبَةٌ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِخُصُوصِ الَّذِينَ أُمِرُوا مِنْهُمْ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا مَغْلُوبٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُغَالِبْ فِي شَيْءٍ وَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى، بِأَنَّهُ كَتَبَ إِنَّ رُسُلَهُ غَالِبُونَ شَامِلٌ لِغَلَبَتِهِمْ مَنْ غَالَبَهُمْ بِالسَّيْفِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَشَامِلٌ أَيْضًا لِغَلَبَتِهِمْ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، فَهُوَ مُبِينٌ أَنَّ نَصْرَ الرُّسُلِ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا الْآيَةَ [40 \ 51] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [37 \ 171 \ 172] ، أَنَّهُ نَصْرُ غَلَبَةٍ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ لِلَّذِينَ أُمِرُوا مِنْهُمْ بِالْجِهَادِ ; لِأَنَّ الْغَلَبَةَ الَّتِي بَيَّنَ أَنَّهَا كَتَبَهَا لَهُمْ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ النَّصْرِ ; لِأَنَّهَا نَصْرٌ خَاصٌّ، وَالْغَلَبَةُ لُغَةً الْقَهْرُ وَالنَّصْرُ لُغَةً إِعَانَةُ الْمَظْلُومِ، فَيَجِبُ بَيَانُ هَذَا الْأَعَمِّ بِذَلِكَ الْأَخَصِّ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ ابْنُ جَرِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ الْآيَةَ، مِنْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مَنْ قَتْلِ الرَّسُولِ الْمَأْمُورِ بِالْجِهَادِ، وَأَنَّ نَصْرَهُ الْمَنْصُوصَ فِي الْآيَةِ، حِينَئِذٍ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مَنْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ بِالَّذِينَ قَتَلُوا يَحْيَى وَزَكَرِيَّاءَ وَشَعْيَا مِنْ تَسْلِيطِ بُخْتُنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. الثَّانِي: حَمْلُ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا عَلَى خُصُوصِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خُرُوجٌ بِكِتَابِ اللَّهِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الْمَقْتُولَ مِنَ الْمُتَقَاتِلِينَ هُوَ الْمَنْصُورُ بَعِيدٌ جِدًّا، غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَحَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ حَمْلُ الرُّسُلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَحْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا أَيْضًا، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عُمُومِ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ كَثِيرَةٌ، لَا نِزَاعَ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي كِتَابِهِ عَلَى مُطْلَقِ النَّصْرِ الَّذِي هُوَ فِي اللُّغَةِ إِعَانَةُ الْمَظْلُومِ، بَلْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ الْمَذْكُورَ لِلرُّسُلِ نَصْرُ غَلَبَةٍ بِقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي الْآيَةَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَعْنَى الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَمَرَّ عَلَيْكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْمَقْتُولَ قِسْمًا مُقَابِلًا لِلْغَالِبِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، وَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ رُسُلَهُ لَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [6 \ 34] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [21] ، مِنْ كَلِمَاتِهِ الَّتِي صَرَّحَ بِأَنَّهَا لَا مُبَدِّلَ لَهَا وَقَدْ نَفَى جَلَّ وَعَلَا عَنِ الْمَنْصُورِ أَنْ يَكُونَ مَغْلُوبًا نَفْيًا بَاتًّا بِقَوْلِهِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ [3 \ 160] ، وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ الْآيَةَ [58 \ 21] أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ يَغْلِبُوا الرُّومَ وَفَارِسَ، كَمَا غَلَبُوا الْعَرَبَ زَاعِمًا أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ لَا يَغْلِبُهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَثْرَتِهِمْ، وَقُوَّتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَلَبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا غَلَبَةٌ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ ; لِأَنَّ صُورَةَ السَّبَبِ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهَا، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [58 \ 20] ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّنَا نَسْتَشْهِدُ لِلْبَيَانِ بِالْقِرَاءَةِ السَبْعِيَّةِ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، فَيَشْهَدُ لِلْبَيَانِ الَّذِي بَيَّنَّا بِهِ، أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ غَيْرَ السَّبْعَةِ قَرَأَ قُتِّلَ مَعَهُ رِبِيُّونَ بِالتَّشْدِيدِ ; لِأَنَّ التَّكْثِيرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَتْلَ وَاقِعٌ عَلَى الرِّبِيِّينَ. وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ رَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَابْنُ جِنِّيٍّ ; أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، وَمَالَ إِلَى ذَلِكَ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مُبَيِّنًا أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ التَّشْدِيدِ لَا يُنَافِي وُقُوعَ الْقَتْلِ عَلَى النَّبِيِّ ; لِأَنَّ: كَأَيِّنْ إِخْبَارٌ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ أَيْ: كَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّبِيِّ قُتِلَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورَ مُحْتَمِلٌ لِأَمْرَيْنِ، وَقَدِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رِبِيُّونَ لَا ضَمِيرُ النَّبِيِّ لِتَصْرِيحِهِ بِأَنَّ الرُّسُلَ غَالِبُونَ، وَالْمَقْتُولَ غَيْرُ غَالِبٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ دَلَّ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، عَلَى أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ النَّبِيِّ، لِتَصْرِيحِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِقَتْلِ بَعْضِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِ: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [2 \ 87] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الْآيَةَ [3 \ 183] ، فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّائِبَ رِبِيُّونَ، عَلَى مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ النَّائِبَ ضَمِيرُ النَّبِيِّ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ أَخَصُّ مِمَّا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ، وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ، وَلَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ دَلِيلَنَا فِي خُصُوصِ نَبِيٍّ أَمْرٌ بِالْمُغَالَبَةِ فِي شَيْءٍ، فَنَحْنُ نَجْزِمُ بِأَنَّهُ غَالِبٌ فِيهِ تَصْدِيقًا لِرَبِّنَا فِي قَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ الْمُغَالَبَةُ فِي الْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، أَمْ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَدَلِيلُكُمْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَتْلِ بَعْضِ الرُّسُلِ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي خُصُوصِ جِهَادٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ فِي غَيْرِ جِهَادٍ، كَمَا يُوَضِّحُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ قَتَلَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ كُلُّهَا فِي قَتْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَهُمْ، فِي غَيْرِ جِهَادٍ، وَمُقَاتَلَةٍ إِلَّا مَوْضِعَ النِّزَاعِ وَحْدَهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، تَتَّفِقُ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ اتِّفَاقًا وَاضِحًا، لَا لَبْسَ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فِي أَفْصَحِ لُغَاتِهِ، وَلَمْ تَتَصَادَمْ مِنْهُ آيَتَانِ، حَيْثُ حَمَلْنَا الرَّسُولَ الْمَقْتُولَ عَلَى الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالْجِهَادِ، فَقَتْلُهُ إِذَنْ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى مُعَارَضَةِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ لِلرُّسُلِ بِالْغَلَبَةِ، وَالْغَلَبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ مُغَالَبَةٍ، وَهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُغَالَبَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ أُمِرَ بِهَا فِي شَيْءٍ لَغَلَبَ فِيهِ، وَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ النَّبِيِّ لَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُقَاتِلِينَ قُتِلُوا فِي مَيْدَانِ الْحَرْبِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ وَكَأَيِّنْ الْمُمَيَّزَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ نَبِيٍّ، وَقَتْلُ الْأَعْدَاءِ هَذَا الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُقَاتِلِينَ فِي مَيْدَانِ الْحَرْبِ مُنَاقِضٌ مُنَاقِضَةً صَرِيحَةً لِقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وَقَدْ عَرَفْتَ مَعْنَى الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَرَفْتَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمَقْتُولَ غَيْرُ الْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مَا أُنْزِلَ لِيَضْرِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنْ أُنْزِلَ ; لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ رَسُولٌ فِي جِهَادٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَصَدْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْبَيَانَ بِالْقُرْآنِ، لَا بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَا لَمْ نَنْقُلْ أَقْوَالَ مَنْ رَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا. وَمَا رَجَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَوْنَ نَائِبِ الْفَاعِلِ ضَمِيرَ النَّبِيِّ مِنْ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الصَّائِحَ صَاحَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 [3 \ 144] ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [3 \ 146] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّبِيِّينَ لَمْ يُقْتَلُوا ; لِأَنَّهُمْ لَوْ قُتِلُوا لَمَا قَالَ عَنْهُمْ: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ الْآيَةَ، فَهُوَ كَلَامٌ كُلُّهُ سَاقِطٌ وَتَرْجِيحَاتٌ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا فَالتَّرْجِيحُ بِسَبَبِ النُّزُولِ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَوْ كَانَ يَقْتَضِي تَعْيِينَ ذِكْرِ قَتْلِ النَّبِيِّ لَكَانَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ قَاتَلَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ الْمُفَاعَلَةِ جَارِيَةً عَلَى خِلَافِ الْمُتَعَيِّنِ وَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى وَالتَّرْجِيحِ بِقَوْلِهِ: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِهَا لَا بَدَلَ عَلَى وُقُوعِ نِسْبَةٍ أَصْلًا لَا إِيجَابًا، لَا سَلْبًا حَتَّى يُرَجِّحَ بِهَا غَيْرُهَا. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَجَدْنَا نَبِيَّهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَمْ يَمُتْ وَالتَّرْجِيحُ بِقَوْلِهِ: فَمَا وَهَنُوا، سُقُوطُهُ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عَلَى سُقُوطِهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [2 \ 191] ، كُلُّ الْأَفْعَالِ مِنَ الْقَتْلِ لَا مِنَ الْقِتَالِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ السَّبْعِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِيهَا. فَإِنَّ قَتَلُوكُمْ بِلَا أَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْقَتْلِ فَاقْتُلُوهُمْ أَفَتَقُولُونَ هَذَا لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِ قَاتِلِهِ. بَلِ الْمَعْنَى قَتَلُوا بَعْضُكُمْ وَهُوَ مَعْنًى مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: قَتَلُونَا وَقَتَلْنَاهُمْ، يَعْنُونَ وُقُوعَ الْقَتْلِ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَيَانِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَاتَ بَعْضُ إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: لَوْ أَطَاعُونَا فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَى الْغَزْوِ مَا قُتِلُوا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ يَقُولُونَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ السَّفَرِ إِلَى الْغَزْوِ لِيُثَبِّطُوهُمْ أَوْ لَا؟ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [3 \ 168] ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ الْغَزْوِ لِيُثَبِّطُوهُمْ كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ الْآيَةَ [9 \ 81] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [33 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي الْجِهَادِ وَالْمَيِّتَ كِلَاهُمَا يَنَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 مَغْفِرَةً مِنَ اللَّهِ، وَرَحْمَةً خَيْرًا لَهُ مِمَّا يَجْمَعُهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَأَوْضَحُ وَجْهٍ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْهُ حَيَاةً قَصِيرَةً فَانِيَةً مُنَغَّصَةً بِالْمَصَائِبِ، وَالْآلَامِ بِحَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ لَذِيذَةٍ لَا تَنْقَطِعُ وَلَا يَتَأَذَّى صَاحِبُهَا بِشَيْءٍ وَاشْتَرَى مِنْهُ مَالًا قَلِيلًا فَانِيًا بِمُلْكٍ لَا يَنْفَدُ وَلَا يَنْقَضِي أَبَدًا، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9 \ 111] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [76 \ 20] ، وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ، وَرَحْمَتَهُ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ حُطَامِهَا وَزَادَ فِيهَا الْأَمْرَ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ دُونَ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [10 \ 58] ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِالْحَصْرِ أَعْنِي قَوْلَهُ: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، أَيْ: دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَفْرَحُوا بِحُطَامِ الدُّنْيَا الَّذِي يَجْمَعُونَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [43] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [1 \ 7] ، أَنَّ الْجُمُوعَ الْمُذَكَّرَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِجَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الذُّكُورِ إِذَا وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ أَوْ لَا يَدْخُلْنَ؟ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى دُخُولِهِنَّ وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ يَحْتَمِلُ دُخُولَ النِّسَاءِ فِيهِ وَعَدَمَ دُخُولِهِنَّ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُنَّ دَاخِلَاتٌ فِي جُمْلَةٍ مِنْ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [47 \ 19] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ لَيْسَ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْهُ ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الْإِنْكَارِ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا صِفَةَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَشَارَ إِلَى بَعْضِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 [3 \ 173 \ 174] . وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ صِفَاتِ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [5 \ 80] ، وَبِقَوْلِهِ هُنَا: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ الْآيَةَ [3 \ 161] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا جَاءَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [3 \ 152] ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ; لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا بَيَانَ بِالْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، أَنَّهُمْ خُيِّرُوا يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ قَتْلِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَبَيْنَ أَسْرِهِمْ وَأَخَذِ الْفِدَاءِ عَلَى أَنْ يَسْتَشْهِدَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ قَدْرَ الْأُسَارَى، فَاخْتَارُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يَسْتَشْهِدَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ سَبْعُونَ قَدْرَ أُسَارَى بَدْرٍ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَقَدَهُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَالْمُسْلِمُونَ خُيِّرُوا بَيْنَ الْفِدَا ... وَقَدْرُهُمْ فِي قَابِلٍ يَسْتَشْهِدَا وَبَيْنَ قَتْلِهِمْ فَمَالُوا لِلْفِدَا ... لِأَنَّهُ عَلَى الْقِتَالِ عَضُدَا وَأَنَّهُ أَدَّى إِلَى الشَّهَادَةِ ... وَهِيَ قُصَارَى الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ وَنَظْمُهُ هَذَا لِلْمَغَازِي جُلُّ اعْتِمَادِهِ فِيهِ عَلَى «عُيُونِ الْأَثَرِ» لِابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ الْيَعْمَرِيِّ، قَالَ فِي مُقَدِّمَتِهِ: [الرَّجَزِ] أُرْجُوزَةٌ عَلَى عُيُونِ الْأَثَرِ ... جُلُّ اعْتِمَادِ نَظْمِهَا فِي السِّيَرِ وَذَكَرَ شَارِحُهُ أَنَّ الْأَلِفَ فِي قَوْلِهِ يَسْتَشْهِدَا مُبْدَلَةٌ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ وَأَنَّهَا فِي الْبَيْتِ كَقَوْلِهِ: [الْمَدِيدِ] رُبَّمَا أَوْفَيْتُ فِي عَلَمٍ تَرْفَعَنْ ثَوْبِي شَمَالَاتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَالْمَعْنَى قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ حَيْثُ اخْتَرْتُمُ الْفِدَاءَ وَاسْتِشْهَادَ قَدْرِ الْأُسَارَى مِنْكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا الْآيَةَ. نَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ظَنِّ الْمَوْتِ بِالشُّهَدَاءِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَأَنَّهُمْ فَرِحُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ حَيَاتُهُمْ هَذِهِ فِي الْبَرْزَخِ يُدْرِكُ أَهْلُ الدُّنْيَا حَقِيقَتَهَا أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَهَا بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ [2 \ 154] ; لِأَنَّ نَفْيَ الشُّعُورِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الْآيَةَ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ أَوْ أَعْرَابِيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَيَدُلُّ لِهَذَا تَوْحِيدُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ الْآيَةَ [3 \ 175] . قَالَ صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ قَوْلُهُ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ، فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: «ذَلِكُمْ» إِلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى جَمْعًا لَقَالَ: إِنَّمَا أُوْلَئِكُمُ الشَّيْطَانُ. فَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي اللَّفْظِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُمْلِي لِلْكَافِرِينَ وَيُمْهِلُهُمْ لِزِيَادَةِ الْإِثْمِ عَلَيْهِمْ، وَشِدَّةِ الْعَذَابِ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يُمْهِلُهُمْ مُتَنَعِّمِينَ هَذَا الْإِمْهَالَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَإِذَا لَمْ يَتَضَرَّعُوا أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ وَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى يَأْخُذَهُمْ بَغْتَةً، كَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 94] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا إِلَى قَوْلِهِ: أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [6 \ 44] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجَ مِنْ كَيْدِهِ الْمَتِينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [44 \ 45 \ 68] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَغْتَرُّونَ بِذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنَ الْمُسَارَعَةِ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْتَوْنَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أُوتُوهُ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 \ 56] ، وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [19 \ 77] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [41 \ 50] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا الْآيَةَ [34 \ 35] . كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْبَأْسَاءُ: الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ، وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ مُؤَنَّثَانِ لَفَظًا بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَمْدُودَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَيُبْتَلَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَسَيَسْمَعُونَ الْأَذَى الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ الْبَلَاءِ وَالْأَذَى وَاتَّقَوُا اللَّهَ، فَإِنَّ صَبْرَهُمْ وَتُقَاهُمْ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، أَيْ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي الْعَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهَا لِوُجُوبِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْبَلَاءِ: الْخَوْفُ وَالْجُوعُ وَأَنَّ الْبَلَاءَ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ هُوَ النَّقْصُ فِيهَا، وَأَوْضَحَ فِيهِ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا هُنَا بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [2 \ 155 \ 157] ، وَبِقَوْلِهِ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [64 \ 11] ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ، الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأَوْلَى، بَلْ فَسَرَّهُ بِخُصُوصِ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ فِيهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ خَصْلَةَ الصَّبْرِ لَا يُعْطَاهَا إِلَّا صَاحِبُ حَظٍّ عَظِيمٍ وَبَخْتٍ كَبِيرٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [41 \ 35] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ جَزَاءَ الصَّبْرِ لَا حِسَابَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [39 \ 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقُولُهُ أُولُو الْأَلْبَابِ تَنْزِيهُ رَبِّهِمْ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَاطِلًا لَا لِحِكْمَةٍ، سُبْحَانَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الَّذِينَ يَظُنُّونَ ذَلِكَ هُمُ الْكُفَّارُ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ السَّيِّئِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا عِنْدَهُ لِلْأَبْرَارِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ النَّعِيمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [82 \ 13] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ النَّعِيمِ الشُّرْبَ مِنْ كَأْسٍ مَمْزُوجَةٍ بِالْكَافُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ النِّسَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ. أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ هُنَا فِي ذَلِكَ شَرْطًا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ هَذَا أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطَيْنِ: الْأَوَّلُ: بُلُوغُ الْيَتَامَى. وَالثَّانِي: إِينَاسُ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [4 \ 6] . وَتَسْمِيَتُهُمْ يَتَامَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ، إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ يُتْمِهِمُ الَّذِي كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِجْمَاعًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [7 \ 120] ، يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً، إِذْ لَا سِحْرَ مَعَ السُّجُودِ لِلَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى إِيتَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ إِجْرَاءَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ زَمَنَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً أُعْطِيَ مَالَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ جِدًّا، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى حُوبٌ كَبِيرٌ، أَيْ: إِثْمٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَبْلَغَ هَذَا الْحُوبِ مِنَ الْعِظَمِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [4 \ 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ لَا يَخْفَى مَا يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عَدَمِ ظُهُورِ وَجْهِ الرَّبْطِ بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ، وَهَذَا الْجَزَاءِ، وَعَلَيْهِ، فَفِي الْآيَةِ نَوْعُ إِجْمَالٍ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً، تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً رَغِبَ عَنْ نِكَاحِهَا وَعَضَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ ; لِئَلَّا يُشَارِكَهُ فِي مَالِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا إِلَيْهِنَّ وَيُبَلِّغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، أَيْ: كَمَا أَنَّهُ يَرْغَبُ عَنْ نِكَاحِهَا إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَالِ، وَالْجِمَالِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجِمَالٍ إِلَّا بِالْإِقْسَاطِ إِلَيْهَا، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [4 \ 127] ، وَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى الْآيَةَ، فَتُبَيِّنُ أَنَّهَا يَتَامَى النِّسَاءِ بِدَلِيلِ تَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ الْآيَةَ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي زَوَاجِ الْيَتِيمَاتِ فَدَعُوهُنَّ، وَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يَقْتَضِيهِ، وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ ; لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمَةٍ عَلَى الْقَلْبِ، كَمَا قِيلَ أَيَامَى وَالْأَصْلُ أَيَائِمُ وَيَتَائِمُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ جَمْعَ الْفِعْلِيَّةِ فَعَائِلُ، وَهَذَا الْقَلْبُ يَطَّرِدُ فِي مُعْتَلِّ اللَّامِ كَقَضِيَّةٍ، وَمَطِيَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُقْصَرُ عَلَى السَّمَاعِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ اشْتِرَاءِ الْوَصِيِّ وَبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ، وَلِلسُّلْطَانِ النَّظَرُ فِيمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا أَرَادَ نِكَاحَ مَنْ هُوَ وَلِيُّهَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَهُ مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. وَقَالَ زُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، أَوْ يُزَوِّجَهَا وَلِيٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْهُ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: يُوكِلُ رَجُلًا غَيْرَهُ فَيُزَوِّجُهَا مِنْهُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَأَخَذَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ تَفْسِيرِ عَائِشَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا الرَّدَّ إِلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فِيمَا فَسَدَ مِنَ الصَّدَاقِ، أَوْ وَقَعَ الْغَبْنُ فِي مِقْدَارِهِ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «وَيُبَلِّغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلصَّدَاقِ سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لِلنَّاسِ مَنَاكِحُ عُرِفَتْ لَهُمْ، وَعَرَفُوا لَهَا يَعْنِي مُهُورًا وَأَكْفَاءً. وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ إِذَا أُعْطِيَتْ حُقُوقَهَا وَافِيَةً، وَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْيَتِيمَةَ لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُنَّ يَتَامَى، بِقَوْلِهِ: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَهَذَا الِاسْمُ أَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصِّغَارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [2 \ 49] ، وَهُنَّ إِذْ ذَاكَ رَضِيعَاتٌ فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ مَعَ الْإِقْسَاطِ فِي الصَّدَاقِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ. وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ، فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا، وَإِنْ خَالَفَ فِي تَزْوِيجِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. تَنْبِيهٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَاتَّفَقَ كُلُّ مَنْ يُعَانِي الْعُلُومَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، لَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ إِذْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَخَفِ الْقِسْطَ فِي الْيَتَامَى لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، كَمَنْ خَافَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِمَنْ خَافَ ذَلِكَ وَأَنَّ حُكْمَهَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا فَسَّرَتْهَا بِهِ عَائِشَةُ، وَارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنْ لَهَا مَفْهُومًا مُعْتَبَرًا ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتِيمَاتِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ سِوَاهُنَّ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَخَافُوا عَدَمَ الْقِسْطِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِمُجَاوَزَتِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ، بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ حِينَئِذٍ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِمُجَاوَزَتِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ عِنْدَ خَوْفِهِمْ أَنْ لَا يُقْسِطُوا فِيهِنَّ، أَشَارَ إِلَى الْقَدْرِ الْجَائِزِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، أَيْ: إِنْ خَشِيتُمْ ذَلِكَ فَتَحَرَّجْتُمْ مِنْ ظُلْمِ الْيَتَامَى، فَاخْشَوْا أَيْضًا وَتَحَرَّجُوا مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ بِعَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ، فَقَلِّلُوا عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ وَلَا تَزِيدُوا عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَدَمَ إِمْكَانِ ذَلِكَ مَعَ التَّعَدُّدِ فَاقْتَصِرُوا عَلَى الْوَاحِدَةِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ شَبِيهَةٌ بِالْيَتِيمِ، لِضَعْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُدَافَعَةِ عَنْ حَقِّهِ فَكَمَا خَشِيتُمْ مِنْ ظُلْمِهِ فَاخْشَوْا مِنْ ظُلْمِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ وِلَايَةِ الْيَتِيمِ وَلَا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَى، فَقِيلَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ: إِنْ خِفْتُمُ الذَّنْبَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَخَافُوا ذَنْبَ الزِّنَى، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا. وَهَذَا أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ فِيمَا يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا إِلَّا بِتَوْفِيَتِهِ حُقُوقَهَا كَامِلَةً، وَأَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ وَيُحَرَّمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ الضَّالِّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» . وَكَذَا قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْأَسَدِيِّ وَأَنَّهُ مَعَ خَشْيَةِ عَدَمِ الْعَدْلِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ غَيْرِ وَاحِدَةٍ، وَالْخَوْفُ فِي الْآيَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ الْخَشْيَةُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ الْعِلْمُ، أَيْ: وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا الْآيَةَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْخَوْفِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ قَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: [الطَّوِيلِ] إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامِي فِي الْمَمَاتِ عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَّنِي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مُتُّ أَلَّا أَذُوقَهَا فَقَوْلُهُ أَخَافُ: يَعْنِي أَعْلَمُ. تَنْبِيهٌ عَبَّرَ تَعَالَى عَنِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا الَّتِي هِيَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [4 \ 3] ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ طَابَ ; لِأَنَّهَا هُنَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَاتُ لَا الذَّوَاتُ. أَيْ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ، أَوْ مَا طَابَ لَكُمْ لِكَوْنِهِ حَلَالًا، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَصْفَ عُبِّرَ عَنِ الْعَاقِلِ بِمَا كَقَوْلِكَ مَا زَيْدٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ تَعْنِي أَفَاضِلٌ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَبَّرَ عَنْهُنَّ بِـ (مَا) إِشَارَةً إِلَى نُقْصَانِهِنَّ وَشَبَّهَهُنَّ بِمَا لَا يَعْقِلُ حَيْثُ يُؤْخَذُ بِالْعِوَضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا قَدْرَ هَذَا النَّصِيبِ الَّذِي هُوَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَتَيْنِ [4 \ 11] ، وَقَوْلِهِ فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الْآيَةَ [4 \ 176] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا حِكْمَةَ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ مَعَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقَرَابَةِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [4] ; لِأَنَّ الْقَائِمَ عَلَى غَيْرِهِ الْمُنْفِقَ مَالَهُ عَلَيْهِ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ دَائِمًا، وَالْمُقَوَّمَ عَلَيْهِ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ الْمَالُ مُتَرَقِّبٌ لِلزِّيَادَةِ دَائِمًا، وَالْحِكْمَةُ فِي إِيثَارِ مُتَرَقِّبِ النَّقْصِ عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ جَبْرٌ لِنَقْصَةِ الْمُتَرَقِّبَةِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ الْآيَةَ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الْبَنَاتِ إِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا، فَلَهُنَّ الثُّلْثَانِ وَقَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ لَيْسَتَا كَذَلِكَ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَهَا النِّصْفُ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ لَيْسَتَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ فَفِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ إِجْمَالٌ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي مَوْضِعَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا الظَّرْفَ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، وَأَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَيْضًا: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، إِذِ الذَّكَرُ يَرِثُ مَعَ الْوَاحِدَةِ الثُّلُثَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ فِي صُورَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَيْسَا بِحَظٍّ لَهُمَا أَصْلًا، لَكِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ الِاجْتِمَاعِ، إِذْ مَا مِنْ صُورَةٍ يَجْتَمِعُ فِيهَا الِابْنَتَانِ مَعَ الذَّكَرِ وَيَكُونُ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، فَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ صُورَةَ انْفِرَادِهِمَا عَنِ الذَّكَرِ. وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِلُزُومِ الدَّوْرِ قَائِلًا: إِنَّ مَعْرِفَةَ أَنَّ لِلذَّكَرِ الثُّلُثَيْنِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّهُ مَا عُلِمَ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مُسْتَخْرَجَةً مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ لَزِمَ الدَّوْرَ سَاقِطٌ ; لِأَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ هُوَ الْحَظُّ الْمُعَيَّنُ لِلْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ، وَالَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ حَظِّ الذَّكَرِ هُوَ مَعْرِفَةُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا، فَلَا دَوْرَ لِانْفِكَاكِ الْجِهَةِ، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِأَنَّ لِلِابْنِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَهُمَا النِّصْفُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَمَّا اسْتَحَقَّتَا مَعَ الذَّكَرِ النِّصْفَ عُلِمَ أَنَّهُمَا إِنِ انْفَرَدَتَا عَنْهُ، اسْتَحَقَّتَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إِذَا انْفَرَدَتْ أَخَذَتِ النِّصْفَ بَعْدَمَا كَانَتْ مَعَهُ تَأْخُذُ الثُّلُثَ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا أَنَّ الْبِنْتَ تَأْخُذُ مَعَ الِابْنِ الذَّكَرِ الثُّلُثَ بِلَا نِزَاعٍ، فَلِأَنْ تَأْخُذَهُ مَعَ الِابْنَةِ الْأُنْثَى أَوْلَى. فَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَشَارَ إِلَى مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَحُكْمَ الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ إِيضَاحًا، أَنَّهُ تَعَالَى فَرَّعَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى سَهْمِ الْإِنَاثِ لَمْ تَقَعِ الْفَاءُ مَوْقِعَهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأُخْتَيْنِ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [4 \ 176] ; لِأَنَّ الْبِنْتَ أَمَسُّ رَحِمًا، وَأَقْوَى سَبَبًا فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأُخْتِ بِلَا نِزَاعٍ. فَإِذَا صَرَّحَ تَعَالَى: بِأَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، عُلِمَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ كَذَلِكَ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَعْنِي: مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ الَّذِي الْمَسْكُوتُ فِيهِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ، مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ، كَمَا عُلِمَ فِي الْأُصُولِ فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَفْهَمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَمَّا صَرَّحَ أَنَّ لِمَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ، أَفْهَمَ أَيْضًا مِنْ بَابٍ أَوْلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا زَادَ مِنَ الْأَخَوَاتِ غَيْرُ الثُّلُثَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْطِ لِلْبَنَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تَسْتَحِقُّهُ الْأَخَوَاتُ، فَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ فِي الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ أَخْذَهُ مِنْهُ، وَيَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا إِيضَاحًا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عَنْهُ - قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدٍ قُتِلَ أَبُوهُمَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، وَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ» فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتِي سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ» . وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَنَّهُ قَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ إِنَّمَا هُمَا لِمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ فِيهِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِمِثْلِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ أَيْضًا: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ النِّصْفَ لِلْوَاحِدَةِ جَاعِلًا كَوْنَهَا وَاحِدَةً شَرْطًا مُعَلَّقًا عَلَيْهِ فَرْضُ النِّصْفِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَفَاهِيمَ إِذَا تَعَارَضَتْ قُدِّمَ الْأَقْوَى مِنْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ ; لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفَاهِيمِ، إِلَّا مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ مَنْطُوقٌ لَا مَفْهُومٌ وَهُوَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَإِنَّمَا مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ وَالْغَايَةِ، وَغَيْرُ هَذَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» مُبَيِّنًا مَرَاتِبَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: [الرَّجَزِ] أَعْلَاهُ لَا يُرْشَدُ إِلَّا الْعِلْمَا ... فَمَا لِمَنْطُوقٍ بِضَعْفٍ انْتَمَى فَالشَّرْطُ فَالْوَصْفُ الَّذِي يُنَاسِبُ ... فَمُطْلَقُ الْوَصْفِ الَّذِي يُقَارِبُ فَعَدَدٌ ثَمَّتَ تَقْدِيمٌ يَلِي ... وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى النَّهْجِ الْجَلِيِّ وَقَالَ صَاحِبُ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» مَا نَصُّهُ: مَسْأَلَةُ الْغَايَةِ قِيلَ: مَنْطُوقٌ وَالْحَقُّ مَفْهُومٌ يَتْلُوهُ الشَّرْطُ، فَالصِّفَةُ الْمُنَاسِبَةُ، فَمُطْلَقُ الصِّفَةِ غَيْرُ الْعَدَدِ، فَالْعَدَدُ، فَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ إِلَخْ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. الثَّانِي: دَلَالَةُ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ. الثَّالِثُ: تَصْرِيحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الرَّابِعُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مَا نَصُّهُ: وَفِي «شَرْحِ الْيَنْبُوعِ» نَقْلًا عَنِ الشَّرِيفِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَرْمُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي «شَرْحِ فَرَائِضِ الْوَسِيطِ» : صَحَّ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَصَارَ إِجْمَاعًا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجَزَمَ بِهِ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مِنْ أَنَّ الْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ مَفْهُومُ عَدَدٍ غَلَطٌ. وَالتَّحْقِيقُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَفْهُومُ شَرْطٍ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ بِدَرَجَاتٍ كَمَا رَأَيْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ. قَالَ فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: وَهُوَ ظَرْفُ عِلَّةٍ وَعَدَدُ ... وَمِنْهُ شَرْطُ غَايَةٍ تُعْتَمَدُ مَا نَصَّهُ: وَالْمُرَادُ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ مَا فُهِمَ مِنْ تَعْلِيقِ حُكْمٍ عَلَى شَيْءٍ بِأَدَاةِ شَرْطٍ كَإِنْ وَإِذَا، وَقَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا مَا نَصُّهُ: وَمِنْهَا الشَّرْطُ نَحْوَ: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [65 \ 6] ، مَفْهُومُ انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، أَيْ: فَغَيْرُ أُولَاتِ حَمْلٍ لَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِنَّ وَنَحْوَ: مَنْ تَطَهَّرْ صَحَّتْ صِلَاتُهُ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، عُلِّقَ فِيهِ فَرْضُ النِّصْفِ عَلَى شَرْطٍ هُوَ كَوْنُ الْبِنْتِ وَاحِدَةً، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنِ انْتَفَى الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهَا وَاحِدَةً انْتَفَى الْمَشْرُوطُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ النِّصْفِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَذَلِكَ الْمَفْهُومُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ; لِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْطِ كَوْنَهُنَّ نِسَاءً، وَقَوْلُهُ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَصْفٌ زَائِدٌ، وَكَوْنُهَا وَاحِدَةً هُوَ نَفْسُ الشَّرْطِ لَا وَصْفٌ زَائِدٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَقْدِيمَ مَفْهُومِ الشَّرْطِ عَلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ ظَرْفًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا جَدَلِيًّا أَنَّهُ مَفْهُومُ شَرْطٍ لَتَسَاقَطَ الْمَفْهُومَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا وَيُطْلَبُ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَدِلَّةَ عَلَى كَوْنِ الْبِنْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: إِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي لَفْظَةِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ الِاثْنَتَانِ كَذَلِكَ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَتَيْنِ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَإِذَنْ قَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ تَنْصِيصٌ عَلَى حُكْمِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَةَ فَوْقَ ذُكِرَتْ ; لِإِفَادَةِ أَنَّ الْبَنَاتِ لَا يَزِدْنَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَلَوْ بَلَغَ عَدَدُهُنَّ مَا بَلَغَ. وَأَمَّا ادِّعَاءُ أَنَّ لَفْظَةَ فَوْقَ زَائِدَةٌ وَادِّعَاءُ أَنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ مَعْنَاهُ اثْنَتَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَكُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ مِثْلِهِ وَإِنْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِخْوَةِ الَّذِينَ يَأْخُذُ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمُ السُّدُسَ وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، سَوَاءٌ أُخُوَّةَ الْأُمِّ بِدَلِيلِ بَيَانِهِ تَعَالَى أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ أَشِقَّاءُ أَوْ لَا، يَرِثُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كُلَّ الْمَالِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ يَرْثُونَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ فِي الْمُنْفَرِدِ مِنْهُمْ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَقَالَ فِي جَمَاعَتِهِمْ: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ، كَانُوا أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ. كَمَا أَجْمَعُوا أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً الْآيَةَ، أَنَّهَا فِي إِخْوَةِ الْأُمِّ، وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ عَدَمُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَمَا قَالَ النَّاظِمُ: [الرَّجَزِ] وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْكَلَالَةِ ... هِيَ انْقِطَاعُ النَّسْلِ لَا مَحَالَةَ لَا وَالِدَ يَبْقَى وَلَا مَوْلُودَ ... فَانْقَطَعَ الْأَبْنَاءُ وَالْجُدُودُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَالَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُخْلِفْ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا، وَعَلَى الْوَارِثِ الَّذِي لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ، وَعَلَى الْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَمَّنْ لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ ; إِلَّا أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ شَائِعٍ وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِ الْكَلَالَةِ. وَاخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَصْلَهَا مَنْ تَكَلَّلَهُ إِذَا أَحَاطَ بِهِ وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ، وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بِالْرَأْسِ، وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِالْعَدَدِ ; لِأَنَّ الْوَرَثَةَ فِيهَا مُحِيطَةٌ بِالْمَيِّتِ مِنْ جَوَانِبِهِ لَا مِنْ أَصْلِهِ وَلَا فَرْعِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهَا مِنَ الْكَلَالِ بِمَعْنَى الْإِعْيَاءِ ; لِأَنَّ الْكَلَالَةَ أَضْعَفُ مِنْ قَرَابَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهَا مِنَ الْكُلِّ بِمَعْنَى الظَّهْرِ وَعَلَيْهِ فَهِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ كَلَالَةً. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ حَالٌ مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ يُورَثُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: يُورَثُ فِي حَالِ كَوْنِهِ ذَا كَلَالَةٍ أَيْ قَرَابَةِ غَيْرِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: هِيَ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: يُورَثُ لِأَجْلِ الْكَلَالَةِ أَيِ الْقَرَابَةِ، وَقِيلَ: هِيَ خَبَرُ كَانَ، وَيُورَثُ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، أَيْ: كَانَ رَجُلٌ مَوْرُوثٌ ذَا كَلَالَةٍ لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ جَعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ بِالْحَدِّ كَقَوْلِهِ فِي الْبِكْرِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآيَةَ [24 \ 2] ،، وَقَوْلِهِ فِي الثَّيِّبِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ كَمَا صَحَّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةَ التِّلَاوَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ مَأْخُوذٌ أَيْضًا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى مُحْكَمَةٍ غَيْرِ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا وَهُمَا مُحْصَنَانِ وَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَمُّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ لِلْمُعْرِضِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصِنِ، دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ وَاضِحٌ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الرَّجْمِ، وَيُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ بِالْحَدِّ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» الْحَدِيثَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَكَحَهَا الْأَبُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا الْمُرَادُ بِنِكَاحِ الْأَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 هَلْ هُوَ الْعَقْدُ أَوِ الْوَطْءُ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَسِيسٌ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [33 \ 49] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ نِكَاحٌ وَأَنَّهُ لَا مَسِيسَ فِيهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا الْأَبُ حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا الْأَبُ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الِابْنِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْأَبِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا وَقَدْ أَطْلَقَ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مُرِيدًا بِهِ الْجِمَاعَ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [2 \ 230] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْوَطْءِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ: «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» يَعْنِي الْجِمَاعَ وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يُرْوَى مِنَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ; لِوُضُوحِ النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَفْظُ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْجِمَاعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ ; لِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْعَكْسِ. تَنْبِيهٌ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ لَفْظَةَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [4 \ 22] ، مَصْدَرِيَّةٌ وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنَ النِّسَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تَنْكِحُوا لَا بِقَوْلِهِ نَكَحَ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ نِكَاحَ آبَائِكُمْ، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى النِّسَاءِ الَّتِي نَكَحَهَا الْآبَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [4 \ 3] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَ آبَائِهِمْ كَمَا يَدُلُّ لَهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ خَطَبَ ابْنُهُ امْرَأَتَهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ فَقَالَ: «ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكِ» ، فَنَزَلَتْ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ الْآيَةَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: نِكَاحُ زَوْجَاتِ الْآبَاءِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْمَذْكُورُ، فَقَدْ تَزَوَّجَ أَمَّ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَتْ تَحْتَ الْأَسْلَتِ أَبِيهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَتَزَوَّجَ الْأَسْوَدُ بْنُ خَلَفٍ ابْنَةَ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِيهِ خَلَفٍ، وَتَزَوَّجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَاخِتَةَ ابْنَةَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِيهِ أُمَيَّةَ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَائِلًا: إِنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَتَزَوَّجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ زَوْجَةَ أَبِيهِ بَعْدَهُ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُسَافِرًا وَأَبَا مُعَيْطٍ، وَكَانَ لَهَا مِنْ أُمَيَّةَ أَبُو الْعِيصِ وَغَيْرُهُ، فَكَانُوا إِخْوَةَ مُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَأَعْمَامِهِمَا، وَتَزَوَّجَ مَنْظُورُ بْنُ زَبَّانِ بْنِ سَيَّارٍ الْفَزَارِيُّ زَوْجَةَ أَبِيهِ مُلَيْكَةَ بِنْتِ خَارِجَةَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمُلَيْكَةُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا مَنْظُورٌ الْمَذْكُورُ بَعْدَ أَنْ فَسَخَ نِكَاحَهَا مِنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الطَّوِيلِ] أَلَّا لَا أُبَالِي الْيَوْمَ مَا فَعَلَ الدَّهْرُ ... إِذَا مُنِعَتْ مِنِّي مُلَيْكَةُ وَالْخَمْرُ فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمْسَتْ بَعِيدًا مَزَارُهَا ... فَحَيِّ ابْنَةَ الْمُرِّيِّ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَأَشَارَ إِلَى تَزْوِيجِ مَنْظُورٍ هَذَا زَوْجَةَ أَبِيهِ نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ فِي ذِكْرِ مَشَاهِيرِ فَزَارَةَ: [الرَّجَزِ] مَنْظُورٌ النَّاكِحُ مَقْتًا وَحَلَفَ ... خَمْسِينَ مَا لَهُ عَلَى مَنْعٍ وَقَفَ وَقَوْلُهُ: وَحَلَفَ إِلَخْ. قَالَ شَارِحُهُ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَلَّفَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا بَعْدَ الْعَصْرِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَذَكَرُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ أَبِيهِ خُزَيْمَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَائِغًا لَهُمْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَفِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ قِصَّةِ كِنَانَةَ نَظَرٌ، وَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَهِنْدُ بِنْتُ مُرٍّ أَمُّ حَارِثَةَ ... شَخِيصَةٌ وَأُمُّ عَنْزٍ ثَالِثَةْ بَرَّةُ أُخْتُهَا عَلَيْهَا خَلَفَا ... كِنَانَةَ خُزَيْمَةَ وَضِعْفَا أُخْتُهُمَا عَاتِكَةُ وَنَسْلُهَا ... عُذْرَةُ الَّتِي الْهَوَى يَقْتُلُهَا وَذَكَرَ شَارِحُهُ أَنَّ الَّذِي ضَعَّفَ ذَلِكَ هُوَ السُّهَيْلِيُّ نَفْسُهُ، خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ وَمَعْنَى الْأَبْيَاتِ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ مُرٍّ أُخْتَ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ أَدْبَنَ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ هِيَ أَمُّ ثَلَاثَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مِنْ أَوْلَادِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطٍ وَهُمُ الْحَارِثُ وَشَخِيصٌ وَعَنْزٌ، وَأَنَّ أُخْتَهَا بَرَّةَ بِنْتَ مُرٍّ كَانَتْ زَوْجَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ابْنِهِ كِنَانَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُضَعَّفٌ، وَأَنَّ أُخْتَهُمَا عَاتِكَةَ بِنْتَ مُرٍّ هِيَ أَمُّ عُذْرَةَ أَبِي الْقَبِيلَةِ الْمَشْهُورَةِ بِأَنَّ الْهَوَى يَقْتُلُهَا، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُخْتَلَقَاتِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِرْثُ الْأَقَارِبِ أَزْوَاجَ أَقَارِبِهِمْ، كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا مَاتَ وَأَلْقَى ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ مَثَلًا ثَوْبًا عَلَى زَوْجَتِهِ وَرِثَهَا وَصَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا، إِنْ شَاءَ نَكَحَهَا بِلَا مَهْرٍ وَإِنْ شَاءَ أَنْكَحَهَا غَيْرَهُ وَأَخَذَ مَهْرَهَا، وَإِنْ شَاءَ عَضَلَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ، إِلَى أَنْ نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا الْآيَةَ [4 \ 19] ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] الْقَوْلُ فِيمَا اخْتَلَفُوا وَاخْتَرَقُوا ... وَلَمْ يَقُدْ إِلَيْهِ إِلَّا النَّزَقُ ثُمَّ شَرَعَ يُعَدِّدُ مُخْتَلَقَاتِهِمْ، إِلَى أَنْ قَالَ: [الرَّجَزِ] وَأَنَّ مَنْ أَلْقَى عَلَى زَوْجِ أَبِيهِ وَنَحْوَهُ ... بَعْدَ الْتَوَى ثَوْبًا يُرِيهِ أَوْلَى بِهَا مِنْ نَفْسِهَا إِنْ شَاءَ ... نَكَحَ أَوْ أَنْكَحَ أَوْ أَسَاءَ بِالْعَضْلِ كَيْ يَرِثَهَا أَوْ تُفْتَدَى ... وَمَهْرُهَا فِي النَّكْحَتَيْنِ لِلرَّدَى وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [4 \ 23] ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَا مَضَى مِنَ ارْتِكَابِ هَذَا الْفِعْلِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ الْآيَةَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ حَلِيلَةَ دَعِيِّهِ الَّذِي تَبَنَّاهُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [33 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [33 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ الْآيَةَ [33 \ 40] . أَمَّا تَحْرِيمُ مَنْكُوحَةِ الِابْنِ مِنَ الرِّضَاعِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلِ خَارِجٍ وَهُوَ تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الْأَوَّلُ: الْمُحْصَنَاتُ الْعَفَائِفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [4 \ 25] أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتِ. الثَّانِي: الْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: عَلَى الْإِمَاءِ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْجَلْدِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ بِالْإِحْصَانِ التَّزَوُّجُ، وَمِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ، أَيْ: فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ الْإِسْلَامُ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَاللَّهِ أَعْلَمُ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سِيَاقُهَا فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ أَيْ: تَزَوَّجْنَ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ، أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ هِيَ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْقُرْآنُ يُفْهَمُ مِنْهُ تَرْجِيحُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا أَعَمُّ مِنَ الْعَفَائِفِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ أَيْ: حَرُمَتْ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ أَوْ مِلْكٍ شَرْعِيٍّ بِالرِّقِّ، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ كُلُّهُنَّ إِلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ تَسَرٍّ شَرْعِيٍّ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْآيَةِ الْحَرَائِرُ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرُ غَيْرُ الْأَرْبَعِ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ الْإِمَاءِ، وَعَلَيْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُتَزَوِّجَاتُ ; لِأَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ السَّبْيَ يَرْفَعُ حُكْمَ الزَّوْجِيَّةِ الْأُولَى فِي الْكُفْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ الْقُرْآنُ لِصِحَّتِهِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِيهِ حَمْلُ مِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى مَا يَشْمَلُ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَعْنَى الْمِلْكِ بِالرِّقِّ، كَقَوْلِهِ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَوْلِهِ: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [33 \ 50] ، وَقَوْلِهِ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [23 \ 5، 6] ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَجَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ قِسْمًا آخَرَ غَيْرَ الزَّوْجِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [24 \ 33] ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ الْإِمَاءُ دُونَ الْمَنْكُوحَاتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرُ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ مَعْنَى لَفْظِ الْآيَةِ كَمَا تَرَى. وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَظَهَرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَرْنَا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ أُوطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 24] ، فَاسْتَحْلَلْنَا فُرُوجَهُنَّ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَايَا خَيْبَرَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: [الطَّوِيلِ] وَذَاتُ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ تَنْبِيهٌ فَإِنْ قِيلَ: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، لَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْبِيَّاتِ، بَلْ ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ أَنَّ كُلَّ أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ إِذَا مَلَكَهَا رَجُلٌ آخَرُ فَهِيَ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَيَرْتَفِعُ حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بِذَلِكَ الْمِلْكِ، وَالْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي خُصُوصِ الْمَسْبِيَّاتِ كَمَا ذَكَرْنَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ قَالُوا بِظَاهِرِ هَذَا الْعُمُومِ، فَحَكَمُوا بِأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ مَثَلًا يَكُونُ طَلَاقًا لَهَا مِنْ زَوْجِهَا أَخْذًا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ وَمَعْمَرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِصَاصِ هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَسْبِيَّاتِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَمْلُوكَاتِ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ السَّبْيِ، كَالْبَيْعِ مَثَلًا وَلَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِصُورَةِ سَبَبِهِ. وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ قِصَّةُ بِرَيْرَةَ الْمَشْهُورَةُ مَعَ زَوْجِهَا مُغِيثٌ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَقْوَالَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْبَيْعَ طَلَاقٌ، مَا نَصُّهُ: وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَرَأَوْا أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَيْسَ طَلَاقًا لَهَا ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَائِبٌ عَنِ الْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ عَنْ مِلْكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، وَبَاعِهَا مَسْلُوبَةً عَنْهُ، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ بِرَيْرَةَ الْمُخَرَّجِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرَتْهَا، وَأَعْتَقَتْهَا وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا مُغِيثٍ، بَلْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْبَقَاءِ، فَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ، فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ مَا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا خَيَّرَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْمَسْبِيَّاتُ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنْهُ لَفْظُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي امْرَأَةً لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ الْأَمَةِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، كَمَا قَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ بِرَيْرَةَ، فَالْجَوَابُ هُوَ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَمْلِكِ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ أَمَتِهَا، فَهِيَ تَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَتَزْوِيجَهَا وَأَخْذَ مَهْرِهَا، وَذَلِكَ كَمِلْكِ الرَّجُلِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَمْتِعْ بِالْبُضْعِ، فَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمُحْصَنَاتُ أَيْ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مِنَ الْكَفَّارِ، فَلَا مَنْعَ فِي وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ; لِانْهِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ الْأُولَى بِالسَّبْيِ كَمَا قَرَّرْنَا، وَكَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مُتَزَوِّجَةً بِرَجُلٍ اسْمُهُ مُسَافِعٌ، فَسُبِيَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقِصَّتُهَا مَعْرُوفَةٌ. قَالَ نَاظِمُ قُرَّةِ الْأَبْصَارِ فِي جُوَيْرِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: [الرَّجَزِ] وَقَدْ سَبَاهَا فِي غُزَاةِ الْمُصْطَلِقِ ... مِنْ بَعْلِهَا مُسَافِعٌ بِالْمُنْزَلَقِ وَمُرَادُهُ بِالْمُنْزَلَقِ السَّيْفُ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي السَّبْيِ، هَلْ يُبْطِلُ حُكْمَ الزَّوْجِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الْأُولَى مُطْلَقًا وَلَوْ سُبِيَ الزَّوْجُ مَعَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَوْ لَا يُبْطِلُهُ إِلَّا إِذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا دُونَهُ؟ فَإِنْ سُبِيَ مَعَهَا فَحُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بَاقٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ، يَعْنِي: كَمَا أَنَّكُمْ تَسْتَمْتِعُونَ بِالْمَنْكُوحَاتِ فَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ الْآيَةَ [4 \ 21] ، فَإِفْضَاءُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ الْمُصَرَّحُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ كَامِلًا، هُوَ بِعَيْنِهِ الِاسْتِمْتَاعُ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [4 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [4 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا الْآيَةَ [2 \ 229] . فَالْآيَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَا قَالَ بِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا، فَإِنْ قِيلَ: التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأُجُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأُجْرَةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا يُسَمَّى أَجْرًا، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِي تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ أَجْرًا فِي مَوْضِعٍ لَا نِزَاعَ فِيهِ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ لِمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ الْآيَةَ، صَارَ لَهُ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِأَثْمَانِ الْمَنَافِعِ فَسُمِّيَ أَجْرًا، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ [4 \ 25] ، أَيْ: مُهُورَهُنَّ بِلَا نِزَاعٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ [5 \ 5] . أَيْ: مُهُورَهُنَّ فَاتَّضَحَ أَنَّ الْآيَةَ فِي النِّكَاحِ لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ يَقْرَءُونَ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا ; لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ كَتْبِهِ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ مَا قَرَأَهُ الصَّحَابِيُّ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَبَطَلَ كَوْنُهُ قُرْآنًا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ مِنْ أَصْلِهِ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ مَشَيْنَا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ كَالِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْآحَادِ كَمَا قَالَ بِهِ قَوْمٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ لِلْآيَةِ بِذَلِكَ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَقْوَى مِنْهُ ; لِأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 خِلَافِهِ ; وَلِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ قَاطِعَةٌ بِكَثْرَةٍ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَصَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ دَائِمٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فِي النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَلَا تَعَارُضَ فِي ذَلِكَ ; لِإِمْكَانِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ. الثَّالِثُ: أَنَا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ إِبَاحَتَهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا صَحَّ نَسْخُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى يَوْمَ خَيْبَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَالْآخِرَةُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نُسِخَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً يَوْمَ الْفَتْحِ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي خَيْبَرَ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَطْ، فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ يَوْمَ خَيْبَرَ ظَرْفٌ أَيْضًا لِتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَلَكِنْ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ أَيْضًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَجِبُ حِفْظُ الْفَرْجِ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسَّرِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [23 \ 6] ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُبْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْعَادِينَ بِقَوْلِهِ: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ الْآيَةَ [23 \ 7] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ بِهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً وَلَا زَوْجَةً، فَمُبْتَغِيهَا إِذَنْ مِنَ الْعَادِينَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ زَوْجَةٍ فَلِانْتِفَاءِ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهَا كَالْمِيرَاثِ، وَالْعِدَّةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالنَّفَقَةِ، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَوَرِثَتْ وَاعْتَدَّتْ وَوَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 [23 \ 75 - 29، 31] ، صَرِيحَةٌ فِي مَنْعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ الَّذِي نُسِخَ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ كَمَا بَيَّنَّا لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [4 \ 23] الْخَ. . . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ غَيْرَ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ حَلَالٌ بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [4 \ 24] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ نَكَحْتُمْ مِنْهُنَّ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا يَلْزَمُكُمْ أَنْ تُعْطُوهَا مَهْرَهَا، مُرَتَّبًا لِذَلِكَ بِالْفَاءِ عَلَى النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [4 \ 24] ، كَمَا بَيَّنَاهُ وَاضِحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَلَوْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [4 \ 25] ، فَمَفْهُومُ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنَ الْإِمَاءِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [5 \ 5] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ فِيهَا الْحَرَائِرُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَاءَ الْكَوَافِرَ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَجَازَ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، وَأَجَازَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ لِمَنْ عِنْدَهُ طَوْلٌ يَنْكِحُ بِهِ الْحَرَائِرَ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. أَمَّا وَطْءُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةٌ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِبَاحَةِ وَطْئِهَا بِالْمِلْكِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ الْآيَةَ [23 \ 6] ، وَلِجَوَازِ نِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ فَيَحِلُّ التَّسَرِّي بِالْإِمَاءِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَهُ مَجُوسِيَّةً أَوْ عَابِدَةَ وَثَنٍ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ ; فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِ وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَدُّ خِلَافًا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا إِبَاحَةُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ طَاوُسٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ جَوَازُ وَطْءِ الْأَمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَتْ عَابِدَةَ وَثَنٍ أَوْ مَجُوسِيَّةً ; لِأَنَّ أَكْثَرَ السَّبَايَا فِي عَصْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 كُفَّارِ الْعَرَبِ وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَرَّمَ وَطْأَهُنَّ بِالْمِلْكِ لِكُفْرِهِنَّ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَبَيَّنَهُ، بَلْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يُسْلِمْنَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَقَالَهُ وَقَدْ أَخَذَ الصَّحَابَةُ سَبَايَا فَارِسَ وَهُنَّ مَجُوسٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمُ اجْتَنَبُوهُنَّ حَتَّى أَسْلَمْنَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» مَا نَصُّهُ: وَدَلَّ هَذَا الْقَضَاءُ النَّبَوِيُّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْإِمَاءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ سَبَايَا أُوطَاسٍ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيَّاتٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَطْئِهِنَّ إِسْلَامَهُنَّ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمَانِعَ مِنْهُ إِلَّا الِاسْتِبْرَاءَ فَقَطْ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ مَعَ أَنَّهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَيَخْفَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحُصُولُ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ السَّبَايَا، وَكُنَّ عِدَّةَ آلَافٍ بِحَيْثُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُنَّ عَنِ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ وَاحِدَةٌ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يُكْرَهْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا يَقْتَضِي مُبَادَرَتَهُنَّ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ جَوَازُ وَطْءِ الْمَمْلُوكَاتِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ، وَهَذَا مَذْهَبُ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَوَّاهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» فِيهِ وَرَجَّحَ أَدِلَّتَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ بِلَفْظِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي عَلَى الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ الَّذِي نِصْفُهُ عَلَى الْإِمَاءِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ جِلْدٌ مِائَةٍ بِقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [24 \ 2] ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ عَلَى الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ خَمْسِينَ جَلْدَةً وَيَلْحَقُ بِهَا الْعَبْدُ الزَّانِي فَيُجْلَدُ خَمْسِينَ، فَعُمُومُ الزَّانِيَةِ مَخْصُوصٌ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، وَعُمُومُ الزَّانِي مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ ; لِأَنَّهُ لَا فَارِقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إِلَّا الرِّقَّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سَبَبُ تَشْطِيرِ الْجَلْدِ فَأَجْرَى فِي الْعَبْدِ لِاتِّصَافِهِ بِالرِّقِّ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ تَشْطِيرِ الْجَلْدِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَوْعَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ الْمَعْرُوفِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ يُسَمَّى قِيَاسًا، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ قِيَاسًا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. أَمَّا الرَّجْمُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتَشَطَّرُ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ. تَنْبِيهٌ قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى أُحْصِنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَزَوَّجْنَ، وَذَلِكَ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 مَعْنَاهُ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ قِرَاءَتُهُ بِالْبِنَاةِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، خِلَافًا لِمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قِرَاءَةِ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَسْلَمْنَ، وَأَنَّ مَعْنَى أُحْصِنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ زُوِّجْنَ، وَعَلَيْهِ فَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ [4 \ 25] أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا زَنَتْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ حَدَّهَا فِي الْآيَةِ بِالْإِحْصَانِ، وَتَمَسَّكَ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي رِوَايَةٍ فَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى مَمْلُوكَةٍ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَفْهُومَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ إِجْمَالٌ وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تَعْلِيقَ جَلْدِ الْخَمْسِينَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِحْصَانِ الْأَمَةِ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ تُحْصَنْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَقَطْ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَا تُجْلَدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُجْلَدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ تُرْجَمُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحْتَمَلَاتِ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنَةِ مِنَ الْإِمَاءِ كَذَلِكَ، لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُحْصَنَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِخُصُوصِ الْمُحْصَنَةِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّهَا تُرْجَمُ كَالْحُرَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ، وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ: «إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي أَبْعَدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، وَحَمْلُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْدِيبِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، لَا سِيَّمَا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِالْحَدِّ، فَمَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ مَا سَأَلَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ أُشْكِلَ عَلَيْهِ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَوْ كَانَ جَلْدُ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ جَلْدِ الْمُحْصَنَةِ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِهَذَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا، وَكَالْقَوْلِ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ مِائَةً، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ وَكَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمَةَ الْمُحْصَنَةَ تُرْجَمُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَلَا يَخْفَى شِدَّةُ بُعْدِهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النُّشُوزَ قَدْ يَحْصُلُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ يَحْصُلُ مِنَ الرِّجَالِ نُشُوزٌ أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أَنَّ النُّشُوزَ أَيْضًا قَدْ يَحْصُلُ مِنَ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْآيَةَ [4 \ 128] ، وَأَصْلُ النُّشُوزِ فِي اللُّغَةِ الِارْتِفَاعُ، فَالْمَرْأَةُ النَّاشِزُ كَأَنَّهَا تَرْتَفِعُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يُضَاجِعُهَا فِيهِ زَوْجُهَا، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ، وَكَأَنَّ نُشُوزَ الرَّجُلِ ارْتِفَاعُهُ أَيْضًا عَنِ الْمَحَلِّ الَّذِي فِيهِ الزَّوْجَةُ وَتَرْكُهُ مُضَاجَعَتَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقَلَّ مَا تُضَاعَفُ بِهِ الْحَسَنَةُ وَلَا أَكْثَرَهُ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ أَقَلَّ مَا تُضَاعَفُ بِهِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [6 \ 160] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ رُبَّمَا بَلَغَتْ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ الْآيَةَ [2 \ 261] كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ الْآيَةَ، عَلَى الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنَّ يَسْتُوُوا بِالْأَرْضِ، فَيَكُونُوا تُرَابًا مِثْلَهَا عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [78 \ 40] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا بَيِّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ عَدَمَ الْكَتْمِ الْمَذْكُورِ هُنَا، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ إِخْبَارِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِكُلِّ مَا عَمِلُوا عِنْدَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ إِذَا أَنْكَرُوا شِرْكَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [36 \ 65] ، فَلَا يَتَنَافَى قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [4 \ 42] ، مَعَ قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ أَيْضًا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [16 \ 28] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [40] ، لِلْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ بَيِّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ زَوَالَ السُّكْرِ بِأَنَّهُ هُوَ أَنْ يَثُوبَ لِلسَّكْرَانِ عَقْلُهُ، حَتَّى يَعْلَمَ مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [4 \ 43] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ الْآيَةَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مَعَ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ يُرِيدُونَ إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ كَثِيرٌ، وَأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ رِدَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْحَسَدُ وَأَنَّهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمُ الْحَقَّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ [2 \ 109] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ الَّذِي يَتَمَنَّوْنَهُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَقَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُمْ أَعْنِي الْمُتَمَنِّينَ الضَّلَالَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ لَعْنِهِ لِأَصْحَابِ السَّبْتِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ لَعْنَهُ لَهُمْ هُوَ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً وَمَنْ مَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا غَضَبًا عَلَيْهِ مَلْعُونٌ بِلَا شَكٍّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [2 \ 65] ، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [7 \ 166] ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى مُغَايَرَةِ اللَّعْنِ لِلْمَسْخِ بِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [5 \ 60] ، لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ مُغَايَرَتِهِ لِلْمَسْخِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، كَمَا قَالَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاللَّعْنَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي طَرَدَهُ قَوْمُهُ وَأَبْعَدُوهُ لِجِنَايَاتِهِ تَقُولُ لَهُ الْعَرَبَ رَجُلٌ لَعِينٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْوَافِرِ] ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِئْبِ كَالرَجُلِ اللَّعِينِ وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: اللَّعْنَةُ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسْخَ مِنْ أَكْبَرِ أَنْوَاعِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ الْإِشْرَاكَ بِهِ وَأَنَّهُ يَغْفِرُ غَيْرَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا. وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِهِ لَا يَغْفِرُ الْإِشْرَاكَ بِهِ إِذَا لَمْ يَتُبِ الْمُشْرِكُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ غَفَرَ لَهُ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [25 \ 70] ، فَإِنَّ الْاسْتِثِّنَاءَ رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [25 \ 68] ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكُلِّ جُمِعَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا الْآيَةَ [25 \ 68] وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [8 \ 38] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ قَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [4 \ 116] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَمَأْوَاهُ النَّارُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [5] ، وَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [7 \ 50] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يُرْجَى لَهُ خَلَاصٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [22 \ 31] ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: بِأَنَّ الْإِشْرَاكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ بِقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَمْنَ التَّامَّ وَالِاهْتِدَاءَ، إِنَّمَا هُمَا لِمَنْ لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِشِرْكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [6 \ 82] ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَعْنَى بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ، أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَزْكِيَتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ [4 \ 49] ، وَبِقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا [4 \ 50] ، وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ الْعَامِّ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَأَحْرَى نَفْسَ الْكَافِرِ الَّتِي هِيَ أَخَسُّ شَيْءٍ وَأَنْجَسُهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [53] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ. وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [5 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [2 \ 111] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا، وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ظِلَّ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ، وَوَصَفَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ دَائِمٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [13 \ 35] ، وَوَصَفَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ مَمْدُودٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [56] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا ظِلَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ الْآيَةَ [77 \ 41] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الظِّلَالِ مُتَّكِئُونَ مَعَ أَزْوَاجِهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [36 \ 56] ، وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَهِيَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ، وَالْحَجَلَةُ بَيْتٌ يُزَيَّنُ لِلْعَرُوسِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ظِلَّ أَهْلِ النَّارِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [77 29، 30] ، وَقَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [56 \ 41، 44] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ أَمَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَفُرُوعِهِ أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 80] ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [42 \ 10] ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ مُوَبِّخًا لِلْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [4 \ 60] ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يَكْفُرَ بِالطَّاغُوتِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [2 \ 256] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَالْإِيمَانُ بِالطَّاغُوتِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ أَوْ رُكْنٌ مِنْهُ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ الْآيَةَ [2 \ 256] . تَنْبِيهٌ اسْتَدَلَّ مُنَكِرُو الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ، عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الرَّدَّ إِلَى خُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْقِيَاسِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ إِلْحَاقَ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّصِّ فِيهِ لَا يَخْرَجُ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالْمُرَادُ بِإِطَاعَةِ اللَّهِ الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ، وَبِإِطَاعَةِ الرَّسُولِ الْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ، وَبِالرَّدِّ إِلَيْهِمَا الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ رَدَّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ مِنَ النَّصِّ إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّمْثِيلِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ شَيْئًا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّزَاعِ يُعْمَلُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ قَالَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُدُّونَ عَنْ ذَلِكَ صُدُودًا أَيْ: يُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ، وَصَدُّوا وَاسْتَكْبَرُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [63 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أَقْسَمَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْسِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الْكَرِيمَةِ الْمُقَدِّسَةِ، أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكِّمَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، ثُمَّ يَنْقَادَ لِمَا حَكَمَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيُسَلِّمَهُ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ مُمَانَعَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُنَازَعَةٍ، وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ مَحْصُورٌ فِي هَذَا التَّسْلِيمِ الْكُلِّيِّ، وَالِانْقِيَادِ التَّامِّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِمَا حَكَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا الْآيَةَ [24 \ 51] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعُوا بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَيْ: مِنْ قَتْلِ الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، أَوْ جِرَاحٍ أَصَابَتْهُمْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إِنَّ عَدَمَ حُضُورِهِمْ مَعَهُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِالسُّوءِ الَّذِي أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [3 \ 120] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ [9 \ 50] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَهُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ: نَصْرٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ ; لِيَفُوزُوا بِسِهَامِهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ الَّذِي يُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمُ الْبَاطِنَةِ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [3 \ 120] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [9 \ 50] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَوْفَ يُؤْتِي الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا سَوَاءٌ أَقُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمْ غَلَبَ عَدُوَّهُ، وَظَفِرَ بِهِ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ حُسْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [9 \ 52] ، وَالْحُسْنَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ ; لِأَنَّهَا تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [4 \ 84] ، لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالَّذِي يُحَرِّضُ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الْمُؤْمِنِينَ مَا هُوَ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ الْقِتَالُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، أَنْكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَصَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا يُوجَدُ سَبِيلٌ إِلَى هُدَاهُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [5 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [7 \ 186] ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ كَثْرَةُ التَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ وَلَا يُضِلَّهُ ; فَإِنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لَا يَضِلُّ، وَمَنْ أَضَلَّهُ لَا هَادِيَ لَهُ، وَلِذَا ذَكَرَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا الْآيَةَ [3 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [57 \ 10] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ مَنْ خَلَّفَهُ الْعُذْرُ إِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ صَالِحَةً يُحَصِّلُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ، وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ» ، قَالُوا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الشَّاعِرُ: [الْبَسِيطِ] يَا ظَاعِنِينَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ سِرْتُمْ ... جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحًا إِنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَعَنْ قَدْرٍ ... وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ فَقَدْ رَاحَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 تَنْبِيهٌ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا فَرْضُ عَيْنٍ ; لِأَنَّ الْقَاعِدِينَ لَوْ كَانُوا تَارِكِينَ فَرْضًا لَمَا نَاسَبَ ذَلِكَ وَعْدَهُ لَهُمُ الصَّادِقَ بِالْحُسْنَى ; وَهِيَ الْجَنَّةُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقْصُرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَصْرُ كَيْفِيَّتِهَا لَا كَمِّيَّتِهَا، وَمَعْنَى قَصْرِ كَيْفِيَّتِهَا أَنْ يَجُوزَ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ مَا لَا يَجُوزُ فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ، كَأَنْ يُصَلِّيَ بَعْضُهُمْ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَيَقِفُ الْإِمَامُ حَتَّى يَأْتِيَ الْبَعْضُ الْآخَرُ فَيُصَلِّي مَعَهُمُ الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى، وَكَصَلَاتِهِمْ إِيمَاءً رِجَالًا وَرُكْبَانًا وَغَيْرَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَكُلُّ هَذَا مِنْ قَصْرِ كَيْفِيَّتِهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ هَذَا الْقَصْرُ مِنْ كَيْفِيَّتِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ يَلِيهِ مُبَيِّنًا لَهُ: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ الْآيَةَ [4 \ 102] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [2 \ 239] ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا أَنَّهُ قَالَ هُنَا: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [4] ، وَقَالَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [2 \ 239] ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَأَتِمُّوا كَيْفِيَّتَهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَجَمِيعِ مَا يَلْزَمُ فِيهَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ وَقْتَ الْخَوْفِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي دَلَّ لَهُ الْقُرْآنُ فَشَرْطُ الْخَوْفِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [4 \ 101] ، مُعْتَبَرٌ أَيْ: وَإِنْ لَمْ تَخَافُوا مِنْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ فَلَا تَقْصُرُوا مِنْ كَيْفِيَّتِهَا، بَلْ صَلُّوهَا عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [4] ، وَصَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ الْخَوْفِ أَيْضًا لِقَصْرِ كَيْفِيَّتِهَا بِأَنْ يُصَلِّيَهَا الْمَاشِي وَالرَّاكِبُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ الْآيَةَ يَعْنِي: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَأَقِيمُوا صَلَاتَكُمْ كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَقِيَامِهَا وَقُعُودِهَا عَلَى أَكْمَلِ هَيْئَةٍ وَأَتَمِّهَا، وَخَيْرُ مَا يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ الْقُرْآنُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَصْرُ مِنْ كَيْفِيَّتِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، أَنَّ الْبُخَارِيَّ صَدَّرَ بَابَ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِ: بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [4 \ 101، 102] ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ سَاقَ الْآيَتَيْنِ فِي التَّرْجَمَةِ ; لِيُشِيرَ إِلَى خُرُوجِ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَنْ هَيْئَةِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ بِالْكِتَابِ قَوْلًا، وَبِالسُّنَّةِ فِعْلًا، لَا يُنَافِي مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ سَاقَ الْآيَتَيْنِ فِي التَّرْجَمَةِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْكَيْفِيَّةِ الْوَارِدَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ قَصْرَ عَدَدِهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْخَوْفُ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصُرُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي السَّفَرِ وَهُمْ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ، كَمَا وَقَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَغَيْرُهَا، وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ مَكَّةَ: " أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ". وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَصْرُ الْكَيْفِيَّةِ لَا الْكَمِّيَّةِ: مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ الْحَنَفِيِّ. وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمَّا نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا قَالَ: وَاعْتَضَدُوا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفْرِ وَالْحَضَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ ". وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ التِّنِيسِيِّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ عَنْ قُتَيْبَةَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ قَالُوا: " فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ اثْنَتَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَصْرِ هُنَا قَصْرَ الْكَمِّيَّةِ؟ لِأَنَّ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يُقَالُ فِيهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَسُفْيَانُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ طُرُقٍ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ بِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ بِسَمَاعِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالنَّسَائِيُّ قَدْ قَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا فَقَالَ: فَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الثِّقَةِ عَنْ عُمَرَ فَذَكَرَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عُمَرَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ زَادَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَيُّوبُ بْنُ عَائِذٍ، كِلَاهُمَا عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً فَكَمَا يُصَلَّى فِي الْحَضَرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فَكَذَلِكَ يُصَلَّى فِي السَّفَرِ ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ طَاوُسٍ نَفْسِهِ فَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ; لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ " أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ، وَلَكِنْ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعٌ "، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَكِنِ اتَّفَقَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَأَنَّهَا تَامَّةٌ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنْ ثَمَانِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِالْقَبَسِ ". قَالَ عُلَمَاؤُنَا هَذَا الْحَدِيثُ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا هِيَ خَالَفَتْهُ، وَالرَّاوِي مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَا رَوَى فَهِيَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 كَانَتْ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ، قَالُوا: وَمُخَالَفَتُهَا لِرِوَايَتِهَا تُوهِنُ الْحَدِيثَ. الثَّالِثَةُ: إِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ يُعْتَبَرُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ خَالَفَهَا، كَعُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَقَالُوا: " إِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً "، وَقَدْ قَدَّمْنَا رِوَايَةَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْخَامِسَةُ: دَعْوَى أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ ; لِأَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ "، وَقَالَ فِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ " الْحَدِيثَ. قَالُوا: فَهَذَا اضْطِرَابٌ. السَّادِسَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ الْمَغْرِبَ، وَالصُّبْحَ لَمْ يُزَدْ فِيهِمَا، وَلَمْ يُنْقَصْ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ لَا مَرْفُوعٍ. الثَّامِنَةُ: قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ صَحَّ لَنُقِلَ مُتَوَاتِرًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتُ الْمُورَدَةُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ كُلُّهَا سَاقِطَةٌ، أَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَخْفَى سُقُوطُهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ إِجْمَاعٌ وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ نَفْسُهُ الْخِلَافَ فِيهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ دَعْوَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ وَالنِّزَاعَ فَلَمْ يَصِحَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمُخَالَفَةِ عَائِشَةَ لَهُ فَهِيَ أَيْضًا ظَاهِرَةُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَتِهَا لَا بِرَأْيِهَا كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الطَّلَاقِ. وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ يُعْتَبَرُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ، فَجَوَابُهُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِالْمُقِيمِ لِمُخَالَفَتِهِمَا فِي الْعَدَدِ، وَالنِّيَّةِ، وَاحْتَجُّوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 بِحَدِيثِ: " لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إِمَامِكُمْ " وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ وَطَاوُسٌ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لَهَا كَابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَوَابُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ لَمَّا زِيدَ فِيهَا وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ بِالِاضْطِرَابِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اضْطِرَابٌ أَصْلًا، وَمَعْنَى فَرَضَ اللَّهُ وَفَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الشَّارِعُ وَالرَّسُولُ هُوَ الْمُبِيِّنُ، فَإِذَا قِيلَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا فَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَرَضَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 80] ، وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ " مَعَ حَدِيثِ: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ " الْحَدِيثَ. وَأَمَّا رَدُّهُ بِأَنَّ الْمَغْرِبَ وَالصُّبْحَ لَمْ يُزَدْ فِيهِمَا فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ خَاصَّةً كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيِّ. قَالَتْ: " فُرِضَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَاطْمَأَنَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ ; لِأَنَّهَا وَتْرُ النَّهَارِ " وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ كَيْسَانَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ " إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثًا ". وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ الصَّلَوَاتِ الَّتِي تُقْصَرُ، وَأَمَّا رَدُّهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا مَجَالَ فِيهِ لِلرَّأْيِ فَلَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَحْضُرْ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِهَا مَعَهُ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ. وَأَمَّا قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ إِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَنُقِلَ مُتَوَاتِرًا فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُرَدُّ بِعَدَمِ التَّوَاتُرِ، فَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [4 \ 101] ، أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ قَصْرَ الْكَيْفِيَّةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ; وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ الْأَيَّةَ [4 \ 102] . فَبَيَّنَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَصْرِ هَاهُنَا، وَذَكَرَ صِفَتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَالْآيَةُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ عَلَيْهِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [4 \ 101] ، الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا قَدَّمْنَا آنِفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَاوُسٍ. وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: «فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِمَّنْ قَالَ بِالِاقْتِصَارِ فِي الْخَوْفِ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَطَاءٍ، وَجَابِرٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَكَمِ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادٍ، وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى الصُّبْحُ فِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ، وَيُحْكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَبِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْخَوْفِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [4 \ 101] ، قَصْرُ كَمِّيَّةٍ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، هُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ. قَالُوا: وَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْطِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ; لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ حَالَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ فِي مَبْدَأِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَانَ غَالِبُ أَسْفَارِهِمْ مَخُوفَةً. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، أَنَّ مِنَ الْمَوَانِعِ لِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ خُرُوجُ الْمَنْطُوقِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرِ الْجُمْهُورُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [4 \ 23] ; لِجَرَيَانِهِ عَلَى الْغَالِبِ. قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : فِي ذِكْرِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: [الرَّجَزُ] أَوْ جَهِلَ الْحُكْمَ أَوِ النُّطْقَ انْجَلَبْ ... لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، قَالَ: عَجِبْتُ مَا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّ عُمَرَ عَلَى فَهْمِهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَوِيٌّ، وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَانِ. وَظَاهِرُ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ قَصْرَ الْكَيْفِيَّةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَهَيْئَاتُ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ تَارَةً يَكُونُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَتَارَةً إِلَى غَيْرِهَا، وَالصَّلَاةُ قَدْ تَكُونُ رُبَاعِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ ثُلَاثِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ ثُنَائِيَّةً، ثُمَّ تَارَةً يُصَلُّونَ جَمَاعَةً، وَتَارَةً يَلْتَحِمُ الْقِتَالُ، فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بَلْ يُصَلُّونَ فُرَادَى رِجَالًا، وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، وَكُلُّ هَيْئَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ الْوَارِدَةِ فِي الصَّحِيحِ جَائِزَةٌ، وَهَيْئَاتُهَا، وَكَيْفِيَّاتُهَا مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفُرُوعِ، وَسَنَذْكُرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَالصُّورَةُ الَّتِي أَخَذَ بِهَا مِنْهَا هِيَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى تُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ، ثُمَّ تُتِمُّ بَاقِيَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ اثْنَتَانِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الثُّنَائِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُونَ وَيَقِفُونَ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَتَأَتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيَجِدُونَ الْإِمَامَ قَائِمًا يَنْتَظِرُهُمْ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي قِيَامِهِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالسُّكُوتِ إِنْ كَانَتْ ثُنَائِيَّةً، وَبَيْنَ الدُّعَاءِ وَالسُّكُوتِ إِنْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً أَوْ ثُلَاثِيَّةً، وَقِيلَ: يَنْتَظِرُهُمْ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ جَالِسًا فَيُصَلِّي بِهِمْ بَاقِيَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ رَكْعَةٌ فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَالثُّلَاثِيَّةِ، وَرَكْعَتَانِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَهُوَ رَكْعَةٌ فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَرَكْعَتَانِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ، أَنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ يُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَيُسَلِّمُونَ، وَيَقِفُونَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمُ الْبَاقِيَ، وَيُسَلِّمُ وَيُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا: وَحَدِيثُ الْقَاسِمِ أَشْبَهُ بِالْقُرْآنِ، وَإِلَى الْأَخْذِ بِهِ رَجَعَ مَالِكٌ. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: مُرَادُ ابْنِ يُونُسَ، أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، هُوَ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ مَالِكٌ، وَرَجَّحَهُ أَخِيرًا عَلَى مَا رَوَاهُ، أَعْنِي مَالِكًا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ. الْحَدِيثَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، أَنَّ رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ رِوَايَةَ الْقَاسِمِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، أَنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيُتِمُّونَ بَعْدَ سَلَامِهِ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُشِيرًا إِلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَهِيَ رِوَايَةُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عِنْدَ مَالِكٍ، وَهَذَا الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بَعْدَ أَنْ قَالَ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ لِلْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ: إِنَّ الْإِمَامَ لَا يَنْتَظِرُ الْمَأْمُومَ، وَإِنَّ الْمَأْمُومَ إِنَّمَا يَقْضِي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَحَدِيثُ الْقَاسِمِ هَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي (الْمُوَطَّأِ) مَوْقُوفٌ عَلَى سَهْلٍ، إِلَّا أَنَّ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ ; لِأَنَّ سَهْلًا كَانَ صَغِيرًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَزَمَ الطَّبَرَيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَسَهْلٌ الْمَذْكُورُ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْقَوْلُ بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا رَجَعَ إِلَيْهَا مَالِكٌ، وَرَوَاهَا فِي «مُوَطَّئِهِ» عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قَالَ أَوَّلًا: بِأَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى، ثُمَّ تُتِمُّ لِأَنْفُسِهَا، ثُمَّ تُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَيَنْتَظِرُهَا حَتَّى تُتِمَّ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهَا وَرَجَعَ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُسَلِّمُ إِذَا صَلَّى بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، وَلَا يَنْتَظِرُهُمْ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ بَلْ يُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ سَلَامِهِ، كَمَا بَيَّنَّا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُبْهَمَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ فِي قَوْلِ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ، أَنَّهُ أَبُوهُ خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ الصَّحَابِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ الْحَافِظُ فِي «الْفَتْحِ» : وَلَكِنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ أَبُوهُ خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ ; لِأَنَّ أَبَا أُوَيْسٍ، رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ شَيْخِ مَالِكٍ فِيهِ فَقَالَ: عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي «مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ» مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي «تَهْذِيبِهِ» بِأَنَّهُ أَبَوْهُ خَوَّاتٌ، وَقَالَ: إِنَّهُ مُحَقَّقٌ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، قُلْتُ: وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْغَزَّالِيُّ، فَقَالَ إِنَّ صَلَاةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ فِي رِوَايَةِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْعَدُوِّ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ إِلَى غَيْرِهَا، وَأَمَّا إِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ، وَلَمْ يُمْكِنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ تَرَكُ الْقِتَالَ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا رِجَالًا وَرُكْبَانًا إِيمَاءً مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا الْآيَةَ [2 \ 239] . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنْ هَيْئَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَرْبَعًا: إِحْدَاهَا: هِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ، حَتَّى لَا يُمْكِنَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ تَرْكُ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ كَمَا ذَكَرْنَا رِجَالًا وَرُكْبَانًا إِلَخِ الْهَيْئَةَ. الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي صَلَّاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَطْنِ نَخْلٍ، وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى صَلَاتَهُمْ كَامِلَةً ثُمَّ يُسَلِّمُونَ جَمِيعُهُمْ: الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي كَانَتْ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى هِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ وَلَهُ نَافِلَةٌ، وَصَلَاةُ بَطْنِ نَخْلٍ هَذِهِ رَوَاهَا جَابِرٌ وَأَبُو بَكْرَةَ، فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الظُّهْرُ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْمَغْرِبُ، وَإِعْلَالُ ابْنِ الْقَطَّانِ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ هَذَا بِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ وُقُوعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِمُدَّةٍ، مَرْدُودٌ بِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَحَدِيثُهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ لَهُمْ حُكْمُ الْوَصْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِبَطْنِ نَخْلٍ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِصَلَاةِ بَطْنِ نَخْلٍ هَذِهِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا هِيَ كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ بَطْنِ نَخْلٍ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُمَا، قَدْ دَلَّ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا، عَلَى أَنَّهَا هِيَ صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَجَزَمَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ نَخْلٍ هِيَ صَلَاةُ عُسْفَانَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْهَيْئَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْهَيْئَاتِ الَّتِي اخْتَارَهَا الشَّافِعِيُّ: صَلَاةُ عُسْفَانَ، وَكَيْفِيَّتُهَا كَمَا قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ، صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَالصَّفَّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ وَهُوَ صَحَابِيٌّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» فِي الْكُنَى: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي اخْتَارَهَا الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلصُّورَةِ الَّتِي صَحَّتْ عَنْهُ فِي صَلَاةِ عُسْفَانَ ; لِأَنَّهُ أَوْصَى عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ إِذَا صَحَّ، وَأَنَّهُ مَذْهَبُهُ، وَالصُّورَةُ الَّتِي صَحَّتْ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ» «وَالْأُمِّ» أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِهِمُ الْإِمَامُ وَرَكَعَ وَسَجَدَ بِهِمْ جَمِيعًا إِلَّا صَفًّا يَلِيهِ أَوْ بَعْضَ صَفٍّ يَنْتَظِرُونَ الْعَدُوَّ، فَإِذَا قَامُوا بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَهُمْ، فَإِذَا رَكَعَ رَكَعَ بِهِمْ جَمِيعًا وَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ مَعَهُ الَّذِينَ حَرَسُوا أَوَّلًا إِلَّا صَفًّا أَوْ بَعْضَ صَفٍّ يَحْرُسُهُ مِنْهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا سَجْدَتَيْنِ وَجَلَسُوا سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوا ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا مَعًا، وَهَذَا نَحْوُ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُسْفَانَ، قَالَ: وَلَوْ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَ إِلَى الصَّفِّ الثَّانِي وَتَقَدَّمَ الثَّانِي فَحَرَسَ فَلَا بَأْسَ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى أَنَّ الصُّورَتَيْنِ أَعْنِي: الَّتِي ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَالَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ كِلْتَاهُمَا جَائِزَةٌ وَاتِّبَاعُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَلَاةُ عُسْفَانَ الْمَذْكُورَةُ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ مِثْلَ صَلَاةِ عُسْفَانَ الَّتِي ذَكَرْنَا صَلَّاهَا أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ. الرَّابِعَةُ: مِنَ الْهَيْئَاتِ الَّتِي اخْتَارَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ: صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَالْكَيْفِيَّةُ الَّتِي اخْتَارَهَا الشَّافِعِيُّ مِنْهَا هِيَ الَّتِي قَدَّمْنَا رِوَايَةَ مَالِكٍ لَهَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً ثُمَّ يُفَارِقُونَهُ وَيُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَيُسَلِّمُونَ، وَيَذْهَبُونَ إِلَى وُجُوهِ الْعَدُوِّ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الثَّانِيَةِ يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ حَتَّى يَأْتِيَ الْآخَرُونَ فَيُصَلِّي بِهِمُ الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ وَيَجْلِسُ يَنْتَظِرُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا رَكْعَتَهُمُ الْبَاقِيَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَالِكًا رَوَاهَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأَخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مَالِكٍ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَالِكًا قَالَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ إِتْمَامَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ صَلَاتَهُمْ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ. وَصَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ لَهَا كَيْفِيَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ الَّتِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجَهَةَ الْعَدُوِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ، مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً. وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ أَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَتَمُّوا عَلَى التَّعَاقُبِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ إِتْمَامَهُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَلْزِمُ تَضْيِيعَ الْحِرَاسَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَإِفْرَادَ الْإِمَامِ وَحْدَهُ، وَيُرَجِّحُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ أَيْ: الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا ثُمَّ ذَهَبُوا وَرَجَعَ أُولَئِكَ إِلَى مَقَامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ وَالَتْ بَيْنَ رَكْعَتَيْهَا ثُمَّ أَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بَعْدَهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تَأَخَّرَتْ وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَأَتَمُّوا رَكْعَةً ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَعَادَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَأَتَمُّوا - مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (الْفَتْحِ) : إِنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَائِزَةٌ عِنْدَهُ، وَالْمُخْتَارُ مِنْهَا عِنْدَهُ صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ الَّتِي قَدَّمْنَا اخْتِيَارَ الشَّافِعِيِّ لَهَا أَيْضًا، وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً ثُمَّ يُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ إِلَى وُجُوهِ الْعَدُوِّ ; ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمُ الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى ثُمَّ يُصَلُّونَ رَكْعَةً فَإِذَا أَتَمُّوهَا وَتَشَهَّدُوا سَلَّمَ بِهِمْ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمُخْتَارُ مِنْهَا عِنْدَهُ، أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، أَوْ كَانَتْ صُبْحًا مَثَلًا، وَاثْنَتَيْنِ إِنْ كَانَ مُقِيمًا، ثُمَّ تَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى إِلَى وُجُوهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَجِيءُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَيُصَلِّي بِهِمْ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُ، وَتَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْأَخِيرَةُ إِلَى وُجُوهِ الْعَدُوِّ، وَتَجِيءُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى، وَتُتِمُّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهَا بِلَا قِرَاءَةٍ ; لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى وُجُوهِ الْعَدُوِّ، وَتَجِيءُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُتِمُّونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ ; لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ، وَاحْتَجُّوا لِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُخْرَى لَمَّا صَلَّوْا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى أَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَوَالَوْا بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ ذَهَبُوا إِلَى وُجُوهِ الْعَدُوِّ فَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلَّوْا رَكْعَتَهُمُ الْبَاقِيَةَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ بَطْنِ نَخْلٍ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ; لِأَنَّهَا أَعْدَلُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ ; وَلِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَتِلْكَ صَلَاةُ مُفْتَرِضٍ خَلْفَ مُتَنَفِّلٍ وَفِيهَا خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ. وَالثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ صَلَاةُ بَطْنِ نَخْلٍ أَفْضَلُ لِتَحَصُّلِ كُلِّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ جَمَاعَةٍ تَامَّةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ فِي الْحَضَرِيَّةِ يُصَلِّي بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي السَّفَرِيَّةِ رَكْعَةً رَكْعَةً، وَيُصَلِّي فِي الْمَغْرِبِ بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلِّي بِالْأُولَى فِي الْمَغْرِبِ رَكْعَةً، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَإِنْ جَزَمَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ بِأَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ قَبْلَ خَيْبَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ قُدُومَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ مَعَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا مُوسَى شَهِدَ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ; عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ فِي بِضْعٍ، وَإِمَّا قَالَ فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ» الْحَدِيثَ. . .، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ قُدُومَ أَبِي مُوسَى حِينَ افْتِتَاحِ خَيْبَرَ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ وَنَحْنُ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ» الْحَدِيثَ. فَهَذَانَ الْحَدِيثَانِ الصَّحِيحَانِ فِيهِمَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى تَأَخُّرِ ذَاتِ الرِّقَاعِ عَنْ خَيْبَرَ، وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ غَزْوَةُ مُحَارِبِ خَصَفَةَ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطْفَانَ فَنَزَلَ نَخْلًا وَهِيَ بَعْدَ خَيْبَرَ ; لِأَنَّ أَبَا مُوسَى جَاءَ بَعْدَ خَيْبَرَ الَخْ. وَإِنَّمَا بَيَّنَّا هَذَا لِيُعْلَمَ بِهِ أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 لَا حُجَّةَ فِي عَدَمِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ عَلَى أَنْهَا مَشْرُوعَةٌ فِي الْحَضَرِ بِدَعْوَى أَنَّ ذَاتَ الرِّقَاعِ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي هِيَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَكَهَا مَعَ أَنَّهُمْ شَغَلُوهُ وَأَصْحَابَهُ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ إِلَّا لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ فِي الْحَضَرِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَا شُرِعَتْ إِلَّا بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَأَشَارَ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي إِلَى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] ثُمَّ إِلَى مُحَارِبٍ وَثَعْلَبَهْ ... ذَاتِ الرِّقَاعِ نَاهَزُوا الْمُضَارِبَهْ وَلَمْ يَكُنْ حَرْبٌ وَغَوْرَثٌ جَرَى ... بِهَا لَهُ الَّذِي لِدَعْثَوْرٍ جَرَى مَعَ النَّبِيِّ وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ ... جَرَتْ لِوَاحِدٍ بِلَا تَعَدُّدِ وَالنَّاظِمُ هَذَا يَرَى أَنَّهَا قَبْلَ خَيْبَرَ تَبَعًا لِابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَمِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ كَيْفِيَّاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ صَلَاةُ ذِي قَرَدٍ، وَهِيَ أَنْ تُصَلِّيَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَتَقْتَصِرَ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ. وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ هِيَ الَّتِي صَلَّاهَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ لَمَّا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بَطَبَرِسْتَانَ: أَيُّكُمْ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، وَصَلَّى بِهِمْ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ النَّسَائِيُّ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ فَقَامَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا. فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَا رَوَاهُ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَزِيدُ الْفَقِيرُ، وَأَبُو مُوسَى. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَجُلٌ مِنَ التَّابِعِينَ لَيْسَ بِالْأَشْعَرِيِّ جَمِيعًا عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ الْفَقِيرِ إِنَّهُمْ قَضَوْا رَكْعَةً أُخْرَى، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَكَانَتْ لِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً، وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مَا نَصُّهُ: قَالَ السُّدِّيُّ إِذَا صَلَّيْتَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فَهُوَ تَمَامٌ، وَالْقَصْرُ لَا يَحِلُّ إِلَّا أَنْ تَخَافَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُبِيحَةٌ أَنْ تُصَلِيَ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا شَيْئًا ; وَيَكُونُ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَعْبٍ وَفَعَلَهُ حُذَيْفَةُ بِطَبَرِسْتَانَ، وَقَدْ سَأَلَهُ الْأَمِيرُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ عَنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى كَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ رَكْعَةً لِكُلِّ طَائِفَةٍ وَلَمْ يَقْضُوا، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ كَذَلِكَ يَوْمَ غَزْوَةِ مُحَارِبِ خَصْفَةَ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى كَذَلِكَ بَيْنَ ضَجْنَانَ وَعُسْفَانَ، وَبِكَوْنِ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ تَقْتَصِرُ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ أَيْضًا إِسْحَاقُ: وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْخَوْفِ لَا يَجُوزُ، وَأَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا ذَلِكَ وَلَمْ يَقْضُوا أَنَّهُمْ بَعْدَمَا أَمِنُوا وَزَالَ الْخَوْفُ، لَمْ يَقْضُوا تِلْكَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلُّوهَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَتَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ أَنَّ الْخَائِفَ إِذَا أَمِنَ لَا يَقْضِي مَا صَلَّى عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْمُخَالِفَةِ لِهَيْئَةِ صَلَاةِ الْأَمْنِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَقْضُوا، أَيْ فِي عِلْمِ مَنْ رَوَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ رَوَى أَنَّهُمْ قَضَوْا رَكْعَةً فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا، وَرِوَايَةُ مَنْ زَادَ أَوْلَى قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الْفَقِيرِ عَنْ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، أَنَّهُمْ قَضَوْا رَكْعَةً أُخْرَى وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ بِعَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدَةٍ فِي كَيْفِيَّاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَحَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ كَيْفِيَّاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ خَمْسٌ، وَهِيَ صَلَاةُ الْمُسَايَفَةِ الثَّابِتَةُ فِي صَرِيحِ الْقُرْآنِ، وَصَلَاةُ بَطْنِ نَخْلٍ، وَصَلَاةُ عُسْفَانَ، وَصَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَصَلَاةُ ذِي قَرَدٍ. وَقَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي إِلَى غَزْوَةِ ذَاتِ قَرَدٍ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] فَغَزْوَةُ الْغَابَةِ وَهْيَ ذُو قَرَدْ ... خَرَجَ فِي إِثْرِ لِقَاحِهِ وَجَدْ وَنَاشَهَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ... وَهْوَ يَقُولُ الْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ وَفَرَضَ الْهَادِي لَهُ سَهْمَيْنِ ... لِسَبْقِهِ الْخَيْلَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ وَاسْتَنْقَذُوا مِنِ ابْنِ حِصْنٍ ... عَشْرًا وَقَسَمَ النَّبِيُّ فِيهِمْ جُزْرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وَقَدْ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» بِأَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ قَرَدٍ قَبْلَ خَيْبَرَ بِثَلَاثَةِ لَيَالٍ، وَأَخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَرَجَعْنَا مِنَ الْغَزْوَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثْنَا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَثْبَتُ مِمَّا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، كَقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَقَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ غَزْوَةِ لَحْيَانَ بِأَيَّامٍ. وَمَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ بِتَكَرُّرِ الْخُرُوجِ إِلَى ذِي قَرَدٍ، وَقَرَدٌ بِفَتْحَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أَوْ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ أُخَرَ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، إِنَّ أَفْضَلَ الْكَيْفِيَّاتِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، مَا كَانَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ لِلصَّلَاةِ وَالتَّحَفُّظِ مِنَ الْعَدُوِّ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: آيَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ هَذِهِ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الْحَرِجِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهَا أَمْرٌ لَازِمٌ ; إِذْ لَوْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ لَمَا أَمَرَ بِهَا فِي وَقْتِ الْخَوْفِ ; لِأَنَّهُ عُذْرٌ ظَاهِرٌ. الثَّانِي: لَا تَخْتَصُّ صَلَاةُ الْخَوْفِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ مَشْرُوعِيَّتُهَا بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى خُصُوصِهَا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ الْآيَةَ [4 \ 102] ، اسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِّ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ الْآيَةَ [9 \ 103] ، وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ، إِنَّمَا وَرَدَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ لَا لِوُجُودِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيِّنْ لَهُمْ بِفِعْلِكَ لِكَوْنِهِ أَوْضَحَ مِنَ الْقَوْلِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ، وَشَذَّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَبُو يُوسُفَ وَالْمُزَنِيُّ وَقَالَ بِقَوْلِهِمَا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وَالُلُؤْلُؤِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ فَقَالُوا: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَمْ تُشْرَعْ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَجُّوا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ، وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهَا بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَعُمُومُ مَنْطُوقِ هَذَا الْحَدِيثِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْهُومِ. تَنْبِيهٌ قَدْ قَرَّرْتُمْ تَرْجِيحَ أَنَّ آيَةَ: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [4 \ 110] فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا صَلَاةِ السَّفَرِ، وَإِذَنْ فَمَفْهُومُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تُشْرَعُ فِي الْحَضَرِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ قَالَ بِهِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، فَمَنَعَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ أَيْضًا لِمَنْعِهَا فِيهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَفَاتَ عَلَيْهِ الْعَصْرَانِ وَقَضَاهُمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا إِلَّا فِي سَفَرٍ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا تُصَلَّى فِي الْحَضَرِ أَيْضًا، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الشَّرْطَ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ أَيْضًا لِجَرْيِهِ عَلَى الْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي حَادِثَةٍ وَاقِعَةٍ مُبَيِّنًا حُكْمَهَا. كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ بِعُسْفَانَ وَالْمُشْرِكُونَ بِضَجْنَانَ، فَتَوَافَقُوا، فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ صَلَاةً تَامَّةً بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، فَهَمَّ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أَمْتِعَتِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ فَنَزَلَتْ، وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ وَقَعَتْ وَهُمْ مُسَافِرُونَ ضَارِبُونَ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ كَوْنُ الْمَنْطُوقِ نَازِلًا عَلَى حَادِثَةٍ وَاقِعَةٍ، وَلِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [34 \ 33] ، وَلَا فِي قَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [3 \ 28] ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَزَلَ عَلَى حَادِثَةٍ وَاقِعَةٍ: فَالْأَوَّلُ: نَزَلَ فِي إِكْرَاهِ ابْنِ أُبَيٍّ جَوَارِيَهُ عَلَى الزِّنَا، وَهُنَّ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ مِنْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالَوُا الْيَهُودَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَاهِيًا عَنِ الصُّورَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ التَّخْصِيصِ بِهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْمَرَاقِي» بِقَوْلِهِ فِي تَعْدَادِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: [الرَّجَزُ] أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ ... وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالشَّافِعِيُّ، وَبِهِ تَعْلَمُ عَدَمَ صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ، وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّهَا إِلَّا فِي السَّفَرِ بِأَنَّ السَّفَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، وَعِلَّتُهَا هِيَ الْخَوْفُ لَا السَّفَرُ، فَمَتَى وُجِدَ الْخَوْفُ وُجِدَ حُكْمُهَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. نُكْتَةٌ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا تَكُونُ كُلُّ هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ نَاسِخَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَدُوَّ تَارَةً يَكُونُونَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَتَارَةً إِلَى غَيْرِ جِهَتِهَا إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَكُلُّ حَالَةٍ تُفْعَلُ فِيهَا الْهَيْئَةُ الْمُنَاسِبَةُ لَهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. الثَّانِي: هُوَ مَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ كَابْنِ الْحَاجِبِ وَالرَّهُونِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا أَصْلًا، إِذِ الْفِعْلُ لَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا شَخْصِيًّا لَا كُلِّيًّا حَتَّى يُنَافِيَ فِعْلًا آخَرَ، فَلَيْسَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْفِعْلُ وَاجِبًا فِي وَقْتٍ، وَفِي وَقْتٍ آخَرَ بِخِلَافِهِ، وَإِذَنْ فَلَا مَانِعَ مِنْ جَوَازِ الْفِعْلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْهَيْئَةِ لِعِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ تَعَارُضُ الْأَفْعَالِ ... فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَمَا ذَكَرَهُ الْمَحَلِّيُّ مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْجَوَازِ الْمُسْتَمِرِّ دُونَ الْقَوْلِ بَحَثَ فِيهِ صَاحِبُ (نَشْرِ الْبُنُودِ) فِي شَرْحِ الْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَعْنَاهُ: يَنَالُونَكُمْ بِسُوءٍ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فِي قَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ وَقَالَ: لَا قَصْرَ إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَمَنْ قَالَ: لَا قَصْرَ إِلَّا فِي خَوْفٍ، وَمَنْ قَالَ: لَا قَصْرَ إِلَّا فِي سَفَرِ طَاعَةٍ خَاصَّةً، فَإِنَّهَا أَقْوَالٌ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاخْتَلَفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الْعُلَمَاءُ فِي الْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَعَزَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ لِأَكْثَرِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَنَسَبَهُ إِلَى عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ قَالَ: وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: يُعِيدُ مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا. اهـ. مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الشَّوْكَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الْقَصْرِ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَدَلِيلُ هَؤُلَاءِ وَاضِحٌ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى جَوَازِ الْإِتْمَامِ وَالْقَصْرِ، كَمَا يَجُوزُ الصَّوْمُ وَالْإِفْطَارُ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلِ الْقَصْرُ أَوِ الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ؟ وَبِهَذَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ هَؤُلَاءِ يَعْنِي مَنْ ذَكَرْنَا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ أَنَسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي قِلَابَةَ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ الْآيَةَ [4 \ 101] ; لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِرَفْعِ الْجُنَاحِ دَلِيلٌ لِعَدَمِ اللُّزُومِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ» . الْحَدِيثَ، فَكَوْنُهُ صَدَقَةً وَتَخْفِيفًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اللُّزُومِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفْطَرَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَرَ الصَّلَاةَ وَصَامَتْ هِيَ وَأَتَمَّتِ الصَّلَاةَ، فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: «أَحْسَنْتِ» . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ، قَالَ: وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» : قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَالَ فِي «مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ» : هُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ عُمْرَةَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي رَمَضَانَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ الثَّابِتَ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ قَطُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا أَرْبَعَ عُمَرٍ: الْأُولَى: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صَدَّهُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، عَامَ سِتٍّ. الثَّانِيَةُ: عُمْرَةُ الْقَضَاءِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا عَقْدُ الصُّلْحِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ عَامُ سَبْعٍ. الثَّالِثَةُ: عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، عَامَ ثَمَانٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْعُمَرِ الثَّلَاثِ فِي شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. الرَّابِعَةُ: عُمْرَتُهُ مَعَ حَجِّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرِوَايَةُ النَّسَائِيِّ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ الْعُمْرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي رَمَضَانَ وَلَفْظُهُ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ وَأَفْطَرْتَ وَصُمْتُ. قَالَ:» أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةَ «، وَمَا عَابَ عَلَيَّ» . اهـ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ، وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَضَبَطَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» بِلَفْظِ يَقْصُرُ بِالْيَاءِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُتِمُّ بِتَائَيْنِ وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى عَائِشَةَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِإِسْنَادِ الْإِتْمَامِ الْمَذْكُورِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا الْمَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوَابٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ وَعَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ فِي الصَّلَاةِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. اهـ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ دَلْهَمِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو وَكُلُّهُمْ ضَعِيفٌ. الْخَامِسُ: إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اقْتَدَى بِمُقِيمٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ وَاجِبًا حَتْمًا لَمَا جَازَ صَلَاةُ أَرْبَعٍ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ صَلَاةِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ أَيْ: لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ، وَعَنْ قَوْلِ عَمَرَ فِي الْحَدِيثِ: تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَامَّةٌ فِي الْأَجْرِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَلَا يَخْلُو مِنْ تَعَسُّفٍ وَأَجَابَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَنْ حُجَجِ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [4 \ 101] فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ، قَالُوا: وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ فِي قَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ فَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [4 \ 102] ، لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ كَمَا اعْتَرَفْتُمْ بِنَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [2 \ 158] لِأَنَّ السَّعْيَ فَرْضٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ» بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَبُولِهَا فِي قَوْلِهِ: «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَلَيْسَ لَنَا عَدَمُ قَبُولِهَا مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَاقْبَلُوهَا» ، وَأَجَابُوا عَنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ بِأَنَّ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ فِي إِتْمَامِهَا مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهَا فِي ذَلِكَ رِوَايَةٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ عَنْهَا عُرْوَةُ أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيَّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» مَا نَصُّهُ: وَسَمِعْتُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ عَلَى عَائِشَةَ، وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ لِتُصَلِّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ تُشَاهِدُهُمْ يَقْصُرُونَ ثُمَّ تُتِمُّ هِيَ وَحْدَهَا بِلَا مُوجِبٍ، كَيْفَ وَهِيَ الْقَائِلَةُ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ وَتُخَالِفُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ لَمَّا حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا بِذَلِكَ، فَمَا شَأْنُهَا كَانَتْ تُتِمُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الصَّلَاةَ فَقَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَسَّنَ فِعْلَهَا وَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ، فَمَا لِلتَّأْوِيلِ حِينَئِذٍ وَجْهٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّ يُضَافَ إِتْمَامُهَا إِلَى التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ، أَفَيُظَنُّ بِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مُخَالَفَتُهُمْ وَهِيَ تَرَاهُمْ يَقْصُرُونَ. وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا أَتَمَّتْ كَمَا أَتَمَّ عُثْمَانُ، وَكِلَاهُمَا تَأَوَّلَ تَأْوِيلًا. وَالْحُجَّةُ فِي رِوَايَتِهِمْ لَا فِي تَأْوِيلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا اسْتِبْعَادُ مُخَالَفَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِمُخَالَفَتِهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ سَائِغَةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي حَيَاتِهِ بَاقٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ الْبَتَّةَ مُخَالَفَةُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: فِعْلًا كَانَ أَوْ قَوْلًا أَوْ تَقْرِيرًا، وَلَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ أَنَّ عَائِشَةَ تُخَالِفُ هَدْيَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاجْتِهَادٍ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ تَقْتَضِي نَفْيَ رِوَايَتِهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فِي ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّهَا رَوَتْ عَنْهُ ذَلِكَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، فَبِهَذَا يَعْتَضِدُ الْحَدِيثَ الَّذِي صَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَحَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سَنَدَ النَّسَائِيِّ الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي رَوَى بِهِ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَإِعْلَالَ ابْنِ حِبَّانَ لَهُ بِأَنَّ فِيهِ الْعَلَاءَ بْنَ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيَّ، وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ يَرْوِي عَنِ الثِّقَاتِ مَا لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الْإِثْبَاتِ فَبَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْعَلَاءَ الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» وَغَيْرِهِ وَإِعْلَالُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ أَدْرَكَهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ أَدْرَكَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُرَاهِقٌ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ بِالِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ احْتِلَامِهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَمَالِ» أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهَا، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَإِعْلَالُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ يَقُولُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْدُودٌ أَيْضًا، بِأَنَّ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ عَنْ أَبِيهِ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَسَانِيدَ الرِّوَايَتَيْنِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: هَكَذَا قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَنْ قَالَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ أَخْطَأَ. اهـ. فَالظَّاهِرُ ثُبُوتُ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ يُقَوِّي حُجَّةَ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ إِتْمَامَ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَهُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى أَنَّ قَصْرَ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ مَنْ أَتَمَّ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ ; لِأَنَّ الثَّابِتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْقَصْرِ فِي أَسْفَارِهِ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ مِنًى وَلَمْ يَمْنَعْ مَالِكٌ الْإِتْمَامَ ; لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْمَسَافَةِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ. فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: هِيَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَتَقْرِيبُهُ بِالزَّمَانِ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ سَيْرًا مُعْتَدِلًا، وَعِنْدَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي قَدْرِ الْمِيلِ مَعْرُوفٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى رِيمٍ فَقَصَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَرِيمٌ مَوْضِعٌ. قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْمَدِينَةِ: [الْوَافِرُ] فَكَمْ مِنْ حَرَّةٍ بَيْنَ الْمُنَقَّى إِلَى أُحُدٍ إِلَى جَنَبَاتِ رِيمِ وَبِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَكِبَ إِلَى ذَاتِ النُّصُبِ فَقَصَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَبَيْنَ ذَاتِ النُّصُبِ وَالْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَبِمَا قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ، وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ إِلَيَّ، وَبِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ الْبَرِيدَ فَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. كُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «صَحِيحِهِ» : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ سِتَّةُ عَشَرَ فَرْسَخًا. اهـ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الثَّابِتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ، وَبِحَدِيثِ: «مَسْحُ الْمُسَافِرِ عَلَى الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ» ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يُشْرَعُ لَهُ مَسْحُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا يَصِحُّ الْعُمُومُ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِذَا قَدَّرَ أَقَلَّ مُدَّةِ السَّفَرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ; لِأَنَّهَا لَوْ قُدِّرَتْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ مُدَّتِهِ ; لِانْتِهَاءِ سَفَرِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَقْدِيرُهُ بِالثَّلَاثَةِ وَإِلَّا لَخَرَجَ بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ عَنْهُ. اهـ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيمَا يَظْهَرُ لِي ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَحِلُّ لَهَا سَفَرُ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْدِيدِ أَقَلِّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «مَسِيرَةَ يَوْمٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ «لَيْلَةٍ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ لَا «تُسَافِرْ بَرِيدًا» ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي الثَّلَاثَةِ وَالْيَوْمَيْنِ وَالْيَوْمِ صَحِيحَةٌ، وَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ تُسَافِرُ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَقَالَ: «لَا» ، وَسُئِلَ عَنْهَا تُسَافِرُ يَوْمَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَقَالَ: «لَا» ، وَيَوْمًا فَقَالَ: «لَا» فَأَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا حَفِظَ وَلَا يَكُونُ عَدَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ حَدًّا لِلسَّفَرِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَظَهْرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَقَلِّ السَّفَرِ بِالْحَدِيثِ غَيْرُ مُتَّجِهٍ كَمَا تَرَى لَا سِيَّمَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِيهِ قَدْ خَالَفَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا رَأَى الصَّحَابِيُّ لَا بِمَا رَوَى. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ تَوْقِيتِ مَسْحِ الْمُسَافِرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ فَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مُتَّجِهٍ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى سَفَرُهُ قَبْلَهَا صَارَ مُقِيمًا وَزَالَ عَنْهُ اسْمُ السَّفَرِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَافِرَ ثَلَاثَةٌ بَلْ غَايَةُ مَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 مُدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ مَكَثَهَا مُسَافِرًا فَذَلِكَ، وَإِنْ أَتَمَّ سَفَرَهُ قَبْلَهَا صَارَ غَيْرَ مُسَافِرٍ وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ يَجُوزُ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ تَامٍّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَاحْتَجُّوا بِمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ اسْمَ السَّفَرِ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَالسَّفَرُ هُوَ مَنَاطُ الْقَصْرِ، وَبِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ الْيَوْمِ التَّامِّ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَنَّهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ: «بَابٌ فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا وَلَيْلَةً سَفَرًا» ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَسَمَّى النَّبِيُّ الْخَ. . . بَعْدَ قَوْلِهِ: «فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَنَاطُ الْقَصْرِ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، قَالَ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حَتَّى إِنَّهُ لَوْ خَرَجَ إِلَى بُسْتَانٍ خَارِجَ الْبَلَدِ قَصَرَ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَوَازَ الْقَصْرِ بِلَا تَقْيِيدٍ لِلْمَسَافَةِ، وَبِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهَنَائِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَبِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ إِلَى قَرْيَةٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ لَهُ. فَقَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَلُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ» ، وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا أَنَّ تِلْكَ الْمَسَافَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِمَا هِيَ غَايَةُ السَّفَرِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَافَرَ سَفَرًا طَوِيلًا فَتَبَاعَدَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ قَصَرَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يُسَافِرُ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فَلَا تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ الْأُخْرَى إِلَّا وَقَدْ تَبَاعَدَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ شُرَحْبِيلَ الْمَذْكُورُ. فَقَوْلُهُ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا إِلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا فَمَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ غَايَةُ سَفَرِهِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَصْرَ صَرِيحًا فِيمَا دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ» : وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ» ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَافَةِ الْقَصِيرَةِ ظُهُورًا أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَحْدِيدِهَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ» ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ مُجَاهِدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَكَذَّبَهُ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ وَرَاوِيهِ عَنْهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ضَعِيفَةٌ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَذْكُورُ حِجَازِيٌّ لَا شَامِيٌّ، وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَلَاغًا، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي تَحْدِيدِ الْمَسَافَةِ مِنْ نَوْعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَكُلُّ مَا كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يَجُوزُ الْقَصْرُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ وَلَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ مِنْ نَقْلٍ صَحِيحٍ وَمُطْلَقُ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ لَا يُسَمَّى سَفَرًا، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْهَبُ إِلَى قُبَاءٍ وَإِلَى أُحُدٍ وَلَمْ يَقْصُرِ الصَّلَاةَ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ قَدَّمْنَا عَنْ مُسْلِمٍ مُحْتَمَلَانِ وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْمُتَقَدِّمُ لَا نَعْلَمُ أَصَحِيحٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ نَصًّا قَوِيًّا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَافَةِ الْقَصِيرَةِ وَالطَّوِيلَةِ، وَقَصْرُ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَلِيلٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَصْرِ فِي الْمَسَافَةِ غَيْرِ الطَّوِيلَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْقَصْرُ فِي مُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَعَرَفَاتٍ، مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَقْوَى الْأَقْوَالِ فِيمَا يَظْهَرُ لِي حُجَّةً، هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا وَلَوْ قَصِيرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ; لِإِطْلَاقِ السَّفَرِ فِي النُّصُوصِ، وَلِحَدِيثَيْ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مُحَارِبٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «إِنِّي لَأُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنَ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ» . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «لَوْ خَرَجْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 مِيلًا قَصَرْتُ الصَّلَاةَ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : إِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ. اهـ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: يَبْتَدِئُ الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ، إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ بَلَدِهِ بِأَنْ خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ كُلِّهِ، وَلَا يَقْصُرُ فِي بَيْتِهِ إِذَا نَوَى السَّفَرَ، وَلَا فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَصَرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ بَسَاتِينُ مَسْكُونَةٌ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَلَدِ، فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَهَا، وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ ; عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْصُرُ إِلَّا إِذَا خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ، بِأَنَّ الْقَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ لَمْ يَضْرِبْ فِي الْأَرْضِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ السَّفَرَ قَصَرَ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّهُ أَرَادَ سَفَرًا فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فِي مَنْزِلِهِ وَفِيهِمُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَرَوَيْنَا مَعْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ نَهَارًا حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ، وَإِنْ خَرَجَ بِاللَّيْلِ لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ النَّهَارُ، وَعَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جَاوَزَ حِيطَانَ دَارِهِ فَلَهُ الْقَصْرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَهَذَانَ الْمَذْهَبَانِ فَاسِدَانِ فَمَذْهَبُ مُجَاهِدٍ مُنَابِذٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي قَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الْحُلَيْفَةِ، حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَمُوَافِقِيهِ مُنَابِذٌ لِلسَّفَرِ. اهـ. مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ إِقَامَتَهَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: لَا يَحْسِبُ فِيهَا يَوْمَ الدُّخُولِ، وَلَا يَوْمَ الْخُرُوجِ، وَمَالَكٌ يَقُولُ: إِذَا نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ أَتَمَّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي الْعُتَيْبَةِ يُلْغَى يَوْمُ دُخُولِهِ وَلَا يَحْسِبُهُ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا مَا زَادَ عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ نِصْفُ شَهْرٍ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «ثَلَاثُ لَيَالٍ يَمْكُثُهُنَّ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الصَّدْرِ» ، هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ: «لِلْمُهَاجِرِ إِقَامَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ بَعْدَ الصَّدْرِ بِمَكَّةَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ: «يُقِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا» ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَيْضًا بِلَفْظِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدْرِ» اهـ. قَالُوا فَأَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُهَاجِرِينَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَامَهَا فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ، وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا يَكُونُ إِقَامَةً وَالْمُقِيمُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجْلَى الْيَهُودَ مِنَ الْحِجَازِ، ثُمَّ أَذِنَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا أَنَّ يُقِيمَ ثَلَاثًا «، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا رَخَّصَ لَهُمْ فِي الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَتَهْيِئَةُ أَحْوَالِهِمْ لِلسَّفَرِ، وَكَذَلِكَ تَرْخِيصُ عُمَرَ لِلْيَهُودِ فِي إِقَامَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَضِدُ بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّ الْقَصْرَ شُرِعَ لِأَجْلِ تَخْفِيفِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَمَنْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّهَا مَظِنَّةٌ لِإِذْهَابِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ عَنْهُ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَلَى أَنَّهَا مَا زَادَ عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَدِمَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صُبْحَ رَابِعَةٍ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَوْمَ الرَّابِعَ، وَالْخَامِسَ، وَالسَّادِسَ، وَالسَّابِعَ، وَصَلَّى الْفَجْرَ بِالْأَبْطُحِ يَوْمَ الثَّامِنِ، فَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى إِقَامَتِهَا، وَهِيَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ صَلَاةً ; لِأَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ كَامِلَةٍ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ مِنَ الثَّامِنِ «، قَالَ: فَإِذَا أَجْمَعَ أَنْ يُقِيمَ، كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَرَ، وَإِذَا أَجْمَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الِاحْتِجَاجَ كَلَامٌ لَيْسَ يَفْقَهُهُ كُلُّ النَّاسِ، وَحَمَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَشْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ، وَأَنَّ أَنَسًا أَرَادَ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِظُهُورِ وَجْهِهِ، وَوُضُوحِ أَنَّهُ الْحَقُّ. تَنْبِيهٌ حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ، لَا يُعَارِضُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:» أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ «، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا ; لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَحَدِيثَ أَنَسٍ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَحْمُولٌ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا كَانَ نَاوِيًا الْإِقَامَةَ ; وَالْإِقَامَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ نِيَّةٍ لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا نِصْفُ شَهْرٍ، بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:» أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ خَمْسَةَ عَشَرَ، يَقْصُرُ الصَّلَاةَ «وَضَعَّفَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ، رِوَايَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي» الْفَتْحِ «: وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ رُوَاتَهَا ثِقَاتٌ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ إِسْحَاقَ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، مِنْ رِوَايَةِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ رِوَايَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ، عَنْ رِوَايَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَرِوَايَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَرِوَايَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ ; لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا وَرَدَ فَيُحْمَلُ غَيْرُهَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَأَرْجَحُ الرِّوَايَاتِ، وَأَكْثَرُهَا وُرُودًا فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ رِوَايَةُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَبِهَا أَخَذَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، بِأَنَّ مَنْ قَالَ: تِسْعَةَ عَشَرَ، عَدَّ يَوْمَ الدُّخُولِ، وَيَوْمَ الْخُرُوجِ، وَمَنْ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ حَذَفَهُمَا، وَمَنْ قَالَ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ حَذَفَ أَحَدَهُمَا. أَمَّا رِوَايَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَالظَّاهِرُ فِيهَا أَنَّ الرَّاوِيَ ظَنَّ، أَنَّ الْأَصْلَ رِوَايَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَحَذَفَ مِنْهَا، يَوْمَ الدُّخُولِ، وَيَوْمَ الْخُرُوجِ، فَصَارَ الْبَاقِي خَمْسَةَ عَشَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقَامَةَ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ النِّيَّةِ فِيهَا أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُتِمُّ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَالثَّانِي: بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالثَّالِثُ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَالرَّابِعُ: تِسْعَةَ عَشَرَ. وَالْخَامِسُ: عِشْرِينَ يَوْمًا. وَالسَّادِسُ: يَقْصُرُ أَبَدًا حَتَّى يُجْمِعَ عَلَى الْإِقَامَةِ. وَالسَّابِعُ: لِلْمُحَارِبِ أَنْ يَقْصُرَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ الْقَصْرُ بَعْدَ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ وَلَوْ طَالَ مَقَامُهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَصْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَّةَ إِقَامَتِهِ فِي مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:» أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ «. وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ، وَأَعَلَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ بِالْإِرْسَالِ وَالِانْقِطَاعِ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمُبَارَكِ وَغَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَوْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ مُرْسَلًا، وَأَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ:» بِضْعَ عَشْرَةَ «وَبِهَذَا اللَّفْظِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ لَهُ: وَلَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ:» بِضْعَ عَشْرَةَ «. اهـ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَفْعَلُهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَحْيَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَنَسٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي» شَرْحِ الْمُهَذَّبِ «: قُلْتُ وَرِوَايَةُ الْمُسْنَدِ تَفَرَّدَ بِهَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَهُوَ إِمَامٌ مُجْمَعٌ عَلَى جَلَالَتِهِ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ فِي الْحَدِيثِ إِرْسَالٌ وَإِسْنَادٌ حُكِمَ بِالْمُسْنَدِ. اهـ. مِنْهُ وَعَقَدَهُ صَاحِبُ» الْمَرَاقِي «بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَالرَّفْعُ وَالْوُصُولُ وَزَيْدُ اللَّفْظِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ الَخْ. . . وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِقَامَةَ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ النِّيَّةِ لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:» غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ: «يَا أَهْلَ الْبَلْدَةِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا سَفْرٌ» ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ «فَإِنَّا سَفْرٌ» مَعَ إِقَامَتِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْمُقِيمَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُسَافِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَهُ لِشَوَاهِدِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرِ الِاخْتِلَافَ فِي الْمُدَّةِ كَمَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْمُحَدِّثِينَ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْأَسَانِيدِ دُونَ السِّيَاقِ. اهـ. وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِهِ فِي السَّفَرِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ: صَدُوقٌ رُبَّمَا رَفَعَ الْمَوْقُوفَ وَوَثَّقَهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: اخْتَلَطَ فِي كِبَرِهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وَعَبْدُ الْوَارِثِ، وَخَلْقٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّمَا فِيهِ لِينٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الدَّارَقُطْنِيِّ هَذَا أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ فِيهِ، لَكِنْ يُتَّقَى مِنْهُ مَا كَانَ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ. اهـ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ دُونَ نِيَّتِهَا لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، «وَقَدْ أَقَامَ الصَّحَابَةُ بِرَامَهُرْمُزَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَتَضْعِيفُهُ بِعِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّ عِكْرِمَةَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» . وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي «مَسْنَدِهِ» عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ بِأَذْرَبِيجَانَ لَا أَدْرِي قَالَ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ فَرَأَيْتُهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : إِنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ. اهـ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَسْكَرِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَقْصُرُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَقْصُرُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ بِبَلَدٍ أَوْ مَرَّ عَلَى بَلَدٍ فِيهِ زَوْجَتُهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ ; لِأَنَّ الزَّوْجَةَ فِي حُكْمِ الْوَطَنِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِمَا، وَأَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ فِي «مَسْنَدَيْهِمَا» عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ مِنًى أَرْبَعًا وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَمَّا قَدِمْتُ تَأَهَّلْتُ بِهَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا تَأَهَّلَ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا صَلَاةَ الْمُقِيمِ» . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: وَهَذَا أَحَسَنُ مَا اعْتُذِرَ بِهِ عَنْ عُثْمَانَ، يَعْنِي: فِي مُخَالَفَتِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي مِنًى، وَأَعَلَّ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ عُثْمَانَ هَذَا بِانْقِطَاعِهِ وَأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عِكْرِمَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الضَّعْفِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَهُ فِي «تَارِيخِهِ» وَلَمْ يَطْعَنْ فِيهِ، وَعَادَتُهُ ذِكْرُ الْجَرْحِ وَالْمَجْرُوحِينَ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا تَزَوَّجَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِمَا. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّ أَحْسَنَ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ فِي الْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ أَنَّهُمَا فَهِمَا مِنْ بَعْضِ النُّصُوصِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» «أَنَّهُ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا» . اهـ. وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْإِتْمَامِ لِمَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي أَرْبَعًا قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ صَلَّيْتِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ» ، وَهَذَا أَصْرَحُ شَيْءٍ عَنْهَا فِي تَعْيِينِ مَا تَأَوَّلَتْ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ فِي مَعْصِيَةٍ الْقَصْرُ ; لِأَنَّ التَّرْخِيصَ لَهُ وَالتَّخْفِيفَ عَلَيْهِ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ الْآيَةَ [5 \ 3] ، فَشَرَطَ فِي التَّرْخِيصِ بِالِاضْطِرَارِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَوْنَهُ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْمُتَجَانِفَ لِإِثْمٍ لَا رُخْصَةَ لَهُ وَالْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ مُتَجَانِفٌ لِإِثْمٍ، وَالضَّرُورَةُ أَشَدُّ فِي اضْطِرَارِ الْمَخْمَصَةِ مِنْهَا فِي التَّخْفِيفِ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ وَمَنْعِ مَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ أَلْجَأُ بِالتَّجَانُفِ لِلْإِثْمِ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ بِهِ فِيمَا دُونَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا مِنَ الْقِيَاسِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، وَيُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: يَقْصُرُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَغَيْرِهِ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ ; وَلِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْقَصْرِ لَيْسَ مَعْصِيَةً بِعَيْنِهِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ وَلَمْ تَزَلْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا، أَيْ: شَيْئًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ وَاجِبًا حَتْمًا مَوْقُوتًا، أَيْ: لَهُ أَوْقَاتٌ يَجِبُ بِدُخُولِهَا وَلَمْ يُشِرْ هُنَا إِلَى تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [17 \ 78] ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ وَهُوَ زَوَالُهَا عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ عَلَى التَّحْقِيقِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ; وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَهُوَ ظَلَامُهُ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ; وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ ; لِأَنَّهَا رُكْنٌ فِيهَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الشَّيْءِ بِاسْمِ بَعْضِهِ. وَهَذَا الْبَيَانُ أَوْضَحَتْهُ السُّنَّةُ إِيضَاحًا كُلِّيًّا، وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُشِيرَ فِيهَا إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [30 \ 17، 18] ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الصَّلَاةُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: حِينَ تُمْسُونَ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَبِقَوْلِهِ: وَحِينَ تُصْبِحُونَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبِقَوْلِهِ: وَعَشِيًّا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَبِقَوْلِهِ: وَحِينَ تُظْهِرُونَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [11 \ 114] ، وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ أَشَارَ بِطَرَفَيِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوَّلَهُ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ آخِرَهُ أَيْ: فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَأَشَارَ بِزُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ قَبْلَهَا صَلَاتَانِ: صَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَقِيَامَ اللَّيْلِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِطَرَفَيِ النَّهَارِ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وَالْمُرَادُ بِزُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِعِيدٌ ; لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي الْيَسَرِ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ بِزَمَنٍ فَهِيَ عَلَى التَّحْقِيقِ مُشِيرَةٌ لِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ وَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِأَدِلَّتِهَا الْمُبَيِّنَةِ لَهَا مِنَ السُّنَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا أَوَّلًا وَآخِرًا، أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَهُوَ زَوَالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، فَاللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ وَدُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ. . . الْحَدِيثَ، وَمَعْنَى تَدْحَضُ: تَزُولُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: حِينَ تَزُولُ، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ» الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامَانِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، فَإِنْ قِيلَ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، وَحَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ وَكُلُّهُمْ مُخْتَلَفٌ فِيهِمْ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ تُوبِعُوا فِيهِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْعُمَرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هِيَ مُتَابَعَةٌ حَسَنَةٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ لَيْسَ فِي إِسْنَادِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ بَلْ سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَذْكُورِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ الْمَذْكُورِ، فَتَسْلَمُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنَ التَّضْعِيفِ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، وَمِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي إِسْنَادِهِ لَا وَجْهَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ:» قُمْ فَصَلِّهْ «، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ» الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي الْبُخَارِيَّ، حَدِيثُ جَابِرٍ، أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْمَوَاقِيتِ. قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: يَعْنِي فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:» صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ «، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَذَّنَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ» . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ» الْحَدِيثَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ هُوَ زَوَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ فِيهِ، أَنَّهُ عِنْدَمَا يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ ظِلِّ الزَّوَالِ، فَإِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ صَلَّى الْعَصْرَ عِنْدَمَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْتِهَاءِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَأَصْرَحُ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَحْدِيدَهُ بِالْأَدِلَّةِ، هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ الِاخْتِيَارِيُّ، وَأَنَّ وَقْتَهَا الضَّرُورِيَّ يَمْتَدُّ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُجَّةَ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى اشْتِرَاكِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْوَقْتِ، فَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ سَابِقًا «فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ فِي الْأَوَّلِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: «جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ» فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ، وَقَالُوا أَيْضًا: الصَّلَوَاتُ زِيدَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ سُقُوطُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ» فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى صَلَاتِهِ لِلظَّهْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَرَاغُهُ مِنْهَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَمَعْنَى صَلَاتِهِ لِلْعَصْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ كَوْنِ ظِلِّ الشَّخْصِ مِثْلَهُ، وَابْتَدَأَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ كَوْنِ ظِلِّ الشَّخْصِ مِثْلَهُ أَيْضًا، فَلَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكَ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ، هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَصَلَّى الظُّهْرَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ» ، فَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ ابْتَدَأَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ كَوْنِ ظِلِّ الشَّخْصِ مِثْلَهُ، وَأَتَمَّهَا عِنْدَ كَوْنِ ظِلِّهِ مِثْلَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ [65 \ 2] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ [2 \ 232] ، فَالْمُرَادُ بِالْبُلُوغِ الْأَوَّلِ مُقَارَبَتُهُ، وَبِالثَّانِي حَقِيقَةُ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ» ، فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا حِينَ لَمَّ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا إِلَّا قَدْرَ مَا تُصَلِّى فِيهِ، وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَصَلَّاهَا فِي أَوَّلِهِ، وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا كَانَتْ صُورَةُ صَلَاتِهِ صُورَةَ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ ثَمَّ جَمْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّهُ أَدَّى كُلًّا مِنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَسَتَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الصَّلَوَاتِ زِيدَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ تَوْقِيتَ الْعِبَادَاتِ تَوْقِيفِيٌّ بِلَا نِزَاعٍ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ ثَبَتَتْ بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ لَهَا وَقْتًا اخْتِيَارِيًّا، وَوَقْتًا ضَرُورِيًّا، أَمَّا وَقْتُهَا الِاخْتِيَارِيُّ فَأَوَّلُهُ عِنْدَمَا يَكُونُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ ظِلِّ الزَّوَالِ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِانْتِهَاءِ وَقْتِ الظُّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: " فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ". وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ أَيْضًا: " فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مَثْلَهُ "، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ وَغَيْرُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كَلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ أَدْنَى زِيَادَةٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: إِنْ كَانَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الزِّيَادَةَ لِتَحْقِيقِ بَيَانِ انْتِهَاءِ الظِّلِّ إِلَى الْمِثْلِ إِذْ لَا يُتَيَقَّنُ ذَلِكَ إِلَّا بِزِيَادَةٍ مَا كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا مُخَالِفَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ عِنْدَمَا يَكُونُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى زِيَادَةٍ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ إِمْكَانُ تَحْقِيقِ كَوْنِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى زِيَادَةٍ مَا. وَشَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ مِثْلَيْنِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَسِيرًا كَانَ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ قَالَ: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَعَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ. فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: أَيْ رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (هَلْ ظَلَمَتْكُمْ مَنْ أَجْرِكُمْ مَنْ شَيْءٍ، قَالُوا لَا قَالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ وَمِنْ حِينِ يَصِيرُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ هُوَ رُبُعُ النَّهَارِ، وَلَيْسَ بِأَقَلَّ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ضَرْبُ الْمَثَلِ لَا بَيَانُ تَحْدِيدِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِهَاءِ وَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَمَا يَصِيرُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ هُوَ تَحْدِيدُ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ أَخْذَ الْأَحْكَامِ مِنْ مَظَانِّهَا أَوْلَى مِنْ أَخْذِهَا لَا مِنْ مَظَانِّهَا مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ أَحَدَ الزَّمَنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْآخَرِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ عَمَلَهُمْ أَكْثَرُ، وَكَثْرَةُ الْعَمَلِ لَا تَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الزَّمَنِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْمَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَمَلًا كَثِيرًا فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ وُضِعَتْ عَنْهَا الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ هَذَا الْآثَارَ وَالنَّاسَ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ، فَإِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ الْحَقَّ كَوْنُ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ عِنْدَمَا يَكُونُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ ظِلِّ الزَّوَالِ فَاعْلَمْ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْعَصْرِ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ تَحْدِيدُهُ بِأَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كَلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا تَحْدِيدُهُ بِمَا قَبْلَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا امْتِدَادُهُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ فِي بَيَانِهِ لِآخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ فَانْصَرَفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصَفَرَّ الشَّمْسُ وَيَسْقُطْ قَرْنُهَا الْأَوَّلُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ. وَالظَّاهِرُ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي تَحْدِيدِ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ أَنَّ مَصِيرَ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ، هُوَ وَقْتُ تَغْيِيرِ الشَّمْسِ مِنَ الْبَيَاضِ وَالنَّقَاءِ إِلَى الصُّفْرَةِ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، فَقَدْ صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمِثْلَيْنِ عِنْدَهُمُ اسْتِحْبَابٌ وَلَعَلَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ يُوجَدُ أَحَدُهُمَا قَرِيبًا مِنَ الْآخَرِ. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَهَذَا هُوَ انْتِهَاءُ وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ. وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِهَا إِلَى الْغُرُوبِ، فَهِيَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَعْذَارِ كَحَائِضٍ تَطْهُرُ، وَكَافِرٍ يُسْلِمُ، وَصَبِيٍّ يَبْلُغُ، وَمَجْنُونٍ يُفِيقُ، وَنَائِمٍ يَسْتَيْقِظُ، وَمَرِيضٍ يَبْرَأُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ". فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى الِاصْفِرَارِ فَمَا بَعْدَهُ بِلَا عُذْرٍ. وَأَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ، أَيْ: غَيْبُوبَةُ قُرْصِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ: «فَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ» ، وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا أَعْنِي الْمَغْرِبَ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَدْرُ مَا تُصَلَّى فِيهِ أَوَّلَ وَقْتِهَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْإِتْيَانِ بِشُرُوطِهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّاهَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِ لَهَا فِي الْأُولَى، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ آخَرُ لَأَخَّرَهَا فِي الثَّانِيَةِ إِلَيْهِ كَمَا فَعَلَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ غَيْرِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَمْتَدُّ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ. فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُتَقَدِّمِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ» الْحَدِيثَ. وَالْمُرَادُ بِثَوْرِ الشَّفَقِ: ثَوَرَانُهُ وَانْتِشَارُهُ وَمُعْظَمُهُ، وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ حُمْرَةُ الشَّفَقِ الثَّائِرَةُ فِيهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَحَدِيثِ بِرَيْدَةَ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، وَفِي لَفْظٍ: «فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ سُقُوطِ الشَّفَقِ» ، وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَادِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ حَيْثُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ وَقْتَ الْجَوَازِ وَهَذَا جَارٍ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ مَا سِوَى الظُّهْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِامْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالْمَدِينَةِ فَوَجَبَ اعْتِمَادُهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَصَحُّ إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ بَيَانِ جِبْرِيلَ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي أَفْضَلِيَّةِ تَقْدِيمِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ أَوَّلِ وَقْتِهَا وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ امْتِدَادُ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ لِلْمَغْرِبِ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» : رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُجَّةَ هَذَا الْقَوْلِ بِامْتِدَادِ وَقْتِ الضَّرُورَةِ لِلْمَغْرِبِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ» ، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ» وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُصَلِّي السَّبْعَ جَمِيعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالثَّمَانِ كَذَلِكَ كَمَا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ «وَقْتِ الْمَغْرِبِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَبْعًا جَمِيعًا وَثَمَانِيًا جَمِيعًا» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ: «جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ» ، قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أَرَادَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِي [الْمُوَطَّأِ] لَعَلَّ ذَلِكَ لِعِلَّةِ الْمَطَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَفِي لَفْظِ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَبِهَذَا الْحَمْلِ تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا خِلَافٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ مُتَعَيَّنٌ، مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ» ، فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَاوِي حَدِيثَ الْجَمْعِ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ مَا رَوَاهُ مِنَ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْجَمْعُ الصُّورِيُّ، فَرِوَايَةُ النَّسَائِيِّ هَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ مُبَيِّنَةٌ لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْبَيَانَ بِمَا سَنَدُهُ دُونَ سَنَدِ الْمُبَيَّنِ جَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَكَذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْبَيَانِ: [الرَّجَزُ] وَبَيَّنَ الْقَاصِرُ مِنْ حَيْثُ السَّنَدْ ... أَوِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُعْتَمَدْ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ، أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّهُ» ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالرَّاوِي أَدْرَى بِمَا رَوَى مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ قَرَائِنَ لَا يَعْلَمُهَا الْغَائِبُ، فَإِنْ قِيلَ ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ أَنَّ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيَّ قَالَ لِأَبِي الشَّعْثَاءِ: لَعَلَّ ذَلَكَ الْجَمْعَ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ، فَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: عَسَى. فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّا لَمْ نَدَّعِ جَزْمَ أَبِي الشَّعْثَاءِ بِذَلِكَ وَرِوَايَةَ الشَّيْخَيْنِ عَنْهُ بِالظَّنِّ، وَالظَّنُّ لَا يُنَافِي احْتِمَالَ النَّقِيضِ وَذَلِكَ النَّقِيضُ الْمُحْتَمَلُ هُوَ مُرَادُهُ بِعَسَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كِلَاهُمَا مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَى عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ الْجَمْعُ الصُّورِيُّ. أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ كَمَا ذَكَرَهُ الْهَيْثَمِيُّ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» بِلَفْظِ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: صَنَعْتُ ذَلِكَ لِئَلَّا تُحْرَجَ أُمَّتِي» ، مَعَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» ، فَنَفْيُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْجَمْعِ الْمَذْكُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ الْجَمْعُ الصُّورِيُّ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِهَا وَإِلَّا لَكَانَ قَوْلُهُ مُتَنَاقِضًا وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ بِالْمَدِينَةِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ كَمَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا» ، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الصُّورِيُّ، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُعِيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ بِلَفْظِ جَمَعَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ جَمَعَ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَقَدْ قَرَّرَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ لَا يَكُونُ عَامَّا فِي أَقْسَامِهِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ» فِي مَبْحَثِ الْعَامِّ، مَا نَصُّهُ: الْفِعْلُ الْمُثْبَتُ لَا يَكُونُ عَامًّا فِي أَقْسَامِهِ مِثْلَ صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَلَا يَعُمَّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَا يَعُمُّ وَقْتَيْهِمَا وَأَمَّا تَكَرُّرُ الْفِعْلِ فَمُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي: كَانَ يَجْمَعُ كَقَوْلِهِمْ كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ. . . الْخَ. قَالَ شَارِحُهُ الْعَضُدُ مَا نَصُّهُ: وَإِذَا قَالَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَلَا يَعُمُّ جَمْعُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَالتَّأْخِيرِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَعُمُومُهُ فِي الزَّمَانِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ كَانَ يَفْعَلُ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ، كَمَا إِذَا قِيلَ: كَانَ حَاتِمُ يُكْرِمُ الضَّيْفَ وَهُوَ لَيْسَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ يَجْمَعُ. بَلْ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي، وَهُوَ كَانَ، حَتَّى لَوْ قَالَ: جَمَعَ لَزَالَ التَّوَهُّمُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ بِحَذْفٍ يَسِيرٍ لِمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْمُرَادِ عِنْدَنَا فَقَوْلُهُ: حَتَّى لَوْ قَالَ: جَمَعَ زَالَ التَّوَهُّمُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ جَمَعَ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْعُمُومُ، وَإِذَنْ فَلَا تَتَعَيَّنُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْجَمْعِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 مُنْفَصِلٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمْعُ الصُّورِيُّ. وَقَالَ صَاحِبُ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ نَصُّهُ: وَالْفِعْلُ الْمُثْبَتُ، وَنَحْوُ كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ. قَالَ شَارِحُهُ صَاحِبُ «الضِّيَاءِ اللَّامِعِ» مَا نَصُّهُ: وَنَحْوُ كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ، أَيْ: بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، لَا عُمُومَ لَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا يَعُمُّ جَمْعُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَالتَّأْخِيرِ إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، بِهَذَا فَسَّرَ الرَّهُونِيُّ كَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْفِعْلَ الْأَخِيرَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ ; لِأَنَّ فِي كَانَ مَعْنًى زَائِدًا، وَهُوَ اقْتِضَاؤُهَا مَعَ الْمُضَارِعِ التَّكْرَارَ عُرْفًا فَيُتَوَهَّمُ مِنْهَا الْعُمُومُ نَحْوَ كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضِّيفَانَ. وَبِهَذَا صَرَّحَ الْفِهْرِيُّ وَالرَّهُونِيُّ وَذَكَرَ وَلِيُّ الدِّينِ عَنِ الْإِمَامِ فِي «الْمَحْصُولِ» أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ عُرْفًا وَلَا لُغَةً. قَالَ وَلِيُّ الدِّينِ وَالْفِعْلُ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ لَا يَعُمُّ كَالنَّكِرَةِ الْمُثَبَتَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [25 \ 48] . اهـ. مِنْ " الضِّيَاءِ اللَّامِعِ " لِابْنِ حَلَوْلَوَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَجْهُ كَوْنِ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ لَا يَعُمُّ هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَنْحَلُّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَبَعْضِ الْبَلَاغِيِّينَ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَيَنْحَلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ، فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَعْنَاهُ إِجْمَاعًا، وَالْمَصْدَرُ الْكَامِنُ فِيهِ لَمْ يَتَعَرَّفْ بِمُعَرَّفٍ فَهُوَ نَكِرَةٌ فِي الْمَعْنَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّكِرَةَ لَا تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ وَعَلَى هَذَا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ الصُّورِيَّ لَمْ يَرِدْ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ وَلَا أَهْلِ عَصْرِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ عُمَرَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَاهُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، " فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ ثُمَّ تَغْتَسِلِي حَتَّى تَطْهُرِي وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 قَالَ: وَهَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمْعٌ صُورِيٌّ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ " أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ الْأُولَى وَالْعَصْرَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شُغْلٍ "، وَفِيهِ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّ شُغْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ كَانَ بِالْخُطْبَةِ وَأَنَّهُ خَطَبَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ بَدَتِ النُّجُومُ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِيهِ تَصْدِيقُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَفْعِهِ. انْتَهَى مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي ". وَمَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَنَعْتُ ذَلِكَ لِئَلَّا تُحْرَجَ أُمَّتِي " فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ يَقْدَحُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ حَرَجٍ، وَأَنَّهُ أَضْيَقُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا ; لِأَنَّ أَوَائِلَ الْأَوْقَاتِ وَأَوَاخِرَهَا مِمَّا يَصْعُبُ إِدْرَاكُهُ عَلَى الْخَاصَّةِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ، يُجَابُ عَنْهُ بِمَا أَجَابَ بِهِ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَدْ عَرَّفَ أُمَّتَهُ أَوَائِلَ الْأَوْقَاتِ وَأَوَاخِرَهَا وَبَالَغَ فِي التَّعْرِيفِ وَالْبَيَانِ، حَتَّى إِنَّهُ عَيَّنَهَا بِعَلَامَاتٍ حِسِّيَّةٍ لَا تَكَادُ تَلْتَبِسُ عَلَى الْعَامَّةِ فَضْلًا عَنِ الْخَاصَّةِ، وَالتَّخْفِيفُ فِي تَأْخِيرِ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَفِعْلُ الْأُخْرَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مُتَحَقِّقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، كَمَا كَانَ دَيْدَنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " مَا صَلَّى صَلَاةً لِآخِرِ وَقْتِهَا مَرَّتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ "، وَلَا يَشُكُّ مُنْصِفٌ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاتَيْنِ دُفْعَةً وَالْخُرُوجَ إِلَيْهِمَا مَرَّةً أَخَفُّ مِنْ صَلَاةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ الْجَمْعُ الصُّورِيُّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالطَّحَاوِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَقَوَّاهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ. بِمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضَ الْمَيْلِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " فِي بَابِ " الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ "، فَإِنْ قِيلَ: الْجَمْعُ الصُّورِيُّ الَّذِي حَمَلْتُمْ عَلَيْهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِرُخْصَةٍ، بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ فَأَيُّ فَائِدَةٍ إِذَنْ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لِئَلَّا تُحْرَجَ أُمَّتِي "، مَعَ كَوْنِ الْأَحَادِيثِ الْمُعَيِّنَةِ لِلْأَوْقَاتِ تَشْمَلُ الْجَمْعَ الصُّورِيَّ، وَهَلْ حَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى مَا شَمِلَتْهُ أَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ إِلَّا مِنْ بَابِ الِاطِّرَاحِ لِفَائِدَتِهِ وَإِلْغَاءِ مَضْمُونِهِ، فَالْجَوَابُ، هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَقْوَالَ الصَّادِرَةَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي أَحَادِيثِ تَوْقِيتِ الصَّلَوَاتِ شَامِلَةٌ لِلْجَمْعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الصُّورِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْحَرَجِ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا، بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَفْعَالِ لَيْسَ إِلَّا لِمَا عَرَّفْنَاكَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى صَلَاةً لِآخِرِ وَقْتِهَا مَرَّتَيْنِ، فَرُبَّمَا ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مُتَحَتِّمٌ لِمُلَازَمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ طُولَ عُمُرِهِ فَكَانَ فِي جَمْعِهِ جَمْعًا صُورِيًّا تَخْفِيفٌ وَتَسْهِيلٌ عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ. وَقَدْ كَانَ اقْتِدَاءُ الصَّحَابَةِ بِالْأَفْعَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ بِالْأَقْوَالِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ نَحْرِ بُدْنِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالنَّحْرِ حَتَّى دَخَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ مَغْمُومًا فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْحَرَ وَيَدْعُوَ الْحَلَّاقَ يَحْلِقُ لَهُ فَفَعَلَ، فَنَحَرُوا جَمِيعًا وَكَادُوا يَهْلَكُونَ غَمًّا مِنْ شِدَّةِ تَرَاكُمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حَالَ الْحَلْقِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ "، وَفِي إِسْنَادِهِ حَنَشُ بْنُ قَيْسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، فِي آخِرِ " سُنَنِهِ " فِي كِتَابِ الْعِلَلِ مِنْهُ، وَلَفْظُهُ جَمِيعُ مَا فِي كِتَابِي هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ مَعْمُولٌ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَا خَلَا حَدِيثَيْنِ: حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ " الَخْ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ أَوِ التَّأْخِيرِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْجَمْعُ الصُّورِيُّ، فَيَتَعَيَّنُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا الْجَمْعَ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مُطْلَقًا، لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً، مِنْهُمْ: ابْنُ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةُ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ. وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَغَيْرُهُ وَحُجَّتُهُمْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: " لِئَلَّا تُحْرَجَ أُمَّتِي "، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْأَدِلَّةَ تُعَيِّنُ حَمْلَ ذَلِكَ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ، كَمَا ذُكِرَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ قَدِ اتَّضَحَ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي سُقْنَاهَا، أَنَّ الظُّهْرَ لَا يَمْتَدُّ لَهَا وَقْتٌ إِلَى الْغُرُوبِ، وَأَنَّ الْمَغْرِبَ لَا يَمْتَدُّ لَهَا وَقْتٌ إِلَى الْفَجْرِ، وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ هَذَا الْوَقْتِ الْمَنْفِيِّ بِالْأَدِلَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 عَلَى الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ، فَلَا يُنَافِي امْتِدَادَ وَقْتِ الظُّهْرِ الضَّرُورِيِّ إِلَى الْغُرُوبِ، وَوَقْتِ الْمَغْرِبِ الضَّرُورِيِّ إِلَى الْفَجْرِ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى اشْتِرَاكِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ كُلٍّ مِنْ جَمْعِ التَّقْدِيمِ، وَجَمْعِ التَّأْخِيرِ فِي السَّفَرِ، فَصَلَاةُ الْعَصْرِ مَعَ الظُّهْرِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِهَا مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَصَلَاةُ الظُّهْرِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِهَا مَعَهَا فِي وَقْتِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، أَمَّا جَمْعُ التَّأْخِيرِ بِحَيْثُ يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، فَهُوَ ثَابِتٌ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسَ، أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، أَيْ: فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ عَنِ الْمُفَضَّلِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ «ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا» ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عُقَيْلٍ: «يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ» وَلَهُ مِنْ رِوَايَةٍ شَبَابَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ: «حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا» . اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبَ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» : اتَّفَقَتْ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَلَى أَنَّ جَمْعَ ابْنِ عُمَرَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَانَ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَخَالَفَهُمْ مَنْ لَا يُدَانِيهِمْ فِي حِفْظِ أَحَادِيثِ نَافِعٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ، وَرِوَايَةُ الْحُفَّاظِ مِنْ أَصْحَابِ نَافِعٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، فَقَدْ رَوَاهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَقِيلَ ابْنُ ذُؤَيْبٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ رِوَايَتِهِمْ، ثُمَّ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ أَسَانِيدَ رِوَايَاتِهِمْ، وَأَمَّا جَمْعُ التَّقْدِيمِ بِحَيْثُ يُصَلِّي الْعَصْرَ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مَعَ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَالْعِشَاءَ مَعَ الْمَغْرِبِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ثَابِتٌ أَيْضًا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَحَاوَلَ تَضْعِيفَ أَحَادِيثِهِ، فَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أَحَادِيثٌ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ «ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ مُقَدَّمَةً مَعَ الظُّهْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إِلَى الْعَصْرِ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ، فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ» ، وَإِبْطَالُ جَمْعِ التَّقْدِيمِ بِتَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا حَاوَلَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ حَزْمٍ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِمَا رَأَيْتَ آنِفًا مِنْ أَنَّ جَمْعَ التَّقْدِيمِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ، فَإِذَا لَمْ تَزِغْ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ سَارَ حَتَّى إِذَا حَانَتِ الْعَصْرُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِذَا حَانَتِ الْمَغْرِبُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا لَمْ تَحِنْ فِي مَنْزِلِهِ رَكِبَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْعِشَاءُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْنَدِهِ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ فِيهِ: «إِذَا سَارَ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ حَسَّنَهُ. فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ مُعَاذٍ مَعْلُولٌ بِتَفَرُّدِ قُتَيْبَةَ فِيهِ، عَنِ الْحُفَّاظِ، وَبِأَنَّهُ مُعَنْعَنٌ بِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَبِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ أَبَا الطُّفَيْلِ وَهُوَ مَقْدُوحٌ فِيهِ بِأَنَّهُ كَانَ حَامِلُ رَايَةِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ يُؤْمِنُ بِالرَّجْعَةِ، وَبِأَنَّ الْحَاكِمَ قَالَ: هُوَ مَوْضُوعٌ، وَبِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَالَ: لَيْسَ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ حَدِيثٌ قَائِمٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ إِعْلَالَهُ بِتَفَرُّدِ قُتَيْبَةَ بِهِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَكَانَةِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُ مِنَ الْعَدَالَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وَالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، وَهَذَا الَّذِي رَوَاهُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ غَيْرَهُ، بَلْ زَادَ مَا لَمْ يُذَكُرْهُ غَيْرُهُ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّ زِيَادَاتِ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ، تَقَدَّمَ ثُبُوتُهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَيْضًا أَنَّهَا صَحَّتْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ بَلْ تَابَعَهُ فِيهِ الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» مَا نَصُّهُ: فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الرَّمْلِيِّ، حَدَّثْنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ مُعَاذٍ فَذَكَرَهُ، فَهَذَا الْمُفَضَّلُ قَدْ تَابَعَ قُتَيْبَةَ، وَإِنْ كَانَ قُتَيْبَةُ أَجَلَّ مِنَ الْمُفَضَّلِ، وَأَحْفَظُ لَكِنْ زَالَ تَفَرُّدُ قُتَيْبَةُ بِهِ اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ الْمُتَقَدِّمَ آنِفًا، أَعْنِي سَنَدَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي سَاقَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَالْمَتْنُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» ، فَاتَّضَحَ أَنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ وَالدَّارَقُطْنِيَّ وَالْبَيْهَقِيَّ، أَخْرَجُوهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُتَابَعَةً لِرِوَايَةِ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّخْلِيصِ» : إِنَّ فِي سَنَدِ هَذِهِ الطَّرِيقِ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ الْمَذْكُورُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَبِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ طَرِيقِ الْمُفَضَّلِ الْمُتَابِعَةِ لِطَرِيقِ قُتَيْبَةَ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» قَالَ الشَّيْخُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا مِنْ هَذَا رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، فَهِيَ مَحْفُوظَةٌ صَحِيحَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُرْوَى عَنِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ قُتَيْبَةَ عَمَّنْ كَتَبَ مَعَهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: كَتَبَهُ مَعِي خَالِدٌ الْمَدَائِنِيُّ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كَانَ خَالِدٌ الْمَدَائِنِيُّ يُدْخِلُ عَلَى الشُّيُوخِ يَعْنِي، يُدْخِلُ فِي رِوَايَتِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهَا، أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ قَادِحًا فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ الضَّابِطَ لَا يَضُرُّهُ أَخْذُ آلَافِ الْكَذَّابِينَ مَعَهُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُحَدِّثُ بِمَا عَلِمَهُ وَلَا يَضُرُّهُ كَذِبُ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ أَنَّهُ مُعَنْعَنٌ بِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَنْعَنَةَ وَنَحْوَهَا لَهَا حُكْمُ التَّصْرِيحِ بِالتَّحْدِيثِ عِنْدَ الْمُحْدِّثِينَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُعَنْعِنُ مُدَلِّسًا، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: قَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي «تَذْكِرَةِ الْحُفَّاظِ» كَانَ حُجَّةً حَافِظًا لِلْحَدِيثِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ أَبَا الطُّفَيْلِ الْمَذْكُورَ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : ثِقَةٌ فَقِيهٌ، وَكَانَ يُرْسِلُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِرْسَالَ غَيْرُ التَّدْلِيسِ ; لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحْدِّثِينَ هُوَ رَفْعُ التَّابِعِيِّ مُطْلَقًا أَوِ الْكَبِيرِ خَاصَّةً الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ إِسْقَاطُ رَاوٍ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ فَالْإِرْسَالُ مَقْطُوعٌ فِيهِ بِحَذْفِ الْوَاسِطَةِ بِخِلَافِ التَّدْلِيسِ، فَإِنَّ تَدْلِيسَ الْإِسْنَادِ يَحْذِفُ فِيهِ الرَّاوِي شَيْخَهُ الْمُبَاشِرَ لَهُ وَيُسْنِدُ إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ الْمُعَاصِرِ بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ لِلسَّمَاعِ مُبَاشَرَةً وَبِوَاسِطَةٍ، نَحْوَ عَنْ فُلَانٍ وَقَالَ فُلَانٌ فَلَا يَقْطَعُ فِيهِ بِنَفْيِ الْوَاسِطَةِ بَلْ هُوَ يُوهِمُ الِاتِّصَالَ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُعَاصَرَةِ مَنْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ أَعْنِي: شَيْخَ شَيْخِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُنْقَطِعًا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ لَمْ يُعَرَفْ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ لَيْسَ بِقَادِحٍ ; لِأَنَّ الْمُعَاصَرَةَ تَكْفِي وَلَا يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ اللُّقِىِّ وَأَحْرَى ثُبُوتُ السَّمَاعِ فَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ لَا يَشْتَرِطُ فِي «صَحِيحِهِ» إِلَّا الْمُعَاصَرَةَ فَلَا يَشْتَرِطُ اللُّقِىَّ وَأَحْرَى السَّمَاعُ وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ اللُّقِىَّ الْبُخَارِيُّ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي «أَلْفِيَّتِهِ» : [الرَّجَزُ] وَصَحَّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ ... مِنْ دُلْسَةِ رَاوِيهِ وَاللِّقَا عُلِمْ وَبَعْضُهُمْ حَكَى بِذَا إِجْمَاعَا ... وَمُسْلِمٌ لَمْ يَشْرُطِ اجْتِمَاعَا لَكِنْ تَعَاصَرُوا. . . إِلَخْ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْفَى إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّةِ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إِلَّا الْمُعَاصَرَةَ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَزْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ إِنَّهُ لَا تُعْرَفُ رِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ لَا تَقْدَحُ فِي حَدِيثِهِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْعَنْعَنَةَ مِنْ غَيْرِ الْمُدَلِّسِ لَهَا حُكْمُ التَّحْدِيثِ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ. وَأَبُو الطُّفَيْلِ وُلِدَ عَامَ أُحُدٍ وَمَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ تَعَلَمُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي مُعَاصَرَتِهِمَا وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ زَمَنًا طَوِيلًا، وَلَا غَرْوَ فِي حُكْمِ ابْنِ حَزْمٍ عَلَى رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ قَدِ ارْتَكَبَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ فِي حُكْمِهِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : «لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» ، بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ بِسَبَبِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ قَالَ: هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَأَنَّ الْبُخَارِيَّ بَعِيدٌ جِدًّا مِنَ التَّدْلِيسِ وَإِلَى رَدِّ هَذَا عَلَى ابْنِ حَزْمٍ أَشَارَ الْعِرَاقِيُّ فِي «أَلْفِيَّتِهِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلُ الِاسْنَادِ حُذِفْ ... مَعْ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَتَعْلِيقًا عُرِفْ وَلَوْ إِلَى آخِرِهِ أَمَّا الَّذِي ... لِشَيْخِهِ عَزَا بِقَالَ فَكَذِي عَنْعَنَةٌ كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ ... لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ الْمُخَالِفِ مَعَ أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ، وَالْمُرْسَلُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ مَا سَقَطَ مِنْهُ رَاوٍ مُطْلَقًا، فَهُوَ بِالِاصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّ يَشْمَلُ الْمُنْقَطِعَ وَالْمُعْضَلَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْقَدْحِ فِي أَبِي الطُّفَيْلِ بِأَنَّهُ كَانَ حَامِلُ رَايَةِ الْمُخْتَارِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ صَحَابِيٌّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ وَعَقَدَهُ نَاظِمُ «عَمُودِ النَّسَبِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْأَصْحَابِ لَهْ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَهْ وَأَبُو الطُّفَيْلِ هَذَا هُوَ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَحْشٍ اللَّيْثِيِّ نِسْبَةً إِلَى لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عُدُولٌ وَقَدْ جَاءَتْ تَزْكِيَتُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ وَالْحُكْمُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ بِالْعَدَالَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ وَقَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَغَيْرُهُ رِوَايَةٌ وَالصَّحْبُ ... تَعْدِيلُهُمْ كُلٌّ إِلَيْهِ يَصْبُو وَاخْتَارَ فِي الْمُلَازِمِينَ دُونَ مَنْ ... رَآهُ مَرَّةً إِمَامٌ مُؤْتَمَنْ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» وَهُوَ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ إِنَّمَا خَرَجَ مَعَ الْمُخْتَارِ عَلَى قَاتِلِي الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنَ الْمُخْتَارِ إِيمَانَهُ بِالرَّجْعَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْحَاكِمِ إِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ وَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَحُكْمُهُ بِالْوَضْعِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، يَعْنِي: الْحَاكِمَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَيْضًا فِي «زَادِ الْمَعَادِ» : قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ لَكِنْ رُمِيَ بِعِلَّةٍ عَجِيبَةٍ، قَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ» الْحَدِيثَ. قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا الْحَدِيثُ رُوَاتُهُ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، وَهُوَ شَاذُّ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ ثُمَّ لَا نَعْرِفْ لَهُ عِلَّةً نُعِلُّهُ بِهَا فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ لَعَلَّلْنَا بِهِ الْحَدِيثَ، وَلَوْ كَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ لَعَلَّلْنَا بِهِ، فَلَمَّا لَمَّ نَجِدْ لَهُ الْعِلَّتَيْنِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا، ثُمَّ نَظَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رِوَايَةً، وَلَا وَجَدْنَا هَذَا الْمَتْنَ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الطُّفَيْلِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ غَيْرِ أَبِي الطُّفَيْلِ، فَقُلْنَا: الْحَدِيثُ شَاذٌّ، وَقَدْ حَدَّثُوا عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ: لَنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، حَتَّى عَدَّ قُتَيْبَةَ سَبْعَةً مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَتَبُوا عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ إِنَّمَا سَمِعُوهُ مِنْ قُتَيْبَةَ تَعْجُّبًا مِنْ إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، ثُمَّ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ لِلْحَدِيثِ عِلَّةً ثُمَّ قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذَا بِالْحَدِيثِ مَوْضُوعٌ، وَقُتَيْبَةُ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعْنَى. وَانْظُرْهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَلَوْ كَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ لَعَلَّلْنَا بِهِ فِيهِ أَنَّ سَنَدَهُ الَّذِي سَاقَ فِيهِ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَا وَجْهَ لَهُ أَمَّا رِجَالُ إِسْنَادِهِ فَهُمْ ثِقَاتٌ بِاعْتِرَافِهِ هُوَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا لَكَ أَنَّ قُتَيْبَةَ تَابَعَهُ فِيهِ الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَانْفِرَادُ الثِّقَةِ الضَّابِطِ بِمَا لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ لَا يُعَدُّ شُذُوذًا، وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا انْفَرَدَ بِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ، وَأَمَّا مَتْنُهُ فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الشُّذُوذِ أَيْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَحَّ أَيْضًا مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ ارْتَحَلَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ كَمَا تَرَى. وَشَبَابَةُ هُوَ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الثِّقَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ وَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» ، فَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ إِسْحَاقَ هَذَا مَا نَصُّهُ: وَأُعِلَّ بِتَفَرُّدِ إِسْحَاقَ بِهِ عَنْ شَبَابَةَ ثُمَّ تَفَرُّدِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ بِهِ عَنْ إِسْحَاقَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِحٍ، فَإِنَّهُمَا إِمَامَانِ حَافِظَانِ. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي «الْأَرْبَعِينَ» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورِ وَنَحْوَهُ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي «مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ» ، قَالَ الْحَافِظُ فِي «بُلُوغُ الْمَرَامِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مَا نَصُّهُ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ فِي «الْأَرْبَعِينَ» بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ رَكِبَ» ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ: «كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَلَ» . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ مَا نَصُّهُ: وَهِيَ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ صَحِيحَةُ الْإِسْنَادِ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْمُنْذِرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْعَلَائِيُّ، وَتَعَجَّبَ مِنْ كَوْنِ الْحَاكِمِ لَمْ يُورِدْهُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» ، قَالَ: وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى رَوَاهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِهَا وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَلَا يَقْدَحُ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ هَذِهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» مِنْ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ سَاقَ سَنَدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورَ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَتْنَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ زِيَادَةَ جَمْعِ التَّقْدِيمِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ وَزِيَادَةُ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ مُعَاذٍ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مَا نَصُّهُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ مَحْفُوظٌ صَحِيحٌ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَلَ» ، رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْأَسَالِيبِ» : فِي ثُبُوتِ الْجَمْعِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ هِيَ نُصُوصٌ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا تَأْوِيلٌ وَدَلِيلُهُ فِي الْمَعْنَى الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ صُورَةِ الْإِجْمَاعِ وَهِيَ الْجَمْعُ بِعَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَةَ، إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ سَبَبَهُ احْتِيَاجُ الْحُجَّاجِ إِلَيْهِ لِاشْتِغَالِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 بِمَنَاسِكِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي كُلِّ الْأَسْفَارِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ حَدِيثٌ قَائِمٌ هُوَ مَا رَأَيْتَ مِنْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ فِي «الْأَرْبَعِينَ» وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ» وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ بِلَفْظِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا» إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ أَحَادِيثَ جَمْعِ التَّقْدِيمِ بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا حَسَنٌ، وَذَلِكَ يَرُدُّ قَوْلَ أَبِي دَاوُدَ: لَيْسَ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ حَدِيثٌ قَائِمٌ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ هُوَ ضَعِيفٌ، هُوَ أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِهِمَا يَعْتَضِدُ الْحَدِيثُ حَتَّى يَصِيرَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْحَسَنَ. الْأُولَى: أَخْرَجَهَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَمَّانِيُّ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِيَةُ: مِنْهُمَا رَوَاهَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " وَالشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ". وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " أَيْضًا: يُقَالُ إِنِ التِّرْمِذِيَّ حَسَّنَهُ وَكَأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْمُتَابَعَةِ، وَغَفَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ. وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ كُلًّا مِنْ جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَجَمْعِ التَّأْخِيرِ فِي السَّفَرِ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِ صُورَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي رَوَاهَا مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهِيَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ ظُهْرَ عَرَفَاتٍ، وَجَمْعُ التَّأْخِيرِ عِشَاءَ الْمُزْدَلِفَةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى ": وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعُذْرِ السَّفَرِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، مَعَ الثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ جَمْعِ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ ثُمَّ بِالْمُزْدَلِفَةِ. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: هَلْ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " زَادِ الْمَعَادِ ": قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَيَدُلُّ عَلَى جَمْعِ التَّقْدِيمِ جَمْعُهُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِمَصْلَحَةِ الْوُقُوفِ لِيَتَّصِلَ وَقْتُ الدُّعَاءِ وَلَا يَقْطَعَهُ بِالنُّزُولِ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ بِلَا مَشَقَّةٍ، فَالْجَمْعُ كَذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَاجَةِ أَوْلَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَانَ أَرْفَقُ بِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ ; لِأَنْ يَتَّصِلَ لَهُ الدُّعَاءُ فَلَا يَقْطَعَهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالتَّأْخِيرُ أَرْفَقُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ; لِأَنْ يَتَّصِلَ لَهُ الْمُسَيَّرُ وَلَا يَقْطَعُهُ لِلنُّزُولِ لِلْمَغْرِبِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ اهـ. مِنْ " زَادَ الْمَعَادِ ". فَبِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي سُقْنَاهَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَصْرَ مُشْتَرِكَةٌ مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الْعِشَاءَ مُشْتَرِكَةٌ مَعَ الْمَغْرِبِ فِي وَقْتِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا، وَأَنَّ الظُّهْرَ مُشْتَرِكَةٌ مَعَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّ الْمَغْرِبَ مُشْتَرِكَةٌ مَعَ الْعِشَاءِ فِي وَقْتِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ خَالَفُوا مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي امْتِدَادِ وَقْتِ الضَّرُورَةِ لِلظَّهْرِ إِلَى الْغُرُوبِ وَامْتِدَادِ وَقْتِ الضَّرُورَةِ لِلْمَغْرِبِ إِلَى الْفَجْرِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُمَا أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُوَافِقُونَ لَهُ لِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْحَائِضَ إِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ بِرَكْعَةٍ صَلَّتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مَعًا، وَكَذَلِكَ إِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ خَرَجَ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَلْزَمْهَا أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَلَا الْمَغْرِبَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَقْضِي مَا فَاتَ وَقْتُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهِيَ حَائِضٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ الظُّهْرُ بِمَا تَجِبُ بِهِ الْعَصْرُ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَحَمَّادٌ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَدَاوُدُ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَمَالِكٌ يُوجِبُهَا بِقَدْرِ مَا تُصَلَّى فِيهِ الْأُولَى مِنْ مُشْتَرَكَتَيِّ الْوَقْتِ مَعَ بَقَاءِ رَكْعَةٍ فَهُوَ أَرْبَعٌ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَخَمْسٌ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِلْحَاضِرِ، وَثَلَاثٌ لِلْمُسَافِرِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ يَعْنِي إِدْرَاكَ الظُّهْرِ مَثَلًا بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 تُدْرَكُ بِهِ الْعَصْرُ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَامَّةُ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ، قَالَ: لَا تَجِبْ إِلَّا الصَّلَاةُ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا وَحْدَهَا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَنَا مَا رَوَى الْأَثْرَمُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ: تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ صَلَّتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ; وَلِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتُ الْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ فَإِذَا أَدْرَكَهُ الْمَعْذُورُ لَزِمَهُ فَرْضُهَا كَمَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الثَّانِيَةِ، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ مَعَ حَذْفٍ يَسِيرٍ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْ هَذَا الْعَالِمِ الْجَلِيلِ الْحَنْبَلِيِّ بِامْتِدَادِ وَقْتِ الضَّرُورَةِ لِلْمَغْرِبِ إِلَى الْفَجْرِ، وَلِلظُّهْرِ إِلَى الْغُرُوبِ كَقَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ فِي بَيَانِ أَوَّلِ وَقْتِ الْعِشَاءِ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ. وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهُوَ أَمْرٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ. فَإِذَا عَلِمْتَ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ هُوَ مَغِيبُ الشَّفَقِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْحُمْرَةُ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي بَعْدَ الْحُمْرَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْحُمْرَةُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ ". قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْغَرَائِبِ ": هُوَ غَرِيبٌ وَكُلُّ رُوَاتِهِ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ تَذْهَبَ حُمْرَةُ الشَّفَقِ " الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ أَغْنَتْ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ، لَكِنْ تَفَرَّدَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ ": مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْوَاسِطِيُّ وَهُوَ صَدُوقٌ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ وَقْفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَيْضًا: إِنَّ رَفْعَهُ غَلَطٌ، بَلْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْنَادَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِهِ فِي " صَحِيحِهِ " لَيْسَ فِيهِ مِمَّا يُوجِبُ تَضْعِيفَهُ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ صَدُوقٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُمْرَةَ الشَّفَقُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: " أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ " كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ " لِمَا حَقَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَنَّ الْبَيَاضَ لَا يَغِيبُ إِلَّا بَعْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةِ الشَّهْرِ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَمِنْ حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشَّفَقَ الْحُمْرَةُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةِ الشَّهْرِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ صَحِيحٌ وَصَلَّى قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِي «شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ» : وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ أَنَّ الْبَيَاضَ لَا يَغِيبُ إِلَّا عِنْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي حَدَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُرُوجَ أَكْثَرِ الْوَقْتِ بِهِ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ وَقْتَهَا دَاخِلٌ قَبْلِ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ دَاخِلٌ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الَّذِي هُوَ الْبَيَاضُ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ يَقِينًا أَنَّ الْوَقْتَ دَخَلَ يَقِينًا بِالشَّفَقِ الَّذِي هُوَ الْحُمْرَةُ. اهـ. وَابْتِدَاءُ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبُ الشَّفَقِ إِجْمَاعًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَحَدِيثِ التَّعْلِيمِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ الْحُمْرَةُ لَا الْبَيَاضُ، وَفِي «الْقَامُوسِ» الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْبَيَاضَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الشَّفَقَ فِي السَّفَرِ هُوَ الْحُمْرَةُ وَفِي الْحَضَرِ هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي بَعْدَ الْحُمْرَةِ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّهُ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ لِغَيْبُوبَةِ الْحُمْرَةِ الَّتِي هِيَ الشَّفَقُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: «الشَّفَقُ هُوَ الْحُمْرَةُ» وَالْمُسَافِرُ لِأَنَّهُ فِي الْفَلَاةِ وَالْمَكَانِ الْمُتَّسِعِ يَعْلَمُ سُقُوطَ الْحُمْرَةِ، أَمَّا الَّذِي فِي الْحَضَرِ فَالْأُفُقُ يَسْتَتِرُ عَنْهُ بِالْجُدْرَانِ فَيَسْتَظْهِرُ حَتَّى يَغِيبَ الْبَيَاضُ لِيَسْتَدِلَّ بِغَيْبُوبَتِهِ عَلَى مَغِيبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الْحُمْرَةِ، فَاعْتِبَارُهُ لِغَيْبَةِ الْبَيَاضِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَغِيبِ الْحُمْرَةِ لَا لِنَفْسِهِ. اهـ. مِنَ «الْمُغْنِي» لِابْنِ قُدَامَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ: الشَّفَقُ الْبَيَاضُ الَّذِي بَعْدَ الْحُمْرَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ الْحُمْرَةُ، وَأَمَا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ نِصْفُ اللَّيْلِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادِهِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. فَمِنَ الرِّوَايَاتِ بِانْتِهَائِهِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِشَاءَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَبُرَيْدَةَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي تَعْلِيمِ مَنْ سَأَلَ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى أَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ أَخَّرَهُ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» . وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ: «أَنَّهُ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ مَغِيبِ الشَّفَقِ، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ صَلَّاهَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ: الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ» ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِهَاءِ وَقْتِ الْعِشَاءِ عِنْدَ ذَهَابِ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ. وَمِنَ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِدَادِهِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ: قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا» . قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ لَيْلَتَئِذٍ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ: «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: «فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» . وَمِنَ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِدَادِهِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ مَخْصُوصٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 لَا يَمْتَدُّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَلَا وَقْتَ لِلصُّبْحِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِجْمَاعًا، فَإِنْ قِيلَ يُمْكِنُ تَخْصِيصُ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ هَذَا بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِهَاءِ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ، وَهُوَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ وَإِعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِنِصْفِ اللَّيْلِ لِلْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ وَالِامْتِدَادَ إِلَى الْفَجْرِ لِلْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ. وَيَدُلُّ لِهَذَا: إِطْبَاقُ مَنْ ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ إِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الصُّبْحِ بِرَكْعَةٍ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَمَنْ خَالَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا، إِنَّمَا خَالَفَ فِي الْمَغْرِبِ لَا فِي الْعِشَاءِ، مَعَ أَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْتِهَاءَ أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ كَابْتِدَائِهَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ مَحْضٌ. وَبِهَذَا تَعْرِفُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَى انْتِهَائِهِ بِنِصْفِ اللَّيْلِ، وَمَا دَلَّ عَلَى امْتِدَادِهِ إِلَى الْفَجْرِ، وَلَكِنْ يَبْقَى الْإِشْكَالُ بَيْنَ رِوَايَاتِ الثُّلُثِ وَرِوَايَاتِ النِّصْفِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْجَمْعِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَهُوَ السُّدُسُ ظَرْفًا لِآخِرِ وَقْتِ الْعِشَاءِ الِاخْتِيَارِيِّ. وَإِذَنْ فَلِآخِرِهِ أَوَّلٌ وَآخِرٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بِهَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِمُقْنِعٍ فَلَيْسَ هُنَاكَ طَرِيقٌ إِلَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَجَّحَ رِوَايَاتِ الثُّلُثِ بِأَنَّهَا أَحْوَطُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ وَبِأَنَّهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ لِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ قَبْلَ الثُّلُثِ فَهُوَ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ فِي وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ، وَبَعْضُهُمْ رَجَّحَ رِوَايَاتِ النِّصْفِ بِأَنَّهَا زِيَادَةٌ صَحِيحَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ. وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَهُوَ عِنْدُ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْفَجْرُ الَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَى الصَّائِمِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَبُرَيْدَةَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ، فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ أَيْضًا: «ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الْفَجْرُ، وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَجْرَ فَجْرَانِ كَاذِبٌ وَصَادِقٌ، فَالْكَاذِبُ لَا يُحَرِّمُ الطَّعَامَ عَلَى الصَّائِمِ، وَلَا تَجُوزُ بِهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالصَّادِقُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِيهِمَا، وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَحْدِيدُهُ بِالْإِسْفَارِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا امْتِدَادُهُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمِنَ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِهَائِهِ بِالْإِسْفَارِ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا: «ثُمَّ جَاءَهُ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهِ فَصَلَّى الْفَجْرَ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا: «ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الْأَرْضُ» الْحَدِيثَ. وَهَذَا فِي بَيَانِهِ لِآخِرِ وَقْتِ الصُّبْحِ الْمُخْتَارِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَبُرَيْدَةَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا وَالْقَائِلُ يَقُولُ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ» . وَمِنَ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِدَادِهِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَوَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ يَطْلُعْ قَرْنُ الشَّمْسِ الْأَوَّلُ» ، وَالظَّاهِرُ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْوَقْتَ الْمُنْتَهِيَ إِلَى الْإِسْفَارِ هُوَ وَقْتُ الصُّبْحِ الِاخْتِيَارِيُّ، وَالْمُمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتُهَا الضَّرُورِيُّ، وَهَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا ضَرُورِيَّ لِلصُّبْحِ فَوَقْتُهَا كُلُّهُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ، وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ الْجَمْعِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى آخِرِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ تَفْصِيلُ الْأَوْقَاتِ الَّذِي أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [4] ، وَبَيَّنَ بَعْضَ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ الْآيَةَ [17 \ 78] ، وَقَوْلِهِ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْآيَةَ [11 \ 114] ، وَقَوْلِهِ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ الْآيَةَ [30 \ 17] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ الْوَهْنِ، وَهُوَ الضَّعْفُ فِي طَلَبِ أَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا يَجِدُونَ الْأَلَمَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ فَالْكُفَّارُ كَذَلِكَ، وَالْمُسْلِمُ يَرْجُو مِنَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَا يَرْجُوهُ الْكَافِرُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّبْرِ عَلَى الْآلَامِ مِنْهُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [3 \ 139 \ 140] ، وَكَقَوْلِهِ: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [47 \ 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَنْبًا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَضُرُّ بِهِ خُصُوصَ نَفْسِهِ لَا غَيْرَهَا، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [6 \ 164] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [41 \ 46] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ عَلَّمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [42 \ 52] ، وَقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [12 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُنَاجَاةِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَنَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنِ التَّنَاجِي بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [58 \ 10، 9] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكُفَّارِ أَوْ لَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُرَغَّبِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ هُنَا الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [49 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [49 \ 9] ، فَتَخْصِيصُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [8] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ [4 \ 114] ، يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [103 \ 1، 2، 3] ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [78 \ 38] ، وَالْآيَةُ الْأَخِيرَةُ فِيهَا أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدُعَائِهِمُ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ عِبَادَتَهُمْ لَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [36 \ 60] ، وَقَوْلُهُ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ مُقَرِّرًا لَهُ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [19 \ 44] ، وَقَوْلُهُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ الْآيَةَ [34 \ 41] ، وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [36 \ 137] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا وَجْهُ عِبَادَتِهِمْ لِلشَّيْطَانِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ مَعْنَى عِبَادَتِهِمْ لِلشَّيْطَانِ إِطَاعَتُهُمْ لَهُ وَاتِّبَاعُهُمْ لِتَشْرِيعِهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [6 \ 121] ، وَقَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [9 \ 31] ، فَإِنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ» ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِوُضُوحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ، عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ، مُتَّخِذٌ الشَّيْطَانَ رَبًّا، وَإِنْ سَمَّى اتِّبَاعَهُ لِلشَّيْطَانِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ ; لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، بَيَّنَ هُنَا فِيمَا ذُكِرَ عَنِ الشَّيْطَانِ كَيْفِيَّةَ اتِّخَاذِهِ لِهَذَا النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ، بِقَوْلِهِ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [4 \ 119] ، وَالْمُرَادُ بِتَبْتِيكِ آذَانِ الْأَنْعَامِ شَقُّ أُذُنِ الْبَحِيرَةِ مَثَلًا وَقَطْعُهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ لِكَوْنِهَا بَحِيرَةً أَوْ سَائِبَةً، كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ أَبْطَلَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ الْآيَةَ [5 \ 103] ، وَالْمُرَادُ بِبَحْرِهَا شَقُّ أُذُنِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّبْتِيكُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْطِيعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: [الْبَسِيطُ] حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيدِ لَهَا ... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ أَيْ: قِطَعٌ، كَمَا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ اتِّخَاذِهِ لِهَذَا النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [7 \ 16] وَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الْآيَةَ [17 \ 62] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هَذَا الظَّنُّ الَّذِي ظَنَّهُ إِبْلِيسُ بِبَنِي آدَمَ أَنَّهُ يَتَّخِذُ مِنْهُمْ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَأَنَّهُ يُضِلُّهُمْ تَحَقَّقَ لِإِبْلِيسَ أَوْ لَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ ظَنَّهُ هَذَا تَحَقَّقَ لَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ الْآيَةَ [34 \ 20] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْفَرِيقَ السَّالِمَ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ نَصِيبِ إِبْلِيسَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [15 \ 39، 40] وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 100] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ نُصِيبُ إِبْلِيسَ هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ أَوْ لَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ الْأَكْثَرُ، كَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [13 \ 1] وَقَوْلِهِ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [12 \ 103] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [16 \ 116] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ نَصِيبَ الْجَنَّةِ وَاحِدٌ مِنَ الْأَلْفِ وَالْبَاقِي فِي النَّارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْكُفْرِ وَتَغْيِيِرِ فِطْرَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الْإِسْلَامِ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [30 \ 30] ، إِذِ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا تُبَدِّلُوا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي خَلَقَكُمْ عَلَيْهَا بِالْكُفْرِ. فَقَوْلُهُ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءُ إِيذَانًا بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يَمْتَثِلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ خَبَرٌ وَاقِعٌ بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ الْآيَةَ [2 \ 197] ، أَيْ: لَا تَرْفُثُوا، وَلَا تَفْسُقُوا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارِ بْنِ أَبِي حِمَارٍ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ خِصَاءُ الدَّوَابِّ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَشْمُ، فَلَا بَيَانَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبِكُلٍّ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَتَفْسِيرُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خِصَاءُ الدَّوَابِّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ ; لِأَنَّهُ مَسُوقٌ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَاتِّبَاعِ تَشْرِيعِ الشَّيْطَانِ، أَمَّا خِصَاءُ بَنِي آدَمَ فَهُوَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَتَعْذِيبٌ وَقَطْعُ عُضْوٍ، وَقَطْعُ نَسْلٍ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ. وَأَمَّا خِصَاءُ الْبَهَائِمِ فَرَخَّصَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا قُصِدَتْ بِهِ الْمَنْفَعَةُ إِمَّا لِسِمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُضَحَّى بِالْخَصِيِّ، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ أَسْمَنُ مِنْ غَيْرِهِ، وَرَخَّصَ فِي خِصَاءِ الْخَيْلِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَخَصَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بَغْلًا لَهُ، وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي خِصَاءِ ذُكُورِ الْغَنَمِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَطْيِيبُ لَحْمِ مَا يُؤْكَلُ وَتَقْوِيَةُ الذَّكَرِ إِذَا انْقَطَعَ أَمَلُهُ عَنِ الْأُنْثَى، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» . قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَكَانَ يَقُولُ هُوَ: نَمَاءُ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ خِصَاءَ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ نَسْلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِيهِ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ خِصَاءِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ» . وَالْآخَرُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَبْرِ الرُّوحِ وَخِصَاءِ الْبَهَائِمِ» ، وَالَّذِي فِي «الْمُوَطَّأِ» مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْإِخْصَاءَ، وَيَقُولُ: فِيهِ تَمَامُ الْخَلْقِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ، يَعْنِي فِي تَرْكِ الْإِخْصَاءِ: تَمَامُ الْخَلْقِ، وَرُوِيَ نَمَاءُ الْخَلْقِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرْنَا: قُلْتُ: أَسْنَدَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَخْصُوا مَا يُنَمِّي خَلْقَ اللَّهِ» رَوَاهُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ شَيْخُهُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا قُرَادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرَوَاهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ الْوَشْمُ، فَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْوَشْمَ حَرَامٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَحْجَارَ وَالنَّارَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِلِاعْتِبَارِ وَلِلِانْتِفَاعِ بِهَا، فَغَيَّرَهَا الْكَفَّارُ بِأَنْ جَعَلُوهَا آلِهَةً مَعْبُودَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِتُرْكَبَ وَتُؤْكَلَ، فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْحِجَارَةَ مُسَخَّرَةً لِلنَّاسِ، فَجَعَلُوهَا آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، فَقَدْ غَيَّرُوا مَا خَلَقَ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وَمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْضُرُ نِكَاحَ سَوْدَاءَ بِأَبْيَضَ وَلَا بَيْضَاءَ بِأَسْوَدَ، وَيَقُولُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [14 \ 119] ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ، فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ فَمِنْ ذَلِكَ إِنْفَاذُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِكَاحَ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ أَبْيَضَ بِظِئْرِهِ بَرَكَةَ أُمِّ أُسَامَةَ، وَكَانَتْ حَبَشِيَّةً سَوْدَاءَ، وَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَاحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ قُرَشِيَّةً وَأُسَامَةُ أَسْوَدَ، وَكَانَتْ تَحْتَ بِلَالٍ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَقَدْ سَهَا طَاوُسٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ عِلْمِهِ وَجَلَالَتِهِ عَنْ هَذَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَيُشْبِهُ قَوْلُ طَاوُسٍ هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ السَّوْدَاءَ تُزَوَّجُ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَالِكًا يُجِيزُ تَزْوِيجَ الدَّنِيَّةِ بِوِلَايَةٍ عَامَّةٍ مُسْلِمًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ خَاصٌّ مُجْبَرٌ. قَالُوا: وَالسَّوْدَاءُ دَنِيَّةٌ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ السَّوَادَ شَوَهٌ فِي الْخِلْقَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْحَقُّ أَنَّ السَّوْدَاءَ قَدْ تَكُونُ شَرِيفَةً، وَقَدْ تَكُونُ جَمِيلَةً، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: [الْوَافِرُ] وَسَوْدَاءُ الْأَدِيمِ تُرِيكَ وَجْهًا ... تَرَى مَاءَ النَّعِيمِ جَرَى عَلَيْهِ رَآهَا نَاظِرِي فَرَنَا إِلَيْهَا ... وَشَكْلُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ وَقَالَ آخَرُ: [الْوَافِرُ] وَلِي حَبَشِيَّةٌ سَلَبَتْ فُؤَادِي ... وَنَفْسِي لَا تَتُوقُ إِلَى سِوَاهَا كَأَنَّ شُرُوطَهَا طُرُقٌ ثَلَاثٌ ... تَسِيرُ بِهَا النُّفُوسُ إِلَى هَوَاهَا وَقَالَ آخَرُ فِي سَوْدَاءَ: [السَّرِيعُ] أَشْبَهَكِ الْمِسْكُ وَأَشْبَهْتِهِ ... قَائِمَةً فِي لَوْنِهِ قَاعِدَهْ لَا شَكَّ إِذْ لَوْنُكُمَا وَاحِدٌ ... أَنَّكُمَا مِنْ طِينَةٍ وَاحِدَهْ وَأَمْثَالُهُ فِي كَلَامِ الْأُدَبَاءِ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ [4 \ 119] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْطِيعَ آذَانِ الْأَنْعَامِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ كَذَلِكَ. أَمَّا قَطْعُ أُذُنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ تَقَرُّبًا بِذَلِكَ لِلْأَصْنَامِ فَهُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا تَقْطِيعُ آذَانِ الْبَهَائِمِ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلِذَا أَمَرَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ، وَالْأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَلَا خَرْقَاءَ، وَلَا شَرْقَاءَ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْمُقَابَلَةُ الْمَقْطُوعَةُ طَرَفَ الْأُذُنِ، وَالْمُدَابَرَةُ الْمَقْطُوعَةُ مُؤَخَّرَ الْأُذُنِ، وَالشَّرْقَاءُ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ طُولًا، وَالْخَرْقَاءُ الَّتِي خُرِقَتْ أُذُنُهَا خَرْقًا مُسْتَدِيرًا، فَالْعَيْبُ فِي الْأُذُنِ مُرَاعًى عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ لَا تُجْزِئُ، أَوْ جُلِّ الْأُذُنِ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ قَطْعُ ثُلُثِ الْأُذُنِ فَمَا فَوْقَهُ لَا مَا دُونَهُ فَلَا يَضُرُّ، وَإِنْ كَانَتْ سَكَّاءَ وَهِيَ الَّتِي خُلِقَتْ بِلَا أُذُنٍ. فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةَ الْأُذُنِ أَجْزَأَتْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مَشْقُوقَةَ الْأُذُنِ لِلْمَيْسَمِ أَجَزَأَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ أَمَانِيهِمْ، وَلَا مِنْ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى بَعْضِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي أَمَانِيِّ الْعَرَبِ الْكَاذِبَةِ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 35] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ فِي أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ الْآيَةَ [2 \ 111] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الْآيَةَ [5 \ 18] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ تَفَاخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ الْآيَةَ [4 \ 123] ، لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُحْسِنًا ; لِأَنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [31 \ 22] ، وَمَعْنَى إِسْلَامِ وَجْهِهِ لِلَّهِ إِطَاعَتُهُ وَإِذْعَانُهُ، وَانْقِيَادُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُحْسِنًا، أَيْ: مُخْلِصًا عَمَلَهُ لِلَّهِ لَا يُشْرِكُ فِيهِ بِهِ شَيْئًا مُرَاقِبًا فِيهِ لِلَّهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ إِسْلَامَ الْوَجْهِ، وَتُرِيدُ بِهِ الْإِذْعَانَ وَالِانْقِيَادَ التَّامَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ: [الْمُتَقَارِبُ] وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ مَا هُوَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [4 \ 3] ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَوْلُهُ هُنَا: وَمَا يُتْلَى [4 \ 127] فِي مَحَلِّ رَفْعٍ مَعْطُوفًا عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [4 \ 127] ، أَيْضًا: مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى الْآيَةَ، وَمَضْمُونُ مَا أَفْتَى بِهِ هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ هُوَ تَحْرِيمُ هَضْمِ حُقُوقِ الْيَتِيمَاتِ فَمَنْ خَافَ أَنْ لَا يُقْسِطَ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي فِي حِجْرِهِ فَيَتْرُكْهَا وَلْيَنْكِحْ مَا طَابَ لَهُ سِوَاهَا، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ الْجَرِّ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، هُوَ عَنْ أَيْ: تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِقِلَّةِ مَالِهِنَّ وَجِمَالِهِنَّ، أَيْ: كَمَا أَنَّكُمْ تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِنْ كُنَّ قَلِيلَاتِ مَالٍ وَجَمَالٍ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ نِكَاحُهُنَّ إِنْ كُنَّ ذَوَاتُ مَالٍ وَجِمَالٍ إِلَّا بِالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِنَّ فِي حُقُوقِهِنَّ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَرْفُ الْمَحْذُوفُ هُوَ «فِي» أَيْ: تَرْغَبُونَ فِي نِكَاحِهِنَّ إِنْ كُنَّ مُتَّصِفَاتٍ بِالْجَمَالِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ أَنَّكُمْ لَا تُقْسِطُونَ فِيهِنَّ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْمَجَازِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ مَحَلِّ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا أَجَازُوا ذَلِكَ فِي الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ كَقَوْلِكَ: أَغْنَانِي زَيْدٌ وَعَطَاؤُهُ، فَإِسْنَادُ الْإِغْنَاءِ إِلَى زَيْدٍ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْعَطَاءِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فَجَازَ جَمْعُهَا، وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقِيٌّ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى مَا يُتْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 مَجَازٌ عَقْلِيٌّ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ فَيَجُوزُ جَمْعُهُمَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، فِي مَحَلِّ جَرٍّ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ، وَعَلَيْهِ فَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَيُفْتِيكُمْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُضْعِفُهُ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ اللَّهَ يُفْتِي بِمَا يُتْلَى فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا يُفْتِي فِيهِ لِظُهُورِ أَمْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ مُسْتَدِلًّا بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْأَرْحَامَ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: تَسَاءَلُونَ بِهِ [4 \ 1] ، وَبِوُرُودِهِ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ: [الْبَسِيطُ] فَالْيَوْمَ قَرَّبَتْ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ بِجَرِّ الْأَيَّامِ عَطْفًا عَلَى الْكَافِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ] نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا ... وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ مَهْوَى نَفَانِفِ بِجَرِّ الْكَعْبِ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ قَبْلَهُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ] وَقَدْ رَامَ آفَاقَ السَّمَاءِ فَلَمْ يَجِدْ ... لَهُ مِصْعَدًا فِيهَا وَلَا الْأَرْضُ مِقْعَدًا فَقَوْلُهُ: وَلَا الْأَرْضُ بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْوَافِرُ] أَمُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَسْتُ أَدْرِي ... أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا فَسِوَاهَا فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِالْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِجَوَازِ كَوْنِهَا قَسَمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [69 \ 38، 39] ، وَعَنِ الْأَبْيَاتِ بِأَنَّهَا شُذُوذٌ يُحْفَظُ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ جَوَازَ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [8 \ 64] ، فَقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: حَسْبُكَ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: حَسْبُكَ اللَّهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أَيْ: كَافِيكَ، وَكَافِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَجَازَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ، أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحَلِّ ; لِأَنَّ الْكَافَ مَخْفُوضٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ] إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ بِنَصْبِ الضَّحَّاكِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَجَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ [15 \ 20] فَقَالَ: وَمَنْ عَطْفٌ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ وَلِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ فِيهَا مَعَايِشَ، وَكَذَلِكَ إِعْرَابُ وَمَا يُتْلَى بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَوْ خَبَرُهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِعْرَابُهُ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ، وَيُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يُتْلَى، وَإِعْرَابُهُ مَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ قَسَمٌ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [4 \ 127] ، آيَاتُ الْمَوَارِيثِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ فَاسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَالْمُبَيِّنُ لِقَوْلِهِ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَتَيْنِ [4 \ 11] . وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [4 \ 176] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ. تَنْبِيهٌ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتُهَا فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [4 \ 127] ، أَصْلُهُ مَجْرُورٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ هَلْ هُوَ «عَنْ» ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ هُوَ «فِي» وَبَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ الْمَذْكُورِ فَالْمَصْدَرُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْخَلِيلُ: وَهُوَ الْأَقْيَسُ لِضَعْفِ الْجَارِّ عَنِ الْعَمَلِ مَحْذُوفًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ بِدَلِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ] وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً ... إِلَيَّ وَلَا دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهُ بِجَرِّ «دَيْنٍ» عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ «أَنْ تَكُونَ» أَيْ: لِكَوْنِهَا حَبِيبَةً وَلَا لِدَيْنٍ، وَرَدَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الِاحْتِجَاجَ بِالْبَيْتِ بِأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ التَّوَهُّمِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: [الطَّوِيلُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... وَلَا سَابِقٌ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيًا بِجَرِّ «سَابِقٍ» لِتَوَهُّمِ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ لَيْسَ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ] مَشَائِمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلَا نَاعِبٍ إِلَّا بِبَيْنِ غُرَابِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا يَطَّرِدُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ، «أَنْ» ، بِجَرِّ «نَاعِبٍ» لِتَوَهُمِ الْبَاءِ وَأَجَازَ سِيبَوَيْهُ الْوَجْهَيْنِ. وَصِلَتُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِعَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، وَعَقَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْكَافِيَةِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَابْنُ سُلَيْمَانَ اطِّرَادَهُ رَأَى ... إِنْ لَمْ يُخَفْ لَبْسٌ كَمَنْ زَيْدٌ نَأَى وَإِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مَعَ غَيْرِ «أَنْ» وَأَنْ نَقْلًا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَقِيَاسًا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ فَالنَّصْبُ مُتَعَيَّنٌ، وَالنَّاصِبُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْفِعْلُ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ نَزْعُ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ: [الْوَافِرُ] تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَنْ تَعُوجُوا ... كَلَامُكُمُ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ وَبَقَاؤُهُ مَجْرُورًا مَعَ حَذْفِ الْحَرْفِ شَاذٌّ، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: [الطَّوِيلُ] إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَبِيلَةً ... أَشَارَتْ كَلِيبٍ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعِ أَيْ: أَشَارَتِ الْأَصَابِعُ بِالْأَكُفِّ، أَيْ: مَعَ الْأَكُفِّ إِلَى كُلَيْبٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ الْآيَةَ، الْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْقِسْطَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لِلْيَتَامَى، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [6 \ 152] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [2 \ 220] ، وَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [93 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى الْآيَةَ [2 \ 177] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِيهِ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ لِلْيَتَامَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَنْفُسَ أُحْضِرَتِ الشُّحَّ، أَيْ: جُعِلَ شَيْئًا حَاضِرًا لَهَا كَأَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهَا لَا يُفَارِقُهَا ; لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ أَحَدٌ إِلَّا إِذَا وَقَاهُ اللَّهُ شُحَّ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [59 \ 9] ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ لَمْ يُفْلِحْ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالشُّحِّ الْمُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَلْزَمُهَا الشَّرْعُ، أَوْ تَقْتَضِيهَا الْمُرُوءَةُ، وَإِذَا بَلَغَ الشُّحُّ إِلَى ذَلِكَ، فَهُوَ بُخْلٌ وَهُوَ رَذِيلَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، هَذَا الْعَدْلُ الَّذِي ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ هُوَ الْعَدْلُ فِي الْمَحَبَّةِ، وَالْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ بِخِلَافِ الْعَدْلِ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ مُسْتَطَاعٌ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [4 \ 3] ، أَيْ: تَجُورُوا فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَالَ يَعُولُ إِذَا جَارَ وَمَالَ، وَهُوَ عَائِلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ: [الطَّوِيلُ] بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ أَيْ: غَيْرُ مَائِلٍ وَلَا جَائِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: [الْبَسِيطُ] قَالُوا تَبِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَاطَّرَحُوا ... قَوْلَ الرَّسُولِ وَعَالُوا فِي الْمَوَازِينِ أَيْ: جَارُوا، وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْوَافِرُ] ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي أَيْ: جَارَ وَمَالَ، أَمَّا قَوْلُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَنْصَارِيِّ: [الْوَافِرُ] وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَقَوْلُ جَرِيرٍ: [الْكَامِلُ] اللَّهُ نَزَّلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً ... لِابْنِ السَّبِيلِ وَلِلْفَقِيرِ الْعَائِلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [93 \ 8] ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْعَيْلَةِ، وَهِيَ الْفَقْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الْآيَةَ [9 \ 28] ، فَعَالَ الَّتِي بِمَعْنَى جَارَ وَاوِيَّةُ الْعَيْنِ، وَالَّتِي بِمَعْنَى افْتَقَرَ يَائِيَّةُ الْعَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: أَلَّا تَعُولُوا [4 \ 3] ، أَيْ: يَكْثُرُ عِيَالُكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 مِنْ عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ وَإِنَّ الْمَسْمُوعَ أَعَالَ الرَّجُلَ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، فَهُوَ مُعِيلٌ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ فَلَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مِنْ أَدْرَى النَّاسِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ عَالَ بِمَعْنَى كَثُرَ عِيَالُهُ لُغَةَ حِمْيَرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْوَافِرُ] وَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلَا شَكٍّ وَإِنْ أَمْشَى وَعَالَا يَعْنِي: وَإِنْ كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ وَعِيَالُهُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ أَلَّا تُعِيلُوا وَبِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَعَالَ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِنِ افْتَرَقَا أَغْنَى اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ سَعَتِهِ وَفَضْلِهِ الْوَاسِعِ، وَرَبَطَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا شَرْطًا وَالْآخَرَ جَزَاءٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِلْغِنَى، بِقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [24 \ 32] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَذْهَبَ النَّاسَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ نُزُولِهَا، وَأَتَى بِغَيْرِهِمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ أَنَّهُ أَذْهَبَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ وَجَاءَ بِهِمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [6 \ 133] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا أَبْدَلَ غَيْرَهُمْ وَأَنَّ أُولَئِكَ الْمُبَدَّلِينَ لَا يَكُونُونَ مِثْلَ الْمُبَدَّلِ مِنْهُمْ بَلْ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [47 \ 38] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ ذَلِكَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ غَيْرُ صَعْبٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [14 \ 19، 20] ، أَيْ: لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ وَلَا صَعْبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْعِزَّةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْعِزَّةَ الَّتِي هِيَ لَهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ بِهَا رَسُولَهُ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [63 \ 8] ، أَيْ: وَذَلِكَ بِإِعْزَازِ اللَّهِ لَهُمْ وَالْعِزَّةُ الْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [38 \ 23] ، أَيْ: غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْ عَزَّ بَزَّ يَعْنُونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: [الْمُتَقَارِبُ] كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، هَذَا الْمَنْزِلُ الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [6 \ 68] ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ، لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ حُكْمَ مَا إِذَا نَسُوا النَّهْيَ حَتَّى قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي «الْأَنْعَامِ» بِقَوْلِهِ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْجُهٌ لِلْعُلَمَاءِ: مِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبِيلًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ الْآيَةَ [4 \ 141] ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ زَاعِمًا أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى أَوَّلِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَأْصِلُهُمْ وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، أَنَّهُ قَالَ: «وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَانِي لِأُمَّتِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [40 \ 51] ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَقَوْلُهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [24 \ 55] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا إِلَّا أَنْ يَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ وَلَا يَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَتَقَاعَدُوا عَنِ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [42 \ 30] . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا نَفِيسٌ جِدًّا وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ لَوْ أَطَاعُوا، وَالْبَلِيَّةُ جَاءَتْهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا شَرَعًا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ بِخِلَافِ الشَّرْعِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبِيلِ الْحُجَّةُ، أَيْ: وَلَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةً، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [25 \ 33] ، وَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْعَ دَوَامِ مِلْكِ الْكَافِرِ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صِفَةَ صَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ إِلَيْهَا فِي كَسَلٍ وَرِيَاءٍ، وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَنَظِيرُهَا فِي ذَمِّهِمْ عَلَى التَّهَاوُنِ بِالصَّلَاةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى الْآيَةَ [9 \ 54] ، وَقَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الْآيَةَ [107 \ 4] ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ صَلَاةَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [23 \ 1، 2] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [23 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ الْآيَةَ [24 \ 37 \ 36] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي أَسْفَلِ طَبَقَاتِ النَّارِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُ بِإِدْخَالِهِمْ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [40 \ 46] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [5 \ 115] ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ تُبَيِّنُ أَنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا الْمُنَافِقُونَ وَآلُ فِرْعَوْنَ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالدَّرْكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا، لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ عَفْوِهِ عَنْهُمْ ذَنْبَ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ إِلَهًا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بِقَوْلِهِ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [2 \ 54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ امْتَثَلُوا هَذَا الْأَمْرَ، فَتَرَكُوا الْعُدْوَانَ فِي السَّبْتِ أَوْ لَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا وَأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ الْآيَةَ [2 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ الْآيَةَ [7 \ 163] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي قَالُوهُ عَلَى الصِّدِّيقَةِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ رَمْيُهُمْ لَهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَأَنَّهَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ فِي زَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [19 \ 27] ، يَعْنُونَ ارْتِكَابَ الْفَاحِشَةِ، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [19 \ 28] ، أَيْ: زَانِيَةً، فَكَيْفَ تَفْجُرِينَ وَوَالِدَاكِ لَيْسَا كَذَلِكَ، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِيُوسُفَ النَّجَّارِ وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَالْبُهْتَانُ أَشَدُّ الْكَذِبِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [6 \ 146] . قَوْلُهُ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ لَوْ عَذَّبَهُمْ دُونَ إِنْذَارِهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ «طَهَ» بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [20 \ 134] ، وَأَشَارَ لَهَا فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [28 \ 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، هَذَا الْغُلُوُّ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ هُوَ وَقَوْلُ غَيْرِ الْحَقِّ هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: هُوَ اللَّهُ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: هُوَ إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [9 \ 30] ، وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [5 \ 17] ، وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [5 \ 73] ، وَأَشَارَ هُنَا إِلَى إِبْطَالِ هَذِهِ الْمُفْتَرَيَاتِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْآيَةَ [4 \ 171] ، وَقَوْلِهِ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ الْآيَةَ [4 \ 172] ، وَقَوْلِهِ: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [5 \ 75] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [5 \ 17] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَدْخُلُ فِي الْغُلُوِّ وَغَيْرِ الْحَقِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَالُوا مِنَ الْبُهْتَانِ عَلَى مَرْيَمَ أَيْضًا، وَاعْتَمَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْغُلُوُّ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَامِلًا لِلتَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ. وَقَدْ قَرَّرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْحَقَّ وَاسِطَةٌ بَيْنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: الْحَسَنَةُ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ جَانَبَ التَّفْرِيطَ وَالْإِفْرَاطَ فَقَدِ اهْتَدَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: [الطَّوِيلُ] وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى، وَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، لَيْسَتْ لَفْظَةُ «مِنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا يَزْعُمُهُ النَّصَارَى افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَلَكِنْ «مِنْ» هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، يَعْنِي: أَنَّ مَبْدَأَ ذَلِكَ الرُّوحِ الَّذِي وُلِدَ بِهِ عِيسَى حَيًّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [45 \ 13] ، أَيْ: كَائِنًا مَبْدَأُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ أَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى صُلْبِ آدَمَ، وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ رُوحَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» ; فَلَمَّا أَرَادَ خَلْقَهُ أَرْسَلَ ذَلِكَ الرُّوحَ إِلَى مَرْيَمَ، فَكَانَ مِنْهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّفْضِيلِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَرْوَاحِ مِنْ خَلْقِهِ جَلَّ وَعَلَا، كَقَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [22 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: نَاقَةَ اللَّهِ الْآيَةَ [91 \ 13] . وَقِيلَ: قَدْ يُسَمَّى مَنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ الْعَجِيبَةُ رُوحًا وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ، فَيُقَالُ: هَذَا رُوحٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ خَلْقِهِ، وَكَانَ عِيسَى يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، فَاسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ رُوحًا بِسَبَبِ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» «وَالتَّحْرِيمِ» ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّفْخَ رُوحًا ; لِأَنَّهُ رِيحٌ تَخْرُجُ مِنَ الرُّوحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: [الطَّوِيلُ] فَقُلْتُ لَهُ: ارْفَعْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرًا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَقَوْلُهُ: وَرُوحٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ أَلْقَاهَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَرُوحٌ مِنْهُ، أَيْ: رَحْمَةً مِنْهُ، وَكَانَ عِيسَى رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، قِيلَ وَمِنْهُ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [8 \ 22] ، أَيْ: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا، وَقِيلَ، رُوحٌ مِنْهُ، أَيْ: بُرْهَانٌ مِنْهُ وَكَانَ عِيسَى بُرْهَانًا وَحُجَّةً عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 قَوْمِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا الْمُرَادُ بِهَذَا النُّورِ الْمُبِينِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ; لِأَنَّهُ يُزِيلُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ كَمَا يُزِيلُ النُّورُ الْحِسِّيُّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ، وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا الْآيَةَ [42 \ 52] ، وَقَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [7 \ 157] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ الْآيَةَ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْأُخْتَانِ لِغَيْرِ أُمٍّ، بِأَنْ تَكُونَا شَقِيقَتَيْنِ أَوْ لِأَبٍ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مِيرَاثَ الثَّلَاثِ مِنَ الْأَخَوَاتِ فَصَاعِدًا، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْأَخَوَاتِ لَا يَزِدْنَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَلَوْ بَلَغَ عَدَدُهُنَّ مَا بَلَغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَنَاتِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [4 \ 11] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَنَاتَ أَمَسُّ رَحِمًا، وَأَقْوَى سَبَبًا فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأَخَوَاتِ، فَإِذَا كُنَّ لَا يَزِدْنَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَلَوْ كَثُرْنَ فَكَذَلِكَ الْأَخَوَاتُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَعْنِي: مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ، الَّذِي الْمَسْكُوتُ فِيهِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ، مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ، وَكَذَلِكَ الْمَسَاوِئُ عَلَى التَّحْقِيقِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [17 \ 23] ، يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى حُرْمَةُ ضَرْبِهِمَا، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ الْآيَةَ [99 \ 7] ، يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ جَبَلٍ يَرَاهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَوْلُهُ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] ، يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى قَبُولُ شَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ مَثَلًا مِنَ الْعُدُولِ، وَنَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ، يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى النَّهْيُ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَسَاوِئِ، فَتَحْرِيمُ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْمُسَاوَاةِ مَنْعُ إِحْرَاقِهِ وَإِغْرَاقِهِ، وَنَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، يَفْهَمُ مِنْهُ كَذَلِكَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ الْبَوْلِ فِي إِنَاءٍ وَصَبِّهِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ» الْحَدِيثَ. يُفْهَمُ مِنْهُ كَذَلِكَ أَنَّ الْأَمَةَ كَذَلِكَ، وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ خِلَافَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا، لَا أَثَرَ لَهُ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَّحَ بِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ لَيْسَ لَهُنَّ غَيْرُ الثُّلُثَيْنِ، عُلِمَ أَنَّ الْأَخَوَاتِ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْمَائِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حِلِّيَّةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ; وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [5 \ 3] ، إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، فَالْمَذْكُورَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ ; فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الْجَنِينِ إِذَا ذُكِّيَتْ أَمُّهُ وَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا مَيِّتًا. وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ» كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا، يَعْنِي إِنَّ شِئْتُمْ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى إِيجَابِ الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ، وَيَدُلُّ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ جَائِزًا، ثُمَّ حُرِّمَ لِمُوجِبٍ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الْمُوجِبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِي الْقُرْآنِ لِلْجَوَازِ، نَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [62 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الْآيَةَ [2 \ 187] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ الْآيَةَ [2 \ 222] . وَلَا يُنْقَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [9 \ 5] ; لِأَنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ تَحْرِيمِهِ الْعَارِضِ بِسَبَبِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهَا أَشْهُرُ الْإِمْهَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [9 \ 2] ، أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 قُلْنَا: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [9 \ 36] . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ مِنْ إِبَاحَةٍ أَوْ وُجُوبٍ، فَالصَّيْدُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَانَ جَائِزًا فَمُنِعَ لِلْإِحْرَامِ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا، فَيَرْجِعُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْجَوَازُ، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِينَ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَمُنِعَ مِنْ أَجْلِهَا، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْآيَةَ، فَيَرْجِعُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَهَذَا أَمْرٌ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَى السَّبْرِ أَنَّهُ يُرَدُّ الْحُكْمُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَدَّهُ، فَوَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَمُسْتَحَبٌّ، أَوْ مُبَاحًا فَمُبَاحٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ أُخْرَى، وَالَّذِي يَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ عَقَدَهَا فِي (مَرَاقِي السُّعُودِ) بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَظْلِ ... وَبَعْدَ سُؤَالٍ قَدْ أَتَى لِلْأَصْلِ أَوْ يَقْتَضِي إِبَاحَةً لِلْأَغْلَبِ إِذَا تَعَلَّقَ بِمِثْلِ السَّبَبِ إِلَّا فَذَا الْمَذْهَبُ وَالْكَثِيرُ لَهُ إِلَى إِيجَابِهِ مَصِيرُ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَغَيْرُ التَّامِّ الْمَعْرُوفُ بِـ «إِلْحَاقِ الْفَرْدِ بِالْأَغْلَبِ» حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، كَمَا عَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي كِتَابِ «الِاسْتِدْلَالِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْجُزْئِيِّ ... عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْكُلِّيِّ فَإِنْ يَعُمَّ غَيْرَ ذِي الشِّقَاقِ ... فَهُوَ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ فِي الْبَعْضِ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبْ ... يُسَمَّى لُحُوقَ الْفَرْدِ بِالَّذِي غَلَبْ فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى مَا اخْتَرْنَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّرْكَشِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الْحُكْمِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، عَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا الْآيَةَ، نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ بُغْضُ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ أَنْ صَدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ شَرْعًا. كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَصُدُّ هَؤُلَاءِ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ» ، اهـ. بِلَفْظِهِ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ قَبْلَ هَذَا: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [5 \ 2] ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا الْآيَةَ [5 \ 8] ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ صَدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْفِعْلِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَنْ صَدُّوكُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا: لِأَجْلِ أَنْ صَدُّوكُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا حِكْمَةَ هَذَا الصَّدِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ صَدُّوا مَعَهُمُ الْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّهُمْ صَدُّوا مَعَهُمُ الْهَدْيَ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الَّذِينَ لَمَّ يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْكَفَّارِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بِقَوْلِهِ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [48 \ 25] ; وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَامِلَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيهِ، بِأَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى كَمَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَحُسْنُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، مُبَيِّنٌ أَنَّهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ، مَعْنَاهُ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ طَعَنْتُ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا أَيْ حَمَلَتْهُمْ عَلَى أَنْ يَغْضَبُوا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ، أَيْ: لَا يُكْسِبَنَّكُمْ، وَعَلَيْهِ فَلَا تَقْدِيرَ لِحَرْفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَعْتَدُوا، أَيْ: لَا يُكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُهُمُ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ بَعْضُ السَّبْعَةِ: شَنْآنُ، بِسُكُونِ النُّونِ، وَمَعْنَى الشَّنَآنِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ بِفَتْحِ النُّونِ، وَبِسُكُونِهَا: الْبُغْضُ. مَصْدَرُ «شَنَأَهُ» إِذَا أَبْغَضَهُ. وَقِيلَ عَلَى قِرَاءَةِ سُكُونِ النُّونِ يَكُونُ وَصْفًا كَالْغَضْبَانِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ: أَنْ صَدُّوكُمْ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ; فَالْمَعْنَى: إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ صَدُّهُمْ لَكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ. وَإِبْطَالُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ صَدِّ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِ الصَّدِّ بَعْدَ وُقُوعِهِ - مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ قِرَاءَةَ إِنْ صَدُّوكُمْ، بِصِيغَةِ الشَّرْطِ قِرَاءَةٌ سَبْعِيَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ: الثَّانِي: أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنْ صَدُّوكُمْ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ «أَنْ» ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ تَكَرُّرُ الْفِعْلِ السَّيِّئِ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ بِرِدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [2 \ 217] . وَمُقْتَضَى الْأُصُولِ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، فَيُقَيِّدُ إِحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ الْقَائِلِ بِإِحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فِي قَوْلِهِ: وَأَرْجُلَكُمْ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: وَاحِدَةٌ شَاذَّةٌ، وَاثْنَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ. أَمَّا الشَّاذَّةُ: فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ ; وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرَتَانِ: فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ. أَمَّا النَّصْبُ: فَهُوَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيِّ، وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ مِنَ السَّبْعَةِ، وَيَعْقُوبَ مِنَ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَّا الْجَرُّ: فَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةَ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ. أَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ: فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَرْجُلَ فِيهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوُجُوهِ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. وَإِنَّمَا أُدْخِلَ مَسْحُ الرَّأْسِ بَيْنَ الْمَغْسُولَاتِ مُحَافَظَةً عَلَى التَّرْتِيبِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ يُمْسَحُ بَيْنَ الْمَغْسُولَاتِ ; وَمِنْ هُنَا أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَسْبَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ: فَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِجْمَالٌ، وَهُوَ أَنَّهَا يُفْهَمُ مِنْهَا الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ عَنِ الْغَسْلِ كَالرَّأْسِ، وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّوَعُّدِ بِالنَّارِ لِمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . اعْلَمْ أَوَّلًا، أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ إِذَا ظَهَرَ تَعَارُضُهُمَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ لَهُمَا حُكْمُ الْآيَتَيْنِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ: وَأَرْجُلَكُمْ، بِالنَّصْبِ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، فَهِيَ تُفْهِمُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ إِنَّمَا هِيَ لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مَنْصُوبَةٌ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَالْعَرَبُ تَخْفِضُ الْكَلِمَةَ لِمُجَاوَرَتِهَا لِلْمَخْفُوضِ، مَعَ أَنَّ إِعْرَابَهَا النَّصْبُ، أَوِ الرَّفْعُ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْخَفْضَ بِالْمُجَاوَرَةِ مَعْدُودٌ مِنَ اللَّحْنِ الَّذِي يُتَحَمَّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فِي الْعَطْفِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ صَرَّحُوا بِجَوَازِهِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْأَخْفَشُ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَمْ يُنْكِرْهُ إِلَّا الزَّجَّاجُ، وَإِنْكَارُهُ لَهُ، مَعَ ثُبُوتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَتَبَّعِ الْمَسْأَلَةَ تَتَبُّعًا كَافِيًا. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْخَفْضَ بِالْمُجَاوَرَةِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. فَمِنْهُ فِي النَّعْتِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الطَّوِيلُ] كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عِرَانِينِ وَدْقِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ بِخَفْضٍ «مُزَمَّلِ» بِالْمُجَاوَرَةِ، مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ «كَبِيرُ» الْمَرْفُوعِ بِأَنَّهُ خَبَرُ «كَأَنَّ» وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: [الْبَسِيطُ] تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرِ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلَا نَدَبُ إِذِ الرِّوَايَةُ بِخَفْضِ «غَيْرِ» ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ لِلْمُجَاوَرَةِ، مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ «سُنَّةَ» الْمَنْصُوبِ بِالْمَفْعُولِيَّةِ. وَمِنْهُ فِي الْعَطْفِ، قَوْلُ النَّابِغَةِ: [الْبَسِيطُ] لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَسِيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... وَمُوثَقٍ فِي حِبَالِ الْقَدِّ مَجْنُوبِ بِخَفْضٍ «مُوثَقٍ» لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَخْفُوضِ، مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى «أَسِيرٌ» الْمَرْفُوعِ بِالْفَاعِلِيَّةِ. وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الطَّوِيلُ] وَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مَا بَيْنَ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ بِجَرٍّ «قَدِيرٍ» لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ، مَعَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى «صَفِيفَ» الْمَنْصُوبِ بِأَنَّهُ مَفْعُولُ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ «مُنْضِجٍ» ، وَالصَّفِيفُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَصْفُوفُ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى الْجَمْرِ لِيَنْشَوِيَ، وَالْقَدِيرُ: كَذَلِكَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ الْمَجْعُولُ فِي الْقِدْرِ مِنَ اللَّحْمِ لِيَنْضُجَ بِالطَّبْخِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وَهَذَا الْإِعْرَابُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْإِنْضَاجَ وَاقِعٌ عَلَى كُلٍّ مِنَ الصَّفِيفِ وَالْقَدِيرِ، فَمَا زَعَمَهُ «الصَّبَّانُ» فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى «الْأَشْمُونِيِّ» مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ «أَوْ قَدِيرٍ» مَعْطُوفٌ عَلَى «مُنْضِجٍ» بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ وَطَابِخِ قَدِيرٍ. . . الْخَ، ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْمُنْضِجَ شَامِلٌ لِشَاوِي الصَّفِيفِ، وَطَابِخِ الْقَدِيرِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى عَطْفِ الطَّابِخِ عَلَى الْمُنْضَجِ لِشُمُولِهِ لَهُ، وَلَا دَاعِيَ لِتَقْدِيرِ «طَابِخٍ» مَحْذُوفٍ. وَمَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ مِنْ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى «شِوَاءٍ» ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ «الصَّبَّانُ» ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ بِذَلِكَ: وَصَفِيفٍ قَدِيرٍ، وَالْقَدِيرُ لَا يَكُونُ صَفِيفًا. وَالتَّحْقِيقُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَمِنَ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَةِ فِي الْعَطْفِ، قَوْلُ زُهَيْرٍ: [الْكَامِلُ] لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا ... بَعْدِي سَوَافِي الْمَوْرِ وَالْقَطْرِ بِجَرِّ «الْقَطْرِ» لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى «سَوَافِي» الْمَرْفُوعِ، بِأَنَّهُ فَاعِلُ غَيَّرَ. وَمِنْهُ فِي التَّوْكِيدِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْبَسِيطُ] يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كُلَّهُمُ ... أَنْ لَيْسَ وَصْلٌ إِذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ بِجَرِّ «كُلِّهِمْ» عَلَى مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ، لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ، مَعَ أَنَّهُ تَوْكِيدُ «ذَوِيِ» الْمَنْصُوبِ بِالْمَفْعُولِيَّةِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي الْعَطْفِ - كَالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [56 \ 22] ، عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ. وَرِوَايَةُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ بِالْجَرِّ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [56 \ 21] ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَحُورٌ عِينٌ، حُكْمُهُ الرَّفْعُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فَاعِلِ «يَطُوفُ» الَّذِي هُوَ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [56 \ 17] . وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ. أَيْ: وَفِيهَا حُورٌ عِينٌ، أَوْ لَهُمْ حُورٌ عِينٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وَإِذَنْ فَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى قَوْلَ الشَّمَّاخِ، أَوْ ذِي الرُّمَّةِ: [الْكَامِلُ] بَادَتْ وَغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ الْبِلَا ... إِلَّا رَوَاكِدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاءُ وَمُشَجَّجٌ أَمَّا سَوَاءُ قِذَالِهِ ... فَبَدَا وَغَيَّبَ سَارَهُ الْمَعْزَاءُ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِنَصْبِ «رَوَاكِدَ» عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَرَفْعِ مُشَجَّجٍ عَطْفًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا رَوَاكِدُ وَمُشَجَّجٌ، وَمُرَادُهُ بِالرَّوَاكِدِ أَثَافِي الْقِدْرِ، وَبِالْمُشَجَّجِ وَتَدُ الْخِبَاءِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ وَجْهَ الْخَفْضِ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ هُوَ الْمُجَاوَرَةُ لِلْمَخْفُوضِ، كَمَا ذَكَرْنَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ: إِنَّ الْعَطْفَ عَلَى أَكْوَابٍ، أَيْ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ، وَبِحُورٍ عِينٍ، وَلِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَيْ هُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَفِي حُورٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فِي مُعَاشَرَةِ حُورٍ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَدُّ، بِأَنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَا يُطَافُ بِهِنَّ مَعَ الشَّرَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [55 \ 72] . وَالثَّانِي فِيهِ أَنَّ كَوْنَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَفِي حُورٍ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى، وَتَقْدِيرُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَا وَجْهَ لَهُ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِجَوَابَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَطْفَ فِيهِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: يَتَنَعَّمُونَ بِأَكْوَابٍ وَفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَحُورٍ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُورَ قِسْمَانِ: 1 - حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ. 2 - وَحُورٌ يُطَافُ بِهِنَّ عَلَيْهِمْ قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْ صِفَاتِ الْحُورِ الْعِينِ كَوْنُهُنَّ يُطَافُ بِهِنَّ كَالشَّرَابِ، فَأَظْهَرُهَا الْخَفْضُ بِالْمُجَاوَرَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَلَامُ الْفَرَّاءِ، وَقُطْرُبٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَا رُدَّ بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ عَلَى أَكْوَابٍ مِنْ كَوْنِ الْحُورِ لَا يُطَافُ بِهِنَّ يُرَدُّ بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ عَلَى وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُورَ يَطُفْنَ عَلَيْهِمْ كَالْوِلْدَانِ، وَالْقَصْرُ فِي الْخِيَامِ يُنَافِي ذَلِكَ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ خَفْضَ وَأَرْجُلِكُمْ ; لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الْكُبْرَى» ، فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ: بَابُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ «وَأَرْجُلَكُمْ» نَصْبًا، وَأَنَّ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَسْلِ، وَأَنَّ مَنْ قَرَأَهَا خَفْضًا، فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُجَاوَرَةِ، ثُمَّ سَاقَ أَسَانِيدَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ، وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئِ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُمْ قَرَءُوهَا كُلُّهُمْ: وَأَرْجُلَكُمْ، بِالنَّصْبِ. قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا نَصْبًا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيِّ، وَعَنْ عَاصِمٍ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْشَى، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ، كُلُّ هَؤُلَاءِ نَصَبُوهَا. وَمَنْ خَفَضَهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُجَاوَرَةِ، قَالَ الْأَعْمَشُ: كَانُوا يَقْرَءُونَهَا بِالْخَفْضِ، وَكَانُوا يَغْسِلُونَ، اهـ كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي النَّعْتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [11 \ 84] ، بِخَفْضِ مُحِيطٍ مَعَ أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [11 \ 26] ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَنَّ النَّعْتَ لِلْعَذَابِ، وَقَدْ خُفِضَ لِلْمُجَاوَرَةِ، كَثْرَةُ وُرُودِ الْأَلَمِ فِي الْقُرْآنِ نَعْتًا لِلْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [85 \ 22] ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِخَفْضِ مَحْفُوظٍ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: «هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» بِخَفْضِ خَرِبٍ لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَةِ لَحْنًا لَا يُتَحَمَّلُ إِلَّا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ بَاطِلَةٌ، وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَّرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، هُوَ أَنَّ اللَّبْسَ هُنَا يُزِيلُهُ التَّحْدِيدُ بِالْكَعْبَيْنِ، إِذْ لَمْ يَرِدْ تَحْدِيدُ الْمَمْسُوحِ، وَتُزِيلُهُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قِيلَ قِرَاءَةُ الْجَرِّ الدَّالَّةُ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ بِأَنْ تَجْعَلَ قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ ; لِأَنَّ الرُّءُوسَ مَجْرُورَةٌ بِالْبَاءِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: [الرَّجَزُ] وَجَرُّ مَا يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ ... رَاعَى فِي الِاتْبَاعِ الْمَحَلَّ فَحَسَنْ وَابْنُ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ أَوْرَدَ هَذَا فِي «إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ» فَحُكْمُهُ عَامٌّ، أَيْ وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْوَصْفُ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَاجُرُرْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذِي انْخَفَضْ ... كَمُبْتَغِي جَاهٍ وَمَالًا مَنْ نَهَضْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فَالْجَوَابُ أَنَّ بَيَانَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ، كَمَا ذَكَرَ، تَأْبَاهُ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ النَّاطِقَةُ بِخِلَافِهِ، وَبِتَوَعُّدِ مُرْتَكِبِهِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ بِخِلَافِ بَيَانِ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةَ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا، وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَارِثِ بْنِ جُزْءٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ، وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ» ; وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَيْقِيبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ، قَالَ: فَمَا بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ شَرِيفٌ وَلَا وَضِيعٌ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا. وَثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الْوُضُوءِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوئِهِ، إِمَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ» . ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِمَسْحِهِمَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُمَا. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْمَسْحَ عَلَى الْغَسْلِ أَيْضًا، وَتَقُولُ تَمَسَّحْتُ بِمَعْنَى تَوَضَّأْتُ، وَمَسَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ أَيْ غَسَلَهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وَمَسَحَ اللَّهُ مَا بِكَ أَيْ غَسَلَ عَنْكَ الذُّنُوبَ وَالْأَذَى، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَسْحِ فِي الْأَرْجُلِ هُوَ الْغَسْلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحُ الَّذِي لَيْسَ بِغَسْلٍ، وَلَيْسَ مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، وَلَا مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، لِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةٌ عَنِ الْأُخْرَى مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ جَوَازُ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَحَرَّرَ أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَجَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَيْنَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَالْجَرِّ بِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ يُرَادُ بِهَا غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ فِيهَا عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ، وَهُمَا مِنَ الْمَغْسُولَاتِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ يُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ مَعَ الْغَسْلِ، يَعْنِي الدَّلْكَ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا فِي الرِّجْلَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا ; أَنَّ الرِّجْلَيْنِ هُمَا أَقْرَبُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ إِلَى مُلَابَسَةِ الْأَقْذَارِ لِمُبَاشَرَتِهِمَا الْأَرْضَ فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ يُجْمَعَ لَهُمَا بَيْنَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَالْمَسْحِ أَيِ الدَّلْكِ بِالْيَدِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ: الْمَسْحُ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْخُفِّ. وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي قِرَاءَةِ الْخَفْضِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، إِذَا لَبِسَهُمَا طَاهِرًا، مُتَوَاتِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا مَنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَالْقَوْلُ بِنَسْخِهِ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ يَبْطُلُ بِحَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ، لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُوَضِّحُ عَدَمَ النَّسْخِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ «الْمُرَيْسِيعِ» . وَلَا شَكَّ أَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَوَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ مَغَازِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ فِي غَزْوَةِ «الْمُرَيْسِيعِ» ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، وَأَشَارَ لَهُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي «نَظْمِ الْمَغَازِي» ، بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ: [الرَّجَزُ] وَالْإِفْكُ فِي قُفُولِهِمْ وَنُقِلَا ... أَنَّ التَّيَمُّمَ بِهَا قَدْ أُنْزِلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَالتَّيَمُّمُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْجُلُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِلْدِ إِذَا كَانَ صَفِيقًا سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُمْسَحُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْجِلْدِ ; فَاشْتَرَطُوا فِي الْمَسْحِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْسُوحَ خُفًّا مِنْ جُلُودٍ، أَوْ جَوْرَبًا مُجَلَّدًا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، يَعْنُونَ مَا فَوْقَ الْقَدَمِ وَمَا تَحْتَهَا لَا بَاطِنَهُ الَّذِي يَلِي الْقَدَمَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ، وَأَنَّ الرُّخَصَ لَا تَتَعَدَّى مَحَلَّهَا، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْسَحْ عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ ; فَلَا يَجُوزُ تَعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى شَطْرِ قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَهِيَ: هَلْ يَلْحَقُ بِالرُّخَصِ مَا فِي مَعْنَاهَا، أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَيْهَا وَلَا تُعَدَّى مَحَلَّهَا؟ . وَمِنْ فُرُوعِهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ «الْعَرَايَا» مِنَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ، هَلْ يَجُوزُ إِلْحَاقًا بِالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَوْ لَا؟ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمْ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْجِلْدِ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّرْخِيصِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْحِ عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ، وَلِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَالْمُوقَيْنِ. قَالُوا: وَالْجَوْرَبُ: لِفَافَةُ الرِّجْلِ، وَهِيَ غَيْرُ جِلْدٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْجَوْرَبُ لِفَافَةُ الرِّجْلِ، وَفِي اللِّسَانِ: الْجَوْرَبُ لِفَافَةُ الرِّجْلِ، مُعَرَّبٌ وَهُوَ بِالْفَارِسِيةِ «كَوْرَبُ» . وَأَجَابَ مَنِ اشْتَرَطَ الْجِلْدَ بِأَنَّ الْجَوْرَبَ هُوَ الْخُفُّ الْكَبِيرُ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَمَّا الْجُرْمُوقُ وَالْمُوقُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنَ الْخِفَافِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجُرْمُوقُ: كَعُصْفُورٍ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ، وَفِي الْقَامُوسِ أَيْضًا: الْمُوقُ خُفٌّ غَلِيظٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ، وَفِي اللِّسَانِ: الْجُرْمُوقُ، خُفٌّ صَغِيرٌ، وَقِيلَ: خُفٌّ صَغِيرٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ، فِي اللِّسَانِ أَيْضًا: الْمُوقُ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالْمُوقُ: الْخُفُّ اهـ. قَالُوا: وَالتَّسَاخِينُ: الْخِفَافُ، فَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ، وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: نَفْسُ الْجِلْدِ لَا أَثَرَ لَهُ، بَلْ كُلُّ خُفٍّ صَفِيقٍ سَاتِرٍ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ يُمْكِنُ فِيهِ تَتَابُعُ الْمَشْيِ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ; وَقَالَ الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ: لَا يَجُوزُ، وَحَكَى نَحْوَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُدَ، وَالتَّحْقِيقُ عَنْ مَالِكٍ، وَجُلِّ أَصْحَابِهِ، الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَهُ إِلَّا مَالِكًا فِي رِوَايَةٍ أَنْكَرَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ مُصَرِّحَةٌ بِإِثْبَاتِهِ، وَمُوَطَّأُهُ، يَشْهَدُ لِلْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: رِوَايَةُ الْإِنْكَارِ فِي «الْعُتْبِيَّةِ» وَظَاهِرُهَا الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّ الْغَسْلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: آخِرُ مَا فَارَقْتُ مَالِكًا عَلَى الْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ; وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، فَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ «الْمُوَطَّأِ» : وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ رُوَاتُهُ فَجَاوَزُوا الثَّمَانِينَ، مِنْهُمُ الْعَشَرَةُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» : وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ «الْإِجْمَاعِ» ، إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي مَسْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَتَرْخِيصُهُ فِيهِ، وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِّينَا جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ، وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ خَلَائِقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، غَيْرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَحَادِيثُهُمْ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ، وَسَلْمَانَ، وَبُرَيْدَةَ، وَعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، وَيَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي بَكْرَةَ، وَبِلَالٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرُوِّينَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قَالَ: وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اخْتِلَافٌ. اهـ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ مُغَازِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لِجَرِيرٍ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، قَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نَسْخِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ، فَالْخِلَافُ فِيهِ لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَسْلِ الرِّجْلِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: غَسْلُ الرِّجْلِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمَسْحَ رَغْبَةً عَنِ الرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِمْ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ هُوَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعْظَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الْأَوْقَاتِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَشَقَّةً. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» . وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ ; بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» . وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ» الْحَدِيثَ. قَالُوا: وَالْأَمْرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّدْبِ، قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي، هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَعَزَاهُ لِشَيْخِهِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ ضِدَّ حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَدَمَاهُ، بَلْ إِنْ كَانَتَا فِي الْخُفِّ مَسَحَ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَنْزِعْهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ غَسَلَ الْقَدَمَيْنِ، وَلَمْ يَلْبَسِ الْخُفَّ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، اهـ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُفِّ: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا يُمْكِنُ تَتَابُعُ الْمَشْيِ فِيهِ فِي مَوَاضِعِ النُّزُولِ، وَعِنْدَ الْحَطِّ وَالتَّرْحَالِ، وَفِي الْحَوَائِجِ الَّتِي يَتَرَدَّدُ فِيهَا فِي الْمَنْزِلِ، وَفِي الْمُقِيمِ نَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ لَابِسِي الْخِفَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ الْخُفُّ مُخَرَّقًا، فَفِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ مِنْ تَخْرِيقِهِ قَدْرُ ثُلُثِ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ آخِرُ حَدِّ الْيَسِيرِ، وَأَوَّلُ حَدِّ الْكَثِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ فِيهِ خَرْقٌ يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُنْكَشِفَ مِنَ الرِّجْلِ حُكْمُهُ الْغَسْلُ، وَالْمَسْتُورُ حُكْمُهُ الْمَسْحُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ لَا يَجُوزُ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْسِلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَيَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ فِي الْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ لَهُ غَسْلُ بَعْضِ الْقَدَمِ مَعَ مَسْحِ الْخُفِّ فِي الْبَاقِي مِنْهَا. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْخَرْقَ الْكَبِيرَ يَمْنَعُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ دُونَ الصَّغِيرِ. وَحَدَّدُوا الْخَرْقَ الْكَبِيرَ بِمِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ. قِيلَ: مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ الْأَصَاغِرِ، وَقِيلَ: مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى جَمِيعِ الْخِفَافِ، وَإِنْ تَخَرَّقَتْ تَخْرُّقًا كَثِيرًا مَا دَامَتْ يُمْكِنُ تَتَابُعُ الْمَشْيِ فِيهَا ; وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: امْسَحْ عَلَيْهِمَا مَا تَعَلَّقَا بِالْقَدَمِ، وَإِنْ تَخَرَّقَا، قَالَ: وَكَانَتْ كَذَلِكَ خِفَافُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مُخَرَّقَةً مُشَقَّقَةً، اهـ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَوْلُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ هُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبُقُولِ الثَّوْرِيِّ أَقُولُ، لِظَاهِرِ إِبَاحَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَوْلًا عَامًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْخِفَافِ. اهـ، نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوِيٌّ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ رِجْلِهِ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، وَعَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ رِجْلِهِ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي، الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ مَا لَمْ يَتَفَاحَشْ خَرْقُهُ حَتَّى يَمْنَعَ تَتَابُعَ الْمَشْيِ فِيهِ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى خِفَافِ الْمُسَافِرِينَ، وَالْغُزَاةِ عَدَمُ السَّلَامَةِ مِنَ التَّخْرِيقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَسْحِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 النَّعْلَيْنِ بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَرْوَانَ، عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ» ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبَيْهَقِيُّ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ ضَعَّفَ هَذَا الْخَبَرَ، وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ الْأَوْدِيُّ، وَهُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ: لَا يَحْتَمِلَانِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمَا الْأَجِلَّةَ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْخَبَرَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا: مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ: لَا نَتْرُكُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ أَبِي قَيْسٍ وَهُزَيْلٍ، فَذَكَرْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْ مُسْلِمٍ لِأَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيِّ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ شَيْبَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا قُدَامَةَ السَّرَخْسِيَّ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: لَوْ حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ مَا قَبِلْتُهُ مِنْكَ، فَقَالَ سُفْيَانُ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ أَوْ وَاهٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، اهـ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثْتُ أَبِي بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبِي: لَيْسَ يُرْوَى هَذَا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ، قَالَ أَبِي: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، يَقُولُ: هُوَ مُنْكَرٌ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْمَسْحِ رَوَاهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَرَوَاهُ هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَخَالَفَ النَّاسَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: النَّاسُ كُلُّهُمْ يَرْوُونَهُ عَلَى الْخُفَّيْنِ غَيْرَ أَبِي قَيْسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَيْضًا مَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِنْ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ كَانَ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا بِالْمُتَّصِلِ، وَبَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ مُرَادَ أَبِي دَاوُدَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ وَغَيْرَ قَوِيٍّ، فَعَدَمُ اتِّصَالِهِ، إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي مُوسَى، وَعَدَمُ قُوَّتِهِ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عِيسَى بْنَ سِنَانٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعِيسَى بْنُ سِنَانٍ ضَعِيفٌ، اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَاعْتَرَضَ الْمُخَالِفُونَ تَضْعِيفَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ، قَالُوا: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَنْهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحَسَنُ، قَالُوا: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالُوا: وَأَبُو قَيْسٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: ثِقَةٌ ثَبْتٌ، وَهُزَيْلٌ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَأَخْرَجَ لَهُمَا مَعًا الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا لَمْ يُخَالِفَا النَّاسَ مُخَالَفَةَ مُعَارَضَةٍ، بَلْ رَوَيَا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا رَوَوْهُ بِطْرِيقٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مُعَارَضٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ قَالُوا: وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ سَمَاعِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَبِي مُوسَى، لِأَنَّ الْمُعَاصَرَةَ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا حَقَّقَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ ; وَلِأَنَّ عَبْدَ الْغَنِيِّ قَالَ فِي «الْكَمَالِ» : سَمِعَ الضَّحَّاكُ مِنْ أَبِي مُوسَى، قَالُوا: وَعِيسَى بْنُ سِنَانٍ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي «الْجَنَائِزِ» حَدِيثًا فِي سَنَدِهِ عِيسَى بْنُ سِنَانٍ هَذَا، وَحَسَّنَهُ. وَيَعْتَضِدُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكُ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ؟ فَذَكَرَهُنَّ، وَقَالَ فِيهِنَّ: رَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السَّبْتِيَّةَ، قَالَ: أَمَّا النِّعَالُ السَّبْتِيَّةُ، «فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، فَزَادَ فِيهِ: وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا ; وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَلَا يُنَافِي غَسْلَهُمَا، فَقَدْ يَغْسِلُهُمَا فِي النَّعْلِ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهِمَا. وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: بَالَ عَلِيٌّ، وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، قَالَ: «بَالَ عَلِيٌّ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا نَحْوَهُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ بِسَنَدٍ آخَرَ، وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ» . ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِمَنَاكِيرَ هَذَا أَحَدُهَا، وَالثِّقَاتُ رَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ دُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنِ الثَّوْرِيِّ هَكَذَا، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثَنَا سُفْيَانُ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ» ، اهـ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَحَكَيَا فِي الْحَدِيثِ: «رَشًّا عَلَى الرِّجْلِ وَفِيهَا النَّعْلُ» ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَسَلَهَا فِي النَّعْلِ. فَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، وَوَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَحَكَوْا فِي الْحَدِيثِ غَسْلَهُ رِجْلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ. وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْعَدَدِ الْيَسِيرِ، مَعَ فَضْلِ حِفْظِ مَنْ حَفِظَ فِيهِ الْغَسْلَ بَعْدَ الرَّشِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ، وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا مُسَدَّدٌ، وَعَبَّادُ بْنُ مُوسَى، قَالَا: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عَبَّادٌ: قَالَ: أَخْبَرَنِي أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ» . وَقَالَ مُسَدَّدٌ: إِنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ» وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَذَكَرَهُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، اهـ كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ مِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بِهِ، وَمِنْهَا مَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي النَّعْلَيْنِ» . ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ فِي النَّعْلَيْنِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِيهِمَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ قَالَ: «أَمَّا النِّعَالُ السَّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا» اهـ. وَمُرَادُ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ «وَيَتَوَضَّأُ» فِيهَا أَنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِيهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا قَدَّمْنَا رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، وَفِيهَا زِيَادَةٌ «وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَنْعِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ: وَالْأَصْلُ وُجُوبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ، أَوْ إِجْمَاعٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَلَا عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، اهـ. وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِينَ بِثُبُوتِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: إِنَّ التِّرْمِذِيَّ صَحَّحَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ، وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ هُزَيْلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَسَّنَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ الْمَسْحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَوْسٍ، وَصَحَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَسْحِ عَلَى النِّعَالِ السَّبْتِيَّةِ. قَالُوا: وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ، حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَالُوا: وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ وَنَعْلَاهُ فِي رِجْلَيْهِ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهِمَا. وَيَقُولُ: «كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ» ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: الْمَنْعُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافُ الْآثَارِ. هَذَا حَاصِلُ مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ، أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الْجَوْرَبَيْنِ مُلْصَقَانِ بِالنَّعْلَيْنِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ مَعَ إِمْكَانِ تَتَابُعِ الْمَشْيِ فِيهِ، وَالْجَوْرَبَانِ صَفِيقَانِ فَلَا إِشْكَالَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَسْحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ بِانْفِرَادِهِمَا، فَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَهُ، وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى سَاتِرٍ لَهَا، فَلَمْ يَأْتِ بِالْأَصْلِ، وَلَا بِالْبَدَلِ. وَالْمَسْحُ عَلَى نَفْسِ الرِّجْلِ تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَنْعِ ذَلِكَ بِكَثْرَةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْقِيتِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَوْقِيتِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حُسَيْنٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَالْمُغِيرَةُ، وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَنْ جَمِيعِهِمْ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: التَّوْقِيتُ ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: التَّوْقِيتُ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِتَوْقِيتِ الْمَسْحِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ، يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 حِبَّانَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا» ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَالْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ، وَصَحَّحَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: «أَمَرَنَا، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى طُهْرٍ ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا أَقَمْنَا، وَلَا نَخْلَعَهُمَا مِنْ غَائِطٍ، وَلَا بَوْلٍ، وَلَا نَوْمٍ، وَلَا نَخْلَعَهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ» ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَاهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمَدَارُهُ عَلَى عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ، وَهُوَ صَدُوقٌ، سَيِّئُ الْحِفْظِ، وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا، قَالَهُ ابْنُ مِنْدَهْ، اهـ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ تَوْقِيتِ الْمَسْحِ وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ طَاهِرٌ، مَسَحَ عَلَيْهِمَا مَا بَدَا لَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ خَلْعُهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، وَلَا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَنَحْوِهِ» . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، يَعْتَضِدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ التَّوْقِيتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِ التَّوْقِيتِ مَا لَفْظُهُ: وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا، وَفِي لَفْظٍ: «لَوْ مَضَى السَّائِلُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ لَجَعَلَهَا خَمْسًا» ، يَعْنِي لَيَالِيَ التَّوْقِيتِ لِلْمَسْحِ. وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ هَذَا الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ صَحَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ادِّعَاءَ النَّوَوِيِّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» الِاتِّفَاقَ عَلَى ضَعْفِهِ، غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. إِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِلْجَدَلِيِّ سَمَاعٌ مِنْ خُزَيْمَةَ، مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطِهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ اللُّقِىِّ. وَقَدْ أَوْضَحَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ، أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ اللُّقِىِّ بِثُبُوتِ الْمُعَاصَرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ، ظَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَظُنَّ هَذَا الظَّنَّ، وَلَا حُجَّةَ فِي ظَنِّ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ خُزَيْمَةَ هُوَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ الَّذِي جَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَثَابَةِ شَاهِدَيْنِ، وَعَدَالَتُهُ، وَصِدْقُهُ، يَمْنَعَانِهِ مِنْ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّهُ لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ إِلَّا وَهُوَ عَارِفٌ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، بِأُمُورٍ أُخَرَ اطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا غَيْرُهُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ عَدَمَ التَّوْقِيتِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَوْمًا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَيَوْمَيْنِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: نَعَمْ، وَمَا شِئْتَ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا. فَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي عَدَمِ التَّوْقِيتِ صَحِيحٌ، وَيَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ، وَبِالْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. تَنْبِيهٌ الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ هُنَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَوَازِ الْمَسْحِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِلْمُسَافِرِ، وَالْمُقِيمِ، وَالْمُقَيَّدُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ لِلْمُسَافِرِ وَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِلْمُقِيمِ ; فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ فِي ذَلِكَ الزَّائِدِ، فَالْمُطْلَقُ يُصَرِّحُ بِجَوَازِهِ، وَالْمُقَيَّدُ يُصَرِّحُ بِمَنْعِهِ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، فَتُرَجَّحُ أَدِلَّةُ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا أَحْوَطُ، كَمَا رَجَّحَهَا بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَبِأَنَّ رُوَاتَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ، وَبِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمُ. وَقَدْ تَرْجَّحَ أَدِلَّةُ عَدَمِ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَبِأَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ أَمْرًا، وَالْمَانِعُ مِنْهَا نَافٍ لَهُ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنَ النَّافِي. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالنَّفْسُ إِلَى تَرْجِيحِ التَّوْقِيتِ أَمْيَلُ ; لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ أَحْوَطُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: [الرَّجَزُ] إِنِ الْأَوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ ... خِلَافِهِمْ وَلَوْ ضَعِيفًا فَاسْتَبِنْ وَقَالَ الْآخَرُ: [الرَّجَزُ] وَذُو احْتِيَاطٍ فِي أُمُورِ الدِّينِ ... مَنْ فَرَّ مَنْ شَكٍّ إِلَى يَقِينِ وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» . فَالْعَامِلُ بِأَدِلَّةِ التَّوْقِيتِ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةٌ بِاتِّفَاقِ الطَّائِفَتَيْنِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ بِبُطْلَانِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّوْقِيتِ اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُمَا، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَدَاوُدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَغَيْرُهُمْ، إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ التَّوْقِيتِ مِنْ أَوَّلِ حَدَثٍ يَقَعُ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِزِيَادَةٍ رَوَاهَا الْحَافِظُ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ: مِنَ الْحَدَثِ إِلَى الْحَدَثِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَهِيَ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ ثَابِتَةً. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْحَ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ وَقْتِهَا مِنْ حِينِ جَوَازِ فِعْلِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يَمْسَحُ بَعْدَ الْحَدَثِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا، الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَدَاوُدَ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَحَادِيثِ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ، وَهِيَ أَحَادِيثٌ صِحَاحٌ. وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِمْ بِهَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» صَرِيحٌ، فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا ظَرْفٌ لِلْمَسْحِ. وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنَ الْمَسْحِ، وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِ الْخُفِّ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِ الْخُفِّ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ أَكْثَرِ أَعْلَى الْخُفِّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي عِنْدَهُ مَسْحُ قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَعْلَى الْخُفِّ. وَحُجَّةُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ، حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «بُلُوغِ الْمَرَامِ» : إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ فِي «التَّلْخِيصِ» : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يُقْدَحُ فِيهِ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ خَيْرِ بْنُ يَزِيدَ الْهَمْدَانِيُّ، وَأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ: لَمْ يَحْتَجْ بِعَبْدِ خَيْرٍ الْمَذْكُورِ صَاحِبَا الصَّحِيحِ، اهـ ; لِأَنَّ عَبْدَ خَيْرٍ الْمَذْكُورِ، ثِقَةٌ مُخَضْرَمٌ مَشْهُورٌ، قِيلَ إِنَّهُ صَحَابِيٌّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُخَضْرَمٌ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَالْعِجْلِيُّ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يُخَرِّجَا لَهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِقَادِحٍ فِيهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَمْ مِنْ ثِقَةٍ عَدْلٍ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الشَّيْخَانِ! وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ أَقَلِّ جُزْءٍ مِنْ أَعْلَاهُ، وَأَنَّ مَسْحَ أَسْفَلِهِ مُسْتَحَبٌّ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مَسْحُ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ مَعًا، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَعْلَاهُ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يُعِدْ أَبَدًا، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَسْفَلِهِ أَعَادَ أَبَدًا. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّ مَسْحَ أَعْلَاهُ وَاجِبٌ، وَمَسْحُ أَسْفَلِهِ مَنْدُوبٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِمَسْحِ كُلٍّ مِنْ ظَاهِرِ الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ، بِمَا رَوَاهُ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ» ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ الْجَارُودِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ، لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ثَوْرٍ غَيْرُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَمُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَا: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ. وَقَدِ احْتَجَّ مَالِكٌ لِمَسْحِ أَسْفَلِ الْخُفِّ بِفِعْلِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَأَنَّ مَنْ لَبِسَهُمَا مُحْدِثًا، أَوْ بَعْدَ تَيَمُّمٍ، لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، كَمَنْ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَأَدْخَلَهَا فِي الْخُفِّ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَأَدْخَلَهَا أَيْضًا فِي الْخُفِّ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، فَقَالُوا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ لِأَنَّهُ لَبِسَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، كَحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعِ الْخُفَّيْنِ فَإِنِّي أَدْخَلْتُ الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ، وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ لَمَّا نَبَّهَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ: «إِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» . وَفِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُتَقَدِّمِ: «أَمَرَنَا أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْرٍ» الْحَدِيثَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَالُوا: وَالطَّهَارَةُ النَّاقِصَةُ كَلَا طَهَارَةٍ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ لُبْسِ الْخُفِّ فَأَجَازُوا لُبْسَ خُفِّ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وَالْمَسْحَ عَلَيْهِ، إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كَمُلَتْ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ. قَالُوا: وَالدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَالْمُزَنِيُّ، وَدَاوُدُ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ قَاعِدَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، «وَهِيَ هَلْ يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ، أَوْ لَا يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِتَمَامِ الْوُضُوءِ؟» ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْحَدَثَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ، فَلَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ جُزْءٌ، وَأَنَّهُ قَبْلَ تَمَامِ الْوُضُوءِ مُحْدِثٌ، وَالْخُفُّ يُشْتَرَطُ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ لُبْسِهِ غَيْرَ مُحْدِثٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، اهـ. تَنْبِيهٌ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ، لِأَنَّهُمَا قُرْبَةٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ قَائِلًا: إِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَا تَشْتَرِطُ فِيهَا النِّيَّةُ، كَطَهَارَةِ الْخَبَثِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْمَرَافِقِ [5 \ 6] ، هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فَيَجِبُ غَسْلُ الْمُرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ؟ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. أَوْ خَارِجَةٌ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْمُرَافِقِ فِيهِ؟ . وَالْحُقُّ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ، وَوُجُوبُ غَسْلِ الْمَرَافِقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ هَلْ يَجِبُ تَعْمِيمُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: يَجِبُ تَعْمِيمُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْأَحْوَطُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَسْحِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ التَّعْمِيمُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ: أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ كَافٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الرُّبُعُ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ: الثُّلُثُ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ: الثُّلُثَانِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ» ، وَحَمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ بِنَزْعِهَا ضَرَرٌ، وَظَاهِرُ الدَّلِيلِ الْإِطْلَاقُ. وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ» ، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالنَّاصِيَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكْتَفَى بِهَا، بَلْ مَسَحَ مَعَهَا عَلَى الْعِمَامَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ، وَالْعِمَامَةِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الدَّلِيلِ جَوَازُ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَا قَدَّمَنَا مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ بِالتَّيَمُّمِ، مَعَ أَنَّ فِيهِ بَعْضُ خِلَافٍ كَمَا يَأْتِي، لِأَنَّهُ لِضَعْفِهِ عِنْدَنَا كَالْعَدَمِ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ الْآيَةَ، اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ مِنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُحْتَمِلَةٌ، لِأَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، فَيَتَعَيَّنُ فِي التَّيَمُّمِ التُّرَابُ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ ; وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مَبْدَأُ ذَلِكَ الْمَسْحِ كَائِنٌ مِنَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ مَالَهُ غُبَارٌ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَأَحْمَدُ، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعًا. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشَارَةً إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [5 \ 6] ، فَقَوْلُهُ: مِنْ حَرَجٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ زِيدَتْ قَبْلَهَا مِنْ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، فَهِيَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ: [الرَّجَزُ] وَفِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْهَا يُذْكَرْ ... إِذَا بُنِي أَوْ زِيدَ مِنْ مُنَكَّرْ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ، وَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ كَوْنُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الرِّمَالُ أَوِ الْجِبَالُ، فَالتَّكْلِيفُ بِخُصُوصِ مَا فِيهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، لَا يَخْلُو مِنْ حَرَجٍ فِي الْجُمْلَةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، فَلْيُصَلِّ» ، وَفِي لَفْظٍ: «فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ» الْحَدِيثَ. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْجِبَالُ أَوِ الرِّمَالُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ الَّذِي هُوَ الْحِجَارَةُ، أَوِ الرَّمْلُ طَهُورٌ لَهُ وَمَسْجِدٌ ; وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَعَيُّنِ كَوْنِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; فَإِنْ قِيلَ: وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ التُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّعِيدِ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» الْحَدِيثَ، فَتَخْصِيصُ التُّرَابِ بِالطَّهُورِيَّةِ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ مَذْكُورًا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، مِمَّا يَمْنَعُ فِيهِ اعْتِبَارُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَوَانِعَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: [الرَّجَزُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ ... وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْقَدِيدِ مِنَ الْحُوتِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [16 \ 14] ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، فَيَجُوزُ أَكْلُ الْقَدِيدِ مِمَّا فِي الْبَحْرِ. الثَّانِي: أَنَّ مَفْهُومَ التُّرْبَةِ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْحَقُّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ. الثَّالِثُ: أَنَّ التُّرْبَةَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الصَّعِيدِ ; وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، سَوَاءٌ ذُكِرَا فِي نَصٍّ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [2 \ 238] ، أَوْ ذُكِرَا فِي نَصَّيْنِ كَحَدِيثِ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ، عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، مَعَ حَدِيثِ: «هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا» ، يَعْنِي شَاةً مَيِّتَةً عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذِكْرُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الْأَوَّلِ، وَجِلْدِ الشَّاةِ فِي الْأَخِيرِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوَّلِ، وَمِنَ الْجُلُودِ فِي الثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ: [الرَّجَزُ] وَذِكْرُ مَا وَافَقَهُ مِنْ مُفْرَدِ ... وَمَذْهَبُ الرَّاوِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ، إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ إِلَّا التَّخْصِيصُ. وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْبَعْضِ نَفْيُ احْتِمَالِ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْعَامِ، وَالصَّعِيدُ فِي اللُّغَةِ: وَجْهُ الْأَرْضِ، كَانَ عَلَيْهِ تُرَابٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَالزَّجَّاجُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [18 \ 8] ، أَيْ أَرْضًا غَلِيظَةً لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَقَالَ تَعَالَى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [18 \ 40] ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: [الْبَسِيطُ] كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدُ بِهِ ... دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا ; لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَمْعُ الصَّعِيدِ صُعُدَاتٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الصُّعُدَاتِ» ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ أَجْلِ تَقْيِيدِهِ بِالطَّيِّبِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: «الطَّيِّبُ» هُوَ الطَّاهِرُ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ كُلِّهِ، تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا، أَوْ حِجَارَةً، أَوْ مَعْدِنًا، أَوْ سَبْخَةً، إِذَا كَانَ ذَلِكَ طَاهِرًا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الطَّيِّبُ: الْحَلَالُ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ: التُّرَابُ الْمُنْبِتُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ الْآيَةَ [7 \ 58] فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَهَا وَاسِطَةٌ وَطَرَفَانِ: طَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ، وَهُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ الطَّاهِرُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ، وَلَا مَغْصُوبٍ ; وَطَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ التَّيَمُّمِ بِهِ، وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْخَالِصَانِ، وَالْيَاقُوتُ وَالزُّمُرُّدُ، وَالْأَطْعِمَةُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَالنَّجَاسَاتُ وَغَيْرُ هَذَا هُوَ الْوَاسِطَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، فَمِنْ ذَلِكَ الْمَعَادِنُ. فَبَعْضُهُمْ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَيْهَا كَمَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَمِنْ ذَلِكَ الْحَشِيشُ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ خُوَيْزٍ مِنْدَادُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْحَشِيشِ إِذَا كَانَ دُونَ الْأَرْضِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَنْعُ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّيَمُّمُ عَلَى الثَّلْجِ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» ، وَ «الْمَبْسُوطِ جَوَازُهُ» ، قِيلَ: مُطْلَقًا، وَقِيلَ: عِنْدَ عَدَمِ الصَّعِيدِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مَنْعُهُ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْعُودِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ، وَفِي «مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ» أَنَّهُ جَائِزٌ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي الْعُودِ الْمُتَّصِلِ بِالْأَرْضِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهَا، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى شَجَرَةٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا أَجَزَأَهُ، قَالَ: وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: يَجُوزُ بِالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ، وَالْمَدَرِ وَغَيْرِهَا حَتَّى قَالَا: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَدِ وَالثَّلْجِ أَجْزَأَهُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجِيزُهُ بِالْكُحْلِ، وَالزَّرْنِيخِ، وَالنَّوْرَةِ، وَالْجَصِّ، وَالْجَوْهَرِ الْمَسْحُوقِ، وَيَمْنَعُهُ بِسُحَالَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَابْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُمَا أَجَازَاهُ بِالْمِسْكِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَأَبْطَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ، وَمَنَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ بِالسِّبَاخِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَعَنْهُ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ التَّيَمُّمَ، وَهُوَ فِي طِينٍ أَنَّهُ يَطْلِي بِهِ بَعْضَ جَسَدِهِ، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَأَمَّا التُّرَابُ الْمَنْقُولُ فِي طَبَقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْعُهُ. وَمَا طُبِخَ كَالْجَصِّ، وَالْآجُرِّ فَفِيهِ أَيْضًا خِلَافٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَنْعُ أَشْهَرُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْجِدَارِ، فَقِيلَ: جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، وَقِيلَ بِجَوَازِهِ لِلْمَرِيضِ دُونَ غَيْرِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْجِدَارِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّعِيدِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَعَادِنِ غَيْرَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ مَا لَمْ تُنْقَلْ، وَجَوَازُهُ عَلَى الْمِلْحِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ، وَمَنْعُهُ بِالْأَشْجَارِ، وَالْعِيدَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ عَلَى اللُّبَدِ، وَالْوَسَائِدِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ. وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، تَيَمَّمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ، وَتَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَعَمَّدْتُهُ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ قَوْلَ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ، مُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ: [الْبَسِيطُ] يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لَعِبُ الزَّحَالِيقِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الطَّوِيلُ] تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي وَقَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ: [الْمُتَقَارِبُ] تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ وَقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: [الطَّوِيلُ] سَلِ الرَّبْعَ أَنَّى يَمَّمَتْ أُمُّ طَارِقٍ ... وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وَالتَّيَمُّمُ فِي الشَّرْعِ: الْقَصْدُ إِلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِمَسْحِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ مِنْهُ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ، وَكَوْنُ التَّيَمُّمِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ، وَهُوَ الْحَقُّ. مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّيَمُّمِ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَكَذَلِكَ عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ الْقَوْلَ بِرُجُوعِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ لِمَنْ مَنَعَ التَّيَمُّمَ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ لَيْسَ فِيهَا إِبَاحَتُهُ إِلَّا لِصَاحِبِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ; حَيْثُ قَالَ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا الْآيَةَ [4 \ 43] ، وَرَدُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ فِي آيَةِ النِّسَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [4 \ 43] ، فَسَّرَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ، وَإِذًا فَذِكْرُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْجِمَاعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّمْسِ، أَوِ الْمُلَامَسَةِ بِحَسَبِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْمَجِيءُ مِنَ الْغَائِطِ دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِ التَّيَمُّمِ لِحَالَتَيِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَالْأَصْغَرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، صَرَّحَ بِالْجَنَابَةِ غَيْرَ مُعَبِّرٍ عَنْهَا بِالْمُلَامَسَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا التَّيَمُّمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَنْهَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [5 \ 6] ، ثُمَّ قَالَ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا الْآيَةَ [5 \ 6] . فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُحْدِثِ، وَالْجُنُبِ جَمِيعًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. الثَّالِثُ: تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: «أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ:» إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا «، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَكَفَّيْهِ» . وَأَخْرَجَا فِي صَحِيحَيْهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ; فَإِذَا هُمْ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ تَكْفِي لِلتَّيَمُّمِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ لَا؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ: تَكْفِي ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكَفَّيْنِ وَالْوَجْهِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَنَقْلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا لِلْوَجْهِ، وَالْأُخْرَى لِلْكَفَّيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الثَّانِيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِسُنِّيَّتِهَا كَمَالِكٍ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَابْنُ سِيرِينَ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الِاكْتِفَاءُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ شَيْءٌ مَرْفُوعًا، إِلَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمَ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: " أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْصُولًا، وَمُسْلِمٌ تَعْلِيقًا، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا ضَرْبَتَانِ كَمَا رَأَيْتَ، وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ عَمَّارٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَلْزَمُ فِي التَّيَمُّمِ مَسْحُ غَيْرِ الْكَفَّيْنِ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمُ الْمَسْحَ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمَا، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَاللَّيْثُ، كُلُّهُمْ يَرَوْنَ بُلُوغَ التَّيَمُّمِ بِالْمِرْفَقَيْنِ فَرْضًا وَاجِبًا، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنُ نَافِعٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: مَنْ تَيَمَّمَ إِلَى الْكُوعَيْنِ أَعَادَ الصَّلَاةَ أَبَدًا، وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْمُدَوَّنَةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَرُوِيَ التَّيَمُّمُ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرْفُوعًا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَائِشَةَ، وَعَمَّارٍ، وَالْأَسْلَعِ، وَسَيَأْتِي مَا فِي أَسَانِيدِ رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْمَقَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يَمْسَحُ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْآبَاطِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ، وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّيَمُّمِ هُوَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فَقَطْ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ ثَابِتُ الرَّفْعِ إِلَّا حَدِيثَ عَمَّارٍ: وَحَدِيثَ أَبِي جُهَيْمٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. أَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ، فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ مُجْمَلًا، كَمَا رَأَيْتَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، كَمَا قَدَّمْنَا آنِفًا. وَوَرَدَ فِي غَيْرِهِمَا بِذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْآبَاطِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْمِرْفَقَيْنِ، وَنِصْفِ الذِّرَاعِ، فَفِيهِمَا مَقَالٌ سَيَأْتِي، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْآبَاطِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ كَانَ ذَاكَ وَقَعَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكُلُّ تَيَمُّمٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ ; وَإِنْ كَانَ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَالْحُجَّةُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَمِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، كَوْنُ عَمَّارٍ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ; وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَعْرِفُ بِالْمُرَادِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ; وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابِيُّ الْمُجْتَهِدُ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» . وَأَمَّا فِعْلُ ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَا يُعَارَضُ بِهِ مَرْفُوعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَدِيثُ عَمَّارٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِكَّةٍ مِنَ السِّكَكِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الرَّجُلُ يَتَوَارَى فِي السِّكَكِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى حَائِطٍ، وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ بِهَا ذِرَاعَيْهِ» ، وَمَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ: يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ التَّيَمُّمِ. أَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 هَذَا، زَادَ الْبُخَارِيُّ: خَالَفَهُ أَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَالنَّاسُ، فَقَالُوا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَعَلَهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يُتَابِعْ أَحَدٌ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَوَوْهُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ هَذَا هُوَ الْعَبْدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ فِيهِ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ، لَيِّنُ الْحَدِيثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، وَابْنِ الْهَادِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَابَعَةُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ، وَلَا عَلَى الذِّرَاعَيْنِ ; لِأَنَّ الضَّحَّاكَ لَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ فِي رِوَايَتِهِ، وَابْنَ الْهَادِ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ «مَسَحَ وَجْهَهَ وَيَدَيْهِ» ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «الْتَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَفَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَهُشَيْمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ الصَّوَابُ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، مَعَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ ظَبْيَانَ ضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ ابْنُ ظَبْيَانَ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، قَاضِي بَغْدَادَ، قَالَ فِيهِ فِي «التَّقْرِيبِ» : ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا عَلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، ثُمَّ نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا فَمَسَحْنَا بِهَا وُجُوهَنَا، ثُمَّ ضَرَبْنَا ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحْنَا مِنَ الْمَرَافِقِ إِلَى الْأَكُفِّ» الْحَدِيثَ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَرَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْحَرَّانَيِّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ، وَنَافِعٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «وَفِي التَّيَمُّمِ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» . قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 مُحَمَّدٍ الْأَنْمَاطِيِّ عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَزْرَةَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَإِنِّي تَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ، فَقَالَ: اضْرِبْ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ بِهِمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» . ضَعَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ فِيهِ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَرُدَّ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، لَكِنَّ رِوَايَتَهُ الْمَذْكُورَةَ شَاذَّةٌ ; لِأَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ رَوَاهُ عَنْ عَزْرَةَ مَوْقُوفًا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي «حَاشِيَةِ السُّنَنِ» ، عَقِبَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَالصَّوَابُ مَوْقُوفٌ، قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» ، وَقَالَ فِي «التَّقْرِيبِ» فِي عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورِ مَقْبُولٌ، وَقَالَ فِي «التَّلْخِيصِ» أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ عَنِ الْأَسْلَعِ، قَالَ: «كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِآيَةِ الصَّعِيدِ، فَأَرَانِي التَّيَمُّمَ، فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ الْأَرْضَ وَاحِدَةً، فَمَسَحْتُ بِهَا وَجْهِيَ ثُمَّ ضَرَبْتُ بِهَا الْأَرْضَ فَمَسَحْتُ بِهَا يَدَيَّ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ، تَفَرَّدَ بِهِ الْحَرِيشُ بْنُ الْخِرِّيتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَالْحَرِيشُ شَيْخٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَحَدِيثُ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: تَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْكَفَّيْنِ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ، وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَحَدِيثُ عَمَّارٍ: «كُنْتُ فِي الْقَوْمِ حِينَ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فَأَمَرَنَا فَضَرَبْنَا وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ، ثُمَّ ضَرْبَةً أُخْرَى لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» . رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا عَنْ عَمَّارٍ أَوْلَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَكْثَرُ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ عَنْ عَمَّارٍ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ فَكُلُّهَا مُضْطَرِبَةٌ، اهـ، مِنْهُ ; فَبِهَذَا كُلُّهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 عَمَّارٍ، وَأَبِي جُهَيْمٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا عَرَفْتَ نُصُوصَ السُّنَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَسْحِ الْكَفَّانِ فَقَطْ، وَلَا يَبْعُدُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّيْنِ، وَسُنِّيَّةِ الذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّيْنِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْوَارِدَةُ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ تَدُلُّ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الطُّرُقَ الضَّعِيفَةَ الْمُعْتَبَرَ بِهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَصْلُحَ مَجْمُوعُهَا لِلِاحْتِجَاجِ: لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ، فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِالْمَوْقُوفَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْأَصْلُ إِعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي التَّيَمُّمِ أَوْ لَا؟ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَجُلُّ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ. وَدَلِيلُ تَقْدِيمِ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ، وَآيَةِ الْمَائِدَةِ، حَيْثُ قَالَ فِيهِمَا: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ، يَعْنِي قَوْلَهُ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ [2 \ 158] ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «ابْدَءُوا» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ، مُسْتَدِلًّا بِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ «التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ» ، مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنَّ تَصْنَعَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ» الْحَدِيثَ. وَمَعْلُومٌ أَنْ «ثُمَّ» تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ مُؤَخَّرٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ، وَكَمَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ: [الْوَافِرُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ عَلَى رِوَايَةِ «الْوَاوِ» ، فَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ هَذَا نَصٌّ فِي تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْحَمَّالِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مَا لَفْظُهُ: «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَنْفُضَهُمَا، ثُمَّ تَمْسَحَ بِيَمِينِكَ عَلَى شِمَالِكَ، وَشِمَالِكَ عَلَى يَمِينِكَ، ثُمَّ تَمْسَحَ عَلَى وَجْهِكَ» قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَجْهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ، وَسُنِّيَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَلْ يَرْفَعُ التَّيَمُّمُ الْحَدَثَ أَوْ لَا؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ صِعَابِ الْمَسَائِلِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ، فَكَيْفَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَهُوَ مُحْدِثٌ؟ وَإِنْ قُلْنَا: صَحَّتْ صَلَاتُهُ، فَكَيْفَ نَقُولُ: لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ؟ . اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْفَعُهُ رَفْعًا كُلِّيًّا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْفَعُهُ رَفْعًا مُؤَقَّتًا. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ فَرَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: " مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانٌ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ " قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ ". إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: " اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ " الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا "، يَعْنِي الْجُنُبَ الْمَذْكُورَ. وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي أَنَّ تَيَمُّمَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْفَعْ جَنَابَتَهُ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مَوْصُولًا، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وَأَنْتَ جُنُبٌ "، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [4 \ 29] ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَمْرٍو هَذَا: وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ. فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَمْرٍو، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَمْرٍو بِلَا وَاسِطَةٍ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا أَبُو قَيْسٍ، لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ التَّيَمُّمِ، بَلْ فِيهَا أَنَّهُ غَسَلَ مَغَابِنَهُ فَقَطْ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ: " فَتَيَمَّمَ "، وَرَجَّحَ الْحَاكِمُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ مَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، فَيَكُونَ قَدْ غَسَلَ مَا أَمْكَنَ، وَتَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ لِابْنِ حَجَرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُتَعَيَّنٌ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَعُلُومِ الْحَدِيثِ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ "، فَإِنَّهُ أَثْبَتَ بَقَاءَ جَنَابَتِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ. وَذَكَرَ فِي " الْفَتْحِ " أَنَّهُ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ " الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ، فَقِيلَ هَكَذَا. وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِرِوَايَةِ خَالِدٍ، وَقِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْهُ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَقِيلَ عَنْهُ بِإِسْقَاطِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الْوَاسِطَةِ، وَقِيلَ فِي الْوَاسِطَةِ مِحْجَنٌ، أَوِ ابْنُ مِحْجَنٍ، أَوْ رَجَاءُ بْنُ عَامِرٍ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَكُلُّهَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كُلُّهُ عَلَى أَيُّوبَ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا أَبُو حَاتِمٍ، وَمَدَارُ طَرِيقِ خَالِدٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَغَفَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ ". وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي ابْنِ بُجْدَانَ الْمَذْكُورِ: لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، تَفْرَّدَ عَنْهُ أَبُو قِلَابَةَ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ. وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ ". وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا، أَخْرَجَهُ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ، وَسَاقَ فِيهِ قِصَّةَ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ: لَمْ يَرَوْهُ إِلَّا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَلَا عَنْ هِشَامٍ إِلَّا الْقَاسِمُ، تَفَرَّدَ بِهِ مُقَدَّمُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ: إِنَّ إِرْسَالَهُ أَصَحُّ، انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَصْحِيحَ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ الْقَطَّانِ، وَابْنِ حِبَّانَ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: " فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ " ; لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَوْ كَانَ التَّيَمُّمُ رَفَعَهَا، لَمَا احْتِيجَ إِلَى إِمْسَاسِ الْمَاءِ الْبَشَرَةَ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ: بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا "، وَبِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ آنِفًا: " التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ "، وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الْآيَةَ، وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ بِهِ كَمَا تَصِحُّ بِالْمَاءِ بِهِ، وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ مِنَ التَّنَاقُضِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ تَعَيُّنُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْتَظِمُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى أَمْكَنَ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ ": [الرَّجَزُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَّا إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بُيِّنَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمَذْكُورُ هُوَ: أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا لَا كُلِّيًّا، وَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ بِهِ الْمَجْمَعَ عَلَيْهَا يَلْزَمُهَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ غَيْرُ مُحْدِثٍ، وَلَا جُنُبٍ لُزُومًا شَرْعِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ. وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ أَوِ الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ إِمْكَانِهِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ أَيْضًا يَلْزَمُهُ لُزُومًا شَرْعِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ الْحَدَثَ مُطْلَقًا لَمْ يَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ الِارْتِفَاعُ الْمُؤَقَّتُ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ "، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ وَقْتَ عَامِلِ الْحَالِ هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ الْحَالِ، فَالْحَالُ وَعَامِلُهَا إِذًا مُقْتَرِنَانِ فِي الزَّمَانِ، فَقَوْلُكَ: جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكًا مَثَلًا، لَا شَكَّ فِي أَنَّ وَقْتَ الْمَجِيءِ فِيهِ هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ الضَّحِكِ، وَعَلَيْهِ فَوَقْتُ صَلَاتِهِ، هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ كَوْنِهِ جُنُبًا ; لِأَنَّ الْحَالَ هِيَ كَوْنُهُ جُنُبًا وَعَامِلُهَا قَوْلُهُ " صَلَّيْتَ "، فَيَلْزَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْجَنَابَةَ مُتَّحِدٌ، وَلَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَالَ الْمُقَدَّرَةَ لَا تُقَارِنُ عَامِلَهَا فِي الزَّمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [39 \ 73] ; لِأَنَّ الْخُلُودَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَنِ الدُّخُولِ أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا ; لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَالْمُقَارَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَامِلِهَا فِي الزَّمَنِ لَا شَكَّ فِيهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَابَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ فِي نَفْسِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَالرَّفْعُ الْمُؤَقَّتُ الْمَذْكُورُ لَا يَسْتَقِيمُ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: " وَأَنْتَ جُنُبٌ "، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ عُذْرَهُ بِخَوْفِهِ الْمَوْتَ إِنِ اغْتَسَلَ. وَالْمُتَيَمِّمُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ جَنُبٌ قَطْعًا، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ عُذْرَهُ الْمُبِيحَ لِلتَّيَمُّمِ الَّذِي هُوَ خَوْفُ الْمَوْتِ أَقَرَّهُ وَضَحِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَهُوَ غَيْرُ جُنُبٍ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْوَجْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَنَابَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِ غَيْرُ جُنُبٍ، كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ فِي وَقْتٍ هُوَ فِيهِ لَيْسَ بِخَمْرٍ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قَوْلِهِ: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [12 \ 36] ، نَظَرًا إِلَى مَآلِهِ فِي ثَانِي حَالٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّيَمُّمِ، هَلْ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا؟ جَوَازُ وَطْءِ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَصَلَّتْ بِالتَّيَمُّمِ لِلْعُذْرِ الَّذِي يُبِيحُهُ، فَعَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ إِذَا تَيَمَّمَ وَلَبِسَ الْخُفَّيْنِ، فَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ، وَبَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ فَرِيضَتَانِ أَوْ لَا؟ . ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِهِ فَرِيضَتَانِ، أَوْ فَرَائِضُ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيُّ. وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى أَنَّهُ لَا تُصَلَّى بِهِ إِلَّا فَرِيضَةٌ وَاحِدَةٌ ; وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ حَكَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّيَمُّمِ، لَيْسَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ، وَظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ، وَبِحَدِيثِ: «الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ» الْحَدِيثُ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [5 \ 6] . وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا مَكْتُوبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْأُخْرَى، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمُحْدِّثِينَ، وَالْأُصُولِيِّينَ، أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ ضَعِيفٌ جِدًّا قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : مَتْرُوكٌ، وَقَالَ فِيهِ مُسْلِمٌ، فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: قَالَ لِي شُعْبَةُ: ائْتِ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ، فَقُلْ لَهُ: لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، فَإِنَّهُ يَكْذِبُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَمَّا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُنَنِهِ: الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، اهـ. وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَجَلِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ قَاضِي بَغْدَادَ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى إِجْمَاعًا سُكُوتِيًا، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَسَكَتَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى تَصْحِيحِهِ لَهُ فِي «التَّلْخِيصِ» ، «وَالْفَتْحِ» ، تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ عَامِرًا الْأَحْوَلَ ضَعَّفَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ نَافِعٍ، وَضَعَّفَ هَذَا الْأَثَرَ ابْنُ حَزْمٍ وَنَقَلَ خِلَافَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَرَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي قَتَادَةُ، وَهَذَا فِيهِ إِرْسَالٌ شَدِيدٌ بَيْنَ قَتَادَةَ، وَعَمْرٍو، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَرَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ فِيهِ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» بِالْإِسْنَادِ الَّذِي فِيهِ الْمَذْكُورَانِ. أَمَّا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ، فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ، كَثِيرُ الْخَطَأِ، وَالتَّدْلِيسِ، وَأَمَّا الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ فِي رَأْيِهِ، وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ، وَفِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ، وَقَالَ فِيهِ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَابِرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الْهَمْدَانِيُّ، وَكَانَ كَذَّابًا، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُفَضَّلٍ عَنْ مُغِيرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ عَلِيٍّ فِي التَّيَمُّمِ، فِي بَابِ: «التَّيَمُّمِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ» وَسَكَتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْمَذْكُورِينَ، أَعْنِي حَجَّاجَ بْنَ أَرْطَأَةَ، وَالْحَارِثَ الْأَعْوَرَ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي حَجَّاجٍ فِي بَابِ «الْمَنْعِ مِنَ التَّطْهِيرِ بِالنَّبِيذِ» : لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَضَعَّفَهُ فِي بَابِ: «الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» ، وَقَالَ فِي بَابِ: «الدِّيَةِ أَرْبَاعٌ» : مَشْهُورٌ بِالتَّدْلِيسِ، وَأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَضَعَّفَ الْحَارِثَ الْأَعْوَرَ فِي بَابِ: «مَنْعِ التَّطْهِيرِ بِالنَّبِيذِ أَيْضًا» . وَقَالَ فِي بَابِ: «أَصْلِ الْقَسَامَةِ» ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ كَذَّابًا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ فِي بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، هَلْ يَتَيَمَّمُ لِطَهَارَةِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدَنِهِ. فَيَكُونُ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنْ طَهَارَةِ الْخَبَثِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، أَوْ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا؟ . ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ عَنِ الْخَبَثِ، وَإِنَّمَا يَتَيَمَّمُ عَنِ الْحَدَثِ فَقَطْ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِنَّمَا دَلَّا عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [4 \ 43] . وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا: التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْجَنَابَةِ، وَأَمَّا عَنِ النَّجَاسَةِ فَلَا، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلْحَاقًا لَهَا بِالْحَدَثِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي وُجُوبِ إِعَادَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ بِتُرَابٍ، وَيُصَلِّي، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [الْآيَةَ [5 \ 15] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ لَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. فَمِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَبَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [3 \ 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 يَعْنِي يُدْعَوْنَ إِلَى التَّوْرَاةِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حَدِّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذَلِكَ مُنْكِرُونَ لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ، مَا أَخْفَوْهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِمْ، وَإِنْكَارِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [2 \ 89] . وَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَارُهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [4 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [6 \ 146] . فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا، وَقَالُوا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَكَذَّبَهُمُ الْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [3 \ 93] . وَمِنْ ذَلِكَ كَتْمُ النَّصَارَى بِشَارَةَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ بَيَّنَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [61 \ 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ كُتُبِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ. قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَهُمَا هَابِيلُ، وَقَابِيلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [15 \ 31] ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَجْهَلُ الدَّفْنَ حَتَّى يَدُلَّهُ عَلَيْهِ الْغُرَابُ، فَقِصَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْغُرَابِ فِي الدَّفْنِ، وَمَعْرِفَتِهِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَةَ وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 يَتَمَرَّنَ النَّاسُ عَلَى دَفْنِ الْمَوْتَى، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ [الْآيَةَ] ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفَّسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا لِحُكْمِ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِنَفْسٍ، أَوْ بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ جَائِزٌ، فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [5 \ 45] ، وَفِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ [2 \ 187] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [17 \ 33] . وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِيهَا أَنَّ الذَّكَرَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كَذَلِكَ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ كَذَلِكَ بِالْعَبْدِ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا لَمْ نَعْتَبِرْ قَوْلَ عَطَاءٍ بِاشْتِرَاطِ تَسَاوِي قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ، لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَرُدُّهُ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ تُقْتَلُ بِالرَّجُلِ، لِأَنَّهَا إِذَا قُتِلَتْ بِالْمَرْأَةِ، فَقَتْلُهَا بِالرَّجُلِ أَوْلَى، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا حَتَّى يَلْتَزِمَ أَوْلِيَاؤُهَا قَدْرَ مَا تَزِيدُ بِهِ دِيَتُهُ عَلَى دِيَتِهَا ; فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ أَخَذُوا دِيَتَهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ: أَنَّهَا إِنْ قَتَلَتْ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ، وَأَخَذَ أَوْلِيَاؤُهُ أَيْضًا زِيَادَةَ دِيَتِهِ عَلَى دِيَتِهَا، أَوْ أَخَذُوا دِيَةَ الْمَقْتُولِ وَاسْتَحْيَوْهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ أَيْضًا: رَوَى هَذَا الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَلْقَ عَلِيًّا. وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ، وَهَذَا يُعَارِضُ رِوَايَةَ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ ; وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي بَابِ: " سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ " وَالْإِقْرَارُ فِي الْحُدُودِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ: وَلَا يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَكِنْ هُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ، أَنَّ أَوْلِيَاءَ الرَّجُلِ إِذَا قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَنِصْفِ الدِّيَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَأَنَّهُ إِمَّا الْقِصَاصُ فَقَطْ، وَإِمَّا الدِّيَةُ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ الْآيَةَ، فَرَتَّبَ الِاتِّبَاعَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَفْوِ دُونَ الْقِصَاصِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ " الْحَدِيثَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ; وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَعَطَاءٍ، أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ لَمْ يُقْتَلْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَتِهِ قُتِلَ بِهَا. وَالتَّحْقِيقُ قَتْلُهُ بِهَا مُطْلَقًا ; كَمَا سَتَرَى أَدِلَّتَهُ، فَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ السَّلِيمَ الْأَعْضَاءِ إِذَا قَتَلَ أَعْوَرَ أَوْ أَشَلَّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَمْدًا، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَلَا يَجُبْ لِأَوْلِيَائِهِ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا زَادَ بِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضَّ رَأْسَ يَهُودِيٍّ بِالْحِجَارَةِ قِصَاصًا بِجَارِيَةٍ فَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَتْلِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى، وَعَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، وَالسِّلَاحِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ " قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيُّ، ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ، وَالسُّنَنُ، وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ فِيهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَوْصُولًا أَيْضًا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ مَا نَصُّهُ: وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ "، وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ هَذَا مَشْهُورٌ بَيْنَ مُصَحِّحٍ لَهُ، وَمُضَعِّفٍ ; وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ: ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا. وَصَحَّحَهُ أَيْضًا - مِنْ حَيْثُ الشُّهْرَةِ، لَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ - جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ، مَعْرُوفٌ مَا فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهِ عَنِ الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ لِتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى شُهْرَتِهِ مَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وُجِدَ كِتَابٌ عِنْدَ آلِ حَزْمٍ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مَحْفُوظٌ، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: لَا أَعْلَمَ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ كِتَابًا أَصَحَّ مِنْ كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ هَذَا، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَيَدَعُونَ رَأْيَهُمْ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: قَدْ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِمَامُ عَصْرِهِ الزُّهْرِيُّ بِالصِّحَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ سَاقَ ذَلِكَ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِمَا، وَضَعَّفَ كِتَابَ ابْنِ حَزْمٍ هَذَا جَمَاعَةٌ، وَانْتَصَرَ لِتَضْعِيفِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي مُحَلَّاهُ. وَالتَّحْقِيقُ: صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَهُ لِيُبَيِّنَ بِهِ أَحْكَامَ الدِّيَاتِ، وَالزَّكَوَاتِ، وَغَيْرِهَا، وَنُسْخَتُهُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَالْحَدِيثُ: وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ. وَمِنْ أَدِلَّةِ قَتْلِهِ بِهَا عُمُومُ حَدِيثِ: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [5 \ 45] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقْتَضِي قَتْلَ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ صَالِحٌ لِتَخْصِيصِ النَّصِّ بِهِ، نَعَمْ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: مَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْمِ مُوسَى، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [5 \ 48] . السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَا يُخَصَّصُ عُمُومُ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [2 \ 178] ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، لِأَنَّهَا فَصَّلَتْ مَا أُجْمِلَ فِي الْأُولَى، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُخَاطَبَةٌ بِهَا صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ الْآيَةَ. الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ: أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ لَنَا فِي كِتَابِنَا، وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا أَنَّهُ يَكُونُ شَرْعًا لَنَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَارِدٌ فِي كِتَابِنَا، أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّهُ مَا قَصَّ عَلَيْنَا فِي شَرْعِنَا إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهِ، وَنَعْمَلَ بِمَا تَضْمَّنَ. وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلِأَجْلِ هَذَا أَمَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ بِالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَوَبَّخَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137، 138] . فِي قَوْلِهِ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ تَوْبِيخٌ لِمَنْ مَرَّ بِدِيَارِهِمْ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ، وَيَعْقِلْ ذَلِكَ لِيَجْتَنِبَ الْوُقُوعَ فِي مِثْلِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ هَدَّدَ الْكَفَّارَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَقَالَ فِي حِجَارَةِ قَوْمِ لُوطٍ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا، أَوْ دِيَارِهِمُ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [11 \ 83] ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِحَالِهِمْ، فَيَجْتَنِبَ ارْتِكَابَ مَا هَلَكُوا بِسَبَبِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [12 \ 111] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَقُصُّ قَصَصَهُمْ فِي الْقُرْآنِ لِلْعِبْرَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، قَالَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] ، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ لَنَا ; لِأَنَّهُ قُدْوَتُنَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [33 \ 21] ، وَيَقُولُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الْآيَةَ [3 \ 31] ، وَيَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [59 \ 7] . وَيَقُولُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الْآيَةَ [4 \ 80] ، وَمِنْ طَاعَتِهِ اتِّبَاعُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ كُلِّهُ، إِلَّا مَا قَامَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا الثَّابِتِ بِشَرْعِنَا شَرْعًا لَنَا، إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى النَّسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا الثَّابِتَ بِشَرْعِنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، إِلَّا بِنَصٍّ مِنْ شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا، وَخَالَفَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ فِي أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْمَلُ حُكْمُهُ الْأُمَّةَ ; وَاسْتَدَلَّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلِلثَّانِي: بِأَنَّ الصِّيغَةَ الْخَاصَّةَ بِالرَّسُولِ لَا تَشْمَلُ الْأُمَّةَ وَضْعًا، فَإِدْخَالُهَا فِيهَا صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَحَمْلُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، وَالدِّينِ فِي قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ الْآيَةَ [42 \ 13] عَلَى خُصُوصِ الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ دُونَ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْعَقَائِدِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] ، وَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] ، وَقَالَ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [43 \ 45] . وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ فِي الْأُصُولِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ "، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عَنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - وَغَفَرَ لَهُ: أَمَّا حَمْلُ الْهُدَى فِي آيَةِ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، وَالدِّينِ فِي آيَةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْحِيدِ دُونَ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ " ص "، عَنْ مُجَاهِدٍ: " أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ السَّجْدَةَ فِي " ص "، فَقَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 84 و90] ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فِي الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فَرْعٌ مِنَ الْفُرُوعِ لَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّ اسْمَ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ الْإِسْلَامَ، وَالْإِيمَانَ، وَالْإِحْسَانَ، حَيْثُ قَالَ: " هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ "، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [3 \ 19] ، وَقَالَ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا [3 \ 85] . وَصَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَشْمَلُ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " بُنِي الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ " الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ خُصُوصُ الْعَقَائِدِ، دُونَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا الْآيَةَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا ; لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، فَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى شُمُولِ حُكْمِهِ لِلْأُمَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حَيْثُ يُعَبِّرُ فِيهِ دَائِمًا بِالصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ عُمُومُ حُكْمِ الْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الطَّلَاقِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [65 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ الْآيَةَ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ الْكُلِّ حُكْمًا تَحْتَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [66 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [66 \ 2] ; الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ حُكْمِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [33 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [4 \ 94] ، فَقَوْلُهُ: بِمَا تَعْمَلُونَ، يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَكَقَوْلِهِ: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ [10 \ 61] ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا الْآيَةَ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ آيَةُ الرُّومِ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ، أَمَّا آيَةُ الرُّومِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [30 \ 30] ، ثُمَّ قَالَ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [30 \ 31] ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرِ، الْمُخَاطَبِ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ، الْآيَةَ. وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُنِيبِينَ، فَلَوْ لَمْ تُدْخِلِ الْأُمَّةُ حُكْمًا فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالَ: مُنِيبًا إِلَيْهِ، بِالْإِفْرَادِ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ الْحَقِيقِيَّةَ، أَعْنِي الَّتِي لَمْ تَكُنْ سَبَبِيَّةً، تَلْزَمُ مُطَابَقَتُهَا لِصَاحِبِهَا، إِفْرَادًا، وَجَمْعًا، وَتَثْنِيَةً، وَتَأْنِيثًا، وَتَذْكِيرًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكِينَ، وَلَا جَاءَتْ هِنْدٌ ضَاحِكَاتٍ، وَأَمَّا آيَةُ الْأَحْزَابِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسْدِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [33 \ 37] ، فَإِنَّ هَذَا الْخِطَابَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِشُمُولِ حِكْمَتِهِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ الْآيَةَ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا أَيْضًا فِي الْأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [33 \ 50] ; لِأَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ، لَوْ كَانَ حُكْمُهُ خَاصًّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَقَدْ رَدَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَخْيِيرَ الزَّوْجَةِ طَلَاقٌ، بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ، فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا ; مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْآيَتَيْنِ [33 \ 28] . وَأَخْذَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنُونَةَ الزَّوْجَةِ بِالرِّدَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] ، وَهُوَ خِطَابٌ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ «شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا» ، أَنَّ لَهَا وَاسِطَةٌ وَطَرَفَيْنِ، طَرَفٌ يَكُونُ فِيهِ شَرْعًا لَنَا إِجْمَاعًا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ بُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، كَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ، وَبُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، وَطَرَفٌ يَكُونُ فِيهِ غَيْرَ شَرْعٍ لَنَا إِجْمَاعًا وَهُوَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَرْعِنَا أَصْلًا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، كَالْمُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ فِيهَا، وَمَا نَهَانَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَصْدِيقِهِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا لَنَا إِجْمَاعًا. وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، وَبُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَنَا، كَالْآصَارِ، وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَهَا عَنَّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [7 \ 157] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [2 \ 286] ، أَنَّ اللَّهَ قَالَ: نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ» . وَمِنْ تِلْكَ الْآصَارِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَقَعَ لِعَبَدَةِ الْعِجْلِ، حَيْثُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ إِلَّا بِتَقْدِيمِ أَنْفُسِهِمْ لِلْقَتْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [2 \ 54] . وَالْوَاسِطَةُ هِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ مَا ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يُبَيَّنْ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا، وَلَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَنَا، وَهُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ كَوْنُهُ شَرْعًا لَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ رَأَيْتَ أَدِلَّتَهُمْ عَلَيْهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ، يَلْزَمُنَا الْأَخْذُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ. مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [17 \ 33] ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ، التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ مَشْرُوعٌ لَنَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ» ، الْحَدِيثَ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، حَيْثُ قَالَ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابَقَتُهَا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مُسْتَمِرٌّ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ; وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ «بِكِتَابِ اللَّهِ» قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَعَلَى بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَأْخُذُونَ الْأَحْكَامَ مِنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا دَلِيلَهُ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْقَرِينَةَ الْجَازِمَةَ رُبَّمَا قَامَتْ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِجَعْلِ شَاهِدِ يُوسُفَ شَقَّ قَمِيصِهِ مِنْ دُبُرٍ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ الْآيَةَ [12 \ 26، 27، 28] ، فَذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا مُقَرِّرًا لَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، وَمِنْ هُنَا أَوْجَبَ مَالِكٌ حَدَّ الْخَمْرِ عَلَى مَنِ اسْتَنْكَهَ فَشُمَّ فِي فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ، لِأَنَّ رِيحَهَا فِي فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى شُرْبِهِ إِيَّاهَا. وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ لِلرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا فَتَزُفُّهَا إِلَيْهِ وَلَائِدُ، لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ أَمْرٌ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى عَيْنِهَا أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَتَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ. وَكَذَلِكَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَيَأْتِيهِ الصَّبِيُّ، أَوِ الْوَلِيدَةُ بِطَعَامٍ، فَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى إِذَنْ أَهْلِ الطَّعَامِ لَهُ فِي الْأَكْلِ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ. وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إِبْطَالَ الْقَرِينَةِ بِقَرِينَةٍ أَقْوَى مِنْهَا، مِنْ أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ لَمَّا جَعَلُوا يُوسُفَ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، جَعَلُوا عَلَى قَمِيصِهِ دَمَ سَخْلَةٍ، لِيَكُونَ الدَّمُ عَلَى قَمِيصِهِ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِمْ فِي أَنَّهُ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَأَبْطَلَهَا يَعْقُوبُ بِقَرِينَةٍ أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ عَدَمُ شَقِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الْقَمِيصِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا كَيِّسًا، يَقْتُلُ يُوسُفَ، وَلَا يَشُقُّ قَمِيصَهُ؟ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [12 \ 18] ، وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْغُرْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى، فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [12 \ 72] ، وَأَخَذَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ضَمَانَ الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَفَالَةِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [12 \ 66] . وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ تَلُومُ الْقَاضِيَ لِلْخُصُومِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْآجَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ صَالِحٍ: فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [11 \ 65] . وَأَخَذُوا وُجُوبَ الْإِعْذَارِ إِلَى الْخَصْمِ الَّذِي تَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ بِـ «أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ؟» ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مَعَ الْهُدْهُدِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [27 \ 21] ، وَأَخَذَ الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ طُولِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَصِهْرِهِ شُعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ الْآيَةَ [28 \ 27] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [5 \ 48] ، لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تُنْسَخُ فِيهَا أَحْكَامٌ كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَيُجَدَّدُ فِيهَا تَشْرِيعُ أَحْكَامٍ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ لِكُلٍّ شِرْعَةٍ وَمِنْهَاجٍ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ، مَشْرُوعٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ كَالْعَكْسِ عَلَى التَّحْقِيقِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَكَأَنَّ الْقَائِلَ بِعَدَمِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا يَتَشَبَّثُ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [2 \ 178] ، وَسَتَرَى تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِيهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - قَرِيبًا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي - الَّذِي هُوَ لِمَ لَا يُخَصِّصْ عُمُومَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى؟ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَعْنًى آخَرَ، غَيْرِ مُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ، يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ. قَالَ صَاحِبُ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: وَشَرْطُهُ أَلَّا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ تُرِكَ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَتْلِ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، أَوِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَلَا لِعَكْسِهِ بِالْمَنْطُوقِ. وَمَفْهُومُ مُخَالَفَتِهِ هُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلَتَا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: نَقْتُلُ بِعَبْدِنَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَبِأُمَّتِنَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، تَطَاوُلًا مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَزَعَمَا أَنَّ الْعَبْدَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحَرِّ مِنْ أُولَئِكَ، وَأَنَّ أُنْثَاهُمْ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ مِنَ الْآخَرِينَ، تَطَاوُلًا عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لِأَنَّهُمْ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَبَنُو النَّضِيرِ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَالْجَمِيعُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ قَوْمًا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى قَوْمٍ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ مِنَّا لَا يُسَاوِيهِ الْعَبْدُ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا يُسَاوِيهِ الْحُرُّ مِنْكُمْ، وَالْمَرْأَةُ مِنَّا لَا تُسَاوِيهَا الْمَرْأَةُ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا يُسَاوِيهَا الرَّجُلُ مِنْكُمْ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ الْمُتَطَاوِلُ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَشْرَفَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ هُنَا. وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. فَعُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبِيدُ، وَكَذَلِكَ عُمُومُ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ» فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: «وَمِنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ» ، هَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. وَأُجِيبَ عَنْهَا مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِمَا سَتَرَاهُ الْآنَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا دُخُولُ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ فِي عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . وَعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِينَ، فَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ دُخُولَ الْعَبِيدِ فِي عُمُومَاتِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْعَبِيدَ دَاخِلُونَ فِي عُمُومَاتِ النُّصُوصِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا. الثَّانِي: وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِكَثْرَةِ عَدَمِ دُخُولِهِمْ، كَعَدَمِ دُخُولِهِمْ فِي خِطَابِ الْجِهَادِ، وَالْحَجِّ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ [2 \ 228] ، فَالْإِمَاءُ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ. الثَّالِثُ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّصَّ الْعَامَّ، إِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَهُمْ دَاخِلُونَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ، وَأَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى أَنَّ دُخُولَهُمْ فِي الْخِطَابِ الْعَامِّ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَالْعَبْدُ وَالْمَوْجُودُ وَالَّذِي كَفَرْ مَشْمُولَةٌ لَهُ لَدَى ذَوِي النَّظَرْ وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي دُخُولِهِمْ فِي عُمُومَاتِ النُّصُوصِ، وُجُوبُ صَلَاةِ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَمْلُوكَيْنِ، فَعَلَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْعُمُومِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْعُقُوبَةِ بِبَدَنِهِ يَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، قَالَهُ صَاحِبُ «نَشْرِ الْبُنُودِ شَرَحِ مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 شَرْحِ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ دُخُولِ الْعَبِيدِ فِي عُمُومِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا إِشْكَالَ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِمْ فِيهِ، فَالْجَوَابُ عَنْ عَدَمِ إِدْخَالِهِمْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا يُعْلَمُ مِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ الْآتِيَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَلَى عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَيُجَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ تَرَكُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، وَأَثْبَتَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ سَمَاعَهُ عَنْهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» فِي كِتَابِ «الْجِنَايَاتِ» مَا نَصُّهُ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ رَغِبُوا عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ، وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ «النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ» : إِنَّ أَكْثَرَ الْحُفَّاظِ لَا يُثْبِتُونَ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَى تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ عِنْدَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ: قَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ نَسِيَ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ: لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، قَالَ الشَّيْخُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ لَمْ يَنْسَ الْحَدِيثَ، لَكِنْ رَغِبَ عَنْهُ لِضَعْفِهِ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ» مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِعَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَتَأَوَّلُوا الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ كَانَ عَبْدَهُ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَقَدُّمُ الْمِلْكِ مَانِعًا مِنَ الْقِصَاصِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْجُمْهُورُ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَسَتَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مُفَصَّلَةً، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَالنَّهْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَمْرِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. الْخَامِسُ: مَا ادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَلَالَتَهُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [17 \ 33] ، وَوَلِيُّ الْعَبْدِ سَيِّدُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ، مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وَلَقَدْ بَلَغَتِ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ إِلَى أَنْ قَالُوا: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهَ قَتَلْنَاهُ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، وَالْوَلِيُّ هَاهُنَا: السَّيِّدُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً ; أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. اهـ. وَتَعَقَّبَ الْقُرْطُبِيُّ تَضْعِيفَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ هَذَا عَنْ سَمُرَةَ، بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ، وَابْنَ الْمَدِينِيِّ صَحَّحَا سَمَاعَهُ مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ تَضْعِيفَ الْأَكْثَرِ لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ; وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ مُخَالَفَةُ الْحَسَنِ نَفْسَهُ لَهُ. السَّادِسُ: أَنَّ الْحَدِيثَ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ. السَّابِعُ: مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَيُؤَيِّدُ النُّسَخَ فَتْوَى الْحَسَنِ بِخِلَافِهِ. الثَّامِنُ: مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَلَكِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا عَدَمَ اعْتِبَارِ هَذَا الْمَفْهُومِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنْ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا، فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفَاهُ سَنَةً، وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً» ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الشَّامِيِّينَ، قَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ شَامِيٌّ دِمَشْقِيُّ، قَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَلَكِنَّ دُونَهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الشَّامِيَّ، قَالَ فِيهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَحْمُودِ، وَعِنْدَهُ غَرَائِبُ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الصَّابُونِيُّ الْأَنْطَاكِيُّ، قَاضِي الثُّغُورِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ الْمُتَقَدِّمِ بِلَفْظِ الْمَتْنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ يَهِمُ، فَتَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ بِهِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَقَّ كَوْنُهُ قَوِيًّا فِي الشَّامِيِّينَ، دُونَ الْحِجَازِيِّينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَلِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرِهِ، مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا، فَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً، وَنَفَاهُ سَنَةً، وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ» . وَلَكِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ مَتْرُوكٌ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «أَنَّهُ جَاءَتْهُ جَارِيَةٌ اتَّهَمَهَا سَيِّدُهَا، فَأَقْعَدَهَا فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَرْجُهَا، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:» لَا يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكِهِ، وَلَا وَلَدٌ مِنْ وَالِدِهِ «، لَأَقَدْنَاهَا مِنْكَ فَبَرَزَهُ، وَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَأَنْتِ مُوَلَّاةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . قَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْمُولٌ بِهِ، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ بْنُ عِيسَى الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ. ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ حَمَّادٍ يَذْكُرُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِيهِ الشَّوْكَانِيُّ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ، مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ» ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ، وَإِسْنَادُهُ الْمَذْكُورُ فِيهِ جُوَيْبِرٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ جُوَيْبِرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَتْرُوكِينَ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ، مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ» تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَابِرٌ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : ضَعِيفٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 رَافِضِيٌّ. وَقَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَوَثَّقَهُ قَوْمٌ مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» فِي بَابِ «النَّهْيِ عَنِ الْإِمَامَةِ جَالِسًا» عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّهُ مَتْرُوكٌ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ لِزِنْبَاعٍ عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرًا، أَوِ ابْنَ سَنْدَرٍ، فَوَجَدَهُ يُقَبِّلُ جَارِيَةً لَهُ، فَأَخَذَهُ فَجَبَّهُ، وَجَدَعَ أُذُنَيْهِ وَأَنْفَهُ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ أَوْ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُقِدْهُ مِنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِ بِي، فَقَالَ: «أُوصِي بِكَ كُلَّ مُسْلِمٍ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرٍو مُخْتَصَرًا، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ تَضْعِيفَ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ. وَرُوِيَ عَنْ سَوَّارِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: سَوَّارُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مُسْتَصْرِخٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: حَادِثَةٌ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ مَا لَكَ؟» فَقَالَ: شَرٌّ، أَبْصَرَ لِسَيِّدِهِ جَارِيَةً، فَغَارَ، فَجَبَّ مَذَاكِيرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيَّ بِالرَّجُلِ» ، فَطُلِبَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَنْ نُصْرَتِي؟ ، قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ» ، أَوْ قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ، مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَلَا يُقْتَلَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْعَبْدِ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا لَا يَقْتُلَانِ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ» ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وَيُقَوِّيهِ حَتَّى يَصْلُحَ الْمَجْمُوعُ لِلِاحْتِجَاجِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» مَا نَصُّهُ: وَثَانِيًا بِالْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ ; بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، فَإِنَّهَا قَدْ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَتَعْتَضِدُ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَلَّا يُقْتُلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ بِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَإِذَا لَمْ يَقْتَصَّ لَهُ مِنْهُ فِي الْأَطْرَافِ، فَعَدَمُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحَرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِلَّا دَاوُدُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِإِطْبَاقِ الْحُجَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُتِلَ خَطَأً فَفِيهِ الْقِيمَةُ، لَا الدِّيَةُ. وَقَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ بِمَا إِذَا لَمَّ تَزِدْ قِيمَتُهُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِأَنَّ شَبَهَ الْعَبْدِ بِالْمَالِ أَقْوَى مَنْ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ مَا يَجْرِي فِي الْمَالِ مِنْ بَيْعٍ، وَشِرَاءٍ، وَإِرْثٍ، وَهَدِيَّةٍ، وَصَدَقَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ حُرٌّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوبِهِ فِي قَذْفِ أُمِّ الْوَلَدِ خَاصَّةً. وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حَدِّ الْحُرِّ بِقَذْفِهِ الْعَبْدَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مِنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَلَدِهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. وَأَمَّا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِهِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ» ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وَهُوَ مُرْسَلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ضَعِيفٌ، فَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَوْ وَصَلَ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَرْسَلَ، وَتَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» لِهَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: بَابُ «بَيَانِ ضَعْفِ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ» ، وَذَكَرَ طُرُقَهُ، وَبَيَّنَ ضَعْفَهَا كُلَّهَا. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَافِظُ: ابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ، مَا نَصُّهُ: وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ مَا رَوَوْهُ مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ» لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْفُوعًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَالصَّوَابُ عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ مُرْسَلٌ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ، فَإِذَا عَرَفْتَ ضَعْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ مُبَيِّنًا بُطْلَانَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ «كِتَابَةِ الْعِلْمِ» ، وَفِي بَابِ «لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ» ، أَنَّ أَبَا جُحَيْفَةَ سَأَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَّأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ ، قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ، قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ، مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، مُبَيِّنٌ عَدَمَ صِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ بِخِلَافِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا: وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ، وَلَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ هَذَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قُلْتُ: فَلَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ يُخَصِّصُ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ، وَعُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [5 \ 45] ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي حُكْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَطْرَافِ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ ; فَكُلُّ شَخْصَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّهُ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَيُقْطَعُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ، وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، وَيُقْطَعُ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ، كَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَالْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاقِصَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْكَامِلِ فِي الْجِرَاحِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْ عَبْدٍ جَرَحَ حُرًّا، وَلَا مِنْ كَافِرٍ جَرَحَ مُسْلِمًا، وَهُوَ مُرَادُ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ بِقَوْلِهِ فِي «مُخْتَصَرِهِ» : وَالْجُرْحُ كَالنَّفْسِ فِي الْفِعْلِ، وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، إِلَّا نَاقِصًا جَرَحَ كَامِلًا، يَعْنِي فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لَهُ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَصَّارِ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وِفَاقًا لِلْأَكْثَرِ، وَمَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، فَلَا يُقْطَعُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْبَدَلِ، فَلَا يُقْطَعُ الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ، وَلَا النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ، وَلَا الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَلَا الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ، وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا الْعَبْدُ بِالْحُرِّ. وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ، وَلَا الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ طَرَفُ الرَّجُلِ بِطَرَفِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهَا بِطَرَفِهِ، كَمَا لَا تُؤْخَذُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى. وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ، بِأَنَّ مَنْ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، يَجْرِي فِي الطَّرَفِ بَيْنَهُمَا، كَالْحُرَّيْنِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ يَبْطُلُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ التَّكَافُؤَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ ; بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِمُسْتَأْمَنٍ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّاقِصَةَ بِالْكَامِلَةِ ; لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ وُجِدَتْ، وَمَعَهَا زِيَادَةٌ، فَوَجَبَ أَخْذُهَا بِهَا إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ، كَمَا تُؤْخَذُ نَاقِصَةُ الْأَصَابِعِ بِكَامِلَةِ الْأَصَابِعِ. وَأَمَّا الْيَسَارُ وَالْيَمِينُ، فَيُجْرَيَانِ مَجْرَى النَّفْسِ لِاخْتِلَافِ مَحَلَّيْهِمَا، وَلِهَذَا اسْتَوَى بَدَلُهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَاقِصَةً عَنْهَا شَرْعًا، وَأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ كَمَا ذَكَرَ الْمُخَالِفُ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ، بَيْنَ مَنْ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي الْأَنْفُسِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [5 \ 45] . وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ; مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبِيدِ مَالٌ كَالْبَهَائِمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا، وَبِأَنَّ أَنْفُسَ الْعَبِيدِ مَالٌ أَيْضًا كَالْبَهَائِمِ، مَعَ تَصْرِيحِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقِصَاصِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ عَمْدًا، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ أَيْضًا. الثَّانِي: كَوْنُهُمَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. الثَّالِثُ: إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَلَا زِيَادَةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [16 \ 126] ، وَيَقُولُ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [2 \ 194] ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَلَا زِيَادَةٍ، فِيهِ الْقِصَاصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَكَالْجِرَاحِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَفْصِلٍ، كَقَطْعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ مِنْ مَفْصِلَيْهِمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْعُضْوِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، بَلْ مِنْ نَفْسِ الْعَظْمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْقِصَاصَ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ، إِلَّا فِيمَا يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ، كَقَطْعِ الْفَخِذِ، وَغَيْرِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَجُبِ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ، إِلَّا فِي السِّنِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ، بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانٍ، عَنْ نِمْرَانَ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ الْحَنَفِيِّ، أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ فَقَطَعَهَا، فَاسْتَعْدَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرِيدُ الْقِصَاصَ، فَقَالَ: «خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَدَهْثَمُ بْنُ قُرَّانٍ الْعُكْلِيُّ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ لَيْسَ حَدِيثُهُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ، وَنِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُوهُ جَارِيَةُ بْنُ ظَفَرٍ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ، اهـ. مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» فِي دَهْثَمٍ الْمَذْكُورِ: مَتْرُوكٌ، وَفِي نِمْرَانَ الْمَذْكُورِ: مَجْهُولٌ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْمَسْأَلَةِ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْقِصَاصِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِهِ، يَقُولُونَ: لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ، أَوْ نَقْصٍ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ. وَمِنْ هُنَا مَنَعَ الْعُلَمَاءُ الْقِصَاصَ، فِيمَا يُظَنُّ بِهِ الْمَوْتُ، كَمَا بَعْدَ الْمُوَضِّحَةِ مِنْ مُنَقِّلَةٍ أَطَارَتْ بَعْضَ عِظَامِ الرَّأْسِ، أَوْ مَأْمُومَةٍ وَصَلَتْ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ، أَوْ دَامِغَةٍ خَرَقَتْ خَرِيطَتَهُ، وَكَالْجَائِفَةِ، وَهِيَ الَّتِي نَفَذَتْ إِلَى الْجَوْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْخَوْفِ مِنَ الْهَلَاكِ. وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ الْقِصَاصَ فِي الْمَأْمُومَةِ. وَقَالُوا: مَا سَمِعْنَا بِأَحَدٍ قَالَهُ قَبْلَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالْعَوْرَاءِ، وَالْيَدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. تَنْبِيهٌ إِذَا اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَمَاتَ مِنَ الْقِصَاصِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي اقْتَصَّ مِنْهُ، عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيِّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، يُسْقَطُ عَنِ الْمُقْتَصِّ لَهُ قَدْرُ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، وَيَجِبُ الْبَاقِي فِي مَالِهِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَالْحُقُّ أَنَّ سِرَايَةَ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْقَوَدُ، قَتَلَهُ الْحَقُّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا، بِخِلَافِ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ جِدًّا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ عَيْنٌ، وَلَا أُذُنٌ، وَلَا يَدٌ يُسْرَى بِيُمْنَى، وَلَا عَكْسُ ذَلِكَ، لِوُجُوبِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فِي الْقِصَاصِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَشَرِيكٍ أَنَّهُمَا قَالَا: بِأَنَّ إِحْدَاهُمَا تُؤْخَذُ بِالْأُخْرَى، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ حَتَّى تَنْدَمِلَ جِرَاحَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، ثُمَّ زَادَ جُرْحُهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَقَالَ: «حَتَّى تَبْرَأَ» ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرِجْتُ، فَقَالَ: «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ» ، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ صَاحِبُهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْقِصَاصِ قَبْلَ الْبُرْءِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا، أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ بَعْدَ الْقِصَاصِ هَدَرٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَتْ هَدَرًا، بَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْجَالُهُ، فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ حَقَّهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ. فَاعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ [5 \ 32] ، هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [5 \ 33] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمُحَارَبَةُ هِيَ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُضَادَّةُ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَعَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ، وَكَذَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 مِنَ الشَّرِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [2 \ 205] . فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَارِبَ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيُخِيفُ السَّبِيلَ، ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ جَزَاءَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ هِيَ: أَنْ يُقَتَّلُوا، أَوْ يُصَلَّبُوا، أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهَا، يَفْعَلُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِالْمُحَارِبِ، كَمَا هُوَ مَدْلُولٌ، أَوْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [2 \ 196] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [5 \ 89] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [5 \ 95] . وَكَوْنُ الْإِمَامِ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَقَالَ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهِ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، فَالِاسْتِقْلَالُ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى لُزُومِ تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] كَذَاكَ مَا قَابَلَ ذَا اعْتِلَالِ ... مِنَ التَّأَصُّلِ وَالِاسْتِقْلَالِ إِلَى قَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] كَذَاكَ تَرْتِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ ... بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يَحْتَمِلُ وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ، وَفِيهَا قُيُودٌ مُقَدَّرَةٌ، وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَقَتَّلُوا إِذَا قَتَلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ، أَوْ يُصَلَّبُوا إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِذَا أَخَذُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، إِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ، فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الْآيَةِ، هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِقُيُودٍ تَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ لِهَذَا بِذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ، خَبَرًا مَرْفُوعًا، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَنَسٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ الْعُرَنَيِّينَ، إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ، فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، فَاقْطَعْ يَدَهُ بِسَرِقَتِهِ، وَرِجْلَهُ بِإِخَافَتِهِ، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ، فَاصْلُبْهُ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ، وَلَكِنْ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خَلَّطَ بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ رَاوِيهِ عَنْهُ ابْنَ الْمُبَارَكَ، وَلَا ابْنَ وَهْبٍ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُمَا عَنْهُ أَعْدَلُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا، وَابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ يَرَى عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي سَوْقِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِمَا فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا، وَذَكَرْنَا مَعَهُ مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنَ الْمَتْنِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَإِنَّهُ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِلْجُمْهُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلْبَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُصَلَّبُوا، اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَقِيلَ: يُصْلَبُ حَيًّا، وَيُمْنَعُ مِنَ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ حَتَّى يَمُوتَ، وَقِيلَ: يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُقْتَلُ بِرُمْحٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وَنَحْوِهِ، مَصْلُوبًا، وَقِيلَ: يُقْتَلُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَقِيلَ: يُنْزَلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: يَتْرَكُ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ زَمَنًا يَحْصُلُ فِيهِ اشْتِهَارُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ صَلْبَهُ رَدْعٌ لِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّفْيِ فِيهِ أَيْضًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنْ يُطْلَبُوا حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ، فَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ، أَوْ يَهْرَبُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يُنْفَوْا مِنْ بَلَدِهِمْ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ يُخْرِجُهُمُ السُّلْطَانُ، أَوْ نَائِبُهُ، مِنْ عُمَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، إِنَّهُمْ يُنْفَوْنَ، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي الْآيَةِ السِّجْنُ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ مِنْ سِعَةِ الدُّنْيَا إِلَى ضِيقِ السِّجْنِ، فَصَارَ الْمَسْجُونُ كَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ مِنَ الْأَرْضِ، إِلَّا مِنْ مَوْضِعِ اسْتِقْرَارِهِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بَعْضِ الْمَسْجُونِينَ فِي ذَلِكَ: [الطَّوِيلُ] خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ ... أَهْلِهَا فَلَسْنَا مِنَ الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنْ يُخْرَجَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَيُسْجَنَ فِيهِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، وَلَهُ اتِّجَاهٌ ; لِأَنَّ التَّغْرِيبَ عَنِ الْأَوْطَانِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ، كَمَا يُفْعَلُ بِالزَّانِي الْبِكْرِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ إِنَّهُ لَا يُرَادُ نَفْيُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَوْطَانُهُمُ الَّتِي تَشُقُّ عَلَيْهِمْ مُفَارَقَتُهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يُثْبِتُونَ حُكْمَ الْمُحَارِبَةِ فِي الْأَمْصَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وَالطُّرُقِ عَلَى السَّوَاءِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَغْتَالُ الرَّجُلَ فَيَخْدَعُهُ، حَتَّى يَدْخِلَهُ بَيْتًا، فَيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذُ مَا مَعَهُ، إِنَّ هَذِهِ مُحَارَبَةٌ، وَدَمُهُ إِلَى السُّلْطَانِ، لَا إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِعَفْوِهِ عَنْهُ فِي إِسْقَاطِ الْقَتْلِ. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ: كُنْتُ أَيَّامَ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ، إِذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ، وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَحْبِسُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ، حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا مُحَارَبَةَ إِلَّا فِي الطُّرُقِ، فَلَا يَكُونُ مُحَارِبًا فِي الْمِصْرِ ; لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا فِي الْمِصْرِ أَيْضًا، لِعُمُومِ الدَّلِيلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تَكُونُ الْمُحَارِبَةُ إِلَّا فِي الطُّرُقِ، وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَلَا ; لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إِذَا اسْتَغَاثَ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ لِبُعْدِهِ مِمَّنْ يُغِيثُهُ، وَيُعِينُهُ. قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْمُحَارِبَةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ سِلَاحٌ. وَمِنْ جُمْلَةِ السِّلَاحِ: الْعِصِيُّ، وَالْحِجَارَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّهَا تُتْلَفُ بِهَا الْأَنْفُسُ وَالْأَطْرَافُ كَالسِّلَاحِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْمَالُ الَّذِي أَتْلَفَهُ الْمُحَارِبُ، أَقَلُّ مِنْ نِصَابِ السَّرِقَةِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، أَوْ كَانَتِ النَّفْسُ الَّتِي قَتَلَهَا غَيْرَ مُكَافِئَةٍ لَهُ، كَأَنْ يَقْتُلَ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، فَهَلْ يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنَ النِّصَابِ؟ وَيُقْتَلُ بِغَيْرِ الْكُفْءِ أَوْ لَا؟ . اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُقْطَعُ إِلَّا إِذَا أَخَذَ رُبْعَ دِينَارٍ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُ وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ نِصَابًا ; لِأَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، حَدَّدَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبُعَ دِينَارٍ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَلَمْ يُحَدِّدْ فِي قَطْعِ الْحِرَابَةِ شَيْئًا، ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِ ; فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَوْفِيَةَ جَزَائِهِمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَبَّةٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقِيَاسُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ عَلَى السَّارِقِ، وَهُوَ يَطْلُبُ خَطْفَ الْمَالِ؟ فَإِنْ شُعِرَ بِهِ فَرَّ، حَتَّى إِنَّ السَّارِقَ إِذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ، أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ حَارَبَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ، عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزٍ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْمُحَارِبُ فِي قَطْعِهِ، وَأَمَّا قَتْلُ الْمُحَارِبِ بِغَيْرِ الْكُفْءِ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالتَّحْقِيقُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمُكَافَأَةِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ ; لِأَنَّ الْقَتْلَ فِيهَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ مِنْ إِخَافَةِ السَّبِيلِ، وَسَلْبِ الْمَالِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا، فَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَهُمَا الْمُحَارَبَةُ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيفًا مِنْ وَضِيعٍ، وَلَا رَفِيعًا مِنْ دَنِيءٍ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمُكَافَأَةِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ، إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ عَفْوَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَّابَةِ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ، وَعَلَى الْحَاكِمِ قَتْلُ الْمُحَارِبِ الْقَاتِلِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةُ قِصَاصٍ خَالِصٍ، بَلْ هُنَاكَ تَغْلِيظٌ زَائِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُحَارَبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا حَمَلَ الْمُحَارِبُونَ عَلَى قَافِلَةٍ مَثَلًا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْقَافِلَةِ، وَبَعْضُ الْمُحَارِبِينَ لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلَ أَحَدٍ، فَهَلْ يُقْتَلُ الْجَمِيعُ، أَوْ لَا يُقْتَلُ إِلَّا مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ. فِيهِ خِلَافٌ، وَالتَّحْقِيقُ قَتَلُ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُبَاشِرُ مِنْ فِعْلِهِ، إِلَّا بِقُوَّةِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ رِدْءٌ لَهُ وَمُعِينٌ عَلَى حِرَابَتِهِ، وَلَوْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْمَالَ جَازَ قَتْلُهُمْ كُلِّهِمْ، وَصَلْبُهُمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعْصِيَةَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ أَبُ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ كُلِّهِمْ؟ وَيَصِيرُ الْقَتْلُ لِلْأَوْلِيَاءِ إِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا نَظَرًا إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، فَالشُّبْهَةُ فِي فِعْلِ وَاحِدٍ شُبْهَةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ مِنْ صَبِيٍّ، أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ أَبٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا تَابَ الْمُحَارِبُونَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ; فَتَوْبَتُهُمْ حِينَئِذٍ لَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا إِنْ جَاءُوا تَائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ سَبِيلٌ ; لِأَنَّهُمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ حُدُودُ اللَّهِ، وَتَبْقَى عَلَيْهِمْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ فِي الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُمْ غُرْمُ مَا أَتْلَفُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلِوَلِيِّ الدَّمِ حِينَئِذٍ الْعَفْوُ إِنْ شَاءَ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ إِسْقَاطُهُ عَنْهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِ حُدُودِ اللَّهِ عَنْهُمْ بِتَوْبَتِهِمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [5 \ 34] ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَخْذُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَضْمِينُهُمْ مَا اسْتَهْلَكُوا ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَمُلُّكُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: لَا يُطْلَبُ الْمُحَارِبُ الَّذِي جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَا وُجِدَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَهُ، فَلَا يُطْلَبُ بِهِ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ هَذَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ، فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا، ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ لَهُ سُقُوطَ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا، وَنَحْوَهُ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، هَلْ يُتْبَعُ دَيْنًا بِمَا أَخَذَ؟ أَوْ يُسْقَطُ عَنْهُ، كَمَا يُسْقَطُ عَنِ السَّارِقِ، يَعْنِي عِنْدَ مَالِكٍ، وَالْمُسْلِمُ، وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [5 \ 32] ، اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ إِمَامَ عَدْلٍ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهُ، بِأَنْ شَدَّ عَضُدَهُ وَنَصَرَهُ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا، وَلَا يَخْفَى بُعْدَهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى، أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِقَتْلِهَا، فَهُوَ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ; لِأَنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةَ الْأَنْفُسِ، سَوَاءٌ فِي الْحُرْمَةِ وَالْإِثْمِ، وَمَنْ تَرَكَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَحْيَاهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، لِاسْتِوَاءِ الْأَنْفُسِ فِي ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، أَيْ عِنْدِ الْمَقْتُولِ إِذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي حَيَاةِ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ، وَمَنْ أَحْيَاهَا وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ هَلَكَةٍ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ النَّفْسَ الْمُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، وَلَوْ قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ فَقَدْ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا يَلْزَمُهُ مِنَ الْقِصَاصِ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، قَالَ: وَمَنْ أَحْيَاهَا، أَيْ عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ لَهُ قَتْلُهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْمَقْدِرَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَا فَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ خُصَمَاؤُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيعَ، وَمَنْ أَحْيَاهَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ شُكْرُهُ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مُخْتَصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ قَتْلَ وَاحِدٍ، فَقَدِ اسْتَحَلَّ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْعَ، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ، فَكَأَنَّمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ، وَعَزَاهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْيَاهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِحَقٍّ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِحْيَاؤُهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْكِ، وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ، وَإِلَّا فَالْإِحْيَاءُ حَقِيقَةً الَّذِي هُوَ الِاخْتِرَاعُ، إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْإِحْيَاءُ، كَقَوْلِ نَمْرُودَ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [2 \ 258] ، فَسَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا الْآيَةَ، اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وَأَشْهُرُ الْأَقْوَالِ هُوَ مَا تَضَافَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ فِي الصِّحَاحِ، وَغَيْرِهَا، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمِ «عُرَيْنَةَ» ، وَ «عُكْلٍ» الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا، وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا وَسَمِنُوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَاقُوا اللِّقَاحَ، فَبَلَغَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُهُمْ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِمْ سَرِيَّةً فَجَاءُوا بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَهِيَ نَازِلَةٌ فِي قَوْمٍ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، هَذِهِ هِيَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْكَافِرِينَ قَطْعًا ; لِأَنَّ الْكَافِرَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا تُقْبَلُ قَبْلَهَا إِجْمَاعًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [8 \ 38] ، وَلَيْسَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ ; لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِرِدَّتِهِ وَكُفْرِهِ، وَلَا يُقْطَعُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاطِفًا عَلَى مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» ، وَقَوْلِهِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهَا فِي الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنَّهُ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؟ فَالْجَوَابُ: نَعَمْ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [2 \ 278، 279] . تَنْبِيهٌ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَمْثِيلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُرَنِيِّينَ ; لِأَنَّهُ سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ مَعَ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، مَعَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْتُلُ وَلَا يُمَثَّلُ بِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَابِ، فَقِيلَ فِيهِ مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُعَاتَبَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فَعَلَ بِهِمْ، وَبَعْدَ الْعِتَابِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ، قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ هُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ قِصَاصًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ قِصَاصًا ; لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ رُعَاةِ اللِّقَاحِ، وَعَقَدَهُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي «مَغَازِيهِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَبَعْدَهَا انْتَهَبَهَا الْأُلَى انْتَهَوْا ... لِغَايَةِ الْجَهْدِ وَطِيبَةَ اجْتَوَوْا فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا أَلْبَانَهَا ... وَنَبَذُوا إِذْ سَمِنُوا أَمَانَهَا فَاقْتَصَّ مِنْهُمُ النَّبِيُّ أَنْ مَثَّلُوا ... بِعَبْدِهِ وَمُقْلَتَيْهِ سَمَلُوا وَاعْتَرَضَ عَلَى النَّاظِمِ شَارِحُ النَّظْمِ حَمَّادٌ لَفْظَةَ «بِعَبْدِهِ» ; لِأَنَّ الثَّابِتَ أَنَّهُمْ مَثَّلُوا بِالرِّعَاءِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ الْآيَةَ. اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ هُنَا هُوَ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْلَاصٍ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَيْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَصْلُ الْوَسِيلَةِ: الطَّرِيقُ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى الشَّيْءِ، وَتُوَصِّلُ إِلَيْهِ وَهِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى هَذَا فَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْمُرَادِ مِنَ الْوَسِيلَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ، وَكَقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [\ 31] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [24 \ 54] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ الْحَاجَةُ، وَلَمَّا سَأَلَهُ نَافِعٌ الْأَزْرَقُ هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ أَنْشَدَ لَهُ بَيْتَ عَنْتَرَةَ: [الْكَامِلُ] إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي قَالَ: يَعْنِي لَهُمْ إِلَيْكِ حَاجَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالْمَعْنَى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [5 \ 35] ، وَاطْلُبُوا حَاجَتَكُمْ مِنَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهَا، وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ الْآيَةَ [29 \ 17] ، وَقَوْلُهُ: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [4 \ 32] ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْوَسِيلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ دَاخِلٌ فِي هَذَا ; لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَالِابْتِهَالَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى نَيْلِ رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الْجُهَّالِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ فِي الْآيَةِ الشَّيْخُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، أَنَّهُ تَخَبُّطٌ فِي الْجَهْلِ وَالْعَمَى وَضَلَالٌ مُبِينٌ وَتَلَاعُبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاتِّخَاذُ الْوَسَائِطِ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ أَصُولِ كُفْرِ الْكَفَّارِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [39 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [10 \ 18] ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى رِضَى اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ هِيَ اتِّبَاعُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الْآيَةَ [4 \ 123] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ فِي بَيْتِ عَنْتَرَةَ مَعْنَاهَا التَّقَرُّبُ أَيْضًا إِلَى الْمَحْبُوبِ ; لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَلِذَا أَنْشَدَ بَيْتَ عَنْتَرَةَ الْمَذْكُورَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، وَجَمْعُ الْوَسِيلَةِ: الْوَسَائِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ] إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ وَهَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْوَسِيلَةَ هُنَا هُوَ مَعْنَاهَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الْآيَةَ [17 \ 57] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَسِيلَةِ أَيْضًا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أَمَرَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْأَلَ لَهُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا، نَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا ; لِأَنَّهَا لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هَذَا، مُفَسِّرٌ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَخُذُوهُ، وَقَوْلُهُ: لَمْ تُؤْتَوْهُ، لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَشَارَ لَهُ هُنَا، وَذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ الَّذِينَ زَنَيَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَكَانَ الْيَهُودُ قَدْ بَدَّلُوا حُكْمَ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ، فَتَعَمَّدُوا تَحْرِيفَ كِتَابِ اللَّهِ، وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّ حَدَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، التَّوْرَاةِ: الرَّجْمُ، أَنَّهُمْ يَجْلِدُونَهُ وَيَفْضَحُونَهُ بِتَسْوِيدِ الْوَجْهِ، وَالْإِرْكَابِ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا زَنَى الْمَذْكُورَانِ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ تَعَالَوْا نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ حَدِّهِمَا، فَإِنْ حَكَمَ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَخُذُوا عَنْهُ ذَلِكَ وَاجْعَلُوهُ حُجَّةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ قَدْ حَكَمَ فِيهِمَا بِذَلِكَ، وَإِنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلَا تَتَّبِعُوهُ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: هَذَا، وَقَوْلِهِ: فَخُذُوهُ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ، هُوَ الْحُكْمُ الْمُحَرَّفُ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ كَمَا بَيَّنَّا، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا يَعْنِي الْمُحَرَّفَ وَالْمُبَدَّلَ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بِأَنْ حَكَمَ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ فَاحْذَرُوا أَنْ تَقْبَلُوهُ. وَذَكَرَ تَعَالَى هَذَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ [3 \ 23] ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، يَعْنِي فِي شَأْنِ الزَّانِيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ. أَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ اسْتَحْفَظُوا كِتَابَ اللَّهِ يَعْنِي اسْتَوْدَعُوهُ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ حِفْظَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَحَفِظُوهُ، أَوْ لَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَضَيَّعُوهُ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ، وَلَمْ يَحْفَظُوا مَا اسْتُحْفِظُوهُ، بَلْ حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ عَمْدًا كَقَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. الْآيَةَ [4 \ 46] . وَقَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، وَقَوْلِهِ: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [6 \ 91] ، وَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 79] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ الْآيَةَ [3 \ 78] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ إِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ؟ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - وَالتَّوْرَاةُ حُرِّفَتْ، وَبُدِّلَتْ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَالْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، لَوْ حَرَّفَ مِنْهُ أَحَدٌ حَرْفًا وَاحِدًا فَأَبْدَلَهُ بِغَيْرِهِ، أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا أَوْ نَقَصَ فِيهِ آخَرَ لَرَدَّ عَلَيْهِ آلَافُ الْأَطْفَالِ مِنْ صِغَارِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ كِبَارِهِمْ. فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَحْفَظَهُمُ التَّوْرَاةَ، وَاسْتَوْدَعَهُمْ إِيَّاهَا، فَخَانُوا الْأَمَانَةَ وَلَمْ يَحْفَظُوهَا، بَلْ ضَيَّعُوهَا عَمْدًا، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لَمْ يَكِلِ اللَّهُ حِفْظَهُ إِلَى أَحَدٍ حَتَّى يُمْكِنَهُ تَضْيِيعُهُ، بَلْ تَوَلَّى حِفْظَهُ جَلَّ وَعَلَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ الْآيَةَ [41 \ 42] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَ «الْبَاءُ» فِي قَوْلِهِ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا [5 \ 44] ، مُتَعَلِّقَةٌ بِالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا صَارُوا فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ بِسَبَبِ مَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِيَحْكُمُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَلْ هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي الْكُفَّارِ؟ ، فَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِيهَا كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْكُفْرَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا، يَعْنِي الْحُكْمَ الْمُحَرَّفَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ حُكْمِ اللَّهِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أَيِ الْمُحَرَّفَ، بَلْ أُوتِيتُمْ حُكْمَ اللَّهِ الْحَقَّ فَاحْذَرُوا، فَهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْحَذَرِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهَا وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [5 \ 45] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَزَادَ الْحَسَنُ، وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَقَلَ نَحْوَ قَوْلِ الْحَسَنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ [5 \ 44، 45، 47] ، نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَكْفُرُ وَإِنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً، وَقِيلَ فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، رَدًّا لِلْقُرْآنِ وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. فَالْآيَةُ عَامَّةٌ عَلَى هَذَا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالْكُفَّارِ، أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ. فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبُ مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ فَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّ الْيَهُودَ ذَكَرُوا قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ هَادُوا [5 \ 44] فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ. وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ، فَهَذَا الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ وَالْقِصَاصَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ «مَنْ» إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهَا، قِيلَ لَهُ: «مَنْ» هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالتَّقْرِيرِ ; وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ، وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلَهُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَقِيلَ: الْكَافِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالَهُ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ أَيْضًا قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ. وَهَذَا يَخْتَلِفُ إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنِ ارْتَشَى، وَحَكَمَ بِحُكْمِ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَعَزَا هَذَا إِلَى الْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ وَيَخْشَوْهُ، وَأَلَّا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ أَنَّ آيَةَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، نَازِلَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَهَا مُخَاطِبًا لِمُسْلِمِي هَذِهِ الْأُمَّةِ: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُتَبَادِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ فَالْكُفْرُ إِمَّا كُفْرٌ دُونَ كَفْرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ، أَوْ قَاصِدًا بِهِ جَحْدَ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَدِّهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا. أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ ذَنْبًا، فَاعِلٌ قَبِيحًا، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْهَوَى فَهُوَ مِنْ سَائِرِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَنَّ آيَةَ: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فِي الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. فَالْخِطَابُ لَهُمْ لِوُضُوحِ دَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَنَّ آيَةَ: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فِي النَّصَارَى ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيرَ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْكُفْرَ، وَالظُّلْمَ، وَالْفِسْقَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 رُبَّمَا أُطْلِقَ فِي الشَّرْعِ مُرَادًا بِهِ الْمَعْصِيَةُ تَارَةً، وَالْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ أُخْرَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، مُعَارَضَةً لِلرُّسُلِ وَإِبْطَالًا لِأَحْكَامِ اللَّهِ، فَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ وَكُفْرُهُ كُلُّهَا كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا فَاعِلٌ قَبِيحًا فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُولَى فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، وَتَحْقِيقُ أَحْكَامِ الْكُلِّ هُوَ مَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ، قَدْ قَدَّمْنَا احْتِجَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَنَفْسُ الْآيَةِ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الْآيَةَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنَ الْمُتَصَدِّقِينَ الَّذِينَ تَكُونُ صَدَقَتُهُمْ كَفَّارَةٌ لَهُمْ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، نَبَّهَ عَلَى هَذَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، وَمَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْعَبْدِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجُرْحِهِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لِسَيِّدِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ; لِأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِبَدَنِ الْعَبْدِ، كَالْقِصَاصِ لَهُ الْعَفْوُ فِيهَا دُونَ سَيِّدِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا مَانِعَ مَنْ تَصْدُّقِهِ بِجُرْحِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنْ مَعْنَى فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْجِنَايَةِ كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي، لَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَا مَانِعَ أَيْضًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ بِالْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَذْكُرُ عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ مُتَصَدِّقٌ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا صَدَقَةَ لَهُ لِكُفْرِهِ، وَمَا هُوَ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ: عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمُتَصَدِّقِ، وَهُوَ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ فِي الْمُؤْمِنِ قَطْعًا دُونَ الْكَافِرِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا. تَنْبِيهٌ احْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ ; لِأَنَّهُمَا لَوْ قُتِلَا بِهِ لَخَرَجَ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ; لِكَوْنِهِمَا نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مُتَمَسِّكًا بِهَذَا الدَّلِيلِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَرَبِيعَةُ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ، فَلَا تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ بِمُبْدَلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ لِمَقْتُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَمَّنْ ذَكَرْنَا ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَقَالُوا مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [2 \ 178] ، وَقَوْلِهِ: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوْصَافِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، بِدَلِيلِ عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَالتَّفَاوُتَ فِي الْعَدَدِ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ أَوْجَبَ قَتَلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ، وَعَدَمِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّهُ يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَتَلَ سَبْعَةً بِوَاحِدٍ، وَقَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ جَمِيعًا، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ قِتَالِ الْحَرُورِيَّةِ حَتَّى يُحْدِثُوا، فَلَمَّا ذَبَحُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ، كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، وَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ نَادُوهُمْ أَنْ أَخْرِجُوا إِلَيْنَا قَاتِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خِبَّابٍ، فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: دُونَكُمُ الْقَوْمَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي «سُنَنِهِ» . وَيَزِيدُ قَتْلَ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ، وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ» . قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَزَادَ: «إِلَّا أَنْ يَشَاءَ» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» . وَرُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْضًا، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ثَبَتَ عَنْهُ عَدَمُ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَإِذَنْ فَالْخِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا اخْتَلَفُوا، لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا بِتَرْجِيحٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الَّذِي هُوَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [2 \ 179] ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ يَكُونُ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُ وَزَاجِرًا عَنِ الْقَتْلِ، وَلَوْ كَانَ الِاثْنَانِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا لِلْوَاحِدِ، لَكَانَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا، أَخَذَ وَاحِدًا مِنْ أَعْوَانِهِ فَقَتَلَهُ مَعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رَادِعٌ عَنِ الْقَتْلِ ; وَبِذَلِكَ تَضِيعُ حِكْمَةُ الْقِصَاصِ مِنْ أَصْلِهَا، مَعَ أَنَّ الْمُتَمَالِئِينَ عَلَى الْقَتْلِ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَاتِلٌ، فَيُقْتَلُ، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ قَذَفُوا وَاحِدًا لَوَجَبَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَ الْإِنْجِيلِ بِالْحُكْمِ بِهِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِمَبْعَثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [61 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْآيَةَ [7 \ 157] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. لَطِيفَةٌ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَصْرَانِيًّا قَالَ لِعَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: نَاظِرْنِي فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَسِيحِيَّةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ الْعَالِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ: هَلُمَّ إِلَى الْمُنَاظَرَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ؟ فَقَالَ الْعَالِمُ: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: إِذَنْ يَلْزَمُكُمُ اتِّبَاعُ عِيسَى مَعَنَا، وَتَرْكُ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ نَتَّفِقُ عَلَى نُبُوَّةِ عِيسَى، وَنُخَالِفُكُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَنْتُمُ الَّذِينَ تَمْتَنِعُونَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 اتِّبَاعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ عِيسَى قَالَ لَكُمْ: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَوْ كُنْتُمْ مُتَّبِعِينَ عِيسَى حَقًّا لَاتَّبَعْتُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَهَرَ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ لَمْ تَتَّبِعُوا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرَهُ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّصَارَى لَوْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ عِيسَى، لَاتَّبَعُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّصَارَى، وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْيَهُودِ، وَالَّتِي قَبْلَ تِلْكَ فِي الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ، وَالظُّلْمَ، وَالْفِسْقَ كُلَّهَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمَا دُونَ الْكُفْرِ، وَعَلَى الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ نَفْسِهِ، فَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ عَنْ سَبَبِ كَوْنِ النِّسَاءِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، «إِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِسَبَبِ كُفْرِهِنَّ» ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُنَّ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمُخْرِجِ عَنِ الْمِلَّةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْآيَةَ [109 \ 1، 2] ، وَمِنَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الْآيَةَ [35 \ 32] ، وَمِنَ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ [32 \ 20] ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [24 \ 4] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَذْفَ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [24 \ 11] ، وَمِنَ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ [49 \ 6] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، لِقَصْدِ مُعَارَضَتِهِ وَرَدِّهِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنِ الْتِزَامِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ كُلُّهَا بِمَعْنَاهَا الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ لِهَوًى وَهُوَ يَعْتَقِدُ قُبْحَ فِعْلِهِ، فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 شَرْطًا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِقَادِ مَا لَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [5 \ 51] ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ وِلَايَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ زَائِفَةٌ لَيْسَتْ خَالِصَةً ; لِأَنَّهَا لَا تَسْتَنِدُ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ، هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّصَارَى دَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِقَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [5 \ 14] ، وَبَيَّنَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَيْثُ قَالَ فِيهِمْ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [5 \ 64] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ السِّيَاقِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَصَرَّحَ تَعَالَى بِعَدَمِ اتِّفَاقِ الْيَهُودِ مُعَلِّلًا لَهُ بِعَدَمِ عُقُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [59 \ 14] . تَنْبِيهٌ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، أَنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ يَتَوَارَثَانِ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ، وِلَايَةُ الْيَهُودِ لِخُصُوصِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى لِخُصُوصِ النَّصَارَى، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِتَوَارُثِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ بِتَوَلِّيهِ إِيَّاهُمْ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُوجِبٌ لِسُخْطِ اللَّهِ، وَالْخُلُودِ فِي عَذَابِهِ، وَأَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا تَوَلَّاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [5 \ 80، 81] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وَنَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ مُبَيِّنًا سَبَبَ التَّنْفِيرِ مِنْهُ ; وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [60 \ 13] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَالَاةُ بِسَبَبِ خَوْفٍ، وَتَقِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَصَاحِبُهَا مَعْذُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [3 \ 28] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِكُلِّ الْآيَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَنْعِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِيضَاحٌ ; لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ وَالتَّقِيَّةِ، فَيُرَخَّصُ فِي مُوَالَاتِهِمْ، بِقَدْرِ الْمُدَارَاةِ الَّتِي يَكْتَفِي بِهَا شَرُّهُمْ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْبَاطِنِ مِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ: [الْوَافِرُ] وَمَنْ يَأْتِي الْأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ ... فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارًا وَيُفْهَمُ مِنْ ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْكُفَّارَ عَمْدًا اخْتِيَارًا، رَغْبَةً فِيهِمْ أَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، يَعْتَذِرُونَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ تَدُورَ عَلَيْهِمُ الدَّوَائِرُ، أَيْ دُوَلُ الدَّهْرِ الدَّائِرَةُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [الْوَافِرُ] إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى ... أُنَاسٍ كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا يَعْنُونَ إِمَّا بِقَحْطٍ فَلَا يَمِيرُونَنَا، وَلَا يَتَفَضَّلُوا عَلَيْنَا، وَإِمَّا بِظَفَرِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَدُومُ الْأَمْرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ تَقَلُّبِ الدَّهْرِ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ، يَكُونُ لَهُمْ أَصْدِقَاءُ كَانُوا مُحَافِظِينَ عَلَى صَدَاقَتِهِمْ ; فَيَنَالُونَ مِنْهُمْ مَا يُؤَمِّلُ الصَّدِيقُ مِنْ صَدِيقِهِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ فِي إِقْسَامِهِمْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، إِنَّهُمْ لَمَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ تِلْكَ الدَّوَائِرَ الَّتِي حَافَظُوا مِنْ أَجْلِهَا عَلَى صَدَاقَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الْيَهُودِ، أَنَّهَا لَا تَدُورُ إِلَّا عَلَى الْيَهُودِ، وَالْكُفَّارِ، وَلَا تَدُورُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بِقَوْلِهِ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الْآيَةَ، وَعَسَى مِنَ اللَّهِ نَافِذَةٌ ; لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُطْمَعُ إِلَّا فِيمَا يُعْطِي. وَالْفَتْحُ الْمَذْكُورُ قِيلَ: هُوَ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الْفَتْحُ الْحُكْمُ، كَقَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [7 \ 89] ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ بِقَتْلِ مُقَاتِلَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ سَبَبَ حَلِفِهِمْ بِالْكَذِبِ لِلْمُسْلِمِينَ، أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، إِنَّمَا هُوَ الْفَرَقُ أَيِ الْخَوْفُ، وَأَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا مَحَلًّا يَسْتَتِرُونَ فِيهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَسَارَعُوا إِلَيْهِ؛ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [9 \ 56، 57] ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ سَبَبِ أَيْمَانِ الْمُنَافِقِينَ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [58 \ 16] . وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ تِلْكَ الْأَيْمَانَ لِيَرْضَى عَنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُمْ إِنْ رَضُوا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [9 \ 96] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِأَيْمَانِهِمْ إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَقُّ بِالْإِرْضَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [9 \ 62] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ لَهُمْ لِيَرْضَوْا عَنْهُمْ، بِسَبَبِ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا صَحِيحًا، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، لَا لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا صَحِيحًا، بَلْ مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا مِنَ النِّفَاقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [9 \ 95] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ أَيْمَانَهُمُ الْكَاذِبَةَ سَبَبٌ لِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [9 \ 42] . وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ لِحَلِفِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ رَاجِعَةٌ جَمِيعًا إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ الْخَوْفُ ; لِأَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ سَبَبُ رَغْبَتِهِمْ فِي إِرْضَائِهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُمْ بِأَنْ لَا يُؤْذُوهُمْ، وَلِذَا حَلَفُوا لَهُمْ، لِيُرْضُوهُمْ، وَلِيُعْرِضُوا عَنْهُمْ، خَوْفًا مِنْ أَذَاهُمْ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. تَنْبِيهٌ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [5 \ 53] فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ. الْأُولَى: يَقُولُ بِلَا وَاوٍ مَعَ الرَّفْعِ، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ. الثَّانِيَةُ: وَيَقُولُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ مَعَ رَفْعِ الْفِعْلِ أَيْضًا، وَبِهَا قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ. الثَّالِثَةُ: بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَنَصْبِ «يَقُولُ» عَطْفًا عَلَى (أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ الْآيَةَ. أَخْبَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ إِنِ ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ الْمُرْتَدِّ بِقَوْمٍ مِنْ صِفَاتِهِمُ الذُّلُّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمْ، وَلِينُ الْجَانِبِ، وَالْقَسْوَةُ وَالشِّدَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِلِينِ الْجَانِبِ لِلْمُؤْمِنِينَ، بِقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] ، وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [26 \ 215] ، وَأَمَرَهُ بِالْقَسْوَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [9 \ 73] ، وَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ بِاللِّينِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الْآيَةَ [3 \ 159] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ اللِّينِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالشِّدَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ، مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِقَوْلِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [48 \ 29] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [الطَّوِيلُ] وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ ... رَحْلِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ وَأَعْطَى إِذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ ... وَأَمْضَى بِحَدِّ الْمَشْرَفِيِّ الْمُهَنَّدِ وَقَالَ الْآخَرُ فِيهِ: [الطَّوِيلُ] وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ ... رَحْلِهَا أَشَدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَلِينَ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلِّينِ، وَأَلَّا يَشْتَدَّ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلشِّدَّةِ، لِأَنَّ اللِّينَ فِي مَحَلِّ الشِّدَّةِ ضَعْفٌ، وَخَوَرٌ، وَالشِّدَّةَ فِي مَحَلِّ اللِّينِ حُمْقٌ، وَخَرَقٌ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي: [الطَّوِيلُ] إِذَا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فَلِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ ... وَحِلْمُ الْفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ، وَأَقَامُوا كِتَابَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، لَيَسَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَرْزَاقَ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ، كَقَوْلِهِ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [71 \ 11] ، وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ وَقَوْمِهِ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [11 \ 52] ، وَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَوْمِهِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [11 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [16 \ 97] . عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 96] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [65 \ 2، 3] ، وَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [20 \ 132] ، وَمَفْهُومُ الْآيَةِ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى، سَبَبٌ لِنَقِيضِ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 يُسْتَجْلَبُ بِطَاعَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الْآيَةَ [30 \ 41] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قِسْمَانِ: طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُقْتَصِدَةٌ فِي عَمَلِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَيِّئُ الْعَمَلِ، وَقَسَّمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [35 \ 32] ، وَوَعَدَ الْجَمِيعَ بِالْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [35 \ 33] . وَذَكَرَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ: وَهُوَ الْكُفَّارُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا الْآيَةَ [35 \ 36] . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمُقْتَصِدِ، وَالسَّابِقِ، وَالظَّالِمِ، أَنَّ الْمُقْتَصِدَ هُوَ مَنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ السَّابِقَ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَزَادَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ، وَالتَّوَرُّعِ عَنْ بَعْضِ الْجَائِزَاتِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الظَّالِمَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [9 \ 102] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ. أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالِامْتِثَالِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [5 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [24 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [51 \ 54] ، وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا، لَكَتَمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [33 \ 37] ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ حَرْفًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَعْظَمَ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ الْآيَةَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَمُوا وَصَمُّوا مَرَّتَيْنِ، تَتَخَلَّلُهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 تَوْبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [17 \ 4] ، فَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ، وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الْآيَةَ [17 \ 5] ، وَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا، وَبَيَّنَ التَّوْبَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، فَعَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ بِتَكْذيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتْمِ صِفَاتِهِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَبَحَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ، وَذَرَارِيَّهُمْ، وَأَجْلَى بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَبَنِي النَّضِيرِ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، وَهَذَا الْبَيَانُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِيهِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ الْمَاضِيَةِ، مِنْ قَتْلِ الرُّسُلِ، وَتَكْذِيبِهِمْ، إِذْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [5 \ 70] . وَمَعْنَى وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [5 \ 71] ، ظَنُّوا أَلَّا يُصِيبَهُمْ بَلَاءٌ وَعَذَابٌ مِنَ اللَّهِ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، لِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ، أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلُهُ: كَثِيرٌ مِنْهُمْ، أَحْسَنُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِيهِ ; أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: عَمُوا وَصَمُّوا، كَقَوْلِكَ: جَاءَ الْقَوْمُ أَكْثَرُهُمْ، وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ، قَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، فَوَجْهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْحُسْبَانَ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، تَنْزِيلُ اعْتِقَادِهِمْ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا، مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ، فَتَكُونُ أَنْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [5 \ 73] ، لَوْ تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لَتَابَ عَلَيْهِمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ اسْتَعْطَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ اسْتِعْطَافٍ، وَأَلْطَفَهُ بِقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ غَفَرَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَامًّا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [8 \ 38] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عِيسَى وَأُمَّهُ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ، وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَانُوا كَذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْآيَةَ [25 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْآيَةَ [21 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ الْآيَةَ [25 \ 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، مَعْنَى قَوْلِهِ: [ذ \ 75] ، يُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِصَرْفِهِمْ عَنْهُ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَعَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ لَعَائِنُ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَشْنَعَ مِنْهُ وَلَا أَعْظَمَ، مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِنْ أَمْرِهِمْ، كَيْفَ يُؤْفَكُونَ إِلَى هَذَا الْكُفْرِ مَعَ وُضُوحِ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ؟ ! قَوْلُهُ تَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ، وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْمَائِدَةِ، وَعَلَيْهِ فَلَعْنُ الْأَوَّلِينَ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [2 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [7 \ 166] ، وَلَعْنُ الْآخَرِينَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [5 \ 115] ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَسَخَهُمْ خَنَازِيرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْبَاقِرِ، نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ: وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ أَهْلَ أَيْلَةَ لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ، قَالَ دَاوُدُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ أَلْبِسْهُمُ اللَّعْنَ مِثْلَ الرِّدَاءِ، وَمِثْلَ الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْحَقْوَيْنِ» ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً، وَأَصْحَابُ الْمَائِدَةِ لَمَّا كَفَرُوا، قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 «اللَّهُمَّ عَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ مَا أَكَلَ مِنَ الْمَائِدَةِ عَذَابًا لَمْ تُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَالْعَنْهُمْ كَمَا لَعَنْتَ أَصْحَابَ السَّبْتِ، فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ» . وَأَنَّ هَذَا مَعْنَى لَعْنِهِمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ، قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ، هُوَ مَا قَصَدْتُمْ عَقْدَ الْيَمِينِ فِيهِ، لَا مَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوَ «لَا وَاللَّهِ» وَ «بَلَى وَاللَّهِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: [الطَّوِيلُ] وَلَسْتَ بِمَأَخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ ... إِذَا لَمْ تَعْمَدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ وَهَذَا الْعَقْدُ مَعْنَوِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: [الْبَسِيطُ] قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا ... الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: عَقَدْتُمْ [5 \ 89] ، بِالتَّخْفِيفِ بِلَا أَلِفٍ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: عَاقَدْتُمْ بِأَلِفٍ بِوَزْنِ فَاعِلٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَالتَّضْعِيفُ وَالْمُفَاعَلَةُ: مَعْنَاهُمَا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَقَدْتُمْ بِلَا أَلِفٍ، وَلَا تَضْعِيفٍ، وَالْقِرَاءَاتُ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: بِمَا عَقَّدْتُمْ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا مَوْصُولَةٌ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ زَاعِمًا أَنَّ ضَمِيرَ الرَّابِطِ مَحْذُوفٌ. وَفِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ، أَشْهَرُهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ اثْنَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ: «لَا وَاللَّهِ» وَ «بَلَى وَاللَّهِ» . وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ: الشَّافِعِيُّ، وَعَائِشَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعِكْرِمَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالضَّحَّاكِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، فَيَظْهَرَ نَفْيُهُ، وَهَذَا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَحْسَنُ مَا سَمِعَ فِي مَعْنَى اللَّغْوِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْحَسَنِ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، وَأَبِي مَالِكٍ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ عِكْرِمَةَ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَطَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَاللَّغْوُ يَشْمَلُهُمَا ; لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يَقْصِدْ عَقْدَ الْيَمِينِ أَصْلًا، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْحَقَّ وَالصَّوَابَ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْأَقْوَالِ تَرَكْتُهُ لِضَعْفِهِ فِي نَظَرِي، وَاللَّغْوُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْكَلَامُ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ أَوْ لَغَيْتَ» . وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ: [الرَّجَزُ] وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: اثْنَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: الْأَيْمَانُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا. خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي «سُنَنِهِ» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ، وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ. فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ يُكَفَّرَانِ، فَالرَّجُلُ الَّذِي يَحْلِفُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَلُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، فَلَا يَفْعَلُ. وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ، فَالرَّجُلُ يَحْلِفُ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ فَعَلَ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ: لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي «جَامِعِهِ» ، وَذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ سُفْيَانُ: الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: «وَاللَّهِ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أَفْعَلُ» ثُمَّ يَفْعَلُ، أَوْ يَقُولَ: «وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ» ثُمَّ لَا يَفْعَلُ. وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: «وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ» ، وَقَدْ فَعَلَ، أَوْ يَقُولَ: «وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ» وَمَا فَعَلَ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ، فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِمَا فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْدَ نَفْسِهِ صَادِقًا يُرَى أَنَّهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ فَعَلَ، مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِمٌ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: يُكَفِّرُ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمِيلُ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ حَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي حَلِفِ الْإِنْسَانِ «لَأَفْعَلَنَّ» أَوْ «لَا أَفْعَلُ» . وَأَمَّا حَلِفُهُ عَلَى وُقُوعِ أَمْرٍ غَيْرِ فِعْلِهِ، أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ كَذَا، أَوْ لَمْ يَقَعْ فِي الْوُجُودِ كَذَا، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ أَنَّهُ وَاقِعٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ مُتَعَمِّدًا الْكَذِبَ فَهِيَ يَمِينٌ غَمُوسٌ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ وُقُوعَهُ فَظَهَرَ نَفْيُهُ فَهِيَ مِنْ يَمِينِ اللَّغْوِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَإِنْ كَانَ شَاكًّا فَهُوَ كَالْغَمُوسِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْغَمُوسِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ لَا يَدْرِي أَيَقَعُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا يَدْخُلُ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْغَمُوسِ لَا تُكَفَّرُ ; لِأَنَّهَا أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ أَنْ تُكَفِّرَهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِالْكَفَّارَةِ فِيهَا، وَفِيهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ مُنْقَسِمَةٌ أَيْضًا إِلَى يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلَى بِرٍّ، وَيَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلَى حِنْثٍ، فَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ هِيَ الَّتِي لَا يَلْزَمُ حَالِفَهَا تَحْلِيلُ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ: «وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا» ، وَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى حِنْثٍ، هِيَ الَّتِي يَلْزَمُ صَاحِبَهَا حَلُّ الْيَمِينِ بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْكَفَّارَةِ كَقَوْلِهِ: «وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا» ، وَلَا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فِي الْمُنْعَقِدَةِ عَلَى حِنْثٍ حَتَّى يَفُوتَ إِمْكَانُ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُوَقَّتَةً بِوَقْتٍ فَيَحْنَثُ بِفَوَاتِهِ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ كَقَوْلِهِ عَلَى طَلَاقِهَا: «لَأَفْعَلَنَّ كَذَا» ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ أَمْ يَحْنَثُ؟ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فَرْجٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ، لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَالطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ بِالْفِعْلِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ» ، وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينٌ بِمَخْلُوقٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِالنَّصِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ فِي مَنْعِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَوَقُّفِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُخْرَجُ مِنْ عُهْدَةِ الْيَمِينِ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: إِبْرَارُهَا بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: الْكَفَّارَةُ، وَهِيَ جَائِزَةٌ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ. الثَّالِثُ: الِاسْتِثْنَاءُ بِنَحْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حِلٌّ لِلْيَمِينِ لَا بَدَلَ مِنَ الْكَفَّارَةِ، كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ التَّلَفُّظِ بِهِ، وَالِاتِّصَالُ بِالْيَمِينِ، فَلَا يُقْبَلُ الْفَصْلُ بِغَيْرِ ضَرُورِيٍّ كَالسُّعَالِ، وَالْعُطَاسِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ جَوَازِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ. فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ يَلْزَمُهُ إِذَا قَالَ: «لَأَفْعَلَنَّ كَذَا» ، أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23، 24] ، فَإِنْ نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ بِـ «إِنْ شَاءَ» ، وَتَذَكَّرَهُ وَلَوْ بَعْدَ فَصْلٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ وَتَعْلِيقِهَا بِمَشِيئَتِهِ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحِلُّ الْيَمِينَ الَّتِي مَضَتْ وَانْعَقَدَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَيُّوبَ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [38 \ 44] ، وَلَوْ كَانَ تَدَارُكُ الِاسْتِثْنَاءِ مُمْكِنًا لَقَالَ لَهُ قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عُلِمَ انْعِقَادُ يَمِينٍ لِإِمْكَانِ أَنْ يَلْحَقَهَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَأَخِّرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِـ «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» يُفِيدُ فِي الْحَلِفِ بِاللَّهِ إِجْمَاعًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَيْرِهِ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ، كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَيْمَانًا، وَإِنَّمَا هِيَ تَعْلِيقَاتٌ لِلْعِتْقِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْيَمِينِ دُونَ التَّعْلِيقِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَطَاوُسٌ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الظِّهَارِ، وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ; لِأَنَّ الظِّهَارَ فِيهِ كَفَّارَةٌ فَهُوَ يَمِينٌ تَنْحَلُّ بِالِاسْتِثْنَاءِ، كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ وَالنَّذْرِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» عَنْ أَبِي مُوسَى، وَجَزَمَ هُوَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَنْ فِعْلِهِ نَاسِيًا، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: لَا حِنْثَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِالنِّسْيَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [33 \ 5] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] ، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ "، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ " قَدْ فَعَلْتُ " وَكَوْنُ مَنْ فَعَلَ نَاسِيًا لَا يَحْنَثُ هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَإِسْحَاقَ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي "، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 " الْمُغْنِي "، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُهُ عَمْدًا ; فَلَمَّا كَانَ عَامِدًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحِنْثِ، لَمْ يُعْذَرْ بِنِسْيَانِهِ الْيَمِينَ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَيُعْذَرُ بِهِ فِي غَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي "، قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ، وَصَاحِبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ حَقًّا لِلَّهِ وَحَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَالْحَالِفُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيَدَّعِي النِّسْيَانَ ; لِأَنَّ الْعَمْدَ مِنَ الْقُصُودِ الْكَامِنَةِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ حَقِيقَتُهَا لِلنَّاسِ، فَلَوْ عُذِرَ بِادِّعَاءِ النِّسْيَانِ لَأَمْكَنَ تَأْدِيَةُ ذَلِكَ إِلَى ضَيَاعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ أَمْرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ كَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ وَالتَّعَلُّلُ بِالْيَمِينِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [2 \ 224] ، أَيْ لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى مَانِعَةً لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهَا، وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَلِفِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، لِمَا قَالَ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا قَالَ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [24 \ 22] . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 كَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا مُتَمَسِّكًا بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا: «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ، وَهِيَ الصِّحَاحُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، لَمْ يُقَيِّدْ هُنَا رَقَبَةٍ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بِالْإِيمَانِ، وَقَيَّدَ بِهِ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً. وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي حَالَةِ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ، مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ فِيهِ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَتَقَيُّدُ رَقَبَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ بِالْقَيْدِ الَّذِي فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ خَطَأً، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ» ، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [4 \ 92] ; وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ بِهَا هُنَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْرِيرِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ الْأَسْرِ، وَالْمَشَقَّاتِ، وَتَعَبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَالِدَةِ مَرْيَمَ: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [3 \ 35] ، أَيْ مِنْ تَعَبِ أَعْمَالِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ التَّمِيمِيِّ: [الْكَامِلُ] أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ يَعْنِي حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ، فَلَا أَهْجُوكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ الْآيَةَ. يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ إِنَّهَا: رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مُسْتَقْذَرٍ تَعَافُّهُ النَّفْسُ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الرَّكْسِ، وَهُوَ الْعُذْرَةُ وَالنَّتْنُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَيَدُلُّ لِهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [76 \ 21] ; لِأَنَّ وَصْفَهُ لِشَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ خَمْرَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ كُلَّ الْأَوْصَافِ الَّتِي مَدَحَ بِهَا تَعَالَى خَمْرَ الْآخِرَةِ مَنْفِيَّةٌ عَنْ خَمْرِ الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [37 \ 47] ، وَكَقَوْلِهِ: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 19] ، بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فَفِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعُقُولَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وَأَهْلُهَا يُصَدَّعُونَ، أَيْ يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ بِسَبَبِهَا، وَقَوْلُهُ: لَا يُنْزَفُونَ، عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْكَرُونَ، وَالنَّزِيفُ السَّكْرَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: [الطَّوِيلُ] نَزِيفٌ تَرَى رَدْعَ الْعَبِيرِ يُجِيبُهَا كَمَا ... ضَرَّجَ الضَّارِي النَّزِيفَ الْمُكْلَمَا يَعْنِي أَنَّهَا فِي ثِقَلِ حَرَكَتِهَا كَالسَّكْرَانِ، وَأَنَّ حُمْرَةَ الْعَبِيرِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ فِي جَيْبِهَا كَحُمْرَةِ الدَّمِ عَلَى الطَّرِيدِ الَّذِي ضَرَّجَهُ الْجَوَارِحُ بِدَمِهِ، فَأَصَابَهُ نَزِيفُ الدَّمِ مِنْ جُرْحِ الْجَوَارِحِ لَهُ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الْمُتَقَارِبُ] وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيفِ ... يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبُهُرْ وَقَوْلُهُ أَيْضًا: [الطَّوِيلُ] نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ ... تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرَّخْصَ أَلَّا تَخْتَرَا وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَوْ جَمِيلٍ: [الْكَامِلُ] فَلَثَمَتْ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا ... شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ وَعَلَى قِرَاءَةِ يَنْزِفُونَ بِكَسْرِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا حَانَ مِنْهُمُ النُّزْفُ وَهُوَ السُّكْرُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: أَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا حَانَ حَصَادُهُ، وَأَقْطَفَ الْعِنَبُ إِذَا حَانَ قِطَافُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا فَنِيَتْ خُمُورُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: [الطَّوِيلُ] لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُوا أَوْ صَحَوْتُمُوا ... لَبِئْسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلٌ أَبْجَرَا وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَةِ عَيْنِهَا بِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهَا فِي الْآيَةِ مِنْ مَالِ مَيْسِرٍ، وَمَالِ قِمَارٍ، وَأَنْصَابٍ، وَأَزْلَامٍ لَيْسَتْ نَجِسَةَ الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: رِجْسٌ، يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْعَيْنِ فِي الْكُلِّ، فَمَا أَخْرَجَهُ إِجْمَاعٌ، أَوْ نَصٌّ خَرَجَ بِذَلِكَ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ لَزِمَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهِ ; لِأَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ بِمُخَصِّصٍ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ، لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي الْبَاقِي، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَهُوَ حُجَّةٌ لَدَى الْأَكْثَرِ إِنْ ... مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيِّنًا يَبِنْ وَعَلَى هَذَا، فَالْمُسْكِرُ الَّذِي عَمَّتِ الْبَلْوَى الْيَوْمَ بِالتَّطَيُّبِ بِهِ الْمَعْرُوفُ فِي اللِّسَانِ الدَّارِجِيِّ بِالْكُولَانْيَا نَجَسٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْمُسْكِرِ: فَاجْتَنِبُوهُ، يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسْكِرِ، وَمَا مَعَهُ فِي الْآيَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ أَنَّ التَّضَمُّخَ بِالطِّيبِ الْمَذْكُورِ، وَالتَّلَذُّذَ بِرِيحِهِ وَاسْتَطَابَتَهُ، وَاسْتِحْسَانَهُ مَعَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَاللَّهُ يُصَرِّحُ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّ الْخَمْرَ رِجْسٌ فِيهِ مَا فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِمَا يَسْمَعُ رَبَّهُ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ رِجْسٌ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْخَمْرِ فَلَوْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ أُخْرَى لَبَيَّنَهَا، كَمَا بَيَّنَ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ، وَلَمَا أَرَاقَهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَرَوِيُّ عَلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَرَاقُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ ; وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ ; وَلَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ، لَا دَلِيلَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَعُمُّ الطُّرُقَ، بَلْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ وَاسِعَةً، وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ كَثِيرَةً جِدًّا بِحَيْثُ تَكُونُ نَهَرًا أَوْ سَيْلًا فِي الطُّرُقِ يَعُمُّهَا كُلَّهَا، وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهَا، أَيْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا، أَنَّهُمْ إِنْ حَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ جَازَ لَهُمْ قَتْلُ الصَّيْدِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [5 \ 2] ، يَعْنِي إِنْ شِئْتُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا، الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا حَرَامَهُ، وَخَالَفَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ قَائِلًا: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [5 \ 95] ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِيهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً وَاضِحَةً دَالَّةً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدًا أَمْرًا لَا يَجُوزُ، أَمَّا النَّاسِي فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ إِجْمَاعًا، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [5 \ 95] ، كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، الْآيَةَ. ظَاهِرُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَشْمَلُ إِبَاحَةَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَهُ تَخْصِيصُهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِصَيْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِهِ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ [5 \ 96] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاصْطِيَادِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَهَذَا الْإِجْمَاعُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ الْوَحْشِيِّ كَالظَّبْيِ، وَالْغَزَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الصَّيْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَلَالٌ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمٌ أَمَامَهُمْ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَبُو قَتَادَةَ مَشْغُولٌ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَلَمْ يُؤْذُنُوهُ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنَّهُ أَبْصَرَهُ فَأَبْصَرَهُ فَأَسْرَجَ فَرَسَهُ ; ثُمَّ رَكِبَ وَنَسِيَ سَوْطَهُ وَرُمْحَهُ فَقَالَ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَغَضِبَ فَنَزَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فَأَخَذَهُمَا فَرَكِبَ فَشَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرَهُ ثُمَّ جَاءَ بِهِ وَقَدْ مَاتَ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَأَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَى أَكْلِهِ، وَنَاوَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَضُدَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، فَأَكَلَ مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِمُسْلِمٍ: «هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ» ، قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوهُ» . وَلِلْبُخَارِيِّ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا» ، أَوْ «أَشَارَ إِلَيْهَا» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» ، وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَا صَادَهُ مُحْرِمٌ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي صَادَهُ، وَلَا لِمُحْرِمٍ غَيْرِهِ، وَلَا لِحَلَالٍ غَيْرِ مُحْرِمٍ ; لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ حَلَالٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا صَادَهُ لِأَجْلِهِ، وَمَا صَادَهُ لَا لِأَجْلِهِ فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حَرَامٌ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ «لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ» . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ، وَقَالَ: «إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ إِنَّا حُرُمٌ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ مُطْلَقًا ; بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْحَلَالِ، كَحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمٍ مُحْرِمُونَ، فَأُهْدِيَ لَهُمْ طَيْرٌ، وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَرَّعَ فَلَمْ يَأْكُلْ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَحَدِيثِ الْبَهْزِيِّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِمَارٍ وَحْشِيٍّ عَقِيرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فِي بَعْضِ وَادِي الرَّوْحَاءِ وَهُوَ صَاحِبُهُ: شَأْنُكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ، فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ فِي الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامَانِ مَالِكٌ فِي «مُوَطَّئِهِ» ، وَأَحْمَدُ فِي «مَسْنَدِهِ» ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَتِهِ مُطْلَقًا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا، هُوَ الْقَوْلُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ مَا صِيدَ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ; فَلَا يَحِلُّ لَهُ، وَبَيْنَ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ، لَا لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ; فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَا طَرِيقَ لِلْجَمْعِ إِلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا لَا بُدَّ أَنْ يُلْغِيَ نُصُوصًا صَحِيحَةً. الثَّانِي: أَنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ، فَإِنْ قِيلَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبِ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَمْرٌو مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبِ أَيْضًا: لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَابِرٍ، وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِلَّا قَوْلَهُ حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي رَدَّ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ عَمْرًا الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : ثِقَةٌ رُبَّمَا وَهِمَ، وَقَالَ فِيهِ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : أَمَّا تَضْعِيفُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فَغَيْرُ ثَابِتٍ ; لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ، وَمُسْلِمًا رَوَيَا لَهُ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَاحْتَجَّا بِهِ، وَهُمَا الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ، وَرَوَى عَنْهُ وَهُوَ الْقُدْوَةُ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي فِي كِتَابِهِ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهِ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هُوَ ثِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ ; لِأَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنْهُ، وَلَا يَرْوِي مَالِكٌ إِلَّا عَنْ صَدُوقٍ ثِقَةٍ، قُلْتُ: وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مُفَسَّرًا، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَا يُثْبِتُ تَضْعِيفَ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَابِرٍ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ لِلتِّرْمِذِيِّ: لَا أَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا قَوْلَهُ: حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي رَدَّ رِوَايَتِهِ، لِمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْمُعَاصَرَةِ. وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتَ اللُّقْيِ، وَأَحْرَى ثُبُوتُ السَّمَاعِ، كَمَا أَوْضَحَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُقَدِّمَةِ «صَحِيحِهِ» ، بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ، أَنَّ الْمُطَّلِبَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَ، صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالسَّمَاعِ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِلَا شَكٍّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَأَمَّا إِدْرَاكُ الْمُطَّلِبِ لِجَابِرٍ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرَوَى عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَهُ، هَذَا هُوَ كَلَامُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، فَحَصَلَ شَكٌّ فِي إِدْرَاكِهِ، وَمَذْهَبُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الَّذِي ادَّعَى فِي مُقَدِّمَةِ «صَحِيحِهِ» الْإِجْمَاعَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اتِّصَالِ الْحَدِيثِ اللِّقَاءُ، بَلْ يُكْتَفَى بِإِمْكَانِهِ، وَالْإِمْكَانُ حَاصِلٌ قَطْعًا، وَمَذْهَبُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ، وَالْأَكْثَرِينَ اشْتِرَاطُ ثُبُوتِ اللِّقَاءِ، فَعَلَى مَذْهَبِ مُسْلِمٍ الْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ يَكُونُ مُرْسَلًا لِبَعْضِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا إِذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ ; أَوْ قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ. وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْحَدِيثُ، فَقَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ سَنَذْكُرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ. اهـ. كَلَامُ النَّوَوِيِّ، فَظَهَرَتْ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ، عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَجُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 بِالْمُرْسَلِ، وَقَدْ عَرَفْتَ احْتِجَاجَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَقْدِيرِ إِرْسَالِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: نَعَمْ، يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ، وَالْمُطَّلِبُ الْمَذْكُورُ مُدَلِّسٌ، لَكِنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا اعْتَضَدَ بِغَيْرِهِ كَمَا هُنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ مُوَافَقَةَ الشَّافِعِيَّةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ بِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَحْذِفُ الْوَاسِطَةَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِسْبَةِ الْحَدِيثِ لِمَنْ فَوْقَهَا، إِلَّا وَهُوَ جَازِمٌ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فِيمَنْ حَذَفَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُرْسَلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَسْنَدِ ; لِأَنَّهُ مَا حَذَفَ الْوَاسِطَةَ فِي الْمُرْسَلِ إِلَّا وَهُوَ مُتَكَفِّلٌ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فِيمَا حَذَفَ بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ، فَإِنَّهُ يُحِيلُ النَّاظِرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْمُرْسَلِ: [الرَّجَزُ] وَهُوَ حُجَّةٌ وَلَكِنْ رُجِّحَا ... عَلَيْهِ مُسْنَدٌ وَعَكْسٌ صُحِّحَا وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، فَظَهَرَتْ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْخَطِيبِ وَابْنِ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» وَغَيْرِهِ وَهُوَ يُقَوِّيهِ. وَإِنْ كَانَ عُثْمَانُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفًا ; لِأَنَّ الضَّعِيفَ يُقَوِّي الْمُرْسَلَ، كَمَا عُرِفَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا صَالِحٌ، وَأَنَّهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِعَيْنِ الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلًا، فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى مَنْعِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ الْحَلَالُ كُلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ صَادَهُ لِأَجْلِ مُحْرِمٍ مُعَيَّنٍ حَرُمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُحْرِمِينَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا يَحْرُمُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْمُحْرِمِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ لَهَا؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوهُ» ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ إِشَارَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهُمْ، وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ دُعِيَ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 طَعَامٍ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَقَالَ: «أَطْعِمُوهُ حَلَالًا فَإِنَّا حُرُمٌ» ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَعَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا تَجُوزُ زَكَاةُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ بِأَنْ يَذْبَحَهُ مَثَلًا، فَإِنْ ذَبَحَهُ فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَتْلِهِ بِالْعَقْرِ وَقَتْلِهِ بِالذَّبْحِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [5 \ 95] ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَقَالَ الْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَغَيْرُهُ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ أَبَاحَتْ ذَكَاتُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَبَاحَتِ الصَّيْدَ كَالْحَلَالِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ ذَبْحَ الْمُحْرِمِ لَا يُحِلُّ الصَّيْدَ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَكَاةً لَهُ ; لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ ذَكَاتَهُ لَا تُحِلُّ لَهُ هُوَ أَكْلَهُ إِجْمَاعًا، وَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ، فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يُفِيدَ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُوَ صَيْدٌ إِجْمَاعًا، وَهُوَ مَا كَالْغَزَالِ مِنْ كُلِّ وَحْشِيٍّ حَلَالِ الْأَكْلِ، فَيُمْنَعُ قَتْلُهُ لِلْمُحْرِمِ، وَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَقِسْمٌ لَيْسَ بِصَيْدٍ إِجْمَاعًا، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، وَلَيْسَ بِصَيْدٍ إِجْمَاعًا فَهُوَ الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَكَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبِ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسَقَ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ» ، ثُمَّ عَدَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَّةَ أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ الْعَقْرَبِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى» ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو سُئِلَ: مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: «حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالْغُرَابِ، وَالْحَيَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَالْجَارِي عَلَى الْأُصُولِ تَقْيِيدُ الْغُرَابِ بِالْأَبْقَعِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي عَدِّ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ. وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَمَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ رِوَايَاتِ الْغُرَابِ بِالْإِطْلَاقِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَيْدِ بِالْأَبْقَعِ لَا يَنْهَضُ، إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُطْلَقٍ ; لِأَنَّ الْقَيْدَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْمُطْلَقِ. وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ بِمَنْعِ قَتْلِ الْغُرَابِ لِلْمُحْرِمِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ، وَقَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إِنَّ قَتْلَ الْفَأْرَةِ جَزَاءٌ، لِمُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلنَّصِّ وَقَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِ الْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ: «لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْعَقْرَبَ، وَالْحَيَّةَ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ كَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ الْكَلْبِ ; لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْهُ عَقْرًا، وَأَشَدُّ مِنْهُ فَتْكًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَنَّهُ الْأَسَدُ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: وَأَيُّ كَلْبٍ أَعْقَرُ مِنَ الْحَيَّةِ. وَقَالَ زُفَرُ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الذِّئْبُ خَاصَّةً، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ، وَعَدَا عَلَيْهِمْ، وَأَخَافَهُمْ، مِثْلُ الْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبِ فَهُوَ عَقُورٌ، وَكَذَا نَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ هُنَا هُوَ الْكَلْبُ الْمُتَعَارَفُ خَاصَّةً، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سِوَى الذِّئْبِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 [5 \ 4] ، فَاشْتَقَّهَا مِنَ اسْمِ الْكَلْبِ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ أَبِي لَهَبٍ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ، فَقَتَلَهُ الْأَسَدُ» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّيْدِ، فَيَجُوزُ قَتْلُهَا لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ. لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ «الْعَقُورُ» عِلَّةٌ لِقَتْلِ الْكَلْبِ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ طَبْعُهُ الْعَقْرُ كَذَلِكَ. وَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» ، أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي هِيَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْغَضَبُ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا فَيَمْتَنِعُ الْحُكْمُ لِلْقَاضِي بِكُلِّ مُشَوِّشٍ لِلْفِكْرِ، مَانِعٍ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ كَائِنًا مَا كَانَ غَضَبًا أَوْ غَيْرَهُ، كَجُوعٍ وَعَطَشٍ مُفْرِطَيْنِ، وَحُزْنٍ وَسُرُورٍ مُفْرِطَيْنِ، وَحَقْنٍ وَحَقَبٍ مُفْرِطَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» قَوْلُهُ فِي مَبْحَثِ الْعِلَّةِ: [الرَّجَزُ] وَقَدْ تُخَصَّصُ وَقَدْ تُعَمَّمُ ... لِأَصْلِهَا لَكِنَّهَا لَا تُخْرَمُ وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: «الْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفُوَيْسِقَةُ، وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَضَعَّفَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِيهِ لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: «وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ» ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : إِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ حُمِلَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَأَكَّدُ نَدْبُ قَتْلِ الْغُرَابِ كَتَأْكِيدِ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ مُتَعَقَّبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ مِنْ رِجَالِ صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ «صَحِيحِهِ» ، أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُمْ فِي غَيْرِ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ قَبُولُ الرِّوَايَةِ فَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: [الرَّجَزُ] فَاحْتَاجَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ ... إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ مَا ثَبَتَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فِي الْإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُرَادِ بِهِ، أَوْ يُلْحَقَ بِهِ إِلْحَاقًا صَحِيحًا لَا مِرَاءَ فِيهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ يُلْحَقُ بِهِ الذِّئْبُ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ فَتْكَ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ مَثَلًا، أَشَدُّ مِنْ عَقْرِ الْكَلْبِ وَالذِّئْبِ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَاضِحِ أَنْ يُبَاحَ قَتْلُ ضَعِيفِ الضَّرَرِ، وَيُمْنَعَ قَتْلُ قَوِيِّهِ ; لِأَنَّ فِيهِ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَزِيَادَةً، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِلْحَاقِ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ، لَا مِنَ الْقِيَاسِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ، وَلَا يَحْمِلُ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ فَقَطْ، فَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ فِي قَتْلٍ مَا لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ، وَالصِّغَارُ مِنْهُ وَالْكِبَارُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، إِلَّا الْمُتَوَلِّدَ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ، فَلَا يَجُوزُ اصْطِيَادُهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ، كَالسَّمْعِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ بَيْنِ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الرَّخَمَةِ، وَالْخَنَافِسِ، وَالْقِرْدَانِ، وَالْحَلَمِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [5 \ 96] ، فَدَلَّ أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، هُوَ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. أَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَعْدُو مِنَ السِّبَاعِ، كَالْهِرِّ، وَالثَّعْلَبِ، وَالضَّبُعِ وَمَا أَشْبَهَهَا، لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ. فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ، قَالَ: وَصِغَارُ الذِّئَابِ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُحْرِمِ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا، وَهِيَ مِثْلُ فِرَاخِ الْغِرْبَانِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا الضَّبُعُ فَلَيْسَتْ مِثْلَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، دُونَ غَيْرِهَا ; بِأَنَّهَا صَيْدٌ يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ الزُّنْبُورِ، وَكَذَلِكَ النَّمْلُ، وَالذُّبَابُ، وَالْبَرَاغِيثُ، وَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 إِنْ قَتَلَهَا مُحْرِمٌ يُطْعِمُ شَيْئًا، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِبَاحَةُ قَتْلِ الزُّنْبُورِ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَبَّهَهُ بِالْعَقْرَبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِذَا ابْتَدَأَ بِالْأَذَى جَازَ قَتْلُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَأَقْيَسُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا طَبِيعَتُهُ أَنْ يُؤْذِيَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ الْمَأَكُولِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا صَادَ الصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلَكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [5 \ 95] . اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا، أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ قَتْلَهُ، ذَاكِرٌ إِحْرَامَهُ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ. وَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ مُجَاهِدٌ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ لِقَتْلِهِ نَاسٍ لِإِحْرَامِهِ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، قَالَ: لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ; لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ، فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ، غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِلَا دَلِيلٍ ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورِ، وَالنَّاسِي لِلْإِحْرَامِ غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ مَحْظُورًا. إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا، عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ، عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حُكْمَ النَّاسِي، وَالْمُخْطِئِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ مَنْ يَقْصِدُ قَتْلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ مَنْ يَرْمِي غَيْرَ الصَّيْدِ، كَمَا لَوْ رَمَى غَرَضًا فَيَقْتُلُ الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِقَتْلِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [33 \ 5] ، وَلِمَا قَدَّمْنَا فِي «صَحِيحٍ مُسْلِمٍ» : «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 قَرَأَ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] ، أَنَّ اللَّهَ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ» . أَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَإِ، وَالنِّسْيَانِ ; لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ غُرْمَ الْمَتْلَفَاتِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَقَالُوا: لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِقَوْلِهِ مُتَعَمِّدًا ; لِأَنَّهُ جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ، إِذِ الْغَالِبُ أَلَّا يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ إِلَّا عَامِدًا، وَجَرَى النَّصُّ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ خِطَابِهِ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: [الرَّجَزُ] أَوْ جَهِلَ الْحُكْمَ أَوِ النُّطْقُ انْجَلَبْ ... لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [4 \ 23] ; لِجَرْيهِ عَلَى الْغَالِبِ، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ، كَالزُّهْرِيِّ: وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ، وَمَا أَحْسَنَهَا أُسْوَةً. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الضَّبُعِ، فَقَالَ: «هِيَ صَيْدٌ» ، وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، فَدَلَّ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: مُتَعَمِّدًا، لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُزَ عَنِ الْخَطَإِ، وَذِكْرُ التَّعَمُّدِ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ كَابْنِ آدَمَ الَّذِي لَيْسَ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا كَفَّارَةٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُخْطِئِ، وَالنَّاسِي، وَالْعَامِدِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّاسِيَ، وَالْمُخْطِئَ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرَيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَعَمِّدِ لَيْسَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَمَنِ ادَّعَى شَغْلَهَا، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ جِدًّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا صَادَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ، فَأَكَلَ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَتْلِهِ، وَلَيْسَ فِي أَكْلِهِ إِلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَيْضًا جَزَاءَ مَا أَكَلَ، يَعْنِي قِيمَتَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ، وَيُرْوَى مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَطَاءٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ ; لِأَنَّ تَكْرَارَ الْقَتْلِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْجَزَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ عَادَ لِقَتْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَشُرَيْحٌ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَضْرِبُ حَتَّى يَمُوتَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءٌ ; لِتَسَبُّبِهِ فِي قَتْلِ الْحَلَالِ لِلصَّيْدِ بِدَلَالَتِهِ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ الدَّالَّ يَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَامِلًا، وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَبَكْرٍ الْمُزَنِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ سُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ: «هَلْ أَشَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ عَلَى الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ؟» . فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمْ لَوْ دَلُّوهُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ صَادُوهُ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ ; وَيُفْهَمُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ذَلِكَ لُزُومُ الْجَزَاءِ، وَالْقَاعِدَةُ لُزُومُ الضَّمَانِ لِلْمُتَسَبِّبِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُ الْمُبَاشِرِ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ الصَّيْدَ ; لِأَنَّهُ حَلَالٌ، وَالدَّالُّ مُتَسَبِّبٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِهِ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الدَّلَالَةَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ خَفَاءَ الصَّيْدِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ دُونَ الدَّلَالَةِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ، قَالُوا: لِأَنَّ الصَّيْدَ يُضْمَنُ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ لَمْ يَقْتُلْهُ وَإِذَا عَلِمَ الْمُحْرِمُ أَنَّ الْحَلَالَ صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ ; فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا عِنْدَ مَالِكٍ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي «مُوَطَّئِهِ» ، وَأَمَّا إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا آخَرَ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ «الْمُغْنِي» . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُبَاشِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ الدَّالِّ شَيْءٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ فِي الضَّمَانِ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ ; لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ: فَعَلَى الدَّالِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ حُكْمَ مَا لَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا، ثُمَّ دَلَّ هَذَا الثَّانِي مُحْرِمًا ثَالِثًا، وَهَكَذَا، فَقَتَلَهُ الْأَخِيرُ، إِذْ لَا يَخْفَى مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شُرَكَاءُ فِي جَزَاءٍ وَاحِدٍ. وَعَلَى الثَّانِي، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ، لَا شَيْءَ إِلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ بِأَنْ بَاشَرُوا قَتْلَهُ كُلَّهُمْ، كَمَا إِذَا حَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، كَمَا لَوْ قَتَلَتْ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِهِ جَمِيعًا ; لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَاتِلٌ. وَكَذَلِكَ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ قَاتِلٌ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ: عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ; لِقَضَاءِ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ: أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَحْرَمُوا فَمَرَّتْ بِهِمْ ضُبُعٌ فَحَذَفُوهَا بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَتَوُا ابْنَ عُمَرَ، فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ، قَالُوا: أَوَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا كَبْشٌ؟ قَالَ: إِنَّكُمْ لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ. قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ أَيْ لَمُشَدَّدٌ عَلَيْكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ أَصَابُوا ضَبُعًا فَقَالَ: عَلَيْهِمْ كَبْشٌ يَتَخَارَجُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ الصَّيْدَ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ; بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَّاصُ، وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ وَهُمْ مُحِلُّونَ ; فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ أَوِ الْحَرَمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ الْحَرَمَ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي الْحَالَتَيْنِ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ، قَالَ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَقَدِ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّمَا أَتْلَفُوا دَابَّةً مُحْتَرَمَةً، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً ; فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ عَلَيْنَا. اهـ. مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ كَبَقَرَةِ الْوَحْشِ، وَقِسْمٌ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَعْتَبِرُونَ الْمِثْلِيَّةَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجُمْهُورَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ الْقِيمَةُ، أَيْ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ، أَوْ أَقْرَبِ مَوْضِعٍ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ الصَّيْدُ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ، فَيَشْتَرِي بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ، أَوْ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا، وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مُعْتَبِرًا فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةً، وَفِي الظَّبْيِ شَاةً ; لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدْلَيْنِ وَالنَّظَرِ مَا تَشَكَّلَ الْحَالُ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ وَجْهُ النَّظَرِ. وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ: الْمُشَابَهَةُ لِلصَّيْدِ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مِنْهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ الْآيَةَ، فَالْمِثْلُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمِثْلَ الْخِلْقِيَّ الصُّورِيَّ دُونَ الْمَعْنَوِيِّ، ثُمَّ قَالَ: مِنَ النَّعَمِ، فَصَرَّحَ بِبَيَانِ جِنْسِ الْمِثْلِ، ثُمَّ قَالَ: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِسِوَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ. ثُمَّ قَالَ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَالَّذِي يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا، وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْرٌ فِي نَفْسِ الْآيَةِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ شِرَاءُ الْهَدْيِ بِهَا يُعِيدُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، وَقَوْلُهُ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ الْخِلْقِيُّ مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ؟ ، أُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الصَّيْدِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ، وَمَا لَا جِنْسَ لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْسٌ، وَإِلْحَاقُ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْآيَةِ التَّقْرِيبُ، وَإِذًا فَنَوْعُ الْمُمَاثَلَةِ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْفِطْنَةِ التَّامَّةِ، كَكَوْنِ الشَّاةِ مَثَلًا لِلْحَمَامَةِ ; لِمُشَابَهَتِهَا لَهَا فِي عَبِّ الْمَاءِ وَالْهَدِيرِ. وَإِذَا عَرَفْتَ التَّحْقِيقَ فِي الْجَزَاءِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ، وَالصِّيَامِ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ «أَوْ» حَرْفُ تَخْيِيرٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. فَإِنِ اخْتَارَ جَزَاءً بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، وَجَبَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ كُلُّهُ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 \ 33] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنًى، وَإِنِ اخْتَارَ الطَّعَامَ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ، أَنَّهُ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بِالطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: إِنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ قَوَّمَ الدَّرَاهِمَ بِالطَّعَامِ، أَجْزَأَهُ. وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ ; فَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ تَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَتَمَّمَهُ مُدًّا كَامِلًا عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ، أَمَّا إِذَا صَامَ، فَإِنَّهُ يُكْمِلُ الْيَوْمَ الْمُنْكَسِرَ بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا اخْتَارَ الْإِطْعَامَ، أَوِ الصِّيَامَ، فَلَا يُقَوَّمُ الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ، وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ تُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ بِالطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَيُتَمِّمُ الْمُنْكَسِرَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْخِيَارَ لِقَاتِلِ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ دَافِعُ الْجَزَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْخِيَارُ لِلْعَدْلَيْنِ الْحَكَمَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلْمُحَكِّمَيْنِ إِذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ، أَنْ يُخَيِّرَا قَاتِلَ الصَّيْدِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ لَزِمَهُ، وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ، إِلَّا إِذَا اخْتَارَهُ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ، لِلتَّخْيِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَالْوَاجِبُ الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالْإِطْعَامُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصَّوْمُ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي هَذَا مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، بِلَا دَلِيلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا وَاحِدًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ يَصُومُ عَدْلَ الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ، وَلَوْ زَادَ الصِّيَامُ عَنْ شَهْرَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَتَجَاوَزُ صِيَامَ الْجَزَاءِ شَهْرَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يُخَالِفُهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يُقَالُ: كَمْ رَجُلًا يَشْبَعُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ؟ ; فَيَعْرِفُ الْعَدَدَ، ثُمَّ يُقَالُ: كَمْ مِنَ الطَّعَامِ يُشْبِهُ هَذَا الْعَدَدَ؟ فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَدَدَ أَمْدَادِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ احْتَاطَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّيْدِ مِنَ الطَّعَامِ قَلِيلَةً، فَبِهَذَا النَّظَرِ يَكْثُرُ الْإِطْعَامُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ، وَاحِدٌ مِنْهَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَرَمُ إِجْمَاعًا، وَهُوَ الْهَدْيُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَاحِدٌ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَرَمُ إِجْمَاعًا، وَهُوَ الصَّوْمُ، وَوَاحِدٌ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُطْعِمُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ فِي مَوْضِعِ إِصَابَةِ الصَّيْدِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ حَيْثُ شَاءَ، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ، أَوْ نَظِيرٌ لَهُ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُمْ إِجْمَاعًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ لَا حَقَّ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ، فَلَهُ فِعْلُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّيْدُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ ; فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ، ثُمَّ يُعْرَفُ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُخْرِجُهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. فَتَحَصَّلَ أَنَّ مَالَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: هِيَ الْهَدْيُ بِمِثْلِهِ، وَالْإِطْعَامُ، وَالصِّيَامُ، وَأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَقَطْ: وَهُمَا الْإِطْعَامُ، وَالصِّيَامُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ - النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوِ التَّابِعَيْنِ مَثَلًا. الثَّالِثَةُ: أَلَّا يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَالَّذِي حَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْحِكَمُ فِيهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ كَالضَّبُعِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهَا بِكَبْشٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» مَا نَصُّهُ: حَدِيثُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الضَّبُعِ فَقَالَ: «هُوَ صَيْدٌ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ» ، وَلَفْظُ الْحَاكِمِ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا» ، وَجَعْلَهُ مِنَ الصَّيْدِ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ نَجْدِيًّا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ عَنْهُ الْبُخَارِيَّ فَصَحَّحَهُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَقَدْ أَعْلَّ بِالْوَقْفِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: «لَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ» . الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ مَوْقُوفًا، وَصَحَّحَ وَقْفَهُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 هَذَا الْبَابِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الضَّبُعُ صَيْدٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ» ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، وَقَدْ أَعَلَّ بِالْإِرْسَالِ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا وَقَالَ: لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ لَوِ انْفَرَدَ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا أَيْضًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: قَضَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشٍ ثَابِتٌ كَمَا رَأَيْتَ تَصْحِيحَ الْبُخَارِيِّ وَعَبْدِ الْحَقِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَالْحَدِيثُ إِذَا ثَبَتَ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ لَا يَقْدَحُ فِيهِ الْإِرْسَالُ وَلَا الْوَقْفُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ ; لِأَنَّ الْوَصْلَ وَالرَّفْعَ مِنَ الزِّيَادَاتِ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزَيْدُ اللَّفْظِ ... مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ إِلَخْ وَأَمَّا إِنْ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَتَّبِعُ حُكْمَهُمْ وَلَا حَاجَةَ إِلَى نَظَرِ عَدْلَيْنِ وَحُكْمِهِمَا مِنْ جَدِيدٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [5 \ 95] ، وَقَدْ حَكَمَا بِأَنَّ هَذَا مِثْلٌ لِهَذَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ عَدْلَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَوِ اجْتَزَأَ بِحُكْمِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكَانَ حَسَنًا. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ فِي كُلِّ صَيْدٍ مَا عَدَا حَمَامَ مَكَّةَ، وَحِمَارَ الْوَحْشِ، وَالظَّبْيَ، وَالنَّعَامَةَ ; فَيَكْتَفِي فِيهَا بِحُكْمِ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ حَكَمَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي ظَبْيٍ بِعَنْزٍ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الظَّبْيِ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: «فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ» ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَالْبَقَرَةِ بَقَرَةً، وَأَنَّ فِي الْأَيِّلِ بَقَرَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَى الْأَجْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَضَى فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَقَالَ: «هِيَ تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ، وَهِيَ تَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ، وَهِيَ تَجْتَرُّ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَضَى فِي الْيَرْبُوعِ بِحَفْرٍ أَوْ جَفْرَةٍ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجَفْرُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ، وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ مَعِي حَكَمٌ حَكَمْتُ فِي الثَّعْلَبِ بِجَدْيٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَأَرْبَدَ - رَضِيَ اللَّهُ - عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي ضَبٍّ قَتَلَهُ أَرْبَدُ الْمَذْكُورُ بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ حَكَمَ فِي أُمِّ حُبَيْنٍ بِجِلَّانَ مِنَ الْغَنَمِ، وَالْجِلَّانُ الْجَدْيُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. تَنْبِيهٌ أَقَلُّ مَا يَكُونُ جَزَاءً مِنَ النَّعَمِ عِنْدَ مَالِكٍ شَاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً، فَلَا جَزَاءَ عِنْدِهِ بِجَفْرَةٍ، وَلَا عَنَاقٍ، مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ كَالدِّيَةِ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ يَصِحُّ هَدْيًا، فَفِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ عِنْدَهُ قِيمَتُهَا طَعَامًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَزَاءِ الصَّغِيرِ بِالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ بِالْكَبِيرِ، هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، يَعْنِي مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ الَّذِي هُوَ اعْتِبَارُ الصِّغَرِ، وَالْكِبْرِ، وَالْمَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إِذَا كَانَ مَا أَتْلَفَهُ الْمُحْرِمُ بَيْضًا، فَقَالَ مَالِكٌ: فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ، وَفِي بَيْضِ الْحَمَامَةِ الْمَكِّيَّةِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ الْفَرْخُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَإِنِ اسْتَهَلَّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا كَجَزَاءِ الْكَبِيرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّيْرِ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّارِ بِحُكُومَةِ عَدْلَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ فِي بَيْضِ كُلِّ طَائِرٍ قِيمَتَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهُ مُحْرِمٌ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي بَيْضَةِ نَعَامٍ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ» ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ فِيلًا فَقِيلَ: فِيهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهِجَانِ الْعِظَامِ الَّتِي لَهَا سَنَامَانِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْإِبِلِ ; فَيُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهِ طَعَامًا، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْعَمَلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الْفِيلُ فِي مَرْكَبٍ وَيُنْظَرَ إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ الْمَرْكَبُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْفِيلُ، وَيُجْعَلُ فِي الْمَرْكَبُ طَعَامٌ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَالْفِيلُ فِيهِ، وَهَذَا عَدْلُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَأَمَّا إِنْ نَظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ، فَهُوَ يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ عِظَامِهِ وَأَنْيَابِهِ ; فَيَكْثُرُ الطَّعَامُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي اعْتِبَارِ مِثْلِ الْفِيلِ طَعَامًا فِيهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ غَالِبًا ; لِأَنَّ نَقْلَ الْفِيلِ إِلَى الْمَاءِ، وَتَحْصِيلَ الْمَرْكَبِ، وَرَفْعَ الْفِيلِ فِيهِ، وَنَزْعَهُ مِنْهُ، لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ آحَادُ النَّاسِ غَالِبًا، وَلَا يَنْبَغِي التَّكْلِيفُ الْعَامُّ إِلَّا بِمَا هُوَ مَقْدُورٌ غَالِبًا لِكُلِّ أَحَدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْقِيمَةِ لَا تُعَدُّ ضَرَرًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ فِي الْإِحْرَامِ، وَمَنْ أَتْلَفَ فِي الْإِحْرَامِ حَيَوَانًا عَظِيمًا ; لَزِمَهُ جَزَاءٌ عَظِيمٌ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ تَابِعٌ لِعِظَمِ الْجِنَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مَمْنُوعٌ، وَأَنَّ قَطْعَ شَجَرِهِ، وَنَبَاتِهِ حَرَامٌ، إِلَّا الْإِذْخِرَ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ، إِلَّا لِمُعَرِّفٍ» . فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لِلْقُيُونِ وَالْبُيُوتِ، فَقَالَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ قَالَ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ» ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ ; فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَفِي لَفْظٍ «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» ، بَدَلَ قَوْلِهِ «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَجَرَ الْحَرَمِ وَنَبَاتَهُ طَرَفَانِ، وَوَاسِطَةُ طَرَفٍ، لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ إِجْمَاعًا، وَهُوَ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِ الْآدَمِيِّينَ، وَطَرَفٌ يَجُوزُ قَطْعُهُ إِجْمَاعًا، وَهُوَ مَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الزُّرُوعِ، وَالْبُقُولِ، وَالرَّيَاحِينِ وَنَحْوِهَا، وَطَرَفٌ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ مَا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْمُومِ، كَالْأَثْلِ، وَالْعَوْسَجِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ قَطْعِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ بِالْمَنْعِ، وَهُوَ أَحْوَطُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ نَبَتَ أَوَّلًا فِي الْحَلِّ، ثُمَّ نُزِعَ فَغُرِسَ فِي الْحَرَمِ جَازَ قَطْعُهُ، وَإِنْ نَبَتَ أَوَّلًا فِي الْحَرَمِ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُهُ، وَيَحْرُمُ قَطْعُ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَحْرِمُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِطَبْعِهِ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ مِنَ الْحَيَوَانِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: قِيَاسُ شَوْكِ الْحَرَمِ عَلَى سِبَاعِ الْحَيَوَانِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّبَاعَ تَتَعَرَّضُ لِأَذَى النَّاسِ، وَتَقْصِدُهُ، بِخِلَافِ الشَّوْكِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ» ، وَالْقِيَاسُ الْمُخَالِفُ لِلنَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ قَادِحٌ مُبْطِلٌ لِلدَّلِيلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الْيَابِسِ مِنَ الشَّجَرِ، وَالْحَشِيشِ، فَأَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ كَالصَّيْدِ الْمَيِّتِ، لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ» ; لِأَنَّ الْخَلَا هُوَ الرَّطْبُ مِنَ النَّبَاتِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْيَابِسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ قَطْعُ الْيَابِسِ مِنْهُ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِذْخِرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْرِيمِ الْيَابِسِ، وَبِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا» ، وَالْحَشِيشُ فِي اللُّغَةِ: الْيَابِسُ مِنَ الْعُشْبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَهُ أَحْوَطُ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي جَوَازِ تَرْكِ الْبَهَائِمِ تَرْعَى فِيهِ، فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَهُ بِأَنَّ مَا حَرُمَ إِتْلَافُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِ مَا يُتْلِفُهُ كَالصَّيْدِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ، فَوَجَدْتُ - النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنًى مِنَ الْحَرَمِ. الثَّانِي: أَنَّ الْهَدْيَ كَانَ يَدْخُلُ بِكَثْرَةٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ الْأَمْرُ بِسَدِّ أَفْوَاهِ الْهَدْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ نَبَاتِ الْحَرَمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَطَاءٌ، وَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِ الْوَرَقِ، وَالْمُسَاوِيكِ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، إِذَا كَانَ أَخْذُ الْوَرَقِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ يَضُرُّ بِالشَّجَرَةِ، فَمَنَعَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ; لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّهُمَا رَخَّصَا فِي وَرَقِ السَّنَا لِلِاسْتِمْشَاءِ بِدُونِ نَزْعِ أَصْلِهِ، وَالْأَحْوَطُ تَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَجَازَهُ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْإِذْخِرِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ مِنَ الْأَغْصَانِ، وَانْقَلَعَ مِنَ الشَّجَرِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ، وَلَا مَا سَقَطَ مِنَ الْوَرَقِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ; لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقَطْعِ، وَهَذَا لَمْ يَقْطَعْ، فَأَمَّا إِنْ قَطَعَهُ آدَمِيٌّ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ إِذَا قَطَعَ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَالَ فِي الدَّوْحَةِ تُقْطَعُ مِنْ شَبَهِهِ بِالصَّيْدِ لَمْ يُنْتَفَعْ بِحَطَبِهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَإِذَا قَطَعَهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، كَالصَّيْدِ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُبَاحَ لِغَيْرِ الْقَاطِعِ الِانْتِفَاعُ بِهِ ; لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ حَيَوَانٌ بَهِيمِيٌّ، وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ الَّذِي ذَبَحَهُ ; لَأَنَّ الذَّكَاةَ تُعْتَبَرُ لَهَا الْأَهْلِيَّةُ، وَلِهَذَا لَا تَحْصُلُ بِفِعْلِ بَهِيَمَةٍ بِخِلَافِ هَذَا. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وَقَالَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا: وَيُبَاحُ أَخْذُ الْكُمْأَةِ مِنَ الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ الْفَقْعُ ; لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ، وَرَوَى حَنْبَلٌ قَالَ: يُؤْكَلُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ الضَّغَابِيسُ وَالْعِشْرِقُ، وَمَا سَقَطَ مِنَ الشَّجَرِ، وَمَا أَنَبْتَ النَّاسُ. وَاخْتُلِفَ فِي عُشْبِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، هَلْ يَجُوزُ أَخْذُهُ لِعَلَفِ الْبَهَائِمِ؟ وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَلَالَ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ، وَهُوَ كَجَزَاءِ الْمُحْرِمِ الْمُتَقَدِّمِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ الصَّوْمُ ; لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مَحْضٌ مِنْ غَيْرِ مُحَرَّمٍ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ نَصٌّ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَقَوْلُهُ هَذَا قَوِيٌّ جِدًّا. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَضَوْا فِي حَمَامِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ بِشَاةٍ شَاةٍ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ ; فَيَكُونُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقِيَاسِهِ عَلَى صَيْدِ الْمُحْرِمِ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ صَيْدٌ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا يَضْمَنُهُ الْمُحْرِمُ يَضْمَنُهُ مَنْ فِي الْحَرَمِ يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْئَانِ: الْأَوَّلُ: مِنْهُمَا الْقَمْلُ، فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي قَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ بِلَا خِلَافٍ. وَالثَّانِي: الصَّيْدُ الْمَائِيُّ مُبَاحٌ فِي الْإِحْرَامِ بِلَا خِلَافٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اصْطِيَادِهِ مِنْ آبَارِ الْحَرَمِ وَعُيُونِهِ، وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» ; فَيَثْبُتُ حُرْمَةُ الصَّيْدِ لِحُرْمَةِ الْمَكَانِ، وَظَاهِرُ النَّصِّ شُمُولُ كُلِّ صَيْدٍ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ غَيْرُ مُؤْذٍ فَأَشْبَهَ الظِّبَاءَ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ; مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يُحَرِّمْهُ، فَكَذَلِكَ الْحَرَمُ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ وَخَلَاهُ، هَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَطَعَهُمَا ضَمَانٌ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ: لَا ضَمَانَ فِي شَجَرِهِ وَنَبَاتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَجِدُ دَلِيلًا أُوجِبُ بِهِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ فَرْضًا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. وَالَّذِينَ قَالُوا بِضَمَانِهِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَضْمَنُ كُلَّهُ بِالْقِيمَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: يَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَالْخَلَا بِقِيمَتِهِ، وَالْغُصْنَ بِمَا نَقَصَ، فَإِنْ نَبْتَ مَا قَطَعَ مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ الضَّمَانُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ سُقُوطِهِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وَفِي الشَّجَرَةِ الْجَزْلَةِ شَاةٌ، بِآثَارٍ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالدَّوْحَةُ: هِيَ الشَّجَرَةُ الْكَبِيرَةُ، وَالْجَزْلَةُ: الصَّغِيرَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: حَرَمُ الْمَدِينَةِ، اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ أَيْضًا لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجُمْهُورَ، فَقَالَ: إِنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحَرَمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْحَرَمِ مِنْ تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَقَطْعِ الشَّجَرِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ تَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَتَقْضِي بِأَنَّ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ حَرَمٌ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ إِلَّا لِعَلَفٍ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ "، الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: " لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ فِي الْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا "، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ، قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَرِّمُ شَجَرَهَا أَنْ يَخْبِطَ أَوْ يُعْضَدَ "، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 أَجْمَعِينَ "، وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا، أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ هِيَ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا "، الْحَدِيثَ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ، حَرَامٌ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَلَّا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرٌ إِلَّا لِعَلَفٍ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهُا، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ "، الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ " لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمَنْ أَشَادَ بِهَا، وَلَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلَاحَ لِقِتَالٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقْطَعَ فِيهَا شَجَرَةٌ، إِلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهُا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا ". وَقَالَ: " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا أَحَدٌ رَغْبَةً إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا، أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " إِنَّهَا حَرَمٌ آمِنٌ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ". قَالَ: وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَجِدُ فِي يَدِ أَحَدِنَا الطَّيْرَ، فَيَأْخُذُهُ فَيَفُكُّهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 يُرْسِلُهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ أَيْضًا "، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ الزُّرَقِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَصِيدُ الْعَصَافِيرَ فِي بِئْرِ إِهَابٍ، وَكَانَتْ لَهُمْ، قَالَ: فَرَآنِي عُبَادَةُ، وَقَدْ أَخَذْتُ عُصْفُورًا، فَانْتَزَعَهُ مِنِّي فَأَرْسَلَهُ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَرَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَكَّةَ "، وَكَانَ عُبَادَةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اصْطَدْتُ طَيْرًا بِالْقُنْبُلَةِ، فَخَرَجْتُ بِهِ فِي يَدِي، فَلَقِيَنِي أَبِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا فِي يَدِكَ؟ ، فَقُلْتُ: طَيْرٌ اصْطَدْتُهُ بِالْقُنْبُلَةِ، فَعَرَكَ أُذُنِي عَرْكًا شَدِيدًا، وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِي، فَأَرْسَلَهُ، فَقَالَ: " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَيْدَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، وَالْقُنْبُلَةُ: آلَةٌ يُصَادُ بِهَا النُّهَسُ وَهُوَ طَائِرٌ. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ وَجَدَ غِلْمَانًا قَدْ أَلْجَؤُوا ثَعْلَبًا إِلَى زَاوِيَةٍ فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " أَفِي حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْنَعُ هَذَا "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا بِالْأَسْوَافِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ - وَقَدِ اصْطَادَ نُهَسًا، فَأَخَذَهُ زَيْدٌ مِنْ يَدِهِ فَأَرْسَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ صَيْدَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالرَّجُلُ الَّذِي اصْطَادَ النُّهَسَ هُوَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ، وَالنُّهَسُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهُمَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ، طَيْرٌ صَغِيرٌ فَوْقَ الْعُصْفُورِ شَبِيهٌ بِالْقُنْبُرَةِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي أَوْرَدْنَا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَا شَكَّ مَعَهَا، وَلَا لَبْسَ فِي أَنَّهَا حَرَامٌ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا إِلَّا لِعَلَفٍ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ حَرَامٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ؟ "، لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، وَمُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَكُونَ صِيدَ فِي الْحِلِّ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْمَدِينَةَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إِمْسَاكِ الصَّيْدِ الَّذِي صِيدَ فِي الْحِلِّ وَإِدْخَالِهِ الْمَدِينَةَ، وَمَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَا تُعَارَضُ بِهِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا احْتِمَالَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْقَائِلِينَ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ اخْتَلَفُوا فِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، هَلْ يَضْمَنُهُ قَاتِلُهُ أَوْ لَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وَكَذَلِكَ شَجَرُهَا، فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَأَصْحَابُهُمَا، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ جَزَاءٌ كَصَيْدِ وَجٍّ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى فِيهَا مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا "، فَذِكْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً فِي الدُّنْيَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ تَجِبُ فِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْمَدِينَةَ مِثْلَ تَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ لِمَكَّةَ، وَمُمَاثَلَةُ تَحْرِيمِهَا تَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِي جَزَاءِ مَنِ انْتَهَكَ الْحُرْمَةَ فِيهِمَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْيَسُ عِنْدِي عَلَى أُصُولِنَا ; لَاسِيَّمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ، وَكَثْرَةِ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَدِينَةِ بِمِائَةِ ضِعْفٍ أَظْهَرُ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ فِيهِ هُوَ أَخْذُ سَلَبِ قَاتِلِ الصَّيْدِ، أَوْ قَاطِعِ الشَّجَرِ فِيهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا ; لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا، أَوْ يَخْبِطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "، وَأَحْمَدُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ قَوْلَهُ: " نَفَّلَنِيهِ " أَيْ أَعْطَانِيهِ، ظَاهِرٌ فِي الْخُصُوصِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فِيهِ عِنْدِي أَمْرَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا لَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِوَاءُ النَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَوْلُهُ " نَفَّلَنِيهِ " لَيْسَ بِدَلِيلٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ نَفَّلَ كُلَّ مَنْ وَجَدَ قَاطِعَ شَجَرٍ، أَوْ قَاتِلَ صَيْدٍ بِالْمَدِينَةِ ثِيَابَهُ، كَمَا نَفَّلَ سَعْدًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. الثَّانِي: أَنَّ سَعْدًا نَفْسَهُ رُوِيَ عَنْهُ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ، وَشُمُولُهُ لِغَيْرِهِ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ، فَجَاءَ مَوَالِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ، وَقَالَ: " مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَصِيدُ فِيهِ شَيْئًا فَلَكُمْ سَلَبُهُ " ; فَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أُعْطِيَكُمْ ثَمَنَهُ أَعْطَيْتُكُمْ "، وَفِي لَفْظٍ: " مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ ثِيَابَهُ "، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْعُمُومِ وَعَدَمِ الْخُصُوصِ بِسَعْدٍ كَمَا تَرَى، وَفِيهِ تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: " نَفَّلَنِيهِ " وَأَنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَ أَحَدًا يَفْعَلُ فِيهَا ذَلِكَ. وَتَضْعِيفُ بَعْضِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَقْبُولٌ، قَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ: تَابِعِيٌّ مُوَثَّقٌ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": مَقْبُولٌ. وَالْمَقْبُولُ عِنْدَهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي مُقَدِّمَةِ تَقْرِيبِهِ: هُوَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مَا يُتْرَكُ حَدِيثُهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ حَيْثُ يُتَابَعُ، وَإِلَّا فَلَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ. اهـ. وَقَدْ تَابَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ، وَمَوْلًى لِسَعْدٍ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، كُلُّهُمْ عَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاتَّضَحَ رَدُّ تَضْعِيفِهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ صَحَّحَهُ، وَأَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ فِيهِ: تَابِعِيٌّ مُوَثَّقٌ. وَالْمُرَادُ بِسَلَبِ قَاطِعِ الشَّجَرِ أَوْ قَاتِلِ الصَّيْدِ فِي الْمَدِينَةِ أَخَذُ ثِيَابِهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: حَتَّى سَرَاوِيلَهُ. وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ وُجُوبِ تَرْكِ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: السَّلَبُ هُنَا سَلَبُ الْقَاتِلِ، وَفِي مَصْرِفِ هَذَا السَّلَبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 أَصَحُّهَا: أَنَّهُ لِلسَّالِبِ كَالْقَتِيلِ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ سَعْدٍ الْمَذْكُورُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِفُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، أَنَّ قَدْرَهُ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا مِنْ جِهَاتِ الْمَدِينَةِ لَا يَجُوزُ قَطْعُ شَجَرِهِ، وَلَا خَلَاهُ، كَمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُخْبَطُ وَلَا يُعْضَدُ حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ يُهَشُّ هَشًّا رَفِيقًا " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي حَدِيثٍ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحُسْنُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ قَوِيٍّ لَكِنَّهُ لَمْ يُضَعِّفْهُ. اهـ، وَيُعْتَضَدُ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: " كَانَ جَدِّي مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَكَانَ يَلِي أَرْضًا لِعُثْمَانَ فِيهَا بَقْلٌ وَقِثَّاءٌ، قَالَ: فَرُبَّمَا أَتَانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِصْفَ النَّهَارِ، وَاضِعًا ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ يَتَعَاهَدُ الْحِمَى، أَلَّا يُعْضَدَ شَجَرُهُ، وَلَا يُخْبَطَ، قَالَ: فَيَجْلِسُ إِلَيَّ فَيُحَدِّثُنِي، وَأُطْعِمُهُ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْبَقْلِ، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: أَرَاكَ لَا تَخْرُجُ مِنْ هَاهُنَا، قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: إِنِّي أَسْتَعْمِلُكَ عَلَى مَا هَاهُنَا فَمَنْ رَأَيْتَ يَعْضَدُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُ فَخُذْ فَأْسَهُ وَحَبْلَهُ، قَالَ: قُلْتُ: آخُذُ رِدَاءَهُ، قَالَ: لَا " وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْحِمَى الْمَذْكُورَ غَيْرُ حَرَامٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حِمًى حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخَيْلِ وَإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي شَجَرِ الْحِمَى؛ هَلْ يَضْمَنُهُ قَاطِعُهُ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِيهِ بِالْقِيمَةِ، وَلَا يُسْلَبُ قَاطِعُهُ، وَتُصْرَفُ الْقِيمَةُ فِي مَصْرِفِ نَعَمِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِبَاحَةِ صَيْدِ وَجٍّ، وَقِطَعِ شَجَرِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَكْرَهُ صَيْدَ وَجٍّ، وَحَمَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَتِهِ، هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ كَحَرَمِ الْمَدِينَةِ أَوْ لَا شَيْءَ فِيهِ؟ وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ قَاتِلُهُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ صَيْدِ وَجٍّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَيْدُ وَجٍّ مُحَرَّمٌ» الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ، فَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِمَا نَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، وَكَذَا قَالَ الْأَزْدِيُّ. وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ صَحَّحَهُ، وَذَكَرَ الْخَلَّالُ أَنَّ أَحْمَدَ ضَعَّفَهُ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانٍ الطَّائِفِيُّ، كَانَ يُخْطِئُ، وَمُقْتَضَاهُ تَضْعِيفُ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ تُقَارِبُهُ فِي الضَّعْفِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانٍ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانٍ الثَّقَفِيِّ الطَّائِفِيِّ الْمَذْكُورِ: لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ أَبَوْهُ عَبْدُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فِيهِ أَيْضًا: لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَيْدِ وَجٍّ: ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ «الْعِلَلِ» ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ حُجَّةَ الْجُمْهُورِ فِي إِبَاحَةِ صَيْدِ وَجٍّ وَشَجَرِهِ، كَوْنُ الْحَدِيثِ لَمْ يَثْبُتْ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَوَجٌّ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، أَرْضٌ بِالطَّائِفِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ وَادٍ بِصَحْرَاءِ الطَّائِفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسَ بَلْدَةِ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ أَرْضِ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِحُصُونِ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: لِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَرُبَّمَا الْتَبَسَ وَجٌّ الْمَذْكُورُ بِوَحٍّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ نَاحِيَةُ نُعْمَانَ. فَإِذَا عَرَفْتَ حُكْمَ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، وَحُكْمَ صَيْدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَوَجٍّ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ، إِذَا كَانَ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، أَوْ كَانَ عَلَى غُصْنٍ مُمْتَدٍّ فِي الْحِلِّ، وَأَصْلُ شَجَرَتِهِ فِي الْحَرَمِ، فَاصْطِيَادُهُ حَرَامٌ عَلَى التَّحْقِيقِ تَغْلِيبًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 لِجَانِبِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِيهِمَا. أَمَّا إِذَا كَانَ أَصْلُ الشَّجَرَةِ فِي الْحِلِّ، وَأَغْصَانُهَا مُمْتَدَّةً فِي الْحَرَمِ، فَاصْطَادَ طَيْرًا وَاقِعًا عَلَى الْأَغْصَانِ الْمُمْتَدَّةِ فِي الْحَرَمِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ مُصْطَادٌ فِي الْحَرَمِ ; لِكَوْنِ الطَّيْرِ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْ أَنَّ أَحَادِيثَ تَحْدِيدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ مُضْطَرِبَةٌ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِاللَّابَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْحَرَّتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْجَبَلَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْمَأْزِمَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِعَيْرٍ وَثَوْرٍ، غَيْرُ صَحِيحٍ لِظُهُورِ الْجَمْعِ بِكُلِّ وُضُوحٍ ; لِأَنَّ اللَّابَتَيْنِ هُمَا الْحَرَّتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَهُمَا حِجَارَةٌ سُودٌ عَلَى جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ، وَالْجَبَلَانِ هُمَا الْمَأَزِمَانِ، وَهُمَا عَيْرٌ وَثَوْرٌ وَالْمَدِينَةُ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ، كَمَا أَنَّهَا أَيْضًا بَيْنَ ثَوْرٍ وَعَيْرٍ، كَمَا يُشَاهِدُهُ مَنْ نَظَرَهَا، وَثَوْرٌ جُبَيْلٌ صَغِيرٌ يَمِيلُ إِلَى الْحُمْرَةِ بِتَدْوِيرٍ خَلْفَ أُحُدٍ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ. فَمَنِ ادَّعَى مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَدِينَةِ جَبَلٌ يُسَمَّى ثَوْرًا، فَغَلَطٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ إِلَى الْيَوْمِ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ الْآيَةَ، بِتَنْوِينِ «جَزَاءٌ» وَرَفْعِ مِثَلُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَجَزَاءٌ مِثْلُ بِالْإِضَافَةِ، فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ جَزَاءٌ هُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، قَدْ يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُ مِنْ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ الْآيَةِ فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا بَلَغَ جَهْدَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْمَأَمُورُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [5 \ 105] ; لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ لَمْ يَهْتَدِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا حُذَيْفَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَنَقَلَ نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، أَيْ: أَمَرْتُمْ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدْخُلُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْمُرَادِ بِالِاهْتِدَاءِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا وَلَا يَنْبَغِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الْعُدُولُ عَنْهُ لِمُنْصِفٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرُ مُهْتَدٍ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ أَنَّهُ فِي خُسْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [103 \ 1، 2، 3] ، فَالْحَقُّ وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبَعْدَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ لَا يَضُرُّ الْآمِرَ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [8 \ 25] ، وَالْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ النَّاسَ إِنْ لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ الْحَكَمِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا مَرْعُوبًا يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ ، قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبْثُ» . وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا، وَهَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا» ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنْ رَأَى النَّاسُ الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ» ، ثُمَّ قَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [5 \ 79، 80، 81] ، ثُمَّ قَالَ: «كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَّنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ، وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي، نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ وَوَاكَلُوهُمْ، وَشَارَبُوهُمْ ; فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ; ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» . وَمَعْنَى تَأْطُرُوهُمْ أَيْ: تَعْطِفُوهُمْ، وَمَعْنَى تَقْصُرُونَهُ: تَحْبِسُونَهُ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ كَثْرَةُ الْآيَاتِ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [3 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [3 \ 110] . وَقَوْلِهِ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَقَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [18 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [15 \ 94] ، وَقَوْلِهِ: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [7 \ 165] ، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [8 \ 25] . وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَاهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ هِيَ أَنَّ النَّاسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ، صَالِحُهُمْ وَطَالِحُهُمْ، وَبِهِ فَسَرَّهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ شَاهِدَةٌ لِذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَفْعَلُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَفْعَلُهُ، أَنَّهُ حِمَارٌ مِنْ حُمُرِ جَهَنَّمَ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِيهَا. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ الْمُعْرِضَ عَنِ التَّذْكِرَةِ حِمَارٌ أَيْضًا، أَمَّا السُّنَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ؛ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ ، فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ "، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَمَعْنَى تَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ: تَتَدَلَّى أَمْعَاؤُهُ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءٌ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ "، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ حَيَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَبَلَغْتَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تَفْتَضِحَ بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَافْعَلْ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 44] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 3] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الْآيَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 [11 \ 88] ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَيْضًا الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ انْدِلَاقِ الْأَمْعَاءِ فِي النَّارِ، وَقَرْضِ الشِّفَاهِ بِمَقَارِيضِ النَّارِ، لَيْسَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى ارْتِكَابِهِ الْمُنْكَرَ عَالِمًا بِذَلِكَ، يَنْصَحُ النَّاسَ عَنْهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْ صَالِحٍ وَلَا طَالِحٍ، وَالْوَعِيدُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ; لِأَنَّهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْخَيْرُ، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: [الْكَامِلُ] لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وَقَالَ الْآخَرُ: [الطَّوِيلُ] وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضُ وَقَالَ الْآخَرُ: [الطَّوِيلُ] فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ ... بِهِ تَلْفَ مَنْ إِيَّاهُ تَأْمُرُ آتِيَا وَأَمَّا الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ التَّذْكِيرِ كَالْحِمَارِ أَيْضًا، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [74 \ 49، 50، 51] ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُذَكِّرِ بِالْكَسْرِ، وَالْمُذَكَّرِ بِالْفَتْحِ أَنْ يَعْمَلَا بِمُقْتَضَى التَّذْكِرَةِ، وَأَنْ يَتَحَفَّظَا مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا، لِئَلَّا يَكُونَا حِمَارَيْنِ مِنْ حُمُرِ جَهَنَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ، يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّ مَا يَنْهَى عَنْهُ مُنْكَرٌ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَيَنْهَى عَمَّا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، وَلَاسِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي عَمَّ فِيهِ الْجَهْلُ وَصَارَ فِيهِ الْحَقُّ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي الْآيَةَ [12 \ 108] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا لَبْسَ فِي الْحَقِّ مَعَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ إِلَى اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ، وَحُسْنِ الْأُسْلُوبِ، وَاللَّطَافَةِ مَعَ إِيضَاحِ الْحَقِّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الْآيَةَ [16 \ 125] ، فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى اللَّهِ بِقَسْوَةٍ وَعُنْفٍ وَخَرْقٍ، فَإِنَّهَا تَضُرُّ أَكْثَرَ مِمَّا تَنْفَعُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْنَدَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِسْنَادًا مُطْلَقًا، إِلَّا لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاسِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ، وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَذَى مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ بِالطَّبْعِ عَلَى مُعَادَاةِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي أَهْوَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَأَغْرَاضِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَلِذَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ لِوَلَدِهِ، فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَنْهُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ الْآيَةَ [31 \ 17] ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟» ، يَعْنِي قُرَيْشًا، أَخْبَرَهُ وَرَقَةُ: أَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا عُودِيَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَرَكَ الْحَقُّ لِعُمَرَ صَدِيقًا» ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ، إِلَّا إِذَا قَامَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ، فَلَا يُحْكَمُ عَلَى أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخْتَلِفِينَ بِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ مُنْكَرًا، فَالْمُصِيبُ مِنْهُمْ مَأْجُورٌ بِإِصَابَتِهِ، وَالْمُخْطِئُ مِنْهُمْ مَعْذُورٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ بِطَرِيقَيْنِ: طَرِيقِ لِينٍ، وَطَرِيقِ قَسْوَةٍ، أَمَّا طَرِيقُ اللِّينِ فَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَإِيضَاحُ الْأَدِلَّةِ فِي أَحْسَنِ أُسْلُوبٍ وَأَلْطَفِهِ، فَإِنْ نَجَحَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ تَنْجَحْ تَعَيَّنَتْ طَرِيقُ الْقَسْوَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَتُقَامَ حُدُودُهُ، وَتُمْتَثَلَ أَوَامِرُهُ، وَتُجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ، وَإِلَى هَذِهِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ الْآيَةَ [57 \ 25] . فَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْمَالِ السَّيْفِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَنْفَعِ الْكُتُبُ تَعَيَّنَتِ الْكَتَائِبُ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ ; لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وَارْتَكِبِ الْأَخَفَّ مِنْ ضُرَّيْنِ وَخَيِّرَنْ لَدَى اسْتِوَا هَذَيْنِ وَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ مَظِنَّةُ النَّفْعِ بِهِ، فَإِنْ جَزَمَ بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ لَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [87 \ 9] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّابِرُ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» ، وَفِي لَفْظٍ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا، أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي «مُعْجَمِهِ» ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الرَّاوِي: هَذَا الْحَدِيثُ عَنْهُ أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمِرْ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الشُّحِّ الْمُطَاعِ، وَالْهَوَى الْمُتَّبَعِ. . . إِلَخْ، مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ نَفْعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ; فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عُدِمَتْ فَائِدَتُهُ سَقَطَ وُجُوبُهُ. تَنْبِيهٌ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لَهُ ثَلَاثُ حِكَمٍ: الْأُولَى: إِقَامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] . الثَّانِيَةُ: خُرُوجُ الْآمِرِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صَالِحِي الْقَوْمِ الَّذِينَ اعْتَدَى بَعْضُهُمْ فِي السَّبْتِ: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ الْآيَةَ [7 \ 164] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [51 \ 54] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْعُهْدَةِ، لَكَانَ مَلُومًا. الثَّالِثَةُ: رَجَاءُ النَّفْعِ لِلْمَأْمُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وَقَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [51 \ 55] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ الْأَعْلَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [87 \ 9] ، وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِالْمَعْرُوفِ كَزَوْجَتِهِ، وَأَوْلَادِهِ، وَنَحْوِهِمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا الْآيَةَ [66 \ 6] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ، الْحَدِيثَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ مَعَ ارْتِكَابِ السُّلْطَانِ مَا لَا يَنْبَغِي ثَلَاثٌ: الْأُولَى: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى نُصْحِهِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ضَرَرٌ أَكْبَرُ مِنَ الْأَوَّلِ، فَآمِرُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُجَاهِدٌ سَالِمٌ مِنَ الْإِثْمِ وَلَوْ لَمْ يَنْفَعْ نُصْحُهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نُصْحُهُ لَهُ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ مَعَ اللُّطْفِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَظِنَّةُ الْفَائِدَةِ. الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَقْدِرَ عَلَى نُصْحِهِ لِبَطْشِهِ بِمَنْ يَأْمُرُهُ، وَتَأْدِيَةِ نُصْحِهِ لِمُنْكَرٍ أَعْظَمَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِالْقُلُوبِ، وَكَرَاهَةِ مُنْكَرِهِ، وَالسَّخَطِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَعْمَلُهُ السُّلْطَانُ، مُتَابِعًا لَهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا شَرِيكُهُ فِي الْإِثْمِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ هِنْدٍ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» ، قَالُوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» . فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَرِهَ» يَعْنِي بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ إِنْكَارًا بِيَدٍ وَلَا لِسَانٍ «فَقَدَ بَرِئَ» مِنَ الْإِثْمِ، وَأَدَّى وَظِيفَتَهُ، «وَمَنْ أَنْكَرَ» بِحَسْبِ طَاقَتِهِ «فَقَدْ سَلِمَ» مِنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، «وَمَنْ رَضِيَ» بِهَا «وَتَابَعَ» عَلَيْهَا، فَهُوَ عَاصٍ كَفَاعِلِهَا. وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، صِيغَةُ إِغْرَاءٍ، يَعْنِي: الْزَمُوا حِفْظَهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي «الْخُلَاصَةِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَالْفِعْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْكَا وَهَكَذَا دُونَكَ مَعْ إِلَيْكَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كَاتِمَ الشَّهَادَةِ آثِمٌ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْإِثْمَ مِنَ الْآثَامِ الْقَلْبِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [2 \ 283] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْشَأَ الْآثَامِ وَالطَّاعَاتِ جَمِيعًا مِنَ الْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ إِذَا صَلَحَ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي، مَعْنَاهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [3 \ 49] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الْآيَةَ، لَمْ يَذْكُرْ هُنَا كَيْفِيَّةَ كَفِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَقَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 158] ، وَقَوْلِهِ: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [3 \ 55] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْإِيحَاءِ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ الْإِلْهَامُ، وَيَدُلُّ لَهُ وُرُودُ الْإِيحَاءِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ، كَقَوْلِهِ: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الْآيَةَ [16 \ 68] ، يَعْنِي أَلْهَمَهَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وَمِنْهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [28 \ 7] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ: أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ إِيحَاءً حَقِيقِيًّا بِوَاسِطَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْدِلُونَ [6 \ 1] ، وَجْهَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعُدُولِ عَنِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى الِانْحِرَافِ، وَالْمَيْلِ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: بِرَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كَفَرُوا، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَمِيلُونَ وَيَنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّ «الْبَاءَ» بِمَعْنَى «عَنْ» أَيْ: يَعْدِلُونَ عَنْ رَبِّهِمْ، فَلَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ بِطَاعَةٍ، وَلَا إِيمَانٍ. وَالثَّانِي: أَنْ «الْبَاءَ» مُتَعَلِّقَةٌ بِيَعْدِلُونَ، وَمَعْنَى يَعْدِلُونَ يَجْعَلُونَ لَهُ نَظِيرًا فِي الْعِبَادَةِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: عَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ إِذَا جَعَلْتُهُ لَهُ نَظِيرًا وَعَدِيلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: [الْوَافِرُ] أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أَمْ رِيَاحًا ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا يَعْنِي أَجَعَلْتَ طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَ نُظَرَاءَ وَأَمْثَالًا لِبَنِي ثَعْلَبَةَ وَبَنِي رِيَاحٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَدُلُّ لَهُ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى، عَنِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ عَدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [26 \ 97، 98] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [2 \ 165] ، وَأَشَارَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ سَاوَوْا بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ الْآيَةَ [30 \ 28] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعِدْلُ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ، قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، فَهُوَ عِدْلٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهُوَ عَدْلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ مُهَلْهِلٍ: [الْوَافِرُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا بَرَزَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُورِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا اضْطَرَبَ الْعِضَاهُ مِنَ الدَّبُورِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... غَدَاةَ بَلَابِلِ الْأَمْرِ الْكَبِيرِ يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَى الَّذِينَ قَتَلَهُمْ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِأَخِيهِ كُلَيْبٍ الَّذِي قَتَلَهُ جَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ الْبَكْرِيِّ لَا يُكَافِئُونَهُ، وَلَا يُعَادِلُونَهُ فِي الشَّرَفِ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [5 \ 95] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ نَظِيرُ الْإِطْعَامِ مِنَ الصِّيَامِ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ [6 \ 70] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [2 \ 123] ، وَالْعَدْلُ: الْفِدَاءُ، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ قِيمَةٌ مُعَادَلَةٌ لِلْفِدَى تُؤْخَذُ بَدَلَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الْآيَةَ [6 \ 3] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلْعُلَمَاءِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَهُ مِصْدَاقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، أَيْ: وَهُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ بِحَقٍّ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَجُمْلَةُ يَعْلَمُ حَالٌ، أَوْ خَبَرٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [43 \ 84] ، أَيْ: وَهُوَ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِحَقٍّ، وَلَا عِبْرَةَ بِعِبَادَةِ الْكَافِرِينَ غَيْرَهُ ; لِأَنَّهَا وَبَالٌ عَلَيْهِمْ يَخْلُدُونَ بِهَا فِي النَّارِ الْخُلُودَ الْأَبَدِيَّ، وَمَعْبُودَاتُهُمْ لَيْسَتْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [53 \ 23] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [10 \ 66] . وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [6 \ 3] ، يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ، أَيْ: وَهُوَ اللَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ; وَيُبَيِّنُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [25 \ 6] . قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ، نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، أَنَّ الْوَقْفَ تَامٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِي: السَّمَاوَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَفِي الْأَرْضِ يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّ أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَهْرَهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيُبَيِّنُ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا الْآيَةَ [67 \ 16، 17] ، وَقَوْلُهُ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5] ، مَعَ قَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [57 \ 4] ، وَقَوْلُهُ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [7 \ 7] ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ، مُسْتَدِلِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ، ضَلَالٌ مُبِينٌ، وَجَهْلٌ بِاللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَةِ أَحْقَرُ وَأَصْغَرُ مِنْ أَنْ يَحِلَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، فَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي يَدِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَصْغَرُ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ فِي يَدِ أَحَدِنَا، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، فَلَوْ كَانَتْ حَبَّةُ خَرْدَلٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالٌ فِيهَا، أَوْ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، لَا وَكَلَّا، هِيَ أَصْغَرُ وَأَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْظَمُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَكُونُ فَوْقَهُ شَيْءٌ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [34 \ 3] ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [20 \ 110] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مَكْتُوبًا فِي قِرْطَاسٍ، أَيْ صَحِيفَةٍ، إِجَابَةً لِمَا اقْتَرَحُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ الْآيَةَ [17 \ 93] ، فَعَايَنُوا ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِيهِمْ، لَعَانَدُوا، وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَحَرَهُمْ، وَهَذَا الْعِنَادُ وَاللَّجَاجُ الْعَظِيمُ وَالْمُكَابِرَةُ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْكُفَّارِ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [15 \ 14، 15] . وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ [52 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [6 \ 111] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ الْآيَةَ [10 \ 96، 97] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [7 \ 146] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَذَكَرَ تَعَالَى نَحْوَ هَذَا الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [7 \ 132] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَاذَا يُرِيدُونَ بِإِنْزَالِ الْمَلَكِ الْمُقْتَرَحِ، وَلَكِنَّهُ بَيِّنٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِإِنْزَالِ الْمَلَكِ أَنْ يَكُونَ نَذِيرًا آخَرَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا الْآيَةَ [25 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لَجَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْعَذَابُ، مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ وَلَا إِنْظَارٍ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [15 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ الْآيَةَ [25 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ، أَيْ: لَوْ بَعَثْنَا إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا مَلَكِيًّا، لَكَانَ عَلَى هَيْئَةِ الرَّجُلِ ; لِتُمْكِنَهُمْ مُخَاطَبَتُهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْأَخْذِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ شِدَّةِ النُّورِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ كَمَا هُمْ يَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي قَبُولِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [17 \ 95] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَهْزَءُوا بِرُسُلٍ قَبْلَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُمْ حَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَصِّلْ هُنَا كَيْفِيَّةَ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا كَيْفِيَّةَ الْعَذَابِ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، فِي ذِكْرِ نُوحٍ وَقَوْمِهِ، وَهُودٍ وَقَوْمِهِ، وَصَالِحٍ وَقَوْمِهِ، وَلُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِنُوحٍ قَوْلُهُمْ لَهُ: «بَعْدَ أَنْ كُنْتَ نَبِيًّا صِرْتَ نَجَّارًا» ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [11 \ 38] ، وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [49 \ 14] ، وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِهُودٍ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [11 \ 54] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ أَيْضًا: قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ الْآيَةَ [11 \ 53] ، وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [51 \ 41] ، وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِصَالِحٍ قَوْلُهُمْ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ: يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 77] ، وَقَوْلُهُمْ: يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ [11 \ 62] ، وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [11 \ 94] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِلُوطٍ قَوْلُهُمْ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الْآيَةَ [27 \ 56] ، وَقَوْلُهُمْ لَهُ أَيْضًا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [26 \ 167] ، وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [15 \ 74] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِشُعَيْبٍ قَوْلُهُمْ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [11 \ 91] ، وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [26 \ 189] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، يَعْنِي: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَرْزُقُ الْخَلَائِقَ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ فَلَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى رِزْقٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [51 \ 56، 57، 58] ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ مِنَ الْإِطْعَامِ، وَالْأَوَّلُ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَوْضَحَتْهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَعْمَشُ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْعَيْنِ، مُضَارِعُ طَعِمَ الثُّلَاثِيِّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي، أَيْ أَنَّهُ يَرْزُقُ عِبَادَهُ وَيُطْعِمُهُمْ، وَهُوَ جَلَّ وَعَلَا لَا يَأْكُلُ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَخْلُوقُ مِنَ الْغَدَاءِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْغَنِيُّ لِذَاتِهِ، الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] . وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْ سَعِيدٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْأَعْمَشِ مُوَافِقَةٌ لِأَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الصَّمَدُ [112 \ 2] ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الصَّمَدُ السَّيِّدُ، الَّذِي يُلْجَأُ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْحَوَائِجِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي تَكَامَلَ سُؤْدُدُهُ، وَشَرَفُهُ، وَعَظَمَتُهُ، وَعِلْمُهُ، وَحِكْمَتُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّمَدُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ; وَعَلَيْهِ، فَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّمَدُ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَلَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَهُوَ مَحِلُّ الشَّاهِدِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الصَّمَدِ عَلَى السَّيِّدِ الْعَظِيمِ، وَعَلَى الشَّيْءِ الْمُصْمَتِ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الزِّبْرِقَانِ: [الْبَسِيطُ] سِيرُوا جَمِيعًا بِنِصْفِ اللَّيْلِ وَاعْتَمِدُوا ... وَلَا رَهِينَةَ إِلَّا سَيِّدٌ صَمَدُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْبَسِيطُ] عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... خُذْهَا حُذَيْفُ فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ] أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدِ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 شِهَابُ حُرُوبٍ لَا تَزَالُ جِيَادُهُ ... عَوَابِسَ يَعْلِكْنَ الشَّكِيمَ الْمُصَمَّدَا فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي هُوَ وَحْدَهُ الْمَلْجَأُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْحَاجَاتِ، وَهُوَ الَّذِي تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ وَتَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ الْآيَةَ، يَعْنِي أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أُرْسِلْتُ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ وُجُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُجُودِ أُمَّتِهِ، كَقَوْلِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [2 \ 131] ، وَقَوْلِهِ عَنْ يُوسُفَ: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [12 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [5 \ 44] ، وَقَوْلِهِ عَنْ لُوطٍ وَأَهْلِهِ: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 36] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ هُنَا: فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [6 \ 17] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ، إِلَى أَنَّ فَضْلَهُ وَعَطَاءَهُ الْجَزِيلَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ، عَمَّنْ أَرَادَهُ لَهُ تَعَالَى، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [10 \ 107] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذِرٌ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. أَمَّا عُمُومُ إِنْذَارِهِ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [34 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] . وَأَمَّا دُخُولُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ النَّارَ، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [11 \ 17] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وَأَمَّا مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَوْ وُجِدَ كَيْفَ يَكُونُ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى لَا يَكُونُ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [6 \ 28] ، وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، لَا يَخْرُجُونَ إِلَيْهَا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [9 \ 46] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا الْآيَةَ [9 \ 47] ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [23 \ 75] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الْآيَةَ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْزُنُهُ مَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَهَاهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [35 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [5 \ 68] ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [26 \ 3] ، وَالْبَاخِعُ: هُوَ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ: [الطَّوِيلُ] أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ، فِي الْآيَتَيْنِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [11 \ 12] ، أَيْ لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَزَنًا عَلَيْهِمْ فِي الْأَوَّلِ، وَلَا تَتْرُكْ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ فِي الثَّانِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ. قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْكُفَّارُ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ الْآيَةَ [6 \ 122] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [35 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [35 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنَّ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَنْزِيلِ الْآيَةِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْكُفَّارُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَشَارَ لِحِكْمَةِ عَدَمِ إِنْزَالِهَا بِقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [6 \ 37] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ حِكْمَةَ عَدَمِ إِنْزَالِهَا: أَنَّهَا لَوْ أُنْزِلَتْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا لَنَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ الْعَاجِلُ، كَمَا وَقَعَ بِقَوْمِ صَالِحٍ لَمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ إِخْرَاجَ نَاقَةٍ عُشَرَاءَ، وَبْرَاءَ، جَوْفَاءَ، مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، فَأَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُمْ مِنْهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَعَقَرُوهَا وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [7 \ 77] ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً بِعَذَابِ اسْتِئْصَالٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [17 \ 59] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَى مَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ آيَةً أَعْظَمَ مِنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَغَيْرِهَا، وَتِلْكَ الْآيَةُ هِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [29 \ 51] ، فَإِنْكَارُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ عَنِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَفْخَمُ مِنْ كُلِّ آيَةٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ آيَةٌ وَاضِحَةٌ، وَمُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ، أَعْجَزَتْ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ تَتَرَدَّدُ فِي آذَانِ الْخَلْقِ غَضَّةً طَرِيَّةً حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - فَإِنَّهَا كُلَّهَا مَضَتْ وَانْقَضَتْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَتَاهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ أَتَتْهُمُ السَّاعَةُ أَخْلَصُوا الدُّعَاءَ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَنَسُوا مَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ ; لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الْكُرُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا إِذَا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ هَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى إِخْلَاصِهِمْ، أَوْ يَرْجِعُونَ إِلَى كَفْرِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وَشِرْكِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ الدُّنْيَوِيَّ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ، هُوَ نُزُولُ الْكُرُوبِ الَّتِي يَخَافُ مَنْ نَزَلَتْ بِهِ الْهَلَاكَ، كَأَنْ يَهِيجَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَتَلْتَطِمَ أَمْوَاجُهُ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ سَيَغْرَقُونَ فِيهِ إِنْ لَمْ يُخْلِصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [10 \ 22، 23] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [17 \ 67] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [29 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [31 \ 32] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْكَرْبَ، رَجَعُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ، وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [6 \ 64] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ رُجُوعَهُمْ لِلشِّرْكِ، بَعْدَ أَنْ نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ، مِنْ شِدَّةِ جَهْلِهِمْ وَعَمَاهُمْ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَهُمْ فِي الْبَرِّ، كَقُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي الْبَحْرِ، وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُمْ فِي الْبَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى، وَيُهْلِكَهُمْ فِيهِ بِالْغَرَقِ، فَجُرْأَتُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا وَصَلُوا الْبَرَّ لَا وَجْهَ لَهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [17 \ 68، 69] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ طَرْدِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَرَائِهِمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَأَمَرَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ، وَأَنْ لَا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي الدُّنْيَا، وَنَهَاهُ عَنْ إِطَاعَةِ الْكَفَرَةِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [18 \ 28] ، كَمَا أَمَرَهُ هُنَا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ، وَبِشَارَتِهِمْ بِرَحْمَةِ رَبِّهِمْ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الْآيَةَ [6 \ 54] ، وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ طَرْدَ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي طَلَبَهُ كُفَّارُ الْعَرَبِ مِنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، طَلَبَهُ أَيْضًا قَوْمُ نُوحٍ مِنْ نُوحٍ، فَأَبَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [11 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ الْآيَةَ [11 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [26 \ 114] ، وَهَذَا مِنْ تَشَابُهِ قُلُوبِ الْكُفَّارِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ الْآيَةَ [2 \ 118] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ، أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ ضُعَفَاءُ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مِلْكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ» . فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِتْنَةَ بَعْضِ النَّاسِ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَكَانَةِ وَالشَّرَفِ وَالْجَاهِ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ فِي هَذَا الدِّينِ خَيْرٌ لَمَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّا أَحَقُّ مِنْهُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ كَمَا قَالَ هُنَا: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الْآيَةَ [6 \ 53] ، إِنْكَارًا مِنْهُمْ أَنْ يُمُنَّ اللَّهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ دُونَهُمْ، زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْخَيْرِ مِنْهُمْ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ قَوْلَهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ الْآيَةَ [46 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [19 \ 73] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنْفُسَهُمْ أَحْسَنَ مَنَازِلَ وَمَتَاعًا مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُوهُمْ إِلَيْهِ، وَرَدَّ اللَّهُ افْتِرَاءَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 [19 \ 74] ، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55، 56] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الْآيَةَ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يُخْبِرَ الْكُفَّارَ، أَنَّ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمُ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَجَّلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ لِعَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الْآيَةَ [6 \ 58] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ إِلَّا الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ، وَأَنَّهُمْ إِنْ عَايَنُوا ذَلِكَ الْعَذَابَ عَلِمُوا أَنَّهُ عَظِيمٌ هَائِلٌ، لَا يَسْتَعْجِلُ بِهِ إِلَّا جَاهِلٌ مِثْلُهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [11 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا الْآيَةَ [42 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [29 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [10 \ 50] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَدَّدَ لَهُمْ أَجَلًا لَا يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ قَبْلَهُ لَعَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْآيَةَ [29 \ 53] . تَنْبِيهٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ الْآيَةَ، صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ بِيَدِهِ تَعْجِيلُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ لَعَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، وَهُمَا جَبَلَا مَكَّةَ اللَّذَانِ يَكْتَنِفَانِهَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرَجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» . وَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ: هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وَهُوَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَيْهِ وُقُوعُ الْعَذَابِ الَّذِي يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهُ فِي وَقْتِ طَلَبِهِمْ، لَعَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ إِهْلَاكَهُمْ فَاخْتَارَ عَدَمَ إِهْلَاكِهِمْ، وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَعَنِّتِ الطَّالِبِ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يُعْلِمُهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ، بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [31 \ 34] ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمَفَاتِحُ الْخَزَائِنُ، جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْمَخْزَنِ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَفَاتِيحُ، جَمْعُ مِفْتَحٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ الْمِفْتَاحُ، وَتَدُلُّ لَهُ قِرَاءَةُ ابْنِ السُّمَيْقِعِ. «مَفَاتِيحُ» بِيَاءٍ بَعْدَ التَّاءِ جَمْعُ مِفْتَاحٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ خَالِقُهُمْ جَلَّ وَعَلَا. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ» ، وَاللَّهُ يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [27 \ 65] ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْلِنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [6 \ 50] . وَلِذَا لَمَّا رُمِيَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالْإِفْكِ، لَمْ يَعْلَمْ، أَهِيَ بَرِيئَةٌ أَمْ لَا، حَتَّى أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [24 \ 26] . وَقَدْ ذَبَحَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِجْلَهُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَلَا عِلْمَ لَهُ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ حَتَّى أَخْبَرُوهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [11 \ 70] ، وَلَمَّا جَاءُوا لُوطًا لَمْ يَعْلَمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَلِذَا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [11 \ 77] ، يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ قَوْمُهُ فَاحِشَتَهُمُ الْمَعْرُوفَةَ، حَتَّى قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [11 \ 80] ، وَلَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُمْ حَتَّى قَالُوا لَهُ: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ الْآيَاتِ [11 \ 81] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وَيَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى يُوسُفَ، وَهُوَ فِي مِصْرَ لَا يَدْرِي خَبَرَهُ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ خَبَرَ يُوسُفَ. وَسُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيحَ، مَا كَانَ يَدْرِي عَنْ أَهْلِ مَأْرِبَ قَوْمِ بِلْقِيسَ حَتَّى جَاءَهُ الْهُدْهُدُ، وَقَالَ لَهُ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ الْآيَاتِ [27 \ 22] . وَنُوحٌ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا كَانَ يَدْرِي أَنَّ ابْنَهُ الَّذِي غَرِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ الْمَوْعُودِ بِنَجَاتِهِمْ، حَتَّى قَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الْآيَةَ [11 \ 45] ، وَلَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ حَتَّى أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [11 \ 46] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ هُودٍ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ الْآيَةَ [6 \ 50] ، وَالْمَلَائِكَةُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا قَالَ لَهُمْ: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [2 \ 31، 32] . فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ أَعْلَمَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمُ الرُّسُلُ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ تَعَالَى يُعَلِّمُ رُسُلَهُ مِنْ غَيْبِهِ مَا شَاءَ، كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [3 \ 179] ، وَقَوْلِهِ: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [72 \ 26، 27] . تَنْبِيهٌ لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِأَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ جَمِيعُ الطُّرُقِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّوَصُّلُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ غَيْرِ الْوَحْيِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ، وَبَعْضٌ مِنْهَا يَكُونُ كُفْرًا. وَلِذَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَنْعِ الْعِيَافَةِ، وَالْكِهَانَةِ، وَالْعَرَافَةِ، وَالطَّرْقِ، وَالزَّجْرِ، وَالنُّجُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْكِهَانَةِ ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ ادِّعَاءِ الِاطِّلَاعِ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ. وَقَدْ سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا وَجَزَمَ بِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ، أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ ادَّعَاهَا أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ، وَقَالَ: إِنَّ النَّوْءَ يَنْزِلُ بِهِ الْمَاءُ عَادَةً، وَإِنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَادَةً، وَإِنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ، لَمْ يَكْفُرْ، إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِكَلِمَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَجَهْلًا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَتَى شَاءَ مَرَّةً بِنَوْءِ كَذَا، وَمَرَّةً دُونَ النَّوْءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ» ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْوَاقِعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ إِذَا كَانَ الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ، فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ يَكْفُرْ، وَلَمْ يَفْسُقْ. وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى الْكَسْبَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، أَوْ أَخْبَرَ عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُجْمَلَةِ، أَوِ الْمُفَصَّلَةِ، فِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ فَلَا رِيبَةَ فِي كُفْرِهِ أَيْضًا، فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُؤَدَّبُ وَلَا يُسْجَنُ، أَمَّا عَدَمُ كُفْرِهِ فَلِأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ، حَسْبَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [36 \ 39] . وَأَمَّا أَدَبُهُمْ، فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ، إِذْ لَا يَدْرُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ، فَيُشَوِّشُونَ عَقَائِدَهُمْ، وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدَهُمْ فِي الْيَقِينِ، فَأُدِّبُوا حَتَّى يَسْتُرُوا ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ، وَالْعَرَّافُ: هُوَ الْحَازِي وَالْمُنَجِّمُ الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ، وَهِيَ الْعَرَافَةُ، وَصَاحِبُهَا عَرَّافٌ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ عَلَى الْأُمُورِ بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَاتٍ يَدَّعِي مَعْرِفَتَهَا، وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ، وَالطَّرْقِ، وَالنُّجُومِ، وَأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْفَنُّ هُوَ الْعِيَافَةُ بِالْيَاءِ، وَكُلُّهَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْكِهَانَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَالْكِهَانَةُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الْكَافِي» : مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الرِّبَا، وَمُهُورُ الْبَغَايَا، وَالسُّحْتُ، وَالرِّشَا، وَأَخَذُ الْأُجْرَةِ عَلَى النِّيَاحَةِ وَالْغِنَاءِ، وَعَلَى الْكِهَانَةِ، وَادِّعَاءِ الْغَيْبِ، وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الزَّمْرِ وَاللَّعِبِ، وَالْبَاطِلُ كُلُّهُ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَعْرِيفَهُ لِلْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْعَرَّافُ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْمَسْرُوقِ، وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَرَّافُ: اسْمٌ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ، وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ. وَالْمُرَادُ بِالطَّرْقِ: قِيلَ الْخَطُّ الَّذِي يَدَّعِي بِهِ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ الضَّرْبُ بِالْحَصَى الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ، وَالزَّجْرُ هُوَ الْعِيَافَةُ، وَهِيَ التَّشَاؤُمُ وَالتَّيَامُنُ بِالطَّيْرِ، وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ مِنْ كَيْفِيَّةِ طَيَرَانِهَا، وَمَوَاقِعِهَا، وَأَسْمَائِهَا، وَأَلْوَانِهَا، وَجِهَاتِهَا الَّتِي تَطِيرُ إِلَيْهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ التَّمِيمِيِّ: [الْبَسِيطُ] وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْغِرْبَانِ يَزْجُرُهَا ... عَلَى سَلَامَتِهِ لَا بُدَّ مَشْئُومُ وَكَانَ أَشَدَّ الْعَرَبِ عِيَافَةً بَنُو لَهَبٍ، حَتَّى قَالَ فِيهِمُ الشَّاعِرُ: [الطَّوِيلُ] خَبِيرٌ بَنُو لَهَبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيًا ... مَقَالَةَ لَهَبِي إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ نَاظِمِ عَمُودِ النَّسَبِ: [الرَّجَزُ] فِي مَدْلَجِ بْنِ بَكْرٍ الْقِيَافَةُ ... كَمَا لِلَهَبٍ كَانَتِ الْعِيَافَةُ وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: [الطَّوِيلُ] لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَوَجْهُ تَكْفِيرِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَنْ يَدَّعِي الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ، أَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَكَذَّبَ الْقُرْآنَ الْوَارِدَ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [27 \ 65] ، وَقَوْلِهِ هُنَا: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عِمْرَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ حُلْوَانَ الْكَاهِنِ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَلَا يُرَدُّ لِمَنْ أَعْطَاهُ لَهُ، بَلْ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي نَظَائِرَ نَظَمَهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَأَيُّ مَالٍ حَرَّمُوا أَنْ يَنْتَفِعْ ... مَوْهُوبُهُ بِهِ وَرَدُّهُ مُنِعْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 حُلْوَانُ كَاهِنٌ وَأُجْرَةُ الْغِنَا ... وَنَائِحٌ وَرِشْوَةٌ مَهْرُ الزِّنَا هَكَذَا قِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِّ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّوْمَ وَفَاةٌ، وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ وَفَاةٌ صُغْرَى، وَأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَمُتْ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ رُوحَهُ إِلَى بَدَنِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ أَجْلُهُ، وَأَنَّ وَفَاةَ الْمَوْتِ الَّتِي هِيَ الْكُبْرَى قَدْ مَاتَ صَاحِبُهَا، وَلِذَا يُمْسِكُ رُوحَهُ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [39 \ 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَاذَا يَحْفَظُونَ، وَبَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَذَكَرَ أَنَّ مِمَّا يَحْفَظُونَهُ بَدَنَ الْإِنْسَانِ، بِقَوْلِهِ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [13 \ 11] ، وَذَكَرَ أَنَّ مِمَّا يَحْفَظُونَهُ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 10، 11، 12] ، وَقَوْلِهِ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 17، 18] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ خَوْضِهِمْ فِيهَا، الَّتِي هِيَ سَبَبُ مَنْعِ مُجَالَسَتِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مُجَالَسَتِهِمْ هُنَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّ خَوْضَهُمْ فِيهَا بِالْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ الْآيَةَ [4 \ 140] . وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ جَالَسَهُمْ فِي وَقْتِ خَوْضِهِمْ فِيهَا مِثْلُهُمْ فِي الْإِثْمِ، بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، وَبَيَّنَ حُكْمَ مَنْ جَالَسَهُمْ نَاسِيًا، ثُمَّ تَذَكَّرَ بِقَوْلِهِ هُنَا: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيَلُّ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي، الْآيَاتِ، قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي [6 \ 76] ، فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وَمُحْتَمَلٌ، لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِعَدَمِ رُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَمُرَادُهُ هَذَا رَبِّي فِي زَعْمِكُمُ الْبَاطِلِ، أَوْ أَنَّهُ حَذَفَ أَدَاةَ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ بُطْلَانَ الْأَوَّلِ، وَصِحَّةَ الثَّانِي. أَمَّا بُطْلَانُ الْأَوَّلِ: فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى كَوْنَ الشِّرْكِ الْمَاضِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [3 \ 67] ، فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَنَفْيُ الْكَوْنِ الْمَاضِي يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ شِرْكٌ يَوْمًا مَا. وَأَمَّا كَوْنُهُ جَازِمًا مُوقِنًا بِعَدَمِ رُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي، إِلَى آخِرِهِ، «بِالْفَاءِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [6 \ 75] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مُوقِنًا مُنَاظِرًا وَمُحَاجًّا لَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [6 \ 80] ، وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ الْآيَةَ [6 \ 83] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] ، وَقَوْلُهُ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [12 \ 254] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الْآيَةَ [6 \ 81] ، وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ، فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [6 \ 82] . وَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِجَمِيعِ احْتِجَاجَاتِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ الْآيَةَ [6 \ 76] ; لِأَنَّ الْأُفُولَ الْوَاقِعَ فِي الْكَوْكَبِ، وَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، أَكْبَرُ دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ حُجَّةٍ عَلَى انْتِفَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْهَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْأُفُولِ عَلَى انْتِفَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَعَدَمُ إِدْخَالِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا، غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُمُولِ الْحُجَّةِ لِجَمِيعِ احْتِجَاجَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ صَدَّرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الْقُرْطُبِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ لَوْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ لَحَبِطَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِمْ. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ أُوحِيَ هَذَا إِلَى نَبِيِّنَا وَالْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ - عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الْآيَةَ [39 \ 65] ، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُقُوعِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ [43 \ 81] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ «إِنْ» شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلِهِ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا الْآيَةَ [21 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا الْآيَةَ [39 \ 41] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ قَالَ: أُنْزِلَ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [8 \ 31] ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَهُمْ فِي افْتِرَائِهِمْ هَذَا حَيْثُ تَحَدَّى جَمِيعَ الْعَرَبِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [2 \ 23] ، وَفِي يُونُسَ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [2 \ 38] ، وَتَحَدَّاهُمْ فِي هُودٍ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَتَحَدَّاهُمْ بِهِ كُلِّهِ فِي الطُّورِ بِقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ. ثُمَّ صَرَّحَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعَجْزِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [17 \ 88] ، فَاتَّضَحَ بُطْلَانُ دَعْوَاهُمُ الْكَاذِبَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ، لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالشَّيْءِ الَّذِي بَسَطُوا إِلَيْهِ الْأَيْدِيَ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ التَّعْذِيبُ بِقَوْلِهِ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ الْآيَةَ [6 \ 93] ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [8 \ 50] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يُرَادُ بِبَسْطِ الْيَدِ التَّنَاوُلُ بِالسُّوءِ كَقَوْلِهِ: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [60 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي الْآيَةَ [5 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُفْرَدِهِ لَيْسَ مَعَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ، وَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنْ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْتِي فَرْدًا فِي قَوْلِهِ: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [19 \ 95] ، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [6 \ 94] ، أَيْ مُنْفَرِدِينَ لَا مَالَ، وَلَا أَثَاثَ، وَلَا رَقِيقَ، وَلَا خَوَلَ عِنْدَكُمْ، حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلًا، أَيْ: غَيْرَ مَخْتُونِينَ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 4] ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ وَاحِدَ الْفُرَادَى فَرْدٌ، وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا: فَرَدٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: [الْبَسِيطُ] مِنْ وَحْشٍ وَجَرَّةٍ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي الْمُصَيْرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فِي الدُّنْيَا تَضِلُّ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَنْقَطِعُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا مِنَ الصِّلَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 82] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [29 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [26 \ 92، 93] ، وَقَوْلِهِ هُنَا: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [6 \ 94] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ اللَّيَلَ سَكَنًا، أَيْ: مُظْلِمًا سَاجِيًا لِيَسْكُنَ فِيهِ الْخَلْقُ ; فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ تَعَبِ الْكَدِّ بِالنَّهَارِ، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [10 \ 67] ، وَقَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [28 \ 71، 72، 73] ، وَقَوْلُهُ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يَعْنِي: اللَّيْلَ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي: بِالنَّهَارِ، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْآيَةَ [41 \ 37] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، ظَاهِرُ هَذِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِ النُّجُومِ هِيَ الِاهْتِدَاءُ بِهَا فَقَطْ، كَقَوْلِهِ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [16 \ 16] ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ لَهَا حِكْمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ غَيْرَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا؛ وَهُمَا تَزْيِينُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَرَجْمُ الشَّيَاطِينِ بِهَا، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ الْآيَةَ [67 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 6، 7، 8، 9، 10] ، وَقَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [41 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِنْشَائِهِمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ كَيْفِيَّتَهُ أَنَّهُ خَلَقَ مِنْ تِلْكَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي هِيَ آدَمُ زَوْجُهَا حَوَّاءَ، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [4 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ [7 \ 189] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ الْآيَةَ، أَشَارَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إِلَى أَنَّ نَفْيَ الْإِدْرَاكِ الْمَذْكُورِ هُنَا لَا يَقْتَضِي نَفْيَ مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [75 \ 22، 23] ، وَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [10 \ 26] ، وَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [83 \ 15] ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ الْآيَةَ، يَعْنِي لِيَزْعُمُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ بِالدَّرْسِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا زَعَمَ كُفَّارُ مَكَّةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ جَبْرٍ وَيَسَارٍ، وَكَانَا غُلَامَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ بِمَكَّةَ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَعَالَى بُطْلَانَ افْتِرَائِهِمْ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] ، وَقَوْلِهِ: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [74 \ 24، 25، 26] ، وَمَعْنَى يُؤْثَرُ: يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غَيْرِهِ فِي زَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [25 \ 4، 5، 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: دَرَسْتَ [6 \ 105] ، ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ: قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ دَارَسْتَ بِأَلِفٍ بَعْدِ الدَّالِ مَعَ إِسْكَانِ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بِمَعْنَى: دَارَسْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَدَارَسُوكَ حَتَّى حَصَّلْتَ هَذَا الْعِلْمَ. وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ: دَرَسْتَ بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ، مَعَ إِسْكَانِ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ أَيْضًا، بِمَعْنَى دَرَسْتَ هَذَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعَلَّمْتَهُ مِنْهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: دَرَسْتَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَالرَّاءِ وَالسِّينِ وَإِسْكَانِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ [6 \ 105] . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِئَلَّا يَقُولُوا انْقَطَعَتْ وَانْمَحَتْ، وَلَيْسَ يَأْتِي مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِهَا. اهـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ، الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُضْمَرٍ، أَيْ: نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ، وَقِيلَ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ صَرَفْنَاهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمَعْنَاهُمَا آيِلٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَاضِحًا فِي هَذِهِ الْكِتَابِ، لِيَهْدِيَ بِهِ قَوْمًا، وَيَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَى آخَرِينَ، كَقَوْلِهِ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [41 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [74 \ 31] ، كَمَا قَالَ هُنَا: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فَالْأَشْقِيَاءُ يَقُولُونَ: تَعَلَّمْتَهُ مِنَ الْبَشَرِ بِالدِّرَاسَةِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّعَدَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلَنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [25 \ 31] ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 14] ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مُتَمَرِّدٍ شَيْطَانًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَوْ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» ، وَقَوْلُهُ: شَيَاطِينُ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: عَدُوًّا، أَوْ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِـ «جَعَلْنَا» ، وَالثَّانِي: «عَدُوًّا» ، أَيْ: جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَدُوًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِطَاعَةَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ضَلَالٌ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [13 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [12 \ 103] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ، التَّحْقِيقُ أَنَّهُ فَصَّلَهُ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الْآيَةَ [6 \ 145] ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مَا ذَكَّيْتُمْ، وَذَكَرْتُمْ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ؟ ، وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ فَصَّلَ لَكُمُ الْمُحَرَّمَ أَكْلُهُ عَلَيْكُمْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ الْآيَةَ [6 \ 145] ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ. وَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ فَصَّلَهُ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الْآيَةَ [5 \ 3] ، فَهُوَ غَلَطٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [119] ، مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، فَالْحَقُّ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ مِنْهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالْأَكَابِرِ هُنَا، وَلَا كَيْفِيَّةَ مَكْرِهِمْ، وَبَيَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: فَبَيَّنَ أَنَّ مُجْرِمِيهَا الْأَكَابِرَ هُمْ أَهْلُ التَّرَفِ، وَالنِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا، بِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [34 \ 34] ، وَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [43 \ 23] . وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ أَنَّ مَكْرَ الْأَكَابِرِ الْمَذْكُورَ: هُوَ أَمْرُهُمْ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَجَعْلِ الْأَنْدَادِ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [34 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ الْآيَةَ [71 \ 22، 23] . وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ عِنْدِي اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَكَابِرَ مُضَافٌ إِلَى مُجْرِمِيهَا، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِجَعَلَ الَّتِي بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، أَعْنِي فِي كُلِّ قَرْيَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُجْرِمِيهَا مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَأَكَابِرَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ: جَعَلْنَا مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَهَا، وَالْأَكَابِرُ جَمْعُ الْأَكْبَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالرِّسَالَةِ، كَمَا أَتَتِ الرُّسُلَ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا الْآيَةَ [25 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا الْآيَةَ [17 \ 92] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ الْآيَةَ. جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقِيلَ: كَيْفَ يُشْرَحُ صَدْرُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نُورٌ يُقْذَفُ فِيهِ، فَيَنْشَرِحُ لَهُ، وَيَنْفَسِحُ» ، قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَوْتِ» ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [39 \ 22] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالرُّسُلِ مِنَ الْجِنِّ نُذُرُهُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ الرُّسُلِ، فَيُبَلِّغُونَهُ إِلَى قَوْمِهِمْ ; وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مُنْذِرُونَ لِقَوْمِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [46 \ 29] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: رُسُلٌ مِنْكُمْ [6 \ 130] أَيْ: مِنْ مَجْمُوعِكُمُ الصَّادِقِ بِخُصُوصِ الْإِنْسِ ; لِأَنَّهُ لَا رُسُلَ مِنَ الْجِنِّ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ رُبَّمَا أُطْلِقَ فِيهِ الْمَجْمُوعُ مُرَادًا بَعْضُهُ، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [71 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [91 \ 14] ، مَعَ أَنَّ الْعَاقِرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [54 \ 29] . وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [55 \ 22] يُرَادُ بِهِ الْبَحْرُ الْمِلْحُ خَاصَّةً دُونَ الْعَذْبِ غَلَطٌ كَبِيرٌ، لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْبَحْرَيْنِ الْمِلْحَ وَالْعَذْبَ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [35 \ 12] ، ثُمَّ صَرَّحَ بِاسْتِخْرَاجِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ مِنْهَا جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، وَالْحِلْيَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، فَقَصْرُهُ عَلَى الْمِلْحِ مُنَاقِضٌ لِلْآيَةِ صَرِيحًا، كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، النَّفْيُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُنْصَبٌّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ قَوْمًا فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ، أَيْ عَدَمِ إِنْذَارِهِمْ، بَلْ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - كَمَا بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [35 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنْ تَفَاضُلَ دَرَجَاتِ الْعَامِلِينَ فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، وَأَنَّ تَفْضِيلَهَا أَعْظَمُ مِنْ دَرَجَاتِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [17 \ 21] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ الْآيَةَ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْحَقِّ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَهَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ لَا؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْحَقُّ هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمَالِكٌ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ، نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَنَسٍ وَسَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الزَّكَاةَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يُعْطِي مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْحَصَادِ الْقَبْضَةَ، وَالضِّغْثَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّدْبِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ: هُوَ حَقٌّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ، أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَدْبًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ السُّنْبُلِ، وَإِذَا جَذَذْتَ فَأَلْقِ لَهُمْ مِنَ الشَّمَارِيخِ، وَإِذَا دَرَسْتَهُ وَذَرَيْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ، وَإِذَا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فَأَخْرِجْ مِنْهُ زَكَاتَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحَدَّدٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَطَاءٌ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَزَاهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَأَيَّدَهُ بِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةُ الزَّكَاةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَيْئًا وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ فَصَّلَ بَيَانَهُ، وَبَيَّنَ مِقْدَارَ الْمُخْرَجِ وَكَمِّيَّتَهُ، قَالُوا: وَكَانَ هَذَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَمُرَادُهُ أَنَّ شَرْعَ الزَّكَاةِ بَيَانٌ لِهَذَا الْحَقِّ لَا نَسْخٌ لَهُ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ الْقَوْلَ بِالنُّسَخِ ابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ الشَّوْكَانِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا وَنَقَلَهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَعَطِيَّةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَعَطِيَّةَ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ جَرِيرٍ لِلنَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الْحَرْثِ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بَعْدَ التَّذْرِيَةِ وَالتَّنْقِيَةِ، وَزَكَاةَ التَّمْرِ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بَعْدَ الْجِذَاذِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْأَخْذِ يَوْمَ الْحَصَادِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، أَوْ أَنَّهَا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزَّكَاةُ، فَقَدْ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ الْمَذْكُورَ هُوَ جُزْءُ الْمَالِ الْوَاجِبُ فِي النِّصَابِ فِي آيَاتِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ الْآيَةَ [2 \ 267] ، وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُحْتَاجُ هُنَا إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: تَعْيِينُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ. الثَّانِي: تَعْيِينُ الْقَدْرِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهُ. الثَّالِثُ: تَعْيِينُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ وَسَنُبَيِّنُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُفَصَّلَةً. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَاهَا مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِهَا مِنْ جَمِيعِ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ بِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُوسَى، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ إِلَّا مِنَ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، ذَكَرَهُ وَكِيعٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَالْعُشْرُ فِي التَّمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ» ، وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ» . وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ» ، رَوَاهَا كُلَّهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا سَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِسْنَادُهُ وَاهٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» ، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا سَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ فِيهِ أَبُو زُرْعَةَ: مُوسَى عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا، وَمَا عَزَاهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْهُمَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ فِي ثِمَارِ الْأَشْجَارِ، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ فَقَطْ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزَّيْتُونِ، إِذَا بَلَغَ حَبُّهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلَكِنَّهَا تُخْرَجُ مِنْ زَيْتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَيُخْرَجُ عُشْرُهُ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَبُّهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَلَا زَكَاةَ عِنْدَهُ فِي زَيْتِهِ، وَحُكْمُ السِّمْسِمِ، وَبَزْرِ الْفُجْلِ الْأَحْمَرِ، وَالْقُرْطُمِ حُكْمُ الزَّيْتُونِ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ، يُخْرَجُ مِنْ زَيْتِهَا إِنْ بَلَغَ حَبُّهَا النِّصَابَ. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: لَا يُضَمُّ زَيْتُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ عَدَمُ وُجُوبِهَا فِي التِّينِ، وَأَوْجَبَهَا فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِمُقْتَضَى أُصُولِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَظُنُّ مَالِكًا مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ التِّينَ يَيْبَسُ، وَيُقْتَاتُ، وَيُدَّخَرُ، وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَجَعَلَهُ كَالزَّبِيبِ، وَلَمَا عَدَّهُ مَعَ الْفَوَاكِهِ الَّتِي لَا تَيْبَسُ، وَلَا تُدَّخَرُ كَالرُّمَّانِ، وَالْفِرْسِكِ، وَالَّذِي تَجِبُ فِيهِ مِنَ الْحُبُوبِ عِنْدَهُ هُوَ مَا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ، وَذَلِكَ الْحِنْطَةُ، وَالشَّعِيرُ، وَالسُّلْتُ وَالْعَلَسُ، وَالدُّخْنُ، وَالذُّرَةُ، وَالْأَرُزُّ، وَالْعَدَسُ، وَالْجُلُبَّانُ، وَاللُّوبِيَا، وَالْجُلْجُلَانِ، وَالتُّرْمُسُ، وَالْفُولُ، وَالْحِمَّصُ، وَالْبَسِيلَةُ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْكِرْسِنَّةَ لَا زَكَاةَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا عَلَفٌ، وَعَنْ أَشْهَبَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَهِيَ مِنَ الْقَطَانِيِّ عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ فِي بَابِ الرِّبَا، دُونَ بَابِ الزَّكَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وَقِيلَ هِيَ الْبَسِيلَةُ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْقَطَانِيِّ عِنْدَ مَالِكٍ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ، فَلَوْ حَصَدَ وَسْقًا مِنْ فُولٍ، وَوَسْقًا مِنْ حِمَّصٍ، وَآخَرَ مِنْ عَدَسٍ، وَآخَرَ مِنْ جُلُبَّانٍ، وَآخَرَ مَنْ لُوبِيَا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ، وَكَذَلِكَ يُضَمُّ عِنْدَهُ الْقَمْحُ، وَالشَّعِيرُ، وَالسُّلْتُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، كَالصِّنْفِ الْوَاحِدِ، وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ، وَلَا يُضَمُّ عِنْدَهُ تَمْرٌ إِلَى زَبِيبٍ، وَلَا حِنْطَةٌ إِلَى قُطْنِيَّةٍ، وَلَا تَمْرٍ إِلَى حِنْطَةٍ، وَلَا أَيُّ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ آخَرَ، غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ ضَمَّهُ لِتَقَارُبِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ عِنْدَهُ، وَالنَّوْعُ الْوَاحِدُ، كَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْحِنْطَةِ يُضَمُّ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ إِلَى بَعْضٍ كَصَيْحَانِيٍّ، وَبَرْنِيٍّ، وَسَمْرَاءَ، وَمَحْمُولَةٍ، وَزَبِيبٍ أَسْوَدَ، وَزَبِيبٍ أَحْمَرَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا زَكَاةَ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، كَالرُّمَّانِ - وَالتُّفَّاحِ - وَالْخَوْخِ وَالْإِجَّاصِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَاللَّوْزِ، وَالْجَوْزِ، وَالْجِلَّوْزِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا لَا زَكَاةَ عِنْدَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ، قَالَ فِي «الْمُوَطَّإِ» : السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ كُلِّهَا صَدَقَةٌ، الرُّمَّانُ، وَالْفِرْسِكُ، وَالتِّينُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يُشْبِهْهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْفَوَاكِهِ. قَالَ: وَلَا فِي الْقَضْبِ، وَلَا فِي الْبُقُولِ كُلِّهَا صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَثْمَانِهَا إِذَا بِيعَتْ صَدَقَةٌ، حَتَّى يَحُولَ عَلَى أَثْمَانِهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ بَيْعِهَا، وَيَقْبِضُ صَاحِبُهَا ثَمَنَهَا وَهُوَ نِصَابٌ. اهـ. وَالْفِرْسِكُ: بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ بَيْنَهَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ آخِرُهُ كَافٌ - الْخَوْخُ، وَهِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ، وَقِيلَ: نَوْعٌ مِثْلُهُ فِي الْقَدْرِ، وَهُوَ أَجْرَدُ أَمْلَسُ أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ جَيِّدٌ، وَقِيلَ: مَا لَيْسَ يَنْفَلِقُ عَنْ نَوَاةٍ مِنَ الْخَوْخِ. وَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ أَوِ الثَّمَرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَقَدْ قَالَ فِيهِ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّإِ» : فِي النَّخِيلِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَجُذَّانِ مِنْهُ ثَمَانِيَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ أَنَّهُ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمَا فِيهَا، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْهَا مَا يَجُذُّ مِنْهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلِلْآخَرِ مَا يَجُذُّ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي جَذَّ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا صَدَقَةٌ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ فِي كُلِّ زَرْعٍ مِنَ الْحُبُوبِ كُلِّهَا يُحْصَدُ، أَوِ النَّخْلِ يُجَذُّ، أَوِ الْكَرْمِ يُقْطَفُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَجُذُّ مِنَ التَّمْرِ، أَوْ يَقْطِفُ مِنَ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، أَوْ يَحْصُدُ مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَمَنْ كَانَ حَقُّهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ بَلَغَ جِذَاذَهُ، أَوْ قِطَافَهُ، أَوْ حَصَادَهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، انْتَهَى مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 «مُوَطَّإِ» مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ. وَإِذَا أَمْسَكَ ذَلِكَ الْحَبَّ أَوِ التَّمْرَ الَّذِي أَخْرَجَ زَكَاتَهُ سِنِينَ، ثُمَّ بَاعَهُ - فَحُكْمُهُ عِنْدَ مَالِكٍ مَا ذَكَرَهُ فِي «مُوَطَّئِهِ» حَيْثُ قَالَ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا الْحِنْطَةِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْحُبُوبِ كُلِّهَا، ثُمَّ أَمْسَكَهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّى صَدَقَتَهُ سِنِينَ، ثُمَّ بَاعَهُ، أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهِ زَكَاةٌ، حَتَّى يَحُولَ عَلَى ثَمَنِهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ بَاعَهُ، إِذَا كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ مِنْ فَائِدَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ، وَالْحُبُوبِ، وَالْعُرُوضِ يُفِيدُهَا الرَّجُلُ، ثُمَّ يُمْسِكُهَا سِنِينَ، ثُمَّ يَبِيعُهَا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ بَاعَهَا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْعُرُوضِ لِلتِّجَارَةِ ; فَعَلَى صَاحِبِهَا فِيهَا الزَّكَاةُ حِينَ يَبِيعُهَا، إِذَا كَانَ حَبَسَهَا سَنَةً مِنْ يَوْمِ زَكَّى الْمَالَ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ، انْتَهَى فِي «الْمُوَطَّإِ» ، وَهَذَا فِي الْمُحْتَكِرِ، أَمَّا الْمُدِيرُ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُهَا بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ زَكَاتِهِ، كَمَا فِي «الْمُدَوَّنَةِ» عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ أَيْضًا، إِلَّا فِيمَا كَانَ قُوتًا يُدَّخَرُ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ فَقَطْ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مَالِكٍ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِي سِوَاهُمَا مِنَ الثِّمَارِ كَالتِّينِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالرُّمَّانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَلَا مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُدَّخَرَةِ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِي طَلْعِ الْفُحَّالِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ الثِّمَارُ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الزَّيْتُونِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ، تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَ فِي الزَّيْتِ الْعُشْرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: فِي الزَّيْتُونِ الزَّكَاةُ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُوتٍ فَهُوَ كَالْخُضْرَاوَاتِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا فِي الْوَرْسِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى بَنِي خُفَّاشٍ، أَنْ أَدُّوا زَكَاةَ الذُّرَةِ وَالْوَرْسِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا زَكَاةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ نَبْتٌ لَا يُقْتَاتُ، فَأَشْبَهَ الْخُضْرَاوَاتِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ: لَا عُشْرَ فِي الْوَرْسِ لَمْ يُوجِبْ فِي الزَّعْفَرَانِ، وَمَنْ قَالَ: يَجِبُ فِي الْوَرْسِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُوجِبَ فِي الزَّعْفَرَانِ ; لِأَنَّهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 طَيِّبَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَلَّا يُوجِبَ فِي الزَّعْفَرَانِ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوَرْسَ شَجَرٌ لَهُ سَاقٌ، وَالزَّعْفَرَانَ نَبَاتٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي الْعَسَلِ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ فِيهِ، وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي شَبَابَةَ «بَطْنٌ مِنْ فَهْمٍ» كَانُوا يُؤَدُّونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَحْلٍ كَانَ عِنْدَهُمُ الْعُشْرَ، مِنْ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَجِبُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُوتٍ فَلَا يَجُبْ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْبَيْضِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي الْقُرْطُمِ، وَهُوَ حَبُّ الْعُصْفُرِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ إِنْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَجِبُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُوتٍ، فَأَشْبَهَ الْخُضْرَاوَاتِ، قَالَهُ كُلَّهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ: «أَنَّهُ جَعَلَ فِي الزَّيْتِ الْعُشْرَ» ، ضَعِيفٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، وَرَاوِيهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، قَالَ: وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الزَّيْتُونِ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي زَكَاةِ الزَّيْتُونِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِمَّنْ عَصَرَ زَيْتُونَهُ حِينَ يَعْصِرُهُ، فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِرَشِّ النَّاضِحِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ اشْتِهَارُهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَحَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَعْلَى، وَأَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، يَعْنِي رِوَايَتَهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمَا، لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: «لَا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ» . وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَضَعِيفٌ أَيْضًا، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَعِيفٌ أَيْضًا، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَضَعَّفَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى ضَعْفِهِ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ عَلَى ضَعْفِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا إِسْنَادٌ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، قَالَ: وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَوْ كَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ بَنِي شَبَابَةَ فِي الْعَسَلِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا كَبِيرُ شَيْءٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ «الْعِلَلِ» : قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الْآثَارِ، وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي هَذَا الْفَصْلِ ضَعِيفَةٌ، انْتَهَى كَلَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 النَّوَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» فِي أَثَرِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الزَّيْتُونِ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، وَالرَّاوِي لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَأَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: «مَضَتِ السُّنَّةُ فِي زَكَاةِ الزَّيْتُونِ» إِلَخْ. وَقَالَ فِي «التَّلْخِيصِ» أَيْضًا، فِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الزَّيْتُونِ: ذَكَرَهُ «صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا: رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِ «نَيْسَابُورَ» مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «الزَّكَاةُ فِي خَمْسٍ: فِي الْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالْأَعْنَابِ، وَالنَّخِيلِ، وَالزَّيْتُونِ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْوَقَّاصِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ حَبِّ الْعُصْفُرِ، وَهُوَ الْقُرْطُمُ، لَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا، وَقَالَ فِي «التَّلْخِيصِ» أَيْضًا فِي خَبَرِ أَخْذِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْعَسَلِ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْعَسَلِ فِي كُلِّ عَشْرَةِ أَزْقَاقٍ زِقٌّ» ، وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَلَا يَصِحُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ صَدَقَةُ السَّمِينُ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحِفْظِ. وَقَدْ خُولِفَ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ صَدَقَةُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَابَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ، ذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَضْعِيفُهُ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ، فَقَالَ: هُوَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ، وَنَقَلَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِ «نَيْسَابُورَ» ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ بِحَدِيثٍ كَادَ أَنْ يَهْلِكَ، حَدَّثَ عَنْ عَارِمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «أُخِذَ مِنَ الْعَسَلِ الْعُشْرُ» . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ كَذَلِكَ: حَدَّثَنَاهُ عَارِمٌ، وَغَيْرُهُ قَالَ: وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْ كِتَابِهِ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، فَدَخَلَهُ هَذَا الْوَهْمُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قُلْتُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْمِصْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «جَاءَ هِلَالٌ» أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ «إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُ يُقَالُ لَهُ» سَلَبَةُ «فَحَمَاهُ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى عُمَرُ كَتَبَ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ، إِنْ أَدَّى إِلَيْكَ مَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُشُورِ نَحْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا، عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا، قُلْتُ: فَهَذِهِ عِلَّتُهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ لَهِيعَةَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ، وَلَكِنْ تَابَعَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَحَدُ الثِّقَاتِ، وَتَابَعَهُمَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَغَيْرِهِ كَمَا مَضَى. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ، قُلْتُ: هُوَ الْمُتَعِيُّ، قَالَ:» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لِي نَحْلًا، قَالَ: «أَدِّ الْعُشُورَ» ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِ لِي جَبَلَهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يُدْرِكْ سُلَيْمَانُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا تَقُومُ بِهَذَا حُجَّةٌ، قَالَ: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ:» أَدُّوا الْعُشْرَ فِي الْعَسَلِ «، وَأَتَى بِهِ عُمَرُ، فَقَبَضَهُ، فَبَاعَهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُنِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْأَزْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَسَعْدُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ، يَحْكِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ رَآهُ هُوَ فَتَطَوَّعَ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ، وَقَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: الْحَدِيثُ فِي أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ ضَعِيفٌ، وَاخْتِيَارِي أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ثَابِتٌ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: «جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي، وَهُوَ بِمِنًى: أَلَّا تَأْخُذْ مِنَ الْخَيْلِ، وَلَا مِنَ الْعَسَلِ صَدَقَةً» ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وَقَالَ فِي «التَّلْخِيصِ» أَيْضًا: إِنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ: أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ زَكَاةَ الْعَسَلِ، وَأَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ» ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «الْمَرَاسِيلِ» ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي «مَسْنَدِهِ» ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْهُ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ طَاوُسٍ وَمُعَاذٍ، لَكِنْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ قَوِيٌّ ; لِأَنَّ طَاوُسًا كَانَ عَارِفًا بِقَضَايَا مُعَاذٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ أَحْوَطُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَقَلَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» عَنْ مَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَحُجَّتُهُمُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رَأَيْتَ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرِهِمْ. وَحُجَّتُهُمْ عَدَمُ صِحَّةِ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَأَنَّهُ مَائِعٌ خَارِجٌ مِنْ حَيَوَانٍ فَأَشْبَهَ اللَّبَنَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ لِلْعُشْرِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَنِصَابُ الْعَسَلِ، قِيلَ: خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقِيلَ: خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ، وَقِيلَ: سِتُّونَ رِطْلًا، وَقِيلَ: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . وَأَمَّا الْحُبُوبُ: فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِلَّا فِيمَا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ مِنْهَا، وَلَا زَكَاةَ عِنْدَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ الَّتِي لَا تُقْتَاتُ وَلَا تُدَّخَرُ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ، فَمَذْهَبُهُ يُوَافِقُ مَذْهَبَ مَالِكٍ، كَمَا قَدَّمْنَا، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَضُمُّ بَعْضَ الْأَنْوَاعِ إِلَى بَعْضٍ، وَمَالِكٌ يَضُمُّ الْقَطَانِيَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ الْقَمْحُ، وَالشَّعِيرُ، وَالسُّلْتُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيمَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، مِمَّا يَيْبَسُ، وَيَبْقَى، مِمَّا يُكَالُ. فَأَوْصَافُ الْمُزَكِّي عِنْدَهُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ الْكَيْلُ، وَالْبَقَاءُ، وَالْيُبْسُ، فَمَا كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَجَبَتْ فِيهِ عِنْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا أَمْ لَا، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِيهِ ; فَتَجِبُ عِنْدَهُ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسُّلْتِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وَالْأَرُزِّ، وَالذُّرَةِ، وَالدُّخْنِ، وَالْقَطَانِيِّ كَالْبَاقِلَّا، وَالْعَدَسِ، وَالْحِمَّصِ، وَالْأَبَازِيرِ كَالْكَمُّونِ، وَالْكَرَاوْيَا، وَالْبَزْرِ كَبَزْرِ الْكَتَّانِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَحَبِّ الْبُقُولِ كَالرَّشَادِ، وَحَبِّ الْفُجْلِ، وَالْقُرْطُمِ، وَالسِّمْسِمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ، كَمَا تَجِبُ عِنْدَهُ أَيْضًا فِيمَا جَمَعَ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ مِنَ الثِّمَارِ، كَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبُنْدُقِ. وَلَا زَكَاةَ عِنْدَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ: كَالْخَوْخِ، وَالْإِجَّاصِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَالتُّفَّاحِ، وَالتِّينِ، وَالْجَوْزِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْخُضَرِ: كَالْقِثَّاءِ، وَالْخِيَارِ، وَالْبَاذِنْجَانِ، وَاللِّفْتِ، وَالْجَزَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُرْوَى نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحُبُوبِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لَا شَيْءَ فِي الْأَبَازِيرِ، وَلَا الْبَزْرِ، وَلَا حَبِّ الْبُقُولِ. قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَلَعَلَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ إِلَّا فِيمَا كَانَ قُوتًا، أَوْ أَدَمًا ; لِأَنَّ مَا عَدَاهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ; فَيَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَلَا زَكَاةَ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا يَنْبُتُ مِنَ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ، إِلَّا بِأَخْذِهِ: كَالْبُطْمِ، وَشَعِيرِ الْجَبَلِ، وَبِزْرِ قُطُونَا، وَبِزْرِ الْبَقْلَةِ، وَحَبِّ النَّمَامِ، وَبِزْرِ الْأُشْنَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَنِ الْقَاضِي: أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، إِذَا نَبَتَ بِأَرْضِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ تَسَاقَطَ فِي أَرْضِهِ حَبٌّ كَحِنْطَةٍ مَثَلًا فَنَبَتَ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ. وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا لَيْسَ بِحَبٍّ، وَلَا ثَمَرٍ، سَوَاءٌ وُجِدَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالِادِّخَارُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَلَا تَجِبُ فِي وَرَقٍ مِثْلِ وَرَقِ السِّدْرِ، وَالْخِطْمِيِّ، وَالْأُشْنَانِ، وَالصَّعْتَرِ، وَالْآسِ، وَنَحْوِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلَا زَكَاةَ عِنْدَهُ فِي الْأَزْهَارِ: كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْعُصْفُرِ، وَالْقُطْنِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَبٍّ، وَلَا ثَمَرٍ، وَلَا هِيَ بِمَكِيلٍ ; فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا زَكَاةٌ كَالْخُضْرَاوَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ فِي الْقُطْنِ شَيْءٌ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الزَّعْفَرَانِ زَكَاةٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَاخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرِّوَايَةُ فِي الزَّيْتُونِ: فَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ صَالِحٌ: أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِيهِ، قَالَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَائِلٌ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ: إِلَّا الْحَطَبُ، وَالْحَشِيشُ، وَالْقَصَبُ، وَالتِّبْنُ، وَالسَّعَفُ، وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ، وَقَصَبُ السُّكَّرِ. اهـ. وَالذَّرِيرَةُ: قَصَبٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ، كَقَصَبِ النِّشَابِ، أَحْمَرُ يُتَدَاوَى بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ النَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَصَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي أَحْكَامِهِ، قَالَ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَجَعَلَ الْآيَةَ مِرْآتَهُ فَأَبْصَرَ الْحَقَّ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي تَعْيِينِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، وَسَنُشِيرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى دَلِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَقَدِ احْتَجَّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِيهَا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [6 \ 141] الْآيَةَ، وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ الْآيَةَ [2 \ 267] ، وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَقْبَلْ تَخْصِيصَهُ بِحَدِيثِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ; لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي أُصُولِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْعَامَ قَطْعِيُّ الشُّمُولِ، وَالتَّنَاوُلُ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَهُوَ عَلَى فَرْدٍ يَدُلُّ حَتْمَا ... وَفَهْمُ الِاسْتِغْرَاقِ لَيْسَ جَزْمَا بَلْ هُوَ عِنْدَ الْجِلِّ بِالرُّجْحَانِ ... وَالْقَطْعُ فِيهِ مَذْهَبُ النُّعْمَانِ فَمَا كَانَ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ يَدْخُلُ عِنْدَهُ دُخُولًا مَجْزُومًا بِهِ فِي عُمُومِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَالْحَدِيثِ، فَلَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ، بَلْ يَتَعَارَضَانِ، وَتَقْدِيمُ مَا دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ مَا دَلَّ عَلَى غَيْرِهِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَحَجَّتُهُمَا فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهُ لَا زَكَاةَ غَيْرُ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُبُوبِ إِلَّا فِيمَا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ، وَلَا زَكَاةَ فِي الْفَوَاكِهِ وَلَا الْخُضْرَاوَاتِ ; لِأَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ دَلَّا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقْتَاتٌ مُدَّخَرٌ، فَأَلْحَقُوا بِهَا كُلَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا لِكَوْنِهِ مُقْتَاتًا وَمُدَّخَرًا، وَلَمْ يَرَيَا أَنَّ فِي الْأَشْجَارِ مُقْتَاتًا وَلَا مُدَّخَرًا غَيْرَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ; فَلَمْ يُشَارِكْهُمَا فِي الْعِلَّةِ غَيْرُهُمَا مِنَ الثِّمَارِ، وَلِذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِوُجُوبِهَا فِي التِّينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِ مَالِكٍ ; لِأَنَّهُ كَالزَّبِيبِ فِي الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَالِكًا مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ التِّينَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَيُوجَدُ فِيهَا الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ، فَأَلْحَقَا بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ كُلَّ مَا كَانَ مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا، كَالْأَرُزِّ، وَالذُّرةِ، وَالدُّخْنِ، وَالْقَطَانِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ إِلْحَاقٌ مِنْهُمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِلْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ ; بِجَامِعِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمَا الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا مُنَاسِبٌ لِوُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِيهِ ; لِاحْتِيَاجِ الْمَسَاكِينِ إِلَى قُوتٍ يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَدَّخِرُونَ. وَأَمَّا أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَحُجَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيمَا يَبْقَى وَيَيْبَسُ وَيُكَالُ، أَمَّا مَا لَا يَيْبَسُ وَلَا يَبْقَى، كَالْفَوَاكِهِ، وَالْخُضْرَاوَاتِ، لَمْ تَكُنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَدَلِيلُهُ فِي اشْتِرَاطِهِ الْكَيْلَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ، قَالَ: فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ فِي الْوَسْقِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَكِيلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا دَلِيلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ الْفَوَاكِهَ وَالْخُضْرَاوَاتِ لَا زَكَاةَ فِيهَا فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْخُضْرَاوَاتِ كَانَتْ كَثِيرَةً بِالْمَدِينَةِ جِدًّا، وَالْفَوَاكِهَ كَانَتْ كَثِيرَةً بِالطَّائِفِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ كَانَ بِالطَّائِفِ الرُّمَّانُ، وَالْفِرْسِكُ، وَالْأُتْرُجُّ، فَمَا اعْتَرَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا ذَكَرَهُ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، قُلْتُ: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَحْكَامِ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ الْخُضْرَاوَاتِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ، أَوْ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّدْبِ؟ وَلَا قَاطِعَ يُبَيِّنُ أَحَدَ مَحَامِلِهَا، بَلِ الْقَاطِعُ الْمَعْلُومُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بُكَيْرٍ فِي أَحْكَامِهِ: أَنَّ الْكُوفَةَ افْتُتِحَتْ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ بِالْمَدِينَةِ، أَفَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ، أَوْ مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةٌ مِثْلُ هَذِهِ عُطِّلَتْ فَلَمْ يُعْمَلْ بِهَا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَمُسْتَقِرِّ الْوَحْيِ، وَلَا خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى عَمِلَ بِذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ؟ إِنَّ هَذِهِ لَمُصِيبَةٌ فِيمَنْ ظَنَّ هَذَا، أَوْ قَالَ بِهِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ مَعْنَى التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [5 \ 67] ، أَتُرَاهُ يَكْتُمُ شَيْئًا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أَوْ بَيَانِهِ؟ حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [5 \ 3] ، وَمِنْ كَمَالِ الدِّينِ كَوْنُهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ شَيْئًا، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ الْمَقَاثِئَ كَانَتْ تَكُونُ عِنْدَنَا تَخْرُجُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَلَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ: تُزَكَّى أَثْمَانُ الْخُضَرِ إِذَا أَيْنَعَتْ وَبَلَغَ الثَّمَنُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ فِي ثَمَنِ الْفَوَاكِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُ عَنِ الْخُضْرَاوَاتِ، وَهِيَ الْبُقُولُ، فَقَالَ: «لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ» ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَعَلِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَعَائِشَةَ، ذَكَرَ أَحَادِيثَهُمُ الدَّارَقُطْنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِحَدِيثِ صَالِحِ بْنِ مُوسَى عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْخُضَرِ زَكَاةٌ» ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ ثِقَاتِ أَصْحَابِ مَنْصُورٍ أَحَدٌ هَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ. قُلْتُ وَإِذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ لِضَعْفِ أَسَانِيدِهَا، لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْآيَةِ، وَعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، بِمَا ذَكَرْنَا. اهـ. كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ: الْحِنْطَةُ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ، هِيَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ، وَفِيهَا حَدِيثُ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الَّذِي تَقَدَّمَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَوِيٌّ مُتَّصِلٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْخُضَرِ زَكَاةٌ إِلَّا مَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ، سِوَى الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُوزَنُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ فِي الْعُصْفُرِ، وَالْكَتَّانِ، وَالْبِزْرِ، فَإِذَا بَلَغَ بِزْرُهُمَا مِنَ الْقُرْطُمِ وَالْكَتَّانِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ; كَانَ الْعُصْفُرُ وَالْكَتَّانُ تَبَعًا لِلْبِزْرِ، وَأُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَأَمَّا الْقُطْنُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَحْمَالٍ شَيْءٌ، وَالْحِمْلُ ثَلَاثُمِائَةِ مِنْ بِالْعِرَاقِيِّ، وَالْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَمْنَانٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ أَمْنَانٍ كَانَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَكَذَلِكَ قَصَبُ السُّكَّرِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ السُّكَّرُ، وَيَكُونُ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ دُونَ أَرْضِ الْخَرَاجِ فِيهِ مَا فِي الزَّعْفَرَانِ، وَأَوْجَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ الزَّكَاةَ فِي أُصُولِ الثِّمَارِ دُونَ الْبُقُولِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ مَذْهَبِهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 تَنْبِيهٌ مَنْ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الرُّمَّانِ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ، يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، مَنْسُوخَةً أَوْ مُرَادًا بِهَا غَيْرُ الزَّكَاةِ ; لِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهَا فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، لَا يُمْكِنُ مَعَهَا الْقَوْلُ بِعَدَمِ زَكَاةِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ ; لِأَنَّهَا عَلَى ذَلِكَ صَرِيحَةٌ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، يَرْجِعُ إِلَى كُلِّهَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [6 \ 141] ، وَقَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ لَا لَبْسَ فِيهِ. فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ، فَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الزَّكَاةِ فِي الرُّمَّانِ يُقَوِّي الْقَوْلَ بِنَسْخِ الْآيَةِ، أَوْ أَنَّهَا فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْحِنَّاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوِيٌّ جِدًّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ ضَرْبَانِ: مُوسَقٌ، وَغَيْرُ مُوسَقٍ، فَمَا كَانَ مُوسَقًا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيمَا بَلَغَ مِنْهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَهَا مِنْهُ» ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مُوسَقٍ فَفِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الزَّكَاةُ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، وَلَا يُخَصَّصُ بِحَدِيثِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوسَقٍ أَصْلًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَسْعَدُ الْأَقْوَالِ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْخُضْرَاوَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا فِي الْمَدِينَةِ، وَلَا الْفَوَاكِهِ مَعَ كَثْرَتِهَا بِالطَّائِفِ، وَلَوْ كَانَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِذَلِكَ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا عَرَفْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَأَدِلَّةَ أَقْوَالِهِمْ مِمَّا ذَكَرْنَا. فَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ، وَالْحَكَمِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 لَيْلَى، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، وَمَنْ تَابَعَهُ، وَمُجَاهِدًا، وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَسْقَ سِتُّونَ صَاعًا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْكَسْرِ اسْمٌ وَبِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَوْسُقٍ فِي الْقِلَّةِ وَأَوْسَاقٍ، وَعَلَى وُسُوقٍ فِي الْكَثْرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُدُّ بِالتَّقْرِيبِ: مِلْءُ الْيَدَيْنِ الْمُتَوَسِّطَتَيْنِ، لَا مَقْبُوضَتَيْنِ وَلَا مَبْسُوطَتَيْنِ، وَتَحْدِيدُهُ بِالضَّبْطِ وَزْنُ رِطْلٍ وَثُلُثٍ بِالْبَغْدَادِيِّ، فَمَبْلَغُ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ مِنَ الْأَمْدَادِ أَلْفُ مُدٍّ وَمِائَتَا مُدٍّ، وَمِنَ الصِّيعَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَهِيَ بِالْوَزْنِ أَلْفُ رِطْلٍ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ، وَالرِّطْلُ: وَزْنُ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مَكِّيًّا، وَزَادَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، كُلُّ دِرْهَمٍ وَزْنُ خَمْسِينَ وَخُمُسَيْ حَبَّةٍ مِنْ مُطْلَقِ الشَّعِيرِ، كَمَا حَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَدْرَى النَّاسِ بِحَقِيقَةِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ، وَهُوَ تَعْيِينُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْعُشْرُ فِيمَا لَيْسَ فِي سَقْيِهِ مَشَقَّةٌ، كَالَّذِي يَسْقِيهِ الْمَطَرُ، أَوِ النَّهَرُ، أَوْ عُرُوقُهُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا مَا يُسْقَى بِالْآلَةِ كَالَّذِي يُسْقَى بِالنَّوَاضِحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، فَإِنْ سَقَى تَارَةً بِمَطَرِ السَّمَاءِ مَثَلًا، وَتَارَةً بِالسَّانِيَةِ فَإِنِ اسْتَوَيَا فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرٍ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَغْلَبَ فَقِيلَ: يُغَلَّبُ الْأَكْثَرُ وَيَكُونُ الْأَقَلُّ تَبَعًا لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِالتَّقْسِيطِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا شَهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا حَيِيَ بِهِ الزَّرْعُ وَتَمَّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالتَّقْسِيطِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ حَامِدٍ، فَإِنْ جَهِلَ الْمِقْدَارَ وَجَبَ الْعُشْرُ احْتِيَاطًا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» ; وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعُشْرِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ نِصْفُهُ بِتَحَقُّقِ الْكُلْفَةِ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمُسْقِطِ وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا. وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ فِي أَيِّهِمَا سَقَى بِهِ أَكْثَرُ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ; لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ، وَلَا وَقْصَ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، بَلْ كُلُّ مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ أُخْرِجَ مِنْهُ بِحَسَبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَبْحَثِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ قَدَّمْنَا إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَجُمْهُورِهِمْ عَلَى أَنَّهُمَا يُخْرَصَانِ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُمَا ; لِأَنَّ الْمَالِكِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى أَكْلِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ ; فَبِسَبَبِ ذَلِكَ شُرِعَ خَرْصُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ، وَيُخْرَصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَجَرَةً شَجَرَةً، حَتَّى يُعْلَمَ قَدْرُ مَا فِي الْجَمِيعِ الْآنَ مِنَ الْأَوْسَاقِ، ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْهُ قَدْرُ مَا يَنْقُصُهُ الْجَفَافُ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنَ الْعِنَبِ أَوِ الرُّطَبِ، وَإِذَا جَفَّ كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ مَثَلًا، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ; لِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ الْيَابِسَيْنِ، لَا مِنَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ، وَإِذَا خَرَصَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا خَلَّى بَيْنَ مَالِكِيهِ وَبَيْنَهُ، وَبَعْدَ الْجِذَاذِ يَأْتُونَ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى الْخَرْصِ الْمَذْكُورِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الِاحْتِيَاطِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالرِّفْقِ بِأَرْبَابِ الثِّمَارِ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ بَعْدَ الْخَرْصِ جَائِحَةٌ، اعْتُبِرَتْ، وَسَقَطَتْ زَكَاةُ مَا اجْتَاحَتْهُ الْجَائِحَةُ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا أَخْرَجَ الزَّكَاةَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ الْجَائِحَةِ بَعْدَ الْخَرْصِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِخَرْصِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ: الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، وَمَرْوَانُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي "، وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ الْخَرْصَ بِدْعَةٌ، وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَرْصُ تَخْوِيفًا لِلْقَائِمِينَ عَلَى الثِّمَارِ ; لِئَلَّا يَخُونُوا، فَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ فَلَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ تُبْطِلُهُ نُصُوصُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ " تَبُوكَ " فَأَتَيْنَا وَادِيَ الْقُرَى عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اخْرِصُوهَا "، فَخَرَصْنَاهَا، وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، وَقَالَ: " أَحْصِيهَا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَانْطَلَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: " ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا؟ قَالَتْ: بَلَغَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ "، فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ، كَمَا تَرَى. وَعَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ. وَعَنْ عَتَّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا قَالَ: " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ، كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْلِ تَمْرًا "، أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَالتَّحْقِيقُ فِي حَدِيثِ عَتَّابٍ هَذَا: أَنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ عَتَّابًا ; لِأَنَّ مَوْلِدَ سَعِيدٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَعَتَّابٌ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ أَثْبَتَ الْحُجَّةَ بِمَرَاسِيلِ سَعِيدٍ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُونَ بِعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَنْ قَالَ يُحْتَجُّ بِمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مُطْلَقًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنَّمَا يُحْتَجُّ بِمَرَاسِيلِهِ إِذَا اعْتَضَدَتْ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَنْ يُسْنِدَ، أَوْ يُرْسِلَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ يَقُولَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، أَوْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ هُنَا ; فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَبِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ تَعْلَمُ اتِّفَاقَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْمُرْسَلِ، وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ يَحْتَجُّونَ بِالْمُرْسَلِ مُطْلَقًا، فَظَهَرَ إِجْمَاعُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُرْسَلِ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ مُتَّصِلًا، فَقَالَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ يُخَيِّرُ يَهُودَ يَأْخُذُونَهُ بِذَلِكَ الْخَرْصِ، أَوْ يَدْفَعُونَهُ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْخَرْصِ ; لِكَيْ يُحْصِيَ الزَّكَاةَ قَبْلَ أَنْ تُؤَكِّلَ الثِّمَارُ وَتُفَرِّقَ "، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ أُعِلَّ بِأَنَّ فِيهِ وَاسِطَةً بَيْنَ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يُعْرَفْ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَابْنُ جُرَيْجٍ مُدَلِّسٌ ; فَلَعَلَّهُ تَرَكَهَا تَدْلِيسًا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ قَالَ: فَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَرْسَلَهُ مَعْمَرٌ، وَمَالِكٌ، وَعَقِيلٌ: فَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: خَرَصَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسَقٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " أَيْضًا: رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ "، الْحَدِيثَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: " لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ خَيْبَرَ أَقَرَّهُمْ، وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَخَرَصَهَا عَلَيْهِمْ "، الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَاهُ خَارِصًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا حَثْمَةَ قَدْ زَادَ عَلَيَّ " الْحَدِيثَ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثَ عَتَّابٍ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ اللَّذَيْنِ قَدَّمْنَاهُمَا، ثُمَّ قَالَ وَفِي الصَّحَابَةِ، لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الصَّلْتِ بْنِ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْخَرْصِ، فَقَالَ: " أَثْبِتْ لَنَا النِّصْفَ، وَأَبْقِ لَهُمُ النِّصْفَ، فَإِنَّهُمْ يَسْرِقُونَ، وَلَا نَصِلُ إِلَيْهِمْ ". فَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَرْصَ حَكَمٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ بَاطِلٌ، بَلْ هُوَ اجْتِهَادٌ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّمَرِ، وَإِدْرَاكُهُ بِالْخَرْصِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْمَعَايِيرِ، فَهُوَ كَتَقْوِيمِ الْمَتْلَفَاتِ، وَوَقْتُ الْخَرْصِ حِينَ يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ، كَمَا قَدَّمْنَا لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الرِّوَايَةِ: " بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ الْخَارِصَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ "، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِالْخَرْصِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقِيلَ: هُوَ سُنَّةٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِهِ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ ; لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَتَّابٍ مِنْ قَوْلِهِ: " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ "، الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، قَالُوا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهُ إِنْ تَرَكَ الْخَرْصَ قَدْ يَضِيعُ شَيْءٌ مِنْ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ الْوُجُوبِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَاجِبٌ يَسْتَوْجِبُ تَرْكُهُ الْعِقَابَ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ قَوِيٍّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْخَرْصِ، هَلْ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا؟ ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبْعَ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَابْنَ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمَ، وَصَحَّحَاهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا، وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ "، فَإِنْ قِيلَ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ الرَّاوِي، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَقَدْ قَالَ الْبَزَّارُ: إِنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَهُ شَاهِدًا بِإِسْنَادٍ مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِهِ، قَالَهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ "، الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْخَارِصَ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَتْرُكُ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبْعَ هُوَ الصَّوَابُ ; لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُعَارِضُهُ ; وَلِأَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يَأْكُلُوا وَيُطْعِمُوا جِيرَانَهُمْ، وَضُيُوفَهُمْ، وَأَصْدِقَاءَهُمْ، وَسُؤَّالَهُمْ ; وَلِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَرِ يَتَسَاقَطُ، وَتَنْتَابُهُ الطَّيْرُ، وَتَأْكُلُ مِنْهُ الْمَارَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمُ الْخَارِصُ شَيْئًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُمُ الْأَكْلَ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَلْزَمُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَحْسَبُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مُقْتَضَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، فَإِنْ زَادَ الثَّمَرُ أَوْ نَقَصَ عَمَّا خَرَصَهُ بِهِ الْخَارِصُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا زَادَ، وَتَلْزَمُهُ فِيمَا نَقَصَ ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ مَضَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُنْدَبُ الْإِخْرَاجُ فِي الزَّائِدِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا نَقَصَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ، قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ ": وَإِنْ زَادَتْ عَلَى تَخْرِيصِ عَارِفٍ فَالْأَحَبُّ الْإِخْرَاجُ، وَهَلْ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوِ الْوُجُوبِ؟ تَأْوِيلَانِ. قَالَ شَارِحُهُ الْمَوَّاقُ مِنَ الْمُدَوِّنَةِ: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ خَرَصَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ فَرَفَعَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَحْبَبْتُ لَهُ أَنْ يُزَكِّيَ ابْنُ يُونُسَ، قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: لَفْظَةُ أَحْبَبْتُ هَا هُنَا عَلَى الْإِيجَابِ، وَهُوَ صَوَابٌ كَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِحُكْمٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ صُرَاحٌ. ابْنُ عَرَفَةَ، عَلَى هَذَا حَمَلَهَا الْأَكْثَرُ، وَحَمَلَهَا ابْنُ رَشِيدٍ، وَعِيَاضٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزَّائِدِ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا النَّقْصُ: فَإِذَا ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا نَقَصَتْ عَمَّا خُرِصَتْ بِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا نَقَصَتْ بِهِ، وَإِنِ ادَّعَى غَلَطَ الْخَارِصِ. فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْخَارِصَ أَمِينٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تُقْبَلُ دَعْوَاهُ غَلَطَ الْخَارِصِ، إِذَا كَانَتْ مُشَبَّهَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ بَعِيدَةً، كَدَعْوَاهُ زِيَادَةَ النِّصْفِ أَوِ الثُّلُثَيْنِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْجَمِيعِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ: يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْكَثِيرِ الَّذِي ادَّعَى قَدْرَ النَّقْصِ الَّذِي تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِيهِ، وَأَمَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ الْخَارِصَ جَارَ عَلَيْهِ عَمْدًا، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوِ ادَّعَى جَوْرَ الْحَاكِمِ، أَوْ كَذِبَ الشَّاهِدِ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْخَرْصِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ مَا زَادَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنِ ادَّعَى رَبُّ الثَّمَرِ: أَنَّهُ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَهُ، فَالظَّاهِرُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا يُشْبِهُ قَوْلُهُ، كَمَا لَوِ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَهُ سُرِقَ بِاللَّيْلِ مَثَلًا قِيلَ بِيَمِينٍ. وَقِيلَ: لَا، وَإِنْ أَضَافَ هَلَاكَ الثَّمَرَةِ إِلَى سَبَبٍ يُكَذِّبُهُ الْحِسُّ، كَأَنْ يَقُولَ: هَلَكَتْ بِحَرِيقٍ، وَقَعَ فِي الْجَرِينِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْتَرِقْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى كَلَامِهِ، فَإِنْ عُلِمَ وُقُوعُ السَّبَبِ الَّذِي ذُكِرَ، وَعُمُومُ أَثَرِهِ صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ، وَإِنِ اتُّهِمَ حَلَفَ، قِيلَ: وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَدَمُ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ وَلَا وُجُودُهُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ أَصْلِ السَّبَبِ، ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ بِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ الْأَخِيرُ لِلشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخْرَصُ غَيْرُ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، فَلَا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ، وَالزَّرْعُ، وَلَا غَيْرُهُمَا، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الزَّيْتُونِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي التَّمْرِ، وَالْعِنَبِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَرْصِ لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ. الثَّانِي: أَنَّ غَيْرَهُمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو غَالِبًا إِلَى أَكْلِ الرُّطَبِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ تَمْرًا، وَالْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ زَبِيبًا، وَلَيْسَ غَيْرُهُمَا كَذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ ظَاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ فِي عُذُوقِهَا، وَالْعِنَبُ ظَاهِرٌ أَيْضًا مُجْتَمِعٌ فِي عَنَاقِيدِهِ، فَحَرْزُهُمَا مُمْكِنٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْحُبُوبِ، فَإِنَّهُ مُتَفَرِّقٌ فِي شَجَرِهِ، وَالزَّرْعُ مُسْتَتِرٌ فِي سُنْبُلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْحَاجَةِ إِلَى أَكْلِهِ لَا يُحْسَبُ ; لِمَا قَدَّمْنَا، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُحْسَبُ عَلَيْهِمْ كُلَّمَا أَكَلُوهُ مِنَ الْحَبِّ، وَلَا يُحْسَبُ مَا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ فِي دَرْسِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الثِّمَارِ إِلَّا مِنَ التَّمْرِ الْيَابِسِ وَالزَّبِيبِ الْيَابِسِ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْحُبُوبِ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَّا مِنَ الْحَبِّ الْيَابِسِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأُجْرَةُ الْقِيَامِ عَلَى الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ حَتَّى تَيْبَسَ وَتُصَفَّى مِنْ خَالِصِ مَالِ رَبِّ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، فَإِنْ دَفَعَ زَكَاةَ التَّمْرِ بُسْرًا أَوْ رَطْبًا، أَوْ دَفَعَ زَكَاةَ الزَّبِيبِ عِنَبًا، لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ دَفَعَ غَيْرَ الْوَاجِبِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ يَابِسَانِ إِجْمَاعًا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لِلرَّطْبِ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ بَعْدَ التَّجْفِيفِ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَ غَيْرَ الْفَرْضِ فَلَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الصَّغِيرَ عَنِ الْمَاشِيَةِ الْكِبَارِ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ فِي أَنَّ الرُّطَبَ غَيْرُ الْوَاجِبِ، وَأَنَّ مَنْزِلَتَهُ مِنَ التَّمْرِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ كَمَنْزِلَةِ صِغَارِ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْكِبَارِ الَّتِي هِيَ الْوَاجِبَةُ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» مَا نَصُّهُ: فَلَوْ أَخْرَجَ الرُّطَبَ وَالْعِنَبَ فِي الْحَالِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ أَخَذَهُ السَّاعِي غَرِمَهُ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَيْفَ يَغْرَمُهُ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ. الصَّحِيحُ: الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الرُّطَبَ وَالْعِنَبَ مِثْلِيَّانِ أَمْ لَا، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِثْلِيَّيْنِ، وَلَوْ جَفَّ عِنْدَ السَّاعِي، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَجْزَأَ، وَإِلَّا رَدَّ التَّفَاوُتَ، أَوْ أَخَذَهُ، كَذَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ بِحَالٍ لِفَسَادِ الْقَبْضِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى وَالْمُخْتَارُ مَا سَبَقَ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ إِجْزَاءِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» مَا نَصُّهُ: فَإِنْ أَخَذَ الرُّطَبَ وَجَبَ رَدُّهُ، وَإِنْ فَاتَ وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ ; لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ إِجْزَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الرُّطَبِ فِي زَكَاةِ التَّمْرِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنَ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ الْيَابِسَيْنِ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ وَفِي الْمُوَطَّإِ مَا نَصُّهُ: قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ النَّخْلَ تُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهَا وَثَمَرُهَا فِي رُؤُوسِهَا إِذَا طَابَ وَحَلَّ بَيْعُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ صَدَقَتُهُ تَمْرًا عِنْدَ الْجِذَاذِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْكَرْمِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْفَرْضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَفِيهِ تَصْرِيحُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَنِهِ، أَنَّ الزَّكَاةَ تُخْرَجُ تَمْرًا، وَهُوَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى جَوَازَ إِخْرَاجِهَا مِنَ الرُّطَبِ أَوِ الْبُسْرِ، فَدَعَوَاهُ مُخَالِفَةٌ لِلْأَمْرِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَعُلَمَاءِ زَمَنِهِ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الْبَلَحَ الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ وَالْعِنَبَ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ كَبَلَحِ مِصْرَ وَعِنَبِهَا، لَا يَجُوزُ الْإِخْرَاجُ مِنْهُ مَعَ تَعَذُّرِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ الْيَابِسَانِ، بَلْ تُدْفَعُ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ قِيمَتِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَجْعَلُوا الْعِنَبَ وَالرُّطَبَ أَصْلًا، وَلَمْ يَقْبَلُوهُمَا بَدَلًا عَنِ الْأَصْلِ، وَقَالُوا: بِوُجُوبِ الثَّمَنِ إِنْ بِيعَ، وَالْقِيمَةِ إِنْ أُكِلَ. قَالَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَثَمَنُ غَيْرِ ذِي الزَّيْتِ وَمَا لَا يَجِفُّ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا لَا يَجِفُّ، أَنَّ الرُّطَبَ وَالْعِنَبَ اللَّذَيْنِ لَا يَيْبَسَانِ يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْ ثَمَنِهِمَا لَا مِنْ نَفْسِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ، وَفِي الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِفَّ مَا نَصُّهُ: قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ كَانَ رُطَبُ هَذَا النَّخْلِ لَا يَكُونُ تَمْرًا، وَلَا هَذَا الْعِنَبُ زَبِيبًا، فَلْيُخْرَصْ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ مُمْكِنًا، فَإِنْ صَحَّ فِي التَّقْدِيرِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أُخِذَ مِنْ ثَمَنِهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْفَرْضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَرَى إِخْرَاجَ الرُّطَبِ، وَالْعِنَبِ فِي الزَّكَاةِ ; لِعُدُولِهِ عَنْهُمَا إِلَى الثَّمَنِ فِي حَالِ تَعَذُّرِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ الْيَابِسَيْنِ، فَكَيْفَ بِالْحَالَةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَذَّرَا فِيهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِخْرَاجَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ عَمَّا يَبِسَ مِنْ رُطَبٍ وَعِنَبٍ، لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَيْبَسُ كَبَلَحِ مِصْرَ وَعِنَبِهَا، فَفِيهِ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِإِجْزَاءِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ، وَنُقِلَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ، وَسَتَرَى - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ كَلَامَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ الْيَابِسَانِ دُونَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ عِدَّةُ أَدِلَّةٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 الْأَوَّلُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ؛ فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْلِ تَمْرًا» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِمِثْلِ هَذَا الْمُرْسَلِ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدٍ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا عَلِمْتَ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِخَرْصِ الْعِنَبِ وَالنَّخْلِ، وَأَنْ تُؤْخَذَ زَكَاةُ الْعِنَبِ زَبِيبًا، وَصَدَقَةُ النَّخِيلِ تَمْرًا، فَمَنِ ادَّعَى جَوَازَ أَخْذِ زَكَاةِ النَّخْلِ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا، فَدَعْوَاهُ مُخَالِفَةٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ أَمَرَ بِأَخْذِهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا تَمْرًا فِي النَّخْلِ وَزَبِيبًا فِي الْعِنَبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالَ وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا، قَيْدٌ لِعَامِلِهَا، فَكَوْنُ زَكَاةِ النَّخْلِ تَمْرًا وَصْفٌ لَهَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْرَاجِهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا مُتَّصِفَةً بِهِ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهَا تَمْرًا قَيْدٌ لِأَخْذِهَا، فَهُوَ تَقْيِيدٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَخْذِهَا بِأَنْ يَكُونَ فِي حَالِ كَوْنِهَا تَمْرًا، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ، كَكَوْنِهَا رُطَبًا مَثَلًا، وَإِذَا اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ أَخْذَهَا رُطَبًا - مَثَلًا - مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ:» مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ «، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ:» مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ «، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الْآيَةَ [24 \ 63] . وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ إِخْرَاجَ الرُّطَبِ مَثَلًا فِي الزَّكَاةِ مُخَالِفٌ لِمَا سَنَّهُ وَشَرَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَخْذِهَا تَمْرًا، وَزَبِيبًا يَابِسَيْنِ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي» السُّنَنِ الْكُبْرَى «فِي بَابِ» كَيْفَ تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ «، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْمَعْرُوفِ الْفَقِيهُ الْمِهْرَجَانِيُّ، أَنْبَأَ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ نَصْرٍ الْحَذَّاءُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» أَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ أَنْ يَخْرُصَ الْعِنَبَ كَمَا يَخْرُصُ النَّخْلَ، ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا «، قَالَ: فَتِلْكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ: إِخْرَاجَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمُخْرِجُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَرَى. الدَّلِيلُ الثَّانِي: إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ مِنْ نَوْعِ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، وَالْعَيْنُ الْوَاجِبَةُ فِيهَا الزَّكَاةُ هِيَ: التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ الْيَابِسَانِ، لَا الرُّطَبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وَالْعِنَبُ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِالنِّصَابِ فِي الثِّمَارِ، عَلَى أَنَّ خَمْسَةَ الْأَوْسُقِ الَّتِي هِيَ النِّصَابُ لَا تُعْتَبَرُ مِنَ الرُّطَبِ، وَلَا مِنَ الْعِنَبِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنَ الرُّطَبِ أَوِ الْعِنَبِ، وَلَكِنَّهَا إِذَا جَفَّتْ نَقَصَتْ عَنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ الْيَابِسَيْنِ، فَلَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنَ الرُّطَبِ أَوِ الْعِنَبِ لَكَانَ مُخْرِجًا مِنْ غَيْرِ مَا تَجِبُ فِي عَيْنِهِ الزَّكَاةُ كَمَا تَرَى، وَيَدُلُّ لَهُ مَا ذَكَرَهُ الزُّرْقَانِيُّ فِي» شَرْحِ الْمُوَطَّإِ «، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فِي شَرْحِ قَوْلِ مَالِكٍ: ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ عَلَى مَا خَرَصَ عَلَيْهِمْ، مَا نَصُّهُ: وَمَبْنَى التَّخْرِيصِ أَنْ يَحْزِرَ مَا فِي النَّخْلِ، أَوِ الْعِنَبِ مِنَ التَّمْرِ الْيَابِسِ إِذَا جَذَّ، عَلَى حَسَبِ جِنْسِهِ، وَمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِتْمَارِ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ تَمْرًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْفَرْضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لَفْظَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَهُوَ الْحَقُّ، فَقَوْلُ الزُّرْقَانِيِّ: لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ تَمْرًا، مَعْنَاهُ: حَصْرُ أَخْذِ زَكَاةِ النَّخْلِ فِي خُصُوصِ التَّمْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ رُطَبٍ وَنَحْوِهِ ; مُعَلِّلًا بِذَلِكَ اعْتِبَارَ النِّصَابِ مِنَ التَّمْرِ الْيَابِسِ ; لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِمَّا تَجِبُ فِي عَيْنِهِ الزَّكَاةُ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ هُوَ وَقْتُ طِيبِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ يَابِسًا ; لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا بِالْفِعْلِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ تَمْرًا يَابِسًا ; وَلِإِجْمَاعِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اعْتُبِرَتْ، فَتَسْقُطُ زَكَاةُ مَا أُجِيحَ، كَمَا تَسْقُطُ زَكَاةُ الْكُلِّ إِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ نِصَابٌ، وَسَيَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُهَا تَمْرًا بَعْدَ الْجِذَاذِ، لَا بَلَحًا، وَلَا رُطَبًا، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [33 \ 21] ، وَيَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [59 \ 7] ، وَيَقُولُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الْآيَةَ [4 \ 80] ، وَيَقُولُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الْآيَةَ [3 \ 31] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي» صَحِيحِهِ «، بَابُ» أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ «: وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ الصَّدَقَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:» كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، فَيَجِيءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ، فَقَالَ: «أَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ» . اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ صَدَقَةَ النَّخْلِ تَمْرًا بَعْدَ الْجِذَاذِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ لَفْظَةِ كَانَ فِي نَحْوِ: كَانَ يَفْعَلُ كَذَا، تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ التَّكْرَارِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الصَّحِيحِ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ» . الْحَدِيثُ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ التَّمْرِ عِنْدَ الْجِذَاذِ هُوَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُ دَائِمًا فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ فِي الزَّكَاةِ ذَلِكَ التَّمْرَ الْيَابِسَ، فَمَنِ ادَّعَى جَوَازَ إِخْرَاجِ زَكَاةِ النَّخْلِ رُطَبًا أَوْ بَلَحًا، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا مَا نَصُّهُ: «قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَوْلُهُ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ تَمْرًا ; لِأَنَّ النَّخْلَ قَدْ يُصْرَمُ وَهُوَ رُطَبٌ، فَيُتْمَرُ فِي الْمِرْبَدِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَطَاوَلُ، فَحَسُنَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الصِّرَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ أَنْ يُدَاسَ وَيُنَقَّى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ» ، اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جَوَازِ إِخْرَاجِ زَكَاةِ النَّخْلِ رُطَبًا وَبُسْرًا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّمْرُ لَا يَيْبَسُ، كَبَلَحِ مِصْرَ، وَعِنَبِهَا، فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الزَّكَاةَ تُخْرَجُ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ بِيعَ، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ أُكِلَ، لَا مِنْ نَفْسِ الرُّطَبِ أَوِ الْعِنَبِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ رُشْدٍ قَوْلًا مَرْجُوحًا بِإِجْزَاءِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ فِي خُصُوصِ مَا لَا يَيْبَسُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي زَكَاةِ مَا لَا يَيْبَسُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزُ حَقٍّ لَا بَيْعٌ، فَيَجُوزُ الْقَسْمُ، وَيُجْعَلُ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ مُتَمَيِّزًا فِي نَخْلَاتٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ الْمُصَّدِّقُ، فَإِنْ رَأَى أَنْ يُفَرِّقَ عَلَيْهِمْ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى الْبَيْعَ وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ فَعَلَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ فَلَا تَجُوزُ فِي الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ، وَيَقْبِضُ الْمُصَّدِّقُ عُشْرَهَا مَشَاعًا بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيُفَرِّقُهُ عَلَيْهِمْ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَهُ فِيمَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ رُطَبًا، خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْعَطَشِ وَنَحْوِهِ. وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُخَيِّرُ السَّاعِي بَيْنَ أَنْ يُقَاسِمَ رَبَّ الْمَالِ الثَّمَرَةَ قَبْلَ الْجِذَاذِ بِالْخَرْصِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُمْ نَخْلَةً مُفْرِدَةً، وَيَأْخُذَ ثَمَرَتَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَجُذَّهَا وَيُقَاسِمَهُ إِيَّاهَا بِالْكَيْلِ، وَيَقْسِمَ الثَّمَرَةَ فِي الْفُقَرَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ، قَبْلَ الْجِذَاذِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيَقْسِمَ ثَمَنَهَا فِي الْفُقَرَاءِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ يَابِسَيْنِ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، أَعْنِي الثَّمَرَ الَّذِي لَا يَيْبَسُ، وَالَّذِي احْتِيجَ لِقَطْعِهِ قَبْلَ الْيُبْسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنْ ثَمَرٍ وَحَبٍّ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: تَجِبُ فِي الْحَبِّ إِذَا اشْتَدَّ، وَفِي الثَّمَرِ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُ، فَتَعَلَّقَ الْوُجُوبُ عِنْدَ طِيبِ التَّمْرِ، وَوُجُوبُ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْجِذَاذِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الثَّمَرِ وَالْحَبِّ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمْ تُسْقَطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ زُكِّيَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْوُجُوبِ زُكِّيَتْ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَقْتُ الْجِذَاذِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ حَصَادِهِ. الثَّانِي: يَوْمَ الطِّيبِ ; لِأَنَّ مَا قَبْلَ الطِّيبِ يَكُونُ عَلَفًا، لَا قُوتًا وَلَا طَعَامًا، فَإِذَا طَابَ وَحَانَ الْأَكْلُ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ، وَجَبَ الْحَقُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، إِذْ بِتَمَامِ النِّعْمَةِ يَجِبُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، وَيَكُونُ الْإِيتَاءُ وَقْتَ الْحَصَادِ لِمَا قَدْ وَجَبَ يَوْمَ الطِّيبِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْخَرْصِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْوَاجِبُ فِيهِ مِنَ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، كَمَجِيءِ السَّاعِي فِي الْغَنَمِ، وَبِهِ قَالَ الْمُغِيرَةُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; لِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَالْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ الثَّانِي، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. اهـ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: بِأَنَّ كُلَّ مَا أَكَلَهُ الْمَالِكُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ يَحْسَبُ عَلَيْهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُخَالِفُونَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا لِأَنَّ مَا يَأْكُلُهُ لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ. وَبِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَدَعَ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبْعَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ حَصَادِهِ، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 كَالصَّرَّامِ وَالصِّرَّامِ، وَالْجَذَاذِ وَالْجِذَاذِ، وَالْقَطَافِ وَالْقِطَافِ. فَائِدَةٌ: يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْحَائِطِ إِذَا أَرَادَ الْجِذَاذَ أَلَّا يَمْنَعَ الْمَسَاكِينَ مِنَ الدُّخُولِ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذَمِّ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ الْآيَاتِ [\ 17] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا الْآيَةَ [6 \ 145] . هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا، الَّتِي هِيَ: الْمَيْتَةُ، وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَحْرِيمَ غَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ، كَتَصْرِيحِهِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْرُمُ مَطْعُومٌ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُرْوَى عَنْهُمْ أَيْضًا خِلَافُهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ "، فَقَالَ: " قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحُكْمَ ابْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا. اهـ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْلِيلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ لُحُومَ السِّبَاعِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ مَا سِوَى الْإِنْسَانِ، وَالْخِنْزِيرِ مُبَاحَةٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ إِبَاحَةُ أَكْلِ لُحُومِ السِّبَاعِ، وَالْحُمُرِ، وَالْبِغَالِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لُحُومِ السِّبَاعِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، فَقَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا لِحَدِيثِ أَعْرَابِيٍّ يَبُولُ عَلَى سَاقَيْهِ. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ لَحْمِ الْفِيلِ، وَالْأَسَدِ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ - لَمَّا سَمِعَتِ النَّاسَ يَقُولُونَ: حُرِّمَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ - ذَلِكَ حَلَالٌ، وَتَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: اعْلَمْ أَنَّا نُرِيدُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ أَنْ نُبَيِّنَ حُجَّةَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ، وَالْحَمِيرِ، وَنَحْوِهَا، وَحُجَّةَ مَنْ قَالَ بِمَنْعِهَا، ثُمَّ نَذْكُرَ الرَّاجِحَ بِدَلِيلِهِ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ دَعْوَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مَطْعُومٌ غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَاطِلَةٌ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ; لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ; وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ مَا ذُكِرَ، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِيهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَحَصَرَهَا أَيْضًا فِي النَّحْلِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [2 \ 173] ; لِأَنَّ إِنَّمَا أَدَاةُ حَصْرٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالنَّحْلُ بَعْدَ الْأَنْعَامِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [16 \ 118] ، وَالْمَقْصُوصُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الْآيَةَ [6 \ 146] ; وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْأَنْعَامِ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا الْآيَةَ [6 \ 148] ، ثُمَّ صَرَّحَ فِي النَّحْلِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [16 \ 135] ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّحْلَ بَعْدَ الْأَنْعَامِ، وَحَصَرَ التَّحْرِيمَ أَيْضًا فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَصْرُ السَّمَاوِيُّ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ الْمَلَكُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فِي مَكَّةَ فِي الْأَنْعَامِ، وَالنَّحْلِ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ فِي الْبَقَرَةِ لَا يُمْكِنُنَا مُعَارَضَتُهُ، وَلَا إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيِّ الْمَتْنِ، مُتَوَاتِرٍ كَتَوَاتُرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. فَالْخَمْرُ مَثَلًا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فَحَرَّمْنَاهَا ; لِأَنَّ دَلِيلَهَا قَطْعِيٌّ، أَمَّا غَيْرُهَا كَالسِّبَاعِ، وَالْحُمُرِ، وَالْبِغَالِ: فَأَدِلَّةُ تَحْرِيمِهَا أَخْبَارُ آحَادٍ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْقَاطِعُ، وَهَى الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ زِيَادَةَ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَالْحُمُرِ مَثَلًا بِالسُّنَّةِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ، كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ بِالسُّنَّةِ عَلَى جَلْدِ الزَّانِي مِائَةً الثَّابِتِ بِالْقُرْآنِ، أَوْ زِيَادَةِ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، أَوِ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ الْآيَةَ [2 \ 282] ، غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي ; لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ زِيَادَةَ التَّغْرِيبِ وَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عَلَى آيَةِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآيَةَ [24 \ 2] ، فِي الْأَوَّلِ، وَآيَةِ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ الْآيَةَ، فِي الثَّانِي زِيَادَةُ شَيْءٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْقُرْآنُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَيْسَتْ نَسْخًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ مَنَعَ التَّغْرِيبَ وَالْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُ نَسْخٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ; لِأَنَّهُ قَطْعِيُّ الْمَتْنِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، أَمَّا زِيَادَةُ مُحَرَّمٍ آخَرَ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ الْآيَةَ، فَلَيْسَتْ زِيَادَةَ شَيْءٍ سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ كَالْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ شَيْءٍ نَفَاهُ الْقُرْآنُ ; لِدَلَالَةِ الْحَصْرِ الْقُرْآنِيِّ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ عَنْ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ مِمَّنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَثْبَتَتْ مَا كَانَ مَنْفِيًّا بِالنَّصِّ قَبْلَهَا، فَكَوْنُهَا إِذَنْ نَاسِخَةً وَاضِحٌ، وَهُنَاكَ نَظَرٌ آخَرُ، قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهُوَ أَنَّ إِبَاحَةَ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْإِبَاحَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهِيَ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَحْرِيمِ شَيْءٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ، كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَإِذَا كَانَتْ إِبَاحَتُهُ عَقْلِيَّةً: فَرَفْعُهَا لَيْسَ بِنَسْخٍ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِي نَاسِخِهَا التَّوَاتُرُ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» هَذَا الْقَوْلَ بِعَدَمِ النَّسْخِ لِلْأَكْثَرِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَكَوْنُهُ نَسْخًا أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ الْحَصْرَ فِي الْآيَةِ يُفْهَمُ مِنْهُ إِبَاحَةُ مَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ شَرْعًا، فَتَكُونُ إِبَاحَةً شَرْعِيَّةً ; لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا، وَرَفْعُ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَسْخٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَا تُنَاقِضُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَيْسَتْ نَسْخًا بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَلَيْسَ نَسْخًا كُلُّ مَا أَفَادَا فِيمَا رَسَا بِالنَّصِّ الِازْدِيَادَا وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَوَجَّهُوهُ بِعَدَمِ مُنَافَاةِ الزِّيَادَةِ لِلْمَزِيدِ، وَمَا لَا يُنَافِي لَا يَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 نَاسِخًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ فِي لُحُومِ السِّبَاعِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي «الْمُوَطَّأِ» ; لِأَنَّهُ تَرْجَمَ فِيهِ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِسْنَادِهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» ، ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ» ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ تَحْرِيمُهَا، وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ «الْمُدَوَّنَةِ» ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ مِنْ إِبَاحَتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِطَرِيقٍ صَحِيحَةٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُّنَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ، وَيُزَادُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَيُّ مُنَاقَضَةٍ لِلْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَزِيدَةَ عَلَيْهَا حُرِّمَتْ بَعْدَهَا. وَقَدْ قَرَّرَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ يَثْبُتُ بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَ زَمَنُهُمَا ; لِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا، وَقَدِ اشْتَرَطَ عَامَّةُ النُّظَّارِ فِي التَّنَاقُضِ اتِّحَادَ الزَّمَانِ ; لِأَنَّهُ إِنِ اخْتَلَفَ جَازَ صِدْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا، كَمَا لَوْ قُلْتَ: لَمْ يُسْتَقْبَلْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَدِ اسْتُقْبِلَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَعَنَيْتَ بِالْأُولَى مَا بَعْدَ النَّسْخِ، وَبِالثَّانِيَةِ مَا قَبْلَهُ، فَكِلْتَاهُمَا تَكُونُ صَادِقَةً، وَقَدْ أَشَرْتُ فِي أُرْجُوزَتِي فِي فَنِّ الْمَنْطِقِ إِلَى أَنَّهُ: يُشْتَرَطُ فِي تَنَاقُضِ الْقَضِيَّتَيْنِ اتِّحَادُهُمَا فِيمَا سِوَى الْكَيْفِ، أَعْنِي الْإِيجَابَ وَالسَّلْبَ، مِنْ زَمَانٍ، وَمَكَانٍ، وَشَرْطٍ، وَإِضَافَةٍ، وَقُوَّةٍ، وَفِعْلٍ، وَتَحْصِيلٍ، وَعُدُولٍ، وَمَوْضُوعٍ، وَمَحْمُولٍ، وَجُزْءٍ، وَكُلٍّ، بِقَوْلِي: [الرَّجَزُ] وَالِاتِّحَادُ لَازِمٌ بَيْنَهُمَا فِيمَا سِوَى الْكَيْفِ كَشَرْطٍ عُلِمَا وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ مَعَ الْمَكَانِ وَالْفِعْلِ وَالْقُوَّةِ وَالزَّمَانِ إِضَافَةُ تَحْصِيلٍ أَوْ عُدُولِ وَوَحْدَةِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ فَوَقْتُ نُزُولِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَحَصْرُهَا صَادِقٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ غَيْرِهَا بِلَا شَكٍّ، فَإِذَا طَرَأَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ آخَرَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الْأَوَّلَ لِتَجَدُّدِهِ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ يَتَّضِحُ أَنَّ الْحَقَّ جَوَازُ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتِ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ، وَإِنْ مَنَعَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ: فَسَنُفَصِّلُ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي حُرِّمَتْ بَعْدَ هَذَا، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا. فَمِنْ ذَلِكَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَالتَّحْقِيقُ تَحْرِيمُهُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا، وَتَحْرِيمِهَا، أَمَّا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ: هُوَ تَحْرِيمُ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَكْلَ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» . اهـ. فَقَرَنَ فِي الصَّحِيحِ بِمَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ حَرَامٌ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ذُو عَدَاءٍ وَافْتِرَاسٍ، فَدَلَّ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَالْأَصْلُ فِي النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَبِتَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ، وَذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ، قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَدَاوُدُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ فِي السِّبَاعِ، وَأَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِ الْكَرَاهَةُ، وَعَنْهُ قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَهُوَ أَضْعَفُهَا، وَالْحَقُّ التَّحْرِيمُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْ ذَلِكَ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، فَالتَّحْقِيقُ أَيْضًا أَنَّهَا حَرَامٌ، وَتَحْرِيمُهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكَّ فِيهِ مُنْصِفٌ ; لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِتَحْرِيمِهَا، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ تَحْرِيمَهَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَأَنَسٍ، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَحَادِيثُهُمْ دَالَّةٌ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى التَّحْرِيمِ، فَلَفْظُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» ، وَهَذَا صَرِيحٌ صَرَاحَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 تَامَّةً فِي التَّحْرِيمِ، وَلَفْظُ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَهُمَا أَيْضًا: «إِنِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ» أَوْ «نَجَسٌ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ رِجْسٌ، صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهَا، وَنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، وَأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا لَيْسَتْ لِأَنَّهَا لَمْ يُخْرَجْ خُمُسُهَا، وَلَا أَنَّهَا حَمُولَةٌ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ الْمُزَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانُ حُمُرٍ، وَإِنَّكَ حَرَّمْتَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ، فَقَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ، فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَّالِ الْقَرْيَةِ» . اهـ. وَالْجَوَّالُ: جُمَعُ جَالَّةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْجِلَّةَ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْبَعْرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَكْلُ النَّجَاسَاتِ كَالْعَذِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ يُخْتَلَفُ فِي إِسْنَادِهِ، يَعْنُونَ مُضْطَرِبًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تُعَارَضُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْبِغَالُ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهَا أَيْضًا ; لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ، لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَلُحُومَ الْبِغَالِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» ، أَصْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ، بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالشَّوْكَانِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ «فِي تَفْسِيرِهِ» : وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِغَالِ وَالْحُمُرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْخَيْلِ» ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ عَنِ الْحَمِيرِ وَهِيَ حَرَامٌ قَطْعًا ; لِصِحَّةِ النُّصُوصِ بِتَحْرِيمِهَا. وَأَمَّا الْخَيْلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِي جَوَازِ أَكْلِهَا الْعُلَمَاءُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 فَمَنَعَهَا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَنْهُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ صَحَّحَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالتَّحْرِيمُ أَشْهَرُ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ، وَحَمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَقَالَ: لَمْ يُطْلِقْ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا التَّحْرِيمَ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ كَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ. وَصَحَّحَ عَنْهُ صَاحِبُ " الْمُحِيطِ "، وَصَاحِبُ " الْهِدَايَةِ "، وَصَاحِبُ " الذَّخِيرَةِ " التَّحْرِيمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ. وَمِمَّنْ رَوَيْتُ عَنْهُ كَرَاهَةَ لُحُومِ الْخَيْلِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَكَمُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - جَوَازُ أَكْلِ الْخَيْلِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَسْودُ، وَعَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَدَاوُدُ، وَغَيْرُهُمْ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ، فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ "، وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - حُجَجَ الْجَمِيعِ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ. اعْلَمْ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَكْلَ لَحْمِ الْخَيْلِ احْتَجَّ بِآيَةٍ وَحَدِيثٍ: أَمَّا الْآيَةُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً الْآيَةَ [16 \ 8] ، فَقَالَ: قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [16 \ 5] ، فَهَذِهِ لِلْأَكْلِ، وَقَالَ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا، فَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ لَا لِلْأَكْلِ، وَهَذَا تَفْصِيلُ مَنْ خَلَقَهَا وَامْتَنَّ بِهَا، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ خَلَقَهَا لَكُمْ لِعِلَّةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ تُفِيدُ الْحَصْرَ، فَإِبَاحَةُ أَكْلِهَا تَقْتَضِي خِلَافَ ظَاهِرِ الْآيَةِ. ثَانِيهَا: عَطَفَ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهَا مَعَهُمَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ. ثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ، وَسُورَةُ النَّحْلِ تُسَمَّى سُورَةَ الِامْتِنَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وَالْحَكِيمُ لَا يَمْتَنُّ بِأَدْنَى النِّعَمِ، وَيَتْرُكُ أَعْلَاهَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِالْأَكْلِ فِي الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَهَا. رَابِعُهَا: لَوْ أُبِيحَ أَكْلُهَا لَفَاتَتِ الْمَنْفَعَةُ بِهَا فِيمَا وَقَعَ بِهِ الِامْتِنَانُ مِنَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ". وَرَدَّ الْجُمْهُورُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِأَنَّ آيَةَ النَّحْلِ نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ اتِّفَاقًا، وَالْإِذْنُ فِي أَكْلِ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ سِتِّ سِنِينَ، فَلَوْ فَهِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْعَ مِنَ الْآيَةِ لَمَا أَذِنَ فِي الْأَكْلِ، وَأَيْضًا آيَةُ النَّحْلِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي مَنْعِ أَكْلِ الْخَيْلِ، بَلْ فُهِمَ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ، وَحَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا، كِلَاهُمَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ أَكْلِ الْخَيْلِ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَأَيْضًا فَالْآيَةُ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ دَلَالَتِهَا الْمَذْكُورَةِ، فَهِيَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ، وَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ، أَوْ خِلَافِ الْأَوْلَى، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَاحِدٌ مِنْهَا بَقِيَ التَّمَسُّكُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْجَوَازِ. وَأَيْضًا فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، لَمْ نُسَلِّمْ إِفَادَةَ الْحَصْرِ فِي الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ. فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالْخَيْلِ فِي غَيْرِهِمَا، وَفِي غَيْرِ الْأَكْلِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرُّكُوبَ وَالزِّينَةَ ; لِكَوْنِهِمَا أَغْلَبَ مَا تُطْلَبُ لَهُ الْخَيْلُ. وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ الْبَقَرَةِ الْمَذْكُورُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " حِينَ خَاطَبَتْ رَاكِبَهَا فَقَالَتْ: " إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ "، فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أَصْرَحَ فِي الْحَصْرِ، لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إِلَّا الْأَغْلَبُ، وَإِلَّا فَهِيَ تُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا فِي أَشْيَاءَ غَيْرِ الْحَرْثِ اتِّفَاقًا. وَأَيْضًا فَلَوْ سُلِّمَ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ لَلَزِمَ مَنْعُ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ لِلْحَصْرِ الْمَزْعُومِ فِي الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعَطْفِ الْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ عَلَيْهَا، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ، وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] أَمَّا قِرَانُ اللَّفْظِ فِي الْمَشْهُورِ فَلَا يُسَاوِي فِي سِوَى الْمَذْكُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ: فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَغْلَبَ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَخُوطِبُوا بِمَا عَرَفُوا وَأَلِفُوا، وَلَمْ يَكُونُوا يَأْلَفُونَ أَكْلَ الْخَيْلِ لِعِزَّتِهَا فِي بِلَادِهِمْ، وَشَدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ: فَأَكْثَرُ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا كَانَ لِحَمْلِ الْأَثْقَالِ، وَلِلْأَكْلِ ; فَاقْتُصِرَ فِي كُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِأَغْلَبِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيهِ. فَلَوْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْحَصْرُ فِي هَذَا الشِّقِّ لَلَزِمَ مِثْلُهُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي أَكْلِهَا، سَبَبٌ لِفَنَائِهَا وَانْقِرَاضِهَا: فَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ أَذِنَ فِي أَكْلِ الْأَنْعَامِ وَلَمْ تَنْقَرِضْ، وَلَوْ كَانَ الْخَوْفُ عَنْ ذَلِكَ عِلَّةً لِمَنْعٍ فِي الْأَنْعَامِ لِئَلَّا تَنْقَرِضَ، فَيَتَعَطَّلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْأَكْلِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهُوَ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ضَعَّفَهُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي بَابِ " لُحُومِ الْخَيْلِ " مَا نَصُّهُ: " وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَ خَالِدٍ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَآخَرُونَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ خَالِدٍ الْمَذْكُورَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَ أَسَانِيدَ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ، وَحَدِيثُ خَالِدٍ الْمَذْكُورُ مَعَ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، فِي إِسْنَادِهِ صَالِحُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": لَيِّنٌ، وَفِيهِ أَيْضًا: وَالِدُهُ يَحْيَى الْمَذْكُورُ، الَّذِي هُوَ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ ": مَسْتُورٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا عَدَمَ ضَعْفِ حَدِيثِ خَالِدٍ، فَإِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، كَحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ "، وَفِي لَفْظٍ فِي " الصَّحِيحِ ": " وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ "، وَكَحَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: " نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلْنَاهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمَا أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلَ الصَّرِيحَ رُجْحَانُهُ إِبَاحَةُ أَكْلِ لَحْمِ الْخَيْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ أَحْوَطُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: [الرَّجَزُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وَإِنَّ الْأَوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ خِلَافِهِمْ وَلَوْ ضَعِيفًا فَاسْتَبِنْ وَمِنْ ذَلِكَ الْكَلْبُ: فَإِنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا بِالْكَرَاهَةِ. وَلِتَحْرِيمِهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ فِي ذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ ; لِأَنَّ الْكَلْبَ سَبُعٌ ذُو نَابٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَكْلُهُ لَجَازَ بَيْعُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِهِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، مَقْرُونًا بِحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَفْظِ: " ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ "، الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ الْآيَةَ [7 \ 157] . فَإِنْ قِيلَ: مَا كَلُّ خَبِيثٍ يُحَرَّمُ ; لِمَا وَرَدَ فِي الثُّومِ أَنَّهُ خَبِيثٌ، وَفِي كَسْبِ الْحَجَّامِ أَنَّهُ خَبِيثٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَنَّهُ خَبِيثٌ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَمَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ يُخْرِجُ، وَيَبْقَى النَّصُّ حُجَّةً فِيمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي جُلِّ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَخْرُجُ مِنْهَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِمُخَصِّصٍ، وَتَبْقَى حُجَّةً فِي الْبَاقِي، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَهْوَ حُجَّةٌ لَدَى الْأَكْثَرِ إِنْ مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيِّنًا يَبِنْ فَإِنْ قِيلَ: تَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ لِعِلَّةِ الْخُبْثِ، وَإِذَا وُجِدَ خَبِيثٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا فِي الْعِلَّةِ لَا تَخْصِيصًا لَهَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، لَا إِبْطَالٌ لَهَا، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ ": [الرَّجَزُ] مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحَّحُ إِلَخْ. . . . كَمَا حَرَّرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَلْبِ: مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي تَحْرِيمِ اقْتِنَائِهِ، وَأَنَّ اقْتِنَاءَهُ يَنْقُصُ أَجْرَ مُقْتَنِيهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَلَوْ كَانَ أَكْلُهُ مُبَاحًا، لَكَانَ اقْتِنَاؤُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 مُبَاحًا. وَإِنَّمَا رَخَّصَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَلْبِ الصَّيْدِ، وَالزَّرْعِ، وَالْمَاشِيَةِ ; لِلضَّرُورَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ "، وَمِنْهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الشَّنَائِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا، وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمِلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ "، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِثَلَاثِ طُرُقٍ بِلَفْظِ: " نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ "، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا قِيرَاطٌ، وَفِي بَعْضِهَا قِيرَاطَانِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، إِذْ لَوْ جَازَ أَكْلُهُ لَجَازَ اقْتِنَاؤُهُ لِلْأَكْلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةَ الْأَكْلِ لَمَا أَمَرَ بِقَتْلِهَا، وَلَمْ يُرَخِّصْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا إِلَّا لِضَرُورَةِ الصَّيْدِ، أَوِ الزَّرْعِ، أَوِ الْمَاشِيَةِ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ، كَالِانْتِفَاعِ بِصَيْدِهِ، أَوْ حِرَاسَتِهِ الْمَاشِيَةَ، أَوِ الزَّرْعِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَيْعُهُ تَابِعٌ لِلَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ حَرَامٌ ; فَبَيْعُهُ حَرَامٌ، وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا ; لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ ثَمَنَ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ، مَقْرُونًا بِحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي مَنْعِ بَيْعِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا، قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ "، وَقَالَ: " إِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ، فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا ". قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ "، وَابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ "، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إِسْنَادُهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِمَنْعِ بَيْعِ الْكَلْبِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، عَامٌّ فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ وَغَيْرِهِ ; لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي " الْمُفْهِمِ ": مِنْ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِ الْكَرَاهَةُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا جَوَازُ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، دُونَ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنُ فِي اتِّخَاذِهِ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ ; لِأَنَّهُ قَالَ: أَبِيعُ كَلْبَ الصَّيْدِ وَأَحُجُّ بِثَمَنِهِ. وَأَجَازَ بَيْعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا إِنْ كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ صَيْدٍ، أَوْ حِرَاسَةٍ لِمَاشِيَةٍ مَثَلًا، وَحَكَى نَحْوَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَإِنْ قُتِلَ الْكَلْبُ الْمَاذُونُ فِيهِ كَكَلْبِ الصَّيْدِ، فَفِيهِ الْقِيمَةُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَوْجَبَهَا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا إِنْ كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: لَا قِيمَةَ فِيهِ، أَنَّ الْقِيمَةَ ثَمَنٌ، وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَجَاءَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ طَالِبَهُ تُمْلَأُ كَفُّهُ تُرَابًا، وَذَلِكَ أَبْلَغُ عِبَارَةٍ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهَا بِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةً جَائِزَةً فَعَلَيْهِ غُرْمُهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْكَلْبِ، وَأَلْزَمَ قِيمَتَهُ إِنْ قُتِلَ، بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ "، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ غَرَّمَ رَجُلًا عَنْ كَلْبٍ قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَقَضَى فِي كَلْبِ مَاشِيَةٍ بِكَبْشٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْكَلْبَ الْمَأْذُونَ فِيهِ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْحِمَارَ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي جَوَازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَلُزُومِ قِيمَتِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ "، وَهَكَذَا أَوْضَحَ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ ضَعْفَهَا، وَالِاحْتِجَاجُ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ وَشَبَهِهِ بِالْحِمَارِ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، الْمُصَرِّحَةِ بِعَدَمِ حِلْيَةِ ثَمَنِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَالِكِيُّ فِي " تُحْفَتِهِ " مِنْ قَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَاتَّفَقُوا أَنَّ كِلَابَ الْبَادِيَهْ يَجُوزُ بَيْعُهَا كَكَلْبِ الْمَاشِيَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 فَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ سَحْنُونٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ كُلُّهُ ضَعِيفٌ، كَمَا بَيَّنَ تَضْعِيفَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي بَابِ " ثَمَنِ الْكَلْبِ ". قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ زَعَمَ نَاسٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ مَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ الْكَلْبِ إِلَّا قَوْمٌ مِنْ فَقْعَسَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْقِرْدُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : قَالَ أَبُو عُمَرَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ الْقِرْدِ ; لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ; لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ. قَالَ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي أَكْلِهِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ أَكْلِ الْقِرْدِ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، قُلْتُ: ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: رُوِّينَا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقِرْدِ يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ، قَالَ: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ، قَالَ: فَعَلَى مَذْهَبِ عَطَاءٍ يَجُوزُ أَكْلُ لَحْمِهِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَ غَيْرَ الصَّيْدِ، وَفِي «بَحْرِ الْمَذْهَبِ» لِلرُّويَانِيِّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُ الْقِرْدِ ; لِأَنَّهُ يُعَلَّمُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ لِحِفْظِ الْمَتَاعِ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : الْقِرْدُ حَرَامٌ عِنْدِنَا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا أَنَّ الْقِرْدَ لَا يُؤْكَلُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ لَحْمِ الْقِرْدِ» ، وَلِأَنَّهُ سَبُعٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ مَسْخٌ أَيْضًا فَيَكُونُ مِنَ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا جَزْمَ ابْنِ حَبِيبٍ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَمِنْ ذَلِكَ الْفِيلُ: فَالظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهَا التَّحْرِيمُ ; لِثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقُرْطُبِيُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَتُهُ أَخَفُّ مِنْ كَرَاهَةِ السَّبُعِ، وَأَبَاحَهُ أَشْهَبُ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : كَرَاهَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَاجِ، وَهُوَ سِنُّ الْفِيلِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَالْفِيلُ مُحَرَّمٌ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ هُوَ مِنْ أَطْعِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مَسْخٌ، وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرَخَّصَ فِي أَكْلِهِ الشَّعْبِيُّ، وَلَنَا نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِهَا نَابًا ; وَلِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْخَبَائِثِ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : الْفِيلُ حَرَامٌ عِنْدِنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْكُوفِيِّينَ، وَالْحَسَنِ، وَأَبَاحَهُ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ. وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ ذُو نَابٍ. اهـ. وَمِنْ ذَلِكَ الْهِرُّ، وَالثَّعْلَبُ، وَالدُّبُّ: فَهِيَ عِنْدَ مَالِكٍ مِنْ ذَوَاتِ النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَلَا تَحْرِيمَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْهِرُّ الْأَهْلِيُّ وَالْوَحْشِيُّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: فَمَنَعُوا الْأَهْلِيَّ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : فَأَمَّا الْأَهْلِيُّ فَمُحَرَّمٌ فِي قَوْلِ إِمَامِنَا وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي الثَّعْلَبِ، فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ سَبُعٌ ; فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ إِبَاحَتُهُ، وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَاللَّيْثُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ يُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي سِنَّوْرِ الْبَرِّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الثَّعْلَبِ. وَحَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ الثَّعْلَبِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : وَفِي سِنَّوْرِ الْوَحْشِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ ; لِأَنَّهُ يُصْطَادُ بِنَابِهِ فَلَمْ يَحِلَّ، كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ. وَالثَّانِي: يَحِلُّ ; لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَتَنَوَّعُ إِلَى حَيَوَانٍ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ، فَيَحْرُمُ الْأَهْلِيُّ مِنْهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وَيَحِلُّ الْوَحْشِيُّ كَالْحِمَارِ. وَأَمَّا الدُّبُّ: فَهُوَ سَبُعٌ ذُو نَابٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ الدُّبُّ ذَا نَابٍ مُنِعَ أَكْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا نَابٍ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَكْلِ الضَّبُعِ: وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالثَّعْلَبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ أَنَّهُ سَبُعٌ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَا قَوْلَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» بِأَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِهَا، وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الضِّبَاعَ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَرَخَّصَ فِي أَكْلِهَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا يُبَاعُ لَحْمُ الضِّبَاعِ بِمَكَّةَ إِلَّا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ: أَنَّ الضَّبُعَ مِنْ جُمْلَةِ السِّبَاعِ ; فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَمْ يَخُصَّ سَبُعًا مِنْهَا عَنْ سَبُعٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَيْسَ حَدِيثُ الضَّبُعِ الَّذِي خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا مِمَّا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ النَّهْيِ ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، وَلَيْسَ مَشْهُورًا بِنَقْلِ الْعِلْمِ، وَلَا مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ إِذَا خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ رُوِيَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ، رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُعَارِضُوا بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَدَلِيلُ إِبَاحَةِ الضَّبُعِ خَاصٌّ، وَلَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ ; لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِ، فَيُخَصَّصُ عُمُومُهُ بِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْقُنْفُذُ: فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِتَحْرِيمِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَجَازَ أَكْلَهُ الْجُمْهُورُ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَهُ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ الْقُنْفُذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «هُوَ خَبِيثٌ مِنَ الْخَبَائِثِ» . وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَهُ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ، وَلَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةِ الْمَذْكُورَ فِي خَبَثِ الْقُنْفُذِ: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يُرْوَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ. وَمِمَّنْ كَرِهَ أَكْلَ الْقُنْفُذِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وَمِنْ ذَلِكَ حَشَرَاتُ الْأَرْضِ: كَالْفَأْرَةِ، وَالْحَيَّاتِ، وَالْأَفَاعِي، وَالْعَقَارِبِ، وَالْخُنْفُسَاءِ، وَالْعَظَايَةِ، وَالضَّفَادِعِ، وَالْجِرْذَانِ، وَالْوَزَغِ، وَالصَّرَاصِيرِ، وَالْعَنَاكِبِ، وِسَامِّ أَبْرَصَ، وَالْجِعْلَانِ، وَبَنَاتِ وَرْدَانِ، وَالدِّيدَانِ، وَحِمَارِ قَبَّانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ; لِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَعُرْوَةُ، وَغَيْرُهُمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَخَّصَ فِي أَكْلِ ذَلِكَ: مَالِكٌ، وَاشْتَرَطَ فِي جَوَازِ أَكْلِ الْحَيَّاتِ أَنْ يُؤْمَنَ سُمُّهَا. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّرْخِيصُ فِي أَكْلِ الْحَشَرَاتِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مِلْقَامِ بْنِ تَلِبٍّ، عَنْ أَبِيهِ تَلِبِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ التَّمِيمِيِّ الْعَنْبَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَسْمَعْ لِحَشَرَةِ الْأَرْضِ تَحْرِيمًا. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ، وَأَبَاحَ أَشْيَاءَ، فَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا أَبَاحَ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْفَأْرَةِ: مَا هِيَ بِحَرَامٍ، وَقَرَأَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ مِلْقَامَ بْنَ تَلِبٍّ مَسْتُورٌ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، وَبِأَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ تَلِبِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ أَسْمَعْ لِحَشَرَةِ الْأَرْضِ تَحْرِيمًا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهَا، كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ ; لِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِ صَحَابِيٍّ لِشَيْءٍ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَبِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَسْكُتْ عَنْ هَذَا ; لِأَنَّهُ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَهَذِهِ خَبَائِثُ، لَا يَكَادُ طَبْعٌ سَلِيمٌ يَسْتَسِيغُهَا، فَضْلًا عَنْ أَنَّ يَسْتَطِيبَهَا، وَالَّذِينَ يَأْكُلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْحَشَرَاتِ مِنَ الْعَرَبِ، إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِذَلِكَ شِدَّةُ الْجُوعِ، كَمَا قَالَ أَحَدُ شُعَرَائِهِمْ: [الطَّوِيلُ] أَكَلْنَا الرُّبَى يَا أُمَّ عَمْرٍو وَمَنْ يَكُنْ ... غَرِيبًا لَدَيْكُمْ يَأْكُلُ الْحَشَرَاتِ وَالرُّبَى جُمَعُ رُبْيَةَ، وَهِيَ الْفَأْرَةُ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَفِي «اللِّسَانِ» أَنَّهَا دُوَيْبَّةٌ بَيْنَ الْفَأْرَةِ وَأُمِّ حُبَيْنٍ، وَلِتِلْكَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ لَمَّا سُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَمَّا يَأْكُلُونَ، قَالَ: كُلُّ مَا دَبَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وَدَرَجَ، إِلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ، فَقَالَ: لِتَهْنِ أَمَّ حُبَيْنٍ الْعَافِيَةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ قَتْلَ الْفَأْرَةِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ الْفَوَاسِقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ إِبَاحَتِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالشَّافِعِيِّ، مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ حَالِ ضَرُورَةِ الْجُوعِ حَرَامٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ الْآيَةَ، اسْتِدْلَالٌ ظَاهِرٌ، لَا وَجْهَ لِمَا رَدَّهُ بِهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنَاطَ بِهِ حُكْمٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْخُبْثِ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، فَمَا اتَّصَفَ بِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، لِلْآيَةِ. وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ النَّصُّ عَلَى إِبَاحَةِ بَعْضِ الْمُسْتَخْبَثَاتِ، كَالثُّومِ ; لِأَنَّ مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ النَّصِّ، وَيَبْقَى حُجَّةً فِيمَا لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا كُلُّ مَا نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبِيثٌ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ، مَعَ إِطْلَاقِ اسْمِ الْخُبْثِ عَلَيْهِ. وَاسْتَثْنَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ الْوَزَغَ، فَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أُمِّ شَرِيكٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ، وَكَذَلِكَ رَوَى الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْصُولًا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمُحْتَمَلًا لِلْإِرْسَالِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَزَعَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ، وَمُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ ; وَعَلَيْهِمَا فَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ ; فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، وَقَالَ: كَأَنَّ الزُّهْرِيَّ وَصَلَهُ لِمَعْمَرٍ، وَأَرْسَلَهُ لِيُونُسَ. اهـ، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: التَّرْغِيبُ فِي قَتْلِ الْوَزَغِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي ابْنِ آوَى، وَابْنِ عُرْسٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ آوَى، وَابْنِ عُرْسٍ، فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَنْهَشُ بِأَنْيَابِهِ مِنَ السِّبَاعِ، وَبِهَذَا قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. اهـ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَابْنُ عُرْسٍ حَلَالٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَابٌ قَوِيٌّ، فَهُوَ كَالضَّبِّ، وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ابْنِ آوَى. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحِلُّ أَكْلُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَقَوَّى بِنَابِهِ فَهُوَ كَالْأَرْنَبِ. وَالثَّانِي: لَا يَحِلُّ ; لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكِلَابِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَرَاهَتُهُمَا. وَأَمَّا الْوَبَرُ، وَالْيَرْبُوعُ، فَأَكْلُهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْوَبَرِ وَجْهًا عِنْدَهُمْ بِالتَّحْرِيمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ أَوْجَبَ فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا جَوَازُ أَكْلِ الْيَرْبُوعِ، وَالْوَبَرِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ الْوَبَرِ: عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ الْيَرْبُوعِ أَيْضًا: عُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» . وَقَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِتَحْرِيمِ الْوَبَرِ، قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، إِلَّا أَبَا يُوسُفَ، وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ فِي الْيَرْبُوعِ أَيْضًا: هُوَ حَرَامٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ ; لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْفَأْرَ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» عَنْ صَاحِبِ «الْبَيَانِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَحْرِيمَ الْوَبَرِ، وَالْيَرْبُوعِ، وَالضَّبِّ، وَالْقُنْفُذِ، وَابْنِ عُرْسٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ الْخُلْدِ وَالضُّرْبُوبِ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ. وَأَمَّا الْأَرْنَبُ: فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَكْلَهَا مُبَاحٌ ; لِمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ أَرْنَبٍ فَقَبِلَهُ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فَأَكَلَ مِنْهُ» ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : أَكَلَ الْأَرْنَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَائِلًا بِتَحْرِيمِهَا، إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وَأَمَّا الضَّبُّ: فَالتَّحْقِيقُ أَيْضًا جَوَازُ أَكْلِهِ ; لِمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُوا أَوْ أَطْعِمُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ» ، وَقَالَ: «لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي» ، يَعْنِي الضَّبَّ، وَلِمَا ثَبَتَ أَيْضًا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّهُ أَكَلَ ضَبًّا فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَيْهِ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ صَاحِبِ «الْبَيَانِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِتَحْرِيمِ الضَّبِّ. وَنُقِلَ فِي «الْمُغْنِي» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَالثَّوْرِيِّ تَحْرِيمَ الضَّبِّ، وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَمْ نَعْلَمْ لِتَحْرِيمِهِ مُسْتَنَدًا، إِلَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُتِيَ بِضَبٍّ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ» قَالَ: «إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ الْأُولَى الَّتِي مُسِخَتْ» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا، فَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَّلَ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ بِاحْتِمَالِ الْمَسْخِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُنْهَشُ، فَأَشْبَهَ ابْنَ عُرْسٍ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا بِإِبَاحَةِ أَكْلِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الضَّبَّ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي مُسِخَتْ، كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: [الرَّجَزُ] قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلًا فَطِينَا ... هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ إِسْرَائِينَا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَقْسَمَتْ عَلَى أَنَّ الضَّبَّ إِسْرَائِيلِيٌّ مُسِخَ. وَأَمَّا الْجَرَادُ: فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّهُ قَالَ: " غَزْونَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ ". اهـ. وَمَيْتَةُ الْجَرَادِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ حَلَّالٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ; لِحَدِيثِ " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ " الْحَدِيثَ. وَخَالَفَ مَالِكٌ الْجُمْهُورَ، فَاشْتَرَطَ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ ذَكَاتَهُ، وَذَكَاتُهُ عِنْدَهُ مَا يَمُوتُ بِهِ بِقَصْدِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ فِي " مُخْتَصَرِهِ ": وَافْتَقَرَ نَحْوُ الْجَرَادِ لَهَا بِمَا يَمُوتُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُعَجَّلْ كَقَطْعِ جَنَاحٍ. وَاحْتَجَّ لَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ "، الْحَدِيثَ ; لِأَنَّ طُرُقَهُ لَا تَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ فِي الْإِسْنَادِ، أَوْ وَقْفٍ، وَالْأَصْلُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى الذَّكَاةِ ; لِعُمُومِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [5 \ 3] ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَا نَصُّهُ: " وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ "، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أُسَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، قُلْتُ: وَثَلَاثَتُهُمْ كُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَصْلَحُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ أَحَدُ الْأَثْبَاتِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَكِنْ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الرِّوَايَةَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْهُ صَحِيحَةٌ، وَلَهَا حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: أُحِلَّ لَنَا، أَوْ حُرِّمَ عَلَيْنَا، لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَلَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ، إِلَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَأَشَارَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَهَا حُكْمُ الرَّفْعِ، كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَا لَبْسَ فِيهِ عَلَى إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْجَرَادِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ. وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا، وَمَيْتَةُ الْجَرَادِ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الْآيَةَ [5 \ 3] ، وَافْتِقَارُ الْجَرَادِ إِلَى الذَّكَاةِ بِمَا يَمُوتُ بِهِ، كَقَطْعِ رَأْسِهِ بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ، أَوْ صَلْقِهِ، أَوْ قَلْيِهِ. كَذَلِكَ رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، نَقَلَهَا عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " وَ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ "، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الطَّيْرُ: فَجَمِيعُ أَنْوَاعِهِ مُبَاحَةُ الْأَكْلِ إِلَّا أَشْيَاءَ مِنْهَا، اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ. فَمِنْ ذَلِكَ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ يَتَقَوَّى بِهِ وَيَصْطَادُ: كَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالْبَازِي، وَالْعُقَابِ، وَالْبَاشِقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَدَلِيلُهُمْ ثُبُوتُ النَّهْيِ عَنْهُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِبَاحَةُ أَكْلِ ذِي الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 قُلْ لَا أَجِدُ الْآيَةَ ; وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَمِمَّنْ قَالَ كَقَوْلِ مَالِكٍ: اللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ سِبَاعَ الطَّيْرِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَمْ يَكْرَهْ مَالِكٌ أَكْلَ شَيْءٍ مِنَ الطَّيْرِ كُلِّهِ؛ الرَّخَمِ، وَالْعِقْبَانِ، وَالنُّسُورِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالْغِرْبَانِ، وَجَمِيعِ سِبَاعِ الطَّيْرِ، وَغَيْرِ سِبَاعِهَا، مَا أَكَلَ الْجِيَفَ مِنْهَا، وَمَا لَمْ يَأْكُلْهَا. وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْهُدْهُدِ، وَالْخُطَّافِ، وَرُوِيَ عَلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ الْخُطَّافِ ابْنُ رُشْدٍ ; لِقِلَّةِ لَحْمِهَا مَعَ تَحَرُّمِهَا بِمَنْ عَشَّشَتْ عِنْدَهُ، انْتَهَى مِنْ «الْمَوَّاقِ» فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي «مُخْتَصَرِهِ» وَطَيْرٌ، وَلَوْ جَلَّالَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمَا مِنَ الْفَوَاسِقِ الَّتِي يَحِلُّ قَتْلُهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ; وَإِبَاحَةُ قَتْلِهَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ أَكْلِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ، وَقَدْ أَذِنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْغُرَابِ الْأَبْقَعِ: وَيَحْرُمُ الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ ; لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَهُوَ كَالْأَبْقَعِ. وَفِي الْغُدَافِ، وَغُرَابِ الزَّرْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ ; لِلْخَبَرِ. وَالثَّانِي: يَحِلُّ ; لِأَنَّهُ مُسْتَطَابٌ يَلْقُطُ الْحَبَّ، فَهُوَ كَالْحَمَامِ، وَالدَّجَاجِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» وَيَحْرُمُ مِنْهَا مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ، كَالنُّسُورِ، وَالرَّخَمِ، وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْغِرْبَانِ، وَالْأَبْقَعِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَمَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسِقًا؟ وَاللَّهِ مَا هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِهِ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ ; إِذْ لَوْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِأَكْلِهِ جَائِزًا لَمَا أَذِنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِتْلَافِهِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ فِيهِ طَرِيقَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ حَرَامٌ. وَالْأُخْرَى: أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ. وَغُرَابُ الزَّرْعِ: فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ حَلَالٌ، وَهُوَ الزَّاغُ، وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُحْمَرَّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ. اهـ، مِنْهُ بِالْمَعْنَى فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» . وَمِنْ ذَلِكَ الصَّرَدُ، وَالْهُدْهُدُ، وَالْخُطَّافُ، وَالْخُفَّاشُ وَهُوَ الْوَطْوَاطُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: تَحْرِيمُ أَكْلِ الْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ. قَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : وَيَحْرُمُ أَكْلُ الْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِهِمَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْهُدْهُدِ، فَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ:» النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصَّرَدِ «، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْخُطَّافِ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُرْسَلٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ مِنْ تَابِعِيِّ التَّابِعِينَ، أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْخَطَاطِيفِ «، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ، قَالَ: وَرَوَى حَمْزَةُ النَّصِيبِيُّ فِيهِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُرْمَى بِالْوَضْعِ. اهـ وَمِمَّا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ: تَعْلَمُ أَنَّ الصَّرَدَ، وَالْهُدْهُدَ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُمَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ; لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِمَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ:» لَا تَقْتُلُوا الضَّفَادِعَ ; فَإِنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ، وَلَا تَقْتُلُوا الْخُفَّاشَ ; فَإِنَّهُ لَمَّا خُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ قَالَ: يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى الْبَحْرِ حَتَّى أُغْرِقَهُمْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِنَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْخُفَّاشِ، وَالضُّفْدَعِ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ ; لِأَنَّ عِلْمَ تَسْبِيحِ الضُّفْدَعِ، وَمَا قَالَهُ الْخُفَّاشُ لَا يَكُونُ بِالرَّأْيِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ أَكْلِ الْخُفَّاشِ وَالضُّفْدَعِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَيَحْرُمُ الْخُطَّافُ، وَالْخُشَّافُ، أَوِ الْخُفَّاشُ وَهُوَ الْوَطْوَاطُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: [الْكَامِلُ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرْي ... نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ قَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ يَأْكُلُ الْخُشَّافَ؟ ، وَسُئِلَ عَنِ الْخُطَّافِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: أَكْلُ الطَّيْرِ حَلَالٌ إِلَّا الْخُفَّاشَ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ لِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ لَا تَأْكُلُهَا الْعَرَبُ. اهـ، مِنْ «الْمُغْنِي» . وَالْخُشَّافُ هُوَ الْخُفَّاشُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ جَوَازَ أَكْلِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْوَاطَ. وَفِي الْبَبَّغَا، وَالطَّاوُسِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ: قَالَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرُهُ: وَأَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ. وَفِي الْعَنْدَلِيبِ، وَالْحُمْرَةِ لَهُمْ أَيْضًا وَجْهَانِ: وَالصَّحِيحُ إِبَاحَتُهُمَا، وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: يَحْرُمُ مُلَاعِبُ ظِلِّهِ، وَهُوَ طَائِرٌ يَسْبَحُ فِي الْجَوِّ مِرَارًا كَأَنَّهُ يَنْصَبُّ عَلَى طَائِرٍ، وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ أَيْضًا: وَالْبُومُ حَرَامٌ كَالرَّخَمِ، قَالَ: وَالضُّوَعُ، بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، حَرَامٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الضُّوَعَ غَيْرُ الْبُومِ، قَالَ: لَكِنْ فِي «صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ» أَنَّ الضُّوَعَ طَائِرٌ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ مِنْ جِنْسِ الْهَامِّ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: هُوَ ذَكَرُ الْبُومِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ فِي الضُّوَعِ قَوْلٌ لَزِمَ إِجْرَاؤُهُ فِي الْبُومِ ; لِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا يَفْتَرِقَانِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ: ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: الْأَشْهَرُ أَنَّ الضُّوَعَ مِنْ جِنْسِ الْهَامِّ ; فَلَا يَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَأَمَّا حَشَرَاتُ الطَّيْرِ، كَالنَّحْلِ، وَالزَّنَابِيرِ، وَالذُّبَابِ، وَالْبَعُوضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَأَكْلُهَا حَرَامٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْجَلَّالَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجِسَ، وَأَصْلُهَا الَّتِي تَلْتَقِطُ الْجِلَّةَ بِتَثْلِيثِ الْجِيمِ: وَهِيَ الْبَعْرُ، وَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ مِنَ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ: جَوَازُ أَكْلِ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ مُطْلَقًا، أَمَّا لَبَنُهَا وَبَوْلُهَا فَنَجِسَانِ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ، مَا دَامَ النَّجِسُ بَاقِيًا فِي جَوْفِهَا، وَيَطْهُرُ لَبَنُهَا وَبَوْلُهَا عِنْدَهُ إِنْ أَمْسَكَتْ عَنْ أَكْلِ النَّجِسِ، وَعُلِفَتْ عَلَفًا طَاهِرًا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهَا عَدَمُ بَقَاءِ شَيْءٍ فِي جَوْفِهَا مِنَ الْفَضَلَاتِ النَّجِسَةِ، وَكَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَحْمَ الْجَلَّالَةِ وَلَبَنَهَا، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَلْبَانِ الْجَلَّالَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِّ الْجَلَّالَةِ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالرَّائِحَةِ وَالنَّتْنِ، فَإِنْ وُجِدَ فِي عَرَقِهَا وَغَيْرِهِ رِيحُ النَّجَاسَةِ فَجَلَّالَةٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَأَكْلُ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ وَشُرْبُ لَبَنِهَا مَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ: كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : قَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ لُحُومَ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانَهَا، قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْقَذَرَ، فَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ حُرِّمَ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا. وَفِي بَيْضِهَا رِوَايَتَانِ: وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا الطَّاهِرَ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا وَلَا لَبَنُهَا، وَتَحْدِيدُ الْجَلَّالَةِ يَكُونُ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ لَمْ نَسْمَعْهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ بِمَا يَكُونُ كَثِيرًا فِي مَأْكُولِهَا وَيُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنَّمَا كَانُوا يَكْرَهُونَ الْجَلَّالَةَ الَّتِي لَا طَعَامَ لَهَا إِلَّا الرَّجِيعَ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الْجَلَّالَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ لُحُومَهَا، وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُحْبَسَ، وَرَخَّصَ الْحَسَنُ فِي لُحُومِهَا وَأَلْبَانِهَا ; لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا تَتَنَجَّسُ بِأَكْلِ النَّجَاسَاتِ ; بِدَلِيلِ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِ أَعْضَائِهِ، وَالْكَافِرُ الَّذِي يَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ وَالْمُحَرَّمَاتِ لَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ نَجِسًا، وَلَوْ نَجِسَ لَمَا طَهُرَ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا الِاغْتِسَالِ، وَلَوْ نَجِسَتِ الْجَلَّالَةُ لَمَا طَهُرَتْ بِالْحَبْسِ. اهـ. وَالظَّاهِرُ كَرَاهَةُ رُكُوبِ الْجَلَّالَةِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَعُمَرَ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا كَرَاهَةُ رُكُوبِ الْجَلَّالَةِ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالسَّخْلَةُ الْمُرَبَّاةُ بِلَبَنِ الْكَلْبَةِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْجَلَّالَةِ فِيمَا يَظْهَرُ، فَيَجْرِي فِيهَا مَا جَرَى فِيهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْ ذَلِكَ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ، أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَجِّسُهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمَا، خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَتَحْرُمُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ، أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمَ، وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا ; لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 الْحَيَوَانِ لَحْمًا، وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَدْمُلُ أَرْضَهُ بِالْعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرٍّ، وَالْعَرَّةُ: عَذِرَةُ النَّاسِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نُكْرِي أَرَاضِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ، وَتَتَرَقَّى فِيهَا أَجْزَاؤُهَا، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ، فَعَلَى هَذَا تُطَهَّرُ إِذَا سُقِيَتِ الطَّاهِرَاتِ، كَالْجَلَّالَةِ إِذَا حُبِسَتْ وَأُطْعِمَتِ الطَّاهِرَاتِ. اهـ، مِنَ الْمُغْنِي بِلَفْظِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا، وَذَكَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ الْآيَةَ [\ 35] وَقَوْلِهِ فِي الزُّخْرُفِ: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ الْآيَةَ [\ 20] . وَمُرَادُهُمْ: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ، أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِشِرْكِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَذَّبَهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [6 \ 148] ، وَكَذَّبَهُمْ فِي الزُّخْرُفِ، بِقَوْلِهِ: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [\ 20] ، وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ الْآيَةَ [\ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الْآيَةَ، الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى مَا وَصَّاكُمْ بِهِ فِعْلًا، أَوْ تَرْكًا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، فَالْمَعْنَى وَصَّاكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا، وَأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ الْآيَةَ [6 \ 185] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ الْآيَةَ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مِنْ أَجْلِ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ ; وَنَهَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ عَنْ قَتْلِهِمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ الْمُتَرَقَّبِ الْمَخُوفِ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْحَالِ، بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [17 \ 31] ، وَقَدْ أَوْضَحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَاهُ حِينَ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ " ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ الْآيَةَ [25 \ 68] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وَأَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعَ الْعَزْلِ ; لِأَنَّهُ وَأْدٌ خَفِيٌّ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ: " كُنَّا نَعْزِلُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، لَكِنْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَيَجُوزُ عَنِ الْأَمَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا. وَالْإِمْلَاقُ: الْفَقْرُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْإِمْلَاقُ الْجُوعُ. وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ مُؤَرِّجٍ، وَقِيلَ: الْإِمْلَاقُ الْإِنْفَاقُ، يُقَالُ: أَمْلَقَ مَالَهُ بِمَعْنَى أَنْفَقَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْلِقِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِكِ. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ الْآيَةَ، قَدْ يَتَوَهَّمُ غَيْرُ الْعَارِفِ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَعْنِي مَفْهُومَ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [6 \ 152] أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ قُرْبَانِ مَالِهِ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ، بَلِ الْغَايَةُ بِبُلُوغِ الْأَشَدِّ يُرَادُ بِهَا: أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، إِنْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ [4 \ 6] . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَشُدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبُلُوغُ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا الْآيَةَ. وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِعَلَامَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَالْإِنْبَاتِ، وَاحْتِلَامِ الْغُلَامِ، وَحَيْضِ الْجَارِيَةِ، وَحَمْلِهَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ سِنَّ الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِذَا بَلَغَتْ قَامَتُهُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ فَقَدْ بَلَغَ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَرَزْدَقُ فِي قَوْلِهِ يَرْثِي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ: [الْكَامِلُ] مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ ... فَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الْأَشْبَارِ يُدْنِي خَوَافِقَ مِنْ خَوَافِقَ تَلْتَقِي ... فِي ظِلِّ مُعْتَبَطِ الْغُبَارِ مُثَارِ وَالْأَشُدُّ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ وَاحِدٌ لَا جَمْعَ لَهُ كَالْآنُكِ، وَهُوَ الرَّصَاصُ، وَقِيلَ: وَاحِدُهُ شَدٌّ، كَفَلْسٍ وَأَفْلُسٍ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ جَمْعُ شِدَّةٍ، وَمَعْنَاهُ حَسَنٌ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: بَلَغَ الْغُلَامُ شِدَّتَهُ، إِلَّا أَنَّ جَمْعَ الْفِعْلَةِ فِيهِ عَلَى أَفْعُلَ غَيْرُ مَعْهُودٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَأَمَّا أَنْعُمُ، فَلَيْسَ جَمْعَ نِعْمَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جَمْعُ نِعْمَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِئْسَ وَنِعْمَ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: وَأَصْلُ الْأَشُدِّ مِنْ شَدِّ النَّهَارِ إِذَا ارْتَفَعَ، يُقَالُ: أَتَيْتُهُ شَدَّ النَّهَارِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ يُنْشِدُ بَيْتَ عَنْتَرَةَ: [الْكَامِلُ] عَهْدِي بِهِ شَدُّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا ... خَضَبَ اللَّبَانَ وَرَأْسَهُ بِالْعَظْلَمِ وَقَالَ الْآخَرُ: [الطَّوِيلُ] تُطِيفُ بِهِ شَدَّ النَّهَارِ ظَعِينَةٌ ... طَوِيلَةُ أَنْقَاءُ الْيَدَيْنِ سَحُوقُ قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: [الْبَسِيطُ] شَدَّ النَّهَارِ ذِرَاعَا عَيْطَلٍ نَصَفٍ ... قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ فَقَوْلُهُ: «شَدَّ النَّهَارِ» يَعْنِي وَقْتَ ارْتِفَاعِهِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ، فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: يَوْمًا يَظَلُّ بِهِ الْحَرْبَاءَ مُصْطَخِدًا ... كَأَنَّ ضَاحِيَهُ بِالشَّمْسِ مَحْلُولُ فَشَدُّ النَّهَارِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ يَوْمًا، بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: «يَوْمًا» بَدَلٌ مِنْ إِذَا فِي قَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: [الْبَسِيطُ] كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا إِذَا عَرِقَتْ ... وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ لِأَنَّ الزَّمَنَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ «بِإِذَا» هُوَ بِعَيْنِهِ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: «يَوْمًا يَظَلُّ» الْبَيْتَ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى [79 \ 34، 35] ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ الْآيَةَ [80 \ 33، 34] ، وَإِعْرَابُ أَبْيَاتِ كَعْبٍ هَذِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَدَاخُلِ الْبَدَلِ، وَقَوْلُهُ: «ذِرَاعًا عَيْطَلٍ» خَبَرُ كَأَنَّ فِي قَوْلِهِ: «كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا» الْبَيْتَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَشُدُّ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ بَعِيدَةٌ عَنِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ جَازَتْ لُغَةً، كَمَا قَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ: [الْوَافِرُ] أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّئُونِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 تَنْبِيهٌ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: إِنَّ الرُّشْدَ الَّذِي يُدْفَعُ بِهِ الْمَالُ إِلَى مَنْ بَلَغَ النِّكَاحَ، هُوَ حِفْظُ الْمَالِ، وَحُسْنُ النَّظَرِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا شَرِّيبًا، كَمَا أَنَّ الصَّالِحَ التَّقِيَّ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ النَّظَرَ فِي الْمَالِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ، قَالَ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَالِكِيُّ فِي «تُحْفَتِهِ» : [الرَّجَزُ] وَشَارِبُ الْخَمْرِ إِذَا مَا ثَمَرَا ... لِمَا يَلِي مِنْ مَالِهِ لَنْ يَحْجُرَا وَصَالِحٌ لَيْسَ يُجِيدُ النَّظَرَا فِي الْمَالِ ... إِنْ خِيفَ الضَّيَاعُ حُجِرَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ: لَا يَكُونُ الْفَاسِقُ الْعَاصِي رَشِيدًا ; لِأَنَّهُ لَا سَفَهَ أَعْظَمُ مِنْ تَعْرِيضِهِ نَفْسَهُ لِسَخَطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْعَدْلِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِإِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِذَلِكَ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا عِقَابًا لِمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَوَعَّدَهُ بِالْوَيْلِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَوَبَّخَهُ بِأَنَّهُ لَا يَظُنُّ الْبَعْثَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [83 \ 1 - 6] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ إِيفَاءَ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ خَيْرٌ لِفَاعِلِهِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [17 \ 35] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى ذِي قَرَابَةٍ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْأَمْرِ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْآيَةَ [4 \ 135] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا الْآيَةَ، أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ سَيُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [17 \ 34] ، أَيْ: عَنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مِنْ حُكْمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَطْعَ عُذْرِ كُفَّارِ مَكَّةَ ; لِئَلَّا يَقُولُوا: لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْنَا كِتَابٌ لَعَمِلْنَا بِهِ، وَلَكُنَّا أَهْدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِكُتُبِهِمْ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، مَا زَادَهُمْ نُزُولُهُ إِلَّا نُفُورًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ ; لِاسْتِكْبَارِهِمْ وَمَكْرِهِمُ السَّيِّئِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَعْنِي «صَدَفَ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَازِمٌ، وَمَعْنَاهُ أَعْرَضَ عَنْهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: «صَدَفَ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ صَدَّ غَيْرَهُ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ لِقَوْلِ السُّدِّيِّ ; لِأَنَّ إِعْرَاضَ هَذَا الَّذِي لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ [6 \ 157] ، إِذَا لَا إِعْرَاضَ أَعْظَمُ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَصَدَفَ عَنْهَا، أَنَّهُ صَدَّ غَيْرَهُ عَنْهَا، فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَمَعْنَى «صَدَفَ» مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ «كَذَّبَ» وَنَظِيرُ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. اهـ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ الْآيَةَ [16 \ 88] . وَقَدْ يُوَجَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَكْذِيبِهِ، وَإِعْرَاضِهِ: أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا قَلْبُهُ، وَلَمْ تَعْمَلْ بِهَا جَوَارِحُهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [75 \ 31، 32] ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اشْتِمَالِ الْكَافِرِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِقَلْبِهِ، وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى هَذَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وَلَكِنَّ كَلَامَ السُّدِّيِّ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. وَإِطْلَاقُ «صَدَفَ» بِمَعْنَى أَعْرَضَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ: [الطَّوِيلُ] عَجِبْتُ لِحُكْمِ اللَّهِ فِينَا وَقَدْ بَدَا ... لَهُ صَدْفُنَا عَنْ كُلِّ حَقٍّ مُنَزَّلِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْشَدَ بَيْتَ أَبِي سُفْيَانَ هَذَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ الرِّقَاعِ: [الْبَسِيطُ] إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ ... وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صَدَفُ أَيْ: مُعْرِضَاتٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنَّ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِتْيَانَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَجِيئُونَ صُفُوفًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] ، وَذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ الْآيَةَ [2 \ 210] ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ يَمُرُّ كَمَا جَاءَ وَيُؤْمِنُ بِهَا، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [20 \ 210] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالنُّسُكِ هُنَا النَّحْرُ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ لِأَصْنَامِهِمْ بِعِبَادَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ: هِيَ النَّحْرُ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّ صَلَاتَهُ وَنَحْرَهُ كِلَاهُمَا خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [108 \ 2] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النُّسُكُ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّحْرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَانْحَرْ وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى تَحْتَ النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْأَعْرَافِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ الْآيَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: حَرَجٌ أَيْ شَكٌّ، أَيْ لَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ شَكٌّ فِي كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنِ حَقًّا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [2 \ 147] وَقَوْلِهِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [3 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [10 \ 49] . وَالْمُمْتَرِي: هُوَ الشَّاكُّ ; لِأَنَّهُ مُفْتَعِلٌ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنِ الشَّكِّ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: [الرَّجَزُ] إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ الْآيَةَ [2 \ 120 و145] وَ [13 \ 137] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُ لِيُوَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَى غَيْرِهِ فِي ضِمْنِ خِطَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَرَجِ فِي الْآيَةِ الضِّيقُ. أَيْ لَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ ضِيقٌ عَنْ تَبْلِيغِ مَا أُمِرْتَ بِهِ لِشِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ، وَالتَّعَرُّضَ لِبَطْشِهِمْ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ، وَكَذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ وُضُوحِ صِدْقِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَالثَّلْغُ: الشَّدْخُ، وَقِيلَ ضَرْبُ الرَّطْبِ بِالْيَابِسِ حَتَّى يَنْشَدِخَ، وَهَذَا الْبَطْشُ مِمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 يَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [11 \ 12] ، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [15 \ 97] ، وَقَوْلُهُ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [181 \ 6] وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [26 \ 3] . وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَخِيرَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْحَرَجَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الضِّيقُ. وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ [24 \ 61] ، وَقَوْلُهُ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] ، وَقَوْلُهُ: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [6 \ 125] ، أَيْ: شَدِيدَ الضِّيقِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَوْ جَمِيلٍ: [الْكَامِلُ] فَخَرَجْتُ خَوْفَ يَمِينِهَا فَتَبَسَّمَتْ ... فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينَهَا لَمْ تُحْرَجِ وَقَوْلُ الْعَرْجِيِّ [السَّرِيعُ] : عُوجِي عَلَيْنَا رَبَّةَ الْهَوْدَجِ ... إِنَّكِ إِلَّا تَفْعَلِي تَحْرُجِي وَالْمُرَادُ بِالْإِحْرَاجِ فِي الْبَيْتَيْنِ: الْإِدْخَالُ فِي الْحَرَجِ. بِمَعْنَى الضِّيقِ كَمَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمَفْعُولَ بِهِ لِقَوْلِهِ لِتُنْذِرَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] ، وَقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [36 \ 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلْإِنْذَارِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ الْآيَةَ [18 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [92 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا الْآيَةَ [78 \ 40] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ جَمَعَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ الْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 2] فَالْإِنْذَارُ لِلْكُفَّارِ، وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] ، وَقَوْلُهُ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [51 \ 55] ، وَقَوْلُهُ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [50 \ 45] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا - مِنْ أَنَّ الْإِنْذَارَ لِلْكُفَّارِ، وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - أَنَّهُ قَصَرَ الْإِنْذَارَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [36 \ 11] ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِالْإِنْذَارِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ، صَارَ الْإِنْذَارُ كَأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ فَهُوَ كَالْعَدَمِ. وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: التَّعْبِيرُ عَنْ قَلِيلِ النَّفْعِ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ. وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ: أَنَّ الْإِنْذَارَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [74 \ 1، 2] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] . وَهَذَا الْإِنْذَارُ الْعَامُّ: هُوَ الَّذِي قُصِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَصْرًا إِضَافِيًّا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ الْآيَةَ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: إِنْذَارٌ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْوَاقِعُونَ فِيمَا أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ النَّكَالِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مُبَيَّنًا أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا، وَقَوْلِهِ هُنَا: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اهـ. وَالْإِنْذَارُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ، فَكُلُّ إِنْذَارٍ إِعْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، خَوَّفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكَهَا بَيَاتًا، أَيْ: لَيْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكَهَا وَهُمْ قَائِلُونَ، أَيْ فِي حَالِ قَيْلُولَتِهِمْ، وَالْقَيْلُولَةُ: الِاسْتِرَاحَةُ وَسَطَ النَّهَارِ. يَعْنِي: فَاحْذَرُوا تَكْذِيبَ رَسُولِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا أُنْزِلَ بِكُمْ مِثْلَ مَا أَنْزَلْتُ بِهِمْ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [6 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [22 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [28 \ 58] ، وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 يُرِيدُ تَهْدِيدَهُمْ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ هَدَّدَ تَعَالَى أَهْلَ الْقُرَى بِأَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُهُ لَيْلًا فِي حَالَةِ النَّوْمِ، أَوْ ضُحًى فِي حَالَةِ اللَّعِبِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [7 \ 97، 98] ، وَهَدَّدَ أَمْثَالَهُمْ مِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [16 \ 45، 46، 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تِلْكَ الْقُرَى الْكَثِيرَةَ الَّتِي أَهْلَكَهَا فِي حَالِ الْبَيَاتِ، أَوْ فِي حَالِ الْقَيْلُولَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الدَّعْوَى إِلَّا اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [21 \ 11 - 15] . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [7 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الشَّيْءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ الْمُرْسَلُونَ، وَلَا الشَّيْءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، وَيَسْأَلُ الْأُمَمَ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ. قَالَ فِي الْأَوَّلِ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [5 \ 109] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَقَالَ فِي الثَّانِي: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [28 \ 65] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَسْأَلُ جَمِيعَ الْخَلْقِ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [15 \ 92، 93] . وَهُنَا إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَا: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 6] ، وَقَالَ أَيْضًا: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالَ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [37 \ 24] ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ سُؤَالِ الْجَمِيعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [28 \ 78] ، وَقَالَ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [55 \ 39] . وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) وَسَنَزِيدُهُ إِيضَاحًا هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، أَخَصُّ مِنَ السُّؤَالِ الْمُثْبَتِ فِيهَا ; لِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ فِيهَا مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ سُؤَالًا عَنْ ذُنُوبٍ خَاصَّةٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [28 \ 78] فَخَصَّهُ بِكَوْنِهِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَقَالَ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ فَخَصَّهُ بِذَلِكَ أَيْضًا، فَيَتَّضِحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُؤَالَ الرُّسُلِ وَالْمَوْءُودَةِ مَثَلًا لَيْسَ عَنْ ذَنْبٍ فَعَلُوهُ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ خُصُوصُ السُّؤَالِ عَنْ ذَنْبٍ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ الْآيَةَ [5 \ 119] ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ لِعِيسَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [33 \ 8] ، قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ الْآيَةَ [33 \ 8] ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الذُّنُوبِ الْمَنْفِيُّ فِي الْآيَاتِ: الْمُرَادُ بِهِ سُؤَالُ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُنَافِي نَفْيُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السُّؤَالِ ثُبُوتَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ هُوَ سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ ; لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ كُلُّهُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ كَقَوْلِهِ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ. وَقَوْلِهِ: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [52 \ 15] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَبَاقِي أَوْجُهِ الْجَمْعِ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَى عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَمَّا فَعَلُوهُ أَيَّامَ فِعْلِهِمْ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَلْ هُوَ الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [58 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [57 \ 4] وَقَوْلِهِ: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61] . تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ النَّافِينَ صِفَاتِ الْمَعَانِي، الْقَائِلِينَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ، لَا بِصِفَةٍ قَامَتْ بِذَاتِهِ، هِيَ الْعِلْمُ، وَهَكَذَا فِي قَوْلِهِمْ: قَادِرٌ مُرِيدٌ، حَيٌّ سَمِيعٌ، بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ، فَإِنَّهُ هُنَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَةَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ \ [7 \ 7] 30 وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [4 \ 166] . وَهِيَ أَدِلَّةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي بُطْلَانِهِ وَتَنَاقُضِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ وَزْنَهُ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقٌّ أَيْ لَا جَوْرَ فِيهِ، وَلَا ظُلْمَ، فَلَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِ مُسِيءٍ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِ مُحْسِنٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الْآيَةَ [4 \ 40] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ أَفْلَحُوا، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُمْ خَسِرُوا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَلَمْ يُفَصِّلِ الْفَلَاحَ وَالْخُسْرَانَ هُنَا. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَلَاحِ هُنَا كَوْنُهُ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُسْرَانِ هُنَا كَوْنُهُ فِي الْهَاوِيَةِ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [101 \ 6 - 11] . وَبَيَّنَ أَيْضًا خُسْرَانَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، بِقَوْلِهِ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [23 \ 103، 104] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْمَعَايِشِ الَّتِي جَعَلَ لَنَا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 24 - 32] . وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [32 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [20 \ 53، 54] . وَذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [\ 5] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ. الَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، وَ «لَا» صِلَةٌ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سُورَةِ «ص» قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ [\ 75] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا زِيَادَةَ لَفْظَةِ «لَا» وَشَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ الْبَلَدِ، فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الْجَانُّ الَّذِي هُوَ أَبُو الْجِنِّ، فَقَدْ زَادَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَوْصَافًا لِلنَّارِ الَّتِي خَلَقَهُ مِنْهَا. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا نَارُ السَّمُومِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [15 \ 27] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا خُصُوصُ الْمَارِجِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [55 \ 15] ، وَالْمَارِجُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ النَّارِ لِأَنَّهُ اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ. وَسُمِّيَتْ نَارَ السَّمُومِ ; لِأَنَّهَا تَنْفُذُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ لِشِدَّةِ حَرِّهَا. وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» . وَرَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [7 \ 13] . بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ عَامَلَ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ حَيْثُ كَانَ قَصْدُهُ التَّعَاظُمَ وَالتَّكَبُّرَ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ صَاغِرًا حَقِيرًا ذَلِيلًا، مُتَّصِفًا بِنَقِيضِ مَا كَانَ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [7 \ 13] ، وَالصَّغَارُ: أَشَدُّ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَقَوْلِهِ: اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [7 \ 18] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لَا يَنَالُ مَا أَرَادَ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ نَقِيضُ ذَلِكَ. وَصَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [40 \ 56] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرًا مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنِ الْكِبْرِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِصَرْفِ صَاحِبِهِ عَنْ فَهْمِ آيَاتِ اللَّهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [7 \ 146] . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الثَّوَاءِ فِي النَّارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [39 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [37 \ 35] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [16 \ 23] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اسْتَعَاذَ مِنَ الْمُتَّصِفِ بِهِ وَلَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا مِمَّا هُوَ شَرٌّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [40 \ 27] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ، وَعَوَاقِبِهِ الْوَخِيمَةِ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْمُتَوَاضِعَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا يَرْفَعُهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى مَكَانَةِ الْمُتَوَاضِعِينَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [25 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [28 \ 83] وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: [الطَّوِيلُ] تَوَاضَعْ تَكُنْ كَالْبَدْرِ تُبْصِرُ وَجْهَهُ ... عَلَى صَفَحَاتِ الْمَاءِ وَهُوَ رَفِيعُ وَلَا تَكُ كَالدُّخَّانِ يَعْلُو بِنَفْسِهِ ... إِلَى صَفَحَاتِ الْجَوِّ وَهُوَ وَضِيعُ وَقَالَ أَبُو الطِّيبِ الْمُتَنَبِّي: [الْوَافِرُ] وَلَوْ لَمْ يَعْلُ إِلَّا ذُو مَحَلٍّ ... تَعَالَ الْجَيْشُ وَانْحَطَّ الْقَتَامُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمَنْظَرِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْغَايَةَ الَّتِي أَنْظَرَهُ إِلَيْهَا، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي «الْحِجْرِ» وَ «ص» مُبَيِّنًا أَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ الْإِنْظَارِ هُوَ يَوْمُ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. لِقَوْلِهِ: فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» وَ «ص» فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [\ 80] فَقَدْ طَلَبَ الشَّيْطَانُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيُوقِعُ بَنِي آدَمَ فِيهِ قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ سَيُطِيعُونَهُ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «سَبَأٍ» أَنَّ ظَنَّهُ هَذَا صَدَقَ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ الْآيَةَ [\ 20] ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 84، 85] . بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ لِإِبْلِيسَ: اخْرُجْ مِنْهَا فِي حَالِ كَوْنِكِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا. وَالْمَذْءُومُ: الْمَعِيبُ أَوِ الْمَمْقُوتُ، وَالْمَدْحُورُ: الْمُبْعَدُ عَنِ الرَّحْمَةِ، الْمَطْرُودُ، وَأَنَّهُ أَوْعَدَهُ بِمَلْءِ جَهَنَّمَ مِنْهُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 84، 85] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [17 \ 63، 64] ، وَقَوْلِهِ: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [26 \ 94، 95] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ. حَذَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَنِي آدَمَ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْهِمْ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ حَذَّرَ آدَمَ مِنْ مَكْرِ إِبْلِيسَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ، وَلَمْ يُنْجِهِ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنْ عَدُوِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [20 \ 117] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا الْآيَةَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً، اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَصَوَابٌ، بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَفْعَلُونَهَا، وَأَنَّهُمْ مَا فَعَلُوهَا، إِلَّا لِأَنَّهَا صَوَابٌ وَرُشْدٌ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [43 \ 23] . وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [2 \ 170] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [43 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [37 \ 69، 70] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أَيْ كَمَا سَبَقَ لَكُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ، فَإِنَّكُمْ تَصِيرُونَ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَعِيدٌ صَارَ إِلَى السَّعَادَةِ، وَمَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ شَقِيٌّ صَارَ إِلَى الشَّقَاوَةِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [7 \ 30] ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] ، وَقَوْلُهُ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ الْآيَةَ [11 \ 119] ، أَيْ وَلِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَقِيٍّ، وَسَعِيدٍ خَلَقَهُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [7 \ 29] ، أَيْ كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّلًا، وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، فَإِنَّهُ يُعِيدُكُمْ مَرَّةً أُخْرَى، وَيَبْعَثُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ مِتُّمْ وَصِرْتُمْ عِظَامًا رَمِيمًا، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا الْآيَةَ [21 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ طَاعَتُهُمْ لَهُمْ فِيمَا يُخَالِفُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى هُدًى. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَخْسَرُ النَّاسِ عَمَلًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [18 \ 103، 104] . تَنْبِيهٌ هَذِهِ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ ظَنُّهُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ لَمْ تَتْرُكْ فِي الْحَقِّ لَبْسًا وَلَا شُبْهَةً، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِ لِلْكُفْرِ لَا يَكَادُ يُفَكِّرُ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ لَجَاجًا فِي الْبَاطِلِ، وَعِنَادًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 فَلِذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. مَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالَ إِنْكَارٍ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ، كَاللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ، وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ كَالْأَنْعَامِ، وَالْحَرْثِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْكُفَّارُ، وَكَاللَّحْمِ وَالْوَدَكِ الَّذِي حَرَّمَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْحَجِّ. وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا، كَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [16 \ 116] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [6 \ 140] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، وَطَلَبُهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ طَلَبُ إِعْجَازٍ أَنْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا، وَنَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَهِدَ لَهُمْ شُهُودُ زُورٍ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ \ [6 \ 150] 30 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ إِضْلَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَتْبَاعَ يُطِيعُونَ السَّادَةَ الْكُبَرَاءَ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ الْآيَةَ [33 \ 67، 68] ، وَبَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «سَبَأٍ» بِقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [\ 31 - 33] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ: أَنَّ الْأَتْبَاعَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُضَاعِفَ الْعَذَابَ لِلْمَتْبُوعِينَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِلْمَتْبُوعِينَ لَا تَنْفَعُ الْأَتْبَاعَ، وَلَا تُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، كَقَوْلِهِ: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [43 \ 39] ، وَقَوْلِهِ هُنَا: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ [7 \ 38] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [7 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [40 \ 48] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، يَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارَ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ نَزْعَ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ يَقَعُ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ آمِنِينَ مِنَ النَّصَبِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْحِجْرِ» : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [\ 47، 48] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ حِجَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا الْحِجَابَ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ الْآيَةَ [57 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ، يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [3 \ 106] . فَبَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ سِيمَا أَهْلِ النَّارِ، كَمَا قَالَ أَيْضًا فِي سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [83 \ 24] ، وَقَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ الْآيَةَ [75 \ 22] ، وَقَالَ فِي سِيمَا أَهْلِ النَّارِ: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا الْآيَةَ [10 \ 27] ، وَقَالَ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ الْآيَةَ [80 \ 40] ، وَقَالَ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [20 \ 102] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ قَالُوا لِرِجَالٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ: يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ، وَلَا كَثْرَةُ جَمَاعَتِكُمْ وَأَنْصَارِكُمْ، وَلَا اسْتِكْبَارُكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَجْهَ ذَلِكَ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُحْشَرُ فَرْدًا، لَا مَالَ مَعَهُ، وَلَا نَاصِرَ، وَلَا خَادِمَ، وَلَا خَوَلَ. وَأَنَّ اسْتِكْبَارَهُ فِي الدُّنْيَا يُجْزَى بِهِ عَذَابَ الْهَوْنِ فِي الْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [6 \ 94] ، وَقَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [19 \ 95] ، وَقَوْلِهِ: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، وَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [46 \ 20 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكَفَّارَ، إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِالْحَقِّ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ شُفَعَاءُ فَيُنْقِذُوهُمْ، أَوْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيُصَدِّقُوا الرُّسُلَ، وَيَعْمَلُوا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ؟ وَهَلْ يُرَدُّونَ؟ وَمَاذَا يَفْعَلُونَ لَوْ رُدُّوا؟ وَهَلِ اعْتِرَافُهُمْ ذَلِكَ بِصِدْقِ الرُّسُلِ يَنْفَعُهُمْ؟ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَبَيَّنَ: أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ بُقُولِهِ: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ الْآيَةَ [26 \ 100] ، وَقَوْلِهِ: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [74 \ 48] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [21 \ 28] مَعَ قَوْلِهِ: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [39 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ \ [9 \ 96] 30، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 12، 13] فَقَوْلُهُ: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الْآيَةَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ وَجَبَتْ لَهُمْ، فَلَا يُرَدُّونَ، وَلَا يُعْذَرُونَ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [35 \ 37] . فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ قَطَعَ عُذْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; بِالْإِمْهَالِ مُدَّةً يَتَذَكَّرُونَ فِيهَا ; وَإِنْذَارِ الرُّسُلِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ رَدِّهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [14 \ 44] ، جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [40 \ 12] ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [40 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ الْآيَةَ [42 \ 45] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [42 \ 44] ، وَقَوْلِهِ هُنَا قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [7 \ 53] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ الْآيَةَ. فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا، وَعَلَى وُجُوبِ الْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ ; وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [6 \ 28] ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ وُجِدَ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَا يَحْضُرُونَهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [9 \ 46] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَا دُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ الْآيَةَ [9 \ 47] ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [23 \ 75] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِمْ: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ لَا يَنْفَعُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [39 \ 71] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. \ 5 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. لَمْ يُفَصِّلْ هُنَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» بِقَوْلِهِ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [9 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [48 \ 10] وَنَحْوَ ذَلِكَ ; أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِشْكَالًا ضَلَّ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَصَارَ قَوْمٌ إِلَى التَّعْطِيلِ وَقَوْمٌ إِلَى التَّشْبِيهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ، وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ أَيَّ لَبْسٍ وَلَا إِشْكَالٍ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ فِي صِفَاتِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِفُ اللَّهَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [2 \ 140] ، وَلَا يَصِفُ اللَّهَ بَعْدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي قَالَ فِيهِ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3، 4] فَمِنْ نَفَى عَنِ اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَاعِمًا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَعْلَمَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا. سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ يُشَابِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ، فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُلْحِدٌ ضَالٌّ، وَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَنْزِيهِهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَالتَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، سَالِمٌ مِنْ وَرْطَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهَا هَذَا. هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [42 \ 11] فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا مُمَاثَلَةَ الْحَوَادِثِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْإِتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّرَّ فِي تَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ ; أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَتَّصِفُ بِهِمَا جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ، فَبَيْنَ أَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِهِمَا، وَلَكِنَّ وَصْفَهُ بِهِمَا عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ وَصْفِهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ، وَلِذَا جَاءَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ بُعْدَ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِلْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا لَبْسَ مَعَهُ وَلَا شُبْهَةَ الْبَتَّةَ، وَسَنُوضِّحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا بِحَسْبِ طَاقَتِنَا، وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا التَّوْفِيقُ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَسَّمُوا صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَصِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَصِفَةُ مَعْنًى، وَصِفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَصِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَصِفَةٌ جَامِعَةٌ، وَالصِّفَةُ الْإِضَافِيَّةُ تَتَدَاخَلُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ ; لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مَادَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَهِيَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ كُلُّ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ فِعْلِيَّةً فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي نَحْوِ الْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَتَتَفَرَّدِ الْفِعْلِيَّةُ فِي نَحْوِ الِاسْتِوَاءِ، وَتَتَفَرَّدُ الْإِضَافِيَّةُ فِي نَحْوِ كَوْنِهِ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ وَالْفَوْقِيَّةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَلَيْسَتَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالْقَوَانِينِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْمَنْطِقِيَّةِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اللَّهُ عَالِمٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِالنَّفْسِيَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ الْوُجُودَ فَقَطْ وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُوهِمَ لِلْمَحْذُورِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ صَحِيحًا ; لِأَنَّ الصِّفَةَ النَّفْسِيَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا تَكُونُ إِلَّا جِنْسًا أَوْ فَصْلًا، فَالْجِنْسُ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْفَصْلُ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجِنْسَ فِي الِاصْطِلَاحِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَفْرَادٍ مُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، وَأَنَّ الْفَصْلَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ يَنْفَصِلُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الْجِنْسِ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ صِفَتُهُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي تَفْصِلُهُ عَنِ الْفَرَسِ مَثَلًا الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالنَّمَائِيَّةِ وَالْحَسَاسِيَّةِ، وَوَصْفُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِشَيْءٍ يُرَادُ بِهِ اصْطِلَاحًا مَا بَيِّنًا لَكَ ; مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَرَى ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ اشْتِرَاكٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ، حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وَالْفَصْلَ: هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَعْضَ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْجِنْسِ عَنْ بَعْضٍ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَسَنُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ عَلَى تَقْسِيمِهِمْ لَهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا، وَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مَوْصُوفٌ بِهَا، وَأَنَّهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا وَصْفُ الْمَخْلُوقِ بِهَا، وَلَكِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِوَصْفِ الْمَخْلُوقِ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ، وَيَلْزَمُهُمْ ضَرُورَةٌ فِيمَا أَنْكَرُوا مِثْلَ مَا أَقَرُّوا بِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ. فَمِنْ ذَلِكَ: الصِّفَاتُ السَّبْعُ، الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي وَهِيَ: الْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْحَيَاةُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْكَلَامُ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُدْرَةِ: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [2 \ 284] وَ [3 \ 29] وَ [3 \ 189] وَ [5 \ 19] وَ [5 \ 40] وَ [8 \ 41] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [5 \ 34] فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً حَقِيقِيَّةً لَائِقَةً بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَأَثْبَتَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ قُدْرَةً مُنَاسِبَةً لِحَالِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ وَالْحُدُوثِ الْفَنَاءِ، وَبَيْنَ قُدْرَتِهِ، وَقُدْرَةِ مَخْلُوقِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِ مَخْلُوقِهِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْإِرَادَةِ: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [11 \ 107] وَ [85 \ 16] ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 \ 82] ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [2 \ 185] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا الْآيَةَ [8 \ 67] ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [33 \ 13] ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [61 \ 8] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَائِقَةٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ إِرَادَةٌ أَيْضًا مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [24 \ 35] ، لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [4 \ 166] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [7 \ 7] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [51 \ 28] ، وَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [12 \ 68] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ عِلْمٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ عِلْمِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحَيَاةِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [2 \ 55] ، هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [40 \ 65] ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْآيَةَ [25 \ 58] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [19 \ 15] ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [21 \ 30] ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ [30 \ 19] . فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا حَيَاةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا حَيَاةٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ ; وَبَيْنَ حَيَاةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [22 \ 75] وَ [31 \ 28] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [76 \ 2] ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [19 \ 38] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقِيَّانِ يَلِيقَانِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ مُنَاسِبَانِ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ سَمْعِ الْخَالِقِ وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِ الْمَخْلُوقِ وَبَصَرِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [4 \ 164] ، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [7 \ 144] ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [9 \ 6] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهِ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [12 \ 54] ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [36 \ 65] ، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [19 \ 29] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَلِلْمَخْلُوقِ كَلَامٌ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ. وَبَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ يُثْبِتُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِنَفْيِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَالْمُعْتَزِلَةُ يَنْفُونَهَا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا فَيَقُولُونَ: هُوَ تَعَالَى حَيٌّ قَادِرٌ، مُرِيدٌ عَلِيمٌ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ، مُتَكَلِّمٌ بِذَاتِهِ لَا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ، وَلَا إِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ، هَكَذَا فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْ تَعَدُّدِ الْقَدِيمِ! ! وَمَذْهَبُهُمُ الْبَاطِلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَنَاقُضُهُ عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِذَا عُدِمَ فَالِاشْتِقَاقُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ فَإِذَا عُدِمَ السَّوَادُ عَنْ جِرْمٍ مَثَلًا اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ هُوَ أَسْوَدُ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سَوَادٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ بِذَاتٍ، اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ: هِيَ عَالِمَةٌ قَادِرَةٌ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ بِهَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَعِنْدَ فَقْدِ الْوَصْفِ لَا يُشْتَقُّ ... وَأَعْوَزَ الْمُعْتَزِلِيَّ الْحَقُّ وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ الْأَوْصَافُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى: قَادِرًا، مُرِيدًا، عَالِمًا حَيًّا، سَمِيعًا بَصِيرًا، مُتَكَلِّمًا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالْمَعَانِي، وَعَدُّ الْمُتَكَلِّمِينَ لَهَا صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّةَ، زَاعِمِينَ أَنَّهَا أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ ; وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ تَخْيِيلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَهَا ; لِأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ حَاكِمٌ حُكْمًا لَا يَتَطَرَّقُهُ شَكٌّ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْبَتَّةَ، فَالْعُقَلَاءُ كَافَّةٌ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ، فَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ قَطْعًا، وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْدُومٍ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ قَطْعًا، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا تَرَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وَقَدْ بَيَّنَّا فِي اتِّصَافِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِالْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ مُنَافَاةَ صِفَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ، وَبِهِ تَعْلَمُ مِثْلَهُ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَعْنَوِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِهَا. وَأَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ عِنْدُهُمُ: الْقِدَمُ، وَالْبَقَاءُ، وَالْوَحْدَانِيَّةُ، وَالْمُخَالَفَةُ لِلْخَلْقِ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ. وَضَابِطُ الصِّفَةِ السَّلْبِيَّةِ عِنْدَهُمْ: هِيَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ أَصْلًا، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ. أَمَّا الصِّفَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ: فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَةِ الْمَعْنَى، فَالْقِدَمُ مَثَلًا عِنْدَهُمْ لَا مَعْنَى لَهُ بِالْمُطَابَقَةِ، إِلَّا سَلْبَ الْعَدَمِ السَّابِقِ، فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ مَثَلًا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْعَجْزِ، وَالْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْجَهْلِ، وَالْحَيَاةُ تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْمَوْتِ، فَلِمَ لَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ سَلْبِيَّةً أَيْضًا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ مَثَلًا تَدُلُّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ قَائِمٍ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي يَتَأَتَّى بِهَا إِيجَادُ الْمُمْكِنَاتِ وَإِعْدَامُهَا عَلَى وِفْقِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا سَلَبَتِ الْعَجْزَ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ قِيَامَ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ بِالذَّاتِ يَلْزَمُهُ نَفْيُ ضِدِّهِ عَنْهَا لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ عَقْلًا، وَهَكَذَا فِي بَاقِي الْمَعَانِي. أَمَّا الْقِدَمُ عِنْدَهُمْ مَثَلًا: فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوُجُودُ، إِلَّا سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي السَّلْبِيَّاتِ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِدَمَ، وَالْبَقَاءَ اللَّذَيْنِ يَصِفُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى زَاعِمِينَ، أَنَّهُ وَصَفَ بِهِمَا نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ الْآيَةَ [57 \ 3]- جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَصْفُ الْحَادِثِ بِهِمَا أَيْضًا، قَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْقِدَمِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [36 \ 39] ، وَقَالَ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [12 \ 95] ، وَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [26 \ 75، 76] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْبَقَاءِ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [37 \ 77] ، وَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْحَادِثَ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ، قَالَ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [67 \ 16، 17] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، قَالَ: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [2 \ 163] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغِنَى: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] ، وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغِنَى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ الْآيَةَ [4 \ 6] ، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ الْآيَةَ [24 \ 32] ، فَهُوَ جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَالْحَادِثُ مَوْصُوفٌ بِهَا أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحُدُوثِهِ وَفَنَائِهِ، وَعَجْزِهِ وَافْتِقَارِهِ، وَبَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَأَمَّا الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ عِنْدَهُمْ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ: الْوُجُودُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْوُجُودَ عَيْنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَعُدَّهُ صِفَةً، كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَالِقَ مَوْجُودٌ، وَالْمَخْلُوقَ مَوْجُودٌ، وَوُجُودُ الْخَالِقِ يُنَافِي وُجُودَ الْمَخْلُوقِ، كَمَا بَيَّنَّا. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ صِفَتَانِ نَفْسِيَّتَانِ، زَاعِمًا أَنَّهُمَا طَرَفَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ فِي زَعْمِهِمْ. وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ، فَإِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ كَمُنَافَاةِ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ خَلْقَهُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْآيَةَ [51 \ 58] ، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [34 \ 39] ، وَقَالَ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا الْآيَةَ [11 \ 6] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الْآيَةَ [4 \ 8] ، وَقَالَ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الْآيَةَ [2 \ 233] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا الْآيَةَ [36 \ 71] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [66 \ 7] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِتَعْلِيمِ خَلْقِهِ فَقَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [55 \ 1 - 4] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الْآيَةَ [62 \ 2] . وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [5 \ 4] ، وَوَصَفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُنَبِّئُ، وَوَصَفَ الْمَخْلُوقَ بِذَلِكَ، وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [66 \ 3] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِيتَاءِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [2 \ 258] ، وَقَالَ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [2 \ 269] ، وَقَالَ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [11 \ 3] ، وَقَالَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [57 \ 21] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [4 \ 20] ، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [4 \ 2] ، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [4 \ 4] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَيْضًا، عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْجَامِعَةُ، كَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ وَالْعُلُوِّ، وَالْمُلْكِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّهَا أَيْضًا يَكْثُرُ جَدًّا وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ مِنْهَا مُنَافٍ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ. قَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْعُلُوِّ وَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [2 \ 255] ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [4 \ 34] ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [13 \ 9] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِظَمِ: فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [26 \ 63] ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [27 \ 23] ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [9 \ 129] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْكِبَرِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [67 \ 12] ، وَقَالَ: إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [17 \ 31] ، وَقَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [8 \ 73] ، وَقَالَ: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [2 \ 143] ، وَقَالَ: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [2 \ 45] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعُلُوِّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [19 \ 57] ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [19 \ 50] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمُلْكِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْآيَةَ [59 \ 23] ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْآيَةَ [59 \ 23] ، وَقَالَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ الْآيَةَ [12 \ 43] ، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [12 \ 50] ، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [18 \ 79] ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [2 \ 247] ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [3 \ 26] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِزَّةِ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [2 \ 209] ، يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [62 \ 1] ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [38 \ 9] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِزَّةِ: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآيَةَ [12 \ 51] ، فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [38 \ 23] . وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [59 \ 23] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [40 \ 35] ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [39 \ 60] ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [26 \ 130] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [51 \ 58] ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [22 \ 40] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا: الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً الْآيَةَ [41 \ 15] ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [11 \ 52] ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [28 \ 26] ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً الْآيَةَ [30 \ 54] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ، وَجَلَالِهِ. وَإِنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا لِذَوَاتِ الْحَوَادِثِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ ; هَلْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ أَنَّهَا صِفَاتُ مَعَانٍ أَثْبَتَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِنَفْسِهِ، كَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ. قَالَ فِي وَصْفِهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِهِمَا: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [16 \ 47] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحِلْمِ: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [22 \ 59] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [37 \ 101] ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [9 \ 114] . وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمَغْفِرَةِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [2 \ 182] وَ [5 \ 34] وَ [5 \ 39] وَ [5 \ 98] وَ [8 \ 69] وَ [9 \ 5] وَ [9 \ 99] وَ [9 \ 102] وَ [24 \ 62] وَ [29 \ 14] وَ [60 \ 12] وَ [73 \ 20] . لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [49 \ 3] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42 \ 43] ، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ الْآيَةَ [45 \ 14] ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [2 \ 263] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالرِّضَى وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهِ أَيْضًا فَقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [5 \ 119] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْمَحَبَّةِ، وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهَا، فَقَالَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [5 \ 54] ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [3 \ 31] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَغْضَبُ إِنِ انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ فَقَالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [5 \ 60] ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [4 \ 93] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغَضَبِ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا. وَالْمَقْصُودُ عِنْدَنَا ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ إِيضَاحِ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ بَالِغٌ مِنْ غَايَاتِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ مَا يَقْطَعُ عَلَائِقَ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا حَقَّقْتَ كُلَّ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَوَصَفَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَتَمَدَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةَ الِاسْتِوَاءِ إِلَّا مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالْجَلَالِ ; الْقَاضِيَةِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ، الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ. الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ. قَوْلُهُ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [54] . الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [\ 3، 4] . الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2، 3، 4] . الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [2 - 6] . الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [58، 59] . الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْآيَةَ [4، 5] . الْمَوْضِعُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [4] . وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ [43 \ 13] ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ الْآيَةَ [23 \ 28] ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ الْآيَةَ [11 \ 44] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِوَاءً لَائِقًا بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا اسْتِوَاءً مُنَاسِبًا لِحَالِهِ، وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ; عَلَى نَحْوِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّأَمُّلُ فِي أُمُورٍ: الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ، وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 يَجُوزُ فِي حَقِّهِ مُشَابَهَةُ الْحَوَادِثِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَثَلًا أَنَّهُ: سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مُخَالِفَانِ لِأَسْمَاعِ الْحَوَادِثِ وَأَبْصَارِهِمْ، لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ، وَالْيَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ بِحَالٍ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ أَيْضًا، فَكَمَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، لَهُ ذَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ ذَوَاتِ الْخَلْقِ، فَلَهُ تَعَالَى صِفَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْخَلْقِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّهُ غَلِطَ فِي هَذَا خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَزَعَمُوا أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ - هُوَ مُشَابَهَةُ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ، وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ كُفْرٌ ; لِأَنَّ مَنْ شَبَّهَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْقَوْلُ فِيهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قِيلَ لَهُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [16 \ 44] ، لَمْ يُبَيِّنْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَحْرَى فِي الْعَقَائِدِ وَلَا سِيَّمَا مَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْوَصْفَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ لَا يَلِيقُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ وَمِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ، هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ. فبمجرد إضافة الصفة إليه، جل وعلا، يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل، أن السابق إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 الْفَهُم الْمُتَبَادِر لِكُلِّ عَاقِلٍ: هُوَ مُنَافَاةُ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ فِي ذَاتِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، لَا وَاللَّهِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ ‍. ‍‍‍ وَالْجَاهِلُ الْمُفْتَرِي الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ وَتَشْبِيهٌ - إِنَّمَا جَرَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ تَنْجِيسُ قَلْبِهِ، بِقَدْرِ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَأَدَّاهُ شُؤْمُ التَّشْبِيهِ إِلَى نَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهَا، مَعَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، فَكَانَ هَذَا الْجَاهِلُ مُشَبِّهًا أَوَّلًا، وَمُعَطِّلًا ثَانِيًا، فَارْتَكَبَ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَلَوْ كَانَ قَلْبُهُ عَارِفًا بِاللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي، مُعَظِّمًا لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي، طَاهِرًا مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ - لَكَانَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدَهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِهِ: أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، بَالِغٌ مِنَ الْكَمَالِ، وَالْجَلَالِ مَا يَقْطَعُ أَوْهَامَ عَلَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَكُونُ قَلْبُهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَلَوْ قَالَ مُتَنَطِّعٌ: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا، قُلْنَا: أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: لَا، فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ، كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [20 \ 110] ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [112 \ 1 - 4] ، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [16 \ 74] . فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا، أَوْ نَفْيًا ; وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ، فَهُوَ عَامِّيٌّ [الطَّوِيلُ] : وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ ... عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ: سَبْعُ سَمَاوَاتٍ، وَسَبْعُ أَرْضِينَ. فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ رَحْمَتَهُ جَلَّ وَعَلَا قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُحْسِنِينَ، وَأَوْضَحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ صِفَاتِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ سَيَكْتُبُهَا لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الْآيَةَ [7 \ 156] . وَوَجْهُ تَذْكِيرِ وَصْفِ الرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ فِي قَوْلِهِ: قَرِيبٌ [7 \ 56] وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ تَزِيدُ عَلَى الْعَشْرَةِ. نَذْكُرُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضًا، وَنَتْرُكُ مَا يَظْهَرُ لَنَا ضَعْفُهُ أَوْ بُعْدُهُ عَنِ الظَّاهِرِ. مِنْهَا: أَنَّ الرَّحْمَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّحِمِ، فَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى. وَمِنْهَا: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْقَرَابَةَ إِذَا كَانَتْ قَرَابَةَ نَسَبٍ تَعَيَّنَ التَّأْنِيثُ فِيهَا فِي الْأُنْثَى فَتَقُولُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَرِيبَتِي أَيْ فِي النَّسَبِ، وَلَا تَقُولُ: قَرِيبٌ مِنِّي. وَإِنْ كَانَتْ قَرَابَةَ مَسَافَةٍ جَازَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، فَتَقُولُ: دَارُهُ قَرِيبٌ وَقَرِيبَةٌ مِنِّي، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [42 \ 17] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [33 \ 63] ، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الطَّوِيلُ] لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا وَمِنْهَا: أَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ إِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قَرِيبٌ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 الْمُحْسِنِينَ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا شُبِّهَتْ بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عَلَى فَعِيلٍ رُبَّمَا شُبِّهَتْ بِالْمَصْدَرِ الْآتِي عَلَى فَعِيلٍ، فَأُفْرِدَتْ لِذَلِكَ ; قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الصَّدِيقَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [24 \ 61] ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الْمُتَقَارِبُ] وَهُنَّ صَدِيقٌ لِمَنْ لَمْ يَشِبْ ااهـ وَالظَّهِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [66 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْجُهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ. قِرَاءَةُ عَاصِمٍ بُشْرًا بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَإِسْكَانِ الشِّينِ: جَمْعُ بَشِيرٍ، لِأَنَّهَا تَنْتَشِرُ أَمَامَ الْمَطَرِ مُبَشِّرَةً بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ الْآيَةَ [30 \ 46] ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [7 \ 57] ، يَعْنِي بِرَحْمَتِهِ الْمَطَرَ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [42 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [42 \ 28] . بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَحْمِلُ السَّحَابَ عَلَى الرِّيحِ، ثُمَّ يَسُوقُهُ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [35 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [32 \ 27] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ الْآيَةَ، أَنْكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ عَجَبَهُمْ مِنْ إِرْسَالِ رَجُلٍ ; وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ فِي عَجَبِ قَوْمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [10 \ 2] ، وَقَالَ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [50 \ 2] ، وَقَالَ عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [64 \ 6] ، وَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ الْآيَةَ [54 \ 23، 24] ، وَقَالَ: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 \ 34] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْعَجَبَ مِنْ إِرْسَالِ بَشَرٍ مَانِعٍ لِلنَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] . وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا الْآيَةَ [21 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْآيَةَ [25 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا الْآيَةَ [6 \ 9] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ الْآيَةَ [54 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [29 \ 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ هَذَا الْجِدَالِ الْوَاقِعِ بَيْنَ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيْنَ عَادٍ. وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ قَطْعِهِ دَابِرَ عَادٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الْآيَةَ [69 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [51 \ 41] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ الْآيَةَ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَقْرَهَا بَاشَرَتْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَادَوْا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَبَاشَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 عَقْرَهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ الْعَذَابُ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [11 \ 64] ، وَقَوْلِهِ هُنَا فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [7 \ 73] ، وَقَوْلِهِ: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [11 \ 65] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ رَجْفَةِ الْأَرْضِ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ صَيْحَةُ الْمَلَكِ بِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [11 \ 67] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَكَ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ شِدَّةِ الصَّيْحَةِ، وَفَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي. وَبَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الرِّسَالَةَ الَّتِي أَبْلَغَهَا نَبِيُّهُ صَالِحٌ إِلَى قَوْمِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ اللِّوَاطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ الْآيَةَ [7 \ 81] ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [26 \ 165] ، وَقَوْلِهِ: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [29 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مَعَ لُوطٍ إِلَّا خُصُوصُ أَهْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي «الذَّارِيَاتِ» بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 35، 36] ، وَقَوْلِهِ هُنَا: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [7 \ 83] ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: فَبَيَّنَ أَنَّهَا خَائِنَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِيمَا أَصَابَ قَوْمَهَا مِنَ الْهَلَاكِ، قَالَ فِيهَا هِيَ وَامْرَأَةِ نُوحٍ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [66 \ 10] ، وَقَالَ فِيهَا وَحْدَهَا: أَعْنِي امْرَأَةَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ الْآيَةَ [11 \ 81] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وَقَوْلُهُ هُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [7 \ 84] . لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْمَطَرَ مَا هُوَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَطَرُ حِجَارَةٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا كَقَوْلِهِ: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [15 \ 74] ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السِّجِّيلَ الطِّينُ بِقَوْلِهِ فِي «الذَّارِيَاتِ» : لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [51 \ 33] ،، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَطَرَ مَطَرُ سُوءٍ لَا رَحْمَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [25 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [173] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتَبْغُونَهَا رَاجِعٌ إِلَى السَّبِيلِ وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ مُؤَنَّثَةٌ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَذْكِيرِ السَّبِيلِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [7 \ 146] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [11 \ 94] ، وَقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [7 \ 78] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ [7 \ 92] ، وَقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ الْآيَةَ [26 \ 189] ، فَإِنْ قِيلَ: الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ رَجْفَةٌ، وَذَكَرَ فِي هُودٍ أَنَّهُ صَيْحَةٌ، وَذَكَرَ فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. فَالْجَوَابُ: مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ. اهـ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الرِّسَالَاتِ الَّتِي أَبْلَغَهَا رَسُولُهُ شُعَيْبٌ إِلَى قَوْمِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [11 \ 84] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ نُصْحَهُ لَهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ الْآيَةَ [11 \ 89] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [7 \ 93] ، أَنْكَرَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَسَى، أَيِ: الْحُزْنَ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْلَاغِهِمْ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ لَجَاجًا وَعِنَادًا، وَإِنْكَارُهُ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَنَهَى نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [5 \ 68] ، وَمَعْنَى لَا تَأْسَ: لَا تَحْزَنْ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [16 \ 127] . قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا. ذَكَرَ أَنْبَاءَهُمْ مُفَصَّلَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَالْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا خَبَرُ نُوحٍ وَهُودٍ، وَصَالِحٍ وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ أُمَمِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ: بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ. مِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، لِاسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ فِيمَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَسٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [10 \ 96] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 101] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ، فَآمَنُوا كَرْهًا، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ طَوْعًا. وَيُرْوَى هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْأَوَّلِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً لَكَفَرُوا أَيْضًا، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا فِي الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ؛ أَيْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَيَدُلُّ لِمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [6 \ 28] لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَمِنْهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ أَوَّلَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ شُؤْمَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ سَبَبٌ لِلطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الْهُدَى، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [2 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [63 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، وَكُلُّهَا حَقٌّ. فَنَذْكُرُ جَمِيعَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا الْآيَةَ. بَيَّنَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ظَلَمُوا بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا مُوسَى، وَصَرَّحَ فِي النَّمْلِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَاحِدِينَ لَهَا، مَعَ أَنَّهُمْ مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّهَا حَقٌّ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَعُلُوِّهِمْ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [13، 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ. ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ مُوسَى نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَيَاضَ خَالٍ مِنَ الْبَرَصِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» وَ «الْقَصَصِ» فِي قَوْلِهِ فِيهِمَا: تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [12 \ 32] ، أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. بَيَّنَ هُنَا أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بِآيَةِ الْعَصَا وَالْيَدِ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ سَاحِرٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا قَالَ فِرْعَوْنُ: وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي «الشُّعَرَاءِ» أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [26 \ 34] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا السِّحْرَ الْعَظِيمَ مَا هُوَ؟ وَلِمَ يُبَيِّنْ هَلْ أَوْجَسَ مُوسَى فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ مِنْهُ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي «طَهَ» بِقَوْلِهِ: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [66 - 96] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا مَعَ مُوسَى مَوْعِدًا لِوَقْتِ مُغَالَبَتِهِ مَعَ السَّحَرَةِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «طَهَ» فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ الْآيَةَ [58 - 59] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَأَصُلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الشَّيْءَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَصْلُبُهُمْ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي «طَهَ» وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ الْآيَةَ [71] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِنْ أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، تَطَيَّرُوا بِمُوسَى وَقَوْمِهِ فَقَالُوا: مَا جَاءَنَا هَذَا الْجَدْبُ وَالْقَحْطُ إِلَّا مِنْ شُؤْمِكُمْ، وَذُكِرَ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ [4 \ 78] ، وَذُكِرَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَعَ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ الْآيَةَ [27 \ 47] ، وَذُكِرَ نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ الْآيَةَ [36 \ 18] ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ شُؤْمَهُمْ مِنْ قِبَلِ كُفْرِهِمْ، وَمَعَاصِيهِمْ، لَا مِنْ قِبَلِ الرُّسُلِ؛ قَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» : أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [131] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي قَوْمِ صَالِحٍ: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [27 \ 47] ، وَقَالَ فِي «يس» : قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ الْآيَةَ [19] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [59] ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [7 \ 137] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْحُسْنَى الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [28 \ 5، 6] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي الْآيَةَ. اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ النَّافُونَ لِرُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَ، إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَبْصَارِهِمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [75 \ 22] ، وَقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [83 \ 15] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [10 \ 26] الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [50 \ 35] ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ: جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهَا عَقْلًا فِي دَارِ الدُّنْيَا: قَوْلُ مُوسَى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [7 \ 143] ; لِأَنَّ مُوسَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْجَائِزُ وَالْمُسْتَحِيلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا شَرْعًا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَوَاقِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَمْنُوعَةٌ شَرْعًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ، وَحَدِيثُ «إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَخَافَةَ عُقُولِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، وَأَوْضَحَ هَذَا فِي «طَهَ» بِقَوْلِهِ: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا الْآيَةَ [89] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا حُذِفَ فِيهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا الْآيَةَ [7 \ 148] ، أَيِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النُّكْتَةَ فِي حَذْفِهِ دَائِمًا التَّنْبِيهُ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّلَفُّظُ بِأَنَّ عِجْلًا مُصْطَنَعًا مِنْ جَمَادٍ إِلَهٌ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ دَائِمًا فِي «طَهَ» بِقَوْلِهِ: فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [20 \ 88] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لِنَكُونُنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَبَدَةَ الْعِجْلِ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بِتَوْبَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ بِالْقَتْلِ وَتَوْبَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ الْآيَةَ. أَوْضَحَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ فِي «طَهَ» قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا الْآيَةَ [86، 87] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي الْآيَةَ. أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى مَا اعْتَذَرَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ هَارُونَ لِأَخِيهِ مُوسَى عَمَّا وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّوْمِ، وَأَوْضَحَهُ فِي «طَهَ» بِقَوْلِهِ: قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [94] ، وَصَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَاءَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [20 \ 90] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [34 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [11 \ 17] ، وَقَيَّدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ بِبُلُوغِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] ، وَصَرَّحَ بِشُمُولِ رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ [3 \ 20] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَثْرَةَ كَلِمَاتِهِ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [18 \ 109] ، وَقَوْلِهِ: الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [31 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الْآيَةَ. هَذَا الْمِيثَاقُ الْمَذْكُورُ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [3 \ 187] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى أَخْذِهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ: هُوَ إِيجَادُ قَرْنٍ مِنْهُمْ بَعْدَ قَرْنٍ، وَإِنْشَاءُ قَوْمٍ بَعْدَ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [6 \ 133] ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ [35 \ 39] ، وَقَالَ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ [27 \ 62] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [7 \ 172] ، أَنَّ إِشْهَادَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ رَبُّهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قَالُوا بَلَى، أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ بِلِسَانِ حَالِهِمْ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ إِطْلَاقِ الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ لِسَانِ الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [9 \ 17] ، أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [100 \ 6، 7] أَيْ: بِلِسَانِ حَالِهِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [7 \ 172، 173] ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ الْمَذْكُورُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، وَهُمْ فِي صُورَةِ الذَّرِّ لَمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا لَا عِلْمَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِخْبَارُ الرُّسُلِ بِالْمِيثَاقِ الْمَذْكُورِ كَافٍ فِي ثُبُوتِهِ، قُلْنَا: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: " الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَنْ تَقُولُوا الْآيَةَ اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ قَائِلُهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ الْآبَاءِ فِي صُورَةِ الذَّرِّ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، ثُمَّ أَرْسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّسُلَ مُذَكِّرَةً بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الَّذِي نَسِيَهُ الْكُلُّ وَلَمْ يُولَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ وَإِخْبَارُ الرُّسُلِ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ بِوُجُودِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَدُلُّ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا أَقَامَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَمَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا - تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ - بِكَثْرَةٍ - بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ بِإِنْذَارِ الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الْفِطْرَةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 55] ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نَخْلُقَ عُقُولًا، وَنَنْصُبَ أَدِلَّةً، وَنُرَكِّزَ فِطْرَةً. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [17 \ 15] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ عُذْرُهُمْ: هُوَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لَا نَصْبَ الْأَدِلَّةِ وَالْخَلْقِ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرُّسُلُ لِقَطْعِهَا بَيَّنَهَا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [134] ، وَأَشَارَ لَهَا فِي " الْقَصَصِ " بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [47] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قُطِعَ عُذْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [67 \ 8، 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [39 \ 71] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ: كُلَّمَا، فِي قَوْلِهِ: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ، صِيغَةُ عُمُومٍ، وَأَنَّ لَفْظَةَ: الَّذِينَ، فِي قَوْلِهِ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا، صِيغَةُ عُمُومٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي صُورَةِ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ كَمَا ذَكَرَ هُنَا، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ أَبُو عُمَرَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ، لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرِهِمُ اهـ. مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا هَلْ يُكْتَفَى فِي الْإِلْزَامِ بِالتَّوْحِيدِ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرُوا؟ هُوَ مَبْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ، هَلْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِكُفْرِهِمْ؟ وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ "، أَوْ يُعْذَرُونَ بِالْفَتْرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ: ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعُ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ الْآيَةَ. ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ لِهَذَا الْخَسِيسِ الَّذِي آتَاهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا - بِالْكَلْبِ، وَلَمْ تَكُنْ حَقَارَةُ الْكَلْبِ مَانِعَةً مِنْ ضَرْبِهِ تَعَالَى الْمَثَلَ بِهِ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [22 \ 73] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِبَيْتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 الْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [29 \ 41] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [62 \ 5] ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَحِي مِنْ بَيَانِ الْعُلُومِ النَّفِيسَةِ عَنْ طَرِيقِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. هَدَّدَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِتَهْدِيدَيْنِ: الْأَوَّلُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَذَرُوا فَإِنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ. وَالثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهَدَّدَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ فِي سُورَةِ حم «السَّجْدَةِ» بِأَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [40] ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ الْآيَةَ، وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ، وَمَعْنَى إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ مَا كَاشْتِقَاقِهِمُ اسْمَ اللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَاسْمَ الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ، وَاسْمَ مَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَحَدَ وَأَلْحَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَتَانِ يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبِضَمِّهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الثَّانِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [79 \ 42، 43، 44] ، وَقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ [31 \ 34] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» : قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 [50] ، وَقَالَ: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [62 \ 26، 27] ، وَقَالَ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [27 \ 65] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قِيلَ: الْمَالُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ الْخَيْرِ بِمَعْنَى الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [100 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [2 \ 180] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ الْآيَةَ [2 \ 215] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَكْثِرٌ جِدًّا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; لِأَنَّ عَمَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ دِيمَةً، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، أَيْ: لِيَأْلَفَهَا وَيَطْمَئِنَّ بِهَا، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ جَعَلَ أَزْوَاجَ ذُرِّيَّتِهِ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [30 \ 21] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَحَمَلَتْ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهَا سَمِّي هَذَا الْوَلَدَ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ، وَالْحَارِثُ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا [7 \ 190] أَيْ وَلَدًا إِنْسَانًا ذَكَرًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ بِتَسْمِيَتِهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، وَقَدْ جَاءَ بِنَحْوِ هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَهُوَ مَعْلُولٌ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا آتَى آدَمَ وَحَوَّاءَ صَالَحًا كَفَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا، وَأَسْنَدَ فِعْلَ الذُّرِّيَّةِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ ; لِأَنَّهُمَا أَصْلٌ لِذُرِّيَّتِهِمَا كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [7 \ 11] ، أَيْ بِتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ لِأَنَّهُ أَصْلُهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 190، 191] ، وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ، لَا آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْجَهَلَةُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. فَبَيَّنَ أَنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ يُعَامَلُ بِاللِّينِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهْلِهِ وَإِسَاءَتِهِ. وَأَنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ لَا مَنْجَى مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنْهُ، قَالَ فِي الْأَوَّلِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [7 \ 199] ، وَقَالَ فِي الثَّانِي: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [7 \ 200] ، وَبَيَّنَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [32 \ 1] ، قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [96] ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [79، 98] . وَالثَّانِي: فِي حم «السَّجْدَةِ» قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [41 \ 34] ، وَزَادَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْطَاهُ كُلُّ النَّاسِ، بَلْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ إِلَّا لِذِي الْحَظِّ الْكَبِيرِ وَالْبَخْتِ الْعَظِيمِ عِنْدَهُ فَقَالَ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [41 \ 35] ، ثُمَّ قَالَ فِي شَيْطَانِ الْجِنِّ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [41 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِخْوَانَ الْإِنْسِ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّونَ الْإِنْسَ فِي الْغَيِّ، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [19 \ 83] ، وَقَوْلِهِ: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [6 \ 128] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ بَعْضَ الْإِنْسِ إِخْوَانٌ لِلشَّيَاطِينِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ الْآيَةَ [17 \ 27] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْأَنْفَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَن ِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْفَالِ هُنَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ مَا شَذَّ عَنِ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ يَذْهَبُ مِنَ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُرَادُ بِالْأَنْفَالِ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَيْئًا، وَهُوَ الْآتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [59 \ 6] ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْخُمُسُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُمُسُ الْخُمُسِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْفَالُ السَّرَايَا خَاصَّةً، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الشَّعْبِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ: مَا يُنَفِّلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ السَّرَايَا زِيَادَةً عَلَى قِسْمِهِمْ مَعَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَسْمِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَقُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ قَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبْضِ» قَالَ: فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي، قَالَ: فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَخُذْ سَلَبَكَ» ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شَفَانِيَ اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي ضَعْهُ» قَالَ: فَوَضَعْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا السَّيْفُ مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي، قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي قَالَ: قُلْتُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا، قَالَ: كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ، وَلَيْسَ هُوَ لِي وَإِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِيَ فَهُوَ لَكَ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [8 \ 1] ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ: أَصَبْتُ سَيْفًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: نَفِّلْنِيهِ، فَقَالَ: «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ عَاوَدْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ الْآيَةَ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي نُزُولِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [29 \ 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [5 \ 90] ، وَآيَةِ الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ مَالِكَ بْنَ رَبِيعَةَ يَقُولُ: أَصَبْتُ سَيْفَ ابْنِ عَائِذٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ السَّيْفُ يُدْعَى بِالْمَرْزُبَانِ، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ النَّفْلِ أَقْبَلْتُ بِهِ فَأَلْقَيْتُهُ فِي النَّفْلِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ، فَرَآهُ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، اهـ كَلَامُ ابْنُ كَثِيرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ لَمَّا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ هُمُ الَّذِينَ حُزْنَا الْغَنَائِمَ، وَحَوَيْنَاهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِنَا فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَتِ الْمَشْيَخَةُ: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ رِدْءًا، وَلَوْ هُزِمْتُمْ لَلَجَأْتُمْ إِلَيْنَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» ، وَقَالَ، صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ; وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَالْآيَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 مُشْكِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [8 \ 41] . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَزُولُ بِهَا الْإِشْكَالُ فِي الْآيَةِ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَنَسَبُهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ، نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ: إِنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ لَمْ تُخَمَّسْ لِأَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ لَمْ تَنْزِلْ إِلَّا بَعْدَ قَسْمِ غَنَائِمِ بَدْرٍ - غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ» الْحَدِيثَ. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي تَخْمِيسِ غَنَائِمِ بَدْرٍ ; لِأَنَّ قَوْلَ عَلَيٍّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَوْمَئِذٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا تَرَى. فَالْحَاصِلُ أَنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ، بَيَّنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ قَصْرَ الْغَنَائِمِ عَلَى الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَأَنَّهَا تُعْطَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْهَا لَلْغَانِمِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَالَ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا، وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْجُمْهُورِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثِ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا الْآيَةَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّصْرِيحُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [9 \ 124] ، وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ الْآيَةَ [48 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا الْآيَةَ [74 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى الْآيَةَ [47 \ 17] . وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَاتُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ يَنْقُصُ، وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَلْقَى النُّعَاسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْعَلَ قُلُوبَهُمْ آمِنَةً غَيْرَ خَائِفَةٍ مِنْ عَدُوِّهَا ; لِأَنَّ الْخَائِفَ الْفَزِعَ لَا يَغْشَاهُ النُّعَاسُ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا النُّعَاسَ أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 هُنَا فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّ النُّعَاسَ غَشِيَهُمْ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا الْآيَةَ [154] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ. الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: الْحُكْمُ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْحَجِيجَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ الْجَمَاعَةَ، وَقَطَعَ الرَّحِمَ، وَسَفَّهَ الْآبَاءَ، وَعَابَ الدِّينَ، ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنْ يُهْلِكَ الظَّالِمَ مِنْهُمْ، وَيَنْصُرَ الْمُحِقَّ، فَحَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَهْلَكَهُمْ، وَنَصَرَهُ، وَأَنْزَلَ الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ هُنَا الْحُكْمُ أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ [8 \ 19] ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ عَنْ شُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [7 \ 87] ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنْ شُعَيْبٍ فِي نَفْسِ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [7 \ 87] ، وَهَذِهِ لُغَةُ حِمْيَرَ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ فَتَّاحًا وَالْحُكُومَةَ فَتَّاحَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْوَافِرُ] أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا ... بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ أَيْ عَنْ حُكُومَتِكُمْ وَقَضَائِكُمْ، أَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: تَطْلُبُوا الْفَتْحَ وَالنَّصْرَ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِلْكَافِرِينَ، فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. أَمَرَ تَعَالَى النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَعْلَمُوا: أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ فِتْنَةٌ يُخْتَبَرُونَ بِهَا، هَلْ يَكُونُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ؟ وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ فِتْنَةٌ أَيْضًا، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَأَمَرَ الْإِنْسَانَ بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ أَنْ يُوقِعُوهُ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، ثُمَّ أَمَرَهُ إِنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ لَهُ وَأَخَصُّهُمْ بِهِ وَهُمُ الْأَوْلَادُ وَالْأَزْوَاجُ - أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ وَلَا يُؤَاخِذَهُمْ فَيَحَذَرَ مِنْهُمْ أَوَّلًا وَيَصْفَحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 عَنْهُمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «التَّغَابُنِ» : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [64 \ 14، 15] . وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ تُلْهِيَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذِكْرِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْخَاسِرُ الْمَغْبُونُ فِي حُظُوظِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [63 \ 9] ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ فِي الْآيَاتِ: الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْفِتْنَةِ فِي الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَاكُ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فُرْقَانًا: مَخْرَجًا، زَادَ مُجَاهِدٌ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فُرْقَانًا: نَجَاةً، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: نَصْرًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فُرْقَانًا أَيْ: فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ: الْمَخْرَجُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا الْآيَةَ [65 \ 2] ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ النَّجَاةُ أَوِ النَّصْرُ، رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى هَذَا ; لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا أَنْجَاهُ وَنَصَرَهُ، لَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ الْقُرْآنُ وَاللُّغَةُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ ; لِأَنَّ الْفُرْقَانَ مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ أَيِ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [25 \ 1] ، أَيِ الْكِتَابَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [3 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [2 \ 53] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [21 \ 48] ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ هُنَا: الْعِلْمُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيدِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْآيَةَ [57 \ 28] . لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ، يَعْنِي: عِلْمًا وَهُدًى تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ هُنَا الْهُدَى، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 كَافِرًا فَهَدَاهُ اللَّهُ: لَمُشْرِكُونَ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ الْآيَةَ [6 \ 122] ، فَجَعَلَ النُّورَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيدِ: هُوَ مَعْنَى الْفُرْقَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَنْفَالِ كَمَا تَرَى، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْغُفْرَانَ الْمُرَتَّبَ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ، كَذَلِكَ جَاءَ مُرَتَّبًا أَيْضًا عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْحَدِيدِ، وَهُوَ بَيَانٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا الْآيَةَ. قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِكَذِبِهِمْ، وَتَعْجِيزِ اللَّهِ لَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا هُنَا، وَقَوْلُهُ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْهُمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [8 \ 31] ، رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [25 \ 5، 6] ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَالِمُ السِّرِّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. ذَكَرَ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ حَيْثُ قَالُوا: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الْآيَةَ [8 \ 32] ، وَلَمْ يَقُولُوا فَاهْدِنَا إِلَيْهِ، وَجَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [38 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ الْآيَةَ [22 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [11 \ 8] ، وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ شِبْهَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ شُعَيْبٍ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [26 \ 187] ، وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 77] ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «سَأَلَ سَائِلٌ» [70 \ 1] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَثْبَتَهَا لِخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [9 \ 17، 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً. الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ بِالصَّفِيرِ وَالتَّصْفِيقِ التَّخْلِيطُ حَتَّى لَا يَسْمَعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [41 \ 26] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ حَسْبَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ، سَوَاءً أَوْجَفُوا عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ أَوْ لَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ، أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ وَمَصَارِفُهُ الَّتِي بَيَّنَ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِيهَا كَمَصَارِفِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الْآيَةَ [6] ، ثُمَّ بَيَّنَ شُمُولَ الْحُكْمِ لِكُلِّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى بِقَوْلِهِ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْآيَةَ [7] . اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ: فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَقَالُوا: الْفَيْءُ: هُوَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ انْتِزَاعِهِ مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ، كَفَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَكَّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ لِشِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَرَضِيَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْتَحِلُوا بِمَا يَحْمِلُونَ عَلَى الْإِبِلِ غَيْرَ السِّلَاحِ، وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ: فَهِيَ مَا انْتَزَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكَفَّارِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ، مَعَ قَوْلِهِ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أَوْجَفُوا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ كَمَا تَرَى، وَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ عَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ: [الرَّجَزُ] وَفَيْئُهُمْ وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ ... مَا لَمْ يَكُنْ أُخِذَ عَنْ قِتَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَعَنْ زِحَافٍ وَالْأَخْذُ عَنْوَةً لَدَى الزِّحَافِ لِخَيْرِ مُرْسَلٍ إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: وَفَيْئُهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِخَيْرِ مُرْسَلٍ، وَقَوْلُهُ: وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ. . . إِلَخْ، كَلَامٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بَيَّنَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَاتِ ; لِأَنَّ آيَةَ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ، ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْغَنِيمَةِ، وَآيَةَ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْفَيْءِ وَأُشِيرَ لِوَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ غَنِيمَةً لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ وَلَمْ تَنْتَزِعُوهُ بِالْقُوَّةِ مِنْ مَالِكِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ وَاحِدٌ، فَجَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ غَنِيمَةً وَفَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، فَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الْفَيْءِ عَلَى الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّغْلِبِيِّ: [الْوَافِرُ] فَلَا وَأَبِي جَلِيلَةَ مَا أَفَأْنَا ... مِنَ النَّعَمِ الْمُؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْبًا ... عَلَى الْأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِسَوْقِ الْغَنَائِمِ وَلَكِنْ بِقَتْلِ الرِّجَالِ فَقَوْلُهُ: أَفَأْنَا: يَعْنِي غَنِمْنَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [33 \ 50] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شُمُولُ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْمَسْبِيَّاتِ وَلَوْ كُنَّ مُنْتَزَعَاتٍ قَهْرًا، وَلَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَتَدُلُّ لَهُ آيَةُ الْحَشْرِ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ فَآيَةُ الْحَشْرِ مُشْكِلَةٌ مَعَ آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ قَالَ قَتَادَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إِنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ، نَاسِخَةٌ لِآيَةِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ، وَلَمْ يُلْجِئْ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا دَعْوَاهُ اتِّحَادَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ لَعُلِمَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَآيَةَ الْحَشْرِ فِي الْفَيْءِ، وَلَا إِشْكَالَ. وَوَجْهُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ: أَنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ، نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، قَبْلَ قَسْمِ غَنِيمَةِ بَدْرٍ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ الثَّابِتِ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، الدَّالِّ عَلَى أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ، وَآيَةُ التَّخْمِيسِ الَّتِي شَرَعَهُ اللَّهُ بِهَا هِيَ هَذِهِ، وَأَمَّا آيَةُ الْحَشْرِ فَهِيَ نَازِلَةٌ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ بِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَغَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِإِجْمَاعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَاتِ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَمْرَ الْغَنَائِمِ وَالْفَيْءِ رَاجِعًا إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ، فَلَا مُنَافَاةَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ آيَةِ «الْحَشْرِ» ، وَآيَةِ التَّخْمِيسِ إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغُزَاةِ الَّذِينَ غَنِمُوهَا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الْغَنِيمَةَ لِغَيْرِهِمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: غَنِمْتُمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَنِيمَةٌ لَهُمْ فَلَمَّا قَالَ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، أَيْ: وَلِأَبِيهِ الثُّلْثَانِ الْبَاقِيَانِ إِجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، أَيْ: وَلِلْغَانِمِينَ مَا بَقِيَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمِمَّنْ حَكَى إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالدَّاوُدِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْأَخْبَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَظَاهِرَةٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمُ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا، قَالُوا: لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ الْغَنِيمَةَ فِيمَا يَشَاءُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْنَعَ مِنْهَا الْغُزَاةَ الْغَانِمِينَ. وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [18 \ 1] قَالُوا: الْأَنْفَالُ: الْغَنَائِمُ كُلُّهَا، وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا مَنْسُوخَةٌ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِمَا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَقِصَّةِ حُنَيْنٍ قَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً بِعَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا غَنِيمَةً وَلَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى الْجَيْشِ، فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ وَاجِبًا لَفَعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ غَنَائِمُ هَوَازِنَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، أَعْطَى مِنْهَا عَطَايَا عَظِيمَةً جِدًّا، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ خِيَارِ الْمُجَاهِدِينَ الْغَازِينَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَشَارَ لِعَطَايَاهُ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 أَعْطَى عَطَايَا شَهِدَتْ بِالْكَرَمِ ... يَوْمَئِذٍ لَهُ وَلَمْ تُجَمْجَمِ أَعْطَى عَطَايَا أَخْجَلَتْ دَلْحَ الدِّيَمْ ... إِذْ مَلَأَتْ رَحْبَ الْغَضَا مِنَ النَّعَمْ زُهَاءَ أَلْفَيْ نَاقَةٍ مِنْهَا وَمَا ... مَلَأَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ غَنَمَا لِرَجُلٍ وَبَلِهٍ مَا لِحَلْقِهِ ... مِنْهَا وَمِنْ رَقِيقِهِ وَوَرْقِهِ إِلَخْ. . . قَالُوا: لَوْ كَانَ يَجِبُ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي غَنِمَهَا، لَمَا أَعْطَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَيْ نَاقَةٍ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ لِغَيْرِ الْغُزَاةِ، وَلَمَا أَعْطَى مَا مَلَأَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنَ الْغَنَمِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَكَذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، حَتَّى غَارَ مِنْ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرَهُ الْمَشْهُورَ: [الْمُتَقَارِبُ] أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ إِلَّا أَبَاعِيرَ أُعْطِيتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ وَكَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ إِنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ قَالُوا: فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ الْغَانِمِينَ وَاجِبًا، لَمَا فُضِّلَ الْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ فِي الْعَطَاءِ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شِعْرَهُ الْمَذْكُورَ، وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الِاحْتِجَاجَاتِ: فَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [8 \ 41] ، وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ زَعَمُوا أَنَّ مَكَّةَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً، وَلَكِنَّ أَهْلَهَا أَخَذُوا الْأَمَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَاسْتَدَلَّ قَائِلُوا هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» ، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي مَكَّةَ هَلْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً؟ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوْ أَخَذَ لَهَا الْأَمَانَ ; وَالْأَمَانُ شِبْهُ الصُّلْحِ، عَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ: فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ يَعْنِي مَكَّةَ: [الرَّجَزُ] وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فَقِيلَ أَمِنَتْ وَقِيلَ عَنْوَةً وَكَرْهًا أُخِذَتْ وَالْحَقُّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَجْوِبَةِ عَمَّا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، أَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ; لِأَنَّهَا حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا هَذِهِ الْحُرْمَةُ الْعَظِيمَةُ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَطَابَ نُفُوسَ الْغُزَاةِ عَنِ الْغَنِيمَةِ ; لِيُؤَلِّفَ بِهَا قُلُوبَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ قَالَ: يَمْنَعُنَا وَيُعْطِي قُرَيْشًا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، جَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَلَّمَهُمْ كَلَامَهُ الْمَشْهُورَ الْبَالِغَ فِي الْحُسْنِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ» ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ، وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمًا وَحَظًّا، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَنَوَّهَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِحُسْنِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: [الرَّجَزُ] وَوَكَّلَ الْأَنْصَارَ خَيْرَ الْعَالَمِينَ ... لِدِينِهِمْ إِذْ أَلَّفَ الْمُؤَلَّفِينَ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ أَنْ مَنَعَهُمْ ... فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ مَنْ جَمَعَهُمْ وَقَالَ قَوْلًا كَالْفَرِيدِ الْمُؤْنَقِ ... عَنْ نَظْمِهِ ضَعُفَ سِلْكُ مَنْطِقِي فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَوْجَفَ الْجَيْشُ عَلَيْهَا الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ لِلْغُزَاةِ الْغَانِمِينَ عَلَى التَّحْقِيقِ، الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ عَلِمْتَ الْجَوَابَ عَنْ حُجَجِ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ ; وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِّلَ مِنْهَا بَعْضَ الشَّيْءِ بِاجْتِهَادِهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ دَلِيلًا، وَسَيَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي مَصَارِفِ الْخُمُسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ; فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُجْعَلُ سِتَّةَ أَنْصِبَاءَ: نُصِيبٍ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَنَصِيبٍ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَصِيبٍ لِذِي الْقُرْبَى، وَنَصِيبٍ لِلْيَتَامَى، وَنَصِيبٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَنَصِيبٍ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيُخَمِّسُهَا عَلَى خَمْسَةٍ تَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْهَا لِمَنْ شَهِدَهَا، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْخُمُسُ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ الَّذِي قَبَضَ كَفَّهُ، فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَنَصِيبُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا يُجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَنَصِيبَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ، وَذِكْرُ اسْمِهِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلتَّعْظِيمِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الضَّحَّاكُ. وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَقَتَادَةَ، وَمُغِيرَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، وَهُوَ يَعْرِضُ فَرَسًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ؟ فَقَالَ:» لِلَّهِ خُمُسُهَا، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْجَيْشِ «، قُلْتُ: فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ:» لَا وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جَيْبِكَ لَسْتَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ «، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ، أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَتَذَاكَرُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِعُبَادَةَ: يَا عُبَادَةُ: يَا عُبَادَةُ كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَأْنِ الْأَخْمَاسِ، فَقَالَ عُبَادَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي غَزْوَةٍ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ ; فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنَاوَلَ وَبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ، فَقَالَ:» إِنَّ هَذِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا نَصِيبِي مَعَكُمُ الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ، وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عَظِيمٌ يُنْجِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ «. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَحْمَدَ هَذَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ الْخُمُسِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْغُلُولِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ هَذَا الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ:» وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ «رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخُمُسَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ ; لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ ذُكِرَ لِلتَّعْظِيمِ وَافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِهِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْرِفُ نَصِيبَهُ، الَّذِي هُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ، فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا:» وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ «، وَهُوَ الْحَقُّ. وَيَدُلُّ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قُوتَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِيَ النَّضِيرِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَانْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِسُقُوطِ نَصِيبِهِ بِوَفَاتِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ سُقُوطَ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى أَيْضًا بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَصِيبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاقٍ، وَأَنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ نَصِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَقَتَادَةَ، وَجَمَاعَةٍ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ، أَنَّهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّبِيُّ قَالَ:» الْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ «وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ الْأَقْوَالِ فِي نَصِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; وَهُوَ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَصْرِفُونَهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَصْرِفَانِهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ ذَوِي الْقُرْبَى بَاقٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: هَلْ يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ السُّقُوطِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِذِي الْقُرْبَى. الثَّالِثَةُ: هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ أَوْ لَا؟ أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى: فَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ; عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فِي كِتَابِ» فَرْضِ الْخُمُسِ «. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهَمَ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ «. قَالَ اللَّيْثَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ. اهـ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ، فَقَالَ:» إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ «، قَالَ جُبَيْرٌ: لَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا اهـ. وَإِيضَاحُ كَوْنِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. فَأَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ أَرْبَعَةٌ: هَاشِمٌ، وَالْمُطَّلِبُ، وَعَبْدُ شَمْسٍ. وَهُمْ: أَشِقَّاءُ أُمِّهِمْ: عَاتِكَةَ، بِنْتِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيَّةَ، إِحْدَى عَوَاتِكِ سُلَيْمٍ ; اللَّاتِي هُنَّ جَدَّاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَّ ثَلَاثٌ: هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ: عَمَّتُهَا ; وَهِيَ: عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلَالٍ الَّتِي هِيَ أُمُّ عَبْدِ مَنَافٍ. وَالثَّالِثَةُ: بِنْتُ أَخِي الْأُولَى ; وَهِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ، وَهِيَ أُمُّ وَهْبٍ، وَالِدِ آمِنَةَ، أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَابِعُ أَوْلَادِ عَبْدِ مَنَافٍ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهُ: وَاقِدَةُ بِنْتُ أَبِي عَدِيٍّ، وَاسْمُهُ نَوْفَلُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ. قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ: [الرَّجَزُ] عَبْدُ مَنَافٍ قَمَرُ الْبَطْحَاءِ أَرْبَعَةٌ بَنُوهُ هَؤُلَاءِ مُطَّلِبٌ، وَهَاشِمٌ، وَنَوْفَلُ وَعَبْدُ شَمْسٍ، هَاشِمٌ لَا يُجْهَلُ وَقَالَ فِي بَيَانِ عَوَاتِكِ سُلَيْمٍ اللَّاتِي هُنَّ جَدَّاتٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الرَّجَزُ] عَوَاتِكُ النَّبِيِّ: أُمُّ وَهْبِ وَأُمُّ هَاشِمٍ، وَأُمُّ النَّدْبِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَذِهِ الْأَخِيرِهْ عَمَّةُ عَمَّةِ الْأُولَى الصَّغِيرَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَهُنَّ بِالتَّرْتِيبِ ذَا لِذِي الرِّجَالِ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالِ فَبِهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا يَتَّضِحُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ: بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَبَنِي نَوْفَلٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَبَنِي نَوْفَلٍ عَادَوُا الْهَاشِمِيِّينَ، وَظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا، فَصَارُوا كَالْأَبَاعِدِ مِنْهُمْ ; لِلْعَدَاوَةِ، وَعَدَمِ النُّصْرَةِ. وَلِذَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو طَالِبٍ ; فِي لَامِيَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ: [الطَّوِيلُ] جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبَدَ شَمْسٍ، وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرٍّ، عَاجِلٍ، غَيْرِ آجِلِ بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ، غَيْرُ عَائِلِ لَقَدْ سَفِهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا، وَالْغَيَاطِلِ وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَا: يَتَّضِحُ عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهُمْ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّا هُمْ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَقَالُوا: قُرَيْشٌ كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: وَقَالُوا:» قُرَيْشٌ كُلُّهَا «تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو مَعْشَرٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِعْلِهِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: يُعَيِّنُ أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ، وَأَنَّهُمْ هُمْ ذَوُو الْقُرْبَى الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ، أَوْ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ كَالْمِيرَاثِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ» الْإِنْصَافِ «: هَذَا الْمَذْهَبُ جَزَمَ بِهِ الْخِرَقِيُّ، وَصَاحِبُ» الْهِدَايَةِ «، وَ» الْمُذْهَبِ «، وَ» مَسْبُوكِ الذَّهَبِ «، وَ» الْعُمْدَةِ «، وَ» الْوَجِيزِ «، وَغَيْرِهِمْ ; وَقَدَّمَهُ فِي» الرِّعَايَتَيْنِ «، وَ» الْحَاوِيَيْنِ «، وَغَيْرِهِمْ، وَصَحَّحَهُ فِي» الْبُلْغَةِ «، وَ» النَّظْمِ «، وَغَيْرِهِمَا. وَعَنْهُ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ; سَوَاءٌ. قَدَّمَهُ ابْنُ رُزَيْنٍ فِي شَرْحِهِ ; وَأَطْلَقَهُمَا فِي» الْمُغْنِي «، وَ» الشَّرْحِ «، وَ» الْمُحَرَّرِ «، وَ» الْفُرُوعِ «، اهـ مِنْ» الْإِنْصَافِ «. وَتَفْضِيلُ ذَكَرِهِمْ عَلَى أُنْثَاهُمُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ سَهْمٌ اسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ شَرْعًا ; بِدَلِيلِ أَنَّ أَوْلَادَ عَمَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ ; لَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ، وَكَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا بِقَرَابَةِ الْأَبِ خَاصَّةً يَجْعَلُهُ كَالْمِيرَاثِ ; فَيُفَضَّلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ سَوَاءٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْمُزَنِيُّ: وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ فَضَّلَ ذَكَرَهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَالْمِيرَاثِ: أَنَّ الِابْنَ مِنْهُمْ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ، وَجَدِّهِ اهـ. وَصَغِيرُهُمْ، وَكَبِيرُهُمْ سَوَاءٌ ; وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِنَصِيبِ الْقَرَابَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ ; وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ خِلَافًا لِقَوْمٍ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُ غَنِيِّهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّصَ بِهِ فُقَرَاءَهُمْ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَصِّصْ بِهِ فُقَرَاءَهُمْ، بِخِلَافِ نَصِيبِ الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ فُقَرَاؤُهُمْ، وَلَا شَيْءَ لِأَغْنِيَائِهِمْ، فَقَدْ بَانَ لَكَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ، وَسَهْمَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ ; وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ; وَأَنَّ سَهْمَ الْقَرَابَةِ لِبَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ; لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَأَنَّهُ لِجَمِيعِهِمْ: غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَأَنَّ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ لِخُصُوصِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: سُقُوطُ سَهْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمِ قَرَابَتِهِ بِمَوْتِهِ، وَأَنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ: الَّتِي هِيَ الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ. قَالَ: وَيَبْدَأُ مِنَ الْخُمُسِ بِإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ، وَالْجُنْدِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَمْرَ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ ; فِيمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَيُعْطِي الْقَرَابَةَ بِاجْتِهَادِهِ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: وَبِقَوْلِ مَالِكٍ هَذَا: قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَبِهِ عَمِلُوا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ «، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَسِّمْهُ أَخْمَاسًا، وَلَا أَثْلَاثًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَنْ ذَكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهَمِّ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [2 \ 215] . وَلِلرَّجُلِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ يُنْفِقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، إِذَا رَأَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ:» خُمُسُ اللَّهِ، وَخُمُسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ مِنْهُ، وَيُعْطِي مِنْهُ، وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ «اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ:» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْخُمُسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْفَيْءِ. وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَةَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ السَّلَفِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ رَأْيُ الْبُخَارِيِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ، يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمُ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي» ، ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ الْبَابِ، فِي كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ، وَسَتَأْتِي لَهُ أَدِلَّةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذَا، وَلَكِنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ لِلسَّلَامَةِ هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ خُمُسَ مَا غَنِمْنَا لِهَذِهِ الْمَصَارِفِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بِأَنَّ الْخُمُسَ كُلَّهُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ: يَتَامَاهُمْ، وَمَسَاكِينُهُمْ، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَكُونُ لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يُوَلِّيهِ الْمُسْلِمُونَ، فَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ، وَسَائِرَ الْأَمْتِعَةِ ; كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ: يُخَمَّسُ، وَيُقْسَّمُ الْبَاقِي عَلَى الْغَانِمِينَ، كَمَا ذَكَرْنَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا أَرْضُهُمُ الْمَأْخُوذَةُ عَنْوَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ قِسْمَتِهَا، كَمَا يُفْعَلُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ أَرْضُ عُشْرٍ مَمْلُوكَةٌ لِلْغَانِمِينَ، وَبَيْنَ وَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِصِيغَةٍ. وَقِيلَ: بِغَيْرِ صِيغَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَرْكُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ مُسْتَمِرٍّ يُؤْخَذُ مِمَّنْ تَقَرُّ بِيَدِهِ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: إِذَا قَسَّمَهَا الْإِمَامُ، فَقِيلَ: تُخَمَّسُ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقِيلَ: لَا، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ قَائِلًا: إِنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ لَمْ يُخَمَّسْ مَا قُسِّمَ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ خُمِّسَتْ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَهَذَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَسْمِ، وَإِبْقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - هُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ. وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا غَنِيمَةٌ يَجِبُ قَسْمُهَا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، بَعْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 إِخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ حُجَجَ الْجَمِيعِ، وَمَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ. أَمَّا حُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهِيَ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ، فَهُوَ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ شُمُولَ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَسَّمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ، بَعْدَ أَنْ خَمَّسَهَا، وَبَنِي النَّضِيرِ، وَنَصَّفَ أَرْضَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. قَالَ: فَلَوْ جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ إِخْرَاجَ الْأَرْضِ، جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ إِخْرَاجَ غَيْرِهَا، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْآيَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ: ظَاهِرٌ، وَبِالسُّنَّةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِالتَّخْيِيرِ ; لِأَنَّهُ يَقُولُ: كَانَ مُخَيَّرًا فَاخْتَارَ الْقَسْمَ، فَلَيْسَ الْقَسْمُ وَاجِبًا، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَسَمَ نِصْفَ أَرْضِ خَيْبَرَ، وَتَرَكَ نِصْفَهَا، وَقَسَمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ، وَتَرَكَ قَسْمَ مَكَّةَ، فَدَلَّ قَسَمُهُ تَارَةً، وَتَرْكُهُ الْقَسْمَ أُخْرَى، عَلَى التَّخْيِيرِ. فَفِي «السُّنَنِ» وَ «الْمُسْتَدْرَكِ» : «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، جَمْعُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةُ سَهْمٍ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ، وَالْأُمُورِ، وَنَوَائِبِ النَّاسِ» ، هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. وَفِي لَفْظٍ: «عَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُوَ الشَّطْرُ لِنَوَائِبِهِ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ: الْوَطِيحَ، وَالْكُتَيْبَةَ، وَالسُّلَالِمَ، وَتَوَابِعَهَا» . وَفِي لَفْظٍ أَيْضًا: «عَزَلَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ ; الْوَطِيحَةَ، وَالْكُتَيْبَةَ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا، وَعَزَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ: فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، الشَّقَّ، وَالنَّطَاةَ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا، وَكَانَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا» . وَرَدَّ الْمُخَالِفُ هَذَا الِاحْتِجَاجَ، بِأَنَّ النِّصْفَ الْمَقْسُومَ مِنْ خَيْبَرَ: مَأْخُوذٌ عَنْوَةً، وَالنِّصْفَ الَّذِي لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا: مَأْخُوذٌ صُلْحًا، وَجَزَمَ بِهَذَا ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِيِّ» . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَأَصَبْنَاهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 عَنْوَةً، مَا نَصُّهُ قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كُلَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ عَنْوَةً، وَبَعْضُهَا صُلْحًا، قَالَ: وَقَدْ يَشْكُلُ مَا رُوِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، أَنَّهُ قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ، وَحَاجَتِهِ، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَجَوَابُهُ، مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ حَوْلَهَا ضِيَاعٌ وَقُرًى أُجْلِيَ عَنْهَا أَهْلُهَا، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سِوَاهَا لِلْغَانِمِينَ، فَكَانَ قَدْرُ الَّذِي جَلَوْا عَنْهُ النِّصْفَ، فَلِهَذَا قُسِمَ نِصْفَيْنِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعِجْلِيُّ، ثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ آدَمَ - ثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَبَعْضِ وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالُوا: بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ تَحَصَّنُوا، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، وَيُسَيِّرَهُمْ، فَفَعَلَ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ فَدَكَ، فَنَزَلُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ; لِأَنَّهَا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ عَنْوَةً» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَأَنَا شَاهِدٌ، أَخْبَرَهُمُ ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ خَيْبَرَ كَانَ بَعْضُهَا عَنْوَةً، وَبَعْضُهَا صُلْحًا، وَالْكُتَيْبَةُ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً، وَفِيهَا صُلْحٌ ; قُلْتُ لِمَالِكٍ: وَمَا الْكُتَيْبَةُ؟ قَالَ: أَرْضُ خَيْبَرَ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عَذْقٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا: يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ لِتَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الْقَسْمِ، وَالْوَقْفِيَّةُ بِقَضِيَّةِ خَيْبَرَ كَمَا تَرَى وَحُجَّةُ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ أَرْضَ الْعَدُوِّ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً تَكُونُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا - أُمُورٌ: مِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مُنِعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمُنِعَتِ الشَّامُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا، وَمُنِعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ، لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ» . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَهُمْ بِالْحَدِيثِ: أَنَّ: «مُنِعَتِ الْعِرَاقُ. . . إِلَخْ» بِمَعْنَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 سَتُمْنَعُ ; وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي إِيذَانًا بِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [18 \ 99] وَ [36 \ 51] وَ [39، 68] [50 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ الْآيَةَ [16 \ 1] . قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْغَانِمِينَ ; لِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ لَا يَكُونُ فِيهِ قَفِيزٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَلِحَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِيِّ» فِي كِتَابِ «فَرْضِ الْخُمُسِ» مَا نَصُّهُ: وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ: أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مُنِعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا» الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ: لَا تُبَاعُ، وَلَا تُقَسَّمُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ: مَنْعُ الْخَرَاجِ، وَرَدُّهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْإِنْذَارِ بِمَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُمْنَعُونَ حُقُوقَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا، كَمَا قَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ» . وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا، كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَلَكِنِّي أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ يَقْتَسِمُونَهَا» . وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا: بِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ لَوْ كَانَتْ تُقَسَّمُ، لَمْ يَبْقَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الْغَانِمِينَ شَيْءٌ، وَاللَّهُ أَثْبَتَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ شَرِكَةً بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا الْآيَةَ [59 \ 10] ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا [59 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [59 \ 9] ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ: يَقُولُونَ، غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ يَقُولُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْآيَةَ. وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ وَيَلْعَنُونَهُمْ، وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ جَاءُوا، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَجُمْلَةَ يَقُولُونَ، حَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي «آلِ عِمْرَانَ» ، وَهِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ، لَا تَنْهَضُ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَا يَتَعَيَّنُ وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا، فَاخْتَارَ إِبْقَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَالِاسْتِدْلَالُ بِآيَةِ الْحَشْرِ الْمَذْكُورَةِ وَاضِحُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهَا فِي الْفَيْءِ، وَالْكَلَامُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ كَمَا قَدَّمْنَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عُمَرَ فِي الْأَثَرِ الْمَارِّ آنِفًا، وَبِهِ تَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ. وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ: أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى تَخْصِيصٍ وَاقِعٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ. وَتَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ كَثِيرٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ، مَا نَصُّهُ: «قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَكَأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَوَسَطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطْعًا. وَلِذَلِكَ قَالَ:» لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ «، فَلَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلَا بِتَخْصِيصِهِ بِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْقَسْمُ مِنْ خَيْبَرَ مَأْخُوذٌ عَنْوَةً، وَمَا لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا مَأْخُوذٌ صُلْحًا، وَالنَّضِيرُ فَيْءٌ، وَقُرَيْظَةُ قُسِّمَتْ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهَا فَيْءٌ أَيْضًا ; لِنُزُولِهِمْ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ أَنْ يُحَكِّمَ فِيهِمْ سَعْدًا، لَكَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَّسَهَا، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ. وَمَكَّةُ مَأْخُوذَةٌ صُلْحًا ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ «. هَذَا ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلِذَلِكَ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَهَا زَمَنَ الْفَتْحِ، وَلَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَصَالَحَهُ عَلَى الْبَلَدِ، وَإِنَّمَا جَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَهُ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَوْ أَلْقَى سِلَاحَهُ. وَلَوْ كَانَتْ قَدْ فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يَقُلْ:» مَنْ دَخَلَ دَارَهُ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ، أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ - فَهُوَ آمِنٌ «، فَإِنَّ الصُّلْحَ يَقْتَضِي الْأَمَانَ الْعَامَّ. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:» إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ «. وَفِي لَفْظِ:» إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ «. وَفِي لَفْظٍ:» فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ «، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً. وَمِنْهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ،» أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ جَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ» ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، هَلْ تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْدًا» ، وَأَخْفَى بِيَدِهِ، وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَقَالَ: «مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا» ، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا، قَالَ: فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي تَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا، فَبَيَّنُوا أَنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ اثْنَا عَشَرَ، وَقِيلَ: قُتِلَ مِنْ قُرَيْشٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَمِنْ هُذَيْلٍ أَرْبَعَةٌ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْمُيَلَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ نِسْبَةً إِلَى مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ، أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ، وَقَالَ كُرْزٌ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ فِي دِفَاعِهِ عَنْ خُنَيْسٍ: [الرَّجَزُ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ مِنْ بَنِي فِهْرِ نَقِيَّةُ اللَّوْنِ نَقِيَّةُ الصَّدْرِ لَأَضْرِبَنَّ الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخْرِ وَفِيهِ نَقْلُ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ، وَرَجَزُ حَمَاسِ بْنِ قَيْسٍ الْمَشْهُورِ يَدُلُّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَذَكَرَهُ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَزَعَمَ ابْنُ قَيْسٍ أَنْ سَيَحْفِدَا نِسَاءَهُمْ خِلْتَهُ وَأَنْشَدَا إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَالِيَ عِلَّهْ هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ وَشَهِدَ الْمَأْزَقَ فِيهِ حُطَمَا مُرَبَّبٌ مِنْ قَوْمِهِ فَانْهَزَمَا وَجَاءَ فَاسْتَغْلَقَ بَابَهَا الْبَتُولْ فَاسْتَفْهَمَتْهُ أَيْنَمَا كُنْتَ تَقُولْ فَقَالَ وَالْفَزَعُ زَعْفَرَ دَمَهْ إِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ وَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتَمَهْ وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ضَرْبًا فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ وَهَذَا الرَّجَزُ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمِصْدَاقُهُ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَيْضًا: أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ، بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَجَارَتْ رَجُلًا، فَأَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي، فَأَدْخَلْتُهُمَا بَيْتًا، وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابًا، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّي عَلَيَّ، فَتَفَلْتُ عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ» فَذَكَرْتُ حَدِيثَ الْأَمَانِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» ، وَذَلِكَ ضُحًى بِبَطْنِ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَقِصَّتُهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ. فَإِجَارَتُهَا لَهُ، وَإِرَادَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ، وَإِمْضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجَارَتَهَا - صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً. وَمِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ بِقَتْلِ مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ، وَابْنِ خَطَلٍ، وَجَارِيَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَتْ فُتِحَتْ صُلْحًا، لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَكَانَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 عَقْدِ الصُّلْحِ. وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ مَنْ ذَكَرَ، ثَابِتٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. \ 5 وَفِي السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، قَالَ: أَمِّنُوا النَّاسَ إِلَّا امْرَأَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ ; اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ - فُتِحَتْ عَنْوَةً. وَكَوْنُهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً: يَقْدَحُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ قَسْمِ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً. فَالَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا أَيُّ تَعَارُضٍ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ قَسْمِ الْأَرْضِ، وَإِبْقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ، مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحُجَجِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي رِبَاعِ مَكَّةَ: هَلْ يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا، وَبَيْعُهَا، وَإِيجَارُهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ. وَغَيْرُهُمْ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَجَازَ جَمِيعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَتَوَسَّطَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: تُمَلَّكُ، وَتُوَرَّثُ، وَلَا تُؤَجَّرُ، وَلَا تُبَاعُ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: تَنَاظَرَ فِيهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ، فَأَسْكَتَ الشَّافِعِيُّ إِسْحَاقَ بِالْأَدِلَّةِ، بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ: مَا أَحْوَجَنِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ فِي مَوْضِعِكَ، فَكُنْتُ آمُرُ بِفَرْكِ أُذُنَيْهِ، أَنَا أَقُولُ لَكَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: قَالَ طَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَهَلْ لِأَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ؟ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ مِنْهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 فَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ: أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ "، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " مِنْ مَنْزِلٍ "، وَفِي بَعْضِهَا " مَنْزِلًا "، أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ " تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ، وَشِرَائِهَا " إِلَخْ، وَفِي كِتَابِ " الْمَغَازِي " فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فِي بَابِ: " أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ "، وَفِي كِتَابِ " الْجِهَادِ " فِي بَابِ: " إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرْضُونَ فَهِيَ لَهُمْ "، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ: " النُّزُولِ بِمَكَّةَ لِلْحَاجِّ وَتَوْرِيثِ دُورِهَا "، بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ هِيَ مِثْلُ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ "، صَرِيحٌ فِي إِمْضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تِلْكَ الرِّبَاعَ. وَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا، وَتَمَلُّكُهَا لَا يَصِحُّ لَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَضَافَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ مَكَّةَ دِيَارَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُمْ فِي قَوْلِهِ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [59 \ 8] . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَكُونُ الْإِضَافَةُ لِلْيَدِ وَالسُّكْنَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [33 \ 33] . فَالْجَوَابُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ حَكَمَ بِمِلْكِهَا لِزَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ السُّكْنَى وَالْيَدَ، لَمْ يُقْبَلْ. وَنَظِيرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا احْتُجَّ بِهِ أَيْضًا مِنَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " الْحَدِيثَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ". الثَّالِثُ: الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ: " أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ، اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، دَارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِأَرْبَعِمِائَةٍ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ "، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَالْبَيْهَقِيُّ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَاعَ دَارَ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا أَبَا خَالِدٍ بِعْتَ مَأْثَرَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 قُرَيْشٍ وَكَرِيمَتَهَا، فَقَالَ: هَيْهَاتَ ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ فَلَا مَكْرُمَةَ الْيَوْمَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى؛ يَعْنِي الدَّرَاهِمَ الَّتِي بَاعَهَا بِهَا. وَعَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي قُصَيًّا: [الرَّجَزُ] وَاتَّخَذَ النَّدْوَةَ لَا يُخْتَرَعُ فِي غَيْرِهَا أَمْرٌ وَلَا تُدَّرَعُ جَارِيَةٌ أَوْ يُعْذَرُ الْغُلَامُ إِلَّا بِأَمْرِهِ بِهَا يُرَامُ وَبَاعَهَا بَعْدُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامْ وَأَنَّبُوهُ وَتَصَدَّقَ الْهُمَامْ سَيِّدُ نَادِيهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ إِذِ الْعُلَى بِالدِّينِ لَا بِالدِّمَنِ الرَّابِعُ: أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، فَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ أَهْلِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا ضَعْفَ هَذَا الْوَجْهِ. الْخَامِسُ: الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ أَرْضٌ حَيَّةٌ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ لَا تُمَلَّكُ وَلَا تُبَاعُ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [22 \ 25] ، قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ: جَمِيعُ الْحَرَمِ كُلِّهِ لِكَثْرَةِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ فِي النُّصُوصِ، كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [17 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [9 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [5 \ 95] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنَ الْحَرَمِ " مِنًى ". وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [27 \ 91] قَالُوا: وَالْمُحَرَّمُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا، وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا ". وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَكَّةُ حَرَامٌ، وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا، وَحَرَامٌ أَجْرُ بُيُوتِهَا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ بَيْتًا أَوْ بِنَاءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ؟ قَالَ: " لَا، إِنَّمَا هُوَ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ "، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ، قَالَ: كَانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعَى السَّوَائِبَ، لَمْ تُبَعْ رِبَاعُهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبِي بَكْرٍ، وَلَا عُمَرَ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ. وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ ". قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " فِي الْجَنَائِزِ، فِي " بَابِ الدَّفْنِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَ فِي الْبُيُوعِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: كَانَ عَطَاءٌ يَنْهَى عَنِ الْكِرَاءِ فِي الْحَرَمِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، كَانَ يَنْهَى عَنْ تَبْوِيبِ دُورِ مَكَّةَ لِأَنْ يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَوَّبَ دَارَهُ، سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا تَاجِرًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ بَابَيْنِ يَحْبِسَانِ لِي ظَهْرِي، فَقَالَ: ذَلِكَ لَكَ إِذَنْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا، لِيَنْزِلِ الْبَادِي حَيْثُ يَشَاءُ. اهـ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَلِلْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ مَكَّةَ بَقِيَتْ لَهُمْ دِيَارُهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ يَفْعَلُونَ بِهَا مَا شَاءُوا مِنْ بَيْعٍ، وَإِجَارَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ عَنْ أَدِلَّةِ الْمُخَالِفِينَ ; فَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [22 \ 25] ، بِأَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِنَفْسِ الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْآيَةَ [22 \ 25] ، وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [27 \ 91] ، بِأَنَّ الْمُرَادَ: حَرَّمَ صَيْدَهَا، وَشَجَرَهَا، وَخَلَاهَا، وَالْقِتَالَ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعَ كَثْرَتِهَا النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ دُورِهَا، وَعَنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ: بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": هُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. اهـ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ضَعِيفٌ، وَأَبُوهُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَرُوِيَ عَنْهُ هَكَذَا، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا بِبَعْضِ مَعْنَاهُ، وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَاتِ مِنَ الْحَرَمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي حَنِيفَةَ: بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَضْعِيفُ إِسْنَادِهِ بِابْنِ أَبِي زِيَادٍ الْمَذْكُورِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَالُوا: رَفْعُهُ وَهْمٌ، قَالَهُ: الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ. الثَّانِي: مَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ: الْإِخْبَارُ عَنْ عَادَتِهِمُ الْكَرِيمَةِ فِي إِسْكَانِهِمْ مَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ مِنْ بُيُوتِهِمْ بِالْإِعَارَةِ تَبَرُّعًا، وَجُودًا. وَقَدْ أَخْبَرَ مَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِشَأْنِ مَكَّةَ مِنْهُ عَنْ جَرَيَانِ الْإِرْثِ، وَالْبَيْعِ فِيهَا. وَعَنْ حَدِيثِ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ "، بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَوَاتِهَا، وَمَوَاضِعِ نُزُولِ الْحَجِيجِ مِنْهَا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، وَحَدِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ تَعَقَّبَهُ عَلَيْهِ مُحَشِّيهِ صَاحِبُ " الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ "، بِمَا نَصُّهُ: " ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا فِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، فَضَعَّفَ إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ عَنْ أَبِيهِ غَيْرُ قَوِيٍّ، ثُمَّ أَسْنَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: رَفْعُهُ وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ، قُلْتُ: أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ، ثُمَّ صَحَّحَ الْأَوَّلَ، وَجَعَلَ الثَّانِيَ شَاهِدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي آخِرِهِ حَدِيثًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَلْقَمَةُ هَذَا صَحَابِيٌّ، كَذَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ، وَإِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، كَانَ مَرْفُوعًا عَلَى مَا عُرِفَ بِهِ، وَفِيهِ تَصْرِيحُ عُثْمَانَ بِالسَّمَاعِ عَنْ عَلْقَمَةَ، فَمِنْ أَيْنَ الِانْقِطَاعُ؟ اهـ كَلَامُ صَاحِبِ " الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ ". قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَخْفَى سُقُوطُ اعْتِرَاضِ ابْنِ التُّرْكُمَانِيِّ هَذَا عَلَى الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ، فِي تَضْعِيفِهِ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ: فَلِأَنَّ تَصْحِيحَ الْحَاكِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ لَا يُصَيِّرُهُ صَحِيحًا. وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَسَاهُلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرِ بْنِ جَابِرٍ الْبَجَلِيُّ قَدْ يَكُونُ لِلْمُنَاقَشَةِ فِي تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ بِهِ وَجْهٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَثَّقَهُ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ، فِي " التَّقْرِيبِ ": " صَدُوقٌ لَيِّنُ الْحِفْظِ "، أَمَّا ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَتَضْعِيفُ الْحَدِيثِ بِهِ ظَاهِرٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": ضَعِيفٌ، فَتَصْحِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا وَجْهَ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي اعْتِرَاضِهِ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ الثَّانِي، فَمِنْ أَيْنَ الِانْقِطَاعُ - فَجَوَابُهُ: أَنَّ الِانْقِطَاعَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ نَضْلَةَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَزَعْمُ الشَّيْخِ ابْنِ التُّرْكُمَانِيِّ، أَنَّهُ صَحَابِيٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ - بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ - الْمَكِّيُّ كِنَانِيٌّ. وَقِيلَ: كِنْدِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَقْبُولٌ، أَخْطَأَ مَنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَإِذَنْ فَوَجْهُ انْقِطَاعِهِ ظَاهِرٌ، فَظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ، وَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي تَضْعِيفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ تَوَرَّعَ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ، وَإِيجَارِهَا خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ، أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ ; لِأَنَّ مَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ. تَنْبِيهٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ النُّسُكِ مِنَ الْحَرَمِ كَمَوْضِعِ السَّعْيِ، وَمَوْضِعِ رَمْيِ الْجِمَارِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسَاجِدِ، وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْحَجِيجُ مِنْ مِنًى، وَمُزْدَلِفَةَ كَذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَيِّقَهُمَا بِالْبِنَاءِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى تَضِيقَا بِالْحَجِيجِ، وَيَبْقَى بَعْضُهُمْ لَمْ يَجِدْ مَنْزِلًا ; لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَبِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَيِّقَ مَحَلِّ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى لَا يَبْقَى مَا يَسَعُ الْحَجِيجَ كُلَّهُ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ: «مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ» كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِيمَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَسَنَذْكُرُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَأَدِلَّتَهُمْ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ. اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا أَشَرْنَا لَهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَوَعَدْنَا بِإِيضَاحِهِ هُنَا، فَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ; لِأَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ الْمُوجِفِينَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، هَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ، وَعَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهَا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ أَخْمَاسَ الْخُمُسِ الْأَرْبَعَةِ، غَيْرُ خُمُسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَصَارِفَ مُعَيَّنَةٍ فِي قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ الْبَاقِيَةِ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ. وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُنَفِّلُ إِلَّا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَدَلِيلُهُ: مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. أَنَّ لِلْإِمَامِ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ، أَوِ الثُّلُثَ، أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَبَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّنْفِيلُ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا جُمْلَةَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَنَحْنُ الْآنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ التَّنْفِيلَ الَّذِي اقْتَضَى الدَّلِيلُ جَوَازَهُ أَقْسَامٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ: إِنْ غَنِمْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ شَيْئًا، فَلَكُمْ مِنْهُ كَذَا بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَهُمْ فِي حَالَةِ إِقْبَالِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفَّارِ الرُّبُعَ، وَفِي حَالَةِ رُجُوعِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَوْطَانِهِمُ الثُّلُثَ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ. وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إِفْسَادِ نِيَّاتِ الْمُجَاهِدِينَ ; لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُقَاتِلِينَ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ الَّذِي وَعَدَهُمُ الْإِمَامُ تَنْفِيلَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازٍ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ مَالِكٍ الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ، وَنَفَّلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ "، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ الْجَارُودِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي حَبِيبٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَالرَّاجِحُ ثُبُوتُهَا لَكِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي " الصَّحِيحِ "، فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ اهـ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا: عَنْ مَكْحُولِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عَبْدًا بِمِصْرَ لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ، فَأَعْتَقَتْنِي فَمَا خَرَجْتُ مِنْ مِصْرَ وَبِهَا عِلْمٌ إِلَّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ، فِيمَا أَرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الْحِجَازَ، فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلَّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أَرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الْعِرَاقَ فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلَّا حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أَرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الشَّامَ فَغَرْبَلْتُهَا، كُلُّ ذَلِكَ: أَسْأَلُ عَنِ النَّفْلِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُخْبِرُنِي فِيهِ بِشَيْءٍ، حَتَّى لَقِيتُ شَيْخًا يُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ فِي النَّفْلِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ يَقُولُ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ، وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ " أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَانَ إِذَا غَابَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ نَفَّلَ الرُّبُعَ، وَإِذَا أَقْبَلَ رَاجِعًا وَكُلَّ النَّاسِ نَفَّلَ الثُّلُثَ، وَكَانَ يَكْرَهُ الْأَنْفَالَ، وَيَقُولُ: لِيَرُدَّ قَوِيُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ التَّنْفِيلِ مِنْ غَيْرِ الْخُمُسِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ "، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": هَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ اهـ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَدْأَةِ وَالرَّجْعَةِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَدْأَةِ: مُتَوَجِّهُونَ إِلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَالْعَدُوُّ فِي غَفْلَةٍ، وَأَمَّا فِي الرَّجْعَةِ: فَالْمُسْلِمُونَ رَاجِعُونَ إِلَى أَوْطَانِهِمْ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَالْعَدُوُّ فِي حَذَرٍ وَيَقَظَةٍ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّرِيَّةَ مِنَ الْعَسْكَرِ إِذَا خَرَجَتْ، فَغَنِمَتْ، أَنَّ سَائِرَ الْجَيْشِ شُرَكَاؤُهُمْ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. الثَّانِي: مِنَ الْأَقْسَامِ الَّتِي اقْتَضَى الدَّلِيلُ جَوَازَهَا: تَنْفِيلُ بَعْضِ الْجَيْشِ، لِشِدَّةِ بَأْسِهِ، وَعَنَائِهِ، وَتَحَمُّلِهِ مَا لَمْ يَتَحَمَّلْهُ غَيْرُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قِصَّةِ إِغَارَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيِّ، عَلَى سَرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ، قَالَ سَلَمَةُ: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ، أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ "، قَالَ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ: سَهْمَ الْفَارِسِ، وَسَهْمَ الرَّاجِلِ فَجَمَعَهُمَا لِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 جَمِيعًا، الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ غَزْوَةُ " ذِي قَرَدٍ " فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ "، وَيَدُلُّ لِهَذَا أَيْضًا: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَقَدِّمُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَإِنَّ فِيهِ: أَنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَلَّهُ يُعْطِي هَذَا السَّيْفَ لِرَجُلٍ لَمْ يُبْلِ بَلَائِي، ثُمَّ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِحُسْنِ بَلَائِهِ وَقَتْلِهِ صَاحِبَ السَّيْفِ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثُ: مِنْ أَقْسَامِ التَّنْفِيلِ الَّتِي اقْتَضَى الدَّلِيلُ جَوَازَهَا: أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ". وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقُلْتُ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ "، قَالَ: فَقُمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَقُمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ " فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي ; فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا هَا اللَّهِ إِذَنْ لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ "، فَأَعْطَانِي، قَالَ: فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهَا مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَتَلَ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسَلَابَهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ فِي قَتْلِهِ مَنْ ذَكَرَ: [الرَّجَزُ] أَنَا أَبُو طَلْحَةَ وَاسْمِي زَيْدُ وَكُلُّ يَوْمٍ فِي سِلَاحِيَ صَيْدُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي مُبَارَزَةٍ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ الْمَقْتُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 مُقْبِلًا. أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُبَارَزَةِ: فَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ قَتَلَهُ مُقْبِلًا إِلَيْهِ: فَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ، ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقْوِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضَعَفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ، وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ، قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ، ثُمَّ تَقَدَّمَتْ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي، فَضَرَبْتُ بِهِ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ وَعَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ "، قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ: " لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ لِمُسْلِمٍ فِي " كِتَابِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ " فِي بَابِ: " اسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ سَلَبَ الْقَتِيلِ "، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ " فِي كِتَابِ الْجِهَادِ " فِي بَابِ: " الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ " وَهُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُبَارَزَةِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ قَتْلِهِ مُقْبِلًا لَا مُدْبِرًا كَمَا تَرَى. وَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ سَلَبَ الْمَقْتُولِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ شَيْخًا فَانِيًا، أَوْ ضَعِيفًا مَهِينًا، أَوْ مُثْخَنًا بِالْجِرَاحِ لَمْ تَبْقَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ سَلَبُهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: فِي أَنَّ مَنْ قَتَلَ صَبِيًّا، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ شَيْخًا فَانِيًا، لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُمْ، إِلَّا قَوْلًا ضَعِيفًا جِدًّا يُرْوَى عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ: فِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِ الْمَرْأَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُثْخَنًا بِالْجِرَاحِ لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، هُوَ الَّذِي ذَفَّفَ عَلَى أَبِي جَهْلِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَحَزَّ رَأْسَهُ، وَقَدْ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ الَّذِي أَثْبَتَهُ، وَلَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ شَيْئًا. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَلَا يُعَارَضُ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَهُ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ " ; لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُقْدِمُ لِلْقَتْلِ صَبْرًا لَا يَسْتَحِقُّ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ بِقَتْلِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيِّ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مَعِيطٍ الْأُمَوِيِّ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُعْطِ مَنْ قَتَلَهُمَا شَيْئًا مِنْ سَلَبِهِمَا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا: هَلْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ إِلْحَاقًا لِلْأَسْرِ بِالْقَتْلِ أَوْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ، لِعَدَمِ الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ عُمُومِ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ، حَتَّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَقَدْ أَسَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، أُسَارَى بَدْرٍ، وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ صَبْرًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ شَيْئًا مِنْ أَسْلَابِهِمْ، وَلَا مِنْ فِدَائِهِمْ بَلْ جَعَلَ فَدَاءَهُمْ غَنِيمَةً. أَمَّا إِذَا قَاتَلَتِ الْمَرْأَةُ أَوِ الصَّبِيُّ الْمُسْلِمِينَ: فَالظَّاهِرُ أَنَّ لِمَنْ قَتَلَ أَحَدَهُمَا سَلَبَهُ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا " الْحَدِيثَ، وَبِهَذَا جَزَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ السَّلَبَ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَوْلُ الْإِمَامِ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " أَوْ يَسْتَحِقُّهُ مُطْلَقًا، قَالَ الْإِمَامُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ؟ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَخِيرِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: الَّذِي هُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا بِقَوْلِ الْإِمَامِ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا " إِلَخْ، الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ ذَلِكَ: لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقِتَالِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى فَسَادِ النِّيَّةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ، يَقُولُ الْإِمَامُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا. . . إِلَخْ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِاسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ سَلَبَ الْمَقْتُولِ مُطْلَقًا بِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَلَمْ يُخَصَّصْ بِشَيْءٍ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، كَمَا عُلِمَ فِي الْأُصُولِ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ، لَهُ سَلَبُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أَجْمَعُ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِمُجَرَّدِ قَتْلِهِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَكْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ قَتْلِ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ الْأَنْصَارِيَّيْنِ لِأَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ فِيهِ: " ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ ! "، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ " قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: " كِلَاكُمَا قَتَلَهُ "، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ اهـ. قَالُوا: فَتَصْرِيحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بِأَنَّ كِلَيْهِمَا قَتَلَهُ، ثُمَّ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِسَلَبِهِ، دُونَ الْآخَرِ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، إِلَّا بِقَوْلِ الْإِمَامِ: إِنَّهُ لَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ لَمَا كَانَ لِمَنْعِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ وَجْهٌ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ مَعَ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ، رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لِخَالِدٍ: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟ "، قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " ادْفَعْهُ إِلَيْهِ "، فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْجَزْتَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَاسْتُغْضِبَ، فَقَالَ: لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَرْعَى إِبِلًا، أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ، فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ، وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، قَالَ بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَوْفٍ أَيْضًا، عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَمَضَيْنَا فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، أَشْقَرَ، عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ، وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يَفْرِي فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الْمُسْلِمِينَ، فَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَخَرَّ وَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ. وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَخَذَ السَّلَبَ، قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِ اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ، وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ اهـ. فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ، إِذْ لَوِ اسْتَحَقَّهُ بِهِ، لَمَا مَنَعَهُ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، قَالَ: بَارَزْتُ رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَتَلْتُهُ، وَأَخَذْتُ سَلَبَهُ، فَأَتَيْتُ سَعْدًا، فَخَطَبَ سَعْدٌ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَلَبُ بِشْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنَّا قَدْ نَفَّلَنَاهُ إِيَّاهُ. فَلَوْ كَانَ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ قَضَاءً مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَا أَضَافَ الْأُمَرَاءُ ذَلِكَ التَّنْفِيلَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَلَأَخَذَهُ الْقَاتِلُ دُونَ أَمْرِهِمْ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا، أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلَّا بِإِعْطَاءِ الْإِمَامِ ; لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ، الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ: هِيَ شَاهِدَةٌ لِقَوْلِ إِسْحَاقَ: إِنْ كَانَ السَّلَبُ يَسِيرًا فَهُوَ لِلْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا خُمِّسَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ظَاهِرَهَا الْعُمُومُ مَعَ أَنَّ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَثْرَةٌ زَائِدَةٌ، وَقَدْ مَنَعَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ. تَنْبِيهٌ جَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِي سَلَبِ الْقَاتِلِ، هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَنْفِيذِ الْإِمَامِ أَوْ لَا؟ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا " الْحَدِيثَ، هَلْ هُوَ حُكْمٌ؟ وَعَلَيْهِ فَلَا يَعُمُّ بَلْ يَحْتَاجُ دَائِمًا إِلَى تَنْفِيذِ الْإِمَامِ، أَوْ هُوَ فَتْوَى؟ فَيَكُونُ حُكْمًا عَامًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى تَنْفِيذِ الْإِمَامِ. قَالَ صَاحِبُ " نَشْرِ الْبُنُودِ شَرْحِ مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وَسَائِرُ حِكَايَةِ الْفِعْلِ بِمَا مِنْهُ الْعُمُومُ ظَاهِرًا قَدْ عُلِمَا مَا نَصُّهُ: تَنْبِيهٌ: حَكَى ابْنُ رَشِيدٍ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ "، هَلْ يَحْتَاجُ سَلَبُ الْقَتِيلِ إِلَى تَنْفِيذِ الْإِمَامِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُكْمٌ فَلَا يَعُمُّ، أَوْ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَتْوَى؟ وَكَذَا قَوْلُهُ لِهِنْدٍ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " فِيهِ خِلَافٌ، هَلْ هُوَ حُكْمٌ فَلَا يَعُمُّ، أَوْ فَتْوَى فَيَعُمُّ. قَالَ مَيَّارَةُ فِي " التَّكْمِيلِ ": [الرَّجَزُ] وَفِي حَدِيثِ هِنْدٍ الْخِلَافُ: هَلْ حُكْمٌ يَخُصُّهَا أَوِ افْتَاءٌ شَمَلْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي السَّلَبِ، هَلْ يُخَمَّسُ أَوْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا يُخَمَّسُ. الثَّانِي: يُخَمَّسُ. الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ كَثِيرًا خُمِّسَ، وَإِلَّا فَلَا. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُخَمَّسُ: الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَيُرْوَى عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَكْحُولٌ. وَمِمَّنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ: إِسْحَاقُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَا يُخَمَّسُ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ; أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ "، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الَّذِي قَدَّمْنَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ: " وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ مُسْلِمٌ، وَزَادَ بَيَانًا أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُخَمِّسُ السَّلَبَ " اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي حَدِيثِ خَالِدٍ وَعَوْفٍ الْمُتَقَدِّمِ، مَا لَفْظُهُ: " وَهُوَ ثَابِتٌ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ قِصَّةٌ لِعَوْفٍ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَتَعَقَّبَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " بِمَا نَصُّهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْحُجَّةِ لَمْ يَكُنْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، بَلِ الَّذِي فِيهِ هُوَ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَفِيهِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِرَارًا "، اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ عَوْفٍ الْمَذْكُورَ بِلَفْظِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ، فَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَالتَّحْقِيقُ فِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ضَعِيفَةٌ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي الشَّامِيِّينَ، دُونَ غَيْرِهِمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَشَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، الَّذِي هُوَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، كِلَاهُمَا حِمْصِيٌّ، فَهُوَ بَلَدِيٌّ لَهُ: وَبِهِ تَعَلَمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، مَعَ قُوَّةِ شَاهِدِهِ، الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ، بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ السَّلَبَ يُخَمَّسُ: بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الْآيَةَ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: يُخَمَّسُ الْكَثِيرُ دُونَ الْيَسِيرِ: بِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِائَةَ رَجُلٍ، إِلَّا رَجُلًا مُبَارَزَةً، وَأَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوُا الزَّارَةَ، خَرَجَ دِهْقَانُ الزَّارَةِ، فَقَالَ: رَجُلٌ وَرَجُلٌ، فَبَرَزَ الْبَرَاءُ فَاخْتَلَفَا بِسَيْفَيْهِمَا، ثُمَّ اعْتَنَقَا فَتَوَرَّكَهُ الْبَرَاءُ فَقَعَدَ عَلَى كَبِدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ السَّيْفَ فَذَبَحَهُ، وَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَمِنْطَقَتَهُ، وَأَتَى بِهِ عُمَرَ، فَنَفَّلَهُ السِّلَاحَ، وَقَوَّمَ الْمِنْطَقَةَ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَخَمَّسَهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا مَالٌ. اهـ بِنَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ بَارَزَ " الْمَرْزُبَانَ " فَقَتَلَهُ، فَكَانَتْ قِيمَةُ مِنْطَقَتِهِ، وَسِوَارَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَخُمِّسَ ذَلِكَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنِ اسْتَكْثَرَ الْإِمَامُ السَّلَبَ، فَذَلِكَ إِلَيْهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ بَارَزَ " مَرْزُبَانَ " الزَّارَةِ بِالْبَحْرَيْنِ فَطَعَنَهُ، فَدَقَّ صُلْبَهُ، وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ، وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ الظَّهْرَ أَتَى أَبَا طَلْحَةَ فِي دَارِهِ، فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالًا، وَأَنَا خَامِسُهُ، فَكَانَ أَوَّلَ سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الْإِسْلَامِ سَلَبُ الْبَرَاءِ، رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي السُّنَنِ. وَفِيهَا أَنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا عِنْدِي أَنَّ السَّلَبَ لَا يُخَمَّسُ لِحَدِيثِ عَوْفٍ وَخَالِدٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُجَابُ عَنْ أَخْذِ الْخُمُسِ مِنْ سَلَبِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ، بِأَنَّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ أَنَّ السَّلَبَ لَا يُخَمَّسُ ; لِأَنَّ قَوْلَ عُمَرَ: إِنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَقَوْلَ الرَّاوِي كَانَ أَوَّلَ سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الْإِسْلَامِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ لَمْ يُخَمِّسُوا سَلَبًا، وَاتِّبَاعُ ذَلِكَ أَوْلَى. قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: لَا أَظُنُّهُ يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ سَبَقَ فِيهِ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي "، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا يُخَصَّصُ بِهَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ [8 \ 41] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُعْطَاهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ، قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي اشْتِرَاطِ الْبَيِّنَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ " الْحَدِيثَ، فَهُوَ يَدُلُّ بِإِيضَاحٍ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي أَعْطَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا قَتَادَةَ سَلَبَ قَتِيلِهِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ "، قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ الشَّافِعِيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْعَظِيمِ، يَقُولُ: إِنَّمَا أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ خُزَاعِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنِيسٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْدَفِعُ النِّزَاعُ، وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَيَطَّرِدُ الْحُكْمُ. اهـ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي "، الْحَدِيثَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " صَدَقَ " شَهَادَةٌ صَرِيحَةٌ لِأَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ فِي بَابِ الْخَبَرِ، وَالْأُمُورُ الَّتِي لَمْ يَقَعْ فِيهَا تَرَافُعٌ قَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَقَدَهُ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَالِكِيُّ فِي تُحْفَتِهِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَوَاحِدٌ يُجْزِئُ فِي بَابِ الْخَبَرْ وَاثْنَانِ أَوْلَى عِنْدَ كُلِّ ذِي نَظَرْ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ ": إِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِجْزَاءِ شَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ السَّلَبَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وَلَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَهَا فَذَلِكَ لَهُ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ لِوُرُودِ النَّصِّ الصَّحِيحِ بِذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّلَبِ مَا هُوَ؟ قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرَفَانِ، وَوَاسِطَةٌ: طَرَفٌ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السَّلَبِ: وَهُوَ سِلَاحُهُ، كَسَيْفِهِ، وَدِرْعِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ثِيَابُهُ. وَطَرَفٌ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّلَبِ: وَهُوَ مَا لَوْ وُجِدَ فِي هِمْيَانِهِ، أَوْ مِنْطَقَتِهِ دَنَانِيرُ. أَوْ جَوَاهِرُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَوَاسِطَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: مِنْهَا فَرَسُهُ الَّذِي مَاتَ وَهُوَ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مِنْهُ، وَمِنْهَا مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ لِلْحَرْبِ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ السَّلَبِ، وَقَالَتْ: فِرْقَةٌ لَيْسَ مِنْهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَحْنُونٍ إِلَّا الْمِنْطَقَةَ، فَإِنَّهَا عِنْدَهُ مِنَ السَّلَبِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ، وَالسِّوَارَانِ مِنَ السَّلَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، وَفِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَّ سُهْمَانَهُمْ بَلَغَتِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: " لَا تَنْفِيلَ إِلَّا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ " ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَفَّلَهُمْ نِصْفَ السُّدُسِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ نِصْفَ السُّدُسِ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَنْفِيلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْأَقَلِّ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، فَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ لَهُ. وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ، أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ، وَالْخُمُسُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلُّهُ اهـ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّنْفِيلَ مِنَ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " مِنْ أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. \ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْفَارِسَ يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ الرَّاجِلَ يُعْطَى سَهْمًا وَاحِدًا، وَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ مُصَرِّحَةٌ بِذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا» . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ فِي النَّفْلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا» اهـ. وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: «وَلِلرَّجُلِ» ، فَرِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ صَرِيحَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ رَاوِيهِ نَافِعٌ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: قَالَ: فَسَّرَهُ نَافِعٌ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ اهـ. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَذْكُورَةِ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» . حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، وَمَعَنَا فَرَسٌ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا سَهْمًا، وَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ» . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَحُسَيْنِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ، فَقَالَ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ; مُحْتَجًّا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَسَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ، وَيُجَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِسَهْمَيِ الْفَارِسِ خُصُوصُ السَّهْمَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتَحَقَّهُمَا بِفَرَسِهِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الْفَارِسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 الثَّانِي: أَنَّ النُّصُوصَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدِيثُ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَصَحُّ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَأَرَى الْوَهْمَ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، وَكَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا أَحَدٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى اهـ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْغُزَاةِ خَيْلٌ فَلَا يُسْهَمُ إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَغَيْرُهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَاتِلَ إِلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ، وَكَانَ لَا يُسْهِمُ لِلرَّجُلِ فَوْقَ فَرَسَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ أَفْرَاسٍ» ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَنْ يُسْهِمَ لِلْفَرَسِ مِنْ سَهْمَيْنِ، وَلِلْفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمٌ، فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَمَا كَانَ فَوْقَ الْفَرَسَيْنِ فَهِيَ جَنَائِبُ، رَوَاهُمَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْفَرَسِ الثَّانِي ; لِأَنَّ إِدَامَةَ رُكُوبِ وَاحِدٍ تُضْعِفُهُ، وَتَمْنَعُ الْقِتَالَ عَلَيْهِ فَيُسْهِمُ لِلثَّانِي ; لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ كَالْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ يُسْهِمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ، إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» ، وَغَيْرُهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْبَرَاذِينِ وَالْهُجْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا يُسْهَمُ لَهَا كَسَهْمِ الْخَيْلِ الْعِرَابِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَنَسَبَهُ الزَّرْقَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُوَطَّأِ» لِلْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ، وَقَالَ: رَوَاهُ ثَلَاثَةٌ مُتَيَقِّظُونَ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ: لَا أَرَى الْبَرَاذِينَ وَالْهُجْنَ، إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [16 \ 8] . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [8 \ 60] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فَأَنَا أَرَى الْبَرَاذِينَ وَالْهُجْنَ مِنَ الْخَيْلِ إِذَا أَجَازَهَا الْوَالِي. وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُئِلَ عَنِ الْبَرَاذِينِ: هَلْ فِيهَا مِنْ صَدَقَةٍ؟ قَالَ: وَهَلْ فِي الْخَيْلِ مِنْ صَدَقَةٍ؟ اهـ. وَحَاصِلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اسْمَ الْخَيْلِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ يَشْمَلُ الْبَرَاذِينَ وَالْهُجْنَ فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي عُمُومِهِ ; لِأَنَّهُمَا لَيْسَا فِي الْبِغَالِ وَلَا الْحَمِيرِ بَلْ مِنَ الْخَيْلِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ وَالْهَجِينِ سَهْمٌ وَاحِدٌ قَدْرَ نِصْفِ سَهْمِ الْفَرَسِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي «الْأُمِّ» وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ الْوَادِعِيِّ، قَالَ: أَغَارَتِ الْخَيْلُ فَأَدْرَكَتِ الْعِرَابَ، وَتَأَخَّرَتِ الْبَرَاذِينُ، فَقَامَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْوَادِعِيُّ، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَا أَدْرَكَ كَمَا لَمْ يُدْرِكْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ: هَبِلَتِ الْوَادِعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ أَذْكَرَتْ بِهِ! أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْهَمَ لِلْبَرَاذِينِ دُونَ سِهَامِ الْعِرَابِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ: [الطَّوِيلُ] وَمِنَّا الَّذِي قَدْ سَنَّ فِي الْخَيْلِ سُنَّةً ... وَكَانَتْ سَوَاءً قَبْلَ ذَاكَ سِهَامُهَا وَهَذَا مُنْقَطِعٌ كَمَا تَرَى. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ مَكْحُولٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَّنَ الْهَجِينَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَرَّبَ الْعَرَبِيَّ، فَجَعَلَ لِلْعَرَبِيِّ سَهْمَيْنِ، وَلِلْهَجِينِ سَهْمًا» ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا كَمَا تَرَى، وَبِهِ أَخَذَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ أَثَرَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ فِي الْحَرْبِ أَفْضَلُ مِنْ أَثَرِ الْبَرَاذِينِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا عَلَيْهَا فِي السِّهَامِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُدْرِكُ مِنَ الْبَرَاذِينِ إِدْرَاكَ الْعِرَابِ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَسِهَامِهَا، وَبَيْنَ مَا لَا يُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا فَلَا يُسْهَمُ لَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَالْجُوزَجَانِيُّ. وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مِنَ الْخَيْلِ، وَقَدْ عَمِلَتْ عَمَلَهَا فَوَجَبَ جَعْلُهَا مِنْهَا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: لَا يُسْهَمُ لَهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ وَوَجْهُهُ أَنَّهَا حَيَوَانٌ لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْخَيْلِ فَأَشْبَهَ الْبِغَالَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيمَا لَا يُقَارِبُ الْعِتَاقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 مِنْهَا، لِمَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّا وَجَدْنَا بِالْعِرَاقِ خَيْلًا عِرَاضًا دُكْنًا، فَمَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُهُمَانِهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: تِلْكَ الْبَرَاذِينُ فَمَا قَارَبَ الْعِتَاقَ مِنْهَا، فَاجْعَلْ لَهُ سَهْمًا وَاحِدًا، وَأَلْغِ مَا سِوَى ذَلِكَ. اهـ. وَالْبَرَاذِينُ: جَمْعُ بِرْذَوْنٍ، بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُرَادُ: الْجُفَاةُ الْخِلْقَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَأَكْثَرُ مَا تُجْلَبُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَلَهَا جَلَدٌ عَلَى السَّيْرِ فِي الشِّعَابِ وَالْجِبَالِ وَالْوَعْرِ بِخِلَافِ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالْهَجِينُ: هُوَ مَا أَحَدُ أَبَوَيْهِ عَرَبِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ، وَأَمَّا الَّذِي أُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ فَيُسَمَّى الْمُقْرِفَ، وَعَنْ أَحْمَدَ: الْهَجِينُ الْبِرْذَوْنُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ فِي الْحُكْمِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِقْرَافِ عَلَى كَوْنِ الْأُمِّ عَرَبِيَّةً قَوْلُ هِنْدٍ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: [الطَّوِيلُ] وَمَا هِنْدُ إِلَّا مَهَرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ فَإِنْ وَلَدَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فَبِالْحَرَى ... وَإِنْ يَكُ إِقْرَافٌ فَمَا أَنْجَبَ الْفَحْلُ وَقَوْلُ جَرِيرٍ: [الْوَافِرُ] إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عَدُّوا أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ مِنَ الْعِرَابِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، هَلْ يُسْهَمُ لِبَعِيرِهِ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْإِبِلِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِغَيْرِ الْخَيْلِ مِنَ الْبَهَائِمِ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ «بَدْرٍ» سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَلَمْ تَخْلُ غَزَاةٌ مِنْ غَزَوَاتِهِ مِنَ الْإِبِلِ، هِيَ كَانَتْ غَالِبَ دَوَابِّهِمْ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهَا، وَلَوْ أَسْهَمَ لَهَا لَنُقِلَ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُلَفَائِهِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ غَزَوَاتِهِمْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيمَا عَلِمْنَاهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ، وَلَوْ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، اهـ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ قُسِمَ لَهُ وَلِبَعِيرِهِ سَهْمَانِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْبَعِيرِ مَعَ إِمْكَانِ الْغَزْوِ عَلَى فَرَسٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُسْهَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 لِلْبَعِيرِ سَهْمٌ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَجْزَ صَاحِبِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [59 \ 6] ، قَالُوا: فَذَكَرَ الرِّكَابَ وَهِيَ الْإِبِلُ مَعَ الْخَيْلِ، وَبِأَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ فَيُسْهَمُ لَهُ كَالْفَرَسِ ; لِأَنَّ تَجْوِيزَ الْمُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ إِنَّمَا هُوَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، هِيَ: النَّصْلُ، وَالْخُفُّ، وَالْحَافِرُ، دُونَ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا آلَاتُ الْجِهَادِ، فَأُبِيحَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْمُسَابَقَةِ بِهَا، تَحْرِيضًا عَلَى رِيَاضَتِهَا، وَتَعَلُّمِ الْإِتْقَانِ فِيهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْإِبِلِ لِمَا قَدَّمْنَا آنِفًا، وَأَمَّا غَيْرُ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، مِنَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفِيَلَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يُسْهَمُ لِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ عَظُمَ غِنَاؤُهَا وَقَامَتْ مَقَامَ الْخَيْلِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْسُمْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا مِمَّا لَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ فَلَمْ يُسْهَمْ لَهَا كَالْبَقَرِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَرْقِ رَحْلِ الْغَالِّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَالِّ مَنْ يَكْتُمُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَلَا يَضَعُهُ مَعَ الْغَنِيمَةِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُحْرَقُ رَحْلُهُ كُلُّهُ إِلَّا الْمُصْحَفَ وَمَا فِيهِ رُوحٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَفُقَهَاءُ الشَّامِ، مِنْهُمْ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، وَيَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، وَأَتَى سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِغَالٍّ فَجَمَعَ مَالَهُ وَأَحْرَقَهُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَاضِرٌ ذَلِكَ فَلَمْ يَعِبْهُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ: السُّنَّةُ فِي الَّذِي يَغُلُّ أَنْ يُحْرَقَ رَحْلُهُ، رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي سُنَّتِهِ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَمِنْ حُجَجِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَصَالِحٌ هَذَا أَبُو وَاقِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَأَتَى بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ» ، قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ. اهـ بِلَفْظِهِ مِنْ أَبِي دَاوُدَ. وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ رَوَاهُ أَيْضًا الْأَثْرَمُ، وَسَعِيدٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى الْأَنْطَاكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ، وَمَعَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَغَلَّ رَجُلٌ مَتَاعًا، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ وَطِيفَ بِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ سَهْمَهُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْحَدِيثَيْنِ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ هِشَامٍ أَحْرَقَ رَحْلَ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ قَدْ غَلَّ، وَضَرَبَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ حَرَقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَزَادَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ: عَنِ الْوَلِيدِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ، قَالَا: ثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ مَنْعَ سَهْمِهِ، اهـ مِنْ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِهِ، وَحَدِيثُ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ الَّذِي ذَكَرْنَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَى هَذَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَصَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ: تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَامَّةُ أَصْحَابِنَا يَحْتَجُّونَ بِهَذَا فِي الْغُلُولِ، وَهُوَ بَاطِلٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَنْكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَلَا أَصْلَ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ سَالِمًا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَصَحَّحَ أَبُو دَاوُدَ وَقْفَهُ، فَرَوَاهُ مَوْقُوفًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ كَمَا قَدَّمْنَا، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الَّذِي ذَكَرْنَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي إِسْنَادِهِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ هُوَ الْخُرَاسَانِيُّ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : رِوَايَةُ أَهْلِ الشَّامِ عَنْهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ، فَضُعِّفَ بِسَبَبِهَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَحْمَدَ: كَانَ زُهَيْرٌ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ الشَّامِيُّونَ آخَرَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدَّثَ بِالشَّامِ مِنْ حِفْظِهِ فَكَثُرَ غَلَطُهُ. اهـ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُقَالُ إِنَّهُ غَيْرُ الْخُرَاسَانِيِّ، وَإِنَّهُ مَجْهُولٌ. اهـ، وَقَدْ عَلِمْتَ فِيمَا قَدَّمْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 عَنْ أَبِي دَاوُدَ، أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا عَلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ وَقْفَهُ هُوَ الرَّاجِحُ. وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُحْرَقُ رَحْلُهُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْرِقْ رَحْلَ غَالٍّ، وَبِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ، فَيُخَمِّسُهُ، وَيُقَسِّمُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: «أَسَمِعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟» فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ» ، هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنِ الْغَالِّ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِحَرْقِ مَتَاعِهِ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ حَرْقٍ رَحْلِ الْغَالِّ أَقْوَى، وَهُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، قَالَ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهُ حُرِقَ وَتُرِكَ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَتْلُ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَيْسَ بِحَدٍّ، وَلَا مَنْسُوخٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْزِيرٌ يَتَعَلَّقُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ. اهـ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْجَحُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا عُلِمَ فِي الْأُصُولِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا لَوْ سَرَقَ وَاحِدٌ مِنَ الْغَانِمِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ، أَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مِنْهَا قَبْلَ الْقَسْمِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَجُلُّ أَصْحَابِهِ: يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْمِلْكِ لَا يَكُونُ بِإِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، بَلْ بِالْقَسْمِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ - إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِلزِّنَى وَلَا لِلسَّرِقَةِ ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بَعْضَ الْغَنِيمَةِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، وَبَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا يَقُولُ: إِنْ وَلَدَتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالزِّنَى، فَقَالَ: لَا يُحَدُّ لِلزِّنَى، وَيُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمَوَّازِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُجَاهِدِينَ قَبْلَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، هَلْ يُورَثُ عَنْهُ نُصِيبُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ حَضَرَ الْقِتَالَ: وُرِّثَ عَنْهُ نُصِيبُهُ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ فَلَا سَهْمَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً، أَوْ قَسَمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا شَيْءَ لَهُ ; لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا عِنْدَهُ إِلَّا بِذَلِكَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا يُدَرَّبُ قَاصِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَبْلُ أَوْ بَعْدُ، أُسْهِمَ لَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنْ مَاتَ قَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ فَلَا سَهْمَ لَهُ ; لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ مَاتَ حَالَ الْقِتَالِ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَسَهْمُهُ لِوَرَثَتِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ بِحَدِّ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لِلْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ، وَحُكْمَهُ بِإِرْثِ نَصِيبِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ إِنْ حَضَرَ الْقِتَالَ يَدُلُّ عَلَى تَقَرُّرِ الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ حُضُورِ الْقِتَالِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَصَحُّ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا: أَنَّهُ لَا يُقَسَّمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَمَّا سَأَلَهُ نَجْدَةُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ. مِنْهَا: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُمْ بِسَهْمٍ؟ فَيَكْتُبُ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ. الْحَدِيثَ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَيَجِبُ حَمْلُ مَا وَرَدَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ النِّسَاءَ يُسْهَمُ لَهُنَّ عَلَى الرَّضْخِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «يُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ «يُحْذَيْنَ» ، هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ يُعْطَيْنَ تِلْكَ الْعَطِيَّةَ، وَتُسَمَّى الرَّضْخَ، وَفِي هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وَلَا تَسْتَحِقُّ السَّهْمَ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إِنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ، أَوْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا رَضْخَ لَهَا، وَهَذَانَ الْمَذْهَبَانِ مَرْدُودَانِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ اهـ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ، لَا مِنَ الْمَغَانِمِ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ: حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ، فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا، قَالَ: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ، الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ "، يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: الرَّهْطُ، قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: قَدِيرٌ [59 \ 6] ، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهُ، وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ، أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لَعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ: أُنْشِدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ: فَتَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا مَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي، وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ: جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ اهـ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي " الصَّحِيحِ " فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْحَدِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 تَصْرِيحُ عُمَرَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءٍ بَنِي النَّضِيرِ، وَتَصْدِيقُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْرَجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ نَفَقَةَ أَهْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مِنَ الْفَيْءِ، لَا مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ " مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ "، فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا ذَكَرْتُمْ، وَبَيْنَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا: بَنُو النَّضِيرِ، وَخَيْبَرُ، وَفَدَكُ ; فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكُ فَكَانَتْ حَبْسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْئَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ، فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. فَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ; لِأَنَّ " فَدَكَ " وَنَصِيبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ " خَيْبَرَ " كِلَاهُمَا فَيْءٌ كَمَا قَدَّمْنَا عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ الْوَاضِحَةَ، وَكَذَلِكَ " بَنُو النَّضِيرِ "، فَالْجَمِيعُ فَيْءٌ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، فَحُكْمُ الْكُلِّ وَاحِدٌ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ، وَفَدَكَ، وَصَدَقَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ. فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، وَأَمَّا خَيْبَرُ، وَفَدَكُ فَأَمْسَكَهُمَا عُمَرُ، وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ، وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ، قَالَ: فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ صَدَقَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْتَصُّ بِمَا كَانَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَأَمَّا سَهْمُهُ مِنْ خَيْبَرَ، وَفَدَكَ فَكَانَ حُكْمُهُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقَدِّمُ نَفَقَةَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يَصْرِفُهُ فَيَصْرِفُهُ مِنْ خَيْبَرَ، وَفَدَكَ، وَمَا فَضُلَ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ فِي الْمَصَالِحِ، وَعَمِلَ عُمَرُ بَعْدَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ تَصَرَّفَ فِي فَدَكَ بِحَسَبِ مَا رَآهُ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ مِقْسَمٍ، قَالَ: جَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَنِي مَرْوَانَ، فَقَالَ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ مِنْ فَدَكَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَيُزَوِّجُ أَيِّمَهُمْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وَإِنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهَا فَأَبَى، وَكَانَتْ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ثُمَّ أُقْطِعَهَا مَرْوَانُ؛ يَعْنِي فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا أَقْطَعَ عُثْمَانُ " فَدَكَ " لِمَرْوَانَ ; لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، فَاسْتَغْنَى عُثْمَانُ عَنْهَا بِأَمْوَالِهِ، فَوَصَلَ بِهَا بَعْضَ قَرَابَتِهِ، وَيَشْهَدُ لِصَنِيعِ أَبِي بَكْرٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظِ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي، وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ". فَقَدْ عَمِلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي قَامَ لَهُمَا. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَيْءَ " بَنِي النَّضِيرِ " تَدْخُلُ فِيهِ أَمْوَالِ " مُخَيْرِيقَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَهُودِيًّا مِنْ " بَنِي قَيْنُقَاعَ " مُقِيمًا فِي بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ، قَالَ لِلْيَهُودِ: " أَلَا تَنْصُرُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ نُصْرَتَهُ حَقٌّ عَلَيْكُمْ "، فَقَالُوا: الْيَوْمُ يَوْمُ السَّبْتَ، فَقَالَ: لَا سَبْتَ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَمَضَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: أَمْوَالِي إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ حَوَائِطَ بِبَنِي النَّضِيرِ وَهِيَ " الْمِيثَبُ "، " وَالصَّائِفَةُ "، " وَالدَّلَالُ "، " وَحُسْنَى "، " وَبَرْقَةُ "، " وَالْأَعْوَافُ "، " وَمَشْرَبَةُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ ". وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ " الْمِيثَرُ " بَدَلَ " الْمِيثَبُ "، " وَالْمِعْوَانُ " عِوَضَ " الْأَعْوَافِ " وَزَادَ " مَشْرَبَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ " الَّذِي يُقَالُ لَهُ " مَهْرُوزٌ ". وَسُمِّيَتْ " مَشْرَبَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ " ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تَسْكُنُهَا " مَارِيَةُ "، قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَغَازِي، وَعَدَّ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي " مُخَيْرِيقَ " الْمَذْكُورَ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، حَيْثُ قَالَ فِي سَرْدِهِمْ: [الرَّجَزُ] وَذُو الْوَصَايَا الْجَمُّ لِلْبَشِيرِ ... وَهُوَ مُخَيْرِيقُ بَنِي النَّضِيرِ وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا مُشِيرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، كَمَا عُلِمَ فِي الْأُصُولِ، فَتَدُلُّ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ عَدَمِ الثَّبَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 أَمَامَ الْكَفَّارِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ [8 \ 15] ، إِلَى قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [8 \ 16] ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَضْيَقِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ وَقْتُ الْتِحَامِ الْقِتَالِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي لَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الضِّيقِ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ فِي حُبِّهِ لَا يَنْسَى مَحْبُوبَهُ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ. قَالَ عَنْتَرَةُ فِي مُعَلَّقَتِهِ: [الْكَامِلُ] وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ ... مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي وَقَالَ الْآخَرُ: ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهَلَتْ فِينَا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ تَنْبِيهٌ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ «لَعَلَّ» فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [129] ، فَهِيَ بِمَعْنَى «كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَفْظَةُ «لَعَلَّ» قَدْ تَرِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَادًا بِهَا التَّعْلِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الطَّوِيلُ] فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوثَقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلَا مُتَأَلِّقِ فَقَوْلُهُ «لَعَلَّنَا نَكُفُّ» يَعْنِي: «لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ» ، وَكَوْنُهَا لِلتَّعْلِيلِ لَا يُنَافِي «مَعْنَى التَّرَجِّي» ; لِأَنَّ وُجُودَ الْمَعْلُولِ يُرْجَى عِنْدَ وُجُودِ عِلَّتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الْآيَةَ. نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ التَّنَازُعِ، مُبَيِّنًا أَنَّهُ سَبَبُ الْفَشَلِ، وَذَهَابُ الْقُوَّةِ، وَنَهَى عَنِ الْفُرْقَةِ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [3 \ 103] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [8 \ 46] ، أَيْ: قَوَّتُكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَصْرُكُمْ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: الرِّيحُ لِفُلَانٍ؛ إِذَا كَانَ غَالِبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الْوَافِرُ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةِ سُكُونُ وَاسْمُ «إِنَّ» ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الرِّيحُ: الدَّوْلَةُ، شُبِّهَتْ فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا، وَتَمَشِّيهِ بِالرِّيحِ فِي هُبُوبِهَا، فَقِيلَ: هَبَّتْ رِيَاحُ فُلَانٍ، إِذَا دَالَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ، وَنَفَذَ أَمْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الْبَسِيطُ] يَا صَاحِبَيَّ أَلَا لَا حَيَّ بِالْوَادِي ... إِلَّا عَبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أَذْوَادِي أَتَنْظُرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أَمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ غَرَّ الْكُفَّارَ، وَخَدَعَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا غَالِبَ لَكُمْ وَأَنَا جَارٌ لَكُمْ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُمْ فِي صُورَةِ «سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ» سَيِّدِ بَنِي مُدْلِجِ بْنِ بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَقَالَ لَهُمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مُجِيرُهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [8 \ 48] ، عِنْدَمَا رَأَى الْمَلَائِكَةَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، فَكَانَ حَاصِلُ أَمْرِهِ أَنَّهُ غَرَّهُمْ، وَخَدَعَهُمْ حَتَّى أَوْرَدَهُمُ الْهَلَاكَ، ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ. وَهَذِهِ هِيَ عَادَةُ الشَّيْطَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ الْآيَةَ [59 \ 16] . وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [14 \ 22] ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ. وَكَقَوْلِهِ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120] ، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الْبَسِيطُ] سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحِينِهِمُ لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْأَمْرِ مَا سَارُوا دَلَّاهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ إِنَّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَلَّاهُ غَرَّارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِسَبَبِ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [13 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [42 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [4 \ 79] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ [8 \ 64] ، فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالْعَطْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُكَ أَيْضًا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْحَسَنُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ بِالْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: حَسْبَكَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: حَسْبَكَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيكَ وَكَافِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَصَدَّرَ بِهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى كَافِيكَ اللَّهُ، وَكَافِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِقْرَاءِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْحَسْبَ وَالْكِفَايَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [9 \ 59] ، فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] ، وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَ الْحَسْبَ مُخْتَصًّا بِهِ وَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [39 \ 36] ؟ فَخَصَّ الْكِفَايَةَ الَّتِي هِيَ الْحَسْبُ بِهِ وَحْدَهُ، وَتَمَدَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [65 \ 3] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [8 \ 62] ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتَّأْيِيدِ، فَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، وَجَعَلَ التَّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِعِبَادِهِ. وَقَدْ أَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنْ عِبَادِهِ حَيْثُ أَفْرَدُوهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 بِالْحَسْبِ، فَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [3 \ 173] وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ الْآيَةَ [9 \ 129] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فِيهِ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» : [الرَّجَزُ] وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى ضَمِيرِ خَفْضٍ لَازِمًا قَدْ جُعِلَا فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ صَحَّحُوا جَوَازَ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» : [الرَّجَزُ] وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا إِذْ قَدْ أَتَى ... فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحِيحِ مُثْبَتَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي «سُورَةِ النِّسَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [127] شَوَاهِدَهُ الْعَرَبِيَّةَ، وَدَلَالَةَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [4 \ 1] . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَحَلِّ ; لِأَنَّ الْكَافِ مَخْفُوضٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ ; إِذْ مَعْنَى حَسْبَكَ: يَكْفِيكَ، قَالَ فِي «الْخُلَاصَةِ» : [الرَّجَزُ] وَجَرُّ مَا يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ ... رَاعَى فِي الِاتْبَاعِ الْمَحَلَّ فَحَسَنْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: نَصْبُهُ بِكَوْنِهِ مَفْعُولًا مَعَهُ، عَلَى تَقْدِيرِ ضَعْفِ وَجْهِ الْعَطْفِ، كَمَا قَالَ فِي «الْخُلَاصَةِ» : [الرَّجَزُ] وَالْعَطْفُ إِنْ يُمْكِنْ بِلَا ضَعْفٍ أَحَقْ وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ لَدَى ضَعْفِ النَّسَقْ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ وَمَنْ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَسْبُهُمُ اللَّهُ أَيْضًا، فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. لَمْ يُعَيِّنْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 الْكَرِيمَةِ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَرْحَامِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهَا أَوْ لَا، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا بَيَّنَتْهَا آيَاتُ الْمَوَارِيثِ، كَمَا قَدَّمْنَا نَظِيرَهُ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [4 \ 7] . قَالُوا: فَلَا إِرْثَ لِأَحَدٍ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ غَيْرُ مَنْ عُيِّنَتْ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُوا: الْبَاقِي عَنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى إِرْثِهِمْ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يَضْعُفُ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ، لِمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنِ الشَّامِيِّينَ قَوِيَّةٌ، وَشَيْخُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ هَذَا شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ بِالتَّحْدِيثِ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ فِيهِ لِينٌ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ» يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّرِكَةِ حَقٌّ لِغَيْرِ مَنْ عُيِّنَتْ لَهُمْ أَنْصِبَاؤُهُمْ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ: الْمُرَادُ بِذَوِي الْأَرْحَامِ الْعُصْبَةُ خَاصَّةً، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، يَعْنُونَ قَرَابَةَ الْأَبِ دُونَ قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَتِيلَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَوْ بِنْتِ النَّضْرِ بِنْتِ الْحَارِثِ: [الْكَامِلُ] ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ ... تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ فَأَطْلَقَتِ الْأَرْحَامَ عَلَى قَرَابَةِ بَنِي أَبِيهِ، وَالْأَظْهَرُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِذَوِي الْأَرْحَامِ الْقُرَبَاءُ، الَّذِينَ بُيِّنَتْ حُقُوقُهُمْ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا. وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ قَالَ: لَا يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ، بِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ إِلَى قُبَاءَ يَسْتَخِيرُ فِي مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: «لَا مِيرَاثَ لَهُمَا» ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، فِي الْمَرَاسِيلِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءٍ، مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 «سُنَنِهِ» ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، مِنْ مُرْسَلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَطَاءٍ، وَرَدَّ الْمُخَالِفُ هَذَا بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ: الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ، وَبِأَنَّهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَصْلِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: مِنْ رِوَايَةِ ضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ أَبِي نُعَيْمٍ. وَالثَّانِيَةُ: مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدٍ، مَرْفُوعًا. وَقَالَ مُحَشِّيهِ، صَاحِبُ «الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ» فِي ضِرَارٍ الْمَذْكُورِ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ، وَعَزَا ذَلِكَ لِلنَّسَائِيِّ، وَعَزَا تَكْذِيبَهُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ. وَقَالَ فِي ابْنِ أَبِي نَمِرٍ: فِيهِ كَلَامٌ يَسِيرٌ، وَفِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، وَلَا ذِكْرَ لَهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ ضِرَارَ بْنَ صُرَدٍ مَتْرُوكٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ صَدُوقٌ لَهُ بَعْضُ أَوْهَامٍ لَا تُوجِبُ تَرْكَهُ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ وَخَطَأٌ، وَرُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ، وَكَانَ عَارِفًا بِالْفَرَائِضِ. وَأَمَّا ابْنُ أَبِي نَمِرٍ: فَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ. وَأَمَّا إِسْنَادُ الْحَاكِمِ: فَقَالَ فِيهِ الشَّوْكَانِيُّ، فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : إِنَّهُ ضَعِيفٌ وَقَالَ فِي إِسْنَادِ الطَّبَرَانِيِّ: فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، قُلْتُ: قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : مَقْبُولٌ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا، قَالُوا: وَصَلَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَيُجَابُ: بِأَنَّهُ ضَعَّفَهُ بِمَسْعَدَةَ بْنِ الْيَسَعِ الْبَاهِلِيِّ. قَالُوا: وَصَلَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَحَّحَهُ. وَيُجَابُ: بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالُوا: رَوَى لَهُ الْحَاكِمُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدٍ، مَرْفُوعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وَيُجَابُ: بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ الشَّاذَكُونِيَّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. قَالُوا: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شَرِيكٍ. وَيُجَابُ: بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ الطُّرُقُ الْمَوْصُولَةُ وَالْمُرْسَلَةُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَصْلُحُ مَجْمُوعُهَا لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ مِنْهَا مَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، كَالطَّرِيقِ الَّتِي صَحَّحَهَا الْحَاكِمُ، وَتَضْعِيفُهَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ: فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. اهـ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيِّ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مَوْلَى لِقُرَيْشٍ كَانَ قَدِيمًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ مُوسَى، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا صَلَّى الظَّهْرَ، قَالَ: «يَا يَرْفَأُ» ، هَلُمَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ - لِكِتَابٍ كَتَبَهُ فِي شَأْنِ الْعَمَّةِ - فَنَسْأَلَ عَنْهَا، وَنَسْتَخْبِرَ عَنْهَا، فَأَتَاهُ بِهِ «يَرْفَأُ» فَدَعَا بِتَوْرٍ أَوْ قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَمَحَا ذَلِكَ الْكِتَابَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَكَ اللَّهُ أَقَرَّكَ، لَوْ رَضِيَكَ اللَّهُ أَقَرَّكَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ: كَثِيرًا يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تَرِثُ وَلَا تُورَثُ، وَالْجَمِيعُ فِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا بَيَانَ لِلْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا، فَأَوْجِبُوا الْمِيرَاثَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ. وَضَابِطُهُمْ: أَنَّهُمُ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَهُمْ وَلَا تَعْصِيبَ. وَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ حَيِّزًا: 1 - أَوْلَادُ الْبَنَاتِ. 2 - وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ. 3 - وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ. 4 - وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ. 5 - وَالْعَمَّاتُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ. 6 - وَالْعَمُّ مِنَ الْأُمِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 7 - وَالْأَخْوَالُ. 8 - وَالْخَالَاتُ. 9 - وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ. 10 - وَالْجَدُّ أَبُو الْأُمِّ. 11 - وَكُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ، أَوْ بِأَبٍ أَعْلَى مِنَ الْجَدِّ. فَهَؤُلَاءِ، وَمَنْ أَدْلَى لَهُمْ يُسَمَّوْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ وَارِثٌ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ إِلَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَلْقَمَةُ، وَمَسْرُوقٌ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَغَيْرُهُمْ. نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [8 \ 75] ، وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ، وَمِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ، وَأَرِثُهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ وَيَرِثُهُ» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ، وَحَسَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَأَعَلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالِاضْطِرَابِ، وَنُقِلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ قَوِيٌّ، قَالَهُ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إِلَّا خَالٌ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ بِالِاضْطِرَابِ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وَالْبَيْهَقِيُّ وَقْفَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ أَرْسَلَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَائِشَةَ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: أَحْسَنُ إِسْنَادٍ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كُلُّهَا مَرْفُوعَةٌ. اهـ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَإِلَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا: وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا عِنْدِي، أَنَّ الْخَالَ يَرِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ; لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَعُمُومُ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ» كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ، وَحُجَجَهُمْ فِي إِرْثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَعَدَمِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّوْرِيثِ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَذَهَبَ الْمَعْرُوفُونَ مِنْهُمْ بِأَهْلِ التَّنْزِيلِ إِلَى تَنْزِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُدْلِي بِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ، فَيُجْعَلُ لَهُ نَصِيبُهُ، فَإِنْ بَعُدُوا نَزَلُوا دَرَجَةً دَرَجَةً، إِلَى أَنْ يَصِلُوا مَنْ يُدْلُونَ بِهِ، فَيَأْخُذُونَ مِيرَاثَهُ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخَذَ الْمَالَ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ مَنْ يُدْلُونَ بِهِ، فَمَا حَصَلَ لِكُلِّ وَارِثٍ جُعِلَ لِمَنْ يُدْلِي بِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ، رُدَّ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَنُعَيْمٍ، وَشَرِيكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ ; كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا نَزَّلَا بِنْتَ الْبِنْتِ مَنْزِلَةَ الْبِنْتِ، وَبِنْتَ الْأَخِ مَنْزِلَةَ الْأَخِ، وَبِنْتَ الْأُخْتِ مَنْزِلَةَ الْأُخْتِ، وَالْعَمَّةَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ، وَالْخَالَةَ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَمَّةِ، وَالْخَالَةِ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: أَنَّهُ نَزَّلَ الْعَمَّةَ مَنْزِلَةَ الْعَمِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّهُمَا نَزَّلَاهَا مَنْزِلَةَ الْجَدِّ مَعَ وَلَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَنَزَّلَهَا آخَرُونَ مَنْزِلَةَ الْجَدَّةِ. وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْعَمَّةِ ; لِأَنَّهَا أَدْلَتْ بِأَرْبَعِ جِهَاتٍ وَارِثَاتٍ: فَالْأَبُ وَالْعَمُّ أَخَوَاهَا، وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ أَبَوَاهَا، وَنَزَّلَ قَوْمَ الْخَالَةِ مَنْزِلَةَ جَدَّةٍ ; لِأَنَّ الْجَدَّةَ أُمُّهَا، وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ تَنْزِيلُ الْعَمَّةِ أَبًا، وَالْخَالَةِ أُمًّا. اهـ. مِنَ «الْمُغْنِي» . وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِمَّنْ قَالَ بِالتَّوْرِيثِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُمْ يُوَرَّثُونَ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، فَقَالُوا: يُقَدَّمُ أَوْلَادُ الْمَيِّتِ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَوْلَادُ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَوْلَادُ أَبَوَيْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَهَكَذَا أَبَدًا لَا يَرِثُ بَنُو أَبٍ أَعْلَى وَهُنَاكَ بَنُو أَبٍ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ جَعَلَ أَبَا الْأُمِّ، وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَيُسَمَّى مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ: مَذْهَبَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ التَّوْبَةِ اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي سُورَةِ «بَرَاءَةٌ» ، هَذِهِ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ مِنْهَا عَلَى أَقْوَالٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ رَحْمَةٌ وَأَمَانٌ وَ «بَرَاءَةٌ» نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ، فَلَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا كَتَبُوا كِتَابًا فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَسْقَطُوا مِنْهُ الْبَسْمَلَةَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَقْرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ، قَرَأَهَا، وَلَمْ يُبَسْمِلْ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي شَأْنِ نَقْضِ الْعَهْدِ، نَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفُوا: هَلْ «بَرَاءَةٌ» وَ «الْأَنْفَالُ» سُورَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ سُورَتَانِ، تَرَكُوا بَيْنَهُمَا فَرْجَةً لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا سُورَتَانِ، وَتَرَكُوا الْبَسْمَلَةَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، فَرَضِيَ الْفَرِيقَانِ وَثَبَتَتْ حُجَّتَاهُمَا فِي الْمُصْحَفِ. وَمِنْهَا: أَنَّ سُورَةَ «بَرَاءَةٌ» نُسِخَ أَوَّلُهَا فَسَقَطَتْ مَعَهُ الْبَسْمَلَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَعَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ «الْبَقَرَةِ» . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا فِيهَا. قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ سَبَبَ سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، هُوَ مَا قَالَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ. فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، فِي «صَحِيحِهِ» وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 مِنَ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِائِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [1 \ 1] وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا» ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» ، وَكَانَتِ «الْأَنْفَالُ» مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَ «بَرَاءَةٌ» مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [1 \ 1] ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ. اهـ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْتِيبَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِلَا شَكٍّ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَيْضًا: أَنَّ تَرْتِيبَ سُوَرِهِ بِتَوْقِيفٍ أَيْضًا، فِيمَا عَدَا سُورَةِ «بَرَاءَةٌ» ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ: أَلَا تَرَى إِلَى عُثْمَانَ وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا إِلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ «بَرَاءَةٌ» شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ «الْأَنْفَالِ» فَأَلْحَقُوهَا بِهَا، فَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ يَدْخُلُ فِي تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ الْمُعَاهَدِينَ، وَأَنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَشْهُرِ الْإِمْهَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [9 \ 2] ، لَا عَهْدَ لِكَافِرٍ. وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالَّذِي يُبَيِّنُهُ الْقُرْآنُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، هُوَ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَصْحَابِ الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُوَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مَنْ كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ الْمُوَقَّتِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَتَكْمُلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَمَّا أَصْحَابُ الْعُهُودِ الْمُوَقَّتَةِ الْبَاقِي مِنْ مُدَّتِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُمْ إِتْمَامُ مُدَّتِهِمْ، وَدَلِيلُهُ الْمُبَيِّنُ لَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 [9 \ 4] ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ حِينَ أُنْزِلَتْ «بَرَاءَةٌ» بِأَرْبَعٍ: أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. \ 5 وَلَا يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ. وَلَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ بِالْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ شَوَّالٍ، وَآخِرُهُ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِعْلَامِ الْمَذْكُورِ مِنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَلَا يَخْفَى انْتِهَاؤُهَا فِي الْعَشْرِ مِنْ رَبِيعٍ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ شَوَّالٍ، وَآخِرُهُ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ، وَكَيْفَ يُحَاسَبُونَ بِمُدَّةٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حُكْمُهَا، وَإِنَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَمْرُهَا يَوْمَ النَّحْرِ، حِينَ نَادَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ. يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ جَازَ قِتَالُهُمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [9 \ 7] ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ فِي الْآيَتَيْنِ صَرَّحَ بِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [9 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْآيَةَ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى. مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [9 \ 36] ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: آخِرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حَقِّهِمُ الْمُحَرَّمُ، وَحَكَى نَحْوَ قَوْلِهِ هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ. وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَشْهُرُ الْإِمْهَالِ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقُ، مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [9 \ 5] ، أَيْ: إِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ قِتَالَهُمْ فِيهَا، وَأَجَّلْنَاهُمْ فِيهَا، فَحَيْثُمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ; لِأَنَّ عَوْدَ الْعَهْدِ عَلَى مَذْكُورٍ أَوْلَى مِنْ مُقَدَّرٍ، مَعَ أَنَّ الْأَشْهُرَ الْأَرْبَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ سَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ الْآيَةَ [60 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [47 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [9 \ 40] ، وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: مُحَاوَلَتَهُمْ لِإِخْرَاجِهِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوهُ، كَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [8 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ الْآيَةَ. نَهَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ كَانُوا قُرَبَاءَ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: بِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ مَانِعٌ مِنْ مُوَادَّةِ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانُوا قُرَبَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الْآيَةَ [58 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وُلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَذَكَرَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ بِقَوْلِهِ: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [3 \ 153] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ تَابَ عَلَى مَنْ تَوَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [3 \ 155] ، وَأَشَارَ هُنَا إِلَى تَوْبَتِهِ عَلَى مَنْ تَوَلَّى يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [9 \ 26] كَمَا أَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا لِلصَّوَابِ فِي مَعْنَى: يَكْنِزُونَ [9 \ 34] فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِكَنْزِهِمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَعَدَمِ إِنْفَاقِهِمْ لَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمَا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَمَّا الْكَنْزُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَحْوَهُ: أَيُّمَا مَالٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَأَيُّمَا مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ اهـ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ ; لِأَنَّ مَنْ أَدَّى الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ لَا يُكْوَى بِالْبَاقِي إِذَا أَمْسَكَهُ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [9 \ 103] ، وَلِأَنَّ الْمَوَارِيثَ مَا جُعِلَتْ إِلَّا فِي أَمْوَالٍ تَبْقَى بَعْدَ مَالِكِيهَا. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ، حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ أَخِي بَنِي سَعْدٍ، مِنْ هَوَازِنَ، وَهُوَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ لَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ، وَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهُ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» : وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [2 \ 219] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي «الْبَقَرَةِ» تَحْقِيقًا أَنَّهُ مَا زَادَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 عَلَى الْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» الْحَدِيثَ ; لِأَنَّ صَدَقَةً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ نَفْيَ كُلِّ صَدَقَةٍ. وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ: مِنْهَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الزَّكَاةِ كَقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ. اهـ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَنْزٌ، وَمَذْهَبُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَدَّخِرَ شَيْئًا فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ادِّخَارَ مَا أُدِّيَتَ حُقُوقُهُ الْوَاجِبَةُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ كَالضَّرُورِيِّ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيَّتَانِ، صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» اهـ. وَمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيَّةٌ» ، ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيَّتَانِ» ، وَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَبًّا لِلذَّهَبِ، تَبًّا لِلْفِضَّةِ» يَقُولُهَا ثَلَاثًا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: فَأَيَّ مَالٍ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أَصْحَابَكَ قَدْ شُقَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: فَأَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ: «لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا شَاكِرًا وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ» . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. فَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا التَّغْلِيظَ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَدَتْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ آثَارٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مَجْمُوعٍ يَفْضُلُ عَنِ الْقُوتِ وَسَدَادِ الْعَيْشِ، فَهُوَ كَنْزٌ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَأَنَّ آيَةَ الْوَعِيدِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَحَمَلُوا الْوَعِيدَ عَلَى مَانِعِ الزَّكَاةِ، إِلَى أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الشِّدَّةُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ يُرَخِّصُ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَسْمَعُ الرُّخْصَةَ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ فِي خُصُوصِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهَا مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الْآيَةَ [9 \ 34] . فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَأَنَّهَا فِي مَنْ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي آيَاتِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، أَنَّ الْبَيَانَ بِالْقُرْآنِ إِذَا كَانَ غَيْرَ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ نُتَمِّمُ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ الْمُبَيَّنِ بِهِ، وَآيَاتُ الزَّكَاةِ كَقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَآتُوا الزَّكَاةَ [2 \ 43] وَقَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [2 \ 267] ، لَا تَفِي بِالْبَيَانِ فَتُبَيِّنُهُ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ الْمَالِكِيُّ، تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: زَكَاةَ الْعَيْنِ، وَهِيَ تَجِبُ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ، حُرِيَّةٍ، وَإِسْلَامٍ، وَحَوْلٍ، وَنِصَابٍ سَلِيمٍ مِنَ الدَّيْنِ. اهـ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ خِلَافٌ. مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَدْرِ نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَفِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ مِنْهُمَا. أَمَّا نِصَابُ الْفِضَّةِ، فَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ شَرْعِيٍّ، وَوَزْنُ الدِّرْهَمِ الشَّرْعِيُّ سِتَّةُ دَوَانِقَ، وَكُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا شَرْعِيًّا. وَكُلُّ هَذَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْمَرِيسِيِّ، الَّذِي خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِي الدَّرَاهِمِ لَا الْوَزْنِ، وَلَا بِمَا انْفَرَدَ بِهِ السَّرَخْسِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، زَاعِمًا أَنَّهُ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، مِنْ أَنَّ الدَّارِهِمَ الْمَغْشُوشَةَ إِذَا بَلَغَتْ قَدْرًا لَوْ ضُمَّ إِلَيْهِ قِيمَةُ الْغِشِّ مِنْ نُحَاسٍ مَثَلًا لَبَلَغَ نِصَابًا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ، كَمَا نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا بِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ الْأَنْدَلُسِيِّ، إِنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِهِمْ، وَلَا بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَزْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَرَاهِمِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَرَاهِمِ الْبِلَادِ ; لِأَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الصَّرِيحَةَ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ شَرْعِيٍّ بِالْوَزْنِ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا فِي مَكَّةَ. اهـ. إِلَى ص 435 وَكُلُّ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَهِيَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، عَلَى أَنَّ الْأُوقِيَّةَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ - مِنْ أَنَّ الدِّرْهَمَ كَانَ مَجْهُولًا قَدْرُهُ حَتَّى جَاءَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ فَجَعَلُوا كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ - لَا يَخْفَى سُقُوطَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نِصَابُ الزَّكَاةِ وَقَطْعُ السَّرِقَةِ مَجْهُولًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى يُحَقِّقَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْوَزْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَدَدِ: فَعَشَرَةٌ مَثَلًا وَزْنُ عَشَرَةٍ، وَعَشَرَةٌ وَزْنُ ثَمَانِيَةٍ، فَاتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى أَنْ تُنْقَشَ بِكِتَابَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَيُصَيِّرُونَهَا وَزْنًا وَاحِدًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَحْقِيقَ وَزْنِ الدِّرْهَمِ فِي الْأَنْعَامِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُغْتَفَرُ فِي نِصَابِ الْفِضَّةِ النَّقْصُ الْيَسِيرُ الَّذِي تَرُوجُ مَعَهُ الدَّرَاهِمُ رَوَاجَ الْكَامِلَةِ. وَظَاهِرُ النُّصُوصِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ إِلَّا فِي نِصَابٍ كَامِلٍ ; لِأَنَّ النَّاقِصَ وَلَوْ بِقَلِيلٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَرَّحَ بِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ فِيهِ صَدَقَةٌ» . فَإِذَا حَقَّقْتَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ: عَلَى أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ شَرْعِيٍّ، وَهِيَ وَزْنُ مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا رُبْعُ الْعُشْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» وَالرِّقَّةُ: الْفِضَّةُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ «زَكَاةِ الْغَنَمِ» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرِينِ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ، الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ» الْحَدِيثَ: وَفِيهِ، وَفِي الرِّقَّةِ: رُبُعُ الْعُشْرِ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 أَجْمَعَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ. فَتَحَصَّلَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ فِي أَنَّ نِصَابَهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ اللَّازِمَ فِيهَا رُبُعُ الْعُشْرِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّهَا لَا وَقْصَ فِيهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَفِيهَا دِرْهَمٌ. وَأَمَّا الذَّهَبُ: فَجَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّ نِصَابَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَالدِّينَارُ: هُوَ الْمِثْقَالُ، فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ شَذَّ وَخَالَفَ جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا، وَكَقَوْلِ طَاوُسٍ، إِنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ مُعْتَبَرٌ بِالتَّقْوِيمِ بِالْفِضَّةِ، فَمَا بَلَغَ مِنْهُ قِيمَةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَجَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَالْوَاجِبُ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ، مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، فِي سُنَنِهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَسُمِّيَ آخَرُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَإِذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ» يَعْنِي فِي الذَّهَبِ «حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» ، قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ فَبِحِسَابٍ ذَلِكَ، أَوْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، إِلَّا أَنَّ جَرِيرًا قَالَ: ابْنُ وَهْبٍ، يَزِيدُ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» اهـ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُضَعَّفٌ بِالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، وَعَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ ; لِأَنَّهُمَا ضَعِيفَانِ، وَبِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ، قَالَ: الصَّوَابُ وَقْفُهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَبِأَنَّ ابْنَ الْمَوَّاقِ قَالَ: إِنَّ فِيهِ عِلَّةً خَفِيَّةً وَهِيَ: أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ، لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ، فَقَدْ رَوَاهُ حُفَّاظُ أَصْحَابِ ابْنِ وَهْبٍ: سَحْنُونُ، وَحَرْمَلَةُ، وَيُونُسُ، وَبَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنٍ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، فَذَكَرَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّاقِ: الْحَمْلُ فِيهِ عَلَى سُلَيْمَانَ، شَيْخِ أَبِي دَاوُدَ، فَإِنَّهُ وَهِمَ فِي إِسْقَاطِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 رَجُلٍ اهـ. وَبِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَرِقِ صَدَقَةً، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةً، إِمَّا بِخَبَرٍ عَنْهُ لَمْ يَبْلُغْنَا، وَإِمَّا قِيَاسًا، اهـ: وَهُوَ صَرِيحٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الذَّهَبَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ فِي عِلْمِهِ، وَبِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ، قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَكَاةِ الذَّهَبِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْآحَادِ الثِّقَاتِ. لَكِنْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ، وَالْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَوْ صَحَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ مَتْرُوكٌ. وَبِأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ، وَلَا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ شَيْءٌ. وَذَكَرَ: أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ مَرْفُوعٌ، وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَكَذَّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ: وَأَمَّا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ، وَمَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ، مَوْقُوفًا: وَكَذَا كُلُّ ثِقَةٍ رَوَاهُ عَنْ عَاصِمٍ. فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَابِتٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رَوَى طَرَفًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ، اهـ. فَتَرَى التِّرْمِذِيَّ نَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، تَصْحِيحَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَأَمَّا حَدِيثُ عَاصِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَوْ صَحِيحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اهـ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، وَعَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدَهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الشَّوْكَانِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَضَدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ أَمَرَ مُعَاذًا، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا، الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فِي «التَّلْخِيصِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَبِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ شَيْءٌ» ، قَالَ النَّوَوِيُّ: غَرِيبٌ، اهـ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْمُنَاقَشَةُ بِحَسَبِ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ، فَنَقُولُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَارِثَ الْأَعْوَرَ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ، وَإِنْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، فَيَبْقَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ، الَّذِي رَوَى مَعَهُ الْحَدِيثَ، فَإِنَّ حَدِيثَهُ حُجَّةٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ. وَقَالَ: النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ السَّلُولِيُّ الْكُوفِيُّ، صَدُوقٌ وَتَعْتَضِدُ رِوَايَتُهُ بِرِوَايَةِ الْحَارِثِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا. وَبِمَا ذَكَرْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. فَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ تَضْعِيفَ الْحَدِيثِ بِضَعْفِ سَنَدِهِ مَرْدُودٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ التِّرْمِذِيِّ، أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: كِلَاهُمَا صَحِيحٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِيهِ: حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ. وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ، عَنِ ابْنِ حَجَرٍ: أَنَّهُ حَسَّنَهُ. أَمَّا مَا أَعَلَّهُ بِهِ ابْنُ الْمَوَّاقِ، مِنْ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ ; لِأَنَّ بَيْنَهُمَا الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ صَحِيحَةٍ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ، هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ، الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ. اهـ. فَتَرَى: أَنَّ أَبَا عَوَانَةَ، وَالْأَعْمَشَ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَغَيْرَهُمْ، كُلَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَبِهِ تَعْلَمُ بِأَنَّ إِعْلَالَ ابْنِ الْمَوَّاقِ لَهُ بِأَنَّ رَاوِيَهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ - إِعْلَالٌ سَاقِطٌ ; لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا حَقَّقْتَ رَدَّ تَضْعِيفِهِ بِأَنَّ عَاصِمًا صَدُوقٌ، وَرَدَّ إِعْلَالِ ابْنِ الْمَوَّاقِ لَهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ إِعْلَالَ ابْنِ حَزْمٍ لَهُ بِأَنَّ الْمَرْفُوعَ رِوَايَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 الْحَارِثِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ: وَأَنَّ رِوَايَةَ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، مَوْقُوفَةٌ عَلَى عَلِيٍّ، مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَدْرَ نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ، كِلَاهُمَا أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالْمَوْقُوفُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، كَمَا عُلِمَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ. قَالَ الْعَلَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي «طَلْعَةِ الْأَنْوَارِ» : وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ مِمَّا مُنِعْ فِيهِ مَجَالُ الرَّأْيِ عِنْدَهُمْ رُفِعْ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: [الرَّجَزُ] وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ بِحَيْثُ لَا يُقَالُ رَأْيًا حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ نَحْوَ مَنْ أَتَى فَالْحَاكِمُ الرَّفْعَ لِهَذَا أُثْبِتَا الثَّانِي: أَنَّ سَنَدَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي رَوَاهُ بِهِ حَسَنٌ، أَوْ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَالرَّفْعُ مِنْ زِيَادَاتِ الْعُدُولِ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزُ] وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزَيْدُ اللَّفْظِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ إِلَخْ. . . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: اعْتِضَادُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَنْ شَذَّ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا وَافَقَ خَبَرَ آحَادٍ، فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: يَصِيرُ بِمُوَاقَفَةِ الْإِجْمَاعِ لَهُ قَطْعِيًّا كَالْمُتَوَاتِرِ. وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ يَقُولُونَ: لَا يَصِيرُ قَطْعِيًّا بِذَلِكَ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ، فَقَالُوا: إِنْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُعْتَمَدَهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ هُوَ ذَلِكَ الْخَبَرُ - أَفَادَ الْقَطْعَ، وَإِلَّا فَلَا، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ] وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ مَا يُوَافِقُ الْإِجْمَاعَ وَالْبَعْضُ بِقَطْعٍ يَنْطِقُ وَبَعْضُهُمْ يُفِيدُ حَيْثُ عُوِّلَا عَلَيْهِ. . . . . . إِلَخْ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَعْتَضِدُ بِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ. الْخَامِسُ: دَلَالَةُ الْكِتَابِ، وَالْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذَّهَبِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [9 \ 34، 35] . وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَوَجْهُهُ، وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» ، الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ فِي الذَّهَبِ، كَالْفِضَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَنْ يَكُونُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَيَانًا لِشَيْءٍ ثَابِتٍ قَطْعًا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ بِمَا هُوَ دُونَ الْمُبَيَّنِ دَلَالَةً وَسَنَدًا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالَا، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ، كَالْفِضَّةِ، وَأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَيْسَ فِيهِمَا وَقْصٌ، بَلْ كُلُّ مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ فَبِحِسَابِهِ، خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ فَخَالَفَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ يَجِبُ اعْتِبَارُ الْوَزْنِ فِي نِصَابِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالْوَزْنِ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ، كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْكَيْلِ فِي خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ الَّتِي هِيَ نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ بِالْكَيْلِ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ النَّسَائِيُّ فِي «سُنَنِهِ» فِي «كِتَابِ الزَّكَاةِ» : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» فِي «كِتَابِ الْبُيُوعِ» : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا ابْنُ دُكَيْنٍ عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَأَمَّا حَدِيثُ «الْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ» إِلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: رُوِيَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 قَالَ الْخَطَابِيُّ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَزْنَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَبَحَثْتُ عَنْهُ غَايَةَ الْبَحْثِ مِنْ كُلِّ مَنْ وَثِقْتُ بِتَمْيِيزِهِ: وَكُلٌّ اتَّفَقَ لِي عَلَى أَنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً، وَثَلَاثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ الْمُطْلَقِ، وَالدِّرْهَمُ سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ، فَوَزْنُ الدِّرْهَمِ: سَبْعٌ وَخَمْسُونَ وَسِتَّةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ، وَعُشْرُ عُشْرِ حَبَّةٍ، فَالرَّطْلُ مِائَةٌ وَوَاحِدٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالدِّرْهَمُ الْمَذْكُورِ. اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ فِي مَادَّةِ «مَ كَ كَ» ، وَالْمِثْقَالُ: دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ، وَالدِّرْهَمُ: سِتَّةُ دَوَانِقَ، وَالدَّانِقُ: قِيرَاطَانِ، وَالْقِيرَاطُ: طَسُّوجَانِ، وَالطَّسُّوجُ: حَبَّتَانِ، وَالْحَبَّةُ: سُدُسُ ثُمُنِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّرْهَمِ. اهـ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى قَدْرِ خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يُضَمُّ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ أَوْ لَا؟ لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصًّا صَرِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَجَمَاعَةٍ، وَقَطَعَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا يُضَمُّ بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، قَالَ ابْنَ قُدَامَةَ: فِي " الْمُغْنِي ": وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يُضَمُّ بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ لِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ " الْحَدِيثَ. فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ الَّذِي هُوَ: الْفِضَّةُ، وَمَا يُكْمِلُ النِّصَابَ مِنَ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَا صَدَقَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 مِنَ الْوَرِقِ، وَظَاهِرُ نَصِّ الْحَدِيثِ عَلَى اسْمِ الْوَرِقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ: لَا زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ ذَهَبٌ كَثِيرٌ، وَلَا دَلِيلَ مِنَ النُّصُوصِ يَصْرِفُ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمَا، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْحُلِيَّ الْمُبَاحَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ: أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَدَاوُدُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَالزُّهْرِيِّ. وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمَا عَلَى الطُّرُقِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأُصُولِ، وَعِلْمِ الْحَدِيثِ ; لِيَتَبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ الرَّاجِحُ مِنَ الْخِلَافِ. اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحُلِيَّ الْمُبَاحَ لَا زَكَاةَ فِيهِ، تَنْحَصِرُ حُجَّتُهُ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: حَدِيثٌ جَاءَ بِذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: آثَارٌ صَحِيحَةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَعْتَضِدُ بِهَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ. الثَّالِثُ: الْقِيَاسُ. الرَّابِعُ: وَضْعُ اللُّغَةِ. أَمَّا الْحَدِيثُ: فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ مِنْ طَرِيقِ عَافِيَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ، إِنَّمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَالَّذِي يُرْوَى عَنْ عَافِيَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا لَا أَصْلَ لَهُ، وَعَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ مَجْهُولٌ: فَمَنِ احْتَجَّ بِهِ مَرْفُوعًا، كَانَ مُغَرَّرًا بِدِينِهِ، دَاخِلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فِيمَا نَعِيبُ بِهِ الْمُخَالِفِينَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ الْكَذَّابِينَ، وَاللَّهُ يَعْصِمُنَا مِنْ أَمْثَالِ هَذَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَا قَالَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِرِوَايَةِ عَافِيَةَ الْمَذْكُورِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا مِنْ جِنْسِ الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ الْكَذَّابِينَ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ عَافِيَةَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَحَدٌ إِنَّهُ كَذَّابٌ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ ظَنَّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى كَوْنِهِ ثِقَةً، وَقَدِ اطَّلَعَ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ فَوَثَّقَهُ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ تَوْثِيقَهُ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : عَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ، قِيلَ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا نَعْلَمُ فِيهِ جَرْحًا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ، مَجْهُولٌ، وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ تَوْثِيقَهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَجْهُولٌ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثِقَةٌ ; لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مُدَّعِي أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالتَّجْرِيحُ لَا يُقْبَلُ مَعَ الْإِجْمَالِ، فَعَافِيَةُ هَذَا وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَالتَّعْدِيلُ وَالتَّجْرِيحُ يَكْفِي فِيهِمَا وَاحِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرِّوَايَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: [الرَّجَزُ] وَصَحَّحُوا اكْتِفَاءَهُمْ بِالْوَاحِدِ ... جَرْحًا وَتَعْدِيلًا خِلَافَ الشَّاهِدِ وَالتَّعْدِيلُ يُقْبَلُ مُجْمَلًا ... بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَسْبَابِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: [الرَّجَزُ] وَصَحَّحُوا قَبُولَ تَعْدِيلٍ بِلَا ... ذِكْرٍ لِأَسْبَابٍ لَهُ أَنْ تَثْقُلَا وَلَمْ يَرَوْا قَبُولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا ... لِلْخُلْفِ فِي أَسْبَابِهِ وَرُبَّمَا اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ كَمَا ... فَسَّرَهُ شُعْبَةُ بِالرَّكْضِ فَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْأَثَرْ ... كَشَيْخَيِ الصَّحِيحِ مَعْ أَهْلِ النَّظَرْ إِلَخْ. . . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْبَيْهَقِيِّ فِي عَافِيَةَ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ أَوْلَى مِنْهُ بِالتَّقْدِيمِ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ ; لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَوْثِيقِ عَافِيَةَ الْمَذْكُورِ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ مَعَ سَعَةِ اطِّلَاعِهِ، وَشِدَّةِ بَحْثِهِ عَنِ الرِّجَالِ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِيهِ جَرْحًا. وَأَمَّا الْآثَارُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ: فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا لَهُنَّ الْحُلِيَّ، فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ» ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَنْ عَائِشَةَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، كَمَا تَرَى. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتِهِ وَجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ، ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ كَمَا تَرَى. وَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الزَّكَاةِ فِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَالُ يَتِيمَةٍ، وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ، كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ عَائِشَةَ تَرَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَالْمَانِعُ مِنْ إِخْرَاجِهَا الزَّكَاةَ، كَوْنُهُ حُلِيًّا مُبَاحًا عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا كَوْنُهُ مَالَ يَتِيمَةٍ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى أَنَّ الْمَانِعَ لِابْنِ عُمَرَ مِنْ زَكَاةِ الْحُلِيِّ أَنَّهُ لِجَوَارٍ مَمْلُوكَاتٍ، وَأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، مَرْدُودٌ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ لَا يُزَكِّي حُلِيَّ بَنَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُزَوِّجُ الْبِنْتَ لَهُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ يُحَلِّيهَا مِنْهَا بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَا يُزَكِّي ذَلِكَ الْحُلِيَّ، وَتَرْكُهُ لِزَكَاتِهِ لِكَوْنِهِ حُلِيًّا مُبَاحًا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمِنَ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، أَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحُلِيِّ، فَقَالَ «زَكَاتُهُ عَارِيَتُهُ» ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» ، وَابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ جَابِرٌ: كَثِيرٌ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْحُلِيِّ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتِهَا الذَّهَبَ وَلَا تُزَكِّيهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُلِيَّ لَمَّا كَانَ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، أُلْحِقَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْجَارِ النَّفِيسَةِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مُعَدٌّ لِلِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتَّنْمِيَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْإِلْحَاقِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ الْمَكْسُورُ الَّذِي يُرِيدُ أَهْلَهُ إِصْلَاحَهُ وَلُبْسَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ زَكَاةٌ، قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي اللُّؤْلُؤِ، وَلَا فِي الْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ زَكَاةٌ. الثَّانِي مِنْ وَجْهَيِ الْقِيَاسِ: هُوَ النَّوْعُ الْمَعْرُوفُ بِقِيَاسِ الْعَكْسِ، وَأَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِدْلَالِ: [الرَّجَزِ] مِنْهُ قِيَاسُ الْمَنْطِقِيِّ وَالْعَكْسْ ... وَمِنْهُ فَقْدُ الشَّرْطِ دُونَ لَبْسْ وَخَالَفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَبُولِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ، وَضَابِطُهُ: هُوَ إِثْبَاتُ عَكْسِ حُكْمِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ آخَرَ لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، وَمِثَالُهُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ ! قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟» الْحَدِيثَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَثْبَتَ فِي الْجِمَاعِ الْمُبَاحِ أَجْرًا، وَهُوَ حُكْمُ عَكْسِ حُكْمِ الْجِمَاعِ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ فِيهِ الْوِزْرَ ; لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الْأَجْرِ فِي الْأَوَّلِ إِعْفَافُ امْرَأَتِهِ وَنَفْسِهِ، وَعِلَّةَ الْوِزْرِ فِي الثَّانِي كَوْنُهُ زِنًى. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: احْتِجَاجُهُمْ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ مِنْ كَثِيرِ الْقَيْءِ، بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ مِنْ قَلِيلِهِ لَمْ يَجِبْ مِنْ كَثِيرِهِ عَكْسَ الْبَوْلِ لَمَّا وَجَبَ مِنْ قَلِيلِهِ وَجَبَ مِنْ كَثِيرِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَوْلُهُمْ: لَمَّا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ مِنْ صَغِيرِ الْمُثَقَّلِ، لَمْ يَجِبْ مِنْ كَبِيرِهِ عَكْسَ الْمُحَدَّدِ لَمَّا وَجَبَ مِنْ صَغِيرِهِ وَجَبَ مِنْ كَبِيرِهِ. وَوَجْهُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، هُوَ أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَجِبُ فِي عَيْنِهَا الزَّكَاةُ، فَإِذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ وَالنَّمَاءِ، وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ عَكْسَ الْعَيْنِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي عَيْنِهَا، فَإِذَا صِيغَتْ حُلِيًّا مُبَاحًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَانْقَطَعَ عَنْهَا قَصْدُ التَّنْمِيَةِ بِالتِّجَارَةِ، صَارَتْ لَا زَكَاةَ فِيهَا، فَتَعَاكَسَتْ أَحْكَامُهَا لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، وَمَنَعَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقِيَاسِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ: إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقِيَاسَ يَعْتَضِدُ بِهِ مَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَالْآثَارِ الثَّابِتَةِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، مِنْ أَنَّ مُوَافَقَةَ النَّصِّ لِلْقِيَاسِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، وَأَمَّا وَضْعُ اللُّغَةِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ فِي الصَّحِيحِ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ لَا تَشْمَلُ الْحُلِيَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الرِّقَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْوَرِقُ الْمَنْقُوشَةُ ذَاتُ السَّكَّةِ السَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا تُطْلِقُهَا الْعَرَبُ عَلَى الْمَصُوغِ، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي الْأُوقِيَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : الْوَرِقُ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ، وَكَذَلِكَ الرِّقَّةُ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ، وَفِي «الْقَامُوسِ» : الْوَرِقُ - مُثَلَّثَةٌ - وَكَكَتِفٍ: الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ، وَجَمْعُهُ أَوْرَاقٌ وَوِرَاقٌ كَالرِّقَّةِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ. وَمَا ادَّعَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فِيهِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ، وَالْحُجَّةُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ - مَالِكٌ - إِنَّمَا هِيَ فِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، لَا إِنِ اخْتَلَفُوا، أَوْ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَأَوْجَبْنَ حُجَيَّةً لِلْمَدَنِي فِيمَا ... عَلَى التَّوْقِيفِ أَمْرُهُ بُنِي وَقِيلَ: مُطْلَقًا. . إِلَخْ. لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمَدَنِيِّ: الْإِجْمَاعُ الْمَدَنِيُّ الْوَاقِعُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ، لَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَيَّدَهُ بِمَا بُنِيَ عَلَى التَّوْقِيفِ دُونَ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقَوْلِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحُلِيَّ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ: فَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ أَيْضًا: الْأَوَّلُ: أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ. الثَّانِي: آثَارٌ وَرَدَتْ بِذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. الثَّالِثُ: وَضْعُ اللُّغَةِ. الرَّابِعُ: الْقِيَاسُ. أَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِذَلِكَ، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» ، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ «الْمَعْنَى» أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ: ثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا:» أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ «قَالَتْ: لَا، قَالَ:» أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ ! «قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا، فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ» . وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَبِنْتٌ لَهَا، فِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ:» أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟ «قَالَتْ: لَا، قَالَ:» أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ ! «قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا، فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ حُسَيْنًا، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا بِنْتٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ، نَحْوَهُ، مُرْسَلٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: خَالِدٌ أَثْبَتُ مِنَ الْمُعْتَمِرِ. اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْحُسْنُ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ التِّرْمِذِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ شَيْءٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِرِوَايَةِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ لَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، بَلْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، وَقَدْ تَابَعَهُمَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَالْجَمِيعُ ضِعَافٌ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، ثَنَا عَتَّابُ يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ:» مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ، فَزَكِّي فَلَيْسَ بِكَنْزٍ «، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. اهـ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِي يَدِي فَتَخَاتٌ مِنْ وَرِقٍ، فَقَالَ:» مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ ! «، فَقُلْتُ: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:» أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ «قُلْتُ: لَا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ:» هُوَ حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ «. حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَعْلَى، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ حَدِيثِ الْخَاتَمِ، قِيلَ لِسُفْيَانَ: كَيْفَ تُزَكِّيهِ؟ قَالَ: تَضُمُّهُ إِلَى غَيْرِهِ. اهـ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا أَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. اهـ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، قَالَتْ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ إِذَا أُعْطِيَ زَكَاتُهُ. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ، وَسَاقَهُمَا. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بِلَفْظِ: قَالَتْ:» دَخَلْتُ أَنَا وَخَالَتِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْنَا أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَنَا: «أَتُعْطِيَانِ زَكَاتَهُ؟» ، فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: «أَمَا تَخَافَانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسِوَارٍ مِنْ نَارٍ؟ ! أَدِّيَا زَكَاتَهُ» . اهـ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَفِي سَنَدِهِ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، اهـ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» . وَأَمَّا الْآثَارُ: فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى: أَنْ مُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصَّدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ. اهـ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ، شُعَيْبُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : وَهُوَ مُرْسَلٌ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْحَسَنُ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ قَالَ: «فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ امْرَأَتَهُ سَأَلَتْهُ، عَنْ حُلِيٍّ لَهَا، فَقَالَ: إِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، قَالَتْ: أَضَعُهَا فِي بَنِي أَخٍ لِي فِي حِجْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُرْسَلٌ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: هَذَا وَهْمٌ وَالصَّوَابُ مَوْقُوفٌ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ إِلَى خَازِنِهِ سَالِمٍ، أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حُلِيِّ بَنَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ، وَمَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَدْرِي أَيَثْبُتُ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا. قَالَهُ فِي «التَّلْخِيصِ» أَيْضًا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَإِنَّهُمْ قَاسُوا الْحُلِيَّ عَلَى الْمَسْكُوكِ وَالْمَسْبُوكِ بِجَامِعِ أَنَّ الْجَمِيعَ نَقْدٌ. وَأَمَّا وَضْعُ اللُّغَةِ: فَزَعَمُوا أَنَّ لَفْظَ الرِّقَّةِ، وَلَفْظَ الْأُوقِيَّةِ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحِ يَشْمَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الْمَصُوغَ كَمَا يَشْمَلُ الْمَسْكُوكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ خِلَافُهُ. فَإِذَا عَلِمْتَ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ، فَسَنَذْكُرُ لَكَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا الْقَوْلُ بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، فَلَهُ مُرَجِّحَاتٌ: مِنْهَا: أَنَّ مَنْ رَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ، كَمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. أَمَّا الْقَوْلُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ، فَلَمْ يُرْوَ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَثْرَةُ الرُّوَاةِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الرِّبَا. وَمِنْهَا: أَنَّ أَحَادِيثَهُ كَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَقْوَى سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ سُقُوطِ الزَّكَاةِ الَّذِي رَوَاهُ عَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ; لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ: [الرَّجَزِ] وَنَاقِلٌ وَمُثْبِتٌ وَالْآمِرُ ... بَعْدَ النَّوَاهِي ثُمَّ هَذَا الْآخِرُ عَلَى إِبَاحَةٍ. . . إِلَخْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ هَذَا الْآخِرُ عَلَى إِبَاحَةٍ» أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى الْأَمْرِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهَا: دَلَالَةُ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي أَصْلِ الْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُلِيَّ مِنْ نَوْعِ مَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، هَذَا حَاصِلُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ بِهِ هَذَا الْقَوْلُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ، فَيُرَجَّحُ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي التَّحْرِيمِ إِنَّمَا كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ مُحَرَّمًا عَلَى النِّسَاءِ، وَالْحُلِيُّ الْمُحَرَّمُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا أَدِلَّةُ عَدَمِ الزَّكَاةِ فِيهِ، فَبَعْدَ أَنْ صَارَ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ مُبَاحًا. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُحَرَّمًا عَلَى النِّسَاءِ، ثُمَّ أُبِيحَ، كَمَا يَدُلُّ لَهُ مَا سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِهِ أَوَّلًا وَتَحْلِيلِهِ ثَانِيًا، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الْأَدِلَّةِ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِنْ أَمْكَنَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : [الرَّجَزِ] وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا ... أَمْكَنَا إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بَيِّنَا وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَمْعَ إِذَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ التَّرْجِيحَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْجَمْعُ يَقْدَحُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنَّ فِيهِ «فَرَأَى فِي يَدِي فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ» الْحَدِيثَ. وَالْوَرِقُ: الْفِضَّةُ، وَالْفِضَّةُ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا تَحْرِيمٌ، فَالتَّحَلِّي بِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ يَوْمًا مَا. فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ، زَعَمَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَانَتْ حِينَ كَانَ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، فَلَمَّا أُبِيحَ لَهُنَّ سَقَطَتْ زَكَاتُهُ. قَالَ: وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، إِنْ كَانَ ذِكْرُ الْوَرِقِ فِيهِ مَحْفُوظًا، غَيْرَ أَنَّ رِوَايَةَ الْقَاسِمِ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ فِي تَرْكِهَا إِخْرَاجَ زَكَاةِ الْحُلِيِّ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهَا مِنْ إِخْرَاجِ زَكَاةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى - يُوقِعُ رِيبَةً فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَرْفُوعَةِ، فَهِيَ لَا تُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَتْهُ عَنْهُ، إِلَّا فِيمَا عَلِمَتْهُ مَنْسُوخًا. اهـ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» الْكَلَامَ عَلَى مُخَالَفَةِ الصَّحَابِيِّ لِمَا رُوِيَ فِي آيَةِ الطَّلَاقِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَعْلَمَ عَائِشَةُ أَنَّ عَدَمَ زَكَاةِ الْحُلِيِّ فِيهِ الْوَعِيدُ مِنَ النَّبِيِّ لَهَا بِأَنَّهُ حَسْبُهَا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ تَتْرُكُ إِخْرَاجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي حِجْرِهَا، مَعَ أَنَّهَا مَعْرُوفٌ عَنْهَا الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى. وَمِنْ أَجْوِبَةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِزَكَاةِ الْحُلِيِّ عَارِيَتُهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. هَذَا حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَقْوَى الْوُجُوهِ بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ: الْجَمْعُ إِذَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَإِخْرَاجُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ أَحْوَطُ ; لِأَنَّ «مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» - «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، فَتُقَوَّمُ عِنْدَ الْحَوْلِ، وَيُخْرَجُ رُبْعُ عُشْرِهَا كَزَكَاةِ الْعَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، قَالَ: رُوِّينَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ: سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالنُّعْمَانِ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، اهـ، بِوَاسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ "، وَابْنِ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي "، وَلِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَفْصِيلٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ ; لِأَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ عِنْدَهُ تَنْقَسِمُ إِلَى عَرْضِ تَاجِرٍ مُدِيرٍ، وَعَرْضِ تَاجِرٍ مُحْتَكِرٍ، فَالْمُدِيرُ هُوَ الَّذِي يَبِيعُ وَيَشْتَرِي دَائِمًا، وَالْمُحْتَكِرُ هُوَ الَّذِي يَشْتَرِي السِّلَعَ وَيَتَرَبَّصُ بِهَا حَتَّى يَرْتَفِعَ سِعْرُهَا فَيَبِيعَهَا، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ سِعْرُهَا لَمْ يَبِعْهَا وَلَوْ مَكَثَتْ سِنِينَ. فَعُرُوضُ الْمُدِيرِ عِنْدَهُ وَدُيُونُهُ الَّتِي يُطَالِبُ بِهَا النَّاسَ إِنْ كَانَتْ مَرْجُوَّةً يُزَكِّيهَا عِنْدَ كُلِّ حَوْلٍ، وَالدَّيْنُ الْحَالُّ يُزَكِّيهِ بِالْعَدَدِ، وَالْمُؤَجَّلُ بِالْقِيمَةِ. أَمَّا عَرْضُ الْمُحْتَكِرِ فَلَا يُقَوَّمُ عِنْدَهُ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يُبَاعَ بِعَيْنٍ فَيُزَكِّيَ الْعَيْنَ عَلَى حَوْلِ أَصْلِ الْعَرْضِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَاشِرٍ، فِي " الْمُرْشِدِ الْمُعِينِ " بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَالْعَرْضُ ذُو التَّجْرِ وَدَيْنُ مَنْ أَدَارْ ... قِيمَتُهَا كَالْعَيْنِ ثُمَّ ذُو احْتِكَارْ زَكَّى لِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ دَيْنِ ... عَيْنًا بِشَرْطِ الْحَوَلِ لِلْأَصْلَيْنِ زَادَ مَالِكٌ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ شَرْطًا، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ تَقْوِيمِ عُرُوضِ الْمُدِيرِ أَنْ يَصِلَ يَدَهُ شَيْءٌ نَاضٌّ مِنْ ذَاتِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَلَوْ كَانَ رُبْعَ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ، وَخَالَفَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ، فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَمْ نَعْلَمْ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَالَفَ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَبَعْضِ أَتْبَاعِهِ. وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ آيَةٌ، وَأَحَادِيثُ، وَآثَارٌ وَرَدَتْ بِذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ. فَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قَالَ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ " الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فِي " سُنَنِهِ "، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ "، وَالْبَيْهَقِيُّ، بِأَسَانِيدِهِمْ، ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ صَحِيحَانِ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، اهـ. ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ: " وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ "، هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِالزَّايِ، هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ، وَصَرَّحَ بِالزَّايِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ ": حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ "، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: " وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ "، قَالَهَا بِالزَّايِ، وَإِسْنَادُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، مَدَارُهُ عَلَى مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ، وَلَهُ عِنْدَهُ طَرِيقٌ ثَالِثٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ مَعْلُولٌ ; لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ، رَوَاهُ عَنْ عِمْرَانَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ عِمْرَانَ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ رَابِعَةٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَالْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي الْحُسَامِ، عَنْ عِمْرَانَ، وَلَفْظُهُ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ، وَمَنْ رَفَعَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَا يُعِدُّهَا لِغَرِيمٍ، وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ، اهـ. فَتَرَى ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ لَا بَأْسَ بِهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْحَاكِمِ مِنْ صِحَّةِ الْإِسْنَادَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَتَصْحِيحِ النَّوَوِيِّ لِذَلِكَ وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي الْحُسَامِ يَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ مُوسَى الْمَذْكُورِ، عَنْ عِمْرَانَ، لَا عَنْ عِمْرَانَ مُبَاشَرَةً فَانْظُرْهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ مِنَ " الْمُسْتَدْرَكِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " الْبُرُّ " بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَرِوَايَةُ الدَّارَقُطْنِيِّ الَّتِي صَرَّحَ فِيهَا بِالزَّايِ فِي لَفْظَةِ الْبَزِّ فِي الْحَدِيثِ ضَعِيفَةٌ، وَإِذَنْ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى تَقْرِيرِ صِحَّتِهِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ. فَالْجَوَابُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ، مِنْ أَنَّ جَمِيعَ رُوَاتِهِ رَوَوْهُ بِالزَّايِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ بِالزَّايِ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْفَزَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نُعِدُّ لِلْبَيْعِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَسْكُتُ إِلَّا عَنْ حَدِيثٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ عِنْدَهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَزَّارُ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَفِي إِسْنَادِهِ جَهَالَةٌ، اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ حَبِيبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَفِيهِ جَعْفَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَهُوَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الزُّهْرِيُّ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ لِينٌ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَضِدُ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَيَعْتَضِدُ أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ، أَنَّ أَبَاهُ حِمَاسًا قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَى عُنُقِي أُدُمٌ أَحْمِلُهَا، فَقَالَ: أَلَا تُؤَدِّي زَكَاتَكَ يَا حِمَاسُ؟ فَقَالَ: مَا لِي غَيْرَ هَذَا، وَأَهَبُ فِي الْقَرْظِ قَالَ: ذَلِكَ مَالٌ فَضَعْ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَسَبَهَا فَوُجِدَتْ قَدْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ فَأَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي هَذَا الْأَثَرِ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: مَرَرْتُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، اهـ. وَحِمَاسٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ، فَقَدْ رَأَيْتَ ثُبُوتَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عَنْ عُمَرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، مِنْ كِتَابِهِ أَنْبَأَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَيْسَ فِي الْعُرُوضِ زَكَاةٌ إِلَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَالَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الْعَرْضِ، قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدِيمِ: إِسْنَادُ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفٌ، فَكَانَ اتِّبَاعُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِصِحَّتِهِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الزَّكَاةِ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ مَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافَهُمْ عَنْ أَحَدٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ - إِنْ صَحَّ - لَا زَكَاةَ فِي الْعَرْضِ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ التِّجَارَةَ " اهـ مِنْ سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ "، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَيَّانَ، وَكَانَ زُرَيْقٌ عَلَى جَوَازِ مِصْرَ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَسُلَيْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ انْظُرْ مَنْ يَمُرُّ بِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَخُذْ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا، فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا، وَلَا تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [2 \ 267] ، عَلَى مَا فَسَّرَهَا بِهِ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِ " بَابُ: " زَكَاةِ التِّجَارَةِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ الْآيَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالُوا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، قَالَ: التِّجَارَةُ، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ: النَّخْلُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "، " بَابُ صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، إِلَى قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": هَكَذَا أَوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْآيَةِ بِغَيْرِ حَدِيثٍ. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، قَالَ: مِنَ التِّجَارَةِ الْحَلَالِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَلَفْظُهُ: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ قَالَ: مِنَ التِّجَارَةِ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 مِنَ الثِّمَارِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْمَرْفُوعَيْنِ وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْذِ عُمَرَ زَكَاةَ الْجُلُودِ مِنْ حِمَاسٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَظَاهِرِ عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَا فَسَّرَهَا بِهِ مُجَاهِدٌ، وَإِجْمَاعِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَنْ شَذَّ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ - يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي زَكَاةِ الدَّيْنِ، وَهَلِ الدَّيْنُ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ عَنِ الْمَدِينِ أَوْ لَا؟ ! اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لِلْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ يَجْرِي مَجْرَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُدِيرِ وَبَيْنَ الْمُحْتَكِرِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا. وَمَذْهَبُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ مِنَ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ إِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ وَفَائِهِ قَدْرُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، قَالَ فِي «مَوَطَّئِهِ» : الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ سِوَى ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا بِيَدِهِ مِنْ نَاضٍّ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعُرُوضِ وَالنَّقْدِ إِلَّا وَفَاءَ دَيْنِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ النَّاضِّ فَضْلٌ عَنْ دَيْنِهِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ. وَأَمَّا الْمَاشِيَةُ، وَالزُّرُوعُ، وَالثِّمَارُ، فَلَا يُسْقِطُ الدَّيْنُ وُجُوبَ زَكَاتِهَا عِنْدَهُ. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدَّيْنَ إِذَا كَانَ حَالًّا عَلَى مُوسِرٍ مُقِرٍّ، أَوْ مُنْكِرٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ إِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ عَرَضَ تِجَارَةٍ، وَهَذَا قَوْلُهُ الْجَدِيدُ، وَأَمَّا الْقَدِيمُ: فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الدَّيْنِ بِحَالٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا، أَوْ جَاحِدًا وَلَا بَيِّنَةَ، أَوْ مُمَاطِلًا، أَوْ غَائِبًا، فَهُوَ عِنْدَهُ كَالْمَغْصُوبِ، وَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ الْوُجُوبُ، وَلَكِنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهِ فِي الْيَدِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لِأَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ كَالدَّيْنِ الْحَالِّ عَلَى فَقِيرٍ أَوْ عَلَى جَاحِدٍ. فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وَالثَّانِي: لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِذَا قَبَضَهُ اسْتَقْبَلَ بِهِ الْحَوْلَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مَاشِيَةً، كَأَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ، أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ كَدَيْنِ الْكِتَابَةِ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، أَوْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ كَمَالُ النِّصَابِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي «الْقَدِيمِ» : يُسْقِطُ الدَّيْنُ الْمُسْتَغْرِقُ، أَوِ الَّذِي يَنْقُصُ بِهِ الْمَالُ عَنِ النِّصَابِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَخَذَهُ الْحَاكِمُ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَقَالَ فِي «الْجَدِيدِ» : تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلَا يُسْقِطُهَا الدَّيْنُ لِاخْتِلَافِ جِهَتِهِمَا ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَالِ وَالدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، وَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ فَفِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ. أَصَحُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ زَكَاةِ الْمَغْصُوبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْمَهُ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَا يَمْنَعُهَا فِي الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الزُّرُوعُ، وَالثِّمَارُ، وَالْمَوَاشِي، وَالْمَعَادِنُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ نَامِيَةٌ بِنَفْسِهَا بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ، وَدَيْنُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ مُقِرٍّ بِهِ غَيْرِ مُمَاطِلٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ، فَإِنْ قَبَضَهُ أَدَّى زَكَاتَهُ فِيمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ: عُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ جَاحِدٍ، أَوْ مُمَاطِلٍ، فَرِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: يُزَكِّيهِ إِذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: يُزَكِّيهِ إِذَا قَبَضَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي هِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا نَحْوَهُ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فِي جَدِيدِ قَوْلَيْهِ. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ، وَهِيَ السَّائِمَةُ، وَالثِّمَارُ، وَالْحُبُوبُ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهَا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهَا أَيْضًا كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: يَبْتَدِئُ بِالدَّيْنِ فَيَقْضِيهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ النَّفَقَةِ، فَيُزَكِّي مَا بَقِيَ. وَلَا يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةٌ فِي إِبِلٍ، أَوْ بَقَرٍ، أَوْ غَنَمٍ، أَوْ زَرْعٍ، وَلَا زَكَاةٌ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَسُلَيْمَانُ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي «الْجَدِيدِ» وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. إِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي زَكَاةِ الدَّيْنِ، وَهَلْ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الزَّكَاةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الدَّيْنِ، هَلْ يُزَكَّى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَلْ إِذَا لَمْ يُزَكِّهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَكْفِي زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ؟ ! أَوْ لَا بُدَّ مِنْ زَكَاتِهِ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ؟ ! الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، هَلِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّحْصِيلِ كَالْحُصُولِ بِالْفِعْلِ، أَوْ لَا؟ ! وَلَا نَعْلَمُ فِي زَكَاةِ الدَّيْنِ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا كَوْنَ الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَدِينِ إِنْ كَانَ يَسْتَغْرِقُ، أَوْ يُنْقِصُ النِّصَابَ، إِلَّا آثَارًا وَرَدَتْ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. مِنْهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّإِ» عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ، حَتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّونَ مِنْهُ الزَّكَاةَ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّإِ» أَيْضًا عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي ثَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ كَتَبَ فِي مَالٍ قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ ظُلْمًا، يَأْمُرُ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ أَلَّا يُؤْخَذَ مِنْهُ إِلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا. اهـ. وَهُوَ بِكَسْرِ الضَّادِ، أَيْ: غَائِبًا عَنْ رَبِّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَلَا يَعْرِفُ مَوْضِعَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي زَكَاةِ الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ. اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ مِنَ الْمَعَادِنِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ الِاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَعَادِنِ الزَّكَاةُ، إِلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ خَاصَّةً، فَإِذَا أَخْرَجَ مِنَ الْمَعْدِنِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حِينِ إِخْرَاجِهِ، وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَمَذْهَبِهِمَا. إِلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي جَمِيعِ الْمَعَادِنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ، وَزِئْبَقٍ، وَرَصَاصٍ، وَصُفْرٍ، وَحَدِيدٍ، وَيَاقُوتٍ، وَزَبَرْجَدٍ، وَلُؤْلُؤٍ، وَعَقِيقٍ، وَسَبَجٍ، وَكُحْلٍ، وَزُجَاجٍ، وَزِرْنِيخٍ، وَمَغْرَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ، كَالْقَارِ، وَالنِّفْطِ، وَنَحْوِهِمَا، وَيُقَوَّمُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، مَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَجَمِيعُ الْمَعَادِنِ عِنْدَهُ تُزَكَّى، وَاللَّازِمُ فِيهَا رُبْعُ الْعُشْرِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَى أَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ جُمْلَةِ الرِّكَازِ، فَفِيهِ عِنْدَهُ الْخُمُسُ، وَهُوَ عِنْدَهُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَمَا يَنْطَبِعُ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالرَّصَاصِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ النِّصَابُ فِي الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِلُزُومِ الْعُشْرِ فِي الْمَعْدِنِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَعَادِنِ، عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا فِي مَعْدِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَلَمْ تَجِبْ فِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ: «لَا زَكَاةَ فِي حَجَرٍ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْكَلَاعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِهِ، وَتَابَعَهُ عُثْمَانُ الْوَقَّاصِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَهُمَا مَتْرُوكَانِ. اهـ. وَعُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْكَلَاعِيُّ ضَعِيفٌ، مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 شُيُوخِ بَقِيَّةَ الْمَجْهُولِينَ، قَالَهُ فِي «التَّقْرِيبِ» وَاحْتَجَّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّإِ» عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ. فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَى الْيَوْمِ إِلَّا الزَّكَاةُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا، لَيْسَتْ فِيهِ زِيَادَةُ: وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ، إِلَخْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ مَالِكٍ: لَيْسَ هَذَا مَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يُثْبِتُوهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا إِقْطَاعُهُ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ دُونَ الْخُمُسِ فَلَيْسَتْ مَرْوِيَّةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ، مَوْصُولًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَاكِمِ، وَالْحَاكِمُ أَخْرَجَهُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو سَبْرَةَ الْمَدِينِيُّ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنَ الْوَجْهَيْنِ. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّإِ» ، فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ - مِنْ نَوْعِ الِاسْتِدْلَالِ بِالِاسْتِصْحَابِ الْمَقْلُوبِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ. وَالِاسْتِصْحَابُ الْمَقْلُوبُ: هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ الْأَمْرِ فِي الزَّمَنِ الْحَاضِرِ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، لِعَدَمِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّغْيِيرِ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي. قَالَ صَاحِبُ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» : أَمَّا ثُبُوتُهُ فِي الْأَوَّلِ لِثُبُوتِهِ فِي الثَّانِي فَمَقْلُوبٌ، وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّابِتُ الْيَوْمَ ثَابِتًا أَمْسِ لَكَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ، فَيَقْتَضِي اسْتِصْحَابَ أَمْسِ أَنَّهُ الْآنَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ. وَقَالَ: فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ» : وَقَدْ يُقَالُ فِي الِاسْتِصْحَابِ الْمَقْلُوبِ لِيَظْهَرَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّابِتُ الْيَوْمَ ثَابِتًا أَمْسِ لَكَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ أَمْسِ ; إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَعَدَمِهِ، فَيَقْتَضِي اسْتِصْحَابَ أَمْسِ الْخَالِي عَنِ الثُّبُوتِ فِيهِ، أَنَّهُ الْآنَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَفْرُوضُ الثُّبُوتِ الْآنَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ أَمْسِ أَيْضًا، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْوَقْفِ، إِذَا جُهِلَ مَصْرِفُهُ وَوُجِدَ عَلَى حَالَةٍ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا ; لِأَنَّ وُجُودَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْوَقْفِ، وَمَثَّلَ لَهُ «الْمُحَلَّى» ، بِأَنْ يُقَالَ فِي الْمِكْيَالِ الْمَوْجُودِ: كَانَ عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي الْمَاضِي، وَوَجْهُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ; أَنَّ لَفْظَ: فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ يَدُلُّ بِالِاسْتِصْحَابِ الْمَقْلُوبِ أَنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّغْيِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِصْحَابِ الْمَذْكُورِ فِي «كِتَابِ الِاسْتِدْلَالِ» بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزِ] وَرَجَّحَنَّ كَوْنَ الِاسْتِصْحَابِ لِلْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ ... مِنْ ذَا الْبَابِ بَعْدَ قُصَارَى الْبَحْثِ عَنْ نَصٍّ فَلَمْ يُلْفَ وَهَذَا الْبَحْثُ وَفْقًا مُنْحَتِمْ. . . . إِلَى أَنْ قَالَ، وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ: [الرَّجَزِ] وَمَا بِمَاضٍ مُثْبِتٍ لِلْحَالِ ... فَهُوَ مَقْلُوبٌ وَعَكْسُ الْخَالِي كَجَرْيِ مَا جُهِلَ فِيهِ الْمَصْرِفُ ... عَلَى الَّذِي الْآنَ لِذَاكَ يُعْرَفُ وَأَمَّا الرِّكَازُ: فَفِيهِ الْخُمُسُ بِلَا نِزَاعٍ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالرِّكَازِ. فَذَهَبَ جُمْهُورٌ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْمَعَادِنِ اسْمُ الرِّكَازِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضًا مِنْهُ آنِفًا ; فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِالْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلْمُغَايَرَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ الْمَعْدِنَ رِكَازٌ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرِّكَازُ؟ قَالَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمَخْلُوقَانِ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ، وَرَدَّهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : رَوَاهُ: الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَتَابَعَهُ حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَعَبْدُ اللَّهِ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَحِبَّانُ ضَعِيفٌ. وَأَصْلُ الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي «الصِّحَاحِ» ، وَغَيْرِهَا بِدُونِ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي «الْجَدِيدِ» : يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الرِّكَازِ أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً دُونَ غَيْرِهِمَا، وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِذَا كَانَ فِي تَحْصِيلِ الْمَعْدِنِ مَشَقَّةٌ فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَإِنْ كَانَ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا الْآيَةَ. لَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ رَفْعَ هَذَا التَّشْدِيدِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ الْآيَةَ [9 \ 91] ، فَهِيَ نَاسِخَةٌ لَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي الرِّقَابِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرِّقَابِ: الْمُكَاتَبُونَ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُكَاتَبِينَ: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [24 \ 33] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّقَابُ أَعَمُّ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تُعْتَقَ الرَّقَبَةُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مَنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَذَكَرَ فِي «الْأَحْزَابِ» أَنَّهُ مَلْعُونٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ لَهُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [33 \ 57] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: مَا تَحْذَرُونَ. صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَحْذَرُونَ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ سُورَةً تَفْضَحُهُمْ، وَتُبَيِّنُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ مِنَ الْخُبْثِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مُخْرِجٌ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَهُ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 [47 \ 29] إِلَى قَوْلِهِ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [47 \ 30] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ شِدَّةَ خَوْفِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [63 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مَا وَجَدُوا شَيْئًا يَنْقِمُونَهُ، أَيْ: يَعِيبُونَهُ وَيَنْتَقِدُونَهُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ فَأَغْنَاهُمْ بِمَا فَتَحَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَابَ أَوْ يُنْقَمَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [85 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا [7 \ 126] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [22 \ 40] . وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: قَوْلُ نَابِغَةِ ذِبْيَانَ: [الطَّوِيلِ] وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَقَوْلِ الْآخَرِ: [الْمُنْسَرِحِ] مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ إِنْ غَضِبُوا وَقَوْلِ الْآخَرِ: [الْوَافِرِ] فَمَا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإِنِّي ... جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شِدَّةَ حَرِّ نَارِ جَهَنَّمَ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [66 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [7 \ 15، 16] ، وَقَوْلِهِ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [4 \ 56] ، وَقَوْلِهِ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [22 \ 19 - 21] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ الْآيَةَ [18 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [47 \ 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَزْنِ جَهَنَّمَ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ، فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وَزْنَهُ «فَعَنَّلُ» فَالنُّونُ الْمُضَعَّفَةُ زَائِدَةٌ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ: الْجِيمُ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ، مِنْ: تَجَهَّمَ: إِذَا عَبَسَ وَجْهُهُ ; لِأَنَّهَا تَلْقَاهُمْ بِوَجْهٍ مُتَجَهِّمٍ عَابِسٍ، وَتَتَجَهَّمُ وُجُوهُهُمْ وَتَعْبَسُ فِيهَا لِمَا يُلَاقُونَ مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ. وَمِنْهُ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيِّ: [الطَّوِيلِ] شَكَوْتُ إِلَيْهَا حُبَّهَا فَتَبَسَّمَتْ ... وَلَمْ أَرَ شَمْسًا قَبْلَهَا تَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ لَهَا جُودِي فَأَبْدَتْ تَجَهُّمًا ... لِتَقْتُلَنِي يَا حُسْنَهَا إِذْ تَجَهَّمُ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: جَهَمَهُ: إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهٍ كَرِيهٍ مُجْتَمِعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْفَضْفَاضِ الْجُهَنِيِّ: [الطَّوِيلِ] وَلَا تَجَهَّمِينَا أُمَّ عَمْرٍو فَإِنَّمَا ... بِنَا دَاءُ ظَبِيٍ لَمْ تَخُنْهُ عَوَامِلُهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَهَنَّمُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالْأَصْلُ «كَهِنَامُ» وَهُوَ بِلِسَانِهِمُ «النَّارُ» ، فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ وَأَبْدَلُوا الْكَافَ جِيمًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا، إِلَى قَوْلِهِ: الْخَالِفِينَ، عَاقَبَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ مَعَ نَبِيِّهِ، وَلَا الْقِتَالِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ شُؤْمَ الْمُخَالَفَةِ يُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [48 \ 15] إِلَى قَوْلِهِ: كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ، وَقَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [6 \ 110] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْخَالِفُ هُوَ الَّذِي يَتَخَلَّفُ عَنِ الرِّجَالِ فِي الْغَزْوِ فَيَبْقَى مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّنْفَرَى: [الطَّوِيلِ] وَلَا خَالِفٍ دَارِيَّةٍ مُتَرَبِّبٍ يَرُوحُ وَيَغْدُو دَاهِنًا يَتَكَحَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ. ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِذَا أَنْزَلَ سُورَةً فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ، وَالْجِهَادِ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ الْأَغْنِيَاءُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَطَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْغَزْوِ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الشَّاكِّينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [9 \ 44، 45] ، وَبَيَّنَ أَنَّ السَّبِيلَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ [9 \ 93] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ شِدَّةَ جَزَعِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الْآيَةَ [47 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [33 \ 19] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِإِحْسَانٍ، أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مَعَهُمْ فِي رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَعْدِ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّاتِ، وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا السَّابِقِينَ بِإِحْسَانٍ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ الْآيَةَ [62 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْآيَةَ [59 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ [8 \ 75] . وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ يَسُبُّهُمْ وَيُبْغِضُهُمْ، أَنَّهُ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا ; حَيْثُ أَبْغَضَ مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بُغْضَ مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُضَادَّةٌ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَتَمَرُّدٌ وَطُغْيَانٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ الْآيَةَ. صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ تَعَالَى نَظِيرَ ذَلِكَ عَنْ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ: قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الْآيَةَ [26 \ 112] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وَذَكَرَ نَظِيرَهُ عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ فِي قَوْلِهِ: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ اهـ. وَقَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذِهِ الْمَوْعِدَةَ الَّتِي وَعَدَهَا إِيَّاهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» بِقَوْلِهِ: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْثَ هَذَا الرَّسُولِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَنْفُسِنَا الَّذِي هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُشْعِرَةِ بِغَايَةِ الْكَمَالِ، وَغَايَةِ شَفَقَتِهِ عَلَيْنَا - هُوَ أَعْظَمُ مِنَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَجْزَلُ نِعَمِهِ عَلَيْنَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 164] ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [14 \ 28] وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 107] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُمْتَثِلٌ ذَلِكَ، فَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ شَأْنُ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ. كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ الْآيَةَ [11 \ 54 - 56] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ جُمْلَةِ الرُّسُلِ: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا: وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى عِظَمِ تَوَكُّلِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اللَّهِ قَوْلُهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمَطَّلِبْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ يُونُسَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ الْآيَةَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَبِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ، وَذَكَرَ أَوْصَافَ هَذَا الْحَمِيمِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [55 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [47 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [22 \ 19، 20] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ الْآيَةَ [18 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [56 \ 54، 55] . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُسْقَوْنَ صَدِيدٌ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ الْآيَةَ [14 \ 16] : وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ مَعَ الْحَمِيمِ الْغَسَّاقَ، كَقَوْلِهِ: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [38 \ 57، 58] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا [78 \ 24، 25] ، وَالْغَسَّاقُ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا - وَأَصْلُهُ مِنْ غَسَقَتِ الْعَيْنُ: سَالَ دَمْعُهَا، وَقِيلَ: هُوَ لُغَةً: الْبَارِدُ الْمُنْتِنُ، وَالْحَمِيمُ الْآنِي: الْمَاءُ الْبَالِغُ غَايَةَ الْحَرَارَةِ، وَالْمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، أَوِ الْمُذَابُ مِنَ النُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِأَنْوَاعِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ سَلَامٌ، أَيْ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِذَلِكَ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ الْآيَةَ [33 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [13 \ 23، 24] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا الْآيَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 [19 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا الْآيَةَ [65 \ 25، 26] وَقَوْلِهِ: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [36 \ 58] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَعْنَى السَّلَامِ: الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ. وَالتَّحِيَّةُ: مَصْدَرُ حَيَّاكَ اللَّهُ، بِمَعْنَى أَطَالَ حَيَاتَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي وَقْتِ الْكَرْبِ يَبْتَهِلُ إِلَى رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، فَإِذَا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، وَنَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَطُّ. وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [39 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ الْآيَةَ [39 \ 49] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [41 \ 51] وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. إِلَّا أَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [10، 11] ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي. أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ مَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَدِّلُ مِنْهُ مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ. وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ الْآيَةَ [16 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا الْآيَةَ [2 \ 106] ، وَقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [87 \ 6، 7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا حَتَّى لَبِثَ فِيهِمْ عُمُرًا مِنَ الزَّمَنِ، وَقَدْرُ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَعَرَفُوا صِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَدْلَهُ، وَأَنَّهُ بَعِيدٌ كُلَّ الْبُعْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ الْأَمِينَ، وَقَدْ أَلْقَمَهُمُ اللَّهُ حَجَرًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [23 \ 69] وَلِذَا لَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ، وَمَنْ مَعَهُ عَنْ صِفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: لَا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ زَعِيمَ الْكُفَّارِ، وَرَأْسَ الْمُشْرِكِينَ وَمَعَ ذَلِكَ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ. فَقَالَ لَهُ هِرَقْلُ: فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ. اهـ. وَلِذَلِكَ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ هُنَا: أَفَلَا تَعْقِلُونَ [10 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَثَلَ لِلدُّنْيَا بِالنَّبَاتِ النَّاعِمِ الْمُخْتَلِطِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَعَمَّا قَلِيلٍ يَيْبَسُ، وَيَكُونُ حَصِيدًا يَابِسًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ، وَضَرَبَ لَهَا أَيْضًا الْمَثَلَ الْمَذْكُورَ فِي «الْكَهْفِ» فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ [18 \ 45] إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، وَأَشَارَ لِهَذَا الْمَثَلِ بِقَوْلِهِ فِي «الزُّمَرِ» : ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [21] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْحَدِيدِ» : كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا الْآيَةَ [20] . تَنْبِيهٌ التَّشْبِيهُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ ; لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ صُورَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ أَشْيَاءَ، وَهُوَ كَوْنُ كُلٍّ مِنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ يَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ فِي إِقْبَالٍ وَكَمَالٍ، ثُمَّ عَمَّا قَلِيلٍ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ النَّاسَ جَمِيعًا، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وَصَرَّحَ فِي «الْكَهْفِ» بِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا، بِقَوْلِهِ: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ الْآيَةَ. صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبْلُو، أَيْ: تُخْبَرُ وَتَعْلَمُ مَا أَسْلَفَتْ، أَيْ قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [75 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [86 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13، 14] ، وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا الْآيَةَ [18 \ 49] . وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ «تَتْلُو» بِتَاءَيْنِ فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَتْلُو بِمَعْنَى تَقْرَأُ فِي كِتَابِ أَعْمَالِهَا جَمِيعَ مَا قَدَّمَتْ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْأُولَى. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ عَمَلَهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ» الْحَدِيثَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَى قَوْلِهِ: فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِأَنَّ الْكَفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ رَبُّهُمُ الرَّزَّاقُ الْمُدَبِّرُ لِلْأُمُورِ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَمَعَ هَذَا أَشْرَكُوا بِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ لِإِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي حُقُوقِهِ جَلَّ وَعَلَا - كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [43 \ 87] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [43 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [23 \ 84، 85] إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [12 \ 106] . وَالْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا لَا يَكْفِي فِي الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 «الْفَاتِحَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [1 \ 5] . أَمَّا تَجَاهُلُ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - لِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [26 \ 23] فَإِنَّهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ ; لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ الْآيَةَ [17 \ 102] ، وَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [27 \ 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. أَلْقَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَجَرًا، بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِالْإِحْيَاءِ مَرَّةً أُخْرَى، وَأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَصَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [30 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [25 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [35 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْآيَةَ [16 \ 17] . وَقَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ [13 \ 16] وَقَوْلِهِ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ الْآيَةَ [39 \ 38] ، وَقَوْلِهِ: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ الْآيَةَ [67 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ الْآيَةَ [29 \ 17] . وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَسْوِيَةَ مَا لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مَعَ مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ الْمُتَصَرِّفِ بِكُلِّ مَا شَاءَ - لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِمَّنْ لَا عَقْلَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ ذَلِكَ: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ مُفْتَرًى مِنْ دُونِ اللَّهِ مَكْذُوبًا بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَلَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ تَصْدِيقَهُ لِلْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ، وَتَفْصِيلَهُ لِلْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرًى، وَأَنَّهُ لَا رَيْبَ فِي كَوْنِهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [12 \ 111] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [26 \ 210، 211] ، وَقَوْلِهِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [17 \ 105] ، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَا كَانَ أَنْ يُفْتَرَى عَلَى اللَّهِ، أَقَامَ الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَتَحَدَّى جَمِيعَ الْخَلْقِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْخَلْقِ لَقَدَرَ الْخَلْقُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كُلُّهُمْ حَصَلَ الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [10 \ 38] ، وَتَحَدَّاهُمْ أَيْضًا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الْآيَةَ [2 \ 23] ، وَتَحَدَّاهُمْ فِي «هُودٍ» بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ الْآيَةَ [13] ، وَتَحَدَّاهُمْ فِي «الطُّورِ» بِهِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [34] ، وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» بِعَجْزِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [17 \ 88] ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا الْآيَةَ [2 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. التَّحْقِيقُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ هُنَا، هُوَ حَقِيقَةُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ «آلِ عِمْرَانَ» ، وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ [53] . وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [38 \ 8] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يُظْهِرَ الْبَرَاءَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ الْقَبِيحَةِ إِنْكَارًا لَهَا، وَإِظْهَارًا لِوُجُوبِ التَّبَاعُدِ عَنْهَا، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [109 \ 1] ، إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيَ دِينِ [109 \ 6] ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَأَتْبَاعِهِ لِقَوْمِهِ: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ \ الْآيَةَ [60 \ 4] 30. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اعْتِزَالَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوْثَانِ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ مِنْ فَوَائِدِهِ تَفَضُّلُ اللَّهِ تَعَالَى بِالذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي «مَرْيَمَ» : فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [49] ، إِلَى قَوْلِهِ: عَلِيًّا [19 \ 50] . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُ: إِنَّ آيَةَ: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي الْآيَةَ [10 \ 41] ، مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهَا مُحْكَمٌ ; لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ لَا شَكَّ فِي بَقَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ الْآيَةَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا حُشِرُوا اسْتَقَلُّوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهَا قَدْرُ سَاعَةٍ عِنْدَهُمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الْأَحْقَافِ» : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [35] ، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «النَّازِعَاتِ» : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا الْآيَةَ [46] ، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الرُّومِ» : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ الْآيَةَ [55] . وَقَدْ بَيَّنَّا بِإِيضَاحٍ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ كَسَاعَةٍ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [20 \ 103] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [23 \ 113] ، فَانْظُرْهُ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [23 \ 1] فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ. صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَهْلَ الْمَحْشَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَعْرِفُ الْآبَاءُ الْأَبْنَاءَ، كَالْعَكْسِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَفَةَ لَا أَثَرَ لَهَا، فَلَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَيْئًا، كَقَوْلِهِ: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ [70 \ 10، 11] وَقَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [23 \ 101] . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» أَيْضًا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [37 \ 27] ، فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِخُسْرَانِ الْمُكَذِّبِينَ بِلِقَائِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمَفْعُولَ بِهِ لِقَوْلِهِ: «خَسِرَ» وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَسْبَابًا مِنْ أَسْبَابِ الْخُسْرَانِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ هُنَا، فَمِنَ الْآيَاتِ الْمُمَاثِلَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا الْآيَةَ [31] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْبَقَرَةِ» : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [27] وَقَوْلُهُ فِي «الْبَقَرَةِ» أَيْضًا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [27] ، وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [121] ، وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» أَيْضًا: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [178] ، وَقَوْلُهُ فِي «الزُّمَرِ» : لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [63] . وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْخُسْرَانَ لَا يَنْجُو مِنْهُ إِنْسَانٌ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: الْإِيمَانُ. الثَّانِي: الْعَمَلُ الصَّالِحُ. الثَّالِثُ: التَّوَاصِي بِالْحَقِّ. الرَّابِعُ: التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ [103 \ 1، 2] وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ الْوَاقِعَ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ هُوَ أَنْفُسُهُمْ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [9] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْمُؤْمِنُونَ» : وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [103] ، وَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» : أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [45] . وَزَادَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ خُسْرَانَ الْأَهْلِ مَعَ النَّفْسِ، كَقَوْلِهِ فِي «الزُّمَرِ» : قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [15] ، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّورَى» : وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [45] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ خُسْرَانَ الْخَاسِرِينَ قَدْ يَشْمَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [22 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ الْآيَةَ. بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُرِيَهُ فِي حَيَاتِهِ بَعْضَ مَا يَعِدُ الْكُفَّارَ مِنَ النَّكَالِ وَالِانْتِقَامِ، أَوْ يَتَوَفَّاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَرْجِعُهُمْ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِمْ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا فِيهِمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [77] ، وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [41، 42] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِعْلُ الْمُضَارِعِ بَعْدَ «إِنْ» الشَّرْطِيَّةِ الْمُدْغَمَةِ فِي «مَا» الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ الشَّرْطِ، إِلَّا مُقْتَرِنًا بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ الْآيَةَ [10 \ 46] ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ الْآيَةَ [43 \ 41] ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ الْآيَةَ [8 \ 57] ، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ الْآيَةَ [8 \ 58] . وَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةَ وُجُوبَ اقْتِرَانِ الْمُضَارِعِ بِالنُّونِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 الْمَذْكُورَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّ عَدَمَ اقْتِرَانِهِ بِهَا جَائِزٌ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الْمُتَقَارِبِ] فَإِمَّا تَرَيِنِّي وَلِي لَمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: [الْكَامِلِ] زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ ... يُسَدِّدُ أُبَيْنُوهَا الْأَصَاغِرُ خَلَّتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا الْآيَةَ [16 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [35 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [13 \ 7] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَدَدَ الْأُمَمِ سَبْعُونَ أُمَّةً فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَوَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ الْآيَةَ [6] ، فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. أَوْضَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» بِقَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلًا، وَأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ أَحَدٌ أَجَلَهُ الْمُحَدَّدَ لَهُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [15 \ 5 - 23 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [71 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الْآيَةَ [63 \ 11] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ كُفْرًا وَعِنَادًا، فَإِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ آمَنُوا، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ وَحُضُورِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 تَعَالَى عَلَيْهِمْ هُنَا بِقَوْلِهِ: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [10 \ 51] ، وَنَفَى أَيْضًا قَبُولَ إِيمَانِهِمْ فِي ذَلِكَ الْحِينِ بِقَوْلِهِ: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [40 \ 84، 85] ، وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 90، 91] ، وَقَوْلِهِ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الْآيَةَ [4 \ 18] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ يُونُسَ دُونَ غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [10 \ 98] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ الْآيَةَ. ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ. وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ مُوسَى إِنَّهُ سَيَقَعُ مِنْ إِبْطَالِ اللَّهِ لِسِحْرِهِمْ، أَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [7 \ 118، 119] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ الْآيَةَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ بَوَّأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا الْآيَةَ [7 \ 137] ، وَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [62 \ 57، 58] إِلَى قَوْلِهِ: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 \ 59] وَقَوْلِهِ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [44 \ 25، 26] إِلَى قَوْلِهِ: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [44 \ 28] ، وَمَعْنَى بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ: أَنْزَلْنَاهُمْ مَنْزِلًا مَرْضِيًّا حَسَنًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الْعَذَابِ، وَسَبَقَتْ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ لَا يَنْفَعُهُ وُضُوحُ أَدِلَّةِ الْحَقِّ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [54 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [6 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [12 \ 105] ، وَقَوْلِهِ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [2 \ 6] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِيمَانَ قَوْمِ يُونُسَ مَا نَفَعَهُمْ إِلَّا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، لِقَوْلِهِ: كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» ، وَالْإِيمَانُ مُنْقِذٌ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ فِي «الصَّافَّاتِ» أَيْضًا كَثْرَةَ عَدَدِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [147، 148] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ إِيمَانَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَآمَنُوا كُلُّهُمْ جَمِيعًا، و َهُوَ دَ لِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا الْآيَةَ [6 \ 107] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [32 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [6 \ 107] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَقْهَرَ قَلْبَهُ عَلَى الِانْشِرَاحِ إِلَى الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ. وَأَوْضَحَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [5 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 [16 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الْآيَةَ [28 \ 56] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [7 \ 186] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي «النِّسَاءِ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَا يَهْدِي الْقُلُوبَ وَيُوَجِّهُهَا إِلَى الْخَيْرِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [10 \ 100] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَمِيعَ عِبَادِهِ أَنْ يَنْظُرُوا مَاذَا خَلَقَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ خَالِقِهَا، وَكَمَالِهِ، وَجَلَالِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَأَشَارَ لِمِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الْآيَةَ [41 \ 53] ، وَوَبَّخَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْ هَذَا الْأَمْرَ، وَهَدَّدَهُ بِأَنَّهُ قَدْ يُعَاجِلُهُ الْمَوْتُ فَيَنْقَضِي أَجَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ ; لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ الْآيَةَ [185] . تَنْبِيهٌ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ. أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ. أَوْضَحَ مَعْنَاهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ نَبِيِّهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ حَكَمَ بِنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى كُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 دِينٍ، كَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [110 \ 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [48 \ 1] إِلَى آخِرِهَا، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ الْآيَةَ [13 \ 41] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ هُودٍ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يُرَجِّحُ وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ وَمَا يُرَجِّحُهُ الْقُرْآنُ مِنْهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا نَسْتَعِينُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، كَمَا بَيَّنَّا فِي «آلِ عِمْرَانَ» وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ. وَقِيلَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَيُرْوَى مَا يَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَعَلَيْهِ إِطْبَاقُ الْأَكْثَرِ. وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَيَعْتَضِدُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم [32 \ 1] السَّجْدَةِ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ [76 \ 1] . وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا قَوْلُ قَاتِلِ مُحَمَّدٍ السَّجَّادِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ الْجَمَلِ، وَهُوَ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيُّ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لِلْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ قَائِلًا: إِنَّهُ الَّذِي قَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ الْمَذْكُورَ، وَذَكَرَ أَبُو مُخَنِّفٍ أَنَّهُ لِمُدْلِجِ بْنِ كَعْبٍ السَّعْدِيِّ، وَيُقَالُ كَعْبُ بْنُ مُدْلِجٍ، وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ عِصَامُ بْنُ مُقْشَعِرٍّ، قَالَ الْمَرْزُبَانِيُّ: وَهُوَ الثَّبْتُ، وَأَنْشَدَ لَهُ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ، وَقَبْلَهُ: وَأَشْعَثُ قَوَّامٌ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... قَلِيلُ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا ... عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتْبَعُ الْحَقَّ يَنْدَمِ يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ. . . الْبَيْتَ. اهـ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» . فَقَوْلُهُ: «يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ» ، بِإِعْرَابِ «حَامِيمَ» إِعْرَابَ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهَا أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا، وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ: هِيَ حُرُوفٌ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا. فَالْأَلِفُ مِنْ «الم» مَثَلًا: مِفْتَاحُ اسْمِ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ لَطِيفٍ، وَالْمِيمُ: مِفْتَاحُ اسْمِهِ مَجِيدٍ، وَهَكَذَا. وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَاسْتُدِلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُطْلِقُ الْحَرْفَ الْوَاحِدَ مِنَ الْكَلِمَةِ، وَتُرِيدُ بِهِ جَمِيعَ الْكَلِمَةِ كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ لِي قَافِ ... لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَافِ فَقَوْلُهُ: «قَافِ» أَيْ وَقَفْتُ، وَقَوْلِ الْآخَرِ: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرًّا فَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا يَعْنِي: وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ، فَاكْتَفَى بِالْفَاءِ وَالتَّاءِ عَنْ بَقِيَّةِ الْكَلِمَتَيْنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ» الْحَدِيثَ، قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي اقْتُلْ: اقْ، إِلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقْوَالِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ قَوْلًا. أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي يَدُلُّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ عَلَى رُجْحَانِهِ فَهُوَ: أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ ذُكِرَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا بَيَانًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ مَعَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا، وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَجَمْعٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَقُطْرُبٍ، وَنَصَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ، وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، وَحَكَاهُ لِي عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ. وَوَجْهُ شَهَادَةِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ لِهَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ السُّوَرَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ يُذْكَرُ فِيهَا دَائِمًا عَقِبَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ وَبَيَانُ إِعْجَازِهِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَذِكْرُ ذَلِكَ بَعْدَهَا دَائِمًا دَلِيلٌ اسْتِقْرَائِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ قُصِدَ بِهَا إِظْهَارُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ. قَالَ تَعَالَى فِي «الْبَقَرَةِ» : الم [2 \ 1] ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَقَالَ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : الم [3 \ 1] ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [3 \ 2، 3] ، وَقَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» : المص [7 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ [7 \ 2] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : الر [10 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [10 \ 1] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، أَعْنِي سُورَةَ «هُودٍ» الر \ [11 \ 1] 30، ثُمَّ قَالَ: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [11 \ 1] ، وَقَالَ فِي «يُوسُفَ» : الر [12 \ 1] ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [12 \ 1، 2] ، وَقَالَ فِي «الرَّعْدِ» : المر [13 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [13 \ 1] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» : الر [14 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْآيَةَ [14 \ 1] ، وَقَالَ فِي «الْحِجْرِ» : الر [15 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «طه» طه [20 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [20 \ 2] ، وَقَالَ فِي «الشُّعَرَاءِ» : طسم [26 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ الْآيَةَ [26 \ 2، 3] ، وَقَالَ فِي «النَّمْلِ» : طس [27 \ 2] ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [27 \ 1] ، وَقَالَ فِي «الْقَصَصِ» : طسم [28 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ الْآيَةَ [28 \ 2، 3] ، وَقَالَ فِي «لُقْمَانَ» الم [31 \ 3] ، ثُمَّ قَالَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [31 \ 2، 3] ، وَقَالَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 «السَّجْدَةِ» : الم [32 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [32 \ 2] ، وَقَالَ فِي «يس» : يس [36 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الْآيَةَ [36 \ 2] ، وَقَالَ فِي «ص» : ص [38 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ الْآيَةَ [38 \ 1] وَقَالَ فِي «سُورَةِ الْمُؤْمِنِ» : حم [40 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْآيَةَ [40 \ 2] . وَقَالَ فِي «فُصِّلَتْ» : حم [41 \ 2] ، ثُمَّ قَالَ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْآيَةَ [42 \ 2، 3] ، وَقَالَ فِي «الشُّورَى:» حم عسق [42 \ 1، 2] ، ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [42 \ 3] ، وَقَالَ فِي «الزُّخْرُفِ» : حم [43 \ 3] ، ثُمَّ قَالَ: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا الْآيَةَ [43 \ 2، 3] وَقَالَ فِي «الدُّخَانِ» : حم [44 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ الْآيَةَ [44 \ 2، 3] وَقَالَ فِي «الْجَاثِيَةِ» : حم [45 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [45 \ 2، 3] ، وَقَالَ فِي «الْأَحْقَافِ» حم [46 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [46 \ 2، 3] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «ق» : ق [50 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الْآيَةَ [50 \ 1] . وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالِاسْتِقْرَاءِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَإِنَّمَا أَخَّرْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مَعَ أَنَّهُ مَرَّتْ سُوَرٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ كَالْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَالْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ ; لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ غَالِبًا، وَالْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ مَدَنِيَّتَانِ، وَالْغَالِبُ لَهُ الْحُكْمُ، وَاخْتَرْنَا لِبَيَانِ ذَلِكَ سُورَةَ هُودٍ ; لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْإِيضَاحِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [11 \ 1] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: الر [11 \ 1] وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ مِنْ أَجْلِهَا: هِيَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ الْآيَةَ [11 \ 1، 2] صَرِيحٌ فِي أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ فُصِّلَتْ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ «أَنْ» هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، أَوْ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْهَا وَمِنْ صِلَتِهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ ; لِأَنَّ ضَابِطَ «أَنْ» الْمُفَسِّرَةَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ حُرُوفُ الْقَوْلِ. وَوَجْهُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [11 \ 1] ، فِيهِ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ دُونَ حُرُوفِ الْقَوْلِ، فَيَكُونُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ هُوَ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا مَفْعُولٌ لَهُ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ حَاصِل تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [21 \ 108] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ «إِنَّمَا» مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مُنْحَصِرٌ فِي مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» أَنَّ حَصْرَ الْوَحْيِ فِي آيَةِ الْأَنْبِيَاءِ هَذِهِ فِي تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ حَصْرٌ لَهُ فِي أَصْلِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْفُرُوعِ ; لِأَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ دَاخِلَةٌ فِي ضِمْنِ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» لِأَنَّ مَعْنَاهَا خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَإِفْرَادِهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْقَوْلِيَّةِ، وَالْفِعْلِيَّةِ، وَالِاعْتِقَادِيَّةِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [43 \ 45] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي «سُورَةِ الْفَاتِحَةِ» وَسَنَسْتَقْصِي الْكَلَامَ عَلَيْهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي «سُورَةِ النَّاسِ» لِتَكُونَ خَاتِمَةَ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ حُسْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ سَبَبٌ لِأَنْ يُمَتِّعَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ; لِأَنَّهُ رَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 عَلَى شَرْطِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَتَاعِ الْحَسَنِ: سَعَةُ الرِّزْقِ، وَرَغَدُ الْعَيْشِ، وَالْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى: الْمَوْتُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [11 \ 52] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ «نُوحٍ» : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [71 \ 10 - 12] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [16 \ 97] ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 96] ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [5 \ 66] ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [65 \ 2، 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. يُبَيِّنُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّ السِّرَّ كَالْعَلَانِيَةِ عِنْدَهُ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ وَمَا يُعْلَنُ وَمَا يُسَرُّ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِهَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [50 \ 16] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَقَوْلِهِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [7 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الْآيَةَ [10 \ 61] ، وَلَا تَقْلِبُ وَرَقَةً مِنَ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ إِلَّا وَجَدْتَ فِيهَا آيَةً بِهَذَا الْمَعْنَى. تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَاعِظًا أَكْبَرَ، وَلَا زَاجِرًا أَعْظَمَ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ، مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَعْمَلُهُ خَلْقُهُ، رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ، لَيْسَ بِغَائِبٍ عَمَّا يَفْعَلُونَ، وَضَرَبَ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الْوَاعِظِ الْأَكْبَرِ، وَالزَّاجِرِ الْأَعْظَمِ مَثَلًا لِيَصِيرَ بِهِ كَالْمَحْسُوسِ، فَقَالُوا: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ مَلِكًا قَتَّالًا لِلرِّجَالِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، شَدِيدَ الْبَطْشِ وَالنَّكَالِ عَلَى مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ ظُلْمًا، وَسَيَّافُهُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ، وَالنَّطْعُ مَبْسُوطٌ لِلْقَتْلِ، وَالسَّيْفُ يَقْطُرُ دَمًا، وَحَوْلَ هَذَا الْمَلِكِ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ جَوَارِيهِ وَأَزْوَاجُهُ وَبَنَاتُهُ، فَهَلْ تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْحَاضِرِينَ يَهِمُّ بِرِيبَةٍ أَوْ بِحَرَامٍ يَنَالُهُ مِنْ بَنَاتِ ذَلِكَ الْمَلِكِ وَأَزْوَاجِهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ عَالِمٌ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ؟ ! لَا، وَكَلَّا! بَلْ جَمِيعُ الْحَاضِرِينَ يَكُونُونَ خَائِفِينَ، وَجِلَةً قُلُوبُهُمْ، خَاشِعَةً عُيُونُهُمْ، سَاكِنَةً جَوَارِحُهُمْ خَوْفًا مِنْ بَطْشِ ذَلِكَ الْمَلِكِ. وَلَا شَكَّ «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى» أَنَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا أَشَدُّ عِلْمًا، وَأَعْظَمُ مُرَاقَبَةً، وَأَشَدُّ بَطْشًا، وَأَعْظَمُ نَكَالًا وَعُقُوبَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ، وَحِمَاهُ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، فَإِذَا لَاحَظَ الْإِنْسَانُ الضَّعِيفُ أَنَّ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَيْسَ بِغَائِبٍ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ مَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ وَمَا يَنْوِي لَانَ قَلْبُهُ، وَخَشِيَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَمِنْ أَسْرَارِ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْكُبْرَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ أَجْلِهَا هِيَ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَلَمْ يَقُلْ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ عَمَلًا، فَالِابْتِلَاءُ فِي إِحْسَانِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا الْآيَةَ [11 \ 7] . وَقَالَ فِي الْمُلْكِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [67 \ 2] . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهَا هِيَ أَنْ يُبْتَلَى - أَيْ يُخْتَبَرَ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ - فَإِنَّهُ يَهْتَمُّ كُلَّ الِاهْتِمَامِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ لِنَجَاحِهِ فِي هَذَا الِاخْتِبَارِ، وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْكُبْرَى سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا لِيُعَلِّمَهُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ» أَيْ وَهُوَ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِ الِاخْتِبَارِ فِيهِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى ذَلِكَ هِيَ هَذَا الْوَاعِظُ، وَالزَّاجِرُ الْأَكْبَرُ الَّذِي هُوَ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَفْعَلُ خَلْقُهُ، فَقَالَ لَهُ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ [11 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ [11 \ 5] ، وَفِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ [11 \ 5] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ [11 \ 5] يَزْوَرُّونَ عَنِ الْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ عَنْهُ ; لِأَنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ اسْتَقْبَلَهُ بِصَدْرِهِ، وَمَنِ ازْوَرَّ عَنْهُ وَانْحَرَفَ ثَنَى عَنْهُ صَدْرَهُ، وَطَوَى عَنْهُ كَشْحَهُ. بِهَذَا فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَهُمْ يُعَبِّرُونَ بِاعْوِجَاجِ الصَّدْرِ عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الشَّيْءِ وَالْمَيْلِ عَنْهُ، وَيُعَبِّرُونَ بِإِقَامَةِ الصَّدْرِ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ وَعَدَمِ الْمَيْلِ عَنْهُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ الْعَدَوِيِّ عَدِيِّ الرَّبَابِ: خَلِيلَيَّ عُوجَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ... عَلَى دَارِ مَيٍّ مِنْ صُدُورِ الرَّكَائِبِ تَكُنْ عَوْجَةً يَجْزِيكُمَا اللَّهُ عِنْدَهُ ... بِهَا الْأَجْرَ أَوْ تُقْضَى ذِمَامَةُ صَاحِبِ يَعْنِي: اثْنِيَا صُدُورَ الرَّكَائِبِ إِلَى دَارِ مَيٍّ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الشَّنْفَرَى: أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ ... فَإِنِّي إِلَى قَوْمٍ سِوَاكُمْ لَأَمِيلُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمِي ... صُدُورَ الْعَيْشِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ. كَانَ حُلْوَ الْمَنْطِقِ، يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُحِبُّ وَيَنْطَوِي لَهُ بِقَلْبِهِ عَلَى مَا يَسُوءُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ إِذَا مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنَى صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ، وَطَوْطَأَ رَأْسَهُ وَغَطَّى وَجْهَهُ لِكَيْلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْعُوَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، حُكِيَ مَعْنَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُجَامِعُوا أَوْ يَتَغَوَّطُوا وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ حِجَابٌ، يَسْتَحْيُونَ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ [11 \ 5] ، يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ لِأَجْلِ كَرَاهَتِهِمُ اسْتِمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ الْآيَةَ [71 \ 7] . وَقِيلَ: كَانُوا إِذَا عَمِلُوا سُوءًا ثَنَوْا صُدُورَهُمْ وَغَطَّوْا رُءُوسَهُمْ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ذَلِكَ أَخْفَوْا بِهِ عَمَلَهُمْ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ الْآيَةَ [11 \ 5] . وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ [11 \ 5] ، وَتَثْنَوْنِي مُضَارِعُ اثْنَوْنَى، وَوَزْنُهُ افْعَوْعَلَ مِنَ الثَّنْيِ كَمَا تَقُولُ احْلَوْلَى مِنَ الْحَلَاوَةِ وَصُدُورُهُمْ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالرَّفْعِ فَاعِلُ: تَثْنَوْنِي، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا مَرَّ فِي الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِحِكْمَةِ ابْتِلَاءِ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا عَبَثًا وَلَا بَاطِلًا، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهَدَّدَهُمْ بِالنَّارِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] ، وَقَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 115، 116] ، وَقَالَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] ، وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 2] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا: الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، أَيْ: تَذَكَّرَ بَعْدَ مُدَّةٍ. تَنْبِيهٌ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ «الْأُمَّةِ» فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةَ اسْتِعْمَالَاتٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا هُنَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأُمَّةِ فِي الْبُرْهَةِ مِنَ الزَّمَنِ. الثَّانِي: اسْتِعْمَالُهَا فِي الْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْغَالِبُ، كَقَوْلِهِ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ الْآيَةَ [28 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ الْآيَةَ [10 \ 47] ، وَقَوْلِهِ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً الْآيَةَ [2 \ 213] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الثَّالِثُ: اسْتِعْمَالُ «الْأُمَّةِ» فِي الرَّجُلِ الْمُقْتَدَى بِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 الْآيَةَ [16 \ 120] . الرَّابِعُ: اسْتِعْمَالُ «الْأُمَّةِ» فِي الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ الْآيَةَ [43 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً الْآيَةَ [23 \ 52] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُرِيدُ بِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أَعْطَاهُ جَزَاءَ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [42 \ 20] ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُبَيِّنُ فِي «سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» تَعْلِيقَ ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ الْآيَةَ [17 \ 18] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَكْفُرُ بِهِ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَّا دَخَلَ النَّارَ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الْآيَةَ [34 \ 28] وَقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ [7 \ 158 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ، نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ الشَّكِّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَصَرَّحَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ، وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [2 \ 1، 2] ، وَقَوْلِهِ: الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، صَرَّحَ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [12 \ 103] ، وَقَوْلِهِ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [6 \ 116] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 8، 67، 103، 121] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ الْآيَةَ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَيُعَذَّبُونَ أَيْضًا عَلَى إِضْلَالِهِمْ غَيْرَهُمْ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [16 \ 88] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ لِلْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ [7 \ 38] ، قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ، بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: الْأَوَّلُ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ مَعْنَى مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ الْآيَةَ [11 \ 20] : أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا الْحَقَّ سَمَاعَ مُنْتَفِعٍ، وَلَا أَنْ يُبْصِرُوهُ إِبْصَارَ مُهْتَدٍ ; لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ عَنِ اسْتِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ أَسْمَاعٌ وَأَبْصَارٌ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ الْآيَةَ [46 \ 26] . الثَّانِي وَهُوَ أَظْهَرُهَا عِنْدِي: أَنَّ عَدَمَ الِاسْتِطَاعَةِ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْخَتْمِ الَّذِي خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ، وَالْغِشَاوَةِ الَّتِي جَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [2 \ 7] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَذَلِكَ الْخَتْمُ وَالْأَكِنَّةُ عَلَى الْقُلُوبِ جَزَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ عَلَى مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] ، وَقَوْلِهِ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] ، وَقَوْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [2 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ الْآيَةَ [9 \ 125] ، وَقَوْلِهِ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [6 \ 110] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، أَيْ: لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِكَلَامِ الرُّسُلِ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْمَعَ كَذَا: إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْبُغْضِ لَهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [22 \ 72] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ الْآيَةَ [41 \ 26] ، وَقَوْلُهُ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنْ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُبْصِرُوا، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ دَائِمًا. الْخَامِسُ: أَنْ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَالْإِبْصَارَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَتَرَكُوا الْحَقَّ مَعَ أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِدْرَاكَهُ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ قَوْلَ الْأَخْفَشِ الْأَصْغَرِ بِأَنَّ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ مَقِيسٌ مُطْلَقًا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ. السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [11 \ 20] مِنْ صِفَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ [11 \ 20] وَتَكُونُ جُمْلَةُ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ [11 \ 20] اعْتِرَاضِيَّةً، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، أَيِ الْأَصْنَامُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِأَحَدٍ. وَيَشْهَدُ لِمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» : أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الْآيَةَ [7 \ 195] ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا أَقْوَالٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وَكُلُّهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ الْآيَةَ. ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَثَلَ لِلْكَافِرِ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلْمُؤْمِنِ بِالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، وَلَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا يَسْتَوِي الْأَصَمُّ وَالسَّمِيعُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: قَوْلُهُ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [35 \ 19 - 23] . وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى الْآيَةَ [13 \ 19] . وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [27 \ 80] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ قَالُوا لَهُ: مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ مِنَّا إِلَّا الْأَسَافِلُ وَالْأَرَاذِلُ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَرَاذِلِ لَهُ فِي زَعْمِهِمْ مَانِعٌ لَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [26 \ 111] . وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَى أَنْ يَطْرُدَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ الْآيَةَ [11 \ 29، 30] ، وَذَكَرَ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ فِي الشُّعَرَاءِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: أَرَأَيْتُمْ [11 \ 28] ، أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [11 \ 28] ، أَيْ: عَلَى يَقِينٍ وَنُبُوَّةٍ صَادِقَةٍ لَا شَكَّ فِيهَا، وَأَعْطَانِي رَحْمَةً مِنْهُ مِمَّا أَوْحَى إِلَيَّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، فَخَفِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَعْتَقِدُوا أَنَّهُ حَقٌّ، أَيُمْكِنُنِي أَنْ أُلْزِمَكُمْ بِهِ، وَأَجْبُرَ قُلُوبَكُمْ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ لِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيَّ بِهَا، وَرَحِمَنِي بِإِيتَائِهَا، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كَارِهُونَ لِذَلِكَ؟ يَعْنِي لَيْسَ بِيَدِي تَوْفِيقُكُمْ إِلَى الْهُدَى وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا جَلِيًّا لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لَبْسَ فِيهِ، إِنْ لَمْ يَهْدِكُمُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا إِلَيْهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى صَرَّحَ بِهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ نُوحٍ أَيْضًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ الْآيَةَ [11 \ 34] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّهُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْهُدَى، بَلْ يَبْذُلُ لَهُمْ ذَلِكَ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَخْذِ أُجْرَةٍ فِي مُقَابِلِهِ. وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، كَقَوْلِهِ فِي «سَبَإٍ» عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [34 \ 47] . وَقَوْلِهِ فِيهِ أَيْضًا فِي آخِرِ «سُورَةِ ص» : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [38 \ 86] . وَقَوْلِهِ فِي «الطُّورِ» ، وَ «الْقَلَمِ» : أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [52 \ 40] [68 \ 46] . وَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [25 \ 57] . وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» : قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [6 \ 90] . وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ فِي «سُورَةِ هُودٍ» : يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي الْآيَةَ [11 \ 51] . وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» عَنْ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [26 \ 109] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ رُسُلِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «يس» : اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا الْآيَةَ [36 \ 20، 21] . وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي «سُورَةِ سَبَإٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [34 \ 47] . وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَبْذُلُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عِوَضٍ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا عَلَى تَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى نَحْوِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالرُّوَيَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَلَّمْتُ رَجُلًا الْقُرْآنَ، فَأَهْدَى لِي قَوْسًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنْ أَخَذْتَهَا أَخَذْتَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ» ، فَرَدَدْتُهَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ بَيْنَ عَطِيَّةَ الْكَلَاعِيِّ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْمِزِّيُّ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ عَطِيَّةَ وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ عَطِيَّةَ الْمَذْكُورِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلْمٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: شَامِيٌّ مَجْهُولٌ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ أُبَيٍّ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ لَهُ طُرُقًا، مِنْهَا: أَنَّ الَّذِي أَقْرَأَهُ أُبَيٌّ هُوَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ قَالَ: أَقْرَأَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْقُرْآنَ، فَأَهْدَيْتُ لَهُ قَوْسًا، فَغَدَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَقَلَّدَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَقَلَّدْهَا مِنْ جَهَنَّمَ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا: وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاذٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالْبَزَّارِ بِنَحْوِ حَدِيثِ أُبَيٍّ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ بِنَحْوِهِ أَيْضًا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، فَقُلْتُ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ، وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ الْمَوْصِليُّ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَثَّقَهُ وَكِيعٌ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، وَكُلُّ حَدِيثٍ رَفَعَهُ فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. اهـ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ الْبَجَلِيُّ أَبُو هِشَامٍ - أَوْ هَاشِمٍ - الْمَوْصِليُّ صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى لَيْسَ فِيهَا الْمُغِيرَةُ الْمَذْكُورُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَا: ثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشَّارٍ، قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ نَحْوَ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْأَوَّلُ أَتَمُّ، فَقُلْتُ: مَا تَرَى فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْكَ تَقَلَّدْتَهَا» ، أَوْ «تَعَلَّقْتَهَا» اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَفِي سَنَدِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ إِذَا رَوَى عَنِ الثِّقَاتِ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ، كَثِيرُ التَّدْلِيسِ عَنِ الضُّعَفَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَعْدَلَ الْأَقْوَالِ فِيهِ أَنَّهُ إِنْ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ عَنِ الثِّقَاتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَهُ هَذَا مُعْتَضِدٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَبِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَلِكَ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَفِينَا الْأَعْرَابِيُّ، وَالْأَعْجَمِيُّ: فَقَالَ: «اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ، وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يُقَامُ الْقَدَحُ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمَرُ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سِوَادَةَ، عَنْ وَفَاءِ بْنِ شُرَيْحٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقْتَرِي فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ، كِتَابُ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَفِيكُمُ الْأَحْمَرُ، وَفِيكُمُ الْأَبْيَضُ، وَفِيكُمُ الْأَسْوَدُ، اقْرَءُوا قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَهُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يَقُومُ السَّهْمُ يَتَعَجَّلُ أَجْرَهُ وَلَا يَتَأَجَّلَهُ» اهـ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ» ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: رِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ عَنْ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى رَجُلٍ مُسِنٍّ قَدْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ، قَدِ احْتَبَسَ فِي بَيْتِهِ أُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيُؤْتَى بِطَعَامٍ لَا آكُلُ مِثْلَهُ بِالْمَدِينَةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 فَحَاكَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ طَعَامَهُ وَطَعَامَ أَهْلِهِ فَكُلْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يُتْحِفُكَ بِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ» اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» وَالشَّوْكَانِيِّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» . فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ وَنَحْوُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَالْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَطَاءٌ. وَكَرِهَ الزُّهْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ بِأَجْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: هَذِهِ الرُّغُفُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمُعَلِّمُونَ مِنَ السُّحْتِ. وَمِمَّنْ كَرِهَ أُجْرَةَ التَّعْلِيمِ مَعَ الشَّرْطِ: الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» ، وَقَالَ: إِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ أَخْذِ الْمُعَلِّمِ مَا أُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي أُجُورِ الْمُعَلِّمِينَ: أَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ فَيَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِأَمَانَاتِ النَّاسِ، التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَهُ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ مَنْعِهِ لِلْكَرَاهَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟» ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ» ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا. فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟» قَالَ نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا وَكَذَا يُسَمِّيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» فَقَالُوا: هَذَا الرَّجُلُ أَبَاحَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْضَ الْقُرْآنِ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِوَضًا عَنْ صَدَاقِهَا، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِوَضَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَائِزٌ، وَمَا رَدَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَهُ إِيَّاهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ إِكْرَامًا لَهُ لِحِفْظِهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَجْعَلِ التَّعْلِيمَ صَدَاقًا لَهَا - مَرْدُودٌ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ «عَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ» . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» ، قَالُوا: الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي الْجُعْلِ عَلَى الرُّقْيَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، وَاحْتِمَالُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُعْلِ عَلَى الرُّقْيَةِ وَبَيْنَ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ ظَاهِرٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ تَدْعُهُ الْحَاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ فَالْأَوْلَى لَهُ أَلَّا يَأْخُذَ عِوَضًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، لِلْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ دَعَتْهُ الْحَاجَةُ أَخَذَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ المَأْخُوذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ قَبِيلِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّعْلِيمِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأُجْرَةِ. وَالْأَوْلَى لِمَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِ التَّعْلِيمِ لِلْقُرْآنِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ، ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنْ يَحْمِلَ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْلُكَهُمْ - أَيْ يُدْخِلَهُمْ - فِيهَا. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِيهَا بُيُوتًا يَدْخُلُ فِيهَا الرَّاكِبُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [23 \ 27] ، وَمَعْنَى اسْلُكْ أَدْخِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سَلَكْتُ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ: أَدْخَلْتُهُ فِيهِ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَسْلَكْتُهُ فِيهِ، رُبَاعِيًّا بِوَزْنِ: أَفْعَلَ، وَالثُّلَاثِيَّةُ لُغَةُ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [23 \ 27] ، وَقَوْلِهِ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ الْآيَةَ [28 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الْآيَةَ [26 \ 200] ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الْآيَةَ [15 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ الْآيَةَ [74 \ 42] ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَدِّدِ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ وَمِنَ الرُّبَاعِيَّةِ قَوْلُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ رُبْعٍ الْهُذَلِيِّ: حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَصْلَ السَّلْكِ الَّذِي هُوَ الْخَيْطُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَذِبْحٍ بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ، وَقِتْلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ ; لِأَنَّ الْخَيْطَ يَسْلُكُ أَيْ يَدْخُلُ فِي الْخَرَزِ لِيُنَظِّمَهُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ ... تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهُوَ مُنْتَثِرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الْآيَةَ، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ نُوحًا أَنْ يَحْمِلَ فِي السَّفِينَةِ أَهْلَهُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، أَيْ سَبَقَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ شَقِىٌّ، وَأَنَّهُ هَالِكٌ مَعَ الْكَافِرِينَ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الَّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ هُوَ ابْنُهُ وَامْرَأَتُهُ. قَالَ فِي ابْنِهِ الَّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [11 \ 42] إِلَى قَوْلِهِ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [11 \ 43] ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ الْآيَةَ [11 \ 46] ، وَقَالَ فِي امْرَأَتِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ إِلَى قَوْلِهِ مَعَ الدَّاخِلِينَ [66 \ 01] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لِغَفُورٌ رَحِيمٌ. ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُ احْمِلْهُمْ فِيهَا أَنْ يَرْكَبُوا فِيهَا قَائِلًا: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [11 \ 41] ، أَيْ: بِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ جَرْيُهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَبِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ مُنْتَهَى سَيْرِهَا وَهُوَ رُسُوُّهَا. وَبَيَّنَ فِي «سُورَةِ الْفَلَاحِ» : أَنَّهُ أَمَرَهُ إِذَا اسْتَوَى عَلَى السَّفِينَةِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ أَنْ يَحْمَدُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 اللَّهَ الَّذِي نَجَّاهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ الظَّالِمِينَ، وَيَسْأَلُوهُ أَنْ يُنْزِلَهُمْ مُنْزَلًا مُبَارَكًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [23 \ 28، 29] . وَبَيَّنَ فِي «سُورَةِ الزُّخْرُفِ» مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عِنْدَ رُكُوبِ السُّفُنِ وَغَيْرِهَا بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [43 \ 12 - 14] ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُقْرِنِينَ، أَيْ: مُطِيقِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عَقِيلٌ ... لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: رَكِبْتُمْ صَعْبَتَيْ أَشَرٍ وَجُبْنٍ ... وَلَسْتُمْ لِلصِّعَابِ بِمُقْرِنِينَا وَقَوْلُ ابْنُ هَرْمَةَ: وَأَقْرَنَتْ مَا حَمَلَتْنِي وَلَقَلَّمَا يُطَاقُ ... احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ وَالْهَجْرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ الْآيَةَ. ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ السَّفِينَةَ تَجْرِي بِنُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي مَاءٍ عَظِيمٍ، أَمْوَاجُهُ كَالْجِبَالِ. وَبَيَّنَ جَرَيَانَهَا هَذَا فِي ذَلِكَ الْمَاءِ الْهَائِلِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [69 \ 11، 12] ، وَقَوْلِهِ: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [54 \ 11 - 15] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ أَمْوَاجَ الْبَحْرِ الَّذِي أَغْرَقَ اللَّهُ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَالْجِبَالِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [26 \ 36] ، وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ الْعَظِيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَمْرَهُ الَّذِي نَجَّى مِنْهُ هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عِنْدَ مَجِيئِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ الْإِهْلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ الَّتِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا فَقَطَعَ دَابِرَهُمْ، كَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [51 \ 41، 42] . وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا الْآيَةَ [69 \ 6، 7] . وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [54 \ 19، 20] . وَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ الْآيَةَ [41 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا الْآيَةَ. وَبَيَّنَ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي جَاءَ بِقَوْلِهِ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [11 \ 67، 68] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْبُشْرَى الَّتِي جَاءَتْ بِهَا رُسُلُ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ بَعْدَ هَذَا إِلَى أَنَّهَا الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي قَوْلِهِ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [11 \ 71] ; لِأَنَّ الْبِشَارَةَ بِالذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ شَامِلَةٌ لِلْأُمِّ وَالْأَبِ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [37 \ 112] . وَقَوْلُهُ: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [51 \ 28] ، وَقَوْلُهُ: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، وَقِيلَ: الْبُشْرَى هِيَ إِخْبَارُهُمْ لَهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لَهَا كَقَوْلِهِ هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ: قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ الْآيَةَ [11 \ 70] . وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ الْآيَةَ [15 \ 58، 59] . وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [51 \ 32، 33] ، وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [29 \ 31] . وَالظَّاهِرُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ فِيهَا التَّصْرِيحَ بِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَ مَجِيئِهِمْ بِالْبُشْرَى ; لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي هِيَ «لَمَّا» كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 تَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَلَّمَ عَلَى رُسُلِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ يَظُنُّهُمْ ضُيُوفًا مِنَ الْآدَمِيِّينَ أَسْرَعَ إِلَيْهِمْ بِالْإِتْيَانِ بِالْقِرَى وَهُوَ لَحْمُ عِجْلٍ حَنِيذٍ أَيْ مُنْضَجٍ بِالنَّارِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَأْكُلُوا أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فَقَالُوا لَا تَخَفْ وَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِهِمْ. وَبَيَّنَ فِي «الذَّارِيَاتِ» : أَنَّهُ رَاغَ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ مَالَ إِلَيْهِمْ فَجَاءَ بِذَلِكَ الْعِجْلِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ سَمِينٌ، وَأَنَّهُ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْأَكْلَ بِرِفْقٍ فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا تَأْكُلُونَ [51 \ 27] ، وَأَنَّهُ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً الْآيَةَ [51 \ 24 - 28] . تَنْبِيهٌ يُؤْخَذُ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ضَيْفِهِ هَؤُلَاءِ أَشْيَاءَ مِنْ آدَابِ الضِّيَافَةِ: مِنْهَا تَعْجِيلُ الْقِرَى ; لِقَوْلِهِ: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [11 \ 69] . وَمِنْهَا كَوْنُ الْقِرَى مِنْ أَحْسَنِ مَا عِنْدَهُ ; لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ الْبَقَرُ وَأَطْيَبُهُ لَحْمًا الْفَتِيُّ السَّمِينُ الْمُنْصِحُ. وَمِنْهَا تَقْرِيبُ الطَّعَامِ إِلَى الضَّيْفِ. وَمِنْهَا مُلَاطَفَتُهُ بِالْكَلَامِ بِغَايَةِ الرِّفْقِ، كَقَوْلِهِ أَلَا تَأْكُلُونَ [51 \ 27] . وَمَعْنَى قَوْلِهِ نَكِرَهُمْ [11 \ 70] ، أَيْ: أَنْكَرَهُمْ لِعَدَمِ أَكْلِهِمْ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ نَكِرَ، وَأَنْكَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ الْأَعْشَى: وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا وَرُوِيَ عَنْ يُونُسَ: أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ صَنَعَ هَذَا الْبَيْتَ وَأَدْخَلَهُ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مَا قَالَتْهُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا بُشِّرَتْ بِالْوَلَدِ وَهِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 عَجُوزٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا فَعَلَتْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ مَا فَعَلَتْ فِي «الذَّارِيَاتِ» بِقَوْلِهِ: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [51 \ 29] ، وَقَوْلُهُ: فِي صَرَّةٍ، أَيْ: ضَجَّةٍ وَصَيْحَةٍ، وَقَوْلُهُ: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا، أَيْ: لَطَمَتْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا جَادَلَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَلَائِكَةَ فِي قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» بِقَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ الْآيَةَ [29 \ 31، 32] . فَحَاصِلُ جِدَالِهِ لَهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ أَهْلَكْتُمُ الْقَرْيَةَ وَفِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَكْتُمْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، فَأَجَابُوهُ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِمْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا الْآيَةَ [29 \ 32] . وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 35، 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ. هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّهُ آتٍ قَوْمَ لُوطٍ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [11 \ 82، 83] . وَقَوْلِهِ فِي «الْحِجْرِ» : فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [15 \ 74، 75] . وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ الْآيَةَ [25 \ 40] . وَقَوْلِهِ: ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [26 \ 172، 173] . وَقَوْلِهِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [51 \ 33، 34] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ. ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَمَّا جَاءَتْهُ رُسُلُ رَبِّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ مَسَاءَةٌ عَظِيمَةٌ ضَاقَ صَدْرُهُ بِهَا، وَأَشَارَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أَنَّ سَبَبَ مَسَاءَتِهِ وَكَوْنِهِ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ ضُيُوفٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَمَا ظَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَظَنَّ أَنَّ قَوْمَهُ يَنْتَهِكُونَ حُرْمَةَ ضُيُوفِهِ فَيَفْعَلُونَ بِهِمْ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ عَلِمُوا بِقُدُومِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 ضَيْفٍ فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ لِيَفْعَلُوا بِهِ الْفَاحِشَةَ الْمَذْكُورَةَ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [11 \ 78، 79] . وَقَوْلُهُ فِي «الْحِجْرِ» : وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [15 \ 67 - 72] . وَقَوْلُهُ: يُهْرَعُونَ [11 \ 78] ، أَيْ: يُسْرِعُونَ وَيُهَرْوِلُونَ مِنْ فَرَحِهِمْ بِذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلٍ: فَجَاءُوا يُهْرَعُونَ وَهُمْ أُسَارَى ... تَقُودُهُمْ عَلَى رَغْمِ الْأُنُوفِ وَقَوْلُهُ: وَلَا تُخْزُونِ، أَيْ: لَا تُهِينُونِ وَلَا تُذِلُّونِ بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ ضَيْفِي، وَالِاسْمُ مِنْهُ: الْخِزْيُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ. وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: فَأَخْزَاكَ رَبِّي يَا عُتَيْبُ بْنَ مَالِكٍ ... وَلَقَّاكَ قَبْلَ الْمَوْتِ إِحْدَى الصَّوَاعِقِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَوْلُهُ: وَلَا تُخْزُونِ [15 \ 69] مِنَ الْخَزَايَةِ، وَهِيَ الْخَجَلُ وَالِاسْتِحْيَاءُ مِنَ الْفَضِيحَةِ، أَيْ لَا تَفْعَلُوا بِضَيْفِي مَا يَكُونُ سَبَبًا فِي خَجَلِي وَاسْتِحْيَائِي، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ ثَوْرًا وَحْشِيًّا تُطَارِدُهُ الْكِلَابُ فِي جَانِبِ حَبْلٍ مِنَ الرَّمْلِ: حَتَّى إِذَا دَوَّمَتْ فِي الْأَرْضِ رَاجَعَهُ ... كِبْرٌ وَلَوْ شَاءَ نَجَّى نَفْسَهُ الْهَرَبُ خَزَايَةٌ أَدْرَكَتْهُ بَعْدَ جَوْلَتِهِ ... مِنْ جَانِبِ الْحَبْلِ مَخْلُوطًا بِهَا الْغَضَبُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الثَّوْرَ لَوْ شَاءَ نَجَا مِنَ الْكِلَابِ بِالْهَرَبِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْيَا وَأَنِفَ مِنَ الْهَرَبِ فَكَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ الْآخَرُ: أَجَاعِلَةٌ أُمَّ الثُّوَيْرِ خَزَايَةً عَلَى ... فِرَارِي أَنْ لَقِيتُ بَنِي عَبْسِ وَالْفِعْلُ مِنْهُ: خَزِيَ يَخْزَى، كَرَضِيَ يَرْضَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مِنَ الْبِيضِ لَا تَخْزَى إِذَا الرِّيحُ أَلْقَعَتْ ... بِهَا مِرْطَهَا أَوْ زَايَلَ الْحَلَى جِيدُهَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَإِنِّي لَا أَخْزَى إِذَا قِيلَ مُمْلِقٌ ... سَخِيٌّ وَأَخْزَى أَنْ يُقَالَ بَخِيلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وَقَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ بِحَيَاتِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يُقْسِمْ فِي الْقُرْآنِ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَخْفَى. وَلَا يَجُوزُ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَعَمْرُكَ قَسَمِي، وَسُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ تَقْدِيمُ الرَّاءِ عَلَى اللَّامِ فِي لَعَمْرُكَ، فَتَقُولُ فِيهَا: رَعَمْلُكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: رَعَمْلُكَ إِنَّ الطَّائِرَ الْوَاقِعَ الَّذِي ... تَعَرَّضَ لِي مِنْ طَائِرٍ لَصَدُوقُ وَقَوْلُهُ: لَفِي سَكْرَتِهِمْ [15 \ 72] ، أَيْ: عَمَاهُمْ وَجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَالْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ، فَمَعْنَى يَعْمَهُونَ [15 \ 72] : يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَعْرِفُونَ حَقًّا مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا نَافِعًا مِنْ ضَارٍّ، وَلَا حَسَنًا مِنْ قَبِيحٍ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِ لُوطٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي [11 \ 78] فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُدَافَعَةَ عَنْ ضَيْفِهِ فَقَطْ، وَلَمْ يُرِدْ إِمْضَاءَ مَا قَالَ، وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بَنَاتُهُ لِصُلْبِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: دَعُوا فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ وَأُزَوِّجُكُمْ بَنَاتِي، وَعَلَى هَذَا فَتَزْوِيجُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، كَمَا كَانَتْ بَنَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الْكُفَّارِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ أَرْسَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِقْدَهَا الَّذِي زَفَّتْهَا بِهِ أُمُّهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، أَرْسَلَتْهُ إِلَيْهِ فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ الْمَذْكُورِ لَمَّا أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ عَقَدَهَا الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: وَابْنُ الرَّبِيعِ صِهْرُ هَادِي الْمِلَّةِ إِذْ فِي فِدَاهُ زَيْنَبُ أَرْسَلَتْ بِعِقْدِهَا الَّذِي بِهِ أَهْدَتْهَا لَهُ خَدِيجَةُ وَزَفَّفَتْهَا سَرَّحَهُ بِعَقْدِهَا وَعَهْدًا إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا لَهُ غَدَا إِلَخْ. . . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَنَاتِ: جَمِيعُ نِسَاءِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّ نَبِيَّ الْقَوْمِ أَبٌ دِينِيٌّ لَهُمْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [33 \ 6] وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» وَرُوِيَ نَحْوُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا الْقَوْلُ تُقَرِّبُهُ قَرِينَةٌ وَتُبْعِدُهُ أُخْرَى، أَمَّا الْقَرِينَةُ الَّتِي تُقَرِّبُهُ فَهِيَ: أَنَّ بَنَاتَ لُوطٍ لَا تَسَعُ جَمِيعَ رِجَالِ قَوْمِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِذَا زَوَّجَهُنَّ لِرِجَالٍ بِقَدْرِ عَدَدِهِنَّ بَقِيَ عَامَّةُ رِجَالِ قَوْمِهِ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ عُمُومُ نِسَاءِ قَوْمِهِ، وَيَدُلُّ لِلْعُمُومِ قَوْلُهُ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [26 \ 165، 166] ، وَقَوْلُهُ: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [27 \ 55] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الَّتِي تُبْعِدُهُ: فَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ لَيْسَ أَبًا لِلْكَافِرَاتِ، بَلْ أُبُوَّةُ الْأَنْبِيَاءِ الدِّينِيَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [33 \ 6] . وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي «الذَّارِيَاتِ» : بِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَيْسَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ إِلَّا أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِ لُوطٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ لُوطًا وَعَظَ قَوْمَهُ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَفْضَحُوهُ فِي ضَيْفِهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءَ وَتَرْكَ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَتَمَادَوْا فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ إِرَادَةِ الْفَاحِشَةِ، فَقَالَ لُوطٌ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً الْآيَةَ [11 \ 80] ، فَأَخْبَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ رَبِّهِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ الْخُبَثَاءَ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ بِسُوءٍ. وَبَيَّنَ فِي الْقَمَرِ أَنَّهُ تَعَالَى طَمَسَ أَعْيُنَهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [54 \ 37] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ لُوطًا أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هُوَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَوْ وَسَطِهِ أَوْ أَوَّلِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي «الْقَمَرِ» أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقْتَ السَّحَرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [54 \ 34] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَهُمْ أَمَامَهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 «الْحِجْرِ» بِقَوْلِهِ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [15 \ 65] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [11 \ 81] ، قَرَأَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ إِلَّا امْرَأَتَكَ، بِالنَّصْبِ، وَعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ; لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَهْلِ، أَيْ أَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ فَلَا تُسْرِ بِهَا، وَاتْرُكْهَا فِي قَوْمِهَا فَإِنَّهَا هَالِكَةٌ مَعَهُمْ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ: كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [29 \ 32، 33] ، وَالْغَابِرُ: الْبَاقِي، أَيْ مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْهَلَاكِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ: إِلَّا امْرَأَتُكَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَحَدٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَمَرَ لُوطًا أَنْ يَنْهَى جَمِيعَ أَهْلِهِ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهَا هَالِكَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي نَهْيِهَا عَنْ الِالْتِفَاتِ لِكَوْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْهَالِكِينَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهُوَ لَمْ يَسْرِ بِهَا، وَظَاهِرُ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ كَثِيرٍ: أَنَّهُ أَسْرَى بِهَا وَالْتَفَتَتْ فَهَلَكَتْ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمَّا سَمِعَتْ هَدَّةَ الْعَذَابِ الْتَفَتَتْ، وَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ، فَأَدْرَكَهَا حَجَرٌ فَقَتَلَهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَنَّ السِّرَّ فِي أَمْرِ لُوطٍ بِأَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ هُوَ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ الْوَاقِعِ صُبْحًا بِقَوْمِ لُوطٍ، وَامْرَأَةُ لُوطٍ مُصِيبُها ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَهَا لَا مَحَالَةَ، فَنَتِيجَةُ إِسْرَاءِ لُوطٍ بِأَهْلِهِ لَمْ تَدْخُلْ فِيهَا امْرَأَتُهُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَالْعَدَمِ، فَيَسْتَوِي مَعْنَى أَنَّهُ تَرَكَهَا وَلَمْ يُسْرِ بِهَا أَصْلًا، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهَا وَهَلَكَتْ مَعَ الْهَالِكِينَ. فَمَعْنَى الْقَوْلَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهَا هَالِكَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا نَفْعٌ فِي إِسْرَاءِ لُوطٍ بِأَهْلِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا بَقِيَتْ مَعَهُمْ، أَوْ خَرَجَتْ وَأَصَابَهَا مَا أَصَابَهُمْ. فَإِذَا كَانَ الْإِسْرَاءُ مَعَ لُوطٍ لَمْ يُنَجِّهَا مِنَ الْعَذَابِ، فَهِيَ وَمَنْ لَمْ يُسْرِ مَعَهُ سَوَاءٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [11 \ 81] ، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ: «فَاسْرِ» بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، مِنْ سَرَى يَسْرِي، وَقَرَأَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، مِنْ أَسْرَى الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَسَرَى وَأَسْرَى: لُغَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، وَمِنْ سَرَى الثُّلَاثِيَّةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي [89 \ 4] ، فَإِنَّ فَتْحَ يَاءِ يَسْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ سَرَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الثُّلَاثِيَّةِ. وَجَمَعَ اللُّغَتَيْنِ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ ... تُزْجِي الشَّمَالُ عَلَيْهَا جَامِدَ الْبَرَدِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَسْرَتْ، رُبَاعِيَّةً فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيِ الْبَيْتِ، وَقَوْلُهُ: سَارِيَةٌ، اسْمُ فَاعِلِ «سَرَى» الثُّلَاثِيَّةِ، وَجَمَعَهُمَا أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ: حَتَّى النَّضِيرَةِ رَبَّةِ الْخِدْرِ ... أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي بِفَتْحِ تَاءِ «تَسْرِي» وَاللُّغَتَانِ كَثِيرَتَانِ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَصْدَرُ الرُّبَاعِيَّةِ الْإِسْرَاءُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمَصْدَرُ الثُّلَاثِيَّةِ السُّرَى بِالضَّمِّ عَلَى وَزْنِ فُعَلٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى ... وَتَنْجَلِي عَنْهُمْ غَيَابَاتُ الْكَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَوْعِدَ إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ وَقْتُ الصُّبْحِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي «الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [15 \ 66] ، وَزَادَ فِي «الْحِجْرِ» أَنَّ صَبِيحَةَ الْعَذَابِ وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ وَقْتَ الْإِشْرَاقِ، وَهُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ الْآيَةَ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِحِجَارَةِ السِّجِّيلِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّجِّيلِ: الطِّينُ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الذَّارِيَاتِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [51 \ 33، 34] ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا: أَنَّ اللَّهَ مَا عَذَّبَهُمْ بِهَا فِي حَالَةِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا لِأَنَّ النَّكَالَ بِهَا بَالِغٌ شَدِيدٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: السِّجِّيلُ وَالسَّجِّينُ: أُخْتَانِ، كِلَاهُمَا الشَّدِيدُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالضَّرْبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ: وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا وَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى مِنْ سِجِّيلٍ،: أَيْ مِنْ طِينٍ شَدِيدِ الْقُوَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ: اثْنَانِ مِنْهَا كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، وَوَاحِدٌ يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ. أَمَّا الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ لَيْسَتْ بَعِيدَةً مِنْ قَوْمِ لُوطٍ، أَيْ لَمْ تَكُنْ تُخْطِئُهُمْ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّ هَذَا يَكْفِي عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً [11 \ 82] وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ. أَمَّا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْآنٌ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ لُوطٍ لَيْسَتْ بِبَعِيدَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِنَبِيِّنَا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِمَا وَقَعَ لِأَهْلِهَا إِذَا مَرُّوا عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَيَخَافُوا أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعَذَابِ بِأُولَئِكَ، بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لُوطًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137، 138] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 76، 77] ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [51 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [29 \ 35] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا هِيَ رَاجِعٌ إِلَى دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمَقَامِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ بِبَعِيدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ لِلْفَاعِلِينَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ، فَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ظَاهِرٌ جَدًّا فِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. تَنْبِيهٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عُقُوبَةِ مَنِ ارْتَكَبَ فَاحِشَةَ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَأَدِلَّتَهُمْ وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا نَسْتَعِينُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُقْتَلَ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ بِكْرَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ بِكْرًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 قَالَ بَعْضُهُمْ: يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْرَقُ بِالنَّارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْبَلَدِ فَيُرْمَى مِنْهُ مُنَكَّسًا وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فِي اللِّوَاطِ مُطْلَقًا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ مِنْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِيهِ أَنَّ عَمْرًا الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ، أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَمَالكٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى. وَيَعْتَضِدُ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ: أَنَّهُ يُرْجَمُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا» قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الطَّلَّاعِ فِي أَحْكَامِهِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَمَ فِي اللِّوَاطِ، وَلَا أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. اهـ. قَالَ الْحَافِظُ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهُ، وَعَاصِمٌ مَتْرُوكٌ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: «فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» اهـ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَجَمَ لُوطِيًّا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ بِرَجْمِ اللُّوطِيِّ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: السُّنَّةُ أَنْ يُرْجَمَ اللُّوطِيُّ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 قَالَا: ثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَنْبَأَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، أَنْبَأَ دَاوُدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِ يَذْكُرُ لَهُ: أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ يَوْمَئِذٍ قَوْلًا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، نَرَى أَنْ تَحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْرِقَهُ بِالنَّارِ. هَذَا مُرْسَلٌ. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: يُرْجَمُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَمَ رَجُلًا مُحْصَنًا فِي عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الثَّوْرِيُّ عَنْهُ مُقَيَّدًا بِالْإِحْصَانِ. وَهُشَيْمٌ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مُطْلَقًا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَهَذِهِ حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِقَتْلِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فِي اللِّوَاطِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ بِالنَّارِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنِفًا. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَتْلَهُ بِالسَّيْفِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» ، وَالْقَتْلُ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَتْلَهُ بِالرَّجْمِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُرْجَمُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ رَجَمَ لُوطِيًّا، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَمَى أَهْلَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ بِحِجَارَةِ السِّجِّيلِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى بِنَاءٍ، أَوْ جَبَلٍ وَيُلْقَى مُنَكَّسًا، وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ بِقَوْمِ لُوطٍ، كَمَا قَالَ: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَكُنْ عِقَابُهُمْ عَلَى اللِّوَاطِ وَحْدَهُ، بَلْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ قَدْ جَمَعُوا إِلَى اللِّوَاطِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ اللِّوَاطِ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَإِيذَاءُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللِّوَاطَ زِنًى فَيُجْلَدُ مُرْتَكِبُهُ مِائَةً إِنْ كَانَ بِكْرًا وَيُغَرَّبُ سَنَةً، وَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ إِلَى أَنَّ اللِّوَاطَ زِنًى، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَى، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ، وَإِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثَنَا أَبُو بَدْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَهُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا لَا أَعْرِفُهُ، وَهُوَ مُنْكَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَذَّبَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا أَعْرِفُهُ، وَالْحَدِيثُ مُنْكَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَفِيهِ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْبَجَلِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ. اهـ مِنْهُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا بِقِيَاسِ اللِّوَاطِ عَلَى الزِّنَى بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ إِيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، مُشْتَهًى طَبْعًا. وَرُدَّ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ ; لِأَنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَالْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ التَّقْدِيرُ جَوَازُهُ فِيهَا هُوَ الْمَشْهُورُ إِلَّا أَنَّ قِيَاسَ اللَّائِطِ عَلَى الزَّانِي يُقْدَحُ فِيهِ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى: «فَسَادُ الِاعْتِبَارِ» ; لِمُخَالَفَتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ يُقْتَلَانِ مُطْلَقًا، أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحَصِنَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا يَشْتَهِي اللِّوَاطَ، بَلْ يَنْفِرُ مِنْهُ غَايَةَ النُّفُورِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 بِطَبْعِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّائِطَ لَا يُقْتَلُ وَلَا يَحُدُّ حَدَّ الزِّنَى، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، قَالُوا: وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الزِّنَى ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْمًا خَاصًّا بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍّ فِي زِيِّ ذِي ... ذَكَرٍ لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُهُ بِالزِّنَى لِوُجُودِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الدَّاعِيَ فِي الزِّنَى مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ اللِّوَاطِ، وَلِأَنَّ الزِّنَى يُفْضِي إِلَى الِاشْتِبَاهِ فِي النَّسَبِ وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ بِخِلَافِ اللِّوَاطِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدَحْ إِبْدَاءٌ مُخْتَصٌّ بِالْأَصْلِ قَدْ صَلَحْ أَوْ مَانِعٌ فِي الْفَرْعِ. . . إِلَخْ. . . . . . وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا الْآيَةَ [4 \ 16] . قَالُوا: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: اللِّوَاطُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيذَاءِ: السَّبُّ أَوِ الضَّرْبُ بِالنِّعَالِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، قَالَ: الرَّجُلَانِ الْفَاعِلَانِ. وَأَخْرَجَ آدَمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَآذُوهُمَا، يَعْنِي سَبًّا، قَالَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الْآيَةَ. ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ: أَنَّهُ إِذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ انْتَهَى هُوَ عَنْهُ وَأَنَّ فِعْلَهُ لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ، مُؤْتَمِرًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 3] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ ! فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ» ، أَيْ: تَتَدَلَّى أَمْعَاؤُهُ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» ، قَالَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» . اهـ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ غَيْرَهُ أَدْعَى لِقَبُولِ غَيْرِهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ ... بِهِ تَلْفَ مَنْ إِيَّاهُ تَأْمُرُ آتِيَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَعَزَّ جَانِبَهُ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ الْعَصَبِيَّةِ، وَالْأَوَاصِرِ النَّسَبِيَّةِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ كُفَّارٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِدِينِهِ قَدْ يُعِينُهُ اللَّهُ، وَيُعِزُّهُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي صَالِحٍ وَقَوْمِهِ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ. الْآيَةَ [27 \ 49] فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا السُّوءَ بِصَالِحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا فِي حَالِ الْخَفَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ خَفَاءً وَسَرِقَةً لَكَانُوا يَحْلِفُونَ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ هُمْ عَصَبَتُهُ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا بِهِ سُوءًا، وَلَا شَهِدُوا ذَلِكَ وَلَا حَضَرُوهُ خَوْفًا مِنْ عَصَبَتِهِ. فَهُوَ عَزِيزُ الْجَانِبِ بِسَبَبِ عَصَبَتِهِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [93 \ 6] ، أَيْ: آوَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ. وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ الْعَصَبِيَّةِ، وَالْأَوَاصِرِ النَّسَبِيَّةِ، وَلَا صِلَةَ لَهُ بِالدِّينِ الْبَتَّةَ، فَكَوْنُهُ جَلَّ وَعَلَا يَمْتَنُّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيوَاءِ أَبِي طَالِبٍ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُنْعِمُ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِدِينِهِ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ. وَمِنْ ثَمَرَاتِ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ: وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... أَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَنَمْنَعُهُ حَتَّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ ... وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ لُوطٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ فِي قَوْمِهِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ عَدَمِ الْعَصَبَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [11 \ 80] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَنْفَعُهُمْ عَصَبِيَّةُ إِخْوَانِهِمُ الْكَافِرِينَ. وَلَمَّا نَاصَرَ بَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يُنَاصِرْهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنُو نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ - عَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ تِلْكَ الْمُنَاصَرَةَ الَّتِي هِيَ عَصَبِيَّةٌ نَسَبِيَّةٌ لَا صِلَةَ لَهَا بِالدِّينِ، فَأَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ: «إِنَّا وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ» وَمَنَعَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ: جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلٍ غَيْرَ آجِلِ بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ لَقَدْ سَفَهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا ... بَنِي خَلْفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ وَالْغَيَاطِلُ «بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ» ، وَمُرَادُ أَبِي طَالِبٍ بِهِمْ: بَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ «الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ» ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْغَيَاطِلَ ; لِأَنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ الْعِظَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِقَوْلِهِ يُرَقِّصُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَهُوَ صَغِيرٌ: كَأَنَّهُ فِي الْعِزِّ قَيْسُ بْنُ عَدِيٍّ ... فِي دَارِ سَعْدٍ يَنْتَدِي أَهْلَ النَّدَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كِنَانَةَ تُسَمَّى «الْغَيْطَلَةَ» وَهِيَ أُمُّ بَعْضِ أَوْلَادِهِ. فَسُمِّيَ بَنُو سَهْمِ الْغَيَاطِلَ ; لِأَنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيٍّ الْمَذْكُورَ سَيِّدُهُمْ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُعِينُ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ لِتَعَصُّبِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدَّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» ، وَفِي الْمَثَلِ: «اجْتَنِ الثِّمَارَ وَأَلْقِ الْخَشَبَةَ فِي النَّارِ» . فَإِذَا عَرَفْتَ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَنْتَفِعُ بِرَابِطَةِ نَسَبٍ وَعَصَبِيَّةٍ مِنْ كَافِرٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ النِّدَاءَ بِالرَّوَابِطِ الْعَصَبِيَّةِ لَا يَجُوزُ. لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ بِـ «يَا لَبَنِي فُلَانٍ» وَنَحْوِهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِهَا ; لِأَنَّ صِيغَةَ «افْعَلْ» لِلْوُجُوبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْهُ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ الْأَمْرَ بِتَرْكِهَا بِأَنَّهَا مُنْتِنَةٌ، وَمَا صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِتَرْكِهِ وَأَنَّهُ مُنْتِنٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَعَاطِيهِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النِّدَاءُ بِرَابِطَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ شِدَّةِ قُوَّتِهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ كَأَنَّهُ جَسَدُ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ، فَهِيَ تَرْبِطُكَ بِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ كَرَبْطِ أَعْضَائِكَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . وَإِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [58 \ 22] ، تَحَقَّقْتَ أَنَّ الرَّوَابِطَ النَّسَبِيَّةَ تَتَلَاشَى مَعَ الرَّوَابِطِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [49 \ 10] ، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [9 \ 71] . وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَسْلَافَنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا فَتَحُوا الْبِلَادَ وَمَصَّرُوا الْأَمْصَارَ بِالرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَا بِرَوَابِطَ عَصَبِيَّةٍ، وَلَا بِأَوَاصِرَ نَسَبِيَّةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ الْآيَةَ. قَيَّدَ تَعَالَى خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِالْمَشِيئَةِ، فَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [11 \ 107] ، ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَقَالَ فِي خُلُودِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 [11 \ 108] . وَقَالَ فِي خُلُودِ أَهْلِ النَّارِ: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [17 \ 97] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [6 \ 128] وَفِي سُورَةِ النَّبَإِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [78 \ 23] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ يُوسُفَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَال َ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا تَأْوِيلَ هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا الْآيَةَ [12 \ 99، 100] . وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ. بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ عَلَّمَ نَبِيَّهُ يُوسُفَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [12 \ 21] . وَقَوْلِهِ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [12 \ 101] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا، فَالْأَحَادِيثُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هِيَ الرُّؤْيَا، قَالُوا: لِأَنَّهَا إِمَّا حَدِيثُ نَفْسٍ، أَوْ مَلَكٍ، أَوْ شَيْطَانٍ. وَكَانَ يُوسُفُ أَعْبَرَ النَّاسِ لِلرُّؤْيَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى خِبْرَتِهِ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، كَقَوْلِهِ: يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [12 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ [12 \ 47] إِلَى قَوْلِهِ: يَعْصِرُونَ [12 \ 49] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي كُتُبِ اللَّهِ وَسُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا غَمُضَ وَمَا اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَغْرَاضِهَا وَمَقَاصِدِهَا، يُفَسِّرُهَا لَهُمْ وَيَشْرَحُهَا، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مُودَعَاتِ حِكَمِهَا. وَسُمِّيَتْ أَحَادِيثَ ; لِأَنَّهَا يُحَدَّثُ بِهَا عَنِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَيُقَالُ: قَالَ اللَّهُ كَذَا، وَقَالَ رَسُولُهُ كَذَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [7 \ 185] . وَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الْآيَةَ [39 \ 23] ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [28 \ 14] ، وَقَوْلُهُ: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي الْآيَةَ [12 \ 37] . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، وَعُلُومِ كُتُبِ اللَّهِ وَسُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ بِهَذَا الضَّلَالِ الَّذِي وَصَفُوا بِهِ أَبَاهُمْ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِنَّمَا هُوَ الذَّهَابُ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ كَمَا يَنْبَغِي. وَيَدُلُّ لِهَذَا وُرُودُ الضَّلَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخَاطِبِينَ أَبَاهُمْ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [12 \ 95] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [93 \ 7] ، أَيْ لَسْتَ عَالِمًا بِهَذِهِ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، فَهَدَاكَ إِلَيْهَا وَعَلَّمَكَهَا بِمَا أَوْحَى إِلَيْكَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلًا أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ يَعْنِي أَنَّهَا غَيْرُ عَالِمَةٍ بِالْحَقِيقَةِ فِي ظَنِّهَا أَنَّهُ يَبْغِي بِهَا بَدَلًا وَهُوَ لَا يَبْغِي بِهَا بَدَلًا. وَلَيْسَ مُرَادُ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ الضَّلَالَ فِي الدَّيْنِ ; إِذْ لَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ لَكَانُوا كُفَّارًا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ أَبَاهُمْ فِي زَعْمِهِمْ فِي ذَهَابٍ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْزَالِ الْأَمْرِ مَنْزِلَتَهُ اللَّائِقَةَ بِهِ، حَيْثُ آثَرَ اثْنَيْنِ عَلَى عَشَرَةٍ، مَعَ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَكْثَرُ نَفْعًا لَهُ، وَأَقْدَرُ عَلَى الْقِيَامِ بِشُئُونِهِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّلَالَ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الضَّلَالُ فِي الدِّينِ، أَيِ الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ، وَهَذَا أَشْهَرُ مَعَانِيهِ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1 \ 7] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71] ، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [36 \ 62] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الثَّانِي إِطْلَاقُ الضَّلَالِ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ، وَالْغَيْبَةِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ضَلَّ السَّمْنُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الطَّعَامِ، إِذَا غَابَ فِيهِ وَهَلَكَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ تُسَمِّي الْعَرَبُ الدَّفْنَ إِضْلَالًا ; لِأَنَّهُ تَغْيِيبٌ فِي الْأَرْضِ يَئُولُ إِلَى اسْتِهْلَاكِ عِظَامِ الْمَيِّتِ فِيهَا ; لِأَنَّهَا تَصِيرُ رَمِيمًا وَتَمْتَزِجُ بِالْأَرْضِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [32 \ 10] . وَمِنْ إِطْلَاقِ الضَّلَالِ عَلَى الْغَيْبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [7 \ 53] ، أَيْ: غَابَ وَاضْمَحَلَّ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الضَّلَالِ عَلَى الدَّفْنِ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ فَقَوْلُهُ: مُضِلُّوهُ، يَعْنِي دَافِنِيهِ، وَقَوْلُهُ: بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ، أَيْ: بِخَبَرٍ يَقِينٍ، وَالْجَوْلَانُ: جَبَلٌ دُفِنَ عِنْدَهُ الْمَذْكُورُ. وَمِنَ الضَّلَالِ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: كُنْتُ الْقَذَى فِي مَوْجٍ أَكْدَرَ ... مُزْبِدٍ قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ ... عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ سَيُنْبِئُ إِخْوَتَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي فَعَلُوا بِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ. ثُمَّ صَرَّحَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ [12 \ 89] . وَصَرَّحَ بِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِأَنَّهُ يُوسُفُ فِي قَوْلِهِ: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [12 \ 58] . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ [12 \ 15] ، أى: لَتُخْبِرَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّكَ يُوسُفُ، هُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: إِنَّ عَامِلَ الْحَالِ هُوَ قَوْلُهُ: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ [12 \ 15] ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْإِيحَاءَ وَقَعَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: غَيَابَةِ الْجُبِّ [12 \ 15] بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ «غَيَابَاتِ الْجُبِّ» بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا فَهُوَ غَيَابَةٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْقَبْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 غَيَابَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنْ أَنَا يَوْمًا غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بِسَيْرِي فِي الْعَشِيرَةِ وَالْأَهْلِ وَالْجَمْعُ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ نَظَرًا إِلَى تَعَدُّدِ أَجْزَاءِ قَعْرِ الْجُبِّ الَّتِي تُغَيِّبُ الدَّاخِلَ فِيهَا عَنِ الْعِيَانِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَابِ «لَمَّا» مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ أَمُثْبَتٌ هُوَ أَمْ مَحْذُوفٌ؟ فَقِيلَ: هُوَ مُثْبَتٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ الْآيَةَ [12 \ 17] ، أَيْ: لَمَّا كَانَ كَذَا وَكَذَا قَالُوا يَا أَبَانَا وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْوَجْهَ أَبُو حَيَّانَ. وَقِيلَ: جَوَابُ «لَمَّا» هُوَ قَوْلُهُ: أَوْحَيْنَا [12 \ 15] وَالْوَاوُ صِلَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، تُزَادُ عِنْدَهُمُ الْوَاوُ فِي جَوَابِ «لَمَّا، وَحَتَّى، وَإِذَا» ، وَعَلَى ذَلِكَ خَرَّجُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ الْآيَةَ [37 \ 103، 104] ، وَقَوْلَهُ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا الْآيَةَ [39 \ 73] ، وَقَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ حُقْفٍ ذِي رُكَامٍ عَقَنْقَلِ أَيْ: لَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ انْتَحَى. وَقِيلَ: جَوَابُ «لَمَّا» مَحْذُوفٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ تَقْدِيرَهُ فَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا مِنَ الْأَذَى. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ عَظُمَتْ فِتْنَتُهُمْ. وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ جَعَلُوهُ فِيهَا. وَاسْتَظْهَرَ هَذَا الْأَخِيرَ أَبُو حَيَّانَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ [12 \ 15] يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَمَّ بِأَنْ يَفْعَلَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِثْلَ مَا هَمَّتْ هِيَ بِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بَيَّنَ بَرَاءَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي حَيْثُ بَيَّنَ شَهَادَةَ كُلِّ مَنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَسْأَلَةِ بِبَرَاءَتِهِ، وَشَهَادَةَ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ وَاعْتِرَافَ إِبْلِيسَ بِهِ. أَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَهُمْ: يُوسُفُ، وَالْمَرْأَةُ، وَزَوْجُهَا، وَالنِّسْوَةُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وَالشُّهُودُ. أَمَّا جَزْمُ يُوسُفَ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [12 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. وَأَمَّا اعْتِرَافُ الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ فَفِي قَوْلِهَا لِلنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [12 \ 32] ، وَقَوْلِهَا: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [12 \ 51] . وَأَمَّا اعْتِرَافُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَفِي قَوْلِهِ: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [12 \ 28، 29] . وَأَمَّا اعْتِرَافُ الشُّهُودِ بِذَلِكَ فَفِي قَوْلِهِ: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ الْآيَةَ [12 \ 26] . وَأَمَّا شَهَادَةُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِبَرَاءَتِهِ فَفِي قَوْلِهِ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [12 \ 24] . قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : قَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى طَهَارَتِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَالثَّانِي قَوْلُهُ: وَالْفَحْشَاءَ، أَيْ: وَكَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ. وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [25 \ 63] . وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ: الْمُخْلَصِينَ، وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: قِرَاءَةٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَأُخْرَى بِاسْمِ الْمَفْعُولِ. فَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَعَ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ. وَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِحَضْرَتِهِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: فَإِنَّهُ مِنْ أَدَلِّ الْأَلْفَاظِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ. اهـ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [12 \ 23] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وَأَمَّا إِقْرَارُ إِبْلِيسَ بِطَهَارَةِ يُوسُفَ وَنَزَاهَتِهِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [38 \ 82، 83] ، فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِغْوَاءُ الْمُخْلَصِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ يُوسُفَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، فَظَهَرَتْ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْفَضِيحَةَ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ إِبْلِيسَ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ: كُنَّا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ تَلَامِذَةَ إِبْلِيسَ، إِلَى أَنْ تَخَرَّجْنَا عَلَيْهِ فَزِدْنَا فِي السَّفَاهَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْخَوَارِزْمِيُّ: وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى ... بِي الدَّهْرُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ ... طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ. اهـ كَلَامُ الرَّازِيِّ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ مَنْ قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَعُذْرُ الرَّازِيِّ فِي ذَلِكَ هُوَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَسَتَرَى فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ بَيَّنْتُمْ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى بَرَاءَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَكِنْ مَاذَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمَّ بِهَا؟ [12 \ 24] فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّل: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَمِّ يُوسُفَ بِهَا خَاطِرٌ قَلْبِيٌّ صَرَفَ عَنْهُ وَازِعَ التَّقْوَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْمَيْلُ الطَّبِيعِيُّ وَالشَّهْوَةُ الْغَرِيزِيَّةُ الْمَزْمُومَةُ بِالتَّقْوَى، وَهَذَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» ، يَعْنِي مَيْلَ الْقَلْبِ الطَّبِيعِيِّ. وَمِثَالُ هَذَا مَيْلُ الصَّائِمِ بِطَبْعِهِ إِلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ، مَعَ أَنَّ تَقْوَاهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الشُّرْبِ وَهُوَ صَائِمٌ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَامِلَةٌ» ; لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا تَمِيلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 إِلَيْهِ نَفْسُهُ بِالطَّبْعِ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [79 \ 40، 41] . وَهَمُّ بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي سَلَمَةَ بِالْفِرَارِ يَوْمَ أُحُدٍ، كَهَمِّ يُوسُفَ هَذَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [3 \ 122] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَمَّ لَيْسَ مَعْصِيَةً ; لِأَنَّ إِتْبَاعَ الْمَعْصِيَةِ بِوَلَايَةِ اللَّهِ لِذَلِكَ الْعَاصِي إِغْرَاءٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْهَمَّ وَتُرِيدُ بِهِ الْمَحَبَّةَ وَالشَّهْوَةَ، فَيَقُولُ الْإِنْسَانُ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَشْتَهِيهِ: هَذَا مَا يُهِمُّنِي، وَيَقُولُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَشْتَهِيهِ: هَذَا أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ. بِخِلَافِ هَمِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ هَمُّ عَزْمٍ وَتَصْمِيمٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا شَقَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَهُوَ هَارِبٌ عَنْهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا عَجْزُهَا عَنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا التَّصْمِيمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ يُؤَاخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا، بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» ، فَصَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ تَصْمِيمَ عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ مَعْصِيَةٌ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِسَبَبِهَا النَّارَ. وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ هَمَّ يُوسُفَ بِأَنَّهُ قَارَبَ الْهَمَّ وَلَمْ يَهِمَّ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: قَتَلْتُهُ لَوْ لَمْ أَخَفِ اللَّهَ، أَيْ قَارَبْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ، كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَتَأْوِيلُ الْهَمِّ بِأَنَّهُ هَمَّ بِضَرْبِهَا، أَوْ هَمَّ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ بَعِيدٌ مِنَ الظَّاهِرِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَيَّانَ: أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَمٌّ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ لِوُجُودِ الْبُرْهَانِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ هُوَ أَجْرَى الْأَقْوَالِ عَلَى قَوَاعِدِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَنَّ الْجَوَابَ الْمَحْذُوفَ يُذْكَرُ قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [10 \ 84] ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ: دَلِيلُ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ لَا نَفْسُ الْجَوَابِ ; لِأَنَّ جَوَابَ الشُّرُوطِ وَجَوَابَ لَوْلَا لَا يَتَقَدَّمُ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ كَالْآيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 الْمَذْكُورَةِ، وَكَقَوْلِهِ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [27 \ 64] ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَعْنَى الْآيَةِ، وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، أَيْ لَوْلَا أَنْ رَآهُ هَمَّ بِهَا، فَمَا قَبْلَ لَوْلَا هُوَ دَلِيلُ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [28 \ 10] ، فَمَا قَبْلَ لَوْلَا دَلِيلُ الْجَوَابِ، أَيْ: لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لَكَادَتْ تُبْدِي بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَجَازُوا تَقْدِيمَ جَوَابِ لَوْلَا [12 \ 24] ، وَتَقْدِيمَ الْجَوَابِ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ جَوَابُ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [12 \ 24] ، هُوَ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَمَّ بِهَا [12 \ 24] . وَإِلَى جَوَازِ التَّقْدِيمِ الْمَذْكُورِ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ، وَمِنْ أَعْلَامِ الْبَصْرِيِّينَ: أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ، وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» مَا نَصُّهُ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَمٌّ بِهَا الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ مَنْفِيٌّ لِوُجُودِ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ، كَمَا تَقُولُ: لَقَدْ قَارَفْتَ لَوْلَا أَنْ عَصَمَكَ اللَّهُ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ جَوَابَ لَوْلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ، بَلْ صَرِيحُ أَدَوَاتِ الشُّرُوطِ الْعَامِلَةِ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ أَجْوِبَتِهَا عَلَيْهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَمِنْ أَعْلَامِ الْبَصْرِيِّينَ: أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ جَوَابَ لَوْلَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، كَمَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ. فَيُقَدِّرُونَهُ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ، وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ أَنْتَ ظَالِمٌ عَلَى ثُبُوتِ الظُّلْمِ، بَلْ هُوَ مُثْبَتٌ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ هُنَا التَّقْدِيرُ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، فَكَانَ وُجُودُ الْهَمِّ عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ، لَكِنَّهُ وَجَدَ رُؤْيَةَ الْبُرْهَانِ فَانْتَفَى الْهَمُّ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ: وَلَهَمَّ بِهَا، كَانَ بَعِيدًا، فَكَيْفَ مَعَ سُقُوطِ اللَّامِ؟ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهَمَّ بِهَا هُوَ جَوَابُ لَوْلَا وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْجَوَابِ فَاللَّامُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَ جَوَابُ لَوْلَا إِذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 بِاللَّامِ، وَبِغَيْرِ لَامٍ، تَقُولُ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، وَلَوْلَا زَيْدٌ أَكْرَمْتُكَ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: هَمَّ بِهَا نَفْسُ الْجَوَابِ لَمْ يَبْعُدْ، وَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَإِنَّ جَوَابَ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: وَهَمَّ بِهَا وَإِنَّ الْمَعْنَى: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، فَلَمْ يَهِمَّ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ لِسَانُ الْعَرَبِ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ اهـ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَرُدُّهُ لِسَانُ الْعَرَبِ فَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِوُجُودِهِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ \ [28 \ 10] 30 فَقَوْلُهُ: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إِمَّا أَنْ يَتَخَرَّجَ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْقَائِلُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَخَرَّجَ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لَكَادَتْ تُبْدِي بِهِ. وَأَمَّا أَقْوَالُ السَّلَفِ: فَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا أَقْوَالٌ مُتَكَاذِبَةٌ يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ كَوْنِهَا قَادِحَةً فِي بَعْضِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنِ الْمَقْطُوعِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ. وَالَّذِي رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا جَوَابَ لَوْلَا مَحْذُوفًا وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوا الْهَمَّ بِهَا وَلَا يَدُلُ كَلَامُ الْعَرَبِ إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَ الشَّرْطِ ; لِأَنَّ مَا قَبْلَ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ أَجْرَى الْأَقْوَالِ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خِلَافَ ذَلِكَ. فَبِهَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ تَعْلَمُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَرِيءٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْهَمَّ مُعَلَّقٌ بِأَدَاةِ الِامْتِنَاعِ الَّتِي هِيَ لَوْلَا عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ، وَقَدْ رَأَى الْبُرْهَانَ فَانْتَفَى الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، وَبِانْتِفَائِهِ يَنْتَفِي الْمُعَلَّقُ الَّذِي هُوَ هَمُّهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَمُّهُ خَاطِرًا قَلْبِيًّا صَرَفَ عَنْهُ وَازِعَ التَّقْوَى، أَوْ هُوَ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ الْغَرِيزِيُّ الْمَزْمُومُ بِالتَّقْوَى كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهَمَّ بِهَا لَا يُعَارِضُ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى بَرَاءَةِ يُوسُفَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 فَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا بَيَّنَّا دَلَالَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، فَسَنَذْكُرُ لَكَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي، وَأَقْوَالَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِالْبُرْهَانِ فَنَقُولُ: قَالَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» : أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا هَمَّتْ بِهِ تَزَيَّنَتْ، ثُمَّ اسْتَلْقَتْ عَلَى فِرَاشِهَا، وَهَمَّ بِهَا جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَحُلُّ تَبَّانَهُ نُودِيَ مِنَ السَّمَاءِ «يَا ابْنَ يَعْقُوبَ، لَا تَكُنْ كَطَائِرٍ يُنْتَفُ رِيشُهُ فَيَبْقَى لَا رِيشَ لَهُ» فَلَمْ يَتَّعِظْ عَلَى النِّدَاءِ شَيْئًا، حَتَّى رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعَيْهِ، فَفَزِعَ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ، فَوَثَبَ إِلَى الْبَابِ فَوَجَدَهُ مُغْلَقًا، فَرَفَعَ يُوسُفُ رِجْلَهُ فَضَرَبَ بِهَا الْبَابَ الْأَدْنَى فَانْفَرَجَ لَهُ، وَاتَّبَعَتْهُ فَأَدْرَكَتْهُ، فَوَضَعَتْ يَدَيْهَا فِي قَمِيصِهِ فَشَقَّتْهُ حَتَّى بَلَغَتْ عَضَلَةَ سَاقِهِ، فَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا بَلَغَ؟ قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ - يَعْنِي السَّرَاوِيلَ - وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَاتِنِ، فَصِيحَ بِهِ، يَا يُوسُفُ لَا تَكُنْ كَالطَّيْرِ لَهُ رِيشٌ، فَإِذَا زَنَى قَعَدَ لَيْسَ لَهُ رِيشٌ! وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [12 \ 24] ، قَالَ: طَمِعَتْ فِيهِ وَطَمِعَ فِيهَا، وَكَانَ مِنَ الطَّمَعِ أَنْ هَمَّ بِحَلِّ التِّكَّةِ، فَقَامَتْ إِلَى صَنَمٍ مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ وَالْيَوَاقِيتِ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ أَبْيَضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَصْنَعِينَ؟ فَقَالَتْ: اسْتَحِي مِنْ إِلَهِي أَنْ يَرَانِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَسْتَحِينَ مِنْ صَنَمٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَا أَسْتَحِي أَنَا مِنْ إِلَهِي الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَنَالِينَهَا مِنِّي أَبَدًا. وَهُوَ الْبُرْهَانُ الَّذِي رَأَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَهَمَّ بِهَا [12 \ 24] ، قَالَ: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ حَتَّى بَلَغَ ثُنَّتَهُ، وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَمُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ قَالَ: رَأَى صُورَةَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ عَاضًّا عَلَى إِبْهَامِهِ، فَأَدْبَرَ هَارِبًا وَقَالَ: «وَحَقِّكَ يَا أَبَتِ لَا أَعُودُ أَبَدًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، قَالَا: حَلَّ السَّرَاوِيلَ، وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَاتِنِ، فَرَأَى صُورَةً فِيهَا وَجْهُ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى أَصَابِعِهِ، فَدَفَعَ صَدْرَهُ فَخَرَجَتِ الشَّهْوَةُ مِنْ أَنَامِلِهِ، فَكُلُّ وَلَدِ يَعْقُوبَ قَدْ وُلِدَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا إِلَّا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ نَقَصَ بِتِلْكَ الشَّهْوَةِ وَلَدًا فَلَمْ يُولَدْ لَهُ غَيْرُ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، قَالَ: تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَ فِي صَدْرِ يُوسُفَ فَطَارَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ، فَوُلِدَ لِكُلِّ وَلَدِ يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ ذَكَرًا غَيْرَ يُوسُفَ لَمْ يُولَدْ لَهُ إِلَّا غُلَامَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، قَالَ: رَأَى يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى أَصَابِعِهِ يَقُولُ: «يُوسُفُ! يُوسُفُ!» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ، قَالَ: رَأَى آيَةً مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ حَجَزَهُ اللَّهُ بِهَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا يُوسُفُ! أَتَهِمُّ بِعَمَلِ السُّفَهَاءِ، وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ؟ ! فَذَلِكَ الْبُرْهَانُ. فَانْتَزَعَ اللَّهُ كُلَّ شَهْوَةٍ كَانَتْ فِي مَفَاصِلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، قَالَ: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاضًّا عَلَى إِصْبُعَيْهِ يَقُولُ: «يُوسُفُ بْنَ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، اسْمُكَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ!» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجِدَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ سَقْفَ الْبَيْتِ انْفَرَجَ، فَرَأَى يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبُعَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي «زَوَائِدِ الزُّهْدِ» ، عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. قَالَ: إِنَّهُ لَمَّا هَمَّ قِيلَ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا يُوسُفُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا هُوَ بِصُورَةٍ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ تَقُولُ: يَا يُوسُفُ! يَا يُوسُفُ! أَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ تَقُولُ: «يُوسُفُ! يُوسُفُ!» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْبُرْهَانَ الَّذِي رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ يَعْقُوبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، نُودِيَ: «يَا ابْنَ يَعْقُوبَ، لَا تَكُونَنَّ كَالطَّيْرِ لَهُ رِيشٌ، فَإِذَا زَنَى قَعَدَ لَيْسَ لَهُ رِيشٌ» ، فَلَمْ يَعْرِضْ لِلنِّدَاءِ وَقَعَدَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَرَأَى وَجْهَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبُعِهِ، فَقَامَ مَرْعُوبًا اسْتِحْيَاءً مِنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، قَالَ: كَانَ يُولَدُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ إِلَّا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَجْلِ مَا خَرَجَ مِنْ شَهْوَتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: نَظَرَ يُوسُفُ إِلَى صُورَةِ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبُعِهِ يَقُولُ: يَا يُوسُفُ، فَذَاكَ حِينَ كَفَّ وَقَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَحْيَا مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، قَالَ: رَأَى آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَنَهَتْهُ، مُثِّلَتْ لَهُ فِي جِدَارِ الْحَائِطِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: الْبُرْهَانُ الَّذِي رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 10، 11] ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [10 \ 61] ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [13 \ 33] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: رَأَى فِي الْبَيْتِ فِي نَاحِيَةِ الْحَائِطِ مَكْتُوبًا: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [17 \ 32] ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا خَلَا يُوسُفُ وَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ خَرَجَتْ كَفٌّ بِلَا جَسَدٍ بَيْنَهُمَا، مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [13 \ 33] ، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الْكَفُّ، وَقَامَا مَقَامَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَتِ الْكَفُّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 10، 12] ، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الْكَفُّ، وَقَامَا مَقَامَهُمَا، فَعَادَتِ الْكَفُّ الثَّالِثَةُ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [17 \ 32] ، وَانْصَرَفْتِ الْكَفُّ، وَقَامَا مَقَامَهُمَا، فَعَادَتِ الْكَفُّ الرَّابِعَةُ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [2 \ 281] ، فَوَلَّى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَارِبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، قَالَ: آيَاتِ رَبِّهِ، أُرِيَ تِمْثَالَ الْمَلِكِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ يُوسُفُ مَعَهَا الْبَيْتَ وَفِي الْبَيْتِ صَنَمٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَتْ: كَمَا أَنْتَ، حَتَّى أُغَطِّيَ الصَّنَمَ، فَإِنِّي أَسْتَحِي مِنْهُ، فَقَالَ يُوسُفُ: هَذِهِ تَسْتَحْيِي مِنَ الصَّنَمِ، أَنَا أَحَقُّ أَنْ أَسْتَحِييَ مِنَ اللَّهِ؟ فَكَفَّ عَنْهَا وَتَرَكَهَا. اهـ مِنْ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي رَأَيْتَ نِسْبَتُهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ عَمَّنْ نَقَلَهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِي سُقُوطِهِ. وَقِسْمٌ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ، وَمَنْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ الْمُزَاحِمُ لِلْيَقِينِ: أَنَّهُ إِنَّمَا تَلَقَّاهُ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ; لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، وَلَمْ يُرْفَعْ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّجَرُّؤُ عَلَى الْقَوْلِ فِي نَبِيِّ اللَّهِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْ كَافِرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، يُرِيدُ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا، اعْتِمَادًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، مَعَ أَنَّ فِي الرِّوَايَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 الْمَذْكُورَةِ مَا تَلُوحُ عَلَيْهِ لَوَائِحُ الْكَذِبِ، كَقِصَّةِ الْكَفِّ الَّتِي خَرَجَتْ لَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَفِي ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ لَا يُبَالِي بِهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ فِيهِ أَكْبَرُ زَاجِرٍ لِعَوَامِّ الْفُسَّاقِ، فَمَا ظَنُّكَ بِخِيَارِ الْأَنْبِيَاءِ؟ مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَتَعَدَّى أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَمٌّ بِهَا أَصْلًا، بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ هَمِّهِ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ، وَقَدْ رَأَى الْبُرْهَانَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَمُّهُ الْمَيْلَ الطَّبِيعِيَّ الْمَزْمُومَ بِالتَّقْوَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، اللَّذَيْنِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ صَرَفَهُمَا عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ. فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ [12 \ 24] ، قَالَ: الزِّنَى، وَالثَّنَاءُ الْقَبِيحُ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: السُّوءُ: مُقَدِّمَاتُ الْفَاحِشَةِ، كَالْقُبْلَةِ، وَالْفَاحِشَةُ: الزِّنَى. وَقِيلَ: السُّوءُ: جِنَايَةُ الْيَدِ، وَالْفَاحِشَةُ: الزِّنَى. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي تَقْدِيرِ مُتَعَلَّقِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ، أَيْ: فَعَلْنَا لَهُ ذَلِكَ مِنْ إِرَاءَةِ الْبُرْهَانِ، كَذَلِكَ الْفِعْلُ لِنَصْرِفَ وَاللَّامُ لَامُ كَيْ. وَقَوْلُهُ: الْمُخْلَصِينَ [12 \ 24] قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، بِفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، بِكَسْرِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لُزُومُ الْحُكْمِ بِالْقَرِينَةِ الْوَاضِحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَكَذِبِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مَعْرِضِ تَسْلِيمِ الِاسْتِدْلَالِ بِتِلْكَ الْقَرِينَةِ عَلَى بَرَاءَةِ يُوسُفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَقٌّ وَصَوَابٌ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْقَمِيصِ مَشْقُوقًا مِنْ جِهَةِ دُبُرِهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ هَارِبٌ عَنْهَا، وَهِيَ تَنُوشُهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَمَلِ بِالْقَرِينَةِ مَا لَمْ تُعَارِضْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 قَرِينَةٌ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنْ عَارَضَتْهَا قَرِينَةٌ أَقْوَى مِنْهَا أَبْطَلَتْهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [12 \ 18] ; لِأَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ لَمَّا جَعَلُوا يُوسُفَ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، جَعَلُوا عَلَى قَمِيصِهِ دَمَ سَخْلَةٍ ; لِيَكُونَ وُجُودُ الدَّمِ عَلَى قَمِيصِهِ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَكَلَهُ الذِّئْبُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّمَ قَرِينَةٌ عَلَى افْتِرَاسِ الذِّئْبِ لَهُ، وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ أَبْطَلَ قَرِينَتَهُمْ هَذِهِ بِقَرِينَةٍ أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ عَدَمُ شَقِّ الْقَمِيصِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا كَيِّسًا يَقْتُلُ يُوسُفَ وَلَا يَشُقُّ قَمِيصَهُ ; وَلِذَا صَرَّحَ بِتَكْذِيبِهِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [12 \ 18] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْحُكْمِ بِالْقَرِينَةِ: الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا سَابِقًا، فَتَزُفُّهَا إِلَيْهِ وَلَائِدُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ أَنَّ هَذِهِ هِيَ فُلَانَةٌ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ، فَيَجُوزُ لَهُ جِمَاعُهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى عَيْنِهَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ النِّكَاحِ. وَكَالرَّجُلِ يَنْزِلُ ضَيْفًا عِنْدَ قَوْمٍ، فَتَأْتِيهِ الْوَلِيدَةُ أَوِ الْغُلَامُ بِالطَّعَامِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى مَا يُثْبِتُ إِذْنَ مَالِكِ الطَّعَامِ لَهُ فِي الْأَكْلِ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ. وَكَقَوْلِ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّ مَنْ شُمَّ فِي فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ يُحَدُّ حَدَّ الشَّارِبِ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ ; لِأَنَّ وُجُودَ رِيحِهَا فِي فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَكَمَسَائِلَ اللَّوْثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقَرَائِنِ، وَأَوْضَحْنَا بِالْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا الثَّابِتَ بِشَرْعِنَا شَرْعٌ لَنَا، إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى النَّسْخِ غَايَةَ الْإِيضَاحِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. [12 \ 18] اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ، كَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ. وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الشَّاهِدِ فِي قَوْلِهِ: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا [12 \ 26] . فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ صَبِيٌّ فِي الْمَهْدِ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ رَجُلٌ ذُو لِحْيَةٍ، وَنَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ ابْنُ عَمٍّ لَهَا كَانَ حَكِيمًا، وَنَحْوَهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسِيٍّ، وَلَا جَانٍّ، هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِهَا [12 \ 26] ; لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنْسِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ صَبِيٌّ، لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ إِذَا ضُمَّتْ لَهَا آيَةٌ أُخْرَى حَصَلَ بِذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [4 \ 76] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي النِّسَاءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [12 \ 28] ، وَقَوْلَهُ فِي الشَّيْطَانِ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [4 \ 76] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَيْدَهُنَّ أَعْظَمُ مِنْ كَيْدِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مُقَاتِلٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ» ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وَقَالَ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ اهـ. وَقَالَ الْأَدِيبُ الْحَسَنُ بْنُ آيَةٍ الْحَسَنِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ: مَا اسْتَعْظَمَ الْإِلَهُ كَيْدَهُنَّهْ ... إِلَّا لِأَنَّهُنَّ هُنَّ هُنَّهْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَنَاءَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ عَلَى يُوسُفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ، ثُمَّ بَيَّنَ اعْتِرَافَهُنَّ بِذَلِكَ عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلِكِ لَهُنَّ أَمَامَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ الْآيَةَ [12 \ 51] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا الْمُرَادَ بِمَكْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ هُوَ جَعْلُهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَأَنَّ مَكْرَهُمْ هُوَ مَا فَعَلُوهُ بِأَبِيهِمْ يَعْقُوبَ وَأَخِيهِمْ يُوسُفَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [12 \ 18] . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ، وَفَصَّلَ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا لَدَى أَوْلَادِ يَعْقُوبَ حِينَ أَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ عَلَى الْمَكْرِ بِهِ، وَجَعْلِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ مَا عَرَفَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَالْآيَاتُ الْمُشِيرَةُ لِإِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ، بِدَلِيلِ إِخْبَارِهِ بِالْقِصَصِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ عِلْمُ حَقَائِقِهَا إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ الْآيَةَ [3 \ 44] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ الْآيَةَ [28 \ 44] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [28 \ 45] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [28 \ 46] . وَقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [38 \ 69، 70] . وَقَوْلِهِ: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْآيَةَ [11 \ 49] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُعْجِزَاتُ الْبَاهِرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْحَصْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، وَهُمُ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بِتَوْحِيدِهِمْ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ. فَالْمُرَادُ بِإِيمَانِهِمُ اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمُ الَّذِي هُوَ خَالِقُهُمْ، وَمُدَبِّرُ شُئُونِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِشِرْكِهِمْ عِبَادَتُهُمْ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 [10 \ 31] ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [43 \ 87] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [43 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [29 \ 61] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [29 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [23 \ 84 - 88] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [38 \ 5] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يُنْقِذُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ، أَيْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [12 \ 106] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ عَامِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الَّذِي هُوَ " يُؤْمِنُ " مُقَيَّدٌ بِهَا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى تَقْيِيدُ إِيمَانِهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِمَا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ مِنَ الْمُنَافَاةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ أَرَ مَنْ شَفَى الْغَلِيلَ فِي هَذَا الْإِشْكَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْمُقَيَّدَ بِحَالِ الشِّرْكِ إِنَّمَا هُوَ إِيمَانٌ لُغَوِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ ; لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ شَرْعًا. أَمَّا الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ تَصْدِيقٍ، فَتَصْدِيقُ الْكَافِرِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ لُغَةً مَعَ كُفْرِهِ بِاللَّهِ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا. وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ الْإِيمَانَ اللُّغَوِيَّ يُجَامِعُ الشِّرْكَ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَقْيِيدِهِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ الْمَوْجُودُ دُونَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [49 \ 14] ، فَهُوَ الْإِسْلَامُ اللُّغَوِيُّ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الشَّرْعِيَّ لَا يُوجَدُ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: " نَزَلَتْ آيَةُ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [12 \ 106] ، فِي قَوْلِ الْكُفَّارِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِي أَخْبَارِ الْمُرْسَلِينَ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَكَيْفَ نَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَكَ الْكَافِرِينَ - عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ، أَيْ عِظَةً لِأَهْلِ الْعُقُولِ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137] ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الرَّعْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ السَّمَاءَ مَرْفُوعَةٌ عَلَى عَمَدٍ، وَلَكِنَّنَا لَا نَرَاهَا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «لُقْمَانَ» : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [31 \ 10] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: تَرَوْنَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهَا عَمَدًا وَلَكِنَّنَا لَا نَرَاهَا، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِلَا عَمَدٍ أَصْلًا، وَهُوَ قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمْسِكُهَا أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [22 \ 65] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: تَرَوْنَهَا تَأْكِيدًا لِنَفْيِ ذَلِكَ، أَيْ هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عَمَدٍ كَمَا تَرَوْنَهَا كَذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ فِي الْقُدْرَةِ اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ قَبِيلِ السَّالِبَةِ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ اتِّصَافِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْمَحْكُومِ بِهِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا، وَلَكِنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ مُنْتَفٍ عَنْهُ، كَقَوْلِكَ لَيْسَ الْإِنْسَانُ بِحَجَرٍ، فَالْإِنْسَانُ مَوْجُودٌ وَالْحَجَرِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَيُعْلَمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَوْجُودِيِّ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَمِثَالُهُ فِي اللُّغَةِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ الْعَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى يَهْتَدِيَ بِهِ، وَقَوْلُهُ: لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ... وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ يَعْنِي: لَا أَرَانِبَ فِيهَا وَلَا ضِبَابَ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، أَيْ: لَا عَمَدَ لَهَا حَتَّى تَرَوْهَا، وَالْعَمَدُ: جَمْعُ عَمُودٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: وَخَيِّسِ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ وَالصُّفَّاحُ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ: الْحَجَرُ الْعَرِيضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ الْآيَةَ. الْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ هُنَا: الْعُقُوبَةُ وَإِنْزَالُ الْعَذَابِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أَيْ: قَبْلَ الْعَافِيَةِ، وَقَبْلَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي يُخَوِّفُهُمْ بِهِ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [22 \ 47] ، وَكَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [29 \ 53] ، وَكَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [29 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ [70 \ 1، 2] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [8 \ 32] . وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [42 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [38 \ 16] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَسَبَبُ طَلَبِهِمْ لِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ هُوَ الْعِنَادُ، وَزَعْمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاذِبٌ فِيمَا يُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [11 \ 8] ، وَكَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 77] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [11 \ 32] ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا. وَالْمَثُلَاثُ: الْعُقُوبَاتُ، وَاحِدَتُهَا مَثُلَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ تَمَرُّدًا وَطُغْيَانًا، وَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْمَثُلَاثِ - أَيِ الْعُقُوبَاتِ - كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِيَعْظُمَ رَجَاءُ النَّاسِ فِي فَضْلِهِ، وَيَشْتَدَّ خَوْفُهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ ; لِأَنَّ مَطَامِعَ الْعُقَلَاءِ مَحْصُورَةٌ فِي جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، فَاجْتِمَاعُ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ أَدْعَى لِلطَّاعَةِ وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [6 \ 147] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [6 \ 156 وَ 7 \ 167] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [15 \ 49، 50] ، وَقَوْلِهِ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، أَيْ: إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، أَمَّا هُدَاهُمْ وَتَوْفِيقُهُمْ فَهُوَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [2 \ 272] ، وَقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [13 \ 40] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الْأُمَّةُ، وَالْمُرَادَ بِالْهَادِي الرَّسُولُ، كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ الْآيَةَ [10 \ 47] ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [35 \ 24] ، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا الْآيَةَ [16 \ 36] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى. لَفْظَةُ «مَا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَعْلَمُ الَّذِي تَحْمِلُهُ كُلُّ أُنْثَى. وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُهُ مِنَ الْوَلَدِ عَلَى أَيِّ حَالٍ هُوَ مِنْ ذُكُورَةٍ، وَأُنُوثَةٍ، وَخِدَاجٍ، وَحُسْنٍ، وَقُبْحٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وَطُولٍ، وَقِصَرٍ، وَسَعَادَةٍ، وَشَقَاوَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [31 \ 34] ; لِأَنَّ «مَا» فِيهِ مَوْصُولَةٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَكَقَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [53 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ الْآيَةَ [3 \ 6] . وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا: أَنْ تَكُونَ لَفْظَةَ «مَا» فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [41 \ 47] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ لَهَا وَجْهَانِ كِلَاهُمَا حَقٌّ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ. وَأَمَّا احْتِمَالُ كَوْنِ لَفْظَةِ «مَا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِفْهَامِيَّةً، فَهُوَ بَعِيدٌ فِيمَا يَظْهَرُ لِي، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ مَا فِي الْأَرْحَامِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [31 \ 34] ، وَالِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي لَفْظَةِ «مَا» مِنْ قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ الْآيَةَ [13 \ 8] جَارِيَانِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [13 \ 8] فَعَلَى كَوْنِهَا مَوْصُولَةً فِيهِمَا، فَالْمَعْنَى يَعْلَمُ الَّذِي تَنْقُصُهُ وَتَزِيدُهُ، وَعَلَى كَوْنِهَا مَصْدَرِيَّةً، فَالْمَعْنَى يَعْلَمُ نَقْصَهَا وَزِيَادَتَهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [13 \ 8] ، وَهَذِهِ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ «صَاحِبِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» : أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ، قَالَ: «هِيَ الْمَرْأَةُ تَرَى الدَّمَ فِي حَمْلِهَا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ، قَالَ: «خُرُوجُ الدَّمِ» وَمَا تَزْدَادُ، قَالَ: «اسْتِمْسَاكُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ، قَالَ: «أَنْ تَرَى الدَّمَ فِي حَمْلِهَا» وَمَا تَزْدَادُ، قَالَ: «فِي التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ، قَالَ: «مَا تَزْدَادُ عَلَى التِّسْعَةِ وَمَا تَنْقُصُ مِنَ التِّسْعَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ، قَالَ: «مَا دُونَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَزْدَادُ فَوْقَ التِّسْعَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ، يَعْنِي: «السِّقْطَ» ، وَمَا تَزْدَادُ، يَقُولُ: «مَا زَادَتْ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا غَاضَتْ حَتَّى وَلَدَتْهُ تَمَامًا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحْمِلُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَحْمِلُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَزِيدُ فِي الْحَمْلِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْقُصُ، فَذَلِكَ الْغَيْضُ، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَا دُونَ التِّسْعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ غَيْضٌ وَمَا فَوْقَهَا فَهُوَ زِيَادَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا غَاضَ الرَّحِمُ بِالدَّمِ يَوْمًا إِلَّا زَادَ فِي الْحَمْلِ يَوْمًا حَتَّى تُكْمِلَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ طَاهِرًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ، قَالَ: «السِّقْطُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْآيَةِ، قَالَ: «إِذَا رَأَتِ الدَّمَ هَشَّ الْوَلَدُ وَإِذَا لَمْ تَرَ الدَّمَ عَظُمَ الْوَلَدُ» اهـ. مِنْ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وَقِيلَ: الْغَيْضُ وَالزِّيَادَةُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْوَلَدِ، كَنُقْصَانِ إِصْبُعٍ وَغَيْرِهَا، وَزِيَادَةِ إِصْبُعٍ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْغَيْضُ: انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ، وَمَا تَزْدَادُ: بِدَمِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْوَضْعِ. ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْقُرْطُبِيُّ. وَقِيلَ: تَغِيضُ: تَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدٍ، وَتَزْدَادُ: تَشْتَمِلُ عَلَى تَوْأَمَيْنِ فَأَكْثَرَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَرْجِعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا تَنْقُصُهُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزِيدُهُ ; لِأَنَّ مَعْنَى تَغِيضُ: تَنْقُصُ، وَتَزْدَادُ، أَيْ: تَأْخُذُهُ زَائِدًا، فَيَشْمَلُ النَّقْصَ الْمَذْكُورَ: نَقْصَ الْعَدَدِ، وَنَقْصَ الْعُضْوِ مِنَ الْجَنِينِ، وَنَقْصَ جِسْمِهِ إِذَا حَاضَتْ عَلَيْهِ فَتَقَلَّصَ، وَنَقْصَ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِأَنْ تُسْقِطَهُ قَبْلَ أَمَدِ حَمْلِهِ الْمُعْتَادِ، كَمَا أَنَّ الِازْدِيَادَ يَشْمَلُ: زِيَادَةَ الْعُضْوِ، وَزِيَادَةَ الْعَدَدِ، وَزِيَادَةَ جِسْمِ الْجَنِينِ إِنْ لَمْ تَحِضْ وَهِيَ حَامِلٌ، وَزِيَادَةَ أَمَدِ الْحَمْلِ عَنِ الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَالْآيَةُ تَشْمَلُهُ كُلَّهُ. تَنْبِيهٌ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ وَأَكْثَرَهُ، وَأَقَلَّ أَمَدِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ; لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ الْآيَةَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ لَنَا وَوُجِدَ ظَاهِرًا فِي النِّسَاءِ نَادِرًا، أَوْ مُعْتَادًا، وَسَنَذْكُرُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِهِ، وَأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَنُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ. فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [46 \ 15] ، إِنْ ضَمَمْتَ إِلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [31 \ 14] ، بَقِيَ عَنْ مُدَّةِ الْفِصَال مِنَ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا لِمُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا أَمَدٌ لِلْحَمْلِ يُولَدُ فِيهِ الْجَنِينُ كَامِلًا كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ وُلِدَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ السِّتَّةُ بِالْأَهِلَّةِ، كَسَائِرِ أَشْهُرِ الشَّرِيعَةِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ الْآيَةَ [2 \ 189] . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: " وَلِذَلِكَ قَدْ رُوِيَ فِي الْمَذْهَبِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَظُنُّهُ فِي كِتَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 ابْنِ حَارِثٍ أَنَّهُ إِنْ نَقَصَ عَنِ الْأَشْهُرِ السِّتَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْوَلَدَ يُلْحَقُ لِعِلَّةِ نَقْصِ الْأَشْهُرِ وَزِيَادَتِهَا. حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. اهـ ". قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنَّ الشَّهْرَ الْمَعْدُودَ مِنْ أَوَّلِهِ يُعْتَبَرُ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَمَالٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَأَنَّ الْمُنْكَسِرَ يُتَمَّمُ ثَلَاثِينَ، أَمَّا أَكْثَرُ أَمَدِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَرِدْ فِي تَحْدِيدِهِ شَيْءٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَكُلُّهُمْ يَقُولُ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ. فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ: أَرْبَعُ سِنِينَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَشْهُورَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ: خَمْسُ سِنِينَ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أَقْصَاهُ: سَنَتَانِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعَنِ اللَّيْثِ: ثَلَاثُ سِنِينَ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: سِتٌّ، وَسَبْعٌ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: سَنَةٌ لَا أَكْثَرَ، وَعَنْ دَاوُدَ: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا إِلَّا الِاجْتِهَادُ وَالرَّدُّ إِلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: " رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: إِنِّي حُدِّثْتُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ الْمِغْزَلِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ هَذَا؟ ! هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ تَحْمِلُ وَتَضَعُ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ تُسَمَّى حَامِلَةَ الْفِيلِ ". وَرُوِيَ أَيْضًا: بَيْنَمَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَوْمًا جَالِسٌ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: " يَا أَبَا يَحْيَى، ادْعُ لِامْرَأَتِي حُبْلَى مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ! قَدْ أَصْبَحَتْ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ "، فَغَضِبَ مَالِكٌ وَأَطْبَقَ الْمُصْحَفَ، ثُمَّ قَالَ: " مَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إِلَّا أَنَّا أَنْبِيَاءُ "، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا رِيحٌ فَأَخْرِجْهُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةٌ فَأَبْدِلْهَا غُلَامًا، فَإِنَّكَ تَمْحُو وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ "، وَرَفَعَ مَالِكٌ يَدَهُ، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ، وَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: أَدْرِكِ امْرَأَتَكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَمَا حَطَّ مَالِكٌ يَدَهُ حَتَّى طَلَعَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عَلَى رَقَبَتِهِ غُلَامٌ جَعْدٌ قَطَطٌ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدِ اسْتَوَتْ أَسْنَانُهُ مَا قُطِعَتْ سِرَارُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي غِبْتُ عَنِ امْرَأَتِي سَنَتَيْنِ فَجِئْتُ وَهِيَ حُبْلَى "، فَشَاوَرَ عُمَرُ النَّاسَ فِي رَجْمِهَا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَيْسَ لَكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلٌ فَاتْرُكْهَا حَتَّى تَضَعَ "، فَتَرَكَهَا فَوَضَعَتْ غُلَامًا قَدْ خَرَجَتْ ثَنِيَّتَاهُ فَعَرَفَ الرَّجُلُ الشَّبَهَ، فَقَالَ: " ابْنِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ "، فَقَالَ عُمَرُ: " عَجَزَتِ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ مُعَاذٍ، لَوْلَا مُعَاذُ لَهَلَكَ عُمَرُ ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: " وَضَعَتْنِي أُمِّي وَقَدْ حَمَلَتْ بِي فِي بَطْنِهَا سَنَتَيْنِ، فَوَلَدَتْنِي وَقَدْ خَرَجَتْ سِنِّي ". وَيُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ حُمِلَ بِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ سَنَتَيْنِ وَقِيلَ: ثَلَاثَ سِنِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلَانَ مَكَثَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَمَاتَتْ بِهِ وَهُوَ يَضْطَرِبُ اضْطِرَابًا شَدِيدًا، فَشُقَّ بَطْنُهَا وَأُخْرِجَ وَقَدْ نَبَتَتْ أَسْنَانُهُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: إِنَّمَا سُمِّيَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ هَرِمًا ; لِأَنَّهُ بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ أَنَّ الضَّحَّاكَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ وَقَدْ طَلَعَتْ سِنُّهُ ; فَسُمِّيَ ضَحَّاكًا. وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: " وَلَدَتْ جَارَةٌ لَنَا لِأَرْبَعِ سِنِينَ غُلَامًا شَعْرُهُ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، فَمَرَّ بِهِ طَيْرٌ فَقَالَ لَهُ: كَشَّ ". اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِ أَمَدِ الْحَمْلِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ مَالِكٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ ; لِأَنَّ كُلَّ تَحْدِيدٍ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَحْدِيدُ زَمَنٍ بِلَا مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ لَا يَخْفَى سُقُوطُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا أَقَلُّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ كَالصَّوْمِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ لَا حَدَّ لَهُ، بَلْ لَوْ نَزَلَتْ مِنَ الْمَرْأَةِ قَطْرَةُ دَمٍ وَاحِدَةٌ لَكَانَتْ حَيْضَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدَّةِ، فَقِيلَ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ الْعَارِفَاتِ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الْحَيْضِ، قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى: وَرُجِعَ فِي قَدْرِ الْحَيْضِ هُنَا، هَلْ هُوَ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُهُ إِلَى قَوْلِهِ لِلنِّسَاءِ، أَيْ: رُجِعَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلنِّسَاءِ. اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ مِنْ قَبِيلِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَالنِّسَاءُ أَدْرَى بِالْمَنَاطِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا أَكْثَرُ الْحَيْضِ عِنْدَ مَالِكٍ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيْضَةِ الْأُولَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ قَبْلَهَا: نِصْفُ شَهْرٍ، ثُمَّ إِنْ تَمَادَى عَلَيْهَا الدَّمُ بَعْدَ نِصْفِ الشَّهْرِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي اعْتَادَتِ الْحَيْضَ فَأَكْثَرُ مُدَّةِ حَيْضِهَا عِنْدَهُ هُوَ زِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اسْتِظْهَارًا عَلَى أَكْثَرِ أَزْمِنَةِ عَادَتِهَا إِنْ تَفَاوَتَ زَمَنُ حَيْضِهَا، فَإِنْ حَاضَتْ مَرَّةً سِتًّا وَمَرَّةً خَمْسًا وَمَرَّةً سَبْعًا اسْتَظْهَرَتْ بِالثَّلَاثَةِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 السَّبْعَةِ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ عَادَتِهَا، وَمَحَلُّ هَذَا إِذَا لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ عَلَى نِصْفِ الشَّهْرِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى نِصْفِ الشَّهْرِ فَهِيَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُضِيِّ نِصْفِ الشَّهْرِ، وَكُلُّ هَذَا فِي غَيْرِ الْحَامِلِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَلَى الدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ. هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ فَلَا حَدَّ لَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ مَالِكٌ، بَلْ قَالَ: يُسْأَلُ النِّسَاءُ عَنْ عَدَدِ أَيَّامِ الطُّهْرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ: إِنَّهُ نَحْوُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَوْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ ابْنُ سِرَاجٍ: " يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْفَتْوَى بِذَلِكَ " ; لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ مِنَ " الْمُدَوَّنَةِ "، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ، وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: " أَقَلُّ الطُّهْرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا "، وَاعْتَمَدَهُ صَاحِبُ " التَّلْقِينِ "، وَجَعَلَهُ ابْنُ شَاسٍ الْمَشْهُورَ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ ; حَيْثُ قَالَ: وَأَكْثَرُهُ لِمُبْتَدَئِهِ نِصْفُ شَهْرٍ كَأَقَلِّ الطُّهْرِ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ عَنْهُمَا: أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِيمَا نَعْلَمُ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَوَى عَنْهُ ذَلِكَ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو طَالِبٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ لَا حَدَّ لَهُ إِجْمَاعًا، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": وَدَلِيلُ الْإِجْمَاعِ الِاسْتِقْرَاءُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ مُشَاهَدٌ، وَمِنْ أَظْرَفِهِ مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ، قَالَ: " أَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ عَنْ أُخْتِهَا أَنَّهَا تَحِيضُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَهِيَ صَحِيحَةٌ تَحْبَلُ وَتَلِدُ وَنِفَاسُهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا ". وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَقَلُّهُ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ. وَأَقَلُّ الطُّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ عِنْدَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا حِكَايَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ مِرَارًا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مُرَاعَاةُ الْمُعْتَادَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِزَمَنِ طُهْرِهَا وَحَيْضِهَا. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: أَقَلُّ الطُّهْرِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ ثَلَاثَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 رِوَايَاتٍ فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ، إِحْدَاهَا: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَةَ: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَةَ: غَيْرُ مَحْدُودَةٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ: أَكْثَرُ الْحَيْضِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ: أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَيُحْكَى عَنْ نِسَاءِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُنَّ كُنْ يَحِضْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ، قَالَ أَحْمَدُ: " وَأَكْثَرُ مَا سَمِعْنَا سَبْعَ عَشْرَةَ ". هَذَا حَاصِلُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ. أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَاحْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ بِحَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ". وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَا يَكُونُ الْحَيْضُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " الْحَيْضُ ثَلَاثٌ، أَرْبَعٌ، خَمْسٌ، سِتٌّ، سَبْعٌ، ثَمَانٍ، تِسْعٌ، عَشْرٌ "، قَالُوا: وَأَنَسٌ لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا تَوْقِيفًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، أَوِ اتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَرَدَّ الْجُمْهُورُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا حَدِيثُ وَاثِلَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَأَنَسٍ، فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهَا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَدْ أَوْضَحَ ضَعْفَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " الْخِلَافِيَّاتِ " ثُمَّ " السُّنَنِ الْكَبِيرِ " اهـ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": حَدِيثُ وَاثِلَةَ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّامِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ الْمِنْهَالِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَرْوِيهِ الْجَلْدُ بْنُ أَيُّوبَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هُوَ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: لَيْسَ هُوَ شَيْئًا هَذَا مِنْ قِبَلِ الْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ رَوَاهُ، قَالَ مَا أُرَاهُ سَمِعَهُ إِلَّا مِنَ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، وَضَعَّفَهُ جِدًّا، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ذَاكَ: أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَحْتَجَّ إِلَّا بِالْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، وَحَدِيثُ الْجَلْدِ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُعَارِضُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ اسْتِحَاضَةٌ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى ": فَهَذَا حَدِيثٌ يُعْرَفُ بِالْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْجَلْدُ أَعْرَابِيٌّ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ الشَّافِعِيُّ: نَحْنُ وَأَنْتَ لَا نُثْبِتُ مِثْلَ حَدِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الْجَلْدِ، وَنَسْتَدِلُّ عَلَى غَلَطِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا. وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: كَانَ حَمَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ - يُضَعِّفُ الْجَلْدَ، وَيَقُولُ لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: ذَهَبْتُ أَنَا وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ إِلَى الْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْحَائِضِ، فَذَهَبْنَا نُوقِفُهُ، فَإِذَا هُوَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَائِضِ، وَالْمُسْتَحَاضَةِ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَاصِمٍ، عَنِ الْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ فَضَعَّفَهُ جِدًّا، وَقَالَ: كَانَ شَيْخًا مِنْ مَشَايِخِ الْعَرَبِ تَسَاهَلَ أَصْحَابُنَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ حَدِيثَ الْجَلْدِ بْنِ أَيُّوبَ، وَيَقُولُونَ: شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْعَرَبِ لَيْسَ بِصَاحِبِ حَدِيثٍ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَأَهْلُ مِصْرِهِ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ يَعْقُوبُ: وَسَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَدَقَةَ بْنَ الْفَضْلِ، وَإِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَبَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُضَعِّفُونَ الْجَلْدَ بْنَ أَيُّوبَ، وَلَا يَرَوْنَهُ فِي مَوْضِعِ الْحُجَّةِ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا جَلْدٌ؟ وَمَنْ جَلْدٌ؟ وَمَنْ كَانَ جَلْدٌ؟ وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي ذَكَرَ الْجَلْدَ بْنَ أَيُّوبَ، فَقَالَ: لَيْسَ يَسْوَى حَدِيثُهُ شَيْئًا، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. اهـ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي تَضْعِيفِ هَذَا الْأَثَرِ ; لِأَنَّهُ أَقْوَى مَا جَاءَ فِي الْبَابِ عَلَى ضَعْفِهِ كَمَا تَرَى. وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى ": رُوِيَ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ أَحَادِيثُ ضِعَافٌ قَدْ بَيَّنْتُ ضَعْفَهَا فِي " الْخِلَافِيَّاتِ ". وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ، كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا، فَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ مِنَ الشَّرْعِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُشَاهَدِ فِي الْوُجُودِ، وَالْمُشَاهَدُ أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَقِلُّ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلَا يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ شَهْرٍ، قَالُوا: وَثَبَتَ مُسْتَفِيضًا عَنِ السَّلَفِ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وُجُودُ ذَلِكَ عِيَانًا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَشَرِيكٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: " فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الْمَاجِشُونِ حَاضَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ بِنْتَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كَانَتْ تَحْتَهُ وَكَانَتْ تَحِيضُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرَيْنِ، فَجَوَابُهُ بِمَا أَجَابَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ النُّكَتِ أَنَّ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ ضَعِيفَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فَالْأَوَّلُ: عَنْ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مَيْمُونٍ، وَالرَّجُلُ مَجْهُولٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ " اهـ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَالِكٍ فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ لِلْمُبْتَدِئَةِ، فَكَحُجَّةِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَحُجَّتُهُ فِي أَكْثَرِهِ لِلْمُعْتَادَةِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَةٍ تَهْرَاقُ الدَّمَ فَقَالَ: " لِتَنْظُرْ قَدْرَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ وَقَدْرَهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ فَتَدَعَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ، وَلْتَسْتَثْفِرْ، ثُمَّ تُصَلِّي " اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الرُّجُوعِ إِلَى عَادَةِ الْحَائِضِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ النَّوَوِيُّ إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، إِلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَمْ يَسْمَعْهُ سُلَيْمَانُ مِنْهَا، وَقَدْ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَرْجَانَةَ، عَنْهَا، وَسَاقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ عَنْهَا. اهـ. وَلِلْحَدِيثِ شَوَاهِدُ مُتَعَدِّدَةٌ تُقَوِّي رُجُوعَ النِّسَاءِ إِلَى عَادَتِهِنَّ فِي الْحَيْضِ، كَحَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، وَأَمَّا زِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَهِيَ لِأَجْلِ الِاسْتِظْهَارِ وَالتَّحَرِّي فِي انْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ، وَلَا أَعْلَمُ لَهَا مُسْتَنَدًا مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ الثَّابِتَةِ، وَأَمَّا حُجَّةُ مَالِكٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَاتِ فَهِيَ التَّمَسُّكُ بِظَاهِرِ إِطْلَاقِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَحِيحٌ فِي التَّحْدِيدِ. وَأَمَّا أَقَلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ فَحُجَّتُهُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ دَلِيلٌ عَادِيٌّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَا بُدَّ فِيمَا طُلِبَتْ فِيهِ بِالْحَيْضِ الدَّلَالَةُ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ حَيْضٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، وَلِذَا جُعِلَ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى النِّسَاءِ الْعَارِفَاتِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ يُرْجَعُ فِيهِ لِمَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ عُلُومِ الْوَحْيِ، وَحُجَّةُ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ تِسْعَةَ عَشَرَ "، هِيَ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى طُهْرٍ وَحَيْضٍ، فَعَشَرَةٌ مِنْهُ لِلْحَيْضِ وَالْبَاقِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 طُهْرٌ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَالْبَاقِي بَعْدَ عَشَرَةِ الْحَيْضِ تِسْعَةَ عَشَرَ. وَهَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّتِهِمْ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَأَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ هُوَ أَكْثَرُهَا مُوَافَقَةً لِلْمُشَاهَدِ كَكَوْنِ الْحَيْضِ لَا يَقِلُّ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلَا يَكْثُرُ عَنْ نِصْفِ شَهْرٍ، وَكَوْنُ أَقَلِّ الطُّهْرِ نِصْفُ شَهْرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ هَلْ هُوَ حَيْضٌ، أَوْ دَمُ فَسَادٍ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ حَيْضٌ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَاللَّيْثُ، وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عَائِشَةَ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ، وَعِلَّةٍ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ حَيْضٌ بِأَنَّهُ دَمٌ بِصِفَاتِ الْحَيْضِ فِي زَمَنِ إِمْكَانِهِ، وَبِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ فَسَادًا لِعِلَّةٍ أَوْ حَيْضًا، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعِلَّةِ، فَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ الْأَصْلِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا: مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي طَلَاقِهِ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا» ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، قَالُوا: قَدْ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْلَ عَلَامَةً عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ، كَمَا جَعَلَ الطُّهْرَ عَلَامَةً لِذَلِكَ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَهُ شَوَاهِدُ، قَالُوا: فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيْضَ عَلَامَةً عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْحَمْلِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ دَمٌ فِي زَمَنٍ لَا يُعْتَادُ فِيهِ الْحَيْضُ غَالِبًا فَكَانَ غَيْرَ حَيْضٍ قِيَاسًا عَلَى مَا تَرَاهُ الْيَائِسَةُ بِجَامِعِ غَلَبَةِ عَدَمِ الْحَيْضِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: «إِنَّمَا يَعْرِفُ النِّسَاءُ الْحَمْلَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ» . وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَمَ حَيْضٍ مَا انْتَفَتْ عَنْهُ لَوَازِمُ الْحَيْضِ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ حَيْضٍ ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ، فَمِنْ لَازِمِ الْحَيْضِ حُرْمَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الطَّلَاقِ، وَدَمُ الْحَامِلِ لَا يَمْنَعُ طَلَاقَهَا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا الدَّالِّ عَلَى إِبَاحَةِ طَلَاقِ الْحَامِلِ وَالطَّاهِرِ، وَمِنْ لَازِمِ الْحَيْضِ أَيْضًا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ، وَدَمُ الْحَامِلِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ حَمْلِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] وَفِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ مُنَاقَشَاتٌ ذَكَرَ بَعْضَهَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ التَّفْصِيلُ فِي أَكْثَرِ حَيْضِ الْحَامِلِ، فَإِنْ رَأَتْهُ فِي شَهْرِهَا الثَّالِثِ إِلَى انْتِهَاءِ الْخَامِسِ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ نِصْفَ شَهْرٍ وَنَحْوَهُ - وَفَسَّرُوا نَحْوَهُ بِزِيَادَةِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ - فَتَجْلِسُ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنْ حَاضَتْ فِي شَهْرِهَا السَّادِسِ فَمَا بَعْدَهُ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ عِشْرِينَ يَوْمًا وَنَحْوَهَا - وَفَسَّرُوا نَحْوَهَا بِزِيَادَةِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ - فَتَجْلِسُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِزِيَادَةِ عَشَرَةٍ، فَتَجْلِسُ شَهْرًا، فَإِنْ حَاضَتِ الْحَامِلُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، فَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَيْضِ فِي الثَّالِثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ حَيْضِ غَيْرِ الْحَامِلِ، فَتَجْلِسُ قَدْرَ عَادَتِهَا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ اسْتِظْهَارًا. وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَلِحَامِلٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ النِّصْفُ، وَنَحْوُهُ، وَفِي سِتَّةٍ فَأَكْثَرَ عِشْرُونَ يَوْمًا وَنَحْوُهَا، وَهَلْ مَا قَبْلَ الثَّلَاثَةِ كَمَا بَعْدَهَا أَوْ كَالْمُعْتَادِ؟ قَوْلَانِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَأَقَلِّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرِهِ، وَأَدِلَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَسَائِلُ الْحَيْضِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ بَسَطَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ وَأَكْثَرِهِ أَيْضًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ سِتُّونَ يَوْمًا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرُ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي اهـ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. اهـ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ خَمْسُونَ، وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّهُ سَبْعُونَ يَوْمًا، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَهْلِ دِمَشْقَ: أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ مِنَ الْغُلَامِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَمِنَ الْجَارِيَةِ أَرْبَعُونَ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَكْثَرُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَأَمَّا أَقَلُّ النِّفَاسِ فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ لَا حَدَّ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَنْهُ أَيْضًا: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: أَقَلُّهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي أَكْثَرِ النِّفَاسِ وَأَقَلِّهِ، فَإِنَّ حُجَّةَ كُلِّ مَنْ حَدَّدَ أَكْثَرَهُ بِغَيْرِ الْأَرْبَعِينَ هِيَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْمُشَاهَدِ فِي الْخَارِجِ، وَأَكْثَرُ مَا شَاهَدُوهُ فِي الْخَارِجِ سِتُّونَ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ حُجَجُهُمْ فِي أَقَلِّهِ فَهِيَ أَيْضًا الِاعْتِمَادُ عَلَى الْمُشَاهَدِ فِي الْخَارِجِ، وَقَدْ يُشَاهَدُ الْوَلَدُ يَخْرُجُ وَلَا دَمَ مَعَهُ، وَلِذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُ لَا حَدَّ لَهُ، وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ حَدَّدَهُ بِأَرْبَعِينَ، فَهِيَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَتِ النُّفَسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجْلِسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» الْحَدِيثَ، رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ أَبِي سَهْلٍ، وَاسْمُهُ كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مَسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ثِقَةٌ، وَأَبُو سَهْلٍ وَثَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَمْ يُصِبْ فِي تَضْعِيفِهِ، وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ فِي أَبِي سَهْلٍ الْمَذْكُورِ: ثِقَةٌ، وَقَالَ فِي «التَّقْرِيبِ» فِي مَسَّةَ الْمَذْكُورَةِ: مَقْبُولَةٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا: حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَثْنَى الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَيَعْتَضِدُ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَحَادِيثَ بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَنَسٍ، وَمُعَاذٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ: «وَاعْتَمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا جَوَابًا آخَرَ وَهُوَ تَضْعِيفُ الْحَدِيثِ، وَهَذَا الْجَوَابُ مَرْدُودٌ، بَلِ الْحَدِيثُ جَيِّدٌ كَمَا سَبَقَ» . وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ سِتُّونَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ أَرْبَعُونَ بِأَجْوِبَةٍ، أَوْجَهُهَا عِنْدِي أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجْلِسُ أَرْبَعِينَ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الدَّمَ إِنْ تَمَادَى بِهَا لَمْ تَجْلِسْ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، فَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ النِّسَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَتَمَادَ الْحَيْضُ بِهَا إِلَّا أَرْبَعِينَ فَنَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا تَجْلِسُ الْأَرْبَعِينَ، وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 يُنَافِي أَنَّ الدَّمَ لَوْ تَمَادَى عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ لَجَلَسَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: «عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَرَى النِّفَاسَ شَهْرَيْنِ» ، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ كَثِيرًا فِي النِّسَاءِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ السِّرَّ وَالْجَهْرَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، وَأَنَّ الِاخْتِفَاءَ وَالظُّهُورَ عِنْدَهُ أَيْضًا سَوَاءٌ ; لِأَنَّهُ يَسْمَعُ السِّرَّ كَمَا يَسْمَعُ الْجَهْرَ، وَيَعْلَمُ الْخَفِيَّ كَمَا يَعْلَمُ الظَّاهِرَ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَقَوْلِهِ: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبِ بِالنَّهَارِ: أَنَّ الْمُسْتَخْفِيَ هُوَ الْمُخْتَفِي الْمُسْتَتِرُ عَنِ الْأَعْيُنِ، وَالسَّارِبَ هُوَ الظَّاهِرُ الْبَارِزُ الذَّاهِبُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْنَسِ بْنِ شِهَابٍ التَّغْلِبِيِّ: وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ أَيْ: ذَاهِبٌ حَيْثُ يَشَاءُ ظَاهِرٌ غَيْرُ خَافٍ. وَقَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: أَنِّي سَرَبْتُ وَكُنْتُ غَيْرَ سَرُوبِ ... وَتُقَرِّبُ الْأَحْلَامُ غَيْرَ قَرِيبِ وَقِيلَ: السَّارِبُ: الدَّاخِلُ فِي السِّرْبِ لِيَتَوَارَى فِيهِ، وَالْمُسْتَخْفِي: الظَّاهِرُ، مِنْ: خَفَاهُ يَخْفِيهِ: إِذَا أَظْهَرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلَّبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْلُبُ قَوْمًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [8 \ 53] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [42 \ 30] . وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ قَوْمًا بِسُوءٍ فَلَا مَرَدَّ لَهُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [6 \ 147] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، يَصْدُقُ بِأَنْ يَكُونَ التَّغْيِيرُ مِنْ بَعْضِهِمْ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ بِتَغْيِيرِ الرُّمَاةِ مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَعَمَّتِ الْبَلِيَّةُ الْجَمِيعَ، وَقَدْ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا الْآيَةَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرِي خَلْقَهُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا، قَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ أَذَاهُ وَمَشَقَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ يَرْجُو بَرَكَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَيَطْمَعُ فِي رِزْقِ اللَّهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْخَوْفُ لِأَهْلِ الْبَحْرِ، وَالطَّمَعُ لِأَهْلِ الْبَرِّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَالطَّمَعُ فِي الْغَيْثِ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ إِرَاءَتَهُ خَلْقَهُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا مِنْ آيَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً الْآيَةَ [30 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَتَسْجُدُ لَهُ ظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَذَكَرَ أَيْضًا سُجُودَ الظِّلَالِ وَسُجُودَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [16 \ 48، 49] إِلَى قَوْلِهِ يُؤْمَرُونَ [16 \ 50] ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِسُجُودِ الظِّلِّ وَسُجُودِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: سُجُودُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، فَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَوْعًا، وَالْكُفَّارُ يَسْجُدُونَ كَرْهًا، أَعْنِي الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ إِلَّا كَرْهًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ الْآيَةَ [4 \ 142] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [9 \ 54] ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سُجُودَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «سُورَةِ الْحَجِّ» : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [22 \ 18] ، فَقَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [22 \ 18] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي السُّجُودِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، وَقِيلَ الْآيَةُ عَامَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِسُجُودِ الْمُسْلِمِينَ طَوْعًا انْقِيَادُهُمْ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُمْ طَوْعًا، وَالْمُرَادُ بِسُجُودِ الْكَافِرِينَ كَرْهًا انْقِيَادُهُمْ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُمْ كَرْهًا ; لِأَنَّ إِرَادَتَهُ نَافِذَةٌ فِيهِمْ وَهُمْ مُنْقَادُونَ خَاضِعُونَ لِصُنْعِهِ فِيهِمْ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وَأَصْلُ السُّجُودِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زِيدِ الْخَيْلِ: بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حُجُرَاتِهِ ... تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَسْجُدُ: إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَانْحَنَى، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: فَلَمَّا لَوَيْنَ عَلَى مِعْصَمٍ ... وَكَفٍّ خَضِيبٍ وَأَسْوَارِهَا فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسْجَدَتْ ... سُجُودَ النَّصَارَى لِأَحْبَارِهَا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالسُّجُودُ لُغَوِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ، وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ جَارٍ أَيْضًا فِي سُجُودِ الظِّلَالِ، فَقِيلَ: سُجُودُهَا حَقِيقِيٌّ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهَا إِدْرَاكًا تُدْرِكُ بِهِ وَتَسْجُدُ لِلَّهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَقِيلَ: سُجُودُهَا مَيْلُهَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوَّلَ النَّهَارِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَآخِرَهُ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَادَّعَى مَنْ قَالَ هَذَا أَنَّ الظِّلَّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ; لِأَنَّهُ خَيَالٌ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لِلظِّلِّ إِدْرَاكًا يَسْجُدُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ هِيَ: حَمْلُ نُصُوصِ الْوَحْيِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ أَحَدَهُمَا: أَنَّ السُّجُودَ شَرْعِيٌّ وَعَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السُّجُودَ لُغَوِيٌّ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّصَّ إِنْ دَارَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ حُمِلَ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلِمَنْ قَالَ يَصِيرُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لِاحْتِمَالِ هَذَا وَذَاكَ، وَعَقَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ ... إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقُ الْعُرْفِيِّ فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِسُجُودِ الْكُفَّارِ كَرْهًا سُجُودُ ظِلَالِهِمْ كَرْهًا، وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَبَعْضُهُمْ يَسْجُدُ طَوْعًا ; لِخِفَّةِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْجُدُ كَرْهًا ; لِثِقَلِ مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْغُدُوِّ [13 \ 15] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ غَدَاةٍ، وَالْآصَالُ جَمْعُ أُصُلٍ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ أَصِيلٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ إِلَّا مَنْ خَلَقَهُمْ وَأَبْرَزَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [13 \ 16] إِنْكَارُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [13 \ 16] أَيْ: وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [25 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] ، وَقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [31 \ 11] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْتَاجٌ إِلَى خَالِقِهِ فَهُوَ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مِثْلَكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ مَنْ خَلَقَهُ وَحْدَهُ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْكَ ذَلِكَ، فَأَنْتُمَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ يُنَزِّلُهَا عَلَيْهِ رَبُّهُ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [21 \ 5] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كِفَايَةً عَنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ، فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [29 \ 51] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حِكْمَةَ عَدَمِ إِنْزَالِ آيَةٍ كَنَاقَةِ صَالِحٍ وَنَحْوِهَا، بِقَوْلِهِ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ الْآيَةَ [17 \ 59] ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى الْآيَةَ. جَوَابُ «لَوْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَقْدِيرُهُ: لَكَفَرْتُمْ بِالرَّحْمَنِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْأَخِيرِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [13 \ 30] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَوَاهِدَ حَذْفِ جَوَابِ «لَوْ» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «يُوسُفَ» أَنَّ الْغَالِبَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْمَحْذُوفُ مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ الشَّرْطِ لِيَكُونَ مَا قَبْلَ الشَّرْطِ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً الْآيَةَ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، يَتَزَوَّجُونَ، وَيَلِدُونَ، وَلَيْسُوا مَلَائِكَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَغْرَبُوا بَعْثَ آدَمِيٍّ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرْسِلُ الْبَشَرَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ وَيَأْكُلُونَ، كَقَوْلِهِ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 20] ، وَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْآيَةَ [21 \ 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ. الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ عَطْفٌ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [16 \ 43] ، وَقَوْلُهُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْآيَةَ [16 \ 43] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ إِبْرَاهِيمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ لِيُخْرِجَ بِهِ النَّاسَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْآيَةَ [57 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْآيَةَ [2 \ 275] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هُنَا أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ أَحَدًا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا بِإِذْنِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [14 \ 1] ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [4 \ 64] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [10 \ 100] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إِلَّا بِلُغَةِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ دُونَ اخْتِصَاصٍ بِقَوْمِهِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الْآيَةَ [34 \ 28] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ كُلِّ لِسَانٍ، فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِبْلَاغُ أَهْلِ كُلِّ لِسَانٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَقَالُوا: بِمَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [21 \ 29] ، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 [48 \ 1، 2] قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [4 \ 14] ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [34 \ 28] ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ الْآيَةَ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهَا أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ جَعَلُوا أَيْدِيَ أَنْفُسِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ; لِيَعَضُّوا عَلَيْهَا غَيْظًا وَحَنَقًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ; إِذْ كَانَ فِيهِ تَسْفِيهُ أَحْلَامِهِمْ، وَشَتْمُ أَصْنَامِهِمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ الْآيَةَ [3 \ 119] ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرُدُّونَ فِي فِيهِ غِشَّ الْحَسُودِ ... حَتَّى يَعَضَّ عَلَى الْأَكُفِّ يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغِيظُونَ الْحَسُودَ حَتَّى يَعَضَّ عَلَى أَصَابِعِهِ وَكَفَّيْهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ أَيْضًا: قَدْ أَفْنَى أَنَامِلَهُ أَزْمُهُ ... فَأَضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا أَيْ أَفْنَى أَنَامِلَهُ عَضًّا، وَقَالَ الرَّاجِزُ: لَوْ أَنَّ سَلْمَى أَبْصَرَتْ تَخَدُّدِي ... وَدِقَّةً بِعَظْمِ سَاقِي وَيَدِي وَبُعْدَ أَهْلِي وَجَفَاءَ عُودِي ... عَضَّتْ مِنَ الْوَجْدِ بِأَطْرَافِ الْيَدِ وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا، مِنْهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ مِنَ الْعَجَبِ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أَشَارُوا بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ أَنِ اسْكُتْ تَكْذِيبًا لَهُ وَرَدًّا لِقَوْلِهِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَمِنْهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَى الرُّسُلِ قَوْلَهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلرُّسُلِ وَالثَّانِي لِلْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَـ «فِي» بِمَعْنَى الْبَاءِ. وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ «فِي» هُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، قَالَ: وَقَدْ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ: أَدْخَلَكَ اللَّهُ بِالْجَنَّةِ، يَعْنُونَ: فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَأَرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ سُنْبُسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ يُرِيدُ وَأَرْغَبُ بِهَا: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [14 \ 9] . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي خِلَافُ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةَ مَا بَعْدَهُ لِمَا قَبْلَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ الْآيَةَ غَيْرُ التَّصْرِيحِ بِالتَّكْذِيبِ بِالْأَفْوَاهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِ الرُّسُلِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، وَعَلَيْهِ فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلْكُفَّارِ وَالثَّانِي لِلرُّسُلِ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: جَعَلَ الْكُفَّارُ أَيْدِيَ الرُّسُلِ عَلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: رَدَّ الرُّسُلُ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ الْأَقْوَالَ وَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ مِنْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ جَمْعُ الْفَمِ مُكَسَّرًا عَلَى أَفْوَاهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ فُوهٌ، فَحُذِفَتِ الْفَاءُ وَالْوَاوُ وَعُوِّضَتْ عَنْهُمَا الْمِيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٌ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ صَرَّحُوا لِلرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَاكُّونَ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى بَعْضِهِمْ بِالتَّعْيِينِ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْكُفْرِ بِهِ، وَأَنَّهُمْ شَاكُّونَ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، كَقَوْلِ قَوْمِ صَالِحٍ لَهُ: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [11 \ 62] ، وَصَرَّحُوا بِالْكُفْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [7 \ 75] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ عُمُومًا فِي آيَةٍ، ثُمَّ يُصَرِّحُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعُمُومِ فِيهِ كَمَا هُنَا، وَكَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 تَقَدَّمَ الْمِثَالُ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [22 \ 32] ، مَعَ قَوْلِهِ: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [22 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ تَوَعَّدُوا الرُّسُلَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَالنَّفْيِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِنْ لَمْ يَتْرُكُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَقَدْ نَصَّ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، كَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ الْآيَةَ [7 \ 88، 89] ، وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [27 \ 56] ، وَقَوْلِهِ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [17 \ 76] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [8 \ 30] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى رُسُلِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ يُسْكِنُهُمُ الْأَرْضَ بَعْدَ إِهْلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 171 - 173] ، وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [58 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [40 \ 51] . وَقَوْلِهِ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [7 \ 128] ، وَقَوْلِهِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا الْآيَةَ [7 \ 137] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ خَيْبَةِ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَعْنَى خَيْبَتِهِ وَبَعْضِ صِفَاتِهِ الْقَبِيحَةِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ «ق» : أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 [50 \ 24 - 25] ، وَالْجَبَّارُ: الْمُتَجَبِّرُ فِي نَفْسِهِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ الْآيَةَ. «وَرَاءَ» هُنَا بِمَعْنَى «أَمَامَ» كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَيَدُلُّ لَهُ إِطْلَاقُ «وَرَاءَ» بِمَعْنَى «أَمَامَ» فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [18 \ 79] ، أَيْ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَمِنْ إِطْلَاقِ «وَرَاءَ» بِمَعْنَى «أَمَامَ» فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومُ الْعَصَا تُحْنِي عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا وَقَوْلُهُ الْآخَرُ: وَمِنْ وَرَائِكَ يَوْمٌ أَنْتَ بَالِغُهُ ... لَا حَاضِرَ مُعْجِزٌ عَنْهُ وَلَا بَادِ فَـ «وَرَاءَ» بِمَعْنَى «أَمَامَ» فِي الْأَبْيَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَلَاكِهِ جَهَنَّمُ، وَعَلَيْهِ فَـ «وَرَاءَ» فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى بَعْدَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ «وَرَاءَ» بِمَعْنَى «بَعْدَ» قَوْلُ النَّابِغَةِ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ أَيْ: لَيْسَ بَعْدَ اللَّهِ مَذْهَبٌ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْحَقُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ الْآيَةَ. ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مَثَلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيَاحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، أَيْ شَدِيدِ الرِّيحِ، فَإِنَّ تِلْكَ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ الْعَاصِفَةَ تُطَيِّرُ ذَلِكَ الرَّمَادَ وَلَمْ تُبْقِ لَهُ أَثَرًا، فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ كَصِلَاتِ الْأَرْحَامِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ يُبْطِلُهَا الْكُفْرُ وَيُذْهِبُهَا، كَمَا تُطَيِّرُ تِلْكَ الرِّيحُ ذَلِكَ الرَّمَادَ. وَضَرَبَ أَمْثَالًا أُخَرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ الْآيَةَ [3 \ 117] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [2 \ 264] ، وَقَوْلِهِ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ضَرْبِهِ لِلْأَمْثَالِ أَنْ يَتَفَكَّرَ النَّاسُ فِيهَا فَيَفْهَمُوا الشَّيْءَ بِنَظْرَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [59 \ 21] ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [14 \ 25] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَمْثَالَ لَا يَعْقِلُهَا إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [29 \ 43] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبَ هِدَايَةٍ لِقَوْمٍ فَهِمُوهُ، وَسَبَبَ ضَلَالٍ لِقَوْمٍ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَتَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [2 \ 26] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا وَلَوْ كَانَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، قِيلَ: فَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ يَفُوقُهَا فِي الصِّغَرِ، وَقِيلَ: فَمَا فَوْقَهَا أَيْ فَمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [2 \ 26] ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [29 \ 41] ، وَضَرَبَهُ بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا الْآيَةَ [62 \ 5] ، وَضَرَبَهُ بِالْكَلْبِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [7 \ 176] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينِ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ هُنَا عَنِ الْكُفَّارِ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [40 \ 47، 48] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعَدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ وَعَدَهُمْ فَأَخْلَفَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي وَعْدِ اللَّهِ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [4 \ 122] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [13 \ 31] ، وَقَوْلِهِ فِي وَعْدِ الشَّيْطَانِ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [14 \ 23] . بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ سَلَامٌ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحَيِّيهِمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحَيِّي بَعْضًا بِذَلِكَ، فَقَالَ فِي تَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ الْآيَةَ [13 \ 23، 24] ، وَقَالَ: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ الْآيَةَ [39 \ 73] ، وَقَالَ: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا [25 \ 75] ، وَقَالَ فِي تَحِيَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ الْآيَةَ [10 \ 10] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ. هَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الْمَتَاعُ الْقَلِيلُ فِي الدُّنْيَا لَا يُجْدِي مِنْ مَصِيرِهِ إِلَى النَّارِ وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [39 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 70] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ الْآيَةَ [3 \ 196، 197] ، إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ. أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ، كَالصَّلَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا مُخَالَّةٌ بَيْنَ خَلِيلَيْنِ، فَيَنْتَفِعُ أَحَدُهُمَا بِخُلَّةِ الْآخَرِ، فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ تُبَاعَ لَهُ نَفْسُهُ فَيَفْدِيَهَا، وَلَا خَلِيلَ يَنْفَعُ خَلِيلَهُ يَوْمَئِذٍ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ الْآيَةَ [2 \ 254] ، وَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [57 \ 15] وَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا الْآيَةَ [2 \ 48] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْخِلَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قِيلَ: جَمْعُ خُلَّةٍ كَقُلَّةٍ وَقِلَالٍ، وَالْخُلَّةُ: الْمُصَادَقَةُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ خَالَّهُ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ مُخَالَّةً وَخِلَالًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَاعَلَ يَنْقَاسُ مَصْدَرُهَا عَلَى الْمُفَاعَلَةِ وَالْفِعَالِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: صَرَفْتُ الْهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ... وَلَسْتُ بِمُقْلِيِّ الْخِلَالِ وَلَا قَالِ أَيْ: لَسْتُ بِمَكْرُوهِ الْمُخَالَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ الْآيَةَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ أَجَابَ دُعَاءَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ أَجَابَهُ فِي بَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ دُونَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [37 \ 113] ، وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ الْآيَةَ [43 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الْآيَةَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: إِنَّ مَنْ تَبِعَهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ رَدَّ أَمْرَ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَ لَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [5 \ 118] ، وَذَكَرَ عَنْ نُوحٍ وَمُوسَى التَّشْدِيدَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِمَا فَقَالَ عَنْ نُوحٍ إِنَّهُ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِلَى قَوْلِهِ: فَاجِرًا كَفَّارًا [71 \ 26، 27] ، وَقَالَ عَنْ مُوسَى إِنَّهُ قَالَ: رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 88] وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُوحًا وَمُوسَى عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا دَعَوْا ذَلِكَ الدُّعَاءَ عَلَى قَوْمِهِمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَلِمَا مِنَ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا، أَمَّا نُوحٌ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [11 \ 36] ، وَأَمَّا مُوسَى فَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ قَوْمِهِ لَهُ: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [7 \ 132] ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا لِذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 أَسْكَنَهُمْ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ أَنْ يَرْزُقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَبَيَّنَ فِي «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَصَّ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَازِقُهُمْ جَمِيعًا مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذِّبُ الْكَافِرَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا الْآيَةَ [2 \ 126] قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: سَبَبُ تَخْصِيصِ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ بِالرِّزْقِ، أَنَّهُ دَعَا لِذُرِّيَّتِهِ أَوَّلًا أَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ أَئِمَّةً، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِالْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [2 \ 124] ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالرِّزْقِ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ كَالْإِمَامَةِ فَاللَّهُ يَرْزُقُ الْكَافِرَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا يَجْعَلُهُ إِمَامًا ; وَلِذَا قَالَ لَهُ فِي طَلَبِ الْإِمَامَةِ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ قَالَ لَهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا الْآيَةَ [2 \ 126] . قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ الْآيَةَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لِوَالِدَيْهِ، وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ طَلَبَهُ الْغُفْرَانَ لِأَبِيهِ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [9 \ 114] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ عِقَابَ الْكُفَّارِ إِلَى يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [21 \ 97] ، وَمَعْنَى شُخُوصِ الْأَبْصَارِ أَنَّهَا تَبْقَى مُنْفَتِحَةً لَا تُغْمَضُ مِنَ الْهَوْلِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مُهْطِعِينَ. الْإِهْطَاعُ فِي اللُّغَةِ: الْإِسْرَاعُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتُونَ مُهْطِعِينَ، أَيْ: مُسْرِعِينَ إِذَا دُعُوا لِلْحِسَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي الْآيَةَ [54 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [70 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [50 \ 44] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِهْطَاعِ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْإِسْرَاعِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ أَيْ مُسْرِعِينَ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَرَّنُونَ فِي الْأَصْفَادِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [25 \ 13] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْأَصْفَادُ: هِيَ الْأَغْلَالُ وَالْقُيُودُ، وَاحِدُهَا: صَفْدٌ بِالسُّكُونِ، وَصَفَدٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [38 \ 37، 38] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَغْشَى وَجُوهَ الْكُفَّارِ فَتُحْرِقُهَا، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [23 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ الْآيَةَ [21 \ 39] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ بَلَاغٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [11 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مِنْ حِكَمِهِ أَنْ يَتَّعِظَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ، وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ فَذَكَرَ الْحِكْمَةَ الْأُولَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي قَوْلِهِ: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [11 \ 1، 2] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ الثَّانِيَةَ فِي قَوْلِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وَهُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ، وَاحِدُ الْأَلْبَابِ لُبٌّ بِالضَّمِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْحِجْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَرَفُوا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ، وَنَدِمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [6 \ 27] وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [6 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [25 \ 27] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ وَعَايَنَ الْحَقِيقَةَ تَمَنَّى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا عَايَنَ النَّارَ وَوَقَفَ عَلَيْهَا تَمَنَّى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا إِخْرَاجَ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ نَدِمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَنَّوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ رُبَمَا بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، وَالتَّخْفِيفُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّثْقِيلُ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَرَبِيعَةَ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ الرَّعْلَاءِ الْغَسَّانِيِّ: رُبَمَا ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ ... بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نَجْلَاءِ وَالثَّانِي: كَثِيرٌ جِدًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: أَلَّا رُبَّمَا أَهْدَتْ لَكِ الْعَيْنُ نَظْرَةً ... قَصَارَاكِ مِنْهَا أَنَّهَا عَنْكِ لَا تُجْدِي وَرُبَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِلتَّكْثِيرِ، أَيْ: يَوَدُّ الْكُفَّارُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ قَالَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَّا رُبَّمَا أَهْدَتْ لَكِ الْعَيْنُ ... . . . . . . . . . الْبَيْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ هُنَا لِلتَّقْلِيلِ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا فِي كُلِّهَا لِشُغْلِهِمْ بِالْعَذَابِ. فَإِنْ قِيلَ: رُبَّمَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْمَاضِي، فَمَا وَجْهُ دُخُولِهَا عَلَى الْمُضَارِعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ الْوَعْدُ لِلْجَزْمِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ الْآيَةَ [16 \ 1] وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَعَبَّرَ بِالْمَاضِي تَنْزِيلًا لِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. هَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَمْرِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ شِدَّةِ تَعْذِيبِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ. وَهَدَّدَهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّهْدِيدِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [14] وَقَوْلِهِ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [77 \ 46] وَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [39 \ 8] وَقَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [43 \ 83] ، [70 \ 42] وَقَوْلِهِ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [52 \ 45] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي وَفِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا صِيغَةُ افْعَلِ التَّهْدِيدَ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَرْهُمْ يَعْنِي اتْرُكْهُمْ، وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ إِلَّا الْأَمْرُ وَالْمُضَارِعُ، فَمَاضِيهِ تَرَكَ، وَمَصْدَرُهُ التَّرْكُ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ تَارِكٌ، وَاسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَالْأَمَلُ الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا وَالِانْكِبَابُ عَلَيْهَا، وَالْحُبُّ لَهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْآخِرَةِ» وَعَنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ» وَقَدْ قَدَّمْنَا عِلَاجَ طُولِ الْأَمَلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ قَدْ يُقَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَيْفَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ وَيَنْسُبُونَهُ لِلْجُنُونِ مَعَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) يَعْنُونَ فِي زَعْمِهِ تَهَكُّمًا مِنْهُمْ بِهِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى وُرُودُ مِثْلِهِ مِنَ الْكُفَّارِ مُتَهَكِّمِينَ بِالرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [26 \ 27] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. [11 \ 87 قَوْلُهُ تَعَالَى لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. لَوْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلتَّحْضِيضِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ طَلَبًا حَثِيثًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ تَخْصِيصٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ لِيَكُونَ إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ مَعَهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَ طَلَبَ الْكُفَّارِ هَذَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [43 \ 53] وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [25 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ الْآيَةَ [6 \ 8] وَقَوْلِهِ: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [25 \ 7] وَقَوْلِهِ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [17 \ 92] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَوْ تُرَكَّبُ مَعَ لَا وَمَا لِمَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا التَّحْضِيضُ، وَمِثَالُهُ فِي لَوْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمِثَالُهُ فِي لَوْلَا قَوْلُ جَرِيرٍ: تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضُوطْرَى لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا يَعْنِي: فَهَلَّا تَعُدُّونَ الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَ، الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ امْتِنَاعُ شَيْءٍ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَهُوَ فِي لَوْلَا كَثِيرٌ جِدًّا كَقَوْلِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَمِثَالُهُ فِي (لَوْ مَا) قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ: لَوْ مَا الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي وَأَمَّا هَلْ فَلَمْ تُرَكَّبْ إِلَّا مَعَ لَا وَحْدَهَا لِلتَّحْضِيضِ. تَنْبِيهٌ قَدْ تَرِدُ أَدَوَاتُ التَّحْضِيضِ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ، فَتَخْتَصُّ بِالْمَاضِي أَوْ مَا فِي تَأْوِيلِهِ نَحْوَ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ الْآيَةَ [10 \ 98] وَقَوْلِهِ: لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ [24 \ 13] وَقَوْلِهِ: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً الْآيَةَ [46 \ 28] ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَ جَرِيرٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ آنِفًا قَائِلًا: إِنَّ مُرَادَهُ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى تَرْكِ عَدِّ الْكَمِيِّ الْمُقَنَّعِ فِي الْمَاضِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْوَحْيِ، وَقِيلَ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " إِلَّا تَنْزِيلًا مُتَلَبِّسًا بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَا حِكْمَةَ فِي أَنْ تَأْتِيَكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَيَانًا، تُشَاهِدُونَهُمْ وَيَشْهَدُونَ لَكُمْ بِصِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّكُمْ حِينَئِذٍ مُصَدِّقُونَ عَنِ اضْطِرَارٍ "، قَالَ: " وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [15 \ 85] وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [15 \ 8] لِأَنَّ التَّنْوِينَ فِي قَوْلِهِ (إِذًا) عِوَضٌ عَنْ جُمْلَةٍ، فَفِيهِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: وَلَوْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ، أَيْ مُمْهَلِينَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [25 \ 22] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [6 \ 8] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ [15 \ 8] قَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (نُنَزِّلُ) بِنُونَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ، وَ (الْمَلَائِكَةَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ لِنُنَزِّلُ. وَقَرَأَ شُعْبَةُ: (تُنَزَّلُ) بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ مَعَ تَشْدِيدِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَ (الْمَلَائِكَةَ) بِالرَّفْعِ نَائِبُ فَاعِلِ تُنَزَّلُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (تَنَزَّلُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالنُّونِ وَالزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ، أَصْلُهُ تَتَنَزَّلُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَ (الْمَلَائِكَةُ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ تَنَزَّلُ كَقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ الْآيَةَ [97 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَأَنَّهُ حَافِظٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ أَوْ يَتَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يُبَدَّلَ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 41 - 42] وَقَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [75 \ 16] إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 19] وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 رَاجِعٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [5 \ 67] وَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِ السِّيَاقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا، وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [25 \ 61] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ الْآيَةَ [85 \ 1] ، وَالْبُرُوجُ: جَمْعُ بُرْجٍ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْبُرُوجِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبُرُوجُ: الْكَوَاكِبُ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: أَنَّهَا الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ، وَقِيلَ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ عَلَيْهَا الْحَرَسُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَطِيَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الْبُرُوجِ: الْحَمَلُ وَالثَّوْرُ وَالْجَوْزَاءُ وَالسَّرَطَانُ وَالْأَسَدُ وَالسُّنْبُلَةُ وَالْمِيزَانُ وَالْعَقْرَبُ وَالْقَوْسُ وَالْجَدْيُ وَالدَّلْوُ وَالْحُوتُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَطْلَقَ تَعَالَى فِي ((سُورَةِ النِّسَاءِ)) الْبُرُوجَ عَلَى الْقُصُورِ الْحَصِينَةِ فِي قَوْلِهِ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [4 \ 78] وَمَرْجِعُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. لِأَنَّ أَصْلَ الْبُرُوجِ فِي اللُّغَةِ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ بِإِظْهَارِ زِينَتِهَا، فَالْكَوَاكِبُ ظَاهِرَةٌ، وَالْقُصُورُ ظَاهِرَةٌ، وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَالْقُصُورِ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ مَحَلٌّ يُنْزَلُ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ زَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ، وَأَنَّهَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ الْآيَةَ [67 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [37 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ حَفِظَ السَّمَاءَ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [37 \ 7] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [67 \ 5] وَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [72 \ 9] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [26 \ 212] وَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [52 \ 38] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [15 \ 18] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَجَزَمَ بِهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، أَيْ لَكِنْ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أَيِ الْخَطْفَةَ الْيَسِيرَةَ، فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ شِهَابٌ فَيَحْرِقُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 8 - 10] وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، أَيْ حَفِظْنَا السَّمَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْمَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فَإِنَّا لَمْ نَحْفَظْهَا مِنْ أَنْ تَسَّمَّعَ لِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ سِوَى الْوَحْيِ، فَأَمَّا الْوَحْيُ فَلَا تَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [26 \ 212] قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَنَظِيرُهُ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْآيَةَ [37 \ 10] فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْآيَةَ [37 \ 8] . [أَصْحَابُ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ تَنْبِيهٌ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ مَا يَتَشَدَّقُ بِهِ أَصْحَابُ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ، مِنْ أَنَّهُمْ سَيَصِلُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَيَبْنُونَ عَلَى الْقَمَرِ، كُلُّهُ كَذِبٌ وَشَقْشَقَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَمِنَ الْيَقِينِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ سَيَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّهِمْ، وَيَرْجِعُونَ خَاسِئِينَ أَذِلَّاءَ عَاجِزِينَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [67 \ 4] وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، يُطْلِقُ اسْمَ الشَّيْطَانِ عَلَى كُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 14] ، وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [6 \ 112] وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» وَقَوْلُ جَرِيرٍ: أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلِي ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانًا وَلَا شَكَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الشَّيَاطِينِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا ; لِعُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِحِفْظِ السَّمَاءِ مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، كَائِنًا مَنْ كَانَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ هُنَا: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وَقَوْلُهُ: وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [41 \ 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ أَرَادَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ أَتْبَعَهُ شِهَابٌ رَاصِدٌ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [72 \ 9] وَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [15 \ 18] وَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 9] وَقَالَ: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [26 \ 212] وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [52 \ 38] وَهُوَ تَعْجِيزٌ دَالٌّ عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا مُطْلَقًا، وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [38 \ 10 - 11] فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ، أَيْ فَلْيَصْعَدُوا فِي أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَيْهَا. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَرْتَقُوا لِلتَّعْجِيزِ، وَإِيرَادُهَا لِلتَّعْجِيزِ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْجِيزِ: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [38 \ 11] يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَنَطَّعَ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ لِلِارْتِقَاءِ فِي أَسْبَابِ السَّمَاءِ، أَنَّهُ يَرْجِعُ مَهْزُومًا صَاغِرًا دَاخِرًا ذَلِيلًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ يُشَارُ فِيهَا إِلَى شَيْءٍ مَا كَانَ يَظُنُّهُ النَّاسُ وَقْتَ نُزُولِهَا إِبْهَامُهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِذَلِكَ الْجُنْدِ بِلَفْظَةِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: جُنْدٌ مَا [38 \ 11] وَإِشَارَتُهُ إِلَى مَكَانِ ذَلِكَ الْجُنْدِ أَوْ مَكَانِ انْهِزَامِهِ إِشَارَةُ الْبَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: هُنَالِكَ [38 \ 11] وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَةِ مَا يُظْهِرُ رُجُوعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، إِلَّا الِارْتِقَاءُ فِي أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ. فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ يُفَسِّرْهَا بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بَلْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ تَدُورُ عَلَى أَنَّ الْجُنْدَ الْمَذْكُورَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْفَ يَهْزِمُهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَحَقَّقَ يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ كِتَابُ اللَّهِ لَا تَزَالُ تَظْهَرُ غَرَائِبُهُ وَعَجَائِبُهُ مُتَجَدِّدَةً عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، فَفِي كُلِّ حِينٍ تُفْهَمُ مِنْهُ أَشْيَاءُ لَمْ تَكُنْ مَفْهُومَةً مِنْ قَبْلُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ خَصَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ؟ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَهْمَ كِتَابِ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 تَتَجَدَّدُ بِهِ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا حَمَلَهَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهَا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا حَقَّقَهُ بِأَدِلَّتِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ. وَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [71 \ 15 - 16] فَعُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ، وَأَنَّ اللَّهَ حَفِظَهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، فَلَمْ يَبْقَ شَكٌّ وَلَا لَبْسٌ فِي أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَصْحَابَ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ سَيَرْجِعُونَ دَاخِرِينَ صَاغِرِينَ، عَاجِزِينَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْقَمَرِ وَالْوُصُولِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ لَبْسٌ فِي أَنَّ السَّمَاءَ الَّتِي فِيهَا الْقَمَرُ لَيْسَ يُرَادُ بِهَا مُطْلَقَ مَا عَلَاكَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ السَّمَاءِ قَدْ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى كُلِّ مَا عَلَاكَ، كَسَقْفِ الْبَيْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ الْآيَةَ [22 \ 15] . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ ... وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لِتَصْرِيحِهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ. لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ [71 \ 16] رَاجِعٌ إِلَى السَّبْعِ الطِّبَاقِ، وَإِطْلَاقُ الْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْ أَصْرَحِ أَدِلَّتِهِ: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [2 \ 191] مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ. لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ - بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنْ يَقْتُلَ قَاتِلَهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [71 \ 16] . وَصَحَّ كَوْنُ السَّمَاوَاتِ ظَرْفًا لِلْقَمَرِ. لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الظَّرْفِ أَنْ يَمْلَأَهُ الْمَظْرُوفُ. تَقُولُ: زَيْدٌ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ فِي جُزْءٍ مِنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ نَفْسَ الْقَمَرِ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ. لِأَنَّ لَفْظَةَ جَعَلَ [71 \ 15] فِي الْآيَةِ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَهِيَ تَنْصِبُ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ، وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُبْتَدَأِ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَبَرِ بِعَيْنِهِ لَا شَيْءٍ آخَرَ، فَقَوْلُكَ: جَعَلْتُ الطِّينَ خَزَفًا، وَالْحَدِيدَ خَاتَمًا، لَا يَخْفَى فِيهِ أَنَّ الطِّينَ هُوَ الْخَزَفُ بِعَيْنِهِ، وَالْحَدِيدَ هُوَ الْخَاتَمُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [71 \ 16] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فَالنُّورُ الْمَجْعُولُ فِيهِنَّ هُوَ الْقَمَرُ بِعَيْنِهِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ احْتِمَالُ خُرُوجِ نَفْسِ الْقَمَرِ عَنِ السَّبْعِ الطِّبَاقِ، وَكَوْنُ الْمَجْعُولِ فِيهَا مُطْلَقَ نُورِهِ. لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: وَجَعَلَ نُورَ الْقَمَرِ فِيهِنَّ أَمَّا قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النُّورَ الْمَجْعُولَ فِيهِنَّ هُوَ عَيْنُ الْقَمَرِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْقُرْآنِ عَنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادِرِ بِلَا دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ بِأَنَّ الْقَمَرَ فِي خُصُوصِ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ بِقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [25 \ 61] وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ بِأَنَّ ذَاتَ الْبُرُوجِ الْمَنْصُوصَ عَلَى أَنَّ الْقَمَرَ فِيهَا هِيَ بِعَيْنِهَا الْمَحْفُوظَةُ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 16] وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَشَارَ إِلَى الِاتِّصَالِ بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [42 \ 29] يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْمُرَادَ جَمْعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَحْشَرِ، كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [6 \ 38] . وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الْآيَةَ [64 \ 9] . وَكَثْرَةُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [11 \ 103] وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [56 \ 49 - 50] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [4 \ 87] وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [25 \ 25] وَقَوْلِهِ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] وَقَوْلِهِ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [18 \ 47] . وَمَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: الْمُرَادُ مَا بَثَّ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ فَقَطْ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِدَوَابِّ السَّمَاءِ الْمَلَائِكَةُ، زَاعِمًا أَنَّ الدَّبِيبَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ حَرَكَةٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ بَثَّ فِي السَّمَاءِ دَوَابَّ كَمَا بَثَّ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الْأَرْضِ دَوَابَّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَمْعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمْعِهِمْ حَشْرُهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَطْبَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ، وَلَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَمْعِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُلُوغُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَنْحَدِرَ مَنْ فِي السَّمَاءِ إِلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ الْهُبُوطَ أَهْوَنُ مِنَ الصُّعُودِ وَمَا يَزْعُمُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ - جَلَّ وَعَلَا -: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [55 \ 33] يُشِيرُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى السَّمَاءِ بِدَعْوَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّلْطَانِ فِي الْآيَةِ هُوَ هَذَا الْعِلْمُ الْحَادِثُ الَّذِي مِنْ نَتَائِجِهِ الصَّوَارِيخُ وَالْأَقْمَارُ الصِّنَاعِيَّةُ. وَإِذًا فَإِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْفُذُونَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَرْدُودٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ إِعْلَامُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - خَلْقَهُ أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ وَلَا مَفَرَّ عَنْ قَضَائِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا تَحُفُّ بِهِمْ صُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكُلَّمَا فَرُّوا إِلَى جِهَةٍ وَجَدُوا صُفُوفَ الْمَلَائِكَةِ أَمَامَهُمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [55 \ 33] وَالسُّلْطَانُ: قِيلَ الْحُجَّةُ وَالْبَيِّنَةُ، وَقِيلَ الْمُلْكُ وَالسَّلْطَنَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا نُفُوذَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [40 \ 32 - 33] . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجِنَّ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّيَرَانِ وَالنُّفُوذِ فِي أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ. الْآيَةَ [72 \ 9] وَإِنَّمَا مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ حِينَ بُعِثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [72 \ 9] فَالْجِنُّ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى صَارُوخٍ وَلَا قَمَرٍ صِنَاعِيٍّ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا يَزْعُمُهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَمْ يَقُلْ - جَلَّ وَعَلَا - يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْفُذُونَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ حُدُوثِ السُّلْطَانِ الْمَزْعُومِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلْمَ الْمَذْكُورَ الَّذِي لَا يُجَاوِزُ صِنَاعَةً يَدَوِيَّةً أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ السُّلْطَانِ ; لِأَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ أَغْرَاضَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا نَظَرَ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 أَلْبَتَّةَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى كَمَالِ حَقَارَتِهَا عِنْدَهُ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ إِلَى قَوْلِهِ لِلْمُتَّقِينَ [43 \ 33 - 35] وَعَلِمَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ نَفْيَ اللَّهِ عَنْهُ اسْمَ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ، وَأَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ عِلْمٌ ظَاهِرٌ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [30 \ 6 - 7] فَحِذْقُ الْكُفَّارِ فِي الصِّنَاعَاتِ الْيَدَوِيَّةِ كَحِذْقِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ فِي صِنَاعَتِهَا، بِإِلْهَامِ اللَّهِ لَهَا ذَلِكَ، فَالنَّحْلُ تَبْنِي بَيْتَ عَسَلِهَا عَلَى صُورَةِ شَكْلٍ مُسَدَّسٍ، يَحَارُ فِيهِ حُذَّاقُ الْمُهَنْدِسِينَ. وَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْهَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ، وَجَعَلُوهَا فِي أَجْبَاحِ زُجَاجٍ لِيَنْظُرُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ بِنَائِهَا، أَبَتْ أَنْ تُعَلِّمَهُمْ، فَطَلَتِ الزُّجَاجَ بِالْعَسَلِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، كَيْلَا يَرَوْا كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا، كَمَا أَخْبَرَتْنَا الثِّقَةُ بِذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَزْعُومَ كَذِبًا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ الْآيَةَ [55 \ 35] فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا النُّفُوذَ فِي أَقْطَارِهَا حَرَقَهُمْ ذَلِكَ الشُّوَاظُ وَالنُّحَاسُ، وَالشُّوَاظُ اللَّهَبُ الْخَالِصُ، وَالنُّحَاسُ الدُّخَانُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسًا وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَشَارَ إِلَى اتِّصَالِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [21 \ 4] بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي لَفْظَةِ قُلْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَبِصِيغَةِ الْمَاضِي قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْآيَةَ. فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَلَا التَّضَمُّنِ وَلَا الِالْتِزَامِ ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا تُفِيدُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّ رَبَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْأَخَوَيْنِ وَحَفْصٍ، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ قَائِلًا إِنَّ رَبَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَعْلَمُ كُلَّ مَا يُقَالُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَالِمٌ بِكُلِّ أَسْرَارِ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعَلَانِيَاتِهِمْ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ سَيَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [84 \ 19] زَاعِمًا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَتَرْكَبُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ طَبَقًا أَيْ سَمَاءً عَنْ طَبَقٍ أَيْ بَعْدَ سَمَاءٍ حَتَّى تَصْعَدُوا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، فَهُوَ أَيْضًا جَهْلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَحَمْلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِ مَا يُرَادُ بِهِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: لَتَرْكَبَنَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِهَا قَرَأَ مِنَ السَّبْعَةِ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَفِي فَاعِلِ لَتَرْكَبَنَّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَشْهَرُهَا أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: لَتَرْكَبَنَّ أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ أَيْ بَعْدَ طَبَقٍ أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ أَيْ فَتَتَرَقَّى فِي الدَّرَجَاتِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَالطَّبَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْحَالُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَقْرَعِ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ: إِنِّي امْرُؤٌ قَدْ حَلَبَتِ الدَّهْرُ أَشْطُرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ مِنْهَا إِلَى طَبَقٍ وَقَوْلُ الْآخَرِ: كَذَلِكَ الْمَرْءُ إِنْ يُنْسَأْ لَهُ أَجَلٌ ... يَرْكَبْ عَلَى طَبَقٍ مِنْ بَعْدِهِ طَبَقُ أَيْ: حَالٌ بَعْدَ حَالٍ فِي الْبَيْتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [84 \ 19] أَيْ لَتَصْعَدَنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ السَّمَاءِ أَيْ لَتَرْكَبَنَّ هِيَ أَيِ السَّمَاءُ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، أَيْ لَتَنْتَقِلَنَّ السَّمَاءُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَيْ تَصِيرُ تَارَةً كَالدِّهَانِ وَتَارَةً كَالْمُهْلِ وَتَارَةً تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ وَتَارَةً تُطْوَى كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا [84 \ 6] أَيْ لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ صِغَرٍ إِلَى كِبَرٍ وَمِنْ صِحَّةٍ إِلَى سَقَمٍ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ غِنًى إِلَى فَقْرٍ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ مَوْتٍ إِلَى حَيَاةٍ كَالْعَكْسِ، وَمَنْ هَوْلٍ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ إِلَى آخَرَ وَهَكَذَا، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَبِهَا قَرَأَ مِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ (لَتَرْكَبُنَّ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَهُوَ خِطَابٌ عَامٌّ لِلنَّاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [84 \ 7 - 10] وَمَعْنَى الْآيَةِ لَتَرْكَبُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَتَنْتَقِلُونَ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ هَوْلٍ إِلَى هَوْلٍ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الْبَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ أَيْ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ حَتَّى تَصْعَدُوا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قِرَاءَةِ فَتْحِ الْبَاءِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّبَقِ الْحَالُ الْمُنْتَقِلُ إِلَيْهَا مِنْ مَوْتٍ وَنَحْوِهِ وَهَوْلِ الْقِيَامَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ مُرَتِّبًا لَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [84 \ 20 - 21] فَهُوَ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا كَانُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَنْ هَوْلٍ إِلَى هَوْلٍ، فَمَا الْمَانِعُ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيَسْتَعِدُّوا لِتِلْكَ الشَّدَائِدِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الدَّوَاهِيَ بَنَاتِ طَبَقٍ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي لُغَتِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هُمُ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ بِهَذَا الْخِطَابِ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، وَلَمْ يَرْكَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ وَلَوْ كَانَ هُوَ مَعْنَاهَا لَمَا خَرَجَ مِنْهُ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ بِلَا قَرِينَةٍ عَلَى ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِحِفْظِ السَّمَاءِ وَحِرَاسَتِهَا مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى صُعُودِ أَصْحَابِ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ فَوْقَ السَّبْعِ الطِّبَاقِ. وَالْوَاقِعُ الْمُسْتَقْبَلُ سَيَكْشِفُ حَقِيقَةَ تِلْكَ الْأَكَاذِيبِ وَالْمَزَاعِمِ الْبَاطِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى بُلُوغِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاوَاتِ بِقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ الْآيَةَ [45 \ 13] فَقَالُوا: تَسْخِيرُهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا فِي السَّمَاوَاتِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَيَبْلُغُونَ السَّمَاوَاتِ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَيْفِيَّةَ تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاءِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، فَبَيَّنَ أَنَّ تَسْخِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِمَنَافِعِهِمْ، وَانْتِشَارَ الضَّوْءِ عَلَيْهِمْ، وَلِكَيْ يَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الْآيَةَ [14 \ 33] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وَمَنَافِعُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ اللَّذَيْنِ سَخَّرَهُمَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [10 \ 5] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [17 \ 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ التَّسْخِيرِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ سَخَّرَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ النُّجُومَ لِيَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ الْآيَةَ [16 \ 12] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْآيَةَ [6 \ 97] وَقَالَ: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ الْآيَةَ [16 \ 16] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَهَذَا هُوَ تَسْخِيرُ مَا فِي السَّمَاءِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ الْأَوَّلِينَ بِقَوْلِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [45 \ 13] وَهُمُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يُسَخَّرْ لَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ إِلَّا هَذَا التَّسْخِيرَ الَّذِي ذَكَرْنَا، الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. فَلَوْ كَانَ يُرَادُ بِهِ التَّسْخِيرُ الْمَزْعُومُ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَارِيخِ وَالْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ لَدَخَلَ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [12 \ 105] ، فَإِنَّ مَعْنَى مُرُورِهِمْ عَلَى مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْآيَاتِ نَظَرُهُمْ إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 185] وَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [10 \ 101] وَقَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [41 \ 53] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ التَّلَاعُبَ بِكِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَتَفْسِيرَهُ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ لِمُحَاوَلَةِ تَوْفِيقِهِ مَعَ آرَاءِ كَفَرَةِ الْإِفْرِنْجِ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ مِنْ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ فَسَادُ الدَّارَيْنِ، وَنَحْنُ إِذْ نَمْنَعُ التَّلَاعُبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَفْسِيرِهِ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ، نَحُضُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَذْلِ الْوُسْعِ فِي تَعْلِيمِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [8 \ 60] كَمَا سَتَرَى بَسْطَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَإِنْ قِيلَ. هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى حِفْظِ السَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَارِدَةٌ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 حِفْظِهَا مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِشَيَاطِينِ الْجِنِّ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَشْمَلُ بِدَلَالَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ مِنَ الْكُفَّارِ. قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالشَّيْطَانُ مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٌ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالدَّوَابِّ شَيْطَانٌ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالشَّيْطَانُ مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ أَوْ دَابَّةٍ اه. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَشَدِّ الْكُفَّارِ تَمَرُّدًا وَعُتُوًّا الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ بُلُوغَ السَّمَاءِ، فَدُخُولُهُمْ فِي اسْمِ الشَّيْطَانِ لُغَةً لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ الشَّيْطَانِ يَعُمُّ كُلَّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] صَرِيحٌ فِي حِفْظِ السَّمَاءِ مِنْ كُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَحَمْلُ نُصُوصِ الْوَحْيِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَاجِبٌ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهَا أَوْ صَرْفِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ مِنْهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. وَحِفْظُ السَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعْنَاهُ حِرَاسَتُهَا مِنْهُمْ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: حَفِظْتُ الشَّيْءَ حِفْظًا أَيْ حَرَسْتُهُ اه. وَقَالَ صَاحِبُ لِسَانِ الْعَرَبِ: وَحَفِظْتُ الشَّيْءَ حِفْظًا أَيْ حَرَسْتُهُ اه. وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ مَدْلُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] أَيْ وَحَرَسْنَاهَا أَيِ السَّمَاءَ مِنْ كُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ. وَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِقَوْلِهِ رَجِيمٍ [15 \ 17] وَقَوْلِهِ مَارِدٍ [37 \ 7] لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْكَاشِفَةِ فَكُلَّ شَيْطَانٍ يُوصَفُ بِأَنَّهُ رَجِيمٌ وَبِأَنَّهُ مَارِدٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْوَى تَمَرُّدًا مِنْ بَعْضٍ، وَمَا حَرَسَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ كُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ، لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَاتٍ مُتَمَرِّدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [67 \ 4] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. اه قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ. اللَّوَاقِحُ جَمْعُ لَاقِحٍ، وَأَصْلُ اللَّاقِحِ الَّتِي قَبِلَتِ اللِّقَاحَ فَحَمَلَتِ الْجَنِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: إِذَا قُلْتُ عَاجٍ أَوْ تَفَتَّيْتُ أَبْرَقَتْ ... بِمِثْلِ الْخَوَافِي لَاقِحًا أَوْ تَلَقَّحُ وَأَصْلُ تَلَقَّحُ: تَتَلَقَّحُ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ تَوَهَّمَ أَنَّهَا لَاقِحٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَوَصْفُ الرِّيَاحِ بِكَوْنِهَا لَوَاقِحَ ; لِأَنَّهَا حَوَامِلُ تَحْمِلُ الْمَطَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [7 \ 57] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 أَيْ حَمَلَتْ سَحَابًا ثِقَالًا، فَاللَّوَاقِحُ مِنَ الْإِبِلِ حَوَامِلُ الْأَجِنَّةِ، وَاللَّوَاقِحُ مِنَ الرِّيحِ حَوَامِلُ الْمَطَرِ، فَالْجَمِيعُ يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَلِذَا كَانَتِ النَّاقَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ يُقَالُ لَهَا عَقِيمٌ، كَمَا أَنَّ الرِّيحَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا عَقِيمٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [51 \ 41] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّوَاقِحُ بِمَعْنَى الْمَلَاقِحِ، أَيْ الَّتِي تُلَقِّحُ غَيْرَهَا مِنَ السَّحَابِ وَالشَّجَرِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ النِّسْبَةُ، فَقَوْلُهُ: لَوَاقِحُ، أَيْ ذَوَاتُ لَقَاحٍ كَمَا يُقَالُ: سَائِفٌ وَرَامِحٌ، أَيْ ذُو سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكِ لَابِنٌ فِي الْحَيِّ تَامِرُ أَيْ ذُو لَبَنٍ وَتَمْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى لَوَاقِحَ أَيْ ذَوَاتِ لَقَاحٍ، لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ السَّحَابَ وَالشَّجَرَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَوَاقِحَ بِمَعْنَى مَلَاقِحَ جَمْعُ مُلْقَحَةٍ، وَمُلْقِحٌ اسْمُ فَاعِلٍ أَلْقَحَتِ السَّحَابَ وَالشَّجَرَ كَمَا يَلْقَحُ الْفَحْلُ الْأُنْثَى، وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ إِطْلَاقُ لِوَاقِحَ وَإِرَادَةُ مَلَاقِحَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ أَوْ غَيْرَهُ: لِيَبْكِ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ تُطِيحُ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَطَاحَ الرُّبَاعِيِّ، وَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ الْمُطِيحَاتُ لَا الطَّوَائِحُ، وَلَكِنَّ الشَّاعِرَ أَطْلَقَ الطَّوَائِحَ وَأَرَادَ الْمُطِيحَاتِ، كَمَا قِيلَ هُنَا بِإِطْلَاقِ اللَّوَاقِحِ وَإِرَادَةِ الْمَلَاقِحِ أَيِ الْمُلْقِحَاتِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَمَعْنَى إِلْقَاحِ الرِّيَاحِ السَّحَابَ وَالشَّجَرَ، أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهَا لَهُمَا كَمَا يَجْعَلُ الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى، فَكَمَا أَنَّ الْأُنْثَى تَحْمِلُ بِسَبَبِ ضِرَابِ الْفَحْلِ، فَكَذَلِكَ السَّحَابُ يَمْتَلِئُ مَاءً بِسَبَبِ مَرْيِ الرِّيَاحِ لَهُ، وَالشَّجَرُ يَنْفَتِقُ عَنْ أَكْمَامِهِ وَأَوْرَاقِهِ بِسَبَبِ إِلْقَاحِ الرِّيحِ لَهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [15 \ 22] أَيْ تَلْقَحُ السَّحَابَ فَتُدِرُّ مَاءً، وَتَلْقَحُ الشَّجَرَ فَتَنْفَتِحُ عَنْ أَوْرَاقِهَا وَأَكْمَامِهَا، وَقَالَ السَّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: «وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ فَتَلْقَحُ بِهِ السَّحَابَ فَيُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ ثُمَّ يُمْطِرُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخَ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ، فَتَحْمِلُ الْمَاءَ مِنَ السَّحَابِ، فَتَمْرِي بِهِ السَّحَابَ، فَيُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 اللِّقْحَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ، قَالَ: تَلْقَحُ الشَّجَرَةَ وَتَمْرِي السَّحَابَ: وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: لَوَاقِحُ لِلشَّجَرِ، قُلْتُ: أَوِ السَّحَابِ، قَالَ: وَلِلسَّحَابِ تَمُرُّ بِهِ حَتَّى يُمْطِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: تَلْقَحُ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: الرِّيحُ يَبْعَثُهَا اللَّهُ عَلَى السَّحَابِ، فَتَلْقَحُهُ فَيَمْتَلِئُ مَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ السَّحَابِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «رِيحُ الْجَنُوبِ مِنَ الْجَنَّةِ» وَهِيَ الرِّيحُ اللَّوَاقِحُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَفِيهَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَالشَّمَالُ مِنَ النَّارِ تَخْرُجُ فَتَمُرُّ بِالْجَنَّةِ، فَيُصِيبُهَا نَفْخَةٌ مِنْهَا فَبَرْدُهَا هَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ، وَالْجَنُوبُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ الرِّيحُ اللَّوَاقِحُ» . هَذَا حَاصِلُ مَعْنَى كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّيَاحِ اللَّوَاقِحِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّوَاقِحَ هِيَ حَوَامِلُ الْمَطَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [7 \ 57] أَيْ حَمَلَتْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا، أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ أَوْصَافٌ، فَيُذْكَرُ بَعْضُهَا فِي مَوْضِعٍ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ بَقِيَّةَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ بِظِلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ فِي قَوْلِهِ: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [4 \ 57] وَقَدْ وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ أُخَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [13 \ 35] وَقَوْلِهِ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [56] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرِّيَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهَا لَوَاقِحَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ آنِفًا، وَوَصَفَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَوْصَافٍ أُخَرَ، مِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ لَهَا بِأَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالسَّحَابِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [30 \ 46] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِالْبَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ لَهَا بِإِثَارَةِ السَّحَابِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا الْآيَةَ [25 \ 48] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ «يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُثِيرَةَ فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُبَشِّرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ، فَيَجْعَلُهُ كِسَفًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، فَيَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ فَتَلْقَحُهُ فَيُمْطِرُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: «الْأَرْوَاحُ أَرْبَعَةٌ: رِيحٌ تَقُمُّ، وَرِيحٌ تُثِيرُ تَجْعَلُهُ كِسَفًا، وَرِيحٌ تَجْعَلُهُ رُكَامًا، وَرِيحٌ تُمْطِرُ» اه. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَخَذَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَقَاحَ الْقَمْحِ أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّفْظُ لِأَشْهَبَ. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [15 \ 22] فَلَقَاحُ الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ، وَلَا أَدْرِي مَا يَيْبَسُ فِي أَكْمَامِهِ وَلَكِنْ يُحَبِّبُ حَتَّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَقَاحُ الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ تُثْمِرَ، ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ وَيَثْبُتُ مِنْهَا مَا يَثْبُتُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ تُوَرَّدَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا عَوَّلَ مَالِكٌ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى تَشْبِيهِ لَقَاحِ الشَّجَرِ بِلَقَاحِ الْحَمْلِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ إِذَا عُقِدَ وَخُلِقَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَحَبُّبِ الثَّمَرِ وَتَسَنْبِلُهُ ; لِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمٍ تَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ حَامِلَةٍ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْحَدِيثُ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْحِبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» اه مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: اسْتِنْبَاطُ الْإِمَامِ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ لَقَاحَ الْقَمْحِ أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ، وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي كُلَّ الظُّهُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ تَلْقِيحَ الثِّمَارِ هُوَ إِبَارُهَا، وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ ذُكُورِ النَّخْلِ فَيُدْخَلُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ طَلْعِ الْإِنَاثِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ طُلُوعُ الثِّمَارِ مِنَ التِّينِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى تَكُونَ الثَّمَرَةُ مَرْئِيَّةً مَنْظُورًا إِلَيْهَا. وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِيمَا يُذَكَّرُ مِنَ الثِّمَارِ التَّذْكِيرُ، وَفِيمَا لَا يُذَكَّرُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ نَوَّارِهِ مَا يَثْبُتُ وَيَسْقُطَ مَا يَسْقُطُ، وَحَدُّ ذَلِكَ فِي الزَّرْعِ ظُهُورُهُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَهُ مَالِكٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ إِبَارَهُ أَنْ يُحَبِّبَ اه، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْحَائِطَ إِذَا انْشَقَّ طَلْعُ إِنَاثِهِ، فَأُخِّرَ إِبَارُهُ، وَقَدْ أُبِّرَ غَيْرُهُ مِمَّا حَالُهُ مِثْلُ حَالِهِ، أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا أُبِّرَ، فَإِنْ أُبِّرَ بَعْضُ الْحَائِطِ كَانَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لَهُ، كَمَا أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الْحَائِطَ إِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ كَانَ سَائِرُ الْحَائِطِ تَبَعًا لِذَلِكَ الصَّلَاحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ اه. وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا بِيعَ حَائِطُ نَخْلٍ بَعْدَ أَنْ أُبِّرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهَا الْمُبْتَاعُ فَهِيَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ الَّذِي بَاعَهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَإِنْ بِيعَتِ النَّخْلُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْبَائِعِ لَهَا، فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهَا كَالْجَنِينِ لَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ اشْتِرَاطُهَا وَلَا اسْتِثْنَاؤُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُشْتَرًى، خِلَافًا لِتَصْحِيحِ اللَّخْمِيِّ جَوَازَ اسْتِثْنَاءِ الْبَائِعِ لَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُبْقًى، وَجَوَازُ اسْتِثْنَائِهَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهُوَ أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْتَثْنَى مُبْقًى أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِهِ مُشْتَرًى لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى مِلْكِهِ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ كَمَا تَرَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا أُبِّرَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا بِشَرْطٍ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى الْقَائِلِ: هِيَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْحَالَيْنِ ; لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصْلِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهُ كَالْأَغْصَانِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ; لِمُخَالَفَتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْبَيْعَ إِنْ كَانَ وَقَعَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، وَخِلَافًا لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهَا لِلْبَائِعِ فِي الْحَالَيْنِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَرُدُّ عَلَيْهِمَا، بِدَلِيلِ خِطَابِهِ أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ» الْحَدِيثَ. يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ قَوْلُهُ «قَدْ أُبِّرَتْ» وَقَوْلُهُ «بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ» فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذِكْرَ وَصْفِ التَّأْبِيرِ لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقُولُ بِحُجَّتِهِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، فَالْجَارِي عَلَى أُصُولِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ نَصَّ عَلَى حُكْمِ الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ، وَسَكَتَ عَنْ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا أَصْلًا. وَإِنْ أُبِّرَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ الَّتِي بِيعَتْ أُصُولُهَا، وَبَعْضُهَا الْآخَرُ لَمْ يُؤَبَّرْ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ فَالْأَقَلُّ تَابِعٌ لَهُ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، فَالْمُؤَبَّرُ لِلْبَائِعِ وَغَيْرُهُ لِلْمُشْتَرِي. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَبَّرِ وَغَيْرِهِ حُكْمَهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْمُؤَبَّرِ وَغَيْرِهِ، فَالْجَمِيعُ عِنْدَهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصَّحِيحُ مِنَ الْخِلَافِ، أَنَّ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعٌ لِلْمُؤَبَّرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فَيَبْقَى الْجَمِيعُ لِلْبَائِعِ دَفْعًا لِضَرَرِ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي. وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ الثَّمَرَةِ دُونَ بَعْضٍ يَجُوزُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وِفَاقًا لِأَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَخَالَفَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمُؤَبَّرَةِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا جَازَ اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِهِ جَازَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِهِ، وَحُجَّةُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي اشْتِرَاطِ الْجَمِيعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ الَّتِي هِيَ لِلْبَائِعِ إِنْ لَمْ يَسْتَثْنِهَا الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهَا تَبْقَى إِلَى وَقْتِ الِانْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ بِهَا، وَلَا يُكَلِّفُهُ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِهَا فِي الْحَالِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ قَائِلًا: يَلْزَمُ قَطْعُهَا فِي الْحَالِ وَتَفْرِيغُ النَّخْلِ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَزِمَ نَقْلُهُ وَتَفْرِيغُهُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ أَوْ قُمَاشٌ لَهُ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النَّقْلَ وَالتَّفْرِيغَ لِلْمَبِيعِ عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ لَمْ يَجِبْ نَقْلُهُ عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَنْقُلَهُ نَهَارًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ النَّقْلُ لَيْلًا، وَلَا جَمْعَ دَوَابِّ الْبَلَدِ لِنَقْلِهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا يُفَرَّغُ النَّخْلُ مِنَ الثَّمَرَةِ فِي أَوَانٍ وَهُوَ وَقْتُ الْجِذَاذِ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوِ اشْتُرِيَتِ النَّخْلُ وَبَقِيَتِ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، فَهَلْ لِمُشْتَرِي الْأَصْلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؟ أَوَّلًا: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ لَهَا عِنْدَهُ حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ وَإِنْ أُفْرِدَتْ بِالْعَقْدِ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْقَوْلَ بِمَنْعِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا اشْتُرِيَتِ الثَّمَرَةُ وَحْدَهَا دُونَ الْأَصْلِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَلَهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّ يَبِيعَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِجْمَاعًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بِشَرْطِ قَطْعِهَا فِي الْحَالِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ الْبَيْعُ إِجْمَاعًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ تَبْقِيَةٍ وَلَا قَطْعٍ، بَلْ سَكَتَا عَنْ ذَلِكَ، وَعَقَدَا الْبَيْعَ مُطْلَقًا دُونَ شَرْطٍ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَأَوْجَبَ قَطْعَ الثَّمَرَةِ حَالًا، قَالَ: لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَطَهُ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ إِطْلَاقُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ، وَفِي لَفْظٍ: نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ وَمَا زَهْوَتُهَا؟ قَالَ تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ» . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا «. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» . فَإِطْلَاقَاتُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَنَحْوِهَا تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَأَرْسَلْنَا الرِّيحَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَلِفُ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ لِلْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ لَوَاقِحَ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَمَنْ قَرَأَ بِإِفْرَادِ الرِّيحِ فَعَلَى تَأْوِيلِ الْجِنْسِ، كَمَا قَالُوا أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ اه وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَظِيمَ مِنَّتِهِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَجَعْلِهِ إِيَّاهُ عَذْبًا صَالِحًا لِلسُّقْيَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 68 - 70] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [16 \ 10 - 11] وَقَوْلِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [25 \ 48 - 49] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَسْقَى وَسَقَى لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَأَسْرَى وَسَرَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الْقِرَاءَتَانِ السَّبْعِيَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [16 \ 66] فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بَعْضُ السَّبْعَةِ بِضَمِّ النُّونِ مِنْ أَسْقَى الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا مِنْ سَقَى الثُّلَاثِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ لَبِيدٍ: سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ. فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنُ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَعْنَى وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [15 \ 22] أَيْ لَيْسَتْ خَزَائِنُهُ عِنْدَكُمْ بَلْ نَحْنُ الْخَازِنُونَ لَهُ، نُنَزِّلُهُ مَتَى شِئْنَا، وَهَذَا الْوَجْهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [15 \ 21] وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [63 \ 7] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ، أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهِ فِي الْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْغُدْرَانِ، بَلْ نَحْنُ الْحَافِظُونَ لَهُ فِيهَا، لِيَكُونَ ذَخِيرَةً لَكُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [23 \ 18] وَقَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [67] وَقَوْلُهُ: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [18 \ 41] وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [39 \ 21] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [50 \ 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [2 \ 258] وَقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [44 \ 8] وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ أَحْيَاهُمْ مَرَّتَيْنِ وَأَمَاتَهُمْ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [40 \ 11] الآية وَقَوْلِهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الْآيَةَ [2 \ 28] وَالْإِمَاتَةُ الْأُولَى هِيَ كَوْنُهُمْ نُطَفًا وَعَلَقًا وَمُضَغًا، وَالْإِمَاتَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَوْتُهُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِحْيَاءَةُ الْأُولَى نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِمْ وَإِخْرَاجُهُمْ أَحْيَاءً مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَالْإِحْيَاءَةُ الثَّانِيَةُ بَعْثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي لَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ إِيضَاحٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ الْوَارِثُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الشَّيْءَ الَّذِي يَرِثُهُ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [19 \ 40] وَقَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [19 \ 80] وَمَعْنَى مَا يَقُولُ: أَيْ نَرِثُهُ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [19 \ 77] وَمَعْنَى كَوْنِهِ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَانَا آدَمَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالصَّلْصَالُ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يَصِلُ أَيْ يُصَوِّتُ مِنْ يُبْسِهِ إِذَا ضَرَبَهُ شَيْءٌ مَا دَامَ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ فَهُوَ حِينَئِذٍ فَخَّارٌ، وَأَصْلُ الصَّلِيلِ وَالصَّلْصَلَةِ وَاحِدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّكَ إِذَا تَوَهَّمْتَ فِي الصَّوْتِ مَدًّا فَهُوَ صَلِيلٌ، وَإِذَا تَوَهَّمْتَ فِيهِ تَرْجِيعًا فَهُوَ صَلْصَلَةٌ، وَالْحَمَأُ: الطِّينُ الْأَسْوَدُ الْمُتَغَيِّرُ، وَالْمَسْنُونُ قِيلَ: الْمُصَوَّرُ مِنْ سَنَّةِ الْوَجْهِ وَهِيَ صُورَتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: تُرِيكَ سَنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلَا نَدَبُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ عَنْ مَعْنَى الْمَسْنُونِ وَأَجَابَهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُصَوَّرُ قَالَ لَهُ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَغَرٌّ كَأَنَّ الْبَدْرَ سَنَّةُ وَجْهِهِ ... جَلَا الْغَيْمُ عَنْهُ ضَوْءَهُ فَتَبَدَّدَا وَقِيلَ الْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ الْمُفْرَغُ أَيْ أُفْرِغَ صُورَةَ إِنْسَانٍ كَمَا تُفْرَغُ الصُّوَرُ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُذَوَّبَةِ فِي أَمْثِلَتِهَا، وَقِيلَ: الْمَسْنُونُ الْمُنْتِنُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَسْنُونُ الْأَمْلَسُ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ: ثُمَّ خَاصِرَتُهَا إِلَى الْقُبَّةِ الْخَضْرَاءِ تَمْشِي فِي مَرْمَرٍ مَسْنُونٍ أَيْ أَمْلَسَ صَقِيلٍ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّلْصَالُ هُوَ الْمُنْتِنُ، وَمَا قَدَّمْنَا هُوَ الْحَقُّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [55 \ 14] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - أَوْضَحَ فِي كِتَابِهِ أَطْوَارَ هَذَا الطِّينِ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 أَوَّلًا تُرَابٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59] وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [40 \ 67] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ التُّرَابَ بُلَّ فَصَارَ طِينًا يَعْلَقُ بِالْأَيْدِي فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [37 \ 11] وَقَوْلِهِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [23 \ 12] وَقَوْلِهِ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [32 \ 7] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الطِّينَ أَسْوَدُ، وَأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِقَوْلِهِ هُنَا مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ يَبِسَ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا، أَيْ تَسْمَعُ لَهُ صَلْصَلَةً مِنْ يُبْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ الْآيَةَ [15 \ 26] وَقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ الْآيَةَ [55 \ 14] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ تَكَبَّرَ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِ، كَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ الْآيَةَ [2 \ 34] وَقَوْلِهِ فِي ص إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [38 \ 74] وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [15 \ 33] . كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَأَلَ إِبْلِيسَ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ عَنِ الْمُوجِبِ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَبَيَّنَ أَيْضًا فِي الْأَعْرَافِ وَص أَنَّهُ وَبَّخَهُ أَيْضًا بِهَذَا السُّؤَالِ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] وَقَالَ فِي ص: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ [38 \ 75] وَنَادَاهُ بِاسْمِهِ إِبْلِيسَ فِي الْحِجْرِ وَص، وَلَمْ يُنَادِهِ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ إِبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَسْجُدَ لِبَشَرٍ مَخْلُوقٍ مِنَ الطِّينِ، مَقْصُودُهُ بِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ ; لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الطِّينِ وَهُوَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [38 \ 76] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ، مُؤَكِّدًا أَنَّهُ رَجِيمٌ، وَبَيَّنَ فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ خُرُوجُ هُبُوطٍ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مُتَّصِفًا بِالصَّغَارِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ بِقَوْلِهِ: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [7 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّعْنَةَ عَلَى إِبْلِيسَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَصَرَّحَ فِي ص بِأَنَّ لَعْنَتَهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى إِبْلِيسَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [38 \ 78] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفَاتِحَةِ بَيَانَ يَوْمِ الدِّينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا قَسَمٌ مِنْ إِبْلِيسَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يُغْوِي بَنِي آدَمَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ [38 \ 82] وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [15 \ 39] سَبَبِيَّةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي إِضْلَالِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يُضِلَّ أَكْثَرَهُمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [7 \ 16 - 17] وَقَوْلِهِ: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا الْآيَةَ [4 \ 118] وَقَوْلِهِ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [17 \ 62] وَهَذَا قَالَهُ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِضْلَالِ أَكْثَرِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ صَدَقَ ظَنُّهُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [34 \ 20] وَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ إِضْلَالِ إِبْلِيسَ لِبَنِي آدَمَ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ إِبْلِيسَ وَجَمِيعَ مَنْ تَبِعَهُ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ هُنَا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ الآية [15 \ 43 - 44] ، وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [7 \ 18] وَقَالَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [17 \ 63] وَقَالَ فِي ص: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 84 - 85] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَوْعَدَ بِأَنَّهُ سَيُضِلُّ أَكْثَرَ بَنِي آدَمَ، اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِضْلَالِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي ص أَيْضًا قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [38 \ 82 - 83] وَعِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ هُمُ الْمُرَادُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [17 \ 62] وَقَوْلُهُ فِي سَبَأٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [34 \ 20] وَهُمُ الَّذِينَ احْتَرَزَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [7 \ 17] وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى أُولَئِكَ الْمُخْلَصِينَ كَقَوْلِهِ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ الْآيَةَ [15 \ 42] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [16 \ 99 - 100] وَقَوْلِهِ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ الْآيَةَ [34 \ 21] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [14 \ 22] وَقَوْلِهِ: الْمُخْلَصِينَ [15 \ 40] قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ فَاعِلٍ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكُوفِيُّونَ بِفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ صِفَاتِ ثَوَابِهِمْ، وَرُبَّمَا بَيَّنَ بَعْضَ تَقْوَاهُمُ الَّتِي نَالُوا بِهَا هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ كَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [51 \ 15 - 19] وَقَوْلِهِ فِي الدُّخَانِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [44 \ 51 - 57] وَقَوْلِهِ فِي الطُّورِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [52 \ 17 - 20] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وَقَوْلِهِ فِي الْقَمَرِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [54 \ 54 - 55] وَقَوْلِهِ فِي الْمُرْسَلَاتِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [77 \ 41 - 43] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَهُ أَوْصَافٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْقُرْآنِ نُبَيِّنُ أَوْصَافَهُ عِنْدَ ذِكْرِ بَعْضِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ مِرَارًا وَكَمَا هُنَا. وَالْمُتَّقِي اسْمُ فَاعِلِ الِاتِّقَاءِ، وَأَصْلُ مَادَّةِ الِاتِّقَاءِ (وق ي) لَفِيفٌ مَفْرُوقٌ فَاؤُهُ وَاوٌ وَعَيْنُهُ قَافٌ وَلَامُهُ يَاءٌ، فَدَخَلَهُ تَاءُ الِافْتِعَالِ فَصَارَتْ وَقِيَ أَوْ تَقِيَ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ تَاءً لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي التَّصْرِيفِ: أَنَّ كُلَّ وَاوٍ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَاءُ الِافْتِعَالِ يَجِبُ إِبْدَالُهَا - أَعْنِي الْوَاوَ - تَاءً وَإِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ نَحْوَ اتَّصَلَ مِنَ الْوَصْلِ وَاتَّزَنَ مِنَ الْوَزْنِ وَاتَّحَدَ مِنَ الْوَحْدَةِ وَاتَّقَى مِنَ الْوِقَايَةِ وَعَقَدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: ذُو اللِّينِ فَاتَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلَا ... وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوَ ائْتَكَلَا وَالِاتِّقَاءُ فِي اللُّغَةِ: اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ دُونَ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ يَعْنِي اسْتَقْبَلَتْنَا بِيَدِهَا جَاعِلَةً إِيَّاهَا وِقَايَةً تَقِيهَا مِنْ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا لِأَنَّهَا تَسْتُرُهُ بِهَا، وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمٍ وَالتَّقْوَى فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: هِيَ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ دُونَ عَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ هُمَا: امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ نَزَعَ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْغِلِّ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَعْرَافِ، وَزَادَ أَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [7 \ 43] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ عَلَى سُرُرٍ، وَأَنَّهُمْ مُتَقَابِلُونَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، وَوَصَفَ سُرُرَهُمْ بِصِفَاتٍ جَمِيلَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مِنْهَا أَنَّهَا مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ وَهِيَ الْمَوْضُوعَةُ قَالَ فِي الْوَاقِعَةِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [56 \ 13 - 16] وَقِيلَ: الْمَوْضُونَةُ الْمَصْفُوفَةُ كَقَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ الْآيَةَ [52 \ 20] وَمِنْهَا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ كَقَوْلِهِ فِي الْغَاشِيَةِ: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ الْآيَةَ [88 \ 13] وَقَوْلِهِ فِي الْوَاقِعَةِ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [56 \ 34] ، وَقَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [55 \ 76] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَقَوْلُهُ (نَصَبٌ) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ كُلَّ نَصَبٍ، فَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى سَلَامَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [35 \ 35] لِأَنَّ اللُّغُوبَ هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ أَيْضًا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَأَكَّدَ نَفْيَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ بِمُخْرَجِينَ فَهُمْ دَائِمُونَ فِي نَعِيمِهَا أَبَدًا بِلَا انْقِطَاعٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [18 \ 107 - 108] وَقَوْلِهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [18 \ 2 - 3] وَقَوْلِهِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ. بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [11 \ 69] كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلِهِ: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [51 \ 31 - 32] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. لَمْ يُبَيِّنْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هَلْ رَدَّ إِبْرَاهِيمُ السَّلَامَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَوْ لَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا رَدَّهُ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْهُ إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، وَبَيَّنَ فِي هُودٍ وَالذَّارِيَاتِ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ بِقَوْلِهِ فِي هُودٍ قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [الْآيَةَ 69] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [51 \ 25 - 26] وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَجَلَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ الْخَوْفُ ; لِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي هُودٍ: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [51 \ 70] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [11 \ 28] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانَ اللَّفْظِ بِمُرَادِفٍ لَهُ أَشْهَرَ مِنْهُ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ الْخَوْفَ يُرَادِفُ الْوَجَلَ وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ خَوْفِهِ هُوَ عَدَمُ أَكْلِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [11 \ 70] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الضَّيْفَ الْكِرَامَ الَّذِينَ هُمْ مَلَائِكَةٌ بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِغُلَامٍ مَوْصُوفٍ بِالْعِلْمِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي الذَّارِيَاتِ: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [51 \ 28] وَهَذَا الْغُلَامُ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ إِسْحَاقُ كَمَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الذَّارِيَاتِ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [51 28 - 30] لِأَنَّ كَوْنَهَا أَقْبَلَتْ فِي صَرَّةٍ أَيْ صَيْحَةٍ وَضَجَّةٍ، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا أَيْ لَطَمَتْهُ قَائِلَةً إِنَّهَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ الْمَذْكُورَ هِيَ أُمُّهُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِبِشَارَتِهَا هِيَ بِأَنَّهَا تَلِدُهُ مُصَرِّحًا بِاسْمِهِ وَاسْمِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هُودٍ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [11 \ 71 - 72] وَأَمَّا الْغُلَامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ الْآيَةَ [37 \ 99 - 102] فَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَسَتَرَى إِنْ شَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ دَلَالَةَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ عَلَى وَجْهٍ قَاطِعٍ لِلنِّزَاعِ، وَالْغُلَامُ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَعَلَى الرَّجُلِ الْبَالِغِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْبَالِغِ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ النَّهْرَوَانِ : أَنَا الْغُلَامُ الْقُرَشِيُّ الْمُؤْتَمَنُ ... أَبُو حُسَيْنٍ فَاعْلَمَنْ وَالْحَسَنِ وَقَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيِّ لِحَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ وَقَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ تَمْدَحُ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ: إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا وَرُبَّمَا قَالُوا لِلْأُنْثَى غُلَامَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ غَلْفَاءَ الْهُجَيْمِيِّ يَصِفُ فَرَسًا: وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا ... يُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: إِنَّهُ وَقْتَ الْبُشْرَى بِإِسْحَاقَ مَسَّهُ الْكِبَرُ. وَصَرَّحَ فِي هُودٍ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَيْضًا قَالَتْ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ فِي قَوْلِهِ عَنْهَا: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [11 \ 72] كَمَا صَرَّحَ عَنْهَا هِيَ أَنَّهَا وَقْتَ الْبُشْرَى عَجُوزٌ كَبِيرَةُ السِّنِّ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ الْآيَةَ [11 \ 72] ، وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [51 \ 29] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ وَقْتَ هِبَةِ اللَّهِ لَهُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ كَبِيرُ السِّنِّ أَيْضًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [14 \ 39] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِفْهَامَ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [15 \ 54] اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ مَا وَقَعَ لَهُ وَقَعَ نَظِيرُهُ لِامْرَأَتِهِ حَيْثُ قَالَتْ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ لِعَجَبِهَا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 73] وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا وُقُوعُ مِثْلِهِ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [3 \ 38] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وَقَوْلُهُ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [3 \ 39] عَجِبَ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ الْآيَةَ [3 \ 40] وَقَوْلُهُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ مُخَفَّفَةً وَهِيَ نُونُ الرَّفْعِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً وَهِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ مَعَ حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِدَلَالَةِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهَا، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ مَعَ الْمَدِّ، فَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ لَمْ يَحْذِفْ نُونَ الرَّفْعِ وَلَا الْمَفْعُولَ بِهِ، بَلْ نُونُ الرَّفْعِ مُدْغَمَةٌ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَيَاءُ الْمُتَكَلِّمِ هِيَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَنُونُ الرَّفْعِ ثَابِتَةٌ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ. وَحَذْفُ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضُرَّ ... كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرَ وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَنُونُ الرَّفْعِ مَحْذُوفَةٌ لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ نُونِ الْوِقَايَةِ. تَنْبِيهٌ حَذْفُ نُونِ الرَّفْعِ لَهُ خَمْسُ حَالَاتٍ ثَلَاثٌ مِنْهَا يَجِبُ فِيهَا حَذْفُهَا، وَوَاحِدَةٌ يَجُوزُ فِيهَا حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا، وَوَاحِدَةٌ يُقْصَرُ فِيهَا حَذْفُهَا عَلَى السَّمَاعِ، أَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْحَذْفُ: فَالْأُولَى مِنْهَا إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ عَامِلُ جَزْمٍ، وَالثَّانِيَةُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ عَامِلُ نَصْبٍ، وَالثَّالِثَةُ إِذَا أُكِّدَ الْفِعْلُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ نَحْوَ لَتُبْلَوُنَّ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْإِثْبَاتُ وَالْحَذْفُ فَهِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ نُونِ الرَّفْعِ نُونُ الْوِقَايَةِ، لِكَوْنِ الْمَفْعُولِ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ، وَمِنَ الْحَذْفِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ [6 \ 80] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [16 \ 27] بِكَسْرِ النُّونِ مَعَ التَّخْفِيفِ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ الْآيَةَ [39 \ 64] بِالْكَسْرِ مَعَ التَّخْفِيفِ أَيْضًا، وَكُلُّهَا قَرَأَهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالتَّشْدِيدِ لِإِثْبَاتِ نُونِ الرَّفْعِ وَإِدْغَامِهَا فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ الْمَقْصُورَةُ عَلَى السَّمَاعِ فَهُوَ حَذْفُهَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتُ تُدَلِّكِي ... وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِيِّ أَمَّا بَقَاءُ نُونِ الرَّفْعِ مَعَ الْجَازِمِ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 لَوْلَا فَوَارِسُ مِنْ نُعْمٍ وَأُسْرَتِهِمْ ... يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لَمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ فَهُوَ نَادِرٌ حَمْلًا لِلَمْ عَلَى أُخْتِهَا لَا النَّافِيَةِ أَوْ مَا النَّافِيَةِ، وَقِيلَ هُوَ لُغَةُ قَوْمٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّسْهِيلِ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ النُّونِ مَعَ حَرْفِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلَامَ وَأَلَّا تُشْعِرَا أَحَدًا فَهُوَ لُغَةُ قَوْمٍ حَمَلُوا أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى أُخْتِهَا مَا الْمَصْدَرِيَّةِ فِي عَدَمِ النَّصْبِ بِهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلًا عَلَى ... مَا أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلًا وَلَا يُنَافِي كَوْنُ اسْتِفْهَامِ إِبْرَاهِيمَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [15 \ 56] . لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِفْهَامَهُ لَيْسَ اسْتِفْهَامَ مُنْكِرٍ وَلَا قَانِطٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّهُ لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - إِلَّا الضَّالُّونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَبَيِّنٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ أَيْضًا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ فِي قَوْلِهِ: يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [12 \ 87] قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ الْآيَةَ. وَرَوْحُ اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَفَرَجُهُ وَتَنْفِيسُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ. أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ قَوْمُ لُوطٍ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُ، وَوَجْهُ إِشَارَتِهِ تَعَالَى لِذَلِكَ اسْتِثْنَاءُ لُوطٍ وَأَهْلِهِ غَيْرَ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَا امْرَأَتَهُ الْآيَةَ [15 \ 59 - 60] وَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ لُوطٍ بِقَوْلِهِ فِي هُودٍ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ الْآيَةَ [11 \ 70] وَصَرَّحَ فِي الذَّارِيَاتِ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لِيُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [51 \ 32 - 33] وَصَرَّحَ فِي الْعَنْكَبُوتِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُمْ مُهْلِكُوهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَمُنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا الْآيَةَ [29 \ 31 - 32] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [29 \ 33 - 34] وَقَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [15 \ 59] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِقَوْمِهِ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ الْآيَةَ [11 \ 81] وَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ الْآيَةَ [29 \ 33] وَقَوْلِهِ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [7 \ 83] وَقَوْلِهِ: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ الْآيَةَ [26 \ 170 - 171] وَقَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [27 \ 57] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اسْتِثْنَاءِ امْرَأَتِهِ مِنْ أَهْلِهِ النَّاجِينَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ أَوْضَحَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي الذَّارِيَاتِ أَنَّهُ أَنْجَى مَنْ كَانَ فِي قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ وَهُمْ آلُ لُوطٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [29 \ 35 - 36] . تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنْ إِهْلَاكِ الْمُجْرِمِينَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [15 \ 59] ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ امْرَأَةَ لُوطٍ بِقَوْلِهِ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [15 \ 60] وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: وَحُكْمُهَا فِي الْقَصْدِ حُكْمُ الْأَوَّلِ لَيْسَ صَحِيحًا عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَأَوْضَحَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَقْسَامِهَا صَاحِبُ مَرَاقِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ الْمُخَصَّصِ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ: وَذَا تَعَدُّدٍ بِعَطْفٍ حَصَلَ ... بِالِاتِّفَاقِ مُسْجَلًا لِلْأَوَّلْ إِلَّا فَكُلٌّ لِلَّذِي بِهِ اتَّصَلْ ... وَكُلُّهَا مَعَ التَّسَاوِي قَدْ بَطَلْ إِنْ كَانَ غَيْرُ الْأَوَّلِ الْمُسْتَغْرَقَا ... فَالْكُلُّ لِلْمُخْرَجِ مِنْهُ حُقِّقَا وَحَيْثُمَا اسْتَغْرَقَ الَاوَّلَ فَقَطْ ... فَأَلْغِ وَاعْتَبِرْ بِخُلْفٍ فِي النَّمَطْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ لُوطًا - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُرْسَلُونَ لِإِهْلَاكِ قَوْمِهِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ مَسَاءَةٌ بِمَجِيئِهِمْ، وَأَنَّهُ ضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [11 \ 77] وَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا [29 \ 33] ، وَذَكَرَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُمْ أَيْضًا: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، كَمَا ذَكَرَ عَنْ لُوطٍ هُنَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [51 \ 25] وَقَوْلِهِ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ، وَالنَّكِرَةُ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رَآهُمْ فِي صِفَةِ شَبَابٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ، فَخَافَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ قَوْمُهُ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [15 \ 62] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مُنْكَرُونَ أَيْ تُنْكِرُكُمْ نَفْسِي وَتَفِرُّ مِنْكُمْ، فَأَخَافُ أَنْ تَطْرُقُونِي بِشَرٍّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [15 \ 63 - 64] وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي هُودٍ أَنَّ سَبَبَ إِنْكَارِ إِبْرَاهِيمَ لَهُمْ عَدَمُ أَكْلِهِمْ مِنْ لَحْمِ الْعِجْلِ الَّذِي قَدَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [11 \ 70] لِأَنَّ مَنِ اسْتَضَافَ وَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ خِيفَ مِنْهُ الشَّرُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ [15 \ 59] قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِإِسْكَانِ النُّونِ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَضْمُومَةِ مُخَفَّفًا اسْمُ فَاعِلِ أَنْجَى عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَقَرَأَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْقُرَّاءِ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ اسْمُ فَاعِلِ نُجِّيَ عَلَى وَزْنِ فُعِّلَ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْإِنْجَاءِ وَالتَّنْجِيَةِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَقَوْلُهُ: قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [15 \ 60] قَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَرَأَهُ غَيْرُهُ بِتَشْدِيدِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: جَاءَ آلَ لُوطٍ [15 \ 61] قَرَأَهُ قَالُونُ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَتَحْقِيقِ الثَّانِيَةِ مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الْقَصْرِ وَالْمَدِّ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَإِبْدَالِ الثَّانِيَةِ أَلِفًا مَعَ الْقَصْرِ وَالْمَدِّ، وَعَنْ وَرْشٍ أَيْضًا تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْقَصْرِ وَالتَّوَسُّطِ وَالْمَدِّ، وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ مِثْلَ قِرَاءَةِ وَرْشٍ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعَ التَّسْهِيلِ إِلَّا الْقَصْرُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ وَكُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَدِّ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ وَرْشٍ وَقُنْبُلٍ هُوَ التَّحْقِيقُ عَنْهُمَا وَإِنْ قِيلَ غَيْرُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ. سَبَبُ اسْتِبْشَارِ قَوْمِ لُوطٍ أَنَّهُمْ ظَنُّوا الْمَلَائِكَةَ شَبَابًا مِنْ بَنِي آدَمَ، فَحَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا بِهِمْ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ، كَمَا يُشِيرُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ [15 \ 68] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ الْآيَةَ [54 \ 37] وَقَوْلِهِ: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [11 \ 78] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِيمَا أَوْقَعَ مِنَ النَّكَالِ بِقَوْمِ لُوطٍ آيَاتٍ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي ذَلِكَ، تَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا الْمَوْعِظَةُ وَالِاعْتِبَارُ وَالْخَوْفُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْزَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ لَمَّا عَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [29 \ 35] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [151 \ 37] وَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [15 \ 75] وَقَوْلِهِ فِي الشُّعَرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [26 \ 174] ، كَمَا صَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي إِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فِي الشُّعَرَاءِ وَقَوْلُهُ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَصْلُ التَّوَسُّمِ تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا. يُقَالُ: تَوَسَّمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ إِذَا رَأَيْتُ مِيْسَمَهُ فِيهِ، أَيْ عَلَامَتَهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ النَّظَرِ وَقَالَ الْآخَرُ: تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ وَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ هَذَا أَصْلُ التَّوَسُّمِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فَعَنْ قَتَادَةَ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيِ الْمُعْتَبِرِينَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيِ الْمُتَفَرِّسِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلنَّاظِرِينَ، وَعَنْ مَالِكٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَأَمِّلِينَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ وَالنَّظَرَ وَالتَّفَرُّسَ وَالتَّأَمُّلَ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٍ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَفَكِّرِينَ، وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَبَصِّرِينَ، فَمَآلُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ مَا وَقَعَ لِقَوْمِ لُوطٍ فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلَ فِيهِ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَإِطْلَاقُ التَّوَسُّمِ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:: وَفِيهِنَّ مَلْهَى لِلصَّدِيقِ وَمَنْظَرٌ ... أَنِيقٌ لَعِينِ النَّاظِرِ الْمُتَوَسِّمِ أَيِ الْمُتَأَمِّلِ فِي ذَلِكَ الْحُسْنِ، وَقَوْلُ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ: أَوْ كُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ أَيْ يَنْظُرُ وَيَتَأَمَّلُ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [15 \ 75] قَالَ: لِلنَّاظِرِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ: قَالَ لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: هُمُ الْمُتَفَرِّسُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: هُمُ الْمُتَفَرِّسُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ مَعًا فِي الطِّبِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ثُمَّ قَرَأَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: «لِلْمُتَفَرِّسِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ وَيَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ» . اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 لُوطٍ، وَآثَارَ تَدْمِيرِ اللَّهِ لَهَا بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أَيْ بِطَرِيقٍ ثَابِتٍ يَسْلُكُهُ النَّاسُ لَمْ يَنْدَرِسْ بَعْدُ، يَمُرُّ بِهَا أَهْلُ الْحِجَازِ فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ آثَارَ تَدْمِيرِ اللَّهِ لَهُمُ الَّتِي تُشَاهِدُونَ فِي أَسْفَارِكُمْ فِيهَا لَكُمْ عِبْرَةٌ وَمُزْدَجَرٌ يُوجِبُ عَلَيْكُمُ الْحَذَرَ مِنْ أَنْ تَفْعَلُوا كَفِعْلِهِمْ، لِئَلَّا يُنْزِلَ اللَّهُ بِكُمْ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ بِهِمْ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137 - 138] وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] . وَقَوْلِهِ فِيهَا وَفِي دِيَارِ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [15 \ 79] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ كَانُوا ظَالِمِينَ وَأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَأَوْضَحَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي الشُّعَرَاءِ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 176 - 190] فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ظُلْمَهُمْ هُوَ تَكْذِيبُ رَسُولِهِمْ وَتَطْفِيفُهُمْ فِي الْكَيْلِ، وَبَخْسُهُمُ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَأَنَّ انْتِقَامَهُ مِنْهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَالظُّلَّةُ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فَأَضْرَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ «لَيْكَةِ» . فِي «الشُّعَرَاءِ» وَ «ص» بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ آخِرَهَا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا تَعْرِيفٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «الْأَيْكَةِ» بِالتَّعْرِيفِ وَالْهَمْزِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ كَذَلِكَ جَمِيعُ الْقُرَّاءِ فِي «ق» وَ «الْحِجْرِ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَيْكَةُ وَالْأَيْكَةُ اسْمُ مَدِينَتِهِمْ كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ، وَالْأَيْكَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْغَيْضَةُ وَهِيَ جَمَاعَةُ الشَّجَرِ، وَالْجَمْعُ الْأَيْكُ، وَإِنَّمَا سُمُّوا أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وَرِيَاضٍ، وَيُرْوَى أَنَّ شَجَرَهُمْ كَانَ دَوْمًا وَهُوَ الْمُقْلِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَيْكَةِ عَلَى الْغَيْضَةِ قَوْلُ النَّابِغَةِ: تَجْلُو بِقَادِمَتَيْ حَمَامَةِ أَيْكَةٍ ... بَرَدًا أُسِفَّ لِثَاتُهُ بِالْإِثْمَدِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَمَنْ قَرَأَ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ فَهِيَ الْغَيْضَةُ، وَمَنْ قَرَأَ لَيْكَةِ فَهِيَ اسْمُ الْقَرْيَةِ، وَيُقَالُ: هُمَا مِثْلُ بَكَّةَ وَمَكَّةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَيْكَةُ الشَّجَرَةُ، وَالْأَيْكُ هُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ. الْحِجْرُ: مَنَازِلُ ثَمُودَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ عِنْدَ وَادِي الْقُرَى. فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى تَكْذِيبَ ثَمُودَ لِنَبِيِّهِ صَالِحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ الْآيَاتِ [26 \ 141] وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [91 \ 14] وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [54 \ 23 - 24] وَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 77] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ مَعَ أَنَّ الَّذِي كَذَّبُوهُ هُوَ صَالِحٌ وَحْدَهُ، لِأَنَّ دَعْوَةَ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ تَحْقِيقُ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِأَدِلَّةٍ عُمُومِيَّةٍ وَخُصُوصِيَّةٍ. قَالَ مُعَمِّمًا لِجَمِيعِهِمْ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا الْآيَةَ [21 \ 25] . وَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] وَقَالَ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [43 \ 45] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي تَخْصِيصِ الرُّسُلِ بِأَسْمَائِهِمْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [23 \ 23] وَقَالَ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 50] وَقَالَ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 84] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَإِذَا حَقَّقْتَ أَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ وَاحِدَةٌ عَرَفْتَ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَهُمْ. وَلِذَا صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِبَعْضِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ حَقًّا. قَالَ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [4 \ 150 - 151] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [2 \ 136 وَ 3 \ 84] ، وَقَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [2 \ 285] ، وَوَعَدَ الْأَجْرَ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. الْآيَةَ [4 \ 152] ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» . تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِالْحِجْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي طَرِيقِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِجْرِ، قَالَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» ، ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ «، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَمَرَهُمْ أَلَّا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ، وَيُهْرِقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ» . ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وَأَبِي الشُّمُوسِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِ اعْتَجَنَ بِمَائِهِ» . ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ وَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُهْرِقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِيَارِهِمْ، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَسْقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي تَرِدُهَا النَّاقَةُ «. ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ أُسَامَةُ، عَنْ نَافِعٍ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ:» لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ «، ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ. ثُمَّ سَاقَ أَيْضًا بِسَنَدِهِ، عَنْ سَالِمٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ «، هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أَمَّا حَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فَوَصَلَهُ أَحْمَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سَبْرَةَ - وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - الْجُهَنِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ حِينَ رَاحَ مِنَ الْحِجْرِ:» مَنْ كَانَ عَجَنَ مِنْكُمْ مِنْ هَذَا الْمَاءِ عَجِينَةً أَوْ حَاسَ حَيْسًا ; فَلْيُلْقِهِ «، وَلَيْسَ لِسَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الشُّمُوسِ - وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ -، وَهُوَ بِكْرِيٌّ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ - فَوَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مِنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ مُطَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهُ، قَالَ:» كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . . . . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَأَلْقَى ذُو الْعَجِينِ عَجِينَهُ، وَذُو الْحَيْسِ حَيْسَهُ «. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَزَادَ:» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَدْ حِسْتُ حَيْسَةً فَأُلْقِمُهَا رَاحِلَتِي؟ قَالَ: نَعَمْ «. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا: قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» مَنِ اعْتَجَنَ بِمَائِهِ «وَصَلَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُدَامَةَ عَنْهُ:» أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَآتَوْا عَلَى وَادٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّكُمْ بِوَادٍ مَلْعُونٍ فَأَسْرِعُوا» وَقَالَ: «مَنِ اعْتَجَنَ عَجِينَةً، أَوْ طَبَخَ قِدْرًا ; فَلْيَكُبَّهَا» . الْحَدِيثَ. قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [15 \ 80] ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ ; أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:» لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ ; لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ «. وَبَعْضُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى النَّهْيِ عَنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ الْبُكَاءِ، وَعَلَى إِسْرَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جَاوَزَ دِيَارَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ النَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ إِلَّا فِي حَالَةِ الْبُكَاءِ، وَفِيهَا الْإِسْرَاعُ بِمُجَاوَزَتِهَا، وَعَدَمُ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ مِيَاهِهَا، وَعَدَمُ أَكْلِ الطَّعَامِ الَّذِي عُجِنَ بِهَا، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِمَائِهَا، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا ; لِأَنَّ مَاءَهَا لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ:» وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرِهَ الصَّلَاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: هَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُحِلِّ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ -، قَالَ «كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ فَمَرَرْنَا عَلَى الْخَسْفِ الَّذِي بِبَابِلَ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى أَجَازَهُ - أَيْ: تَعَدَّاهُ -» وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «مَا كُنْتُ لِأُصَلِّيَ بِأَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَ مِرَارٍ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَسْفِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا خَسْفٌ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ وَلَفْظُهُ: «نَهَانِي حَبِيبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ ; فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّائِقُ بِتَعْلِيقِ الْمُصَنِّفِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْخَسْفِ هُنَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ الْآيَةَ [16 \ 26] ، ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْأَخْبَارِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ النُّمْرُوذَ بْنَ كَنْعَانَ بَنَى بِبَابِلَ بُنْيَانًا عَظِيمًا، يُقَالُ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ كَانَ خَمْسَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: «لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ حَرَّمَ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ بَابِلَ» انْتَهَى. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ يُعَارِضُهُ مَا رَأَيْتُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ عُمُومُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ الْمَرْفُوعُ، عَنْ عَلِيٍّ الَّذِي أَشَارَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا هُوَ قَوْلُهُ: «حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ بِبَابِلَ وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ. فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ:» إِنَّ حَبِيبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ ; فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ «. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ بِمَعْنَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ:» فَلَمَّا خَرَجَ - مَكَانَ فَلَمَّا بَرَزَ - اهـ. وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ فِي إِسْنَادَيْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ، وَلَكِنْ فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ نَبَّهَ عَلَيْهَا ابْنُ يُونُسَ، أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ ; فَلِأَنَّ طَرِيقَتَهُ الْأُولَى أَوَّلُ طَبَقَاتِهَا: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ ثِقَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ: أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ مَكَانَ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ، وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثِقَةٌ حَافِظٌ. وَكَلَامُ النَّسَائِيِّ فِيهِ غَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: وَرُبَّمَا رُدَّ كَلَامُ الْجَارِحِ ... كَالنَّسَائِيِّ فِي أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ وَسَبَبُ غَلَطِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ كَذَّبَ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ الشُّمُونِيُّ. فَظَنَّ النَّسَائِيُّ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 مُرَادَ ابْنِ مَعِينٍ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ هَذَا الَّذِي هُوَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الطَّبَرِيِّ الْمِصْرِيُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ. وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ فِي كِلَا الْإِسْنَادَيْنِ: ابْنُ وَهْبٍ وَهُوَ: عَبْدَ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، مَوْلَاهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ ثِقَةٌ حَافِظٌ عَابِدٌ مَشْهُورٌ. وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ: يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ الْبَصْرِيُّ مَوْلَى قُرَيْشٍ صَدُوقٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ صَدُوقٌ خَلَطَ بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اعْتِضَادَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ ابْنُ وَهْبٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، أَعْدَلُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا عَنْهُ. وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ: عَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْمُرَادِيُّ. وَفِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي: الْحَجَّاجُ بْنُ شَدَّادٍ، وَعَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْمُرَادِيُّ، ثُمَّ السَّلْهَمِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ شَدَّادٍ الصَّنْعَانِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ، كِلَاهُمَا مَقْبُولٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَاعْتِضَادُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ. وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ فِي كِلَا الْإِسْنَادَيْنِ: أَبُو صَالِحٍ الْغِفَارِيُّ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَالطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ فِي كِلَيْهِمَا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَالَّذِي يَظْهَرُ صَلَاحِيَةُ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَكِنَّهُ فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ يُونُسَ، وَهِيَ: أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ مُرْسَلَةٌ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: «بَابُ مِنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ،» أَنْبَأَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِلَفْظِهِ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُحِلٍّ الْعُمَرِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَمَرَّ بِنَا عَلَى الْخَسْفِ الَّذِي بِبَابِلَ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى أَجَازَهُ. وَعَنْ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا كُنْتُ لِأُصَلِّيَ بِأَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا إِنْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا لَيْسَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الصَّلَاةِ ; فَلَوْ صَلَّى فِيهَا لَمْ يُعِدْ، ثُمَّ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْضَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ، وَكَرِهَ الْمُقَامَ فِيهَا إِلَّا بَاكِيًا، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُقَامُ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ حَاصِلُ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالتَّطَهُّرِ بِمِيَاهِهَا، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِهَا صَحِيحَةٌ وَالتَّطَهُّرَ بِمَائِهَا مُجْزِئٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا» الْحَدِيثَ. وَكَعُمُومِ الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ، وَحُكْمِ الْخَبَثِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَلَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِمَائِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَرْفُوعِ: أَنَّ حَبِيبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي خَسْفِ بَابِلَ ; لِأَنَّهَا أَرْضٌ مَلْعُونَةٌ. قَالُوا: وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ ; لِأَنَّ مَا نَهَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا، وَمَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ. وَاحْتَجُّوا لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ بِمَائِهَا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَهُمَا لَيْسَا بِقُرْبَةٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ الطَّهَارَةِ بِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ ; أَنَّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي سَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، كَفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ صِهْرِهِ، وَابْنِ عَمِّهِ، وَأَبِي سِبْطَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بَاكِيًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَلَوْ نَزَلَ فِيهَا وَصَلَّى فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ بِدَلَالَةٍ وَاضِحَةٍ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْعِبَادَةِ يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ قَوِيِّ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. مَسَائِلُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْحِجْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْآيَةَ [15 \ 80] : هُوَ دِيَارُ ثَمُودَ، وَأَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ ; فَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ نَذْكُرُ الْأَمَاكِنَ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَنُبَيِّنُ مَا صَحَّ فِيهِ النَّهْيُ وَمَا لَمْ يَصِحَّ. وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا سَتَأْتِي كُلُّهَا. عَنْ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ» . رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي إِسْنَادِهِ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ. وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الْإِسْنَادَ الْأَوَّلَ فِيهِ زَيْدُ بْنُ جَبِيرَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، قَالَ فِيهِ ابْنَ حَجَرٍ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: هُوَ لَا شَيْءَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا، مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةٌ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. قُلْتَ: وَقَالَ السَّاجِيُّ: حَدَّثَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ جِدًّا، يَعْنِي حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ. وَقَالَ الْفَسَوِيُّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنِ الْمَشَاهِيرِ ; فَاسْتَحَقَّ التَّنَكُّبَ عَنْ رِوَايَتِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَدَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَغَيْرِهِمَا الْمَنَاكِيرَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَأَحَدُ إِسْنَادَيِ ابْنِ مَاجَهْ فِيهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْغَلَطِ، وَفِيهِ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ: هُمَا جَمِيعًا - يَعْنِي الْحَدِيثَيْنِ - وَاهِيَانِ. وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ ابْنُ السَّكَنِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، هِيَ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَالصَّلَاةُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى جِدَارِ مِرْحَاضٍ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَالْكَنِيسَةِ وَالْبَيْعَةِ، وَإِلَى التَّمَاثِيلِ، وَفِي دَارِ الْعَذَابِ، وَفِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، وَالصَّلَاةُ إِلَى النَّائِمِ، وَالْمُتَحَدِّثِ، وَفِي بَطْنِ الْوَادِي، وَفِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالصَّلَاةُ إِلَى التَّنُّورِ، فَالْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا. وَسَنُبَيِّنُ أَدِلَّةَ النَّهْيِ عَنْهَا مُفَصَّلَةً - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ ذَلِكَ قَرِيبًا. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالصَّلَاةُ إِلَى الْقَبْرِ: فَكِلَاهُمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْهُ. أَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَقَابِرِ: فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْهَا، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ; اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْيَهُودِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلْعَنُ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ حَرَامٍ شَدِيدِ الْحُرْمَةِ. وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ. إِلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ مَحَلَّ صَلَاةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: صَلُّوا وَلَا تَكُونُوا كَالْأَمْوَاتِ فِي قُبُورِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ شَرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَهِيَ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ صُلِّيَ فِيهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي اللُّغَةِ مَكَانُ السُّجُودِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» . الْحَدِيثَ. أَيْ: كُلُّ مَكَانٍ مِنْهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَظَاهِرُ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ الْعُمُومُ، سَوَاءٌ نُبِشَتِ الْمَقْبَرَةُ وَاخْتَلَطَ تُرَابُهَا بِصَدِيدِ الْأَمْوَاتِ أَوْ لَمْ تُنْبَشْ ; لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ لَيْسَتْ بِنَجَاسَةِ الْمَقَابِرِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيَّةُ ; بِدَلِيلِ اللَّعْنِ الْوَارِدِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَيْسَتْ نَجِسَةً، فَالْعِلَّةُ لِلنَّهْيِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا عَبَدُوا اللَّهَ عِنْدَ الْقُبُورِ آلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى عِبَادَةِ الْقُبُورِ. فَالظَّاهِرُ مِنَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ: مَنْعُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَقَابِرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي صِحَّتِهَا عِنْدَهُ رِوَايَتَانِ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ طَهَارَتُهَا. وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ نَجِسَةً لِاخْتِلَاطِ أَرْضِهَا بِصَدِيدِ الْأَمْوَاتِ لِأَجْلِ النَّبْشِ ; فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُنْبَشْ ; فَالصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ قَالَ: رُوِّينَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهُمْ كَرِهُوا الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ. قَالَ: وَلَمْ يَكْرَهْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ دَاوُدَ: أَنَّهُ قَالَ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَإِنْ تَحَقَّقَ نَبْشُهَا. وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَخَيْثَمَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ «فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى وَسْطَ الْقُبُورِ؟ قَالَ: لَقَدْ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَسْطَ الْبَقِيعِ وَالْإِمَامُ يَوْمَ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِمَّنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ: بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى الْمِسْكِينَةِ السَّوْدَاءِ بِالْمَقْبَرَةِ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - حُكْمُ الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ; لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ، وَلَعْنِ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ جِدًّا فِي التَّحْرِيمِ. أَمَّا الْبُطْلَانُ فَمُحْتَمَلٌ ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» . وَالصَّلَاةُ فِي الْمَقَابِرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَلَيْسَتْ مِنْ أَمْرِنَا فَهِيَ رَدٌّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةُ مِنْ أَمْرِنَا فَلَيْسَتْ رَدًّا، وَكَوْنُهَا فِي الْمَكَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا. كَمَا عُلِمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَهُ جِهَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ مِنْهَا: كَكَوْنِهِ صَلَاةً، وَالْأُخْرَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْهَا: كَكَوْنِهِ فِي مَوْضِعِ نَهْيٍ، أَوْ وَقْتِ نَهْيٍ، أَوْ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ بِحَرِيرٍ، أَوْ ذَهَبٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنِ انْفَكَّتْ جِهَةُ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ لَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَنْفَكَّ عَنْهَا اقْتَضَاهُ. وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ التَّطْبِيقِ يَخْتَلِفُونَ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: الْجِهَةُ هُنَا مُنْفَكَّةٌ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً كَالْعَكْسِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ مَثَلًا: الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْفَكَّ فِيهَا جِهَةُ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ ; لِكَوْنِ حَرَكَةِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ كُلُّهَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّي بِهِ حَيِّزًا مِنَ الْفَرَاغِ لَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ، فَنَفْسُ شَغْلِهِ لَهُ بِبَدَنِهِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِحَالٍ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ كَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ: الْجِهَةُ مُنْفَكَّةٌ هُنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ صَلَاةً قُرْبَةٌ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ غَصْبًا حَرَامٌ، فَلَهُ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ غَصْبُهُ كَالصَّلَاةِ بِالْحَرِيرِ. وَإِلَى هَذَا الْمَسْأَلَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: دُخُولُ ذِي كَرَاهَةٍ فِيمَا أُمِرَ ... بِهِ بِلَا قَيْدٍ وَفَصْلٍ قَدْ حُظِرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 فَنَفْيُ صِحَّةٍ وَنَفْيُ الْأَجْرِ ... فِي وَقْتِ كُرْهٍ لِلصَّلَاةِ يَجْرِي وَإِنْ يَكُ النَّهْيُ عَنِ الْأَمْرِ انْفَصَلْ ... فَالْفِعْلُ بِالصِّحَّةِ لَا الْأَجْرُ اتَّصَلْ وَذَا إِلَى الْجُمْهُورِ ذُو انْتِسَابِ ... وَقِيلَ بِالْأَجْرِ مَعَ الْعِقَابِ وَقَدْ رُوِي الْبُطْلَانُ وَالْقَضَاءُ ... وَقِيلَ ذَا فَقَطْ لَهُ انْتِفَاءُ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ ... أَوْ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ وَالْوُضُو انْقَلَبْ وَمَعْطَنٍ وَمَنْهَجٍ وَمَقْبَرَهْ ... كَنِيسَةٍ وَذِي حَمِيمٍ مَجْزَرَهْ وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى الْقُبُورِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ أَيْضًا، بِدَلِيلِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» . وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا مَنْعُ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى الْقَبْرِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ الْمُتَجَرِّدَةَ مِنَ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. أَمَّا اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَسَادَ إِذَا كَانَ لِلْفِعْلِ جِهَةُ أَمْرٍ وَجِهَةُ نَهْيٍ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، وَإِنْ كَانَتْ جِهَتُهُ وَاحِدَةً اقْتَضَى الْفَسَادَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ: وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ لِلْفَسَادِ ... إِنْ لَمْ يَجِي الدَّلِيلُ لِلسَّدَادِ وَقَدْ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ، وَقَدْ قَالَ: «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَعْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ اتَّخَذَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى التَّحْرِيمِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ وَإِلَى الْقُبُورِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» الْحَدِيثَ. قَالُوا: عُمُومُهُ يَشْمَلُ الْمَقَابِرَ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى الْقَبْرِ خَاصَّةً، وَحَدِيثُ «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ كَوْنِ الْأَرْضِ مَسْجِدًا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ بَابُ «كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ» فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّتِهِ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى صِحَّتِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَثَبَتَ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحِةٍ حُكِمَ بِوَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِرْسَالُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِلَّةً فِيهِ ; لِأَنَّ الْوَصْلَ زِيَادَةٌ وَزِيَادَاتُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ... مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْقُبُورِ - مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًا، فَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ قَالَ: «أَفَلَا آذَنْتُمُونِي» ، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ. فَقَالَ: «دَلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ الْقُبُورُ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» . وَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً» إِلَى آخِرِ الْخَبَرِ، قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقَبْرِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَسْطَ الْبَقِيعِ، وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ وَصِحَّتِهَا ; لَا مُطْلَقِ صِحَّتِهَا دُونَ الْجَوَازِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَفْظِ: «وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ. فَقَالَ: الْقَبْرَ، الْقَبْرَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ» اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أُورِدَ أَثَرُ عُمَرَ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الصَّلَاةِ. وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُهُ: «بَيْنَمَا أَنَسٌ يُصَلِّي إِلَى قَبْرٍ نَادَاهُ عُمَرُ: الْقَبْرَ، الْقَبْرَ ; فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي الْقَمَرَ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي الْقَبْرَ، جَاوَزَ الْقَبْرَ وَصَلَّى» وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ. مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، زَادَ فِيهِ: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَلِينِي: إِنَّمَا يَعْنِي الْقَبْرَ فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ، بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى التَّحْذِيرِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ تَمَادِي أَنَسٍ عَلَى الصَّلَاةِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسَادَهَا لَقَطَعَهَا وَاسْتَأْنَفَ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجِبُ الْجَمْعُ وَالتَّرْجِيحُ مَعًا. أَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ: فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ كُلُّهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ: فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ عِنْدَ الْمُرُورِ بِالْقُبُورِ. وَلَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ جَوَازَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ أَوِ النَّافِلَةِ الَّتِي هِيَ صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ. وَيُؤَيِّدُهُ تَحْذِيرُ عُمَرَ لِأَنَسٍ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقَبْرِ. نَعَمْ تَتَعَارَضُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ مَعَ ظَاهِرِ عُمُومِ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» ; فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلَاةِ، فَيَشْمَلُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيَتَحَصَّلُ أَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا إِلَى الْقَبْرِ أَوْ عِنْدَهُ، بَلِ الْعَكْسُ. أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ: فَهِيَ الَّتِي تَعَارَضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ. وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى النَّهْيِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّلِيلِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ. فَحَدِيثُ: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ» عَامٌّ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ. وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ. فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ بِحَسَبِ الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ: مَنْعُ الصَّلَاةِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَإِلَيْهِ مُطْلَقًا ; لِلَعْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُتَّخِذِي الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ - الَّتِي هِيَ لِلدُّعَاءِ لَهُ الْخَالِيَةَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - تَصِحُّ ; لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَيُومِئُ لِهَذَا الْجَمْعِ حَدِيثُ لَعْنِ مُتَّخِذِي الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ; لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ السُّجُودِ. وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَا سُجُودَ فِيهَا ; فَمَوْضِعُهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لُغَةً ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ سُجُودٍ. تَنْبِيهٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 اعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ: مِنْ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، يَعْنِي بِالْكِتَابِ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [18 \ 21] ، وَيَعْنِي بِالسُّنَّةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنْ: مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَقَائِلُهُ مِنْ أَجْهَلِ خَلْقِ اللَّهِ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» ؟ أَهُمْ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ؟ أَمْ هُمْ كَفَرَةٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ؟ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ [18 \ 21] ، مَا نَصُّهُ: «وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، أَهُمُ الرَّهْطُ الْمُسْلِمُونَ أَمْ هُمُ الْكُفَّارُ؟ فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ فِعْلَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِأَفْعَالِ الْكُفَّارِ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ. وَعَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ كَمَا يَدُلُّ لَهُ ذِكْرُ الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ مِنْ صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ قَوْلَ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ: إِنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ كَذَا، لَا يُعَارِضُ بِهِ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ فَقَابَلَ قَوْلَهُمْ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [18 \ 21] بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى بِخَمْسٍ:» لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ; اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ «. الْحَدِيثَ. يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْمَسْجِدَ عَلَى الْقُبُورِ، مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] ; وَلِهَذَا صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِأَنَّ الْوَاصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا فِي الْحَدِيثِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَلْعُونَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لَهُ: قَرَأْتُ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ فَلَمْ أَجِدْ، إِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وَجَدْتِيهِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبِهِ تُعْلَمُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي آيَةِ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [18 \ 21] . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ: بِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ فَسُقُوطُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ بِهَا فَنُبِشَتْ وَأُزِيلَ مَا فِيهَا. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 اللَّهُ عَنْهُ -:» فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. . . . . «. الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَرِيبٌ مِنْهُ بِمَعْنَاهُ. فَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ لَا حُرْمَةَ لَهَا ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَبْشِهَا وَإِزَالَةِ مَا فِيهَا. فَصَارَ الْمَوْضِعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْرٌ أَصْلًا لِإِزَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى اهـ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْصِيصُهَا. كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» . وَلِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» . فَهَذَا النَّهْيُ ثَابِتٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قَالَ: «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» . وَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَا حُكْمَ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ، وَإِلَى الْقَبْرِ، وَفِي الْحَمَّامِ. وَأَمَّا أَعْطَانُ الْإِبِلِ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأُ» ، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ ; تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» . قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: أُصَلِّي فِي «مَبَارَكِ الْإِبِلِ» : قَالَ «لَا» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) : إِنَّ الْإِسْنَادَ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فِي (بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ) ، وَفِي (بَابِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارَكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 الْإِبِلِ) ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارَكِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارَكِ الْإِبِلِ ; فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ» ، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: «صَلُّوا فِيهَا ; فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ ; وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُصَلَّى فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَيُصَلَّى فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ» . وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْإِبِلِ) ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، الَّتِي لَمْ يَأْتِ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثٍ يُطَابِقُهَا مَا نَصُّهُ: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَكِنْ لَهَا طُرُقٌ قَوِيَّةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَحَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَفِي مُعْظَمِهَا التَّعْبِيرُ بِمَعَاطِنِ الْإِبِلِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَالْبَرَاءِ: «مَبَارَكِ الْإِبِلِ» ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ سُلَيْكٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي حَدِيثِ سَبْرَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «أَعْطَانِ الْإِبِلِ» . وَفِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: «مَنَاخِ الْإِبِلِ» ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عِنْدَ أَحْمَدَ: «مَرَابِدِ الْإِبِلِ» فَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْمَوَاضِعِ لِأَنَّهَا أَشْمَلُ، وَالْمَعَاطِنُ أَخَصُّ مِنَ الْمَوَاضِعِ ; لِأَنَّ الْمَعَاطِنَ مَوَاضِعُ إِقَامَتِهَا عِنْدَ الْمَاءِ خَاصَّةً. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِالْمَعَاطِنِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْإِبِلُ. وَقِيلَ مَأْوَاهَا مُطْلَقًا، نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ. اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ مُتَوَاتِرَةٌ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ. فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِيهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ جُلُّ أَصْحَابِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 قَالَ صَاحِبُ (الْإِنْصَافِ) : هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَفِي الْفُرُوعِ هُوَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْمُصَنَّفُ وَغَيْرُهُ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ (ابْنُ حَزْمٍ) . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِيهَا لَصَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ. فَقِيلَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّعْلِيلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارَكِ الْإِبِلِ ; فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ» ، وَتَرْتِيبُهُ كَوْنُهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِالْفَاءِ عَلَى النَّهْيِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ عِلَّتُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبْحَثِ مَسْلَكِ النَّصِّ، وَمَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى كَوْنِهَا: «خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ» ، أَنَّهَا رُبَّمَا نَفَرَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَتُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ صَلَاتِهِ، أَوْ أَذَاهُ، أَوْ تَشْوِيشِ خَاطِرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ شَيْطَانًا. وَالْإِبِلُ إِذَا نَفَرَتْ فَهِيَ عَاتِيَةٌ مُتَمَرِّدَةٌ، فَتَسْمِيَتُهَا بِاسْمِ الشَّيَاطِينِ مُطَابِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خُلِقَ مِنْ كَذَا لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يَقُولُونَ: خُلِقَ هَذَا مِنَ الْكَرَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [21 \ 37] ، عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ. وَعَلَى هَذَا فَيُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْإِبِلِ فِي مَعَاطِنِهَا، وَبَيْنَ غَيْبَتِهَا عَنْهَا ; إِذْ يُؤْمَنُ نُفُورُهَا حِينَئِذٍ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) : وَيُرْشِدُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ: «لَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ; فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الْجِنِّ، أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عُيُونِهَا وَهَيْئَاتِهَا إِذَا نَفَرَتْ» . وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ عِلَّةَ النَّهْيِ أَنْ يُجَاءَ بِهَا إِلَى مَعَاطِنِهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْطَعُهَا، أَوْ يَسْتَمِرُّ فِيهَا مَعَ شَغْلِ خَاطِرِهِ، اهـ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ. وَمِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ الْمَنْصُوصِ ; فَهِمَ الْعُلَمَاءُ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ بُطْلَانِهَا أَنَّهُ: لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ مَا ذُكِرَ ; دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا فَعَلَهَا تَامَّةً أَنَّهَا غَيْرُ بَاطِلَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وَقِيلَ: الْعِلَّةُ أَنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ يَتَغَوَّطُونَ فِي مَبَارِكِهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْغَنَمِ. وَقِيلَ: الْعِلَّةُ أَنَّ النَّاقَةَ تَحِيضُ، وَالْجَمَلَ يَمْنِي. وَكُلُّهَا تَعْلِيلَاتٌ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا. وَالصَّحِيحُ التَّعْلِيلُ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي مَبَارَكِ الْبَقَرِ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا كَمَرَابِضِ الْغَنَمِ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا كَمَرَابِضِ الْإِبِلِ ; لَكَانَ لِذَلِكَ وَجْهٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي فَتْحِ الْبَارِي) : وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، اهـ. قَالَ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. فَلَوْ ثَبَتَ لَأَفَادَ أَنَّ حُكْمَ الْبَقَرِ حُكْمُ الْإِبِلِ. بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَنَّ الْبَقَرَ فِي ذَلِكَ كَالْغَنَمِ. اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَمَا يَقُولُهُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَدَلِيلُ النَّهْيِ عَنْهَا هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِي إِسْنَادِهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى جِدَارِ مِرْحَاضٍ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، فَلِمَا رُوِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) : وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى جِدَارِ مِرْحَاضٍ ; فَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِلَفْظِ: " نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ تُجَاهَهُ حُشٌّ "، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَلَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَا يُصَلَّى إِلَى الْحُشِّ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا يُصَلَّى تُجَاهَ حُشٍّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ. . فَذَكَرَ مِنْهَا الْحُشَّ. وَفِي كَرَاهَةِ اسْتِقْبَالِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. اهـ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالْحُشِّ - بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا - بَيْتُ الْخَلَاءِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْكَنِيسَةِ وَالْبَيْعَةِ - وَالْمُرَادُ بِهِمَا مُتَعَبَّدَاتُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى -، فَقَدْ كَرِهَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ الْمَذْهَبِ) : حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَقَدْ رُويَتِ الْكَرَاهَةُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ خَاصَّةً. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ، قَالَ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْبِيعَةِ) ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ ". وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إِلَّا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (الْفَتْحِ) : إِنَّ الْأَثَرَ الَّذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ - مَوْلَى عُمَرَ -. وَالْأَثَرُ الَّذِي عُلِّقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ. اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ إِلَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْدَهُ. وَرَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَالْبِيعَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: أَبُو مُوسَى، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَعَلَّ وَجْهَ الْكَرَاهَةِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اتِّخَاذِ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ مَسَاجِدَ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مَظِنَّةً لِذَلِكَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَنَّ الْكَنِيسَةَ وَالْبِيعَةَ: مَوْضِعٌ يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ وَيُكْفَرُ بِهِ فِيهِ، فَهِيَ بُقْعَةُ سُخْطٍ وَغَضَبٍ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى التَّمَاثِيلِ: فَدَلِيلُهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ) ، قَالَ: (بَابُ إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ، أَوْ تَصَاوِيرَ: هَلْ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؟ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا ; إِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلَاتِي ". وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا (فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، بَابُ كَرَاهِيَةِ اللِّبَاسِ فِي التَّصَاوِيرِ) : حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمِيطِي عَنِّي ; فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي ". وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ مَمْدُودٌ إِلَى سَهْوَةٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إِلَيْهِ، فَقَالَ: " أَخِّرِيهِ عَنِّي "، قَالَتْ: فَأَخَّرْتُهُ فَجَعَلْتُهُ وَسَائِدَ. وَالثَّوْبُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ الْقِرَامُ الْمَذْكُورُ، وَالْقِرَامُ - بِالْكَسْرِ -: سِتْرٌ فِيهِ رَقْمٌ وَنُقُوشٌ، أَوِ السِّتْرُ الرَّقِيقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ يَصِفُ الْهَوْدَجَ: مِنْ كُلِّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّهُ ... زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وَقِرَامُهَا وَقَوْلُ الْآخَرِ يَصِفُ دَارًا: عَلَى ظَهْرِ جَرْعَاءِ الْعَجُوزِ كَأَنَّهَا ... دَوَائِرُ رَقْمٍ فِي سَرَاةِ قِرَامِ وَالْكِلَّةُ فِي بَيْتِ لَبِيدٍ: هِيَ الْقِرَامُ إِذَا خِيطَ فَصَارَ كَالْبَيْتِ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَى التَّمَاثِيلِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ، فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". اهـ. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ قَرِيبٌ مِنْهُ. اهـ. أَمَّا بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى إِلَى التَّمَاثِيلِ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْهُ (بَابُ إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ، أَوْ تَصَاوِيرَ: هَلْ تَفْسُدُ صَلَاتَهُ؟) الْخَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِي الْبُطْلَانِ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي انْفِكَاكِ جِهَةِ النَّهْيِ عَنْ جِهَةِ الْأَمْرِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَنْعُ تَصْوِيرِ الْحَيَوَانِ، وَتَعْذِيبُ فَاعِلِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَأَمْرُهُمْ بِإِحْيَاءِ مَا صَوَّرُوا، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُ مَحَلًّا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ كَلْبٌ، فَكُلُّهُ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ: فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ اللُّبْثَ فِيهَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَلَأَنْ يَحْرُمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ; لِانْفِكَاكِ الْجِهَةِ أَنَّهُ آثِمٌ بِغَصْبِهِ، مُطِيعٌ بِصَلَاتِهِ: كَالْمُصَلِّي بِحَرِيرٍ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَالْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِلَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ; لِعَدَمِ انْفِكَاكِ جِهَةِ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَبْيَاتِ مَرَاقِي السُّعُودِ الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ: فَدَلِيلُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، قَالَ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى الْمُتَحَدِّثِينَ وَالنِّيَامِ) ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ - يَعْنِي لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تُصَلُّوا خَلْفَ النَّائِمِ وَلَا الْمُتَحَدِّثُ ". اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ كَمَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمِقْدَامِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُتَحَدِّثِ، أَوِ النَّائِمِ ". وَإِسْنَادُ ابْنِ مَاجَهْ هَذَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَبُو الْمِقْدَامِ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ هِشَامُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: هِشَامُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 مَتْرُوكٌ. وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، وَأَبُو زُرْعَةَ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الدُّورِيُّ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ضَعِيفٌ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: غَيْرُ ثِقَةٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: يُضَعَّفُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ الْجُنَيْدِ الْأَزْدِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا: ضَعِيفٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَمَرَّةً: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَكَانَ جَارًا لِأَبِي الْوَلِيدِ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ، وَكَانَ لَا يَرْضَاهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ كِتَابَ حَفْصٍ الْمِنْقَرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ فَرَوَى عَنِ الْحَسَنِ. وَعِنْدَهُ عَنِ الْحَسَنِ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ. قُلْتُ: وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ، وَتَرَكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثَهُ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ضَعِيفٌ لَا يُفْرَحُ بِحَدِيثِهِ. اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عَنْهَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّائِمِ) : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ ; لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يُفَرِّقُ مُفَرِّقٌ بَيْنَ كَوْنِهَا نَائِمَةً أَوْ يَقْظَى. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ أَيْضًا إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. اهـ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: طُرُقُهُ كُلُّهَا وَاهِيَةٌ - يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - اهـ. وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَهُمَا وَاهِيَانِ أَيْضًا. وَكَرِهَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَمَالِكٌ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ ; خَشْيَةَ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهُ مَا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلَاتِهِ، وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ: أَنَّ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ خَاصٌّ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَخْذَ الْكَرَاهَةِ مِنْ عُمُومِ نُصُوصٍ أُخَرَ، كَتَعْلِيلِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ خَشْيَةِ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهُ مَا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلَاتِهِ ; لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَدْرِي عَنْ نَفْسِهِ. وَكَتَعْلِيلِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ إِلَى الْمُتَحَدِّثِ ; بِأَنَّ الْحَدِيثَ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ، - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. وَأَمَّا كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ فِي بَطْنِ الْوَادِي ; فَيُسْتَدَلُّ لَهَا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا " وَبَطْنِ الْوَادِي " بَدَلَ " الْمَقْبَرَةِ "، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ قَالَ الْحَافِظُ: وَهِيَ زِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تُعْرَفُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ فِي بَطْنِ الْوَادِي مُخْتَصَّةٌ بِالْوَادِي الَّذِي حَضَرَ فِيهِ الشَّيْطَانُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، فَنَامُوا عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي حَضَرَهُمْ فِيهِ الشَّيْطَانُ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ عَنِ الْوَادِي. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ ; فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [9 \ 108] ، وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [9 \ 107] . وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ الْآيَةَ [9 \ 109 - 110] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى التَّبَاعُدِ عَنْ مَوْضِعِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَعَدَمِ الْقِيَامِ فِيهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ إِلَى التَّنُّورِ ; فَلِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ إِلَى التَّنُّورِ، وَقَالَ: هُوَ بَيْتُ نَارٍ. وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى التَّنُّورِ عِنْدَهُ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَأَنَّ عَرْضَ النَّارِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاتِهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامُهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ، أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ) ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي "، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: " رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ ". اهـ. وَعَرْضُ النَّارِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ. وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّ النَّارَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَلَا الشِّمَالِ، فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ - أَيْ: تَأَخَّرْتَ - إِلَى خَلْفٍ؟ وَفِي جَوَابِهِ: أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ " أُرِيَ النَّارَ. . " إِلَخْ. فَهَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي وَرَدَ نَهْيٌ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، الَّتِي لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِآيَةِ الْحِجْرِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ آتَى أَصْحَابَ الْحِجْرِ - وَهُمْ ثَمُودُ - آيَاتِهِ فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَالْإِعْرَاضُ: الصُّدُودُ عَنِ الشَّيْءِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ - بِالضَّمِّ - وَهُوَ الْجَانِبُ ; لِأَنَّ الْمُعْرِضَ لَا يُوَلِّي وَجْهَهُ، بَلْ يَثْنِي عِطْفَهُ مُلْتَفِتًا صَادًّا. وَلَمْ يُبَيِّنْ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ، وَلَا كَيْفِيَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ: تِلْكَ النَّاقَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُمْ. بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ فِي النَّاقَةِ الْمَذْكُورَةِ آيَاتٍ جَمَّةً: كَخُرُوجِهَا عُشَرَاءَ، وَبْرَاءَ، جَوْفَاءَ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، وَسُرْعَةِ وِلَادَتِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَعِظَمِهَا حَتَّى لَمْ تُشْبِهْهَا نَاقَةٌ، وَكَثْرَةِ لَبَنِهَا حَتَّى يَكْفِيَهُمْ جَمِيعًا، وَكَثْرَةِ شِرْبِهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [26 \ 155] ، وَقَالَ: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [54 \ 28] . فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يُبَيِّنُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا [15 \ 81] ، قَوْلُهُ: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [26 \ 154 - 155] ، وَقَوْلُهُ: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ الْآيَةَ [7 \ 73] . وَقَوْلُهُ: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [17 \ 59] . وَقَوْلُهُ: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [54 \ 27] ، وَقَوْلُهُ: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [11 \ 64] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وَبَيَّنَ إِعْرَاضَ قَوْمِ صَالِحٍ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 77] ، وَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. . . الْآيَةَ [11 \ 65] . وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا. . . . [91 \ 11 - 14] ، وَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [54 \ 29] . وَقَوْلِهِ: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [17 \ 59] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الْآيَةَ [26 \ 185 - 186] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْحِجْرِ - وَهُمْ ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ - كَانُوا آمِنِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ، وَكَانُوا يَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [26 \ 147 - 149] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ الْآيَةَ [7 \ 74] ، وَقَوْلِهِ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [89 \ 9] ، أَيْ: قَطَعُوا الصَّخْرَ بِنَحْتِهِ بُيُوتًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ; أَيْ: لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يُكَلِّفُ الْخَلْقَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا وَلَا بَاطِلًا. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] ، وَقَوْلِهِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [3 \ 191] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [44 \ 38 - 39] ، وَقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 [23 \ 115 - 116] ، وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [53 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [75 \ 36 - 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ. ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الَّذِي هُوَ «إِنَّ» ، وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ الَّتِي تُزَحْلِقُهَا إِنَّ الْمَكْسُورَةُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُ السَّاعَةِ لَا مَحَالَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِتْيَانَهَا أَنْكَرَهُ الْكُفَّارُ ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ التَّوْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْخَبَرِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي. وَأَوْضَحَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [20 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا. . . . الْآيَةَ [22 \ 1 - 2] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الْآيَةَ [45 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [30 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [30 \ 55] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [7 \ 178] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْكَارَ الْكُفَّارِ لَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [34 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [64 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 34 - 35] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَصْفَحَ عَمَّنْ أَسَاءَ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ; أَيْ: بِالْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّفْحُ الْجَمِيلُ: الرِّضَا بِغَيْرِ عِتَابٍ. وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ حِكْمَةَ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهُ قُدْوَتُهُمْ وَالْمُشَرِّعُ لَهُمْ. وَبَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [43 \ 89] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وَقَوْلِهِ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [25 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [28 \ 55] ، وَقَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. . . . الْآيَةَ [2 \ 109] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْأَمْرُ بِالصَّفْحِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ حُسْنُ الْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ: الْمُعَامَلَةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَالْخُلُقُ: السَّجِيَّةُ، يُقَالُ: خَالِصِ الْمُؤْمِنَ، وَخَالِقَ الْفَاجِرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَالْخَلَّاقُ وَالْعَلِيمُ: كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ الْخَلَّاقُ بِكَوْنِهِ خَلَّاقًا إِلَّا وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِذِ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْلُقَهُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [67 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [2 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [65 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُجِيبًا لِلْكُفَّارِ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَقَالُوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [50 \ 3] ، مُبَيِّنًا أَنَّ الْعَالِمَ بِمَا تَمَزَّقَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [50 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَتَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمُرَادَ بِذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ إِنْ كَانَ لَهَا بَيَانٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، أَنَّنَا نُتَمِّمُ ذَلِكَ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ، فَنُبَيِّنُ الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ الْمُبِينِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. فَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 بِإِيضَاحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أُصَلِّي، فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟» فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [8 \ 24] ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَخْرُجَ، فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [1 \ 2] ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» . حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» . فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا السَّبْعُ الطِّوَالُ، غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا كَلَامَ لِأَحَدٍ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ: أَنَّ آيَةَ الْحِجْرِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ لَهَا: «مَثَانِي» ; لِأَنَّهَا تُثَنَّى قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ لَهَا: «سَبْعٌ» ; لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ. وَقِيلَ لَهَا: «الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» ; لِأَنَّهَا هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ ; كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَإِنَّمَا عَطَفَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى السَّبْعِ الْمَثَانِي، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ ; لِمَا عُلِمَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إِذَا ذُكِرَ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ جَازَ عَطْفُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، تَنْزِيلًا لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [87 \ 4] ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ. لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَذَلِكَ أَكْبَرُ نَصِيبٍ، وَأَعْظَمُ حَظٍّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 نَهَاهُ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي مَتَّعَ بِهِ الْكُفَّارَ ; لِأَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ - جَلَّ وَعَلَا - النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ وَالْحَظَّ الْأَوْفَرَ، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى النَّصِيبِ الْأَحْقَرِ الْأَخَسِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ إِنَّمَا أُعْطِيهِ لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ وَالِاخْتِبَارِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي (طه) : فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [20 \ 130 - 132] ، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ هُنَا: الْأَصْنَافُ مِنَ الَّذِينَ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِالدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. كَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [16 \ 127] ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [35 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [5 \ 68] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمَعْنَى: قَدْ بَلَّغْتَ وَلَسْتَ مَسْئُولًا عَنْ شَقَاوَتِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا أَشْقِيَاءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ لِينِ الْجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ... فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [26 \ 215] ، وَكَقَوْلِهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [3 \ 159] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وَيُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهَا - أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْفَضُ لَهُمُ الْجَنَاحُ، بَلْ يُعَامَلُونَ بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [9 \ 73 وَ 66 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [48 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [5 \ 54] ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي «الْمَائِدَةِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. فِي الْمُرَادِ بِالْمُقْتَسِمِينَ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ مَعْرُوفَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، إِلَّا أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً تُضَعِّفُ بَعْضَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَمُخَالَفَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ; فَالِاقْتِسَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقَسَمِ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّقَاسُمِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُرْشِدُ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ الْآيَةَ [27 \ 49] ، أَيْ: نَقْتُلُهُمْ لَيْلًا، وَقَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [16 \ 38] ، وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [14 \ 44] ، وَقَوْلُهُ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [7 \ 49] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُكَذِّبُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ ; فَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَإِنَّمَا وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مُقْتَسِمُونَ ; لِأَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا كُتُبَهُمْ فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ الْآيَةَ [2 \ 85] ، وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ الْآيَةَ [4 \ 150] . الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: جَمَاعَةٌ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ بِأَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ شِعْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَهَانَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الْقَوْلُ تَدُلُّ لَهُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمُفْتَرَاةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الْكَاذِبَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [69 \ 41 - 42] ، وَقَوْلِهِ: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [74 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [38 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [16 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [25 \ 5] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ، وَلَا تُنَافِي الثَّانِيَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [15 \ 91] أَظْهَرُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ ; لِجَعْلِهِمْ لَهُ أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ، كَقَوْلِهِمْ: شِعْرٌ، سِحْرٌ، كَهَانَةٌ، إِلَخْ. وَعَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ: فَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ كُتُبُهُمُ الَّتِي جَزَّؤُوهَا، فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا، أَوِ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا وَافَقَ هَوَاهُهُمْ مِنْهُ وَكَفَرُوا بِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ عِضِينَ [15 \ 91] جَمْعُ عِضَةٍ، وَهِيَ الْعُضْوُ مِنَ الشَّيْءِ، أَيْ: جَعَلُوهُ أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةً. وَاللَّامُ الْمَحْذُوفَةُ أَصْلُهَا وَاوٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ الْمَحْذُوفَةُ أَصْلُهَا هَاءٌ، وَعَلَيْهِ فَأَصْلُ الْعِضَةِ عِضْهَةٌ. وَالْعَضَهُ: السِّحْرُ ; فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: جَعَلُوا الْقُرْآنَ سِحْرًا ; كَقَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [74 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [28 \ 48] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّاحِرَ عَاضِهًا، وَالسَّاحِرَةَ عَاضِهَةً. وَالسِّحْرَ عِضَهًا. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تِ فِي عُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ. تَنْبِيهٌ. فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تَتَعَلَّقُ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ؟ [15 \ 90] . فَالْجَوَابُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: كَمَا أَنْزَلْنَا؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ [15 \ 87] ، أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ: بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا، فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَعَضُّوهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 بَعْضُهُمْ: «سُورَةُ الْبَقَرَةِ» لِي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: «سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ» لِي، إِلَى أَنْ قَالَ: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [15 \ 89] ، أَيْ: وَأَنْذِرْ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (يَعْنِي الْيَهُودَ) ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ وَهُوَ مِنَ الْإِعْجَازِ ; لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ كَانَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ. وَنَقَلَ كَلَامَهُ بِتَمَامِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» ثُمَّ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ تَعَلُّقُ: كَمَا [15 \ 90] بِ: أَتَيْنَاكَ [15 \ 87] ، فَذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي إِيتَاءً كَمَا أَنْزَلْنَا، أَوْ إِنْزَالًا كَمَا أَنْزَلْنَا ; لِأَنَّ «آتَيْنَاكَ» بِمَعْنَى: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ. أَيْ: فَاجْهَرْ بِهِ وَأَظْهِرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَدَعَ بِالْحُجَّةِ ; إِذَا تَكَلَّمَ بِهَا جِهَارًا، كَقَوْلِكَ: صَرَّحَ بِهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ عَلَنًا فِي غَيْرِ خَفَاءٍ وَلَا مُوَارَبَةٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [5 \ 67] . وَقَدْ شَهِدَ لَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ امْتَثَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَبَلَّغَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [5 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [51 \ 54] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ. قَوْلُهُ: فَاصْدَعْ [15 \ 94] ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: انْصَدَعَ الصُّبْحُ: انْشَقَّ عَنْهُ اللَّيْلُ. وَالصَّدِيعُ: الْفَجْرُ لِانْصِدَاعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ: تَرَى السَّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ... كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ أَيْ: فَجْرٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَظْهِرْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، وَبَلِّغْهُ عَلَنًا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: صَدَعْتُ الشَّيْءَ: أَظْهَرْتُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وَكَأَنَّهُنَّ رَبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ يَسَرٌ ... يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ وَالشَّقِّ فِي الشَّيْءِ الصُّلْبِ: كَالزُّجَاجِ وَالْحَائِطِ. وَمِنْهُ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [30 \ 43] ، أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [30 \ 14] وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ: عَشِيَّةَ قَلْبِي فِي الْمُقِيمِ صَدِيعُهُ وَرَاحَ جَنَابَ الظَّاعِنِينَ صَدِيعُ يَعْنِي: أَنَّ قَلْبَهُ افْتَرَقَ إِلَى جُزْءَيْنِ: جُزْءٍ فِي الْمُقِيمِ، وَجُزْءٍ فِي الظَّاعِنِينَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [15 \ 94] ، أَيْ: فَرِّقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ. وَقَوْلُهُ: بِمَا تُؤْمَرُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ سَبْكِ الْمَصْدَرِ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي (الْبَحْرِ) : وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: لَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا يَصْعُبُ عَلَيْكَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ حَافِظُكَ مِنْهُمْ. وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَعْنَاهَا: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) أَيْ: بَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ، أَيْ: لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَخْشَهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [5 \ 67] . الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَأْمُورًا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَاتِ السَّيْفِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 106] ، وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [32 \ 30] ، وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [53 \ 29] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ [33 \ 48] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ كَفَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ كَفَاهُ غَيْرَهُمْ. كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [2 \ 137] ، وَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ. . . . الْآيَةَ [39 \ 36] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمُسْتَهْزِئُونَ الْمَذْكُورُونَ هُمْ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ. وَالْآفَاتُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ مَشْهُورَةٌ فِي التَّارِيخِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضِيقُ صَدْرُهُ بِمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ فِيهِ مِنَ: الطَّعْنِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [6 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [11 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [26 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنَ «الْأَنْعَامِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [15 \ 98] ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [15 \ 98] . وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْأَمْرَ بِالشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَقَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [110 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [20 \ 130] ، وَقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [40 \ 55] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَصْلُ التَّسْبِيحِ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ. وَمَعْنَاهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ. وَمَعْنَى: «سَبِّحْ» : نَزِّهْ رَبَّكَ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَقَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ: بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ: بِحَمْدِ رَبِّكَ أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَتَعُمُّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ مِنْ كُلِّ وَصْفِ كَمَالٍ وَجَلَالٍ ثَابِتٍ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -. فَتَسْتَغْرِقُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الثَّنَاءَ بِكُلِّ كَمَالٍ ; لِأَنَّ الْكَمَالَ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّنَزُّهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَهَذَا مَعْنَى التَّسْبِيحِ. وَالثَّانِي التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَمْدِ، فَتَمَّ الثَّنَاءُ بِكُلِّ كَمَالٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ)) ، وَكَقَوْلِهِ فِي الثَّانِي وَهُوَ السُّجُودُ: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [96 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [76 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [41 \ 37] ، وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ التَّسْبِيحِ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [15 \ 98] ، أَيْ: صِلِّ لَهُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالصَّلَاةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ التَّنْزِيهِ وَمُنْتَهَى التَّقْدِيسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ; وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلَّ سَجْدَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَوْضِعُ سُجُودٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا السُّجُودُ نَفْسُهُ، فَرَأَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّا مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ - طَهَّرَهُ اللَّهُ - يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ: أَنَّ هَاهُنَا سَجْدَةً عِنْدَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَمَانِ بْنِ رِئَابٍ، وَرَأَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السُّجُودِ فِي سُورَةِ ((الرَّعْدِ)) ، وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ ; فَالْمُسَوِّغُ لِهَذَا الْإِطْنَابِ الَّذِي هُوَ عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ هُوَ أَهَمِّيَّةُ السُّجُودِ ; لِأَنَّ أَقْرَبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي السُّجُودِ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ; فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» . تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ تَرْتِيبَهُ - جَلَّ وَعَلَا - الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ عَلَى ضِيقِ صَدْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبَبِ مَا يَقُولُونَ لَهُ مِنَ السُّوءِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالتَّسْبِيحَ سَبَبٌ لِزَوَالِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ ; وَلِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ الْآيَةَ [2 \ 45] . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمُ بْنُ هَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ ; أَنْ يَفْزَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ . أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ، أَيْ: يَتَقَرَّبَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْمَحَبَّةِ، بِمَا أُمِرَ أَنْ يَتَقَرَّبَ لَهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَجُلُّ الْقُرْآنِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ حَظُّ الْإِثْبَاتِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَعَ حَظِّ النَّفْيِ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ تَحْقِيقِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الَّذِي هُوَ حَظُّ النَّفْيِ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ; قَالَ تَعَالَى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [11 \ 123] ، وَقَالَ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [19 \ 65] ، وَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [4 \ 36] ، وَقَالَ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [2 \ 256] ، وَقَالَ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [12 \ 106] ، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [74 \ 43 - 47] ، وَهُوَ: الْمَوْتُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ (امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَدْ مَاتَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ! فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ "؟ فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: " أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ. . " الْحَدِيثَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ انْكِشَافُ الْحَقِيقَةِ، وَتَيَقُّنُ الْوَاقِعِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاءَهُ الْمَوْتُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَقِيقَةُ يَقِينًا. وَلَقَدْ أَجَادَ التُّهَامِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَالْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقَظَةٌ ... وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِي وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [15 \ 98 - 99] . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ". وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ تَاجِرًا وَلَا أَجْمَعُ الْمَالَ مُتَكَاثِرًا، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ". تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ حَيًّا وَلَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ يُمَيِّزُ بِهِ، فَالْعِبَادَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [19 \ 31] ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " بَابُ إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعَدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ "، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ، صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ، عَنْ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: " صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ". اه. وَنَحْوُ هَذَا مَعْلُومٌ ; قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] ، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. . . " الْحَدِيثَ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفَسِّرُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ الْكَفَرَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْيَقِينِ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْيَقِينِ، أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ وَالتَّكَالِيفُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ هُوَ غَايَةُ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ. إِنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا كُفْرٌ بِاللَّهِ وَزَنْدَقَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ تَأْوِيلًا، بَلْ يُسَمَّى لَعِبًا كَمَا قَدَّمْنَا فِي " آلِ عِمْرَانَ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ هُمْ وَأَصْحَابُهُ - هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللَّهِ، وَأَعْرُفُهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ النَّاسِ عِبَادَةً لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَأَشَدَّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَطَمَعًا فِي رَحْمَتِهِ. وَقَدْ قَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [35 \ 28] . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ النَّحْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ. أَيْ: قَرُبَ وَقْتُ إِتْيَانِ الْقِيَامَةِ. وَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي ; تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ. وَاقْتِرَابُ الْقِيَامَةِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بَيَّنَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [21 \ 1] ، وَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [54 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [33 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [42 \ 17] ، وَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [53 \ 75 - 58] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي ; لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ الْآيَةَ [39 \ 68] ، وَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ. . . الْآيَةَ [7 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . الْآيَةَ [39 \ 69 - 71] . فَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، نَزَلَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهَا مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ، نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اسْتِعْجَالِ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالِاسْتِعْجَالُ هُوَ طَلَبُهُمْ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمْ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ « [29 \ 53] ، وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [29 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا [42 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ الْآيَةَ [11 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [38 \ 16] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [10 \ 50] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [16 \ 1] فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعَذَابُ الْمُوعَدُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [16 \ 1] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ ; أَيْ: لَا تَطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَجِّلَ لَكُمُ الْعَذَابَ. قَالَ: مَعْنَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [54 \ 1] ، قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ! فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَأَمْسَكُوا فَانْتَظَرُوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا! فَنَزَلَتْ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الْآيَةَ [21 \ 1] ، فَأَشْفَقُوا وَانْتَظَرُوا قُرْبَ السَّاعَةِ ; فَامْتَدَّتِ الْأَيَّامُ، فَقَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا، فَنَزَلَتْ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [16 \ 1] ، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ وَخَافُوا، فَنَزَلَتْ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ فَاطْمَأَنُّوا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ «، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا» . اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ، أَيْ: لَا تَظُنُّوهُ وَاقِعًا الْآنَ عَنْ عَجَلٍ، بَلْ هُوَ مُتَأَخِّرٌ إِلَى وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّ مَعْنَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، أَيْ: فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ، قَوْلٌ مَرْدُودٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَقَدْ رَدَّهُ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَائِلًا: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ: قَدْ جَاءَتْكُمْ فَرَائِضُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهَا. أَمَّا مُسْتَعْجِلُو الْعَذَابِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ كَانُوا كَثِيُرًا. اه. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهَا تَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ بِاقْتِرَابِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ نَهْيِهِمْ عَنِ اسْتِعْجَالِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ تَهْدِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُمْ قُرْبَ الْعَذَابِ مِنْهُمْ وَالْهَلَاكِ، وَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 أَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [16 \ 1] ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَقْرِيعِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ. اه. قَوْلُهُ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْوَحْيُ ; لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ، كَمَا أَنَّ الْغِذَاءَ بِهِ حَيَاةُ الْأَجْسَامِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [42 \ 52] ، وَقَوْلُهُ: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 15، 16] . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْوَحْيُ ; إِتْيَانُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ [16 \ 2] بِقَوْلِهِ: أَنْ أَنْذِرُوا [16 \ 2] ; لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ الْآيَةَ [21 \ 45] ، وَكَذَلِكَ إِتْيَانُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [40 \ 15] ، بِقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ الْآيَةَ [40 \ 15] ; لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ أَيْضًا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «يَنْزِلُ» - بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ -. وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ. وَلَفْظَةُ: «مِنْ» [16 \ 2] فِي الْآيَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [26 \ 2] ، أَيْ: يُنَزِّلُ الْوَحْيَ عَلَى مَنِ اخْتَارَهُ وَعَلِمَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ. كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [22 \ 75] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [6 \ 124] ، وَقَوْلِهِ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [40 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [2 \ 90] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [43 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. الْأَظْهَرُ فِي «أَنْ» مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهَا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ ; لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ بِالرُّوحِ، أَيْ: بِالْوَحْيِ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي أُنْزِلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مُفَسَّرٌ بِإِنْذَارِ النَّاسِ « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَأَمْرِهِمْ بِتَقْوَاهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [26 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [43 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [21 \ 108] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَمَعْنَى التَّقْوَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ مَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ يَتَنَزَّهُ وَيَتَعَاظَمُ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا. فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يُبْرِزُ الْخَلَائِقَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ; وَلِهَذَا أَتْبَعَ قَوْلَهُ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [16 \ 3] بِقَوْلِهِ: تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [16 \ 3] . وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ الْخَالِقُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [25 \ 1 - 3] ، وَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [31 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ الْآيَةَ [35 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [46 \ 4] ، وَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 [7 \ 191] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [22 \ 73] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . . الْآيَةَ [52 \ 35 - 36] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ الْآيَةَ [16 \ 20 - 21] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ تُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ هُوَ مَنْ يَخْلُقُ الْخَلْقَ، وَيُبْرِزُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. أَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَخْلُقُهُ، وَيُدَبِّرُ شُئُونَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، وَهِيَ مَنِيُّ الرَّجُلِ وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [76 \ 2] ، أَيْ: أَخْلَاطٍ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْشَاجِ بِالْأَخْلَاطِ: مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ. وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقَ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، قَالَ: اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الرَّحِمِ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَمَّا سَمِعْتَ أَبَا ذُؤَيْبٍ وَهُوَ يَقُولُ: كَأَنَّ الرِّيشَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهُ ... خِلَالَ النَّصْلِ خَالَطَهُ مَشِيجُ وَنَسَبَ فِي اللِّسَانِ هَذَا الْبَيْتَ لِزُهَيْرِ بْنِ حَرَامٍ الْهُذَلِيِّ، وَأَنْشَدَهُ هَكَذَا: كَأَنَّ النَّصْلَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهَا ... خِلَالَ الرِّيشِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ قَالَ: وَرَوَاهُ الْمُبَرِّدُ: كَأَنَّ الْمَتْنَ وَالشَّرْجَيْنِ مِنْهُ ... خِلَافَ النَّصْلِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَأَنَّ الرِّيشَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهَا ... خِلَالَ النَّصْلِ سِيطَ بِهِ الْمَشِيجُ وَمَعْنَى «سِيطَ بِهِ الْمَشِيجُ» : خُلِطَ بِهِ الْخَلْطَ. إِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ النُّطْفَةُ، مِنْهُ مَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الصُّلْبِ، أَيْ: وَهُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ التَّرَائِبِ وَهُوَ: مَاءُ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [86 \ 5 - 7] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّلْبِ صُلْبُ الرَّجُلِ وَهُوَ ظَهْرُهُ، وَالْمُرَادَ بِالتَّرَائِبِ: تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ وَهِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِنَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ: عَلَى أَنَّ التَّرَائِبَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ بِقَوْلِ الْمُخَبَّلِ، أَوِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا ... شَرَقًا بِهِ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ فَقَوْلُهُ هُنَا: «مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ» [86 \ 7] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْشَاجَ هِيَ الْأَخْلَاطُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَمْرُ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَنْظُرَ مِمَّ خُلِقَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ [86 \ 5] تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ ; لِيَعْرِفَ قَدْرَهُ، وَيَتْرُكَ التَّكَبُّرَ وَالْعُتُوَّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ الْآيَةَ [77 \ 20] . وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - حَقَارَتَهُ بِقَوْلِهِ: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [70 \ 38] ، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ النُّطْفَةِ بِمَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا يَعْلَمُونَ [70 \ 39] ، فِيهِ غَايَةُ تَحْقِيرِ ذَلِكَ الْأَصْلِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ. وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ رَدْعٍ، وَأَبْلَغُ زَجْرٍ عَنِ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَاظُمِ. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] ، أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ: أَنَّهُ ذَمٌّ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ. وَالْمَعْنَى: خَلَقْنَاهُ لِيَعْبُدَنَا وَيَخْضَعَ لَنَا وَيُطِيعَ، فَفَاجَأَ بِالْخُصُومَةِ وَالتَّكْذِيبِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ: «إِذَا» الْفُجَائِيَّةُ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] ، مَعَ قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 77 - 79] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [25 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [19 \ 66 - 67] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَسَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا الْمَبْحَثِ فِي «سُورَةِ الطَّارِقِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 تَنْبِيهٌ. اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي: «إِذَا» الْفُجَائِيَّةِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ حَرْفٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَخْفَشُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «الْمُغْنِي» : وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُمْ: خَرَجْتُ فَإِذَا إِنَّ زَيْدًا بِالْبَابِ (بِكَسْرِ إِنَّ) ; لِأَنَّ «إِنَّ» - الْمَكْسُورَةَ - لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الزَّجَّاجُ. وَالْخَصِيمُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ: شَدِيدُ الْخُصُومَةِ. وَقِيلَ: الْخَصِيمُ الْمُخَاصِمُ. وَإِتْيَانُ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمُفَاعِلِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَالْقَعِيدِ بِمَعْنَى الْمُقَاعِدِ، وَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُجَالِسِ، وَالْأَكِيلِ بِمَعْنَى الْمُؤَاكِلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: «مُبِينٌ» [16 \ 4] الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ اللَّازِمَةِ، بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ ; أَيْ بَيِّنَ الْخُصُومَةِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ قَوْلُ جَرِيرٍ: إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عَدَوَا ... أَبَانَ الْمُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ أَيْ: ظَهَرَ. وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ... لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ يَعْنِي: لَظَهَرَ مِنْ آثَارِهِنَّ وَرَمٌ فِي الْجِلْدِ. وَقِيلَ: مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ: مُبِينٌ خُصُومَتَهُ وَمُظْهِرٌ لَهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِبَنِي آدَمَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» : أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي هِيَ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالضَّأْنِ، وَالْمَعْزِ. وَالْمُرَادُ بِالدِّفْءِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُدَّفَّأُ بِهِ، كَالْمَلْءِ اسْمٌ لِمَا يُمْلَأُ بِهِ، وَهُوَ الدِّفَاءُ مِنَ اللِّبَاسِ الْمَصْنُوعِ مِنْ أَصْوَافِ الْأَنْعَامِ وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا. . وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [16 \ 80] ، وَقِيلَ: الدِّفْءُ نَسْلُهَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; وَالنَّسْلُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَمَنَافِعُ [16 \ 5] ، أَيْ: مِنْ نَسْلِهَا وَدَرِّهَا: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وَمَنَافِعُ الْأَنْعَامِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - امْتِنَانَهُ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهَا لَهُمْ أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [23 \ 21، 22] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [40 \ 79 - 81] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [36 \ 71 - 73] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [43 \ 12، 13] ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39 \ 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْأَظْهَرُ فِي إِعْرَابِ: وَالْأَنْعَامَ [16 \ 5] ، أَنَّ عَامِلَهُ وَهُوَ: خَلَقَ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالضَّمِيرِ فَنُصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وُجُوبًا، يُفَسِّرُهُ: «خَلَقَ» الْمَذْكُورُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: فَالسَّابِقُ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا ... حَتْمًا مُوَافِقٍ لِمَا قَدْ أَظْهَرَ وَإِنَّمَا كَانَ النَّصْبُ هُنَا أَرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ فِعْلٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [16 \ 4] ، فَيَكُونُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ أَوْلَى مِنْ عَطْفِ الِاسْمِيَةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ لَوْ رُفِعَ الِاسْمُ السَّابِقُ ; وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُخْتَارُ فِيهِ النَّصْبُ: وَبَعْدَ عَاطِفٍ بِلَا فَصْلٍ عَلَى ... مَعْمُولِ فِعْلٍ مُسْتَقِرٍّ أَوَّلَا وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَالْأَنْعَامَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِنْسَانَ، مِنْ قَوْلِهِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ [16 \ 4] ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا تَرَى. وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ [16 \ 5] أَنَّ قَوْلَهُ: دِفْءٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَكُمْ فِيهَا، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ ; اعْتِمَادُهَا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْخَبَرُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ: دِفْءٌ فَاعِلُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 لَكُمْ. وَفِي الْآيَةِ أَوْجُهٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَرَكْنَا ذِكْرَهَا ; لِعَدَمِ اتِّجَاهِهَا عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [16 \ 6] ، يَعْنِي: أَنَّ اقْتِنَاءَ هَذِهِ الْأَنْعَامِ وَمِلْكِيَّتَهَا فِيهِ لِمَالِكِهَا عِنْدَ النَّاسِ جَمَالٌ ; أَيْ: عَظَمَةٌ وَرِفْعَةٌ، وَسَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا لِمُقْتَنِيهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [16 \ 8] ، فَعَبَّرَ فِي الْأَنْعَامِ بِالْجَمَالِ، وَفِي غَيْرِهَا بِالزِّينَةِ. وَالْجَمَالُ: مَصْدَرُ جَمُلَ فَهُوَ جَمِيلٌ وَهِيَ جَمِيلَةٌ. وَيُقَالُ أَيْضًا: هِيَ جَمْلَاءُ. وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ الْكِسَائِيُّ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَهِيَ جَمْلَاءُ كَبَدْرٍ طَالِعٍ ... بَذَّتِ الْخَلْقَ جَمِيعًا بِالْجَمَالِ وَالزِّينَةُ: مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالسِّلَاحِ، وَلَا تَفْتَخِرُ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَفْتَخِرُ بِمَآثِرَ قَبِيلَتِهِ بَنِي سُلَيْمٍ: وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْم فِي مَوَاطِنِهَا ... فَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ قَوْمٌ هُمْ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا ... دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجِرُ لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسَطَهُمْ ... وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ وَالسَّوَابِحُ: الْخَيْلُ. وَالْمُقْرَبَةُ: الْمُهَيَّأَةُ الْمُعَدَّةُ قَرِيبًا. وَالْأَخْطَارُ: جَمْعُ خَطْرٍ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَوْ كَسْرٍ فَسُكُونٍ - وَهُوَ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي قَدْرِهِ. وَالْعَكَرُ - بِفَتْحَتَيْنِ -: جَمْعُ عَكَرَةٍ، وَهِيَ الْقَطِيعُ الضَّخْمُ مِنَ الْإِبِلِ أَيْضًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي تَحْدِيدِ قَدْرِهِ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ تَرَى أَمْسِ فِيهِمُ ... مَرَابِطَ لِلْأَمْهَارِ وَالْعَكَرِ الدَّثَرْ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أُنَاسٍ بِقِنَّةٍ ... يَرُوحُ عَلَى آثَارِ شَائِهُمُ النَّمِرْ وَقَوْلُهُ: «الْعَكَرُ الدَّثَرُ» ، أَيِ: الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنَ الْإِبِلِ. وَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: حِينَ تُرِيحُونَ [16 \ 6] ; لِأَنَّهَا وَقْتُ الرَّوَاحِ أَمْلَأُ ضُرُوعًا وَبُطُونًا مِنْهَا وَقْتَ سَرَاحِهَا لِلْمَرْعَى. وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: وَزِينَةً [16 \ 8] ، أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ ; أَيْ: لِأَجْلِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُ الْمُخَاطَبُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا، وَأَبْهَمَ ذَلِكَ الَّذِي يَخْلُقُهُ ; لِتَعْبِيرِهِ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَكِنْ قَرِينَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْمَرْكُوبَاتِ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِمَرْكُوبَاتٍ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ: كَالطَّائِرَاتِ، وَالْقِطَارَاتِ، وَالسَّيَّارَاتِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ إِشَارَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ» . اهـ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا» ; فَإِنَّهُ قَسَمٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَتُتْرَكُ الْإِبِلُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَهَذَا مُشَاهَدٌ الْآنَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ رُكُوبِهَا بِالْمَرَاكِبِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ عُظْمَى، تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَتْ مُعْجِزَاتُهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُسَمَّى دَلَالَةَ الِاقْتَرَانِ، وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا قِرَانُ اللَّفْظِ فِي الْمَشْهُورِ ... فَلَا يُسَاوِي فِي سِوَى الْمَذْكُورِ وَصَحَّحَ الِاحْتِجَاجَ بِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَمَقْصُودُنَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا هُنَا أَنَّ ذِكْرَ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 8] فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ لَا يَقِلُّ عَنْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمُرَادِ بِهَا بَعْضَ الْمَرْكُوبَاتِ، كَمَا قَدْ ظَهَرَتْ صِحَّةُ ذَلِكَ بِالْعِيَانِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُهُ خَلْقُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِالِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [36 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ، اعْلَمْ أَوَّلًا: «أَنَّ قَصْدَ السَّبِيلِ» [16 \ 9] : هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الْقَاصِدُ، الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى الْمُزَنِيُّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 صَحَا الْقَلْبُ عَنْ سَلْمَى وَأَقصَرَ ... بَاطِلُهُ وَعُرِّيَ أَفْرَاسُ الصِّبَا وَرَوَاحِلُهُ وَأَقْصَرْتُ عَمَّا تَعْلَمِينَ وَسُدِّدَتْ ... عَلَيَّ سِوَى قَصْدِ السَّبِيلِ مَعَادِلُهُ وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمِنَ الطَرِيقَةِ جَائِرٌ وَهُدًى ... قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهُ ذُو دَخَلِ فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ مِصْدَاقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَظْهَرُ عِنْدِي مِنَ الْآخَرِ. الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ مَعْنَى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ: أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ قَصْدُ السَّبِيلِ عَلَى اللَّهِ، أَيْ: مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهِ، لَيْسَتْ حَائِدَةً، وَلَا جَائِرَةً عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَإِلَى مَرْضَاتِهِ، (وَمِنْهَا جَائِرٌ) أَيْ: وَمِنَ الطَّرِيقِ جَائِرٌ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، بَلْ هُوَ زَائِغٌ وَحَائِدٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، وَقَوْلُهُ: (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) . وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَمِنْهَا جَائِرٌ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ، أَيْ: عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَقَوْلُهُ: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: (وَمِنْهَا جَائِرٌ) ، غَيْرُ وَاضِحٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمِنَ الطَّرِيقِ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ الَّذِي نَهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ سُلُوكِهِ. وَالْجَائِرُ: الْمَائِلُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَالْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَارِيَانِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى. . .) الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ هِدَايَةَ جَمِيعِ خَلْقِهِ لَهَدَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [6 \ 35] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. . . [32 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [6 \ 107] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا. . . الْآيَةَ [10 \ 99] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً. . . الْآيَةَ [11 \ 118] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي «سُورَةِ يُونُسَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يُوَضِّحُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي «سُورَةِ الْحِجْرِ» . وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ: إِنْبَاتَهُ بِالْمَاءِ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَمَا تَأْكُلُهُ الْمَوَاشِي مِنَ الْمَرْعَى مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَمِنْ أَوْضَحِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [32 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [20 \ 53، 54] ، وَقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 30 - 33] ، وَقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ الْآيَةَ [50 \ 9 - 11] ، وَقَوْلِهِ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [27 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [78 \ 14 - 16] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. تَنْبِيهَانِ. الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَاجِبٌ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: «أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَصْرِفُهَا عَنِ الْوُجُوبِ» . وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْظُرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 إِلَى طَعَامِهِ الَّذِي بِهِ حَيَاتُهُ، وَيُفَكِّرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إِنْبَاتِ حُبِّهِ مَنْ أَنْزَلَهُ؟ ثُمَّ بَعْدَ إِنْزَالِ الْمَاءِ وَرَيِّ الْأَرْضِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى شَقِّ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْهَا؟ ثُمَّ مِنْ يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَبِّ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ؟ ثُمَّ مِنْ يَقْدِرُ عَلَى تَنْمِيَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ! ؟ : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ. . . الْآيَةَ [6 \ 9] ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 24 - 32] . وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ [86 \ 5] ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ: أَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَلَا دَلِيلَ يَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» إِلَى بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الثَّلَاثَةِ، الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَكْثُرُ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ. الْأَوَّلُ: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. . . . الْآيَةَ [64 \ 3] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى الْبَعْثِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا [79 \ 27 - 28] ، إِلَى قَوْلِهِ: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [46 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. . . الْآيَةَ [40 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [36 \ 81] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْبُرْهَانُ الثَّانِي: خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [16 \ 4] ; لِأَنَّ مَنِ اخْتَرَعَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ ثَانِيًا. وَهَذَا يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَعْثِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ. . . . الْآيَةَ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [50 \ 15] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ: إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمَذْكُورُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ. . . [16 \ 11] ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [50 \ 11] ، أَيْ: كَذَلِكَ الْأَحْيَاءُ خُرُوجُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِهِ: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [30 \ 19] ، أَيْ: مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [22 \ 5، 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ الثَّلَاثَةُ يَكْثُرُ جِدًّا الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَمَا رَأَيْتَ وَكَمَا تَقَدَّمَ. وَهُنَاكَ بُرْهَانٌ رَابِعٌ يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ أَيْضًا وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ إِحْيَاءُ اللَّهِ بَعْضَ الْمَوْتَى فِي دَارِ الدُّنْيَا، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي: «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» ; لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ جَمِيعِ النُّفُوسِ: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [31 \ 28] . وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْبُرْهَانَ فِي: «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [2 \ 56] . الثَّانِي قَوْلُهُ: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [2 \ 73] . الثَّالِثُ قَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [2 \ 243] . الرَّابِعُ قَوْلُهُ: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [2 \ 259] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الْخَامِسُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [2 \ 260] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [16 \ 10] ، أَيْ: تَرْعَوْنَ مَوَاشِيَكُمُ السَّائِمَةَ فِي ذَلِكَ الشَّجَرِ الَّذِي هُوَ الْمَرْعَى. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الشَّجَرِ عَلَى كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنَ الْمَرْعَى ; وَمِنْهُ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ: إِنَّا أَتَيْنَاكَ وَقَدْ طَالَ السَّفَرْ ... نَقُودُ خَيْلًا ضُمَّرًا فِيهَا صَعَرْ نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ ... إِذَا عَزَّ الشَّجَرْ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَامَتِ الْمَوَاشِي ; إِذَا رَعَتْ فِي الْمَرْعَى الَّذِي يُنْبِتُهُ اللَّهُ بِالْمَطَرِ. وَأَسَامَهَا صَاحِبُهَا: أَيْ رَعَاهَا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَثَلُ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كَآخِرَ مِثْلِهِ ... أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الْأَجْمَالِ يَعْنِي يَا ابْنَ رَاعِيَةِ الْجِمَالِ الَّتِي تُسِيمُهَا فِي الْمَرْعَى. وَقَوْلُهُ: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ [16 \ 11] ، قَرَأَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: «نُنْبِتُ» بِالنُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَخَّرَ لِخَلْقِهِ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ عِظَامٍ، فِيهَا مِنْ عَظِيمِ نِعْمَتِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، وَفِيهَا الدَّلَالَاتُ الْوَاضِحَاتُ لِأَهْلِ الْعُقُولِ: عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدُ وَحْدَهُ. وَالْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ. وَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرَ إِنْعَامِهِ بِتَسْخِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ أَدِلَّةِ وَحْدَانِيَّتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [7 \ 54] ، وَإِغْشَاؤُهُ اللَّيْلَ النَّهَارَ: هُوَ تَسْخِيرُهُمَا، وَقَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الْآيَةَ [14 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. [36 \ 37 - 39] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ الْآيَةَ [67 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [16 \ 16] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ، الَّتِي هِيَ: «الشَّمْسُ» ، وَ «الْقَمَرُ» ، وَ «النُّجُومُ» ، وَ «مُسَخَّرَاتٌ» [16 \ 12] ; فَقَرَأَ بِنَصْبِهَا كُلِّهَا نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ. وَقَرَأَ بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ ابْنُ عَامِرٍ، عَلَى أَنَّ: وَالشَّمْسَ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَ: مُسَخَّرَاتٌ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِنَصْبِ:، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَطْفًا عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَرَفَعَ:، وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: مُسَخَّرَاتٌ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ أَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا. وَالتَّسْخِيرُ فِي اللُّغَةِ: التَّذْلِيلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. قَوْلُهُ: وَمَا [16 \ 13] ، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَيْ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مَا خَلَقَ لَكُمْ فِيهَا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: امْتِنَانَهُ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِمَّا خَلَقَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ; مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لِمَا خَلَقَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ، فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ لِمَنْ يَذَّكَّرُ وَيَتَّعِظُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْ يُعْبَدُ وَحْدَهُ. وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا الْآيَةَ [2 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ الْآيَةَ [45 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 10 - 13] ، وَقَوْله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [67 \ 15] . وَأَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ، الْمُسْتَحِقُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ. وَأَوْضَحَ هَذَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي «سُورَةِ فَاطِرٍ» : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ [35 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [30 \ 22] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْوَانِ وَالْمَنَاظِرِ وَالْمَقَادِيرِ وَالْهَيْئَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فِيهِ الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - وَاحِدٌ، لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ وَلَا شَرِيكَ، وَأَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ تَأْثِيرٍ فَهُوَ بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَأَنَّ الطَّبِيعَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا -. كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [13 \ 4] ، فَالْأَرْضُ الَّتِي تَنْبُتُ فِيهَا الثِّمَارُ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّ قِطَعَهَا مُتَجَاوِرَةٌ، وَالْمَاءَ الَّذِي تُسْقَى بِهِ مَاءٌ وَاحِدٌ، وَالثِّمَارُ تَخْرُجُ مُتَفَاضِلَةً، مُخْتَلِفَةً فِي الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالطُّعُومِ، وَالْمَقَادِيرِ وَالْمَنَافِعِ. فَهَذَا أَعْظَمُ بُرْهَانٍ قَاطِعٍ عَلَى وُجُودِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ، سُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الطَّبِيعَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: أَنَّ النَّارَ مَعَ شِدَّةِ طَبِيعَةِ الْإِحْرَاقِ فِيهَا ; أُلْقِيُ فِيهَا الْحَطَبُ وَإِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَطَبَ أَصْلَبُ وَأَقْسَى وَأَقْوَى مِنْ جَلْدِ إِبْرَاهِيمَ وَلَحْمِهِ، فَأَحْرَقَتِ الْحَطَبَ بِحَرِّهَا، وَكَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدًا وَسَلَامًا ; لَمَّا قَالَ لَهَا خَالِقُهَا: قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [21 \ 69] ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا -، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَذَّكَّرُونَ [16 \ 13] ، أَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَالِادِّكَارُ: الِاعْتِبَارُ وَالِاتِّعَاظُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَخَّرَ الْبَحْرَ، أَيْ: ذَلَّلَهُ لِعِبَادِهِ حَتَّى تَمَكَّنُوا مِنْ رُكُوبِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الصَّيْدِ وَالْحِلْيَةِ، وَبُلُوغِ الْأَقْطَارِ الَّتِي تَحُولُ دُونَهَا الْبِحَارُ، لِلْحُصُولِ عَلَى أَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَتَسْخِيرُ الْبَحْرِ لِلرُّكُوبِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [36 \ 41، 42] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [45 \ 12] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَ نِعَمٍ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لَهُمْ: الْأُولَى: قَوْلُهُ: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [16 \ 14] ، وَكَرَّرَ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ الْآيَةَ [5 \ 96] ، وَقَوْلِهِ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا الْآيَةَ [35 \ 12] . الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] ، وَكَرَّرَ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 22، 23] ، وَاللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ: هُمَا الْحِلْيَةُ الَّتِي يَسْتَخْرِجُونَهَا مِنَ الْبَحْرِ لِلُبْسِهَا، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [35 \ 12] . الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ [16 \ 14] ، وَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الِامْتِنَانَ بِشَقِّ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، كَقَوْلِهِ: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ الْآيَةَ [36 \ 42] ، وَقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [14 \ 32] . الرَّابِعَةُ: الِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِهِ بِأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ بِوَاسِطَةِ الْحَمْلِ عَلَى السُّفُنِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [16 \ 14] ، أَيْ: كَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ. وَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ فِي «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» : وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ [2 \ 164] ، وَقَوْلِهِ فِي «فَاطِرٍ» : وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [35 \ 12] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْجَاثِيَةِ» : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [45 \ 12] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِقَوْلِهِ: لَحْمًا طَرِيًّا [16 \ 14] ، فَلَا يُقَالُ: يُفْهَمُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ طَرِيًّا أَنَّ الْيَابِسَ كَالْقَدِيدِ مِمَّا فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ ; بَلْ يَجُوزُ أَكْلُ الْقَدِيدِ مِمَّا فِي الْبَحْرِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ كَوْنَ النَّصِّ مَسُوقًا لِلِامْتِنَانِ ; فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَيَّدَ بِالطَّرِيِّ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ فَالِامْتِنَانُ بِهِ أَتَمُّ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُود، بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ قَوْلُهُ: «أَوِ امْتِنَانٌ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي «سُورَةِ الْمَائِدَةِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمَالِكِيَّةِ قَدْ أَخَذُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لُحُومَ مَا فِي الْبَحْرِ كُلِّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ; فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهَا فِي الْبَيْعِ، وَلَا بَيْعُ طَرِيِّهَا بِيَابِسِهَا ; لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ عَبَّرَ عَنْ جَمِيعِهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [16 \ 14] ، وَهُوَ شَامِلٌ لِمَا فِي الْبَحْرِ كُلِّهِ. وَمِنْ هُنَا جَعَلَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ لِللُّحُومِ أَرْبَعَةَ أَجْنَاسٍ لَا خَامِسَ لَهَا: الْأَوَّلُ: لَحْمُ مَا فِي الْبَحْرِ كُلِّهِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، لِمَا ذَكَرْنَا. الثَّانِي: لُحُومُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْوُحُوشِ كُلِّهَا عِنْدَهُمْ جِنْسٌ وَاحِدٌ. قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ أَسْمَائِهَا فِي حَيَاتِهَا، فَقَالَ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [6 \ 143] ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [6 \ 144] ، أَمَّا بَعْدَ ذَبْحِهَا فَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بِاسْمٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ [5 \ 1] ، فَجَمَعَهَا بِلَحْمٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يَدْخُلُ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْوَحْشُ كَالظِّبَاءِ. الثَّالِثُ: لُحُومُ الطَّيْرِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [56 \ 21] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 فَجَمَعَ لُحُومَهَا بِاسْمٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ: الْجَرَادُ هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» الْإِشَارَةَ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي رِبَوِيَّتِهِ عِنْدَهُمْ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَدَمُ رِبَوِيَّتِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَلَبَةَ الْعَيْشِ بِالْمَطْعُومِ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ فِي الرِّبَا ; لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الرِّبَوِيَّاتِ عِنْدَ مَالِكٍ: هِيَ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ. قِيلَ: وَغَلَبَةُ الْعَيْشِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ غَلَبَةِ الْعَيْشِ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْجَرَادُ، وَالْبَيْضُ، وَالتِّينُ، وَالزَّيْتُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» . فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْجِنْسِ الْآخَرِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ. وَيَجُوزُ بَيْعُ طَرِيِّهِ بِيَابِسِهِ يَدًا بِيَدٍ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ اللُّحُومَ تَابِعَةٌ لِأُصُولِهَا، فَكُلُّ لَحْمٍ جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ كَأَصْلِهِ: فَلَحْمُ الْإِبِلِ عِنْدَهُ جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ الْغَنَمِ وَلَحْمُ الْبَقَرِ، وَهَكَذَا ; لِأَنَّ اللُّحُومَ تَابِعَةٌ لِأُصُولِهَا وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ كَالْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ. أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكِلَاهُمَا عَنْهُ فِيهَا رِوَايَتَانِ. أَمَّا الرِّوَايَتَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَإِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللُّحُومَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ; لِاشْتِرَاكِهَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ اللَّحْمُ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا أَجْنَاسٌ كَأُصُولِهَا: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا الرِّوَايَتَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ; فَإِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللُّحُومَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَسَائِرُ اللُّحْمَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كَوْنَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ: الْأَنْعَامُ وَالْوُحُوشُ، وَالطَّيْرُ، وَدَوَابُّ الْمَاءِ أَجْنَاسٌ، يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا فِي اللَّحْمِ رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ كَمَا ذَكَرْنَا. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ. انْتَهَى مِنَ الْمُغْنِي بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ، بِحَذْفِ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ، فَهَذِهِ مَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطٍ مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ ; فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ، فَعُلِمَ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفَيْنِ مَنَاطُ جَوَازِ التَّفَاضُلِ. وَاتِّحَادُهُمَا مَنَاطُ مَنْعِ التَّفَاضُلِ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَنَاطِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: اللَّحْمُ جِنْسٌ وَاحِدٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاسْمٍ وَاحِدٍ، فَمَنَاطُ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَوْجُودٌ فِيهِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ لُحُومٌ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ ; لِأَنَّهَا مِنْ حَيَوَانَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ ; فَمَنَاطُ مَنْعِ التَّفَاضُلِ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ ; لِأَنَّ الْحَيَوَانَ غَيْرُ رِبَوِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعُهُ بِاللَّحْمِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْأَثْمَانِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَفِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: مِنْ مَيْسِرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ. وَفِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَقُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا اشْتَرَى شَارِفًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ؟ ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا لِيَنْحَرَهَا فَلَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ النَّاسِ يَنْهَوْنَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَكَانَ ذَلِكَ يُكْتَبُ فِي عُهُودِ الْعُمَّالِ فِي زَمَانِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَهِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ. اهـ، مِنَ الْمُوَطَّأِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مُعَدٍّ لِللَّحْمِ وَيَجُوزُ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِمَا لَا رِبًّا فِيهِ ; فَأَشْبَهَ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ "، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ " ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ، فَقَالَ أَعْطُونِي جُزْءًا بِهَذِهِ الْعَنَاقِ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصْلُحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 هَذَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكْتُ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ ; وَلِأَنَّ اللَّحْمَ نَوْعٌ فِيهِ الرِّبَا بِيعَ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِثْلُهُ فَلَمْ يَجُزْ ; كَبَيْعِ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِلَحْمِهِ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يُبَاعُ حَيٌّ بِمَيِّتٍ "، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ فَقَالَ: أَعْطُونِي بِهَا لَحْمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصْلُحُ هَذَا " ; وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا بِيعَ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِثْلُهُ ; فَلَمْ يَجُزْ كَبَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ، اهـ. وَقَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي تَكْمِلَتِهِ لِشَرْحِ الْمُهَذَّبِ: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَالْأُمِّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ "، هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ. وَرَأَيْتُ فِي مُوَطَّأِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ - أَعْنِي: رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - مُرْسَلٌ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَاحِدٌ عَنْ سَعِيدٍ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، مِنْهَا عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُبَاعَ الشَّاةُ بِاللَّحْمِ "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ: رُوَاتُهُ عَنْ آخِرِهِمْ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ. وَقَدِ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِالْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ فِي الْمُوَطَّأِ، هَذَا كَلَامُ الْحَاكِمِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكَبِيرِ، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَمَنْ أَثْبَتَ سَمَاعَ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَدَّهُ مَوْصُولًا. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ انْضَمَّ إِلَى مُرْسَلِ سَعِيدٍ. وَمِنْهَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ "، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنْ مَالِكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَصَوَابُهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا. وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الصَّغِيرِ، وَحَكَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَلَطِ يَزِيدَ بْنِ مَرْوَانَ، وَيَزِيدُ الْمَذْكُورُ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَلَيْسَ هَذَا بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ. وَمِنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ "، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتِ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ، وَثَابِتٌ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ. ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيِّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَثْبُتُ بِهِ مَنْعُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ: كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، فَلَا إِشْكَالَ، وَأَمَّا عَلَى مُذْهَبِ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ: فَمُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حُجَّةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ اعْتَضَدَ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُ سَمَاعَ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ ; فَلَا إِشْكَالَ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُثْبِتُ سَمَاعَ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ - فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، اعْتَضَدَ بِمُرْسَلٍ صَحِيحٍ. وَمِثْلُ هَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ وَمَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي " سُورَةِ الْمَائِدَةِ "، كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدَّمْنَا فِي " سُورَةِ الْأَنْعَامِ " أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِهِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ: أَنَّ بَيْعَ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ ; خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَبَيْعِ شَاةٍ بِلَحْمِ حُوتٍ، أَوْ بَيْعِ طَيْرٍ بِلَحْمِ إِبِلٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ ; لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ تَنْتَفِي بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَحُمِلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُهُمَا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ; فَإِنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الشَّاةِ بِاللَّحْمِ، فَقَالَ: لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، نَهَى أَنْ يُبَاعَ حَتَّى بِمَيِّتٍ "، وَاخْتَارَ الْقَاضِي جَوَازَهُ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَهُ بِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَبِأَنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَمَنْ أَجَازَهُ، قَالَ: مَالُ الرِّبَا بِيعَ بِغَيْرِ أَصْلِهِ وَلَا جِنْسِهِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِالْأَثْمَانِ. وَإِنْ بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ جَازَ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْمُغْنِي. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ عَرَفْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ. فَعَلَى أَنَّ اللَّحْمَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ; فَمَنْعُ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ هُوَ الظَّاهِرُ. وَعَلَى أَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ ; فَبَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ الظَّاهِرُ فِيهِ الْجَوَازُ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ "، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 تَنْبِيهٌ. اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ مِنْ جِنْسِهِ: إِلَّا يَكُونَ اللَّحْمُ مَطْبُوخًا. فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا: جَازَ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَفَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَحَيَوَانٍ بِلَحْمِ جِنْسِهِ إِنْ لَمْ يُطْبَخْ. وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ ; بِأَنَّ الطَّبْخَ يَنْقُلُ اللَّحْمَ عَنْ جِنْسِهِ ; فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّحْمِ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ ; فَبَيْعُهُ بِالْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. هَكَذَا يَقُولُونَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمُكَلَّلَ بِاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - قَالَ فِيهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ الْعَامِّ عَلَى خَلْقِهِ عَاطِفًا عَلَى الْأَكْلِ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] ، وَهَذَا الْخِطَابُ خِطَابُ الذُّكُورِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [35 \ 12] ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ امْتِنَانًا عَامًّا بِمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ تَعَالَى عَلَى الرِّجَالِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ التَّحَلِّي بِالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمُكَلَّلَ بِاللُّؤْلُؤِ مَثَلًا، وَلَا أَعْلَمُ لِلتَّحْرِيمِ مُسْتَنَدًا إِلَّا عُمُومَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالزَّجْرِ الْبَالِغِ عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، كَالْعَكْسِ! قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «بَابُ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَشَبُّهَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ حَرَامٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلْعَنُ أَحَدًا إِلَّا عَلَى ارْتِكَابِ حَرَامٍ شَدِيدِ الْحُرْمَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجُلَ إِذْ لَبِسَ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ تَقْدِيمُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ خَبَرُ آحَادٍ، وَالْمُتَوَاتِرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْآحَادِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، وَالْآيَةَ خَاصَّةٌ فِي إِبَاحَةِ الْحِلْيَةِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْبَحْرِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّا لَمْ نَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَى سَنَدًا وَأَخَصَّ، فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ مِنْهَا ; وَقُوَّةُ الدَّلَالَةِ فِي نَصٍّ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَرْجَحُ مِنْ قُوَّةِ السَّنَدِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] ، يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ احْتِمَالًا قَوِيًّا: أَنَّ وَجْهَ الِامْتِنَانِ بِهِ أَنَّ نِسَاءَهُمْ يَتَجَمَّلْنَ لَهُمْ بِهِ، فَيَكُونُ تَلَذُّذُهُمْ وَتَمَتُّعُهُمْ بِذَلِكَ الْجَمَالِ وَالزِّينَةِ النَّاشِئِ عَنْ تِلْكَ الْحِلْيَةِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَإِسْنَادُ اللِّبَاسِ إِلَيْهِمْ لِنَفْعِهِمْ بِهِ، وَتَلَذُّذِهِمْ بِلُبْسِ أَزْوَاجِهِمْ لَهُ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ فَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ فِي لَعْنِ مَنْ تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَحَلِّيَ بِاللُّؤْلُؤِ مَثَلًا مُتَشَبِّهٌ بِهِنَّ ; فَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُهُ بِلَا شَكٍّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ لُبْسُ الثَّوْبِ الْمُكَلَّلِ بِاللُّؤْلُؤِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، لِوُرُودِ عَلَامَاتِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَا أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسَ اللُّؤْلُؤِ، إِلَّا لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ، فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِذَلِكَ ; لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ شَيْءٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ يُمْنَعُ الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهِمَا مُطْلَقًا، وَلَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ وَيُمْنَعُ لِلرِّجَالِ. وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ ; لِكَثْرَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ شَذَّ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ وَإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا قَلِيلًا مِنَ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهِمَا: فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا ; فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، وَلَفْظَةُ: «وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا» فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ: فَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ; فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ; فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَمَّا لُبْسُ الذَّهَبِ: فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَاهُمْ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ» ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقْرِنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: «نَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبْعٍ: نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ - أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ -، وَعَنِ الْحَرِيرِ، وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ، وَالْقِسِّيِّ، وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَأَمَرَنَا بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ» ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ قَرِيبٌ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا قَدَّمَ السَّبْعَ الْمَأْمُورَ بِهَا عَلَى السَّبْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ، أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُبْسَ الذَّهَبِ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّهُ إِذَا مَنَعَ الْخَاتَمَ مِنْهُ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَهُوَ كَالْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا جَوَازُ لُبْسِ النِّسَاءِ لِلْحَرِيرِ: فَلَهُ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ فَلَبِسْتُهَا فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِكَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُرْدَ حُلَّةٍ سِيَرَاءَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَإِبَاحَةُ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ كَالْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ. وَمُخَالَفَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهَا ; لِأَنَّهُ مَحْجُوجٌ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَاتِّفَاقِ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا جَوَازُ لُبْسِ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ: فَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا» ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ كَلَامٌ ; لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي مُوسَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ ; لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مُعْتَضِدٌ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا إِسْنَادُهُ مُقَارِبٌ، كَمَا بَيَّنَهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى، «بَابُ سِيَاقِ أَخْبَارٍ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ» ، وَسَاقَ أَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: «بَابُ سِيَاقِ أَخْبَارٍ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ» ، ثُمَّ سَاقَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ، وَذَكَرَ مِنْهَا حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ الْمَذْكُورَ عَنْ أَبِي مُوسَى، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ مِنْهَا أَيْضًا حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِلْيَةٌ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ أَهْدَاهَا لَهُ، فِيهَا خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُودٍ مُعْرِضًا عَنْهُ أَوْ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ دَعَا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بِنْتَ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ، فَقَالَ: «تَحَلِّي هَذَا يَا بُنَيَّةُ» ، وَذَكَرَ مِنْهَا أَيْضًا حَدِيثَ بِنْتِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهَا كَانَتْ هِيَ وَأُخْتَاهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ أَبَاهُنَّ أَوْصَى إِلَيْهِ بِهِنَّ، قَالَتْ: فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَلِّينَا بِالذَّهَبِ وَاللُّؤْلُؤِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «يُحَلِّينَا رِعَاثًا مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «يُحَلِّينَا التِّبْرَ وَاللُّؤْلُؤَ» ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَوَاحِدُ الرِّعَاثِ رُعْثَةٌ، وَرُعَثَةٌ وَهُوَ الْقُرْطُ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، وَاسْتَدْلَلْنَا بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَهُنَّ عَلَى نَسْخِ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِيهِنَّ خَاصَّةً. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مُوَافَقَةَ الْإِجْمَاعِ لِخَبَرِ الْآحَادِ تُصَيِّرُهُ قَطْعِيًّا لِاعْتِضَادِهِ بِالْقَطْعِيِّ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي «سُورَةِ التَّوْبَةِ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَتَحَصَّلَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَمَّا لُبْسُ الرِّجَالِ خَوَاتِمَ الْفِضَّةِ فَهُوَ جَائِزٌ بِلَا شَكٍّ، وَأَدِلَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ فِي السُّنَّةِ، وَمِنْ أَوْضَحِهَا خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفِضَّةِ الْمَنْقُوشُ فِيهِ: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ، الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ. حَتَّى سَقَطَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. أَمَّا لُبْسُ الرِّجَالِ لِغَيْرِ الْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَسَنُوَضِّحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَبِسَ مِنَ الْفِضَّةِ مِثْلَ مَا يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ مِنَ الْحُلِيِّ: كَالْخَلْخَالِ، وَالسِّوَارِ، وَالْقُرْطِ، وَالْقِلَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي مَنْعِهِ ; لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 بِالنِّسَاءِ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ فَهُوَ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا مَرَّ آنِفًا. وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَلْعُونًا عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ كَجَعْلِ الرَّجُلِ الْفِضَّةَ فِي الثَّوْبِ، وَاسْتِعْمَالِ الرَّجُلِ شَيْئًا مُحَلًّى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ ; فَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ، مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ تَخَتُّمِ الرَّجُلِ بِخَاتَمِ الْفِضَّةِ. وَالِاخْتِلَافُ فِي أَشْيَاءَ: كَالْمِنْطَقَةِ، وَآلَةِ الْحَرْبِ وَنَحْوِهِ، وَالْمُصْحَفِ. وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَعْلِ الْأَنْفِ مِنَ الذَّهَبِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ النُّصُوصِ مِنْ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى مَا نَصُّهُ: وَحَرُمَ اسْتِعْمَالُ ذَكَرٍ مُحَلًّى وَلَوْ مِنْطَقَةً وَآلَةَ حَرْبٍ ; إِلَّا السَّيْفَ وَالْأَنْفَ، وَرَبْطَ سِنٍّ مُطْلَقًا، وَخَاتَمَ فِضَّةٍ ; لَا مَا بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَلَوْ قَلَّ، وَإِنَاءَ نَقْدٍ وَاقْتِنَاؤُهُ وَإِنْ لِامْرَأَةٍ. وَفِي الْمُغَشَّى، وَالْمُمَوَّهِ، وَالْمُضَبَّبِ، وَذِي الْحَلْقَةِ، وَإِنَاءِ الْجَوْهَرِ، قَوْلَانِ. وَجَازَ لِلْمَرْأَةِ الْمَلْبُوسُ مُطْلَقًا وَلَوْ نَعْلًا لَا كَسَرِيرٍ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا نَصُّهُ: وَلَا يَتَحَلَّى الرَّجُلُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إِلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنَ الْفِضَّةِ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: «فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْحُلِيِّ:» فَالذَّهَبُ أَصْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَعَلَى الْإِبَاحَةِ لِلنِّسَاءِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ التَّخَتُّمُ بِهَا، وَهَلْ لَهُ مَا سِوَى الْخَاتَمِ مِنْ حُلِيِّ الْفِضَّةِ: كَالدُّمْلُجِ، وَالسِّوَارِ، وَالطَّوْقِ، وَالتَّاجِ ; فِيهِ وَجْهَانِ. قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْرِيمِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُقْنِعِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَيُبَاحُ لِلرِّجَالِ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ، وَفِي حِلْيَةِ الْمِنْطَقَةِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى قِيَاسِهَا الْجَوْشَنُ وَالْخُوذَةُ وَالْخُفُّ وَالرَّانُ وَالْحَمَائِلُ. وَمِنَ الذَّهَبِ قَبِيعَةُ السَّيْفِ. وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كُلُّ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ الْمُقْنِعِ. فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ آلَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا فِي أَشْيَاءَ اسْتَثْنَوْهَا عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُمْنَعُ لُبْسُ شَيْءٍ مِنَ الْفِضَّةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا تَحْرِيمٌ. قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 الْمُقْنِعِ: وَعَلَى قِيَاسِهَا الْجَوْشَنُ وَالْخُوذَةُ إِلَخْ، مَا نَصُّهُ: وَقَالَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ فِيهِ: وَلَا أَعْرِفُ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِضَّةِ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ. وَكَلَامُ شَيْخِنَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ لُبْسِهَا لِلرِّجَالِ، إِلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ - انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا: لُبْسُ الْفِضَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ، إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَإِذَا أَبَاحَتِ السُّنَّةُ خَاتَمَ الْفِضَّةِ دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَالتَّحْرِيمُ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَنَصَرَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَرَدَّ جَمِيعَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَصْحَابُ. انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْإِنْصَافِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ - عَنْ أَسِيدِ بْنِ أَبِي أَسِيدٍ الْبَرَّادِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلْقَةً مِنْ نَارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نَارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِبَاحَةِ لُبْسِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ. وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الرِّجَالِ لِلْفِضَّةِ فَقَدْ غَلِطَ ; بَلْ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الذَّهَبَ كَانَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الرِّجَالَ عَنْ تَحْلِيَةِ نِسَائِهِمْ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ لَهُمْ: «الْعَبُوا بِالْفِضَّةِ» ، أَيْ: حَلُّوا نِسَاءَكُمْ مِنْهَا بِمَا شِئْتُمْ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نُسِخَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ عَلَى النِّسَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ بِمَا يَلْبَسُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ ; بَلْ بِمَا يُحَلُّونَ بِهِ أَحْبَابَهُمْ، وَالْمُرَادُ نِسَاؤُهُمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ» ، «أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ» ، «أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ» ، وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يُطَوِّقَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يُسَوِّرَ نَفْسَهُ ; فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «فَالْعَبُوا بِهَا» ، أَيْ: حَلُّوا بِهَا أَحْبَابَكُمْ كَيْفَ شِئْتُمْ ; لِارْتِبَاطِ آخِرِ الْكَلَامِ بِأَوَّلِهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الرِّجَالِ أَنْ يَلْبَسُوا حِلَقَ الذَّهَبِ، وَلَا أَنْ يَطَّوَّقُوا بِالذَّهَبِ، وَلَا يَتَسَوَّرُوا بِهِ فِي الْغَالِبِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَنْ شَأْنُهُ لُبْسُ الْحَلْقَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وَالطَّوْقُ وَالسِّوَارُ مِنَ الذَّهَبِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ بِلَا شَكٍّ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَبَا دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ بَعْدَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلًا بِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ أُخْتٍ لِحُذَيْفَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، أَمَا لَكُنَّ فِي الْفِضَّةِ مَا تَحَلَّيْنَ بِهِ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تَحَلَّى ذَهَبًا تُظْهِرُهُ إِلَّا عُذِّبَتْ بِهِ» . حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثِنًّا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، ثَنَا يَحْيَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلَادَةً مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جَعَلَتْ فِي أُذُنِهَا خُرْصًا مِنْ ذَهَبٍ جُعِلَ فِي أُذُنِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: مَنْعُ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: «فَالْعَبُوا بِهَا» مَعْنَاهُ: فَحَلُّوا نِسَاءَكُمْ مِنَ الْفِضَّةِ بِمَا شِئْتُمْ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ. وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا تَرَى. وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ الْحَافِظَ الْبَيْهَقِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: «وَعَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا» ، فِي سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى النِّسَاءِ أَوَّلًا دُونَ الْفِضَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ قَالَ: وَاسْتَدْلَلْنَا بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَهُنَّ عَلَى نَسْخِ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِيهِنَّ خَاصَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، حَدِيثُ: «فَالْعَبُوا بِهَا» ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: «يُحَلِّقُ حَبِيبَهُ» ، «أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ» ، «أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَكَرٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْأُنْثَى لَقَالَ: حَبِيبَتَهُ بِتَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. فَالْجَوَابُ: أَنَّ إِطْلَاقَ الْحَبِيبِ عَلَى الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الشَّخْصِ الْحَبِيبِ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنَعَ النَّوْمَ بِالْعِشَاءِ الْهُمُومُ ... وَخَيَالٌ إِذَا تَغَارُ النُّجُومُ مِنْ حَبِيبٍ أَصَابَ قَلْبَكَ مِنْهُ سَقَمٌ ... فَهُوَ دَاخِلٌ مَكْتُومٌ وَمُرَادُهُ بِالْحَبِيبِ أُنْثَى ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 لَمْ تَفُتْهَا شَمْسُ النَّهَارِ بِشَيْءٍ ... غَيْرِ أَنَّ الشَّبَابَ لَيْسَ يَدُومُ وَقَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: لَئِنْ كَانَ بَرْدُ الْمَاءِ هَيْمَانَ ... صَادِيًا إِلَيَّ حَبِيبًا إِنَّهَا لَحَبِيبُ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلَا نُطِيلُ بِهِ الْكَلَامَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ لُبْسَ الْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَأَنَّ مَنْ لَبِسَهَا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ: «لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْحَرِيرُ: وَالدِّيبَاجُ ; هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ تَحْرِيمُ لُبْسِ الْفِضَّةِ ; لِأَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهَا يَحْرُمُ لُبْسُهَا بِلَا خِلَافٍ. وَمَا شَمِلَهُ عُمُومُ نَصٍّ ظَاهِرٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إِلَّا بِنَصٍّ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ ; كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي الشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ لَا فِي لُبْسِ الْفِضَّةِ؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، لَا سِيَّمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ مَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ اللُّبْسِ: كَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ. فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مَا يُفَسِّرُ هَذَا، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِضَّةِ الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهَا لَا لُبْسُهَا ; قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «بَابُ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ» ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ، إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ: «هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، «بَابُ آنِيَةِ الْفِضَّةِ» ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ ; فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، انْتَهَى. فَدَلَّ هَذَا التَّفْصِيلُ - الَّذِي هُوَ النَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ -: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَإِذَنْ فَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْفِضَّةِ ; لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِهَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهَا لَا لُبْسُهَا ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ. فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَامَّةٌ بِظَاهِرِهَا فِي الشُّرْبِ وَاللُّبْسِ مَعًا، وَالرِّوَايَاتُ الْمُقْتَصِرَةُ عَلَى الشُّرْبِ فِي آنِيَتِهَا دُونَ اللُّبْسِ ذَاكِرَةٌ بَعْضَ أَفْرَادِ الْعَامِّ، سَاكِتَةٌ عَنْ بَعْضِهَا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: «أَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ» ، وَهُوَ الْحَقُّ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ عَلَى الصَّحِيحِ: وَذِكْرُ مَا وَافَقَهُ مِنْ مُفْرَدٍ ... وَمَذْهَبُ الرَّاوِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ لَوْ كَانَ هُوَ مُرَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ الذَّهَبُ لَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهِ فَقَطْ، كَمَا زَعَمَ مُدَّعِي ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي الْفِضَّةِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» ، فَظَاهِرُهَا عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَلُبْسُ الذَّهَبِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا عَلَى الرِّجَالِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَقْوَاهَا، وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ فَهِمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ ; لِظُهُورِ وَجْهِهِ، هُوَ: أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، الَّتِي هِيَ: الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْحَرِيرُ، وَالدِّيبَاجُ، صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لِلْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآخِرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَمَتَّعُونَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الشَّرَابُ فِي آنِيَتِهِمَا. وَالثَّانِيَةُ: التَّحَلِّي بِهِمَا. وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لُبْسُهَا، وَحُكْمُ الِاتِّكَاءِ عَلَيْهِمَا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ لُبْسِهِمَا. فَتَعَيَّنَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. وَتَحْرِيمُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ مِنَ الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتِ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ: «هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 الْآخِرَةِ» ; لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ التَّمَتُّعُ بِالْفِضَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لَكَانَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الدِّيبَاجَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالسُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ. فَالسُّنْدُسُ: رَقِيقُ الدِّيبَاجِ. وَالْإِسْتَبْرَقُ: غَلِيظُهُ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلُبْسِ الذَّهَبِ وَالدِّيبَاجِ الَّذِي هُوَ السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ فِي «سُورَةِ الْكَهْفِ» ، فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ الْآيَةَ [18 \ 31] ، فَمَنْ لَبِسَ الذَّهَبَ وَالدِّيبَاجَ فِي الدُّنْيَا مُنِعَ مِنْ هَذَا التَّنَعُّمِ بِهِمَا الْمَذْكُورِ فِي «الْكَهْفِ» . ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فِي «سُورَةِ الْحَجِّ» ، فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ. [22 \ 23 - 24] . وَبَيَّنَ أَيْضًا تَنَعُّمَهُمْ بِلُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ فِي «سُورَةِ فَاطِرٍ» ، فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. الْآيَةَ [35 \ 33، 34] ، فَمَنْ لَبِسَ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مُنِعَ مِنْ هَذَا التَّنَعُّمِ بِهِمَا الْمَذْكُورِ فِي «سُورَةِ الْحَجِّ وَفَاطِرٍ» . وَذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - تَنَعُّمَهُمْ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ فِي «سُورَةِ الْإِنْسَانِ» ، فِي قَوْلِهِ: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [76 \ 12] ، وَفِي «الدُّخَانِ» بِقَوْلِهِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ الْآيَةَ [44 \ 51 - 53] ، فَمَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مُنِعَ مِنْ هَذَا التَّنَعُّمِ بِهِ الْمَذْكُورِ فِي «سُورَةِ الْإِنْسَانِ وَالدُّخَانِ» . وَذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - تَنَعُّمَهُمْ بِالِاتِّكَاءِ عَلَى الْفُرُشِ الَّتِي بَطَائِنُهَا «مِنْ إِسْتَبْرَقٍ» فِي «سُورَةِ الرَّحْمَنِ» ، بِقَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ. الْآيَةَ [55 \ 54] . فَمَنِ اتَّكَأَ عَلَى الدِّيبَاجِ فِي الدُّنْيَا مُنِعَ هَذَا التَّنَعُّمَ الْمَذْكُورَ فِي «سُورَةِ الرَّحْمَنِ» . وَذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلُبْسِ الدِّيبَاجِ، الَّذِي هُوَ السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ وَلُبْسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 الْفِضَّةِ فِي «سُورَةِ الْإِنْسَانِ» أَيْضًا، فِي قَوْلِهِ: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [76 \ 21] . فَمَنْ لَبِسَ الدِّيبَاجَ أَوِ الْفِضَّةَ فِي الدُّنْيَا مُنِعَ مِنَ التَّنَعُّمِ بِلُبْسِهِمَا الْمَذْكُورِ فِي «سُورَةِ الْإِنْسَانِ» ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، فَلَوْ أُبِيحَ لُبْسُ الْفِضَّةِ فِي الدُّنْيَا مَعَ قَوْلِهِ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [76 \ 21] ; لَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» . وَذَكَرَ تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ فِي «سُورَةِ الزُّخْرُفِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ الْآيَةَ [43 \ 71] ، فَمَنْ شَرِبَ فِي الدُّنْيَا فِي أَوَانِي الذَّهَبِ مُنِعَ مِنْ هَذَا التَّنَعُّمِ بِهَا الْمَذْكُورِ فِي «الزُّخْرُفِ» . وَذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ فِي «سُورَةِ الْإِنْسَانِ» ، فِي قَوْلِهِ: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [76 \ 15 - 18] ، فَمَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ فِي الدُّنْيَا مُنِعَ هَذَا التَّنَعُّمَ بِهَا الْمَذْكُورَ فِي «سُورَةِ الْإِنْسَانِ» ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الْمُصَنَّفِ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْفِضَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تبْبِيه. فَإِنْ قِيلَ: عُمُومُ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الْمَذْكُورِ الَّذِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ، وَبَيَانُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِلُبْسِ الْفِضَّةِ وَالشُّرْبِ فِيهَا، وَقُلْتُمْ: إِنَّ كَوْنَهُ وَارِدًا فِي الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ لَا يَجْعَلُهُ خَاصًّا بِذَلِكَ ; فَمَا الدَّلِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ فالجواب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عمّا معناه. هل أن العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ فأجاب بما معناه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً ; فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [11 \ 114] ، قَالَ الرَّجُلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 أَلِيَ هَذِهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي» اهـ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ فِي «سُورَةِ هُودٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ، قَالَ: «لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» اهـ. فَهَذَا الَّذِي أَصَابَ الْقُبْلَةَ مِنَ الْمَرْأَةِ نَزَلَتْ فِي خُصُوصِهِ آيَةٌ عَامَّةُ اللَّفْظِ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلِيَ هَذِهِ؟ وَمَعْنَى ذَلِكَ: هَلِ النَّصُّ خَاصٌّ بِي لِأَنِّي سَبَبُ وُرُودِهِ؟ أَوْ هُوَ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِجَمِيعِ أُمَّتِي» مَعْنَاهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ لَفْظِ: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «وَتَرَى الْفُلْكَ» [16 \ 14] ، أَيْ: السُّفُنَ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ: «الْفُلْكَ» يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، وَأَنَّهُ إِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ ذُكِّرَ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمْعِ أُنِّثَ، فَأَطْلَقَهُ عَلَى الْمُفْرَدِ مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ: «وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ» [36 \ 41، 42] ، وَأَطْلَقَهُ عَلَى الْجَمْعِ مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ [2 \ 164] ، وَقَوْلِهِ: مَوَاخِرَ [16 \ 14] ، جَمْعُ مَاخِرَةٍ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ، مَخَرَتِ السَّفِينَةُ تَمْخَرُ - بِالْفَتْحِ - وَتَمْخُرُ - بِالضَّمِّ - مَخْرًا وَمُخُورًا: جَرَتْ فِي الْبَحْرِ تَشُقُّ الْمَاءَ مَعَ صَوْتٍ. وَقِيلَ: اسْتَقْبَلَتِ الرِّيحَ فِي جَرْيَتِهَا. وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [16 \ 14] ، أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [16 \ 14] ، وَلَعَلَّ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالشُّكْرُ فِي الشَّرْعِ: يُطْلَقُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [16 \ 14] ، وَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: هُوَ اسْتِعْمَالُهُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا فِي طَاعَتِهِ. وَأَمَّا مَنْ يَسْتَعِينُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ فَلَيْسَ مِنَ الشَّاكِرِينَ ; وَإِنَّمَا هُوَ كَنُودٌ كَفُورٌ. وَشُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [2 \ 158] ، وَقَوْله إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [35 \ 34] ، هُوَ أَنْ يُثِيبَ عَبْدَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَرْبَعَ نِعَمٍ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى خَلْقِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ عَظِيمَ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِهَا: الْأُولَى: إِلْقَاؤُهُ الْجِبَالَ فِي الْأَرْضِ لِتَثْبُتَ وَلَا تَتَحَرَّكَ، وَكَرَّرَ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [78 \ 6 - 7] ، وَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ الْآيَةَ [21 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ [77 \ 27] ، وَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ الْآيَةَ [31 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [79 \ 32] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَمَعْنَى تَمِيدُ: تَمِيلُ وَتَضْطَرِبُ. وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: كَرَاهَةُ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ ; وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. الثَّانِيَةُ: إِجْرَاؤُهُ الْأَنْهَارَ فِي الْأَرْضِ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْهَارًا [16 \ 15] ، وَكَرَّرَ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ الِامْتِنَانَ بِتَفْجِيرِهِ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ لِخَلْقِهِ: كَقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ الْآيَةَ [14 \ 32 - 33] ، وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 68 - 70] ، وَقَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ الْآيَةَ [36 \ 34 - 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الثَّالِثَةُ: جَعْلُهُ فِي الْأَرْضِ سُبُلًا يَسْلُكُهَا النَّاسُ، وَيَسِيرُونَ فِيهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِمُ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَسُبُلًا، وَهُوَ جَمْعُ سَبِيلٍ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ. وَكَرَّرَ الِامْتِنَانَ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [21 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [71 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا [20 \ 52، 53] . وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا الْآيَةَ [67 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [43 \ 9 - 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الرَّابِعَةُ: جَعْلُهُ الْعَلَامَاتِ لِبَنِي آدَمَ ; لِيَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [16 \ 16] ، وَقَدْ ذُكِرَ الِامْتِنَانُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْآيَةَ [6 \ 97] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْآيَةَ، تَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِحْصَاءِ نِعَمِ اللَّهِ لِكَثْرَتِهَا عَلَيْهِمْ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [16 \ 18] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْصِيرِ بَنِي آدَمَ فِي شُكْرِ تِلْكَ النِّعَمِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ذَلِكَ التَّقْصِيرَ فِي شُكْرِ النِّعَمِ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَفْهُومَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [14 \ 34] . بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْهُ - جَلَّ وَعَلَا -، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [16 \ 53] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ وَأُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، أَنَّهُ يَعُمُّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ; لِأَنَّ: «نِعْمَةَ اللَّهِ» [16 \ 18] مُفْرَدٌ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَعَمَّ النِّعَمَ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ: أَوْ بِإِضَافَةٍ إِلَى مُعَرَّفٍ إِذَا تَحَقَّقَ الْخُصُوصُ قَدْ نُفِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سُئِلُوا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَإِنَّمَا هَذَا الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، نَقَلَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ أَوْ إِسْطَارَةٍ، وَهِيَ الشَّيْءُ الْمَسْطُورُ فِي كُتُبِ الْأَقْدَمِينَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَبَاطِيلِ. أَصْلُهَا مِنْ سَطَرَ: إِذَا كَتَبَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [52 \ 2] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَسَاطِيرُ: التُّرَّهَاتُ وَالْأَبَاطِيلُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [25 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [8 \ 31] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: مَاذَا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «ذَا» مَوْصُولَةً وَ «مَا» مُبْتَدَأً، وَجُمْلَةُ «أُنْزِلَ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُمَا اسْمًا وَاحِدًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ «أَنْزَلَ» ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَثَلُ مَاذَا بَعْدُ مَا اسْتِفْهَامٍ ... أَوْ مَنْ إِذَا لَمْ تَلْغُ فِي الْكَلَامِ وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَذِبَ الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ: أَنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ الْآيَةَ [25 \ 6] ، وَبِقَوْلِهِ هُنَا: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [16 \ 25] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَصْرِفُونَ النَّاسَ عَنِ الْقُرْآنِ بِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، تَحَمَّلُوا أَوْزَارَهُمْ - أَيْ: ذُنُوبَهُمْ - كَامِلَةً، وَبَعْضَ أَوْزَارِ أَتْبَاعِهِمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي الضَّلَالِ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّبْعِيضِ الَّذِي هُوَ " وَمِنْ "، فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ الْآيَةَ [16 \ 25] . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: " مَنْ " لِبَيَانِ الْجِنْسِ ; فَهُمْ يَحْمِلُونَ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنْ أَضَلُّوهُمْ كَامِلَةً. وَأَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [39 \ 13] ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ " لِيَحْمِلُوا " تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، أَيْ: قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الْقُرْآنِ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ; لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ. تَنْبِيهٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ تَحَمُّلِهِمْ بَعْضَ أَوْزَارِ غَيْرِهِمُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [16 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ الْآيَةَ [29 \ 13] ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [35 \ 18] ، وَيَقُولُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا [6 \ 164] ، وَيَقُولُ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [2 \ 134، 2 - 141] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 فَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ رُؤَسَاءَ الضَّلَالِ وَقَادَتَهُ تَحَمَّلُوا وِزْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وِزْرُ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالثَّانِي: وِزْرُ إِضْلَالِهِمْ غَيْرَهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا. وَإِنَّمَا أُخِذَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَنَّهُ وَتَسَبَّبَ فِيهِ، فَعُوقِبَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِهِ، فَصَارَ غَيْرَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ الْآيَةَ [35 \ 18] . وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمُ الصُّوفُ، فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ، قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبْطَؤُوا عَنْهُ حَتَّى رُؤِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرَقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " اه. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَأَخْرَجَهُ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ". وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا " اه. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْإِشْكَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ حَسَنَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي صَحِيفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَهُ مَثَلُ أُجُورِ جَمِيعِهِمْ ; لِأَنَّهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - هُوَ الَّذِي سَنَّ لَهُمُ السُّنَنَ الْحَسَنَةَ جَمِيعَهَا فِي الْإِسْلَامِ، نَرْجُو اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وَأَنْ يُصَلِّيَ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَتَمَّ صَلَاةٍ وَأَزْكَى سَلَامٍ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) [16 \ 25] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بَعْدَ إِبْلَاغِ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ، الَّذِي لَا لُبْسَ مَعَهُ فِي الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 كَفْرَهُ هُدًى ; لِأَنَّهُ مَا مَنَعَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مَعَ ظُهُورِهِ إِلَّا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ لِلْكُفْرِ، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي " الْأَعْرَافِ " ; كَقَوْلِهِ: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [7 \ 30] ، وَقَوْلُهُ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [18 \ 103 - 104] ، وَقَوْلُهُ: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [39 \ 47] ، وَحَمْلُهُمْ أَوْزَارَهُمْ هُوَ اكْتِسَابُهُمُ الْإِثْمَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ تَرَدِّيهِمْ فِي النَّارِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى حَمْلِهِمْ أَوْزَارَهُمْ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْتَقْبِلُهُ شَيْءٌ كَأَقْبَحِ صُورَةٍ، وَأَنْتَنِهَا رِيحًا ; فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَوْ مَا تَعْرِفُنِي! فَيَقُولُ: لَا وَلِلَّهِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَبَّحَ وَجْهَكَ! أَنْتَنَ رِيحَكَ! فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، كُنْتَ فِي الدُّنْيَا خَبِيثَ الْعَمَلِ مُنْتِنَهُ فَطَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا! هَلُمَّ أَرْكَبُكَ الْيَوْمَ ; فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ اه. وَقَوْلُهُ (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [16 \ 25] ، (سَاءَ) فِعْلٌ جَامِدٌ ; لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ بِمَعْنَى بِئْسَ، وَ (مَا) ، فِيهَا الْوَجْهَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا مُمَيَّزٌ وَقِيلَ فَاعِلٌ ... فِي نَحْوِ نَعَمْ يَقُولُ الْفَاضِلُ وَقَوْلُهُ (يَزِرُونَ) ، أَيْ: يَحْمِلُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْمَلُونَ. اه. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ قَدْ مَكَرُوا. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا [13 \ 42] ، وَقَوْلِهِ: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [14 \ 46] . وَبَيَّنَ بَعْضَ مَكْرِ كَفَّارِ مَكَّةَ، بِقَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ [8 \ 30] . وَذَكَرَ بَعْضَ مَكْرِ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [3 \ 54] . وَبَيَّنَ بَعْضَ مَكْرِ قَوْمِ صَالِحٍ، بِقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ [27 \ 50، 51] . وَذَكَرَ بَعْضَ مَكْرِ قَوْمِ نُوحٍ بِقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 آلِهَتَكُمُ الْآيَةَ [71 \ 22 - 23] . وَبَيَّنَ مَكْرَ رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ الْآيَةَ [34 \ 33] ، وَالْمَكْرُ: إِظْهَارُ الطَّيِّبِ وَإِبْطَانُ الْخَبِيثِ، وَهُوَ الْخَدِيعَةُ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ الْمَكْرَ السَّيِّئَ لَا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إِلَّا عَلَى فَاعِلِهِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 43] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ، أَيِ: اجْتَثَّهُ مِنْ أَصْلِهِ وَاقْتَلَعَهُ مِنْ أَسَاسِهِ ; فَأَبْطَلَ عَمَلَهُمْ وَأَسْقَطَ بُنْيَانَهُمْ. وَهَذَا الَّذِي فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هُمْ نُمْرُوذٌ وَقَوْمُهُ - كَمَا قَدَّمْنَا فِي «سُورَةِ الْحِجْرِ» - فَعَلَ مِثْلَهُ أَيْضًا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. فَأَبْطَلَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَيُدَبِّرُونَ ; كَقَوْلِهِ: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [7 \ 137] ، وَقَوْلُهُ: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [5 \ 64] ، وَقَوْلُهُ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [59 \ 2] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ، أَيْ: يَفْضَحُهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَيُهِينُهُمْ بِإِظْهَارِ فَضَائِحَهُمْ، وَمَا كَانَتْ تَجْنِهِ ضَمَائِرُهُمْ، فَيَجْعَلُهُ عَلَانِيَةً. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [100 \ 9 - 10] ، أَيْ: أَظْهَرَ عَلَانِيَةً مَا كَانَتْ تُكِنُّهُ الصُّدُورُ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [86 \ 9] . وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ فَقَدْ نَالَهُ هَذَا الْخِزْيُ الْمَذْكُورُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [3 \ 192] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» إِيضَاحَ مَعْنَى الْخِزْيِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَسْأَلُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَيْنَ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي كُنْتُمْ تُخَاصِمُونَ رُسُلِي وَأَتْبَاعَهُمْ بِسَبَبِهَا، قَائِلِينَ: إِنَّكُمْ لَا بُدَّ لَكُمْ أَنْ تُشْرِكُوهَا مَعِي فِي عِبَادَتِي؟ وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [28 \ 62، 28 \ 74] ، وَقَوْلِهِ: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [26 \ 92، 93] ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا الْآيَةَ [40 \ 73 - 74] ، وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ... } الْآيَةَ [7 \ 37] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: شُرَكَائِيَ [16 \ 27] ، بِالْهَمْزَةِ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ الْبِزِّي أَنَّهُ قَرَأَ «شُرَكَايَ» ، بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ هَمْزٍ، وَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُشَاقُّونَ [16 \ 27] ، بِنُونِ الرَّفْعِ مَفْتُوحَةً مَعَ حَذْفِ الْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: «تُشَاقُّونِ» بِكَسْرِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ الَّتِي هِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِالْكَسْرَةِ مَعَ حَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ ; لِجَوَازِ حَذْفِهَا مِنْ غَيْرِ نَاصِبٍ وَلَا جَازِمٍ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ نُونِ الْوِقَايَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ فِي «سُورَةِ الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَي [15 \ 54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، أَيْ: الِاسْتِسْلَامَ وَالْخُضُوعَ. وَالْمَعْنَى: أَظْهَرُوا كَمَالَ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، وَتَرَكُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّقَاقِ. وَذَلِكَ عِنْدَمَا يُعَايِنُونَ الْمَوْتَ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَعْنِي: أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا يُشَاقُّونَ الرُّسُلَ، أَيْ: يُخَالِفُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ، فَإِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ أَلْقَوُا السَّلَمَ، أَيْ: خَضَعُوا وَاسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِلْقَاءِ السَّلَمِ: الْخُضُوعُ وَالِاسْتِسَلَامُ، قَوْلُهُ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [4 \ 94] ، عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ بِلَا أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ. بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ الْآيَةَ [4 \ 91] . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ: الصُّلْحُ وَالْمُهَادَنَةُ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْمُصَالِحَ مُنْقَادٌ مُذْعِنٌ لِمَا وَافَقَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ السُّوءِ. وَقَوْلُهُ: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [16 \ 78] ، فَكُلُّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ. وَالِانْقِيَادُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ لَا يَنْفَعُ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الْآيَةَ [4 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا الْآيَةَ [40 \ 85] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 وَقَوْلِهِ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 91] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ أَلْقَوُا السَّلَمَ، وَقَالُوا: «مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» [16 \ 28] ، فَقَوْلُهُ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، مَعْمُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ بِلَا خِلَافٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ السُّوءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَالْمَعَاصِي. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ كَذِبَهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [16 \ 28] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَمَا ذَكَرَ هُنَا. وَبَيَّنَ كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [6 \ 23 - 24] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ [40 \ 74] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [58 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [25 \ 22] ، أَيْ: حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ تَمَسُّونَا بِسُوءٍ ; لِأَنَّا لَمْ نَفْعَلْ مَا نَسْتَحِقُّ بِهِ ذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: «بَلَى» [16 \ 28] ، تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ. تَنْبِيهٌ. لَفْظَةُ: «بَلَى» لَا تَأْتِي فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا: الْأَوَّلُ: أَنْ تَأْتِيَ لِإِبْطَالِ نَفْيٍ سَابِقٍ فِي الْكَلَامِ، فَهِيَ نَقِيضَةُ «لَا» ; لِأَنَّ «لَا» لِنَفْيِ الْإِثْبَاتِ، وَ «بَلَى» ، لِنَفْيِ النَّفْيِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [16 \ 28] ، فَهَذَا النَّفْيُ نَفَتْهُ لَفْظَةُ «بَلَى» ، أَيْ: كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ السُّوءَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَكَقَوْلِهِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [64 \ 7] ، وَكَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [34 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [2 \ 111] ، فَإِنَّهُ نَفَى هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ الْآيَةَ [2 \ 112] ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِاسْتِفْهَامٍ مُقْتَرِنٍ بِنَفْيٍ خَاصَّةً ; كَقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [7 \ 172] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى [36 \ 81] ، وَقَوْلِهِ: أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى [40 \ 50] ، وَهَذَا أَيْضًا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِنَفْيٍ فَجَوَابُهُ بِ «، نَعَمْ» لَا بِـ «، بَلَى» ، وَجَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقْتَرِنِ بِنَفْيٍ وَ «نَعَمْ» مَسْمُوعٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ ; كَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو وَإِيَّانَا ... فَذَاكَ لَنَا تَدَانِي نَعَمْ، وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي فَالْمَحَلُّ لِـ «بَلَى» لَا لِـ «نَعَمْ» فِي هَذَا الْبَيْتِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَكْتُمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [16 \ 28] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ حَدِيثًا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [4 \ 42] . فَالْجَوَابُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: «وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» ; فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَالْكَتْمُ بِاعْتِبَارِ النُّطْقِ بِالْجُحُودِ وَبِالْأَلْسِنَةِ، وَعَدَمُ الْكَتْمِ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ أَعْضَائِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا عَدَدَ أَبْوَابِهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي «سُورَةِ الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [15 \ 44] ، أَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُعِيذَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَمِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِهَا ; إِنَّهُ رَحِيمٌ كَرِيمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُتَّقِينَ إِذَا سُئِلُوا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالُوا: أَنْزَلَ عَلَيْهِ خَيْرًا ; أَيْ: رَحْمَةً وَهُدًى وَبَرَكَةً لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ. وَيُفْهَمُ مِنْ صِفَةِ أَهْلِ هَذَا الْجَوَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ - أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِينَ يُجِيبُونَ جَوَابًا غَيْرَ هَذَا. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ عَنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [156 \ 24] ، كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ الدُّنْيَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ الْآيَةَ [10 \ 26] ، وَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ. وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ. وَقَوْلِهِ: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [563 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [55 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [28 \ 84] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: حَسَنَةٌ، أَيْ: مُجَازَاةٌ حَسَنَةٌ بِالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا. وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا. وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ الْآيَةَ [28 \ 80] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ، وَقَوْلِهِ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَقَوْلِهِ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [932 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [3 \ 14 - 15] ، وَقَوْلُهُ، خَيْرٌ [16 \ 30] ، صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهَا ; لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ تَخْفِيفًا. وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْكَافِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَغَالِبًا أَغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرْ ... عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرْ وَإِنَّمَا قِيلَ لِتِلْكَ الدَّارِ: الدَّارُ الْآخِرَةُ ; لِأَنَّهَا هِيَ آخِرُ الْمَنَازِلِ، فَلَا انْتِقَالَ عَنْهَا الْبَتَّةَ إِلَى دَارٍ أُخْرَى. وَالْإِنْسَانُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا يَنْتَقِلُ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ. فَأَوَّلُ ابْتِدَائِهِ مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ أَصْلِ التُّرَابِ إِلَى أَصْلِ النُّطْفَةِ، ثُمَّ إِلَى الْعَلَقَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمُضْغَةِ، ثُمَّ إِلَى الْعِظَامِ، ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 كَسَا اللَّهُ الْعِظَامَ لَحْمًا، وَأَنْشَأَهَا خَلْقًا آخَرَ، وَأَخْرَجَهُ لِلْعَالَمِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْقَبْرِ، ثُمَّ إِلَى الْمَحْشَرِ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [99 \ 6] ، فَسَالِكٌ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَسَالِكٌ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [30 \ 14 - 16] . فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ - فَعِنْدَ ذَلِكَ تُلْقَى عَصَا التَّسْيَارِ، وَيُذْبَحُ الْمَوْتُ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَبْقَى ذَلِكَ دَائِمًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَلَا تَحَوُّلَ عَنْهُ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ. فَهَذَا مَعْنَى وَصْفِهَا بِالْآخِرَةِ ; كَمَا أَوْضَحَهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [23 \ 12 - 16] . تَنْبِيهٌ. أَضَافَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ الدَّارَ هِيَ الْآخِرَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ الْآيَةَ [16 \ 30] ، بِتَعْرِيفِ الدَّارِ وَنَعْتِهَا بِالْآخِرَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ ... مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ فَإِنَّ لَفْظَ «الدَّارِ» يُؤَوَّلُ بِمُسَمَّى الْآخِرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا (دَفْعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي «سُورَةِ فَاطِرٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: «وَمَكْرَ السَّيِّئِ» [35 \ 43] : أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ بِلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ - أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِتَنْزِيلِ التَّغَايُرِ فِي اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الْمَعْنَى. وَبَيَّنَّا كَثْرَتَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، مَدَحَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - دَارَ الْمُتَّقِينَ الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ «نِعْمَ» ، فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الْمَدْحِ. وَكَرَّرَ الثَّنَاءَ عَلَيْهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; لِأَنَّ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ [32 \ 17] ، وَقَالَ: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [76 \ 20] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَدْخُلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَّاتِ عَدْنٍ. وَالْعَدْنُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْإِقَامَةُ. فَمَعْنَى «جَنَّاتُ عَدْنٍ» : جَنَّاتُ إِقَامَةٍ فِي النَّعِيمِ، لَا يَرْحَلُونَ عَنْهَا، وَلَا يَتَحَوَّلُونَ. وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا بِلَفْظَةِ «عَدْنٍ» ، كَقَوْلِهِ: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [18 \ 108] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [35 \ 35] ، وَالْمُقَامَةُ: الْإِقَامَةُ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي التَّصْرِيفِ: أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَالْمَصْدَرُ الْمِيمِيُّ مِنْهُ، وَاسْمُ الزَّمَانِ، وَاسْمُ الْمَكَانِ كُلُّهَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [44 \ 51] ، عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ مِنَ الْإِقَامَةِ. وَقَوْلِهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [18 \ 2 - 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [16 \ 31] . بَيَّنَ أَنْوَاعَ تِلْكَ الْأَنْهَارِ فِي قَوْلِهِ: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، إِلَى قَوْلِهِ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [47 \ 15] ، وَقَوْلُهُ هُنَا: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ [16 \ 31] ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [50 \ 35] ، وَقَوْلِهِ: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [43 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا، وَقَوْلِهِ: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [39 \ 34] ، وَقَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [41 \ 31 - 32] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [16 \ 31] . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ تُنَالُ الْجَنَّةُ. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [19 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [3 \ 133] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 [15 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [52 \ 17] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَمْتَثِلُونَ أَوَامِرَ رَبِّهِمْ، وَيَجْتَنِبُونَ نَوَاهِيَهُ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ; أَيْ: يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ طَيِّبِينَ، أَيْ: طَاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي - عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ - وَيُبَشِّرُونَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [41 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [39 \ 73] ، وَقَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [13 \ 23 - 24] ، وَالْبِشَارَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهَا بِشَارَةٌ بِالْخَيْرِ بَعْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْآخِرَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ صِفَاتٍ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخَلُوا الْجَنَّةَ - أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَّصِفُوا بِالتَّقْوَى لَمْ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الْكَرِيمَةِ، وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ تُبَشِّرْهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ الْآيَةَ [16 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، إِلَى قَوْلِهِ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [4 \ 97] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ الْآيَةَ [8 \ 50] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [16 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ [16 \ 32] ، قَرَأَهُمَا عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ حَمْزَةَ: «تَتَوَفَّاهُمْ» بِتَاءَيْنِ فَوْقِيَّتَيْنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ «يَتَوَفَّاهُمْ» بِالْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. تَنْبِيهٌ. أَسْنَدَ هُنَا - جَلَّ وَعَلَا - التَّوَفِّيَ لِلْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ [16 \ 32] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وَأَسْنَدَهُ فِي «السَّجْدَةِ» ، لِمَلَكِ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [32 \ 11] ، وَأَسْنَدَهُ فِي «الزُّمَرِ» إِلَى نَفْسِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الْآيَةَ [39 \ 42] ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا (دَفْعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «السَّجْدَةِ» : أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِسْنَادُهُ التَّوَفِّي لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [3 \ 145] ، وَأَسْنَدَهُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَنْزِعُونَ الرُّوحَ مِنَ الْجَسَدِ إِلَى الْحُلْقُومِ فَيَأْخُذُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَاجْتِنَابِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ; لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَنَفْيُهَا هُوَ خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَإِثْبَاتُهَا هُوَ إِفْرَادُهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ بِإِخْلَاصٍ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ -. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ عَنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. فَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ مَعَ عُمُومِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] ، وَقَوْلُهُ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [43 \ 45] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ مَعَ الْخُصُوصِ فِي إِفْرَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [7 \ 59] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [7 \ 65] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [7 \ 73] ، وَقَوْلُهُ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [7 \ 85] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَهُوَ طَاغُوتٌ، وَلَا تَنْفَعُ عِبَادَةُ اللَّهِ إِلَّا بِشَرْطِ اجْتِنَابِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [2 \ 265] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [12 \ 106] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا الرُّسُلُ بِالتَّوْحِيدِ مِنْهُمْ سَعِيدٌ، وَمِنْهُمْ شَقِيٌّ. فَالسَّعِيدُ مِنْهُمْ: يَهْدِيهِ اللَّهُ إِلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالشَّقِيُّ مِنْهُمْ: يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُكَذِّبُ الرُّسُلَ، وَيَكْفُرُ بِمَا جَاءُوا بِهِ. فَالدَّعْوَةُ إِلَى دِينِ الْحَقِّ عَامَّةٌ، وَالتَّوْفِيقُ لِلْهُدَى خَاصٌّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [10 \ 25] ، فَقَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ [16 \ 36] ، أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَقَوْلِهِ: مَنْ هَدَى اللَّهُ، أَيْ: وَفَّقَهُ لِاتِّبَاعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ الَّذِي هُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مِنْجَلِي فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبَ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبُ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [16 \ 36] ، أَيْ: وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَزِمَتْهُ ; لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الشَّقَاوَةِ. وَالْمُرَادُ بِالضَّلَالَةِ: الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] ، وَقَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [11 \ 105] ، وَقَوْلُهُ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [42 \ 78] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّنْ نَّاصِرِينَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ حِرْصَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ لَا يَهْدِي مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ شَقِيٌّ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [28 \ 56] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [5 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [7 \ 186] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [6 \ 125] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [16 \ 37] ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ ; وَمَنْ «يَهْدِي» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ نَائِبِ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا يُهْدَى، أَيْ: لَا هَادِيَ لَهُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ، مَنْ «يَهْدِي» ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ، مَفْعُولٌ بِهِ لِ يَهْدِي، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ. وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِيمَنْ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فِي عِلْمِ اللَّهِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُمْ قَدْ يَكُونُ ضَالًّا ثُمَّ يَهْدِيهِ اللَّهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ مَا دَامَ فِي إِضْلَالِهِ لَهُ ; فَإِنْ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ الضَّلَالَةَ هَذِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ هُدَاهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ حَلَفُوا جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ - أَيِ: اجْتَهَدُوا فِي الْحَلِفِ - وَغَلَّظُوا الْأَيْمَانَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ. وَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [16 \ 38] ، وَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ هَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ هُنَا مِنْ إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ وَتَكْذِيبِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ الْآيَةَ [64 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 78، 79] ، وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [17 \ 51] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: بَلَى [16 \ 38] ، نَفْيٌ لِنَفْيِهِمُ الْبَعْثَ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَوْلُهُ: وَعْدًا، مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ «بَلَى» ; لِأَنَّ «، بَلَى» تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِهِمْ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ. وَنَفْيُ هَذَا النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، مَعْنَاهُ: لَتُبْعَثُنَّ. وَهَذَا الْبَعْثُ الْمَدْلُولُ عَلَى إِثْبَاتِهِ بِلَفْظَةِ: «بَلَى» فِيهِ مَعْنَى وَعْدِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ. فَقَوْلُهُ: وَعْدًا [16 \ 38] مُؤَكِّدٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرٌ أَيْضًا، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَعْدًا، وَحَقَّهُ حَقًّا، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 مُؤَكِّدٌ أَيْضًا لِمَا دَلَّتْ «بَلَى» ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [16 \ 39] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [16 \ 39] ، تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: «بَلَى» ، أَيْ: يَبْعَثُهُمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. . إِلَخْ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَمُوتُ ; لِأَنَّهُ شَامِلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا الْآيَةَ [16 \ 36] ، أَيْ: بَعَثْنَاهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. . إِلَخْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنَّ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِهِ شَيْءٌ، وَإِذْ يَقُولُ لِلشَّيْءِ: «كُنْ» ، فَيَكُونُ بِلَا تَأْخِيرٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [16 \ 38] ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَذِبَهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا، بَيَّنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا قَالَ لِشَيْءٍ «كُنْ» كَانَ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 \ 82] . وَبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَهُ: «كُنْ» ، بَلْ إِذَا قَالَ لِلشَّيْءِ «كُنْ» مَرَّةً وَاحِدَةً، كَانَ فِي أَسْرَعِ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ، فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [54 \ 50] ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [16 \ 77] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْآيَةَ [3 \ 59] ، وَقَالَ: خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [31 \ 28] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنِ الْمُرَادِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِاسْمِ الشَّيْءِ ; لِأَنَّ تَحَقُّقَ وُقُوعِهِ كَالْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ، فَلَا تُنَافِي الْآيَةُ إِطْلَاقَ الشَّيْءِ عَلَى خُصُوصِ الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كَانَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِهِ ; أَوْ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ وَجُودِهِ الْمُتَوَقَّعِ، كَتَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [12 \ 36] ، نَظَرًا إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي ثَانِي حَالٍ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ «فَيَكُونُ» [16 \ 40] ، بِفَتْحِ النُّونِ مَنْصُوبًا بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ نَقُولَ. وَقِيلَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 مَنْصُوبٌ بِأَنَّ الْمُضْمَرَةَ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهُوَ يَكُونُ. وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُولُ لَهُ كُنْ قَوْلَةً فَيَكُونُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: «لِشَيْءٍ» ، وَقَوْلِهِ: «لَهُ» لِلتَّبْلِيغِ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ قَبْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا رِجَالًا، أَيْ: لَا مَلَائِكَةً. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَغْرَبُوا جِدًّا بَعْثَ اللَّهِ رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ، وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُرْسِلَ بَشَرًا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ; فَلَوْ كَانَ مُرْسِلًا أَحَدًا حَقًّا لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [10 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [50 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ الْآيَةَ [64 \ 6] ، وَقَوْلِهِ، أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ. . . الْآيَةَ [54 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [23 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 \ - 34] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْآيَةَ [14 \ 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ اللَّهَ مَا أَرْسَلَ لِبَنِي آدَمَ إِلَّا رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ، وَهُمْ رِجَالٌ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَتَزَوَّجُونَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْآيَةَ [16 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 20] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [21 \ 7، 8] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [13 \ 38] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ. . . الْآيَةَ [46 \ 9] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ هَذَا الْحَرْفَ: " يُوحَى إِلَيْهِمْ " بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ " نُوحِي إِلَيْهِمْ " [16 \ 43] ، بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ " يُوسُفَ ": " إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى " [12 \ 109] ، وَأَوَّلِ " الْأَنْبِيَاءِ: " إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ. . " الْآيَةَ [21 \ 7] . كُلُّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَرَأَ فِيهَا حَفْصٌ وَحْدَهُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ. . . وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ أَيْضًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فِي " سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ " وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ الْآيَةَ [21 \ 25] . فَقَدْ قَرَأَهُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ. وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ أَيْضًا. وَحَصْرُ الرُّسُلِ فِي الرِّجَالِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُنَافِي أَنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [22 \ 75] ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا الْآيَةَ [35 \ 1] ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُرْسَلُونَ إِلَى الرُّسُلِ، وَالرُّسُلُ تُرْسَلُ إِلَى النَّاسِ. وَالَّذِي أَنْكَرَهُ الْكُفَّارُ هُوَ إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي حَصَرَ اللَّهُ فِيهِ الرُّسُلَ فِي الرِّجَالِ مِنَ النَّاسِ، فَلَا يُنَافِي إِرْسَالُ الْمَلَائِكَةِ لِلرُّسُلِ بِالْوَحْيِ، وَلِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ، وَكَتْبِ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [79 \ 5] . تَنْبِيهٌ. يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلِ امْرَأَةً قَطُّ ; لِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا [16 \ 43] ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [16 \ 43] أَنَّ مَنْ جَهِلَ الْحُكْمَ: يَجِبُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَوْهُ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الذِّكْرِ فِي الْآيَةِ: أَهْلُ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَيْضًا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا أَهْلُ الذِّكْرِ ; لِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ. . . الْآيَةَ [15 \ 9] ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [16 \ 44] ، قِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " مَا أَرْسَلْنَا " دَاخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ " رِجَالًا "، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَّا رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا بِالسَّوْطِ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: " رِجَالًا " صِفَةً لَهُ، أَيْ: رِجَالًا مُتَلَبِّسِينَ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " أَرْسَلْنَا " مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ. كَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَ أُرْسِلُوا؟ قِيلَ: بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِ " نُوحِي "، أَيْ: نُوحِي إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ ; قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْقُرْآنُ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] . وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكْمَتَيْنِ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [16 \ 64] ، وَقَوْلِهِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [4 \ 105] . الْحِكْمَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ التَّفَكُّرُ فِي آيَاتِهِ وَالِاتِّعَاظُ بِهَا ; كَمَا قَالَ هُنَا: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [16 \ 44] ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4 \ 82] ، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47 \ 24] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَنْكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَعَ ذَلِكَ يَأْمَنُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ أَخْذَهُ الْأَلِيمَ، وَبَطْشَهُ الشَّدِيدَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيُهْلِكَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَالْخَسْفُ: بَلْعُ الْأَرْضِ الْمَخْسُوفَ بِهِ وَقُعُودُهَا بِهِ إِلَى أَسْفَلَ ; كَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِقَارُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ الْآيَةَ [28 \ 81] ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 السَّمَاءِ الْآيَةَ [67 \ 16، 17] ، وَقَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [17 \ 68] ، وَقَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [7 \ 99] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذِهِ فِي أَوَّلِ «سُورَةِ الْأَعْرَافِ» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِعْرَابِ: «السَّيِّئَاتِ» [16 \ 45] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَكَرُوا الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، أَيْ: الْقَبِيحَاتِ قُبْحًا شَدِيدًا ; كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ [8 \ 30] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «مَكَرُوا» عَلَى تَضْمِينِ «مَكَرُوا» مَعْنَى فَعَلُوا. وَهَذَا أَقْرَبُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ عِنْدِي. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «أَمِنَ» ، أَيْ: أَأَمِنَ الْمَاكِرُونَ السَّيِّئَاتِ، أَيِ: الْعُقُوبَاتِ الشَّدِيدَةَ الَّتِي تَسُوءُهُمْ عِنْدَ نُزُولِهَا بِهِمْ. ذَكَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْأَخِيرَيْنِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَذَكَرَ الْجَمِيعَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» . تَنْبِيهُ. كُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا وَاوُ الْعَطْفِ أَوْ فَاؤُهُ ; كَقَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا [43 \ 5] ، أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [34 \ 9] ، أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [45 \ 31] ، إِلَخْ، وَفِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ كِلْتَاهُمَا عَاطِفَةٌ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ ; كَقَوْلِكَ مَثَلًا: أَنُمْهِلُكُمْ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا؟ أَعَمُوا فَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؟ أَلَمْ تَأْتِكُمْ آيَاتِي أَفَلَمْ تَكُنْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ؟ وَهَكَذَا وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتُبِحْ ... وَعَطْفُكَ الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ يَصِحْ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ فِي الشَّطْرِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ كِلْتَاهُمَا عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا ; إِلَّا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ تَزَحْلَقَتْ عَنْ مَحَلِّهَا فَتَقَدَّمَتْ عَلَى الْفَاءِ وَالْوَاوِ ; وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُمَا فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَتْ لَفْظًا عَنْ مَحَلِّهَا مَعْنًى ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 فَبِهَذَا تَعْلَمُ: أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ الْآيَةَ [16 \ 45] ، الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ; فَعَلَى الْأَوَّلِ: فَالْمَعْنَى أَجَهِلَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ وَعِيدَ اللَّهِ بِالْعِقَابِ؟ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ، إِلَخْ. وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى فَأَأمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ; فَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْأَظْهَرُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَحِيمٌ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ، تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي «سُورَةِ الرَّعْدِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَمِيعَ الْبَشَرِ عَنْ أَنْ يَعْبُدُوا إِلَهًا آخَرَ مَعَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْمَعْبُودَ الْمُسْتَحِقَّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَاحِدٌ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَرْهَبُوهُ، أَيْ: يَخَافُونَهُ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ، لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ سِوَاهُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [51 \ 50 - 51] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [50 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [17 \ 39] . وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: اسْتَحَالَةَ تَعَدُّدِ الْأَلِهَةِ عَقْلًا ; كَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [23 \ 91 - 92] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [17 \ 42] ، وَالْآيَاتُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَلَا نُطِيلُ بِهَا الْكَلَامَ. وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَصْرِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ " مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ "، وَفِي الْمَعَانِي فِي مَبْحَثِ الْقَصْرِ ": أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ. أَيْ: خَافُونِ وَحْدِي وَلَا تَخَافُوا سِوَايَ. وَهَذَا الْحَصْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ بَيَّنَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ الْآيَةَ [5 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 الْآيَةَ [33 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ الْآيَةَ [9 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [3 \ 175] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا، الدِّينُ هُنَا: الطَّاعَةُ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ دِينًا ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [3 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [3 \ 85] . وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِي الْآيَاتِ: طَاعَةُ اللَّهِ بِامْتِثَالِ جَمِيعِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ جَمِيعِ النَّوَاهِي. وَمِنَ الدِّينِ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ: قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ كِرَامٍ ... عَصَيْنَا الْمَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا أَيْ: عَصَيْنَاهُ وَامْتَنَعْنَا أَنَّ نَدِينَ لَهُ، أَيْ: نُطِيعُهُ. وَقَوْلُهُ وَاصِبًا [16 \ 52] ، أَيْ: دَائِمًا، أَيْ: لَهُ - جَلَّ وَعَلَا -: الطَّاعَةُ وَالذُّلُّ وَالْخُضُوعُ دَائِمًا ; لِأَنَّهُ لَا يَضْعُفُ سُلْطَانُهُ، وَلَا يُعْزَلُ عَنْ سُلْطَانِهِ، وَلَا يَمُوتُ وَلَا يُغْلَبُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ لَهُ حَالٌ بِخِلَافِ مُلُوكِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَكُونُ مُطَاعًا لَهُ السَّلْطَنَةُ وَالْحُكْمُ، وَالنَّاسُ يَخَافُونَهُ وَيَطْمَعُونَ فِيمَا عِنْدَهُ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ يُعْزَلُ أَوْ يَمُوتُ، أَوْ يُذَلُّ بَعْدَ عِزٍّ، وَيَتَّضِعُ بَعْدَ رِفْعَةٍ ; فَيَبْقَى لَا طَاعَةَ لَهُ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ أَحَدٌ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَفْهُومُ الْآيَةِ بَيَّنَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [3 \ 26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [56 \ 3] ; لِأَنَّهَا تَرْفَعُ أَقْوَامًا كَانَتْ مَنْزِلَتُهُمْ مُنْخَفِضَةً فِي الدُّنْيَا، وَتُخْفِضُ أَقْوَامًا كَانُوا مُلُوكًا فِي الدُّنْيَا، لَهُمُ الْمَكَانَةُ الرَّفِيعَةُ، وَقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُ: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [37 \ 8 - 9] ، أَيْ: دَائِمٌ. وَقِيلَ: عَذَابٌ مُوجِعٌ مُؤْلِمٌ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْوَصَبَ عَلَى الْمَرَضِ، وَتُطْلِقُ الْوُصُوبَ عَلَى الدَّوَامِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا [16 \ 52] ، قَالَ لَهُ: الْوَاصِبُ: الدَّائِمُ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بُقُولِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا وَلَهُ الْمُلْكُ ... وَحَمْدٌ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الدُّؤَلِيِّ: لَا أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلَ بَقَاؤُهُ ... يَوْمًا بِذَمِّ الدَّهْرِ أَجْمَعَ وَاصِبًا وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ مَعْنَى الْوَاصِبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّائِمِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا «وَاصِبًا» : أَيْ: وَاجِبًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: «وَاصِبًا» : أَيْ: خَالِصًا. وَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ هَذَا، فَالْخَبَرُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ ; أَيْ: ارْهَبُوا أَنْ تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَأَخْلِصُوا لِي الطَّاعَةَ - وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [3 \ 83] ، وَقَوْلِهِ: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [39 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [98 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: «وَاصِبًا» [16 \ 52] ، حَالٌ عَمِلَ فِيهِ الظَّرْفُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ، أَنْكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مَنْ يَتَّقِي غَيْرَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّقَى إِلَّا مَنْ بِيَدِهِ النَّفْعُ كُلُّهُ وَالضُّرُّ كُلُّهُ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِشَيْءٍ لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضُرَّكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى هُنَا إِلَى أَنَّ إِنْكَارَ اتِّقَاءِ غَيْرِ اللَّهِ ; لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، وَيُخْشَى مِنْهُ الضُّرُّ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ قَوْلَهُ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [16 \ 52] ، بِقَوْلِهِ: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [16 \ 53] ، وَمَعْنَى «تَجْأَرُونَ» : تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى أَوِ النَّابِغَةِ يَصِفُ بَقَرَةً: فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا وَقَوْلُ الْأَعْشَى: يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ ... طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [23 \ 64 - 65] ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 قَدِيرٌ [6 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [10 \ 107] ، وَقَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ الْآيَةَ [35 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا الْآيَةَ [9 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ الْآيَةَ [39 \ 38] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجِدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورِ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ بَنِي آدَمَ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ دَعَوُا اللَّهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ; فَإِذَا كَشَفَ عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَأَزَالَ عَنْهُمُ الشِّدَّةَ: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ يَرْجِعُونَ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَقَدْ كَرَّرَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» : حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [10 \ 22] ، إِلَى قَوْلِهِ: إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [10 \ 23] ، وَقَوْلِهِ «فِي الْإِسْرَاءِ» : وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [17 \ 67] ، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الْعَنْكَبُوتِ» : فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» : قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [6 \ 64] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي «سُورَةِ الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ [6 \ 40] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَتَّعُوا [16 \ 55] ، لِلتَّهْدِيدِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي «فَنِّ الْمَعَانِي، فِي مَبْحَثِ الْإِنْشَاءِ» وَفِي «فَنِّ الْأُصُولِ، فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ» : أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا صِيغَةُ إِفْعَلِ التَّهْدِيدِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: فَتَمَتَّعُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَتَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخَرُ ; كَقَوْلِهِ. قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [39 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [14 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [15 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [43 \ 83، 70 \ 42] ، وَقَوْلِهِ: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [77 \ 46] ، وَقَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [52 \ 45] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ، فِي ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: لِمَا لَا يَعْلَمُونَ [16 \ 56] ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ، أَيْ: وَيَجْعَلُ الْكُفَّارُ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا تَنْفَعُ عَابِدَهَا أَوْ تَضُرُّ عَاصِيَهَا - نَصِيبًا إِلَخْ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [22 \ 71] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ لَا يَعْلَمُونَهَا: أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا آلِهَةً، وَيَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَتَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا جَمَادٌ، لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ ; فَهُمْ إِذًا جَاهِلُونَ بِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وَاوَ «يَعْلَمُونَ» [16 \ 56] ، وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَصْنَامِ ; فَهِيَ جَمَادٌ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لِلْأَصْنَامِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا لِكَوْنِهِمْ جَمَادًا - نَصِيبًا إِلَخْ. وَهَذَا الْوَجْهُ كَقَوْلِهِ: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [16 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ [10 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا الْآيَةَ [7 \ 195] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْوَاوُ رَاجِعَةٌ إِلَى «مَا» مَنَّ قَوْلِهِ «لِمَا لَا يَعْلَمُونَ» ، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِـ «مَا» الَّتِي هِيَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي جَعَلُوا لَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ نَصِيبًا جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ شَيْئًا. وَعَبَّرَ بِالْوَاوِ فِي «لَا يَعْلَمُونَ» عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِتَنْزِيلِ الْكُفَّارِ لَهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ، وَتَضُرُّ وَتَنْفَعُ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ: فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [6 \ 136] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا إِذَا حَرَثُوا حَرْثًا، أَوْ كَانَتْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْهَا جُزْءًا، وَلِلْوَثَنِ جُزْءًا ; فَمَا جَعَلُوا مِنْ نَصِيبِ الْأَوْثَانِ حَفِظُوهُ، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ رَدُّوهُ إِلَى نَصِيبِ الْأَصْنَامِ، وَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ الْأَصْنَامِ تَرَكُوهُ فِيهِ، وَقَالُوا: اللَّهُ غَنِيٌّ وَالصَّنَمُ فَقِيرٌ. وَقَدْ أَقْسَمَ - جَلَّ وَعَلَا -: عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ هَذَا الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنْ نَصِيبًا مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ لِلْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فِي قَوْلِهِ: تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [16 \ 56] ، وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ، أَيْ: يَعْتَقِدُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلَّهِ بَنَاتٍ إِنَاثًا، وَذَلِكَ أَنَّ خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا الْآيَةَ [43 \ 19] ، فَزَعَمُوا لِلَّهِ الْأَوْلَادَ، وَمَعَ ذَلِكَ زَعَمُوا لَهُ أَخَسَّ الْوَلَدَيْنِ وَهُوَ الْأُنْثَى، فَالْإِنَاثُ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ يَكْرَهُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ وَيَأْنَفُونَ مِنْهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [16 \ 58] ، أَيْ ; لِأَنَّ شِدَّةَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ تُسَوِّدُ لَوْنَ الْوَجْهِ: وَهُوَ كَظِيمٌ [16 \ 58] ، أَيْ: مُمْتَلِئٌ حُزْنًا وَهُوَ سَاكِتٌ. وَقِيلَ: مُمْتَلِئٌ غَيْظًا عَلَى امْرَأَتِهِ الَّتِي وَلَدَتْ لَهُ الْأُنْثَى: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [16 \ 59] ، أَيْ: يَخْتَفِي مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَجْلِ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ لِئَلَّا يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ، أَوْ لِئَلَّا يَشْمَتُوا بِهِ وَيُعَيِّرُوهُ. وَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ وَيَنْظُرُ: أَيُمْسِكُهُ، أَيْ: مَا بُشِّرَ بِهِ وَهُوَ الْأُنْثَى، عَلَى هُونٍ [16 \ 59] ، أَيْ: هَوَانٍ وَذُلٍّ. أَمْ يَدُسُّهُ [16 \ 59] ، فِي التُّرَابِ: أَيْ: يَدْفِنُ الْمَذْكُورَ الَّذِي هُوَ الْأُنْثَى حَيًّا فِي التُّرَابِ، يَعْنِي: مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالْبَنَاتِ مِنَ الْوَأْدِ وَهُوَ دَفْنُ الْبِنْتِ حَيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [81 \ 8 - 9] . وَأَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 جَعْلَهُمُ الْإِنَاثَ لِلَّهِ، أَوِ الذُّكُورَ لِأَنْفُسِهِمْ قِسْمَةٌ غَيْرُ عَادِلَةٍ، وَأَنَّهَا مَنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ. وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَّخِذًا وَلَدًا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ! ; لَاصْطَفَى أَحْسَنَ النَّصِيبَيْنِ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَنْ جَعَلُوا لَهُ أَخَسَّ الْوَلَدَيْنِ، وَبَيَّنَ كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَشِدَّةَ عِظَمِ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ. كُلُّ هَذَا ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [53 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ [37 \ 151 - 154] ، وَقَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ [43 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [39 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [52 \ 39] ، وَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [16 \ 62] ، وَقَالَ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 18] ، وَقَالَ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [43 \ 17] . وَبَيَّنَ شِدَّةَ عِظَمِ هَذَا الِافْتِرَاءِ، بِقَوْلِهِ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [19 \ 88 - 93] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [16 \ 57] ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» [16 \ 59] فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى «الْبَنَاتِ» [16 \ 57] ، أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ. أَوْرَدَ إِعْرَابَهُ بِالنَّصْبِ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ; قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ «فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي «مَا» فِي «مَا يَشْتَهُونَ» الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى «الْبَنَاتِ» ، أَيْ: وَجَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الذُّكُورِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ مِنَ النَّصْبِ تَبِعَ فِيهِ الْفَرَّاءَ وَالْحَوْفَيَّ وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَقَدْ حَكَاهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَهَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَاعِدَةٍ فِي النَّحْوِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وَهِيَ: أَنَّ الْفِعْلَ الرَّافِعَ لِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُتَّصِلِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرِهِ الْمُتَّصِلِ الْمَنْصُوبِ. ; فَلَا يَجُوزُ: زَيْدٌ ضَرَبَهُ، أَيْ: زَيْدًا. تُرِيدُ ضَرَبَ نَفْسَهُ، إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ فَقْدٍ وَعَدَمٍ ; فَيَجُوزُ: زَيْدٌ ظَنَّهُ قَائِمًا، وَزَيْدٌ فَقَدَهُ، وَزَيْدٌ عَدِمَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْحَرْفِ كَالْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ ; فَلَا يَجُوزُ: زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ، تُرِيدُ غَضِبَ عَلَى نَفْسِهِ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا يَجُوزُ النَّصْبُ ; إِذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. فَالْوَاوُ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ «وَلَهُمْ» [16 \ 57] مَجْرُورٌ بِاللَّامِ. فَهُوَ نَظِيرُ: زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ. اه. وَالْبِشَارَةُ تُطْلَقُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ بِمَا يَسُرُّ، وَبِمَا يَسُوءُ. وَمِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْخَبَرِ بِمَا يَسُوءُ قَوْلُهُ هُنَا: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى الْآيَةَ [16 \ 58] ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [53 \ 21] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ بُغْضِهِمْ لِلْبَنَاتِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ فِي أَشْعَارِهِمْ ; وَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَى عَقِيلِ بْنِ عِلْفَةَ الْمُرِّيِّ ابْنَتُهُ الْجَرْبَاءُ قَالَ: إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ الْمَهْرُ ... أَلْفٌ وَعَبْدَانِ وَذَوْدُ عُشْرٍ أَحَبُّ أَصْهَارِي إِلَيَّ الْقَبْرُ وَيُرْوَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ قَوْلُهُ: لِكُلِّ أَبِي بِنْتٍ يُرَاعَى شُؤُونَهَا ... ثَلَاثَةُ أَصْهَارٍ إِذَا حُمِدَ الصِّهْرُ فَبَعْلٌ يُرَاعِيهَا وَخِدْرٌ يُكِنُّهَا ... وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَخَيْرُهُمُ الْقَبْرُ وَهُمُ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُوجِبَ رَغْبَتِهِمْ فِي مَوْتِهِنَّ، وَشَدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِوِلَادَتِهِنَّ: الْخَوْفُ مِنَ الْعَارِ، وَتَزَوُّجُ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ، وَأَنْ تُهَانَ بَنَاتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي ابْنَةٍ لَهُ تُسَمَّى مَوَدَّةً: مَوَدَّةُ تَهْوَى عُمْرَ شَيْخٍ يَسُرُّهُ لَهَا ... الْمَوْتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لَوْ أَنَّهَا تَدْرِي يَخَافُ عَلَيْهَا جَفْوَةَ النَّاسِ بَعْدَهُ ... وَلَا خِتْنَ يُرْجَى أَوَدُّ مِنَ الْقَبْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَآبَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَوْ عَاجَلَ الْخَلْقَ بِالْعُقُوبَةِ لَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ ; لِأَنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَخَافُ فَوَاتَ الْفُرْصَةِ، وَرَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ. وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ «فَاطِرٍ» : وَلَوْ يُؤَاخِذُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ الْآيَةَ [35 \ 45] ، وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ الْآيَةَ [18 \ 58] ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [16 \ 61] ، إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [14 \ 42] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [29 \ 53] . وَبَيَّنَ هُنَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاءَ أَجْلُهُ لَا يَسْتَأْخِرُ عَنْهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَنْ وَقْتِ أَجَلِهِ. وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ الْآيَةَ [71 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الْآيَةَ [63 \ 11] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [16 \ 61] ، فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ ; لِأَنَّ الذَّنْبَ ذَنْبُهُمْ، وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [6 \ 164] ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ: «مِنْ دَابَّةٍ» [16 \ 61] ، أَيْ: كَافِرَةٍ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَ الْأَبَاءَ بِكُفْرِهِمْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَالَ الْآخَرُ: تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ وَقَدْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ أَعْرَابِيٍّ أُنْثَى، فَهَجَرَهَا لِشِدَّةِ غَيْظِهِ مِنْ وِلَادَتِهَا أُنْثَى، فَقَالَتْ: مَا لِأَبِي حَمْزَةَ لَا يَأْتِينَا ... يَظَلُّ بِالْبَيْتِ الَّذِي يَلِينَا غَضْبَانَ إِلَّا نَلِدُ الْبَنِينَا ... لَيْسَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا شِينَا وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا تَنْبِيهٌ. لَفْظَةُ «جَعَلَ» تَأْتِي فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى اعْتَقَدَ ; كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - هُنَا: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ [16 \ 57] ، قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 فِي الْخُلَاصَةِ: وَجَعَلَ اللَّذَّ كَاعْتَقَدَ الثَّانِي: بِمَعْنَى صَيَّرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحِجْرِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [71 \ 16] ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: .. وَالَّتِي كَصَيَّرَا ... وَأَيْضًا بِهَا انْصِبْ مُبْتَدًا وَخَبَرًا الثَّالِثُ: بِمَعْنَى خَلَقَ ; كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [6 \ 1] ، أَيْ: خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. الرَّابِعُ: بِمَعْنَى شَرَعَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي ... ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهَضَ الشَّارِبُ السَّكِرِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقَ ... كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقَ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: سُبْحَانَهُ [16 \ 57] ، أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُوَ مَا ادَّعَوْا لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا! [[وقوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل/61] . وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة؛ لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده، وذكر المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في "آخر سورة فاطر": وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر/45] الآية، وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) [الكهف/58] الآية، وأشار بقوله: (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [النحل/61] إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل، وبين ذلك في غير هذا الموضع، كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم/42] وقوله: (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ) [العنكبوت/53] . وبين هنا: أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله. وأوضح ذلك في مواضع أخر، كقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّر) [نوح/4] الآية، وقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون/11] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. واعلم أن قوله تعالى: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) [النحل/61] فيه وجهان للعلماء: أحدهما: أنه خاص بالكفار؛ لأن الذنب ذنبهم، والله يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام/164] ومن قال هذا القول قال: (مِنْ دَابَّةٍ) أي: كافرة، ويروي عن ابن عباس. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة]] (*) وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ ; حَتَّى إِنَّ ذُنُوبَ بَنِي آدَمَ لَتُهْلِكَ الْجُعْلَ فِي حِجْرِهِ، وَالْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِظُلْمِهِمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ: أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إِذَا زِيدَتْ قَبْلَهَا لَفْظَةُ «مَنْ» تَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: «مِنْ دَابَّةٍ» يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّابَّةِ نَصًّا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَعُمُّ بِالْهَلَاكِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنًا لَيْسَ بِظَالِمٍ؟ قِيلَ: يَجْعَلُ هَلَاكَ الظَّالِمِ انْتِقَامًا وَجَزَاءً، وَهَلَاكَ الْمُؤْمِنِ مُعَوَّضًا بِثَوَابِ الْآخِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ» ، اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِهِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ بِقَوْمٍ عَمَّ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ،   (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين [[المعكوفين المزدوجين]] استدركته من ط عالم الفوائد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 فَلَا إِشْكَالَ فِي شُمُولِ الْهَلَاكِ لِلْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ قَوْمٍ أَمَرَ نَبِيَّهُمْ وَمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ ; لِأَنَّ الْهَلَاكَ إِذَا نَزَلَ عَمَّ. تَنْبِيهٌ. قَوْلُهُ: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [16 \ 61] ، الضَّمِيرُ فِي «عَلَيْهَا» ، رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْأَرْضُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ دَابَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الدَّوَابَّ إِنَّمَا تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [35 \ 45] ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [38 \ 32] ، أَيْ: الشَّمْسُ وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَرُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: وَصَهْبَاءُ مِنْهَا كَالسَّفِينَةِ نَضَّجَتْ ... بِهِ الْحَمْلُ حَتَّى زَادَ شَهْرًا عَدِيدُهَا فَقَوْلُهُ: «صَهْبَاءُ مِنْهَا» ، أَيْ: مِنَ الْإِبِلِ، وَتَدُلُّ لَهُ قَرِينَةُ «كَالسَّفِينَةِ» مَعَ أَنَّ الْإِبِلَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: أَمَاوِيُّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ فَقَوْلُهُ: «حَشْرَجَتْ وَضَاقَ بِهَا» يَعْنِي النَّفْسَ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ ; كَمَا تَدُلُّ لَهُ قَرِينَةُ «وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ» ، وَمِنْهُ أَيْضًا لَبِيدٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا فَقَوْلُهُ: «أَلْقَتْ» ، أَيِ: الشَّمْسُ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَلَكِنْ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا. لِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ» ، أَيْ: دَخَلَتْ فِي الظَّلَامِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ طُرْفَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: عَلَى مِثْلِهَا أَمْضِي إِذَا قَالَ صَاحِبِي ... أَلَا لَيْتَنِي أَفْدِيكَ مِنْهَا وَأَفْتَدِي فَقَوْلُهُ: «أَفْدِيكَ مِنْهَا» ، أَيْ: الْفَلَاةِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَلَكِنَّ قَرِينَةَ سِيَاقِ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُؤَاخِذُ الْآيَةَ [16 \ 61] ، الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ ; فَمَعْنَى آخَذَ النَّاسَ يُؤَاخِذُهُمْ: أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ; لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 تَقْتَضِي الطَّرَفَيْنِ. وَمَجِيئُهَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ مَسْمُوعٌ نَحْوَ: سَافَرَ وَعَافَى. وَقَوْلُهُ: «يُؤَاخِذُ» [16 \ 61] ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُضَارِعَ فِيهِ بِمَعْنَى الْمَاضِي فَلَا إِشْكَالَ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فَهُوَ عَلَى إِيلَاءِ لَوِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَلِيلٌ ; كَقَوْلِهِ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [4 \ 9] ، وَقَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْمُلَوَّحِ: وَلَوْ تَلْتَقِي أَصْدَاؤُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا ... وَمَنْ دُونِ رَمْسَيْنَا مِنَ الْأَرْضِ سَبْسَبُ لَظَلَّ صَدَى صَوْتِي وَإِنْ كُنْتُ رُمَّةً ... لِصَوْتِ صَدَى لَيْلَى يَهُشُّ وَيَطْرَبُ وَالْجَوَابُ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمُضِيِّ فِي الْآيَةِ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يُمْكِنُ بَتَاتًا فِي الْبَيْتَيْنِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَدْ أَشَارَ لِذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: لَوْ حَرْفُ شَرْطٍ فِي مُضِيٍّ وَيَقِلُّ إِيلَاؤُهَا مُسْتَقْبَلًا، لَكِنْ قُبِلْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ، أَبْهَمَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هَذَا الَّذِي يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ وَيَكْرَهُونَهُ ; لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِ «مَا» الْمَوْصُولَةِ، وَهِيَ اسْمٌ مُبْهَمٌ، وَصِلَةُ الْمَوْصُولِ لَنْ تُبَيَّنَ مِنْ وَصْفِ هَذَا الْمُبْهَمِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَهُ. وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ الْبَنَاتُ وَالشُّرَكَاءُ وَجَعْلُ الْمَالِ الَّذِي خَلَقَ لِغَيْرِهِ، قَالَ فِي الْبَنَاتِ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ [16 \ 57] ، ثُمَّ بَيَّنَ كَرَاهِيَتَهَا لَهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى الْآيَةَ [16 \ 61] . وَقَالَ فِي الشُّرَكَاءِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْآيَةَ [6 \ 100] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ كَرَاهِيَتَهُمْ لِلشُّرَكَاءِ فِي رِزْقِهِمْ بُقُولَهُ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [30 \ 28] ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ الْمَمْلُوكُ شَرِيكًا لَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ فِي جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ ; فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ الْأَوْثَانَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ! وَبَيَّنَ جَعْلَهُمْ بَعْضَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ لِلْأَوْثَانِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، إِلَى قَوْلِهِ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [16 \ 136] ، وَقَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ [16 \ 56] ، كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ ; فَيَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى، وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الذُّكُورُ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 [16 \ 57] ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُسْنَى: هُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ حَقًّا فَسَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا أَحْسَنُ نَصِيبٍ كَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [41 \ 50] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [19 \ 77] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 35] ، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ الْآيَةَ [23 \ 55] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَ قَوْلَهُ: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى [16 \ 62] ، بِقَوْلِهِ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ الْآيَةَ [16 \ 62] ، فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنَّ» ، وَصِلَتُهَا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى [16 \ 62] فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ الْكَذِبَ، وَمَعْنَى وَصْفِ أَلْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ قَوْلُهَا لِلْكَذِبِ صَرِيحًا لَا خَفَاءَ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ [16 \ 116] ، مَا نَصَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى وَصْفِ أَلْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ، جَعَلَ قَوْلَهُمْ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ وَمَحْضُهُ ; فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ حَلَّتِ الْكَذِبَ بِحِلْيَتِهِ، وَصَوَّرَتْهُ بِصُورَتِهِ. كَقَوْلِهِمْ: وَجْهُهَا يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ. اه. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ، فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، وَقِرَاءَةٌ ثَالِثَةٌ غَيْرُ سَبْعِيَّةٍ. قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَى نَافِعًا: مُفْرَطُونَ، بِسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ ; مِنْ أَفْرَطَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ ; مِنْ أَفْرَطَ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِسَبْعِيَّةٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ فَرَّطَ الْمُضَعَّفِ، وَتُرْوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَهَا مِصْدَاقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: مُفْرَطُونَ، بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ أَفْرَطَهُ: إِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 نَسِيَهُ وَتَرَكَهُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ ; فَقَوْلُهُ: مُفْرَطُونَ، أَيْ: مَتْرُوكُونَ مَنْسِيُّونَ فِي النَّارِ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [7 \ 51] ، وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ الْآيَةَ [32 \ 14] ، وَقَوْلُهُ: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ الْآيَةَ [45 \ 34] ، فَالنِّسْيَانُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنَاهُ: التَّرْكُ فِي النَّارِ. أَمَّا النِّسْيَانُ بِمَعْنَى زَوَالِ الْعِلْمِ: فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [19 \ 64] ، وَقَالَ: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20 \ 52] . وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ مَعْنَى: مُفْرَطُونَ، مَنْسِيُّونَ مُتْرَكُونَ فِي النَّارِ: مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْفَرَّاءُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: أَيْ: مُقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ مُعَجَّلُونَ ; مَنْ أَفْرَطْتُ فُلَانًا وَفَرَطْتُهُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ، إِذَا قَدَّمْتُهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» ، أَيْ: مُتَقَدِّمُكُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْقُطَامِيِّ: فَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا كَمَا تَقَدَّمَ فَرَّاطٌ لِرَوَّادِ. وَقَوْلُ الشَّنْفَرَى: هَمَمْتُ وَهَمَّتْ فَابْتَدَرْنَا وَأَسْبَلَتْ ... وَشَمَّرَ مِنِّي فَارِطٌ مُتَمَهِّلُ أَيْ: مُتَقَدِّمٌ إِلَى الْمَاءِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ أَفْرَطَ فِي الْأَمْرِ: إِذَا أَسْرَفَ فِيهِ وَجَاوَزَ الْحَدَّ. وَيَشْهَدُ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [40 \ 43] ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ، فَرَّطَ فِي الْأَمْرِ: إِذَا ضَيَّعَهُ وَقَصَّرَ فِيهِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الْآيَةَ [39 \ 56] ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَوْجُهَ الْقِرَاءَاتِ فِي الْآيَةِ، وَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: لَا جَرَمَ، أَيْ: حَقًّا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: لَا رَدَّ لِكَلَامِهِمْ وَتَمَّ الْكَلَامُ، أَيْ: لَيْسَ كَمَا تَزْعُمُونَ وَجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ حَقًّا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ! وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «لَا» صِلَةَ، وَ «جَرَمَ» بِمَعْنَى كَسْبٍ ; أَيْ: كَسْبٌ لَهُمْ عَمَلُهُمْ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِي الْأَنْعَامِ عَبْرَةً دَالَّةً عَلَى تَفَرُّدِ مَنْ خَلَقَهَا، وَأَخْلَصَ لَبَنَهَا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ; بِأَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ، وَيُطَاعَ وَلَا يُعْصَى. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [23 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [16 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [36 \ 71 - 73] ، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [88 \ 17] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ الْأَنْعَامَ يَصِحُّ تَذْكِيرُهَا وَتَأْنِيثُهَا ; لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا هُنَا فِي قَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [16 \ 66] ، وَأَنَّثَهَا فِي «سُورَةِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي قَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ [23 \ 21] ، وَمَعْلُومٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ يَجُوزُ فِيهَا التَّذْكِيرُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، وَالتَّأْنِيثُ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اسْمِ الْجِنْسِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرُ الْأَنْعَامِ وَتَأْنِيثُهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَجَاءَ فِيهِ تَذْكِيرُ النَّخْلِ وَتَأْنِيثُهَا ; فَالتَّذْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [54 \ 20] ، وَالتَّأْنِيثُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [69 \ 7] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرُ السَّمَاءِ وَتَأْنِيثُهَا ; فَالتَّذْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [73 \ 18] ، وَالتَّأْنِيثُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ الْآيَةَ [51 \ 47] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْحَارِثِيِّ الْأَسْدِيِّ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي تَذْكِيرِ النِّعَمِ: فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ يُلَقِّحُهُ قَوْمٌ وَتُنْتِجُونَهُ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «نَسْقِيكُمْ» ، بِفَتْحِ النُّونِ. وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بِشَوَاهِدِهِ «فِي سُورَةِ الْحِجْرِ» . مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَنْبَطَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ مِنْ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِّمَّا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 بُطُونِهِ [16 \ 66] : أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ. وَقَالَ: إِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُذَكَّرًا ; لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى ذَكَرِ النَّعَمِ ; لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَحْسُوبٌ، وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يَحْرُمُ» ، حَيْثُ أَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ، فَلِلْمَرْأَةِ السُّقَى، وَلِلرَّجُلِ اللَّقَاحُ ; فَجَرَى الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بَيْنَهُمَا. اه. بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا اعْتِبَارُ لَبَنِ الْفَحْلِ فِي التَّحْرِيمِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَيَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ مَعَ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ ; فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ. وَأَمَّا اسْتِنْبَاطُ ذَلِكَ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي الْآيَةِ فَلَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ بُعْدٍ وَتَعَسُّفٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَنْبَطَ النِّقَاشُ وَغَيْرُهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ بِنَجِسٍ، قَالُوا: كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ، وَأَخْذٌ شَنِيعٌ، اللَّبَنُ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْقُدْرَةِ، لِيَكُونَ عِبْرَةً ; فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ. وَلَيْسَ الْمَنِيُّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ، أَوْ مَقِيسًا عَلَيْهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ: قُلْتُ: قَدْ يُعَارِضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: وَأَيٌّ مِنْهُ أَعْظَمُ وَأَرْفَعُ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ الْمُكَرَّمُ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [86 \ 7] ، وَقَالَ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [16 \ 72] ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِامْتِنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِخُرُوجِهِ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ. قُلْنَا: هُوَ مَا أَرَدْنَاهُ ; فَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ وَأَصْلُهُ طَاهِرٌ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَخْذُ حُكْمِ طَهَارَةِ الْمَنِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ بُعْدٍ. وَسَنُبَيِّنُ إِنْ - شَاءَ اللَّهُ - حُكْمَ الْمَنِيِّ: هَلْ هُوَ نَجِسٌ أَوْ طَاهِرٌ،؟ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، مَعَ مُنَاقَشَةِ الْأَدِلَّةِ. اعْلَمْ: أَنَّ فِي مِنِيِّ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ النُّخَامَةِ وَالْمُخَاطِ ; وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرِهِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلَا بُدَّ فِي طَهَارَتِهِ مِنَ الْمَاءِ سَوَاءً كَانَ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا ; وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَجِسٌ، وَرَطْبُهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَاءِ، وَيَابِسُهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ بَلْ يُطَهَّرُ بِفَرْكِهِ مِنَ الثَّوْبِ حَتَّى يَزُولَ مِنْهُ ; وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَارَ الشَّوْكَانِيُّ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) : أَنَّهُ نَجِسٌ، وَأَنَّ إِزَالَتَهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَاءِ مُطْلَقًا. أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ طَاهِرٌ كَالْمُخَلَّطِ فَهِيَ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ مَعًا، وَمَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُوَافِقَ لِلنَّصِّ لَا مَانِعَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ آخَرُ عَاضِدٌ لِلنَّصِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَاضُدِ الْأَدِلَّةِ. أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالُوا: فَرْكُهَا لَهُ يَابِسًا، وَصَلَاتُهُ فِي الثَّوْبِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ غَسْلٍ دَلِيلٌ عَلَى الطَّهَارَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعَرَقِ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ. وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: «كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطِبًا» ، وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ ; فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ» . قَالَ صَاحِبُ (مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَا: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّ إِسْحَاقَ إِمَامٌ مُخَرَجٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَزِيَادَتُهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْمُجِدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فِي الْمُنْتَقَى) مِنْ قَبُولِ رَفْعِ الْعَدْلِ وَزِيَادَتِهِ، هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَا بَيَّنَاهُ مِرَارًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَرْكِ الْمَنِيِّ وَعَدَمِ الْأَمْرِ بِغَسْلِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْعَاضِدُ لِلنَّصِّ فَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِلْحَاقُ الْمَنِيِّ بِالْبَيْضِ ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 بِجَامِعِ أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مَائِعٌ يَتَخَلَّقُ مِنْهُ حَيَوَانٌ حَيٌّ طَاهِرٌ، وَالْبَيْضُ طَاهِرٌ إِجْمَاعًا ; فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمَنِيِّ طَاهِرًا أَيْضًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْقِيَاسِ الصُّورِيِّ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لَا يَقْبَلُونَهُ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِالْقَوْلِ بِهِ إِلَّا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَابْنُ عُلَيَّةَ يَرَى لِلصُّورِيِّ ... كَالْقَيْسِ لِلْخَيْلِ عَلَى الْحَمِيرِ وَصُوَرُ الْقِيَاسِ الصُّورِيِّ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَثِيرَةٌ ; كَقِيَاسِ الْخَيْلِ عَلَى الْحَمِيرِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، وَحُرْمَةِ الْأَكْلِ لِلشَّبَهِ الصُّورِيِّ. وَكَقِيَاسِ الْمَنِيِّ عَلَى الْبَيْضِ لِتَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي طَهَارَتِهِ. وَكَقِيَاسِ أَحَدِ التَّشَهُّدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ لِتَشَابُهِهِمَا فِي الصُّورَةِ. وَكَقِيَاسِ الْجِلْسَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الْوُجُوبِ لِتَشَبُّهِهَا بِهَا فِي الصُّورَةِ. وَكَإِلْحَاقِ الْهِرَّةِ الْوَحْشِيَّةِ بِالْإِنْسِيَّةِ فِي التَّحْرِيمِ. وَكَإِلْحَاقِ خِنْزِيرِ الْبَحْرِ وَكَلْبِهِ بِخِنْزِيرِ الْبَرِّ وَكَلْبِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِهِ الْكَثِيرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأُصُولِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ الصُّورِيِّ: بِأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ فِي الصُّورَةِ فِي الْأَحْكَامِ ; كَقَوْلِهِ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [5 \ 95] ، وَالْمُرَادُ الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَكَبَدَلِ الْقَرْضِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ مِثْلُهُ فِي الصُّورَةِ. وَقَدِ اسْتَسْلَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرًا وَرَدَّ رَبَاعِيًّا كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَكَسَرُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ الْقَائِفِ الْمُدْلَجِيِّ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَابْنِهِ أُسَامَةَ: «هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ; لِأَنَّ الْقِيَافَةَ قِيَاسٌ صُورِيٌّ ; لِأَنَّ اعْتِمَادَ الْقَائِفِ عَلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الصُّورَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ: إِلْحَاقُ الْمَنِيِّ بِالطِّينِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُبْتَدَأُ خَلْقٍ بَشَرٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً الْآيَةَ [23 \ 12 - 13] . فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْقِيَاسُ يَلْزَمُهُ طَهَارَةُ الْعَلَقَةِ، وَهِيَ الدَّمُ الْجَامِدُ ; لِأَنَّهَا أَيْضًا مُبْتَدَأُ خَلْقِ بَشَرٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [23 \ 14] ، وَالدَّمُ نَجِسٌ بِلَا خِلَافٍ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ قِيَاسَ الدَّمِ عَلَى الطِّينِ فِي الطَّهَارَةِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ; لِوُجُودِ النَّصِّ بِنَجَاسَةِ الدَّمِ. أَمَّا قِيَاسُ الْمَنِيِّ عَلَى الطِّينِ فَلَيْسَ بِفَاسِدِ الِاعْتِبَارِ ; لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ فَهُوَ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ أَيْضًا. أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: «كُنْتُ أَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالُوا: غَسْلُهَا لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تُقَوِّي حُجَّةَ مَنْ يَقُولُ بِالنَّجَاسَةِ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ بَعْدَ لَفْظَةِ «كَانَ» يَدُلُّ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذِهِ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ» ، تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِتَحَتُّمِ الْغَسْلِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا: أَنْ رَجُلًا نَزَلَ بِهَا فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ إِنْ رَأَيْتَهُ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ. فَإِنْ لَمْ تَرَ نَضَحْتَ حَوْلَهُ. وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيهِ. اه. قَالُوا: هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ، صَرَّحَتْ فِيهَا: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُجْزِئُهُ غَسْلُ مَكَانِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ (فِي مَبْحَثِ دَلِيلِ الْخِطَابِ) وَفِي الْمَعَانِي (فِي مَبْحَثِ الْقَصْرِ) : أَنَّ «إِنَّمَا» مِنْ أَدَوَاتِ الْحَصْرِ ; فَعَائِشَةُ صَرَّحَتْ بِحَصْرِ الْإِجْزَاءِ فِي الْغَسْلِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَرْكَ لَا يُجْزِئُ دُونَ الْغَسْلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى غَسْلِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقِيَاسُهُمُ الْمَنِيَّ عَلَى الْبَوْلِ وَالْحَيْضِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَلِأَنَّ الْمَذْيَ جُزْءٌ مِنَ الْمَنِيِّ ; لِأَنَّ الشَّهْوَةَ تُحَلِّلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَاشْتَرَكَا فِي النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَجِسٌ، وَإِنَّ يَابِسَهُ يُطَهَّرُ بِالْفَرْكِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْغَسْلِ فَهِيَ ظَوَاهِرُ نُصُوصٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ أَوْضَحِهَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ آنِفًا: «كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا» . وَقَالَ الْمُجِدُّ (فِي مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: فَقَدْ بَانَ مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: إِيضَاحُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْحِرْصَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 عَلَى إِزَالَةِ الْمَنِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَالِاكْتِفَاءَ بِالْفَرْكِ فِي يَابِسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ. وَلَا غَرَابَةَ فِي طَهَارَةِ مُتَنَجِّسٍ بِغَيْرِ الْمَاءِ ; فَإِنَّ مَا يُصِيبُ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَى نَجَاسَتِهَا يُطَهَّرُ بِالدَّلْكِ حَتَّى تَزُولَ عَيْنُهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الشَّوْكَانِيِّ: إِنَّهُ يُطَهَّرُ مُطْلَقًا بِالْإِزَالَةِ دُونَ الْغَسْلِ، لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ سَلْتِ رَطْبِهِ بِإِذْخِرَةٍ وَنَحْوِهَا. وَرَدَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَنِيَّ طَاهِرٌ احْتِجَاجَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِ، بِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ شَيْءٍ، فَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالتَّنْجِيسِ ; لِجَوَازِ غَسْلِ الطَّاهِرَاتِ كَالتُّرَابِ وَالطِّينِ وَنَحْوِهِ يُصِيبُ الْبَدَنَ أَوِ الثَّوْبَ. قَالُوا: وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ بِالْأَمْرِ بِغَسْلِهِ، وَمُطْلَقُ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْجَوَازِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي التَّلْخِيصِ) : وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِفَرْكِهِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، رَوَاهُ ابْنُ الْجَارُودِ، فَفِي (الْمُنْتَقَى) ، عَنْ مُحْسِنِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ ضَيْفٌ فَأَجْنَبَ، فَجَعَلَ يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ ; فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا بِحَتِّهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْأَمْرُ بِغَسْلِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ. وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: «إِنَّمَا يُجْزِئُكَ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ» ، لِحَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ; لِأَنَّهَا احْتَجَّتْ بِالْفَرْكِ. قَالُوا: فَلَوْ وَجَبَ الْغَسْلُ لَكَانَ كَلَامُهَا حُجَّةً عَلَيْهَا لَا لَهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَتِ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي غَسْلِ كُلِّ الثَّوْبِ ; فَقَالَتْ: «غَسْلُ كُلِّ الثَّوْبِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَإِنَّمَا يُجْزِئُكَ فِي تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ. . .» إِلَخْ. وَأَجَابُوا عَنْ قِيَاسِ الْمَنِيِّ عَلَى الْبَوْلِ وَالدَّمِ ; بِأَنَّ الْمَنِيَّ أَصْلُ الْأَدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَهُوَ بِالطِّينِ أَشْبَهُ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَالدَّمِ. وَأَجَابُوا عَنْ خُرُوجِهِ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ بِالْمَنْعِ، قَالُوا: بَلْ مَخْرَجُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَدْ شُقَّ ذَكَرُ رَجُلٍ بِالرُّومِ، فَوُجِدَ كَذَلِكَ، فَلَا نُنَجِّسُهُ بِالشَّكِّ. قَالُوا: وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ النَّجَاسَةُ ; لِأَنَّ مُلَاقَاةَ النَّجَاسَةِ فِي الْبَاطِنِ لَا تُؤَثِّرُ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ مُلَاقَاتُهَا فِي الظَّاهِرِ. وَأَجَابُوا عَنْ دَعْوَى أَنَّ الْمَذْيَ جُزْءٌ مِنَ الْمَنِيِّ بِالْمَنْعِ أَيْضًا، قَالُوا: بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الِاسْمِ وَالْخِلْقَةِ وَكَيْفِيَّةِ الْخُرُوجِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ وَالذَّكَرَ يَفْتُرَانِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَعَكْسُهُ، وَلِهَذَا مَنْ بِهِ سَلَسُ الْمَذْيِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَذْيِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ مُنَاقَشَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَثِيرٌ مِنْهَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهَا هُوَ خُلَاصَةُ أَقْوَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 الْعُلَمَاءِ وَحُجَجُهُمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: أَنَّ الْمَنِيَّ طَاهِرٌ ; لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ صَاحِبِ الْمُنْتَقَى أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ قَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ، وَأَنَّهُ هُوَ قَالَ: قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّ إِسْحَاقَ إِمَامٌ مُخَرَّجٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَزِيَادَتُهُ. انْتَهَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا: أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ ; فَلَوْ جَاءَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا مِنْ طَرِيقٍ، وَجَاءَ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ حُكِمَ بِرَفْعِهِ ; لِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَاتُ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ... مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ - إِلَخْ. وَبِهِ تُعْلَمُ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورِ الْمَرْفُوعَةِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ لَهَا شَاهِدًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي التَّلْخِيصِ) مَا نَصُّهُ: فَائِدَةٌ - رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ قَالَ: «إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ» ، وَقَالَ: «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ إِذْخِرَةٍ» ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ هُوَ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَوْقُوفُ هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى. فَقَدْ رَأَيْتُ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى الْمَرْفُوعَةَ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ مُقَوِّيَةٌ لِطَرِيقِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْبَيْهَقِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمَوْقُوفُ هُوَ الصَّحِيحُ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ الِاحْتِجَاجُ بِالرِّوَايَةِ الْمَرْفُوعَةِ ; لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ وَقْفَ الْحَدِيثِ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ عِلَّةٌ فِي الطَّرِيقِ الْمَرْفُوعَةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَعْرُوفٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ: أَنَّ الرَّفْعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 زِيَادَةٌ مَقْبُولَةٌ مِنَ الْعَدْلِ، وَبِهِ تُعْلَمُ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالرِّوَايَةِ الْمَرْفُوعَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي طَهَارَةِ الْمَنِيِّ، وَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ شَيْءٌ يُصَرِّحُ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مَسْنَدَيْهِمَا، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَمَّارٍ فَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِيهَا: «إِنَّمَا تَغْسِلُ ثَوْبَكَ مِنَ الْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ، وَالْمَنِيِّ، وَالدَّمِ، وَالْقَيْءِ، يَا عَمَّارُ، مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رَكْوَتِكَ إِلَّا سَوَاءً» . فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ثَابِتَ بْنَ حَمَّادٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَضَعَّفَهُ الْجَمَاعَةُ الْمَذْكُورُونَ كُلُّهُمْ إِلَّا أَبَا يَعْلَى بِثَابِتِ بْنِ حَمَّادٍ، وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِالْوَضْعِ. وَقَالَ اللَّالَكَائِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ حَدِيثِهِ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ لِثَابِتٍ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ، وَلَا يُرْوَى عَنْ عَمَّارٍ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، إِنَّمَا رَوَاهُ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ ; قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي (التَّلْخِيصِ) ، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَكَرِيَّا الْعِجْلِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، لَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ غُلِطَ فِيهِ، إِنَّمَا يَرْوِيهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ. انْتَهَى. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَلْبَانِ مِنَ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ. فَأَمَّا لَبَنُ الْمَيْتَةِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ حَصَلَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ. وَذَلِكَ أَنَّ ضَرْعَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ، وَاللَّبَنُ طَاهِرٌ ; فَإِذَا حُلِبَ صَارَ مَأْخُوذًا مِنْ وِعَاءٍ نَجِسٍ. فَأَمَّا لَبْنُ الْمَرْأَةِ الْمَيْتَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيْتًا فَهُوَ طَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ: يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ فَهُوَ نَجِسٌ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَتَغَذَّى بِهِ كَمَا يَتَغَذَّى مِنَ الْحَيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» ، وَلَمْ يَخُصَّ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا الْآيَةَ [16 \ 97] ، جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّكَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْخَمْرُ ; لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 الْعَرَبَ تُطْلِقُ اسْمَ السَّكَرِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ السُّكْرُ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الِاسْمِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سِكْرٌ " - بِالْكَسْرِ - " سَكَرًا [16 \ 67] ، " بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكْرًا " بِضَمٍّ فَسُكُونٍ ". وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالسَّكَرُ: الْخَمْرُ ; سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ سَكَرَ سُكْرًا وَسَكَرًا، نَحْوَ رَشَدَ رُشْدًا وَرَشَدًا. قَالَ: وَجَاءُونَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَيْنَا ... فَأَجْلَى الْيَوْمَ وَالسَّكْرَانُ صَاحِي اهـ. وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّكَرِ عَلَى الْخَمْرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ ... إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ السَّكَرَ فِي الْآيَةِ الْخَمْرُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو رُزَيْنٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: السَّكَرُ: الْخَلُّ. وَقِيلَ: الطَّعْمُ، وَقِيلَ: الْعَصِيرُ الْحُلْوُ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَهَا آيَاتٌ مَدَنِيَّةٌ بَيَّنَتْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، وَهِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ. الْأُولَى: آيَةُ الْبَقَرَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا بَعْضُ مَعَائِبِهَا وَمَفَاسِدِهَا، وَلَمْ يُجْزَمْ فِيهَا بِالتَّحْرِيمِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [2 \ 219] ، وَبَعْدَ نُزُولِهَا تَرَكَهَا قَوْمٌ لِلْإِثْمِ الَّذِي فِيهَا، وَشَرِبَهَا آخَرُونَ لِلْمَنَافِعِ الَّتِي فِيهَا. الثَّانِيَةُ: آيَةُ النِّسَاءِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، دُونَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَصْحُو فِيهَا الشَّارِبُ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى الْآيَةَ [4 \ 43] . الثَّالِثَةُ: آيَةُ الْمَائِدَةِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا بَاتًّا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 90 - 91] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وَهَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَوْضَحَهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ، وَأَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا أَمْرًا جَازِمًا فِي قَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوهُ، وَاجْتِنَابُ الشَّيْءِ: هُوَ التَّبَاعُدُ عَنْهُ، بِأَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَعَلَّقَ رَجَاءَ الْفَلَاحِ عَلَى اجْتِنَابِهَا فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهَا لَمْ يُفْلِحْ، وَهُوَ كَذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ مَفَاسِدِهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ [15 \ 91] ، ثُمَّ أَكَّدَ النَّهْيَ عَنْهَا بِأَنْ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 91] ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْزِ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ الَّتِي هِيَ " انْتَهَوْا "، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي: أَنَّ مِنْ مَعَانِي صِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ، الَّتِي تَرِدُ لَهَا، الْأَمْرَ ; كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَقَوْلِهِ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ الْآيَةَ [3 \ 20] ، أَيْ: أَسْلِمُوا. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ الْآيَةَ [16 \ 67] ، يَتَعَلَّقُ بِ تَتَّخِذُونَ، وَكَرَّرَ لَفْظَ " مِنْ " لِلتَّأْكِيدِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ " مِنْهُ " مُرَاعَاةً لِلْمَذْكُورِ ; أَيْ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ، أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فَقَوْلُهُ: " كَأَنَّهُ "، أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنْ خُطُوطِ السَّوَادِ وَالْبَلْقِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، أَيْ: وَمِنْ عَصِيرِ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ، أَيْ: عَصِيرِ الثَّمَرَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مِمَّا فِي بُطُونِهِ [16 \ 66] ، أَيْ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِ: نُسْقِيكُمْ، [16 \ 66] مَحْذُوفَةٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأُولَى ; فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعَامِلِ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى " الْأَنْعَامِ " [16 \ 66] ، وَهُوَ أَضْعَفُهَا عِنْدِي. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ; فَحَذَفَ " مَا ". قَالَ أَبُو حَيَّانَ الْبَحْرُ: وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ثَمَرٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الرَّاجِزِ: مَا لَكَ عِنْدِي غَيْرَ سَوْطٍ وَحَجَرْ ... وَغَيْرَ كَبْدَاءَ شَدِيدَةِ الْوَتَرْ جَادَتْ بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرَمَى الْبَشَرْ أَيْ: بِكَفَّيْ رَجُلٍ كَانَ " إِلَخْ "، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ، يَتَعَلَّقُ بِ: تَتَّخِذُونَ، أَيْ: تَتَّخِذُونَ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ، وَأَنَّ " مِنْ "، الثَّانِيَةَ: تَوْكِيدٌ لِلْأُولَى. وَالضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ، عَائِدٌ إِلَى جِنْسِ الثَّمَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ ذِكْرِ الثَّمَرَاتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ: أَنَّ التَّحْقِيقَ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ [16 \ 67] مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ «الْمَائِدَةِ» الْمَذْكُورَةِ. فَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ فِيهِ وَفِي شَرْحِهِ (نَشْرِ الْبُنُودِ) مِنْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَيْسَ نَسْخًا لِإِبَاحَتِهَا الْأُولَى ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِبَاحَتَهَا الْأُولَى إِبَاحَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَالْإِبَاحَةُ الْعَقْلِيَّةُ هِيَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ; فَرَفَعُهَا لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْمَرَاقِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا مِنَ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ... قَدْ أُخِذَتْ فَلَيْسَتِ الشَّرْعِيَّةَ وَقَالَ أَيْضًا فِي إِبَاحَةِ الْخَمْرِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ: أَبَاحَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ... بَرَاءَةٌ لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ غَيْرَ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْخَمْرِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةُ، الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا الْآيَةَ [16 \ 67] ، وَمَا دَلَّتْ عَلَى إِبَاحَتِهِ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِبَاحَتَهُ عَقْلِيَّةٌ، بَلْ هِيَ إِبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَرَفْعُهَا نَسْخٌ. نَعَمْ! عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى السَّكَّرِ فِي الْآيَةِ: الْخَلُّ أَوِ الطَّعْمُ أَوِ الْعَصِيرُ ; فَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ لَيْسَ نَسْخًا لِإِبَاحَتِهَا، وَإِبَاحَتُهَا الْأُولَى: عَقْلِيَّةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 الْكِتَابِ) . فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةَ وَارِدَةٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّسْخَ وَارِدٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ مِنْ إِبَاحَةِ الْخَمْرِ. الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ ; فَلَيْسَ النَّسْخُ وَارِدًا عَلَى نَفْسِ الْخَبَرِ، بَلْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْخَبَرِ ; كَمَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَرِزْقًا حَسَنًا [16 \ 67] ، أَيِ: التَّمْرَ، وَالرُّطَبَ، وَالْعِنَبَ، وَالزَّبِيبَ، وَالْعَصِيرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ آخَرُ. اعْلَمْ: أَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي يُسْكِرُ مِنْهُ الْكَثِيرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَبَ مِنْهُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ لِقِلَّتِهِ. وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ. فَمَنْ زَعَمَ جَوَازَ شُرْبِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ مِنْهُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَطْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا ; لِأَنَّ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» ، وَلَوْ حَاوَلَ الْخَصْمُ أَنْ يُنَازِعَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَزَعَمَ أَنَّ الْقَلِيلَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ اسْمُ الْإِسْكَارِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُهُ، قُلْنَا: صَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ كَلَامٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ سَوَاءٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَكَذَا لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَنْبِذُ النَّبِيذَ فَنَشْرَبُهُ عَلَى غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا؟ فَقَالَ: «اشْرَبُوا فَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَكْسِرُهُ بِالْمَاءِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 فَقَالَ: «حَرَامٌ قَلِيلُ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. اه. بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمُجِدِّ فِي (مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ) . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا لَبْسَ مَعَهَا فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي فَتْحِ الْبَارِي) فِي شَرْحِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ، مَا نَصُّهُ: فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مِثْلُهُ، وَسَنَدُهُ إِلَى عَمْرٍو صَحِيحٌ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» ، وَلِابْنِ حِبَّانَ وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمِ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ ; لَكِنَّهَا تَزِيدُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي قَبْلَهَا قُوَّةً وَشُهْرَةً. قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ (وَكَانَ حَنَفِيًّا فَتَحَوَّلَ شَافِعِيًّا) : ثَبَتَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ. ثُمَّ سَاقَ كَثِيرًا مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَلَا مَسَاغَ لِأَحَدٍ فِي الْعُدُولِ عَنْهَا وَالْقَوْلِ بِخِلَافِهِ ; فَإِنَّهَا حُجَجٌ قَوَاطِعُ. قَالَ: وَقَدْ زَلَّ الْكُوفِيُّونَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَرَوَوْا فِيهِ أَخْبَارًا مَعْلُولَةً، لَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ بِحَالٍ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ مُسْكِرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَبَاءَ بِإِثْمٍ كَبِيرٍ. وَإِنَّمَا الَّذِي شَرِبَهُ كَانَ حُلْوًا وَلَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا. وَقَدْ رَوَى ثُمَامَةُ بْنُ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيُّ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيذِ؟ فَدَعَتْ جَارِيَةً حَبَشِيَّةً فَقَالَتْ: سَلْ هَذِهِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتِ الْحَبَشِيَّةُ: كُنْتُ أَنْبِذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَأُوكِثُهُ وَأُعَلِّقُهُ فَإِذَا أَصْبَحَ شَرِبَ مِنْهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. ثُمَّ قَالَ: فَقِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَالِاضْطِرَابِ مِنْ أَجَلِّ الْأَقْيِسَةِ وَأَوْضَحِهَا، وَالْمَفَاسِدُ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْخَمْرِ تُوجَدُ فِي النَّبِيذِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَالنُّصُوصُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - مُغْنِيَةٌ عَنِ الْقِيَاسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَا يَصِحُّ فِي حِلِّ النَّبِيذِ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيرُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 شَيْءٌ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ ; إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ (فَتْحِ الْبَارِي) بِحَذْفِ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: تَحْرِيمُ قَلِيلِ النَّبِيذِ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيرُهُ لَا شَكَّ فِيهِ ; لِمَا رَأَيْتُ مِنْ تَصْرِيحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . وَاعْلَمْ: أَنَّ قِيَاسَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ كَثِيرُهُ عَلَى الْخَمْرِ بِجَامِعِ الْإِسْكَارِ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّ «كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَالْقِيَاسُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَلَّا يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَحُكْمِ الْأَصْلِ. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَحَيْثُمَا يَنْدَرِجُ الْحُكْمَانِ ... فِي النَّصِّ فَالْأَمْرَانِ قُلْ سِيَّانِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجَاءَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأَخْبَارٍ مَعْلُولَةٍ، وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشَّيْءِ وَجَبَ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اه. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالْإِيحَاءِ هُنَا: الْإِلْهَامُ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْإِيحَاءَ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ ; وَلِذَا تُطْلِقُهُ عَلَى الْإِشَارَةِ، وَعَلَى الْكِتَابَةِ، وَعَلَى الْإِلْهَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [16 \ 68] ، أَيْ: أَلْهَمَهَا. وَقَالَ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً الْآيَةَ [19 \ 11] ، أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ. وَسَمَّى أَمْرَهُ لِلْأَرْضِ إِيحَاءً فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [99 \ 4، 5] ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوَحْيِ عَلَى الْكِتَابَةِ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيَّ سِلَامُهَا فَ «الْوُحِيَّ» فِي الْبَيْتِ (بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ) جَمْعُ وَحْيٍ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ. وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - زِيَادَةُ إِيضَاحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ بُلُوغِ أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَمِّرُ حَتَّى يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَأَرْذَلُ الْعُمُرِ آخِرُهُ الَّذِي تَفْسَدُ فِيهِ الْحَوَاسُّ، وَيَخْتَلُّ فِيهِ النُّطْقُ وَالْفِكْرُ، وَخُصَّ بِالرَّذِيلَةِ ; لِأَنَّهُ حَالٌ لَا رَجَاءَ بَعْدَهَا لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ. بِخِلَافِ حَالِ الطُّفُولَةِ، فَإِنَّهَا حَالَةٌ يُنْتَقَلُ مِنْهَا إِلَى الْقُوَّةِ وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [22 \ 5] ، وَقَوْلِهِ فِي الرُّومِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً الْآيَةَ [30 \ 54] ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَّنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [40 \ 67] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [16 \ 70] ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ، وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» ، اه. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّ أَرْذَلَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَعَنْ قَتَادَةَ: تِسْعُونَ سَنَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَحْدِيدَ لَهُ بِالسِّنِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَفَاوُتِ حَالِ الْأَشْخَاصِ ; فَقَدْ يَكُونُ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ أَضْعَفَ بَدَنًا وَعَقْلًا، وَأَشَدَّ خَرَفًا مِنْ آخَرَ ابْنِ تِسْعِينَ سَنَةً، وَظَاهِرُ قَوْلِ زُهَيْرٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبًا لَكَ يَسْأَمِ أَنَّ ابْنَ الثَّمَانِينَ بَالِغُ أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ الْآخَرِ: إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتُهَا ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تُرْجُمَانْ وَقَوْلُهُ: «لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا» [16 \ 70] (أَيْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلَ الْعُمُرِ، لِأَجْلِ أَنْ يَزُولَ مَا كَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْعِلْمِ أَيَّامَ الشَّبَابَ، وَيَبْقَى لَا يَدْرِي شَيْئًا ; لِذَهَابِ إِدْرَاكِهِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ. وَلِلَّهِ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ لَا يَنَالُهُمْ هَذَا الْخَرَفُ وَضَيَاعُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ مِنْ شِدَّةِ الْكِبَرِ، وَيُسْتَرْوَحُ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ بَعْضِ التَّفْسِيرَاتِ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [95 \ 5 - 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، أَظْهَرُ التَّفْسِيرَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ فِيهَا مَثَلًا لِلْكُفَّارِ، بِأَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُهُ الْمَالِكِينَ عَلَى الْمَمْلُوكِينَ فِي الرِّزْقِ، وَأَنَّ الْمَالِكِينَ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُونَ شُرَكَاءَهُمْ فِيمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 الْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ وَجَمِيعِ نِعَمِ اللَّهِ. وَمَعَ هَذَا يَجْعَلُونَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي حَقِّهِ عَلَى خَلْقِهِ، الَّذِي هُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ بِإِشْرَاكِ عَبِيدِكُمْ مَعَكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ: فَكَيْفَ تُشْرِكُونَ عَبِيدِي مَعِي فِي سُلْطَانِيَا؟ ! . وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [30 \ 28] ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ " مَا " فِي قَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [16 \ 71] ، نَافِيَةٌ، أَيْ: لَيْسُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُسَوُّوهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ. اه. فَإِذَا كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا لِأَنْفُسِهِمْ: فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ الْأَوْثَانَ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ؟ ! ! كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الْقَائِلِ: بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْ أَحَدٍ فِي الرِّزْقِ، وَلِلَّهِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ حِكْمَةٌ ; قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا الْآيَةَ [43 \ 32] ، وَقَالَ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [13 \ 26] ، وَقَالَ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [2 \ 236] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ جَعَلَكُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الرِّزْقِ ; فَرَزَقَكُمْ أَفْضَلَ مِمَّا رَزَقَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَهُمْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ; فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَرُدُّوا فَضْلَ مَا رُزِقْتُمُوهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَسَاوَوْا فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ ; كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ أَمَرَ مَالِكِي الْعَبِيدِ أَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يَطْعَمُونَ، وَيَكْسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ "، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [16 \ 71] ، لَوْمٌ لَهُمْ، وَتَقْرِيعٌ عَلَى ذَلِكَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ رَازِقُ الْمَالِكِينَ وَالْمَمْلُوكِينَ جَمِيعًا ; فَهُمْ فِي رِزْقِهِ سَوَاءٌ، فَلَا يَحْسَبَنَّ الْمَالِكُونَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ رِزْقُ اللَّهِ يُجْرِيهِ لَهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْأَظْهَرُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وَيَدُلُّ لَهُ الْقُرْآنُ كَمَا بَيَّنَّا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [16 \ 71] ، إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ جُحُودَهُمْ بِنِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسْتَعْمِلُ نِعَمَ اللَّهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَسْتَعِينُ بِكُلِّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّهُ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَجَحَدَ: تَتَعَدَّى بِالْبَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِهَا الْآيَةَ [27 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [7 \ 51] ، وَالْجُحُودُ بِالنِّعْمَةِ هُوَ كُفْرَانُهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً الْآيَةَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ امْتَنَّ عَلَى بَنِي آدَمَ أَعْظَمَ مِنَّةٍ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَشَكْلِهِمْ، وَلَوْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مَا حَصَلَ الْائْتِلَافُ وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ. وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ خَلَقَ مِنْ بَنِي آدَمَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَجَعَلَ الْإِنَاثَ أَزْوَاجًا لِلذُّكُورِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ. وَأَوْضَحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ آيَاتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - ; كَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [30 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 36 - 39] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ [7 \ 189] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْحَفَدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْحَفَدَةُ: أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، أَيْ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ، وَمِنَ الْبَنِينَ حَفَدَةً. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَفَدَةُ الْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ مُطْلَقًا ; وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ: حَفَدُ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةَ الْأَجْمَالِ أَيْ: أَسْرَعَتِ الْوَلَائِدُ الْخِدْمَةَ، وَالْوَلَائِدُ الْخَدَمُ. الْوَاحِدَةُ وَلِيدَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً ... إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا أَيْ: أَسْرَعُوا فِي الْخِدْمَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَفْدِ الَّتِي نُسِخَتْ: وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، أَيْ: نُسْرِعُ فِي طَاعَتِكَ. وَسُورَةُ الْخُلْعِ وَسُورَةُ الْحَفْدِ اللَّتَانِ نُسِخَتَا يُسَنُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْقُنُوتُ بِهِمَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقِيلَ: الْحَفَدَةُ الْأَخْتَانُ، وَهُمْ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ ... لَهَا حَفْدٌ مِمَّا يُعَدُّ كَثِيرُ وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ أَبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لِأَصْهَارِ اللِّئَامِ قَذُورُ وَالْقَذُورُ: الَّتِي تَتَنَزَّهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، تَبَاعُدًا عَنِ التَّدَنُّسِ بِقَذَرِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَفَدَةُ: جَمْعُ حَافِدٍ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْحَفْدِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ. فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحَفَدَةَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [16 \ 72] ، دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الْبَنِينَ وَالْحَفَدَةِ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ أَزْوَاجِهِمْ. وَدَعْوَى أَنَّ قَوْلَهُ: «وَحَفَدَةً» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «أَزْوَاجًا» [16 \ 72] ، غَيْرُ ظَاهِرَةٍ. كَمَا أَنَّ دَعْوَى أَنَّهُمُ الْأَخْتَانُ، وَأَنَّ الْأَخْتَانَ أَزْوَاجُ بَنَاتِهِمْ، وَبَنَاتُهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ كُلُّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ هُوَ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أَوْلَادَ الرَّجُلِ، وَأَوْلَادَ أَوْلَادِهِ: مِنْ خَدَمِهِ الْمُسْرِعِينَ فِي خِدْمَتِهِ عَادَةً. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [16 \ 72] ، رَدٌّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يُرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكٍ تَزَوَّجَ سَعْلَاةً مِنْهُمْ، وَكَانَ يُخَبِّؤُهَا عَنْ سَنَا الْبَرْقِ لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لَمَعَ الْبَرْقُ وَعَايَنَتْهُ السَّعْلَاةُ، فَقَالَتْ: عَمْرُو! وَنَفَرَتْ. فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا ; وَلِذَا قَالَ عِلْبَاءُ بْنُ أَرْقَمَ يَهْجُو أَوْلَادَ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ: أَلَا لَحَى اللَّهُ بَنِي السَّعْلَاةْ ... عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 لَيْسُوا بِأَعْفَافٍ وَلَا أَكَيَاتْ وَقَوْلُهُ: «النَّاتُ» ، أَصْلُهُ «النَّاسُ» أُبْدِلَتْ فِيهِ السِّينُ تَاءً. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «أَكَيَاتٌ» أَصْلُهُ «أَكْيَاسٌ» جَمْعُ كَيِّسٍ، أُبْدِلَتْ فِيهِ السِّينُ تَاءً أَيْضًا. وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ يَصِفُ مَرَاكِبَ إِبِلٍ مُتَغَرِّبَةٍ عَنِ الْأَوْطَانِ: إِذَا رَأَتْ لَمَعَانَ الْبَرْقِ تَشْتَاقُ إِلَى أَوْطَانِهَا. فَزَعَمَ أَنَّهُ يَسْتُرُ عَنْهَا الْبَرْقَ لِئَلَّا يُشَوِّقُهَا إِلَى أَوْطَانِهَا، كَمَا كَانَ عَمْرٌو يَسْتُرُهُ عَنْ سَعْلَاتِهِ: إِذَا لَاحَ إِيمَاضٌ سَتَرْتُ وُجُوهَهَا ... كَأَنِّي عَمْرٌو وَالْمُطِيُّ سَعَالِي وَالسَّعْلَاةُ: عَجُوزُ الْجِنِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًّا» . قَالَ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَالَ شَارِحُهُ الْمَنَاوِيُّ: فِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ فِي الْمِيزَانِ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ. وَعَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ: لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِنَا أَحْفَظُ مِنْهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ مَنَاكِيرِهِ هَذَا الْخَبَرَ اه. وَبَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. انْتَهَى. وَقَالَ الْمَنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًا» ، قَالَ قَتَادَةُ: وَلِهَذَا كَانَ مُؤَخَّرُ قَدَمَيْهَا كَحَافِرِ الدَّابَّةِ. وَجَاءَ فِي آثَارٍ: أَنَّ الْجِنِّيَّ الْأُمُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهَا مَلِكَ الْيَمَنِ خَرَجَ لِيَصِيدَ فَعَطِشَ، فَرُفِعَ لَهُ خِبَاءٌ فِيهِ شَيْخٌ فَاسْتَسْقَاهُ، فَقَالَ: يَا حَسَنَةُ، اسْقِي عَمَّكِ ; فَخَرَجَتْ كَأَنَّهَا شَمْسٌ بِيَدِهَا كَأْسٌ مِنْ يَاقُوتٍ. فَخَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ جِنِّيُّ، وَزَوَّجَهَا مِنْهُ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهَا عَنْ شَيْءٍ عَمِلَتْهُ فَهُوَ طَلَاقُهَا. فَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، وَلَمْ يُذَكِّرْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَبَحَتْهُ فَكَرَبَ لِذَلِكَ، وَخَافَ أَنْ يَسْأَلَهَا فَتَبِينُ مِنْهُ. ثُمَّ أَتَتْ بِبِلْقِيسَ فَأَظْهَرَتِ الْبِشْرَ ; فَاغْتَمَّ فَلَمْ يَمْلِكْ أَنْ سَأَلَهَا، فَقَالَتْ: هَذَا جَزَائِي مِنْكَ! بَاشَرْتُ قَتْلَ وَلَدِي مِنْ أَجْلِكَ! وَذَلِكَ أَنْ أَبِي يَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَسَمِعَ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: إِنَّ الْوَلَدَ إِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ ذَبَحَكَ، ثُمَّ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فِي هَذِهِ فَسَمِعَهُمْ يُعَظِّمُونَ شَأْنَهَا، وَيَصِفُونَ مُلْكَهَا، وَهَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ; فَلَمْ يَرَهَا بَعْدُ. هَذَا مَحْصُولُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ يَحْيَى الْغَسَّانِيِّ. اه مِنْ شَرْحِ الْمَنَاوِيِّ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ «سُورَةِ النَّحْلِ» : كَانَ أَبُو بِلْقِيسَ وَهُوَ: السَّرْحُ بْنُ الْهُدَاهِدِ بْنِ شُرَاحِيلَ، مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، وَكَانَ يَقُولُ لِمُلُوكِ الْأَطْرَافِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ كُفْأً لِي. وَأَبَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ ; فَزَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا رَيْحَانَةُ بَنَتُ السَّكَنِ ; فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِمَةَ وَهِيَ بِلْقِيسُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ جِنِّيًّا» - إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ سَبَبَ تَزَوُّجِ أَبِيهَا مِنَ الْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ وَزِيرًا لِمَلِكٍ عَاتٍ، يَغْتَصِبُ نِسَاءَ الرَّعِيَّةِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ غَيُورًا فَلَمْ يَتَزَوَّجْ. فَصَحِبَ مَرَّةً فِي الطَّرِيقِ رَجُلًا لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ فَقَالَ: لَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَإِنَّ مَلِكَ بَلَدِنَا يَغْتَصِبُ النِّسَاءَ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ. فَقَالَ: لَئِنْ تَزَوَّجْتَ ابْنَتِي لَا يَغْتَصِبُهَا أَبَدًا. قَالَ: بَلْ يَغْتَصِبُهَا! قَالَ: إِنَّا قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْنَا. فَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: وَرَوَى وُهَيْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ، قَالَ: كَانَتْ أُمُّ بِلْقِيسَ مِنَ الْجِنِّ، يُقَالُ لَهَا: بِلْعِمَةُ بِنْتُ شَيْصَانَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي كَوْنِ أَحَدِ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ جِنِّيًّا ضَعِيفٌ. وَكَذَلِكَ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَثْبُتُ. مَسْأَلَةٌ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ وَالْجِنِّ. فَمَنَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَبَاحَهَا بَعْضُهُمْ. قَالَ الْمَنَاوِيُّ (فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) : فَفِي الْفَتَاوَى السِّرَاجِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ: لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَإِنْسَانِ الْمَاءِ ; لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَفِي فَتَاوَى الْبَارِزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ التَّنَاكُحُ بَيْنَهُمَا. وَرَجَّحَ ابْنُ الْعِمَادِ جَوَازَهُ. اه. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ لِلْعُقُولِ ; لِتَبَايُنِ الْجِنْسَيْنِ، وَاخْتِلَافِ الطَّبْعَيْنِ ; إِذِ الْآدَمِيُّ جُسْمَانِيٌّ، وَالْجِنِّيُّ رُوحَانِيٌّ. وَهَذَا مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَذَلِكَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَالِامْتِزَاجُ مَعَ هَذَا التَّبَايُنِ مَدْفُوعٌ، وَالتَّنَاسُلُ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَمْنُوعٌ. اه. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: نِكَاحُهُمْ جَائِزٌ عَقْلًا ; فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: لَا أَعْلَمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصًّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُنَاكَحَةِ الْإِنْسِ الْجِنَّ، بَلِ الَّذِي يُسْتَرْوَحُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ عَدَمُ جَوَازِهِ. فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [16 \ 72] ، مُمْتَنًّا عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 بَنِي آدَمَ بِأَنَّ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ نَوْعِهِمْ وَجِنْسِهِمْ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا جَعَلَ لَهُمْ أَزْوَاجًا تُبَايِنُهُمْ كَمُبَايَنَةِ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [30 \ 21] ، فَقَوْلُهُ: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا خَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ ; وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ: «النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَعُمُّ» ، فَقَوْلُهُ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [16 \ 72] ، جَمْعٌ مُنْكَرٌ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ فَهُوَ يَعُمُّ، وَإِذَا عَمَّ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَصْرِ الْأَزْوَاجِ الْمَخْلُوقَةِ لَنَا فِيمَا هُوَ مِنْ أَنْفُسِنَا، أَيْ: مِنْ نَوْعِنَا وَشَكْلِنَا. مَعَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ زَعَمُوا «أَنَّ الْجُمُوعَ الْمُنْكَرَةَ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ» ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا تَعُمُّ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ ; حَيْثُ قَالَ فِي تَعْدَادِهِ لِلْمَسَائِلِ الَّتِي عُدِمَ الْعُمُومُ فِيهَا أَصَحُّ: مِنْهُ مُنْكَرُ الْجُمُوعِ عُرْفًا ... وَكَانَ وَالَّذِيَ عَلَيْهِ انْعَطَفَا أَمَّا فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ فَالنَّكِرَةُ تَعُمُّ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ «أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَعُمُّ» ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [25 \ 48] ، أَيْ: فَكُلُّ مَاءٍ نَازِلٍ مِنَ السَّمَاءِ طَهُورٌ. وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ أَوِ النَّهْيِ ; كَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [7 \ 59] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [9 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا الْآيَةَ [76 \ 24] ، وَيَسْتَأْنِسُ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [26 \ 166] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَتَعَدِّيَهُمْ إِلَى غَيْرِهِ يَسْتَوْجِبُ الْمَلَامَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [26 \ 165 - 166] ، فَإِنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُ الذُّكُورِ. وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا خَلَقَ لَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى أَنَّ مَا خُلِقَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، هُوَ الْكَائِنُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: مِنْ نَوْعِهِمْ وَشَكْلِهِمْ ; كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [16 \ 72] ،، وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [30 \ 21] ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَلَا مِنَ الْأَرْضِ بِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ. وَأَكَّدَ عَجْزَ مَعْبُودَاتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَرْزُقُوا، وَالِاسْتِطَاعَةُ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُمْ أَصْلًا ; لِأَنَّهُمْ جَمَادٌ لَيْسَ فِيهِ قَابِلِيَّةُ اسْتِطَاعَةِ شَيْءٍ. وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا مَنْ يَرْزُقُ الْخَلْقَ ; لِأَنَّ أَكْلَهُمْ رِزْقَهُ، وَعِبَادَتَهُمْ غَيْرَهُ كُفْرٌ ظَاهِرٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [29 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [67 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [51 \ 56 - 58] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ وَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [20 \ 132] ، وَقَوْلِهِ: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [35 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [10 \ 31] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ. فِي قَوْلِهِ: شَيْئًا [16 \ 73] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْإِعْرَابِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: رِزْقًا، مَصْدَرٌ، وَأَنَّ:، شَيْئًا، مَفْعُولٌ بِهِ لِهَذَا الْمَصْدَرِ ; أَيْ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَهُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْإِعْرَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا الْآيَةَ [90 \ 14 - 15] ، فَقَوْلُهُ: يَتِيمًا مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ إِطْعَامٌ، أَيْ: أَنْ يُطْعِمَ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الْمَرَّارِ بْنِ مُنْقِذٍ التَّمِيمِيِّ: بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُءُوسَ قَوْمٍ ... أَزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ الْمَقِيلِ فَقَوْلُهُ: «رُءُوسَ قَوْمٍ» مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ «بِضَرْبٍ» ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ ألحق فِي الْعَمَلِ ... مُضَافًا أَوْ مُجَرَّدًا أَوْ مَعَ الْ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: شَيْئًا، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ رِزْقًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّزْقِ هُوَ مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ عِبَادَهُ ; لَا الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: شَيْئًا مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: يَمْلِكُ، أَيْ: لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْمُلْكِ، بِمَعْنَى لَا يَمْلِكُ مُلْكًا قَلِيلًا أَنْ يَرْزُقَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ. نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَلَقَهُ أَنْ يَضْرِبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ، أَيْ: يَجْعَلُوا لَهُ أَشْبَاهًا وَنُظَرَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا! . وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الْآيَةَ [42 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [112 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ الْآيَةَ، أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ الْإِتْيَانَ بِهَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي أَسْرَعِ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ ; لِأَنَّهُ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [54 \ 50] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْنَى هِيَ قَرِيبٌ عِنْدَهُ تَعَالَى كَلَمْحِ الْبَصَرِ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدًا عِنْدَكُمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [70 \ 6، 7] ، وَقَالَ: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ فِي (الْبَحْرِ الْمُحِيطِ) : أَنَّ «أَوْ» فِي قَوْلِهِ «أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الزَّجَّاجَ، قَالَ: وَنَظِيرُهُ: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [37 \ 114] ، وَقَوْلُهُ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [10 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَخْرَجَ بَنِي آدَمَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُمُ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ; لِأَجْلِ أَنْ يَشْكُرُوا لَهُ نِعَمَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنْ «لَعَلَّ» لِلتَّعْلِيلِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ شَكَرُوا أَوْ لَمْ يَشْكُرُوا ; وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [2 \ 243] ، وَقَالَ: قُلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ [67 \ 23] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ. لَمْ يَأْتِ السَّمْعُ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا، وَإِنَّمَا يَأْتِي فِيهِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ دَائِمًا، مَعَ أَنَّهُ يَجْمَعُ مَا يُذْكَرُ مَعَهُ كَالْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ. وَأَظْهَرَ الْأَقْوَالَ فِي نُكْتَةِ إِفْرَادِهِ دَائِمًا: أَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرُ سَمِعَ سَمْعًا، وَالْمَصْدَرُ إِذَا جُعِلَ اسْمًا ذُكِّرَ وَأُفْرِدَ ; كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا ... فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ تَسْخِيرَهُ الطَّيْرَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهَا إِلَّا هُوَ، مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [67 \ 19] . تَنْبِيهٌ. لَمْ يَذْكُرْ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ الْفِعْلَ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) مِنْ صِيَغِ جُمُوعِ التَّكْسِيرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنِ اسْتِقْرَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ الْفِعْلَ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِفَاعِلٍ وَصْفًا لِكَثْرَةِ وُرُودِهِ فِي اللُّغَةِ جَمْعًا لَهُ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ [16 \ 79] ، فَالطَّيْرُ جَمْعُ طَائِرٍ، وَكَالصَّحْبِ فَإِنَّهُ جَمْعُ صَاحِبٍ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيُّهُمْ ... يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ فَقَوْلُهُ «صَحْبِي» ، أَيْ: أَصْحَابِي. وَكَالرَّكْبِ فَإِنَّهُ جَمْعُ رَاكِبٍ ; قَالَ تَعَالَى: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [8 \ 42] ، وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ: أَسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أَشْيَاعِهِمْ خَبَرَا ... أَمْ رَاجَعَ الْقَلْبَ مَنْ أَطْرَابِهِ طَرَبُ فَالرَّكْبُ جَمْعُ رَاكِبٍ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ضَمِيرَ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: «عَنْ أَشْيَاعِهِمْ» ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وَكَالشُّرْبِ فَإِنَّهُ جَمْعُ شَارِبٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: كَأَنَّهُ خَارِجًا مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّودُ شُرْبٍ نَسُوهُ عِنْدَ مُفْتَأَدِ فَإِنَّهُ رَدَّ عَلَى الشُّرْبِ ضَمِيرَ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: «نَسُوهُ. .» إِلَخْ، وَكَالسَّفَرِ فَإِنَّهُ جَمْعُ سَافِرٍ ; وَمِنْهُ حَدِيثُ: «أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ» ، وَقَوْلُ الشَّنْفَرَى: كَأَنَّ وَغَاهَا حَجْرَتَيْهِ وَجَالَهُ ... أَضَامِيمُ مِنْ سَفَرِ الْقَبَائِلِ نُزَّلُ وَكَالرَّجُلِ جَمْعُ رَاجِلٍ ; وَمِنْهُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [17 \ 64] ، بِسُكُونِ الْجِيمِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ كَسْرَةَ الْجِيمِ إِتْبَاعٌ لِكَسْرَةِ اللَّامِ، فَمَعْنَاهُ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلَا نُطِيلُ بِهِ الْكَلَامَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمُ الْآيَةَ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ ; بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ سَرَابِيلَ تَقِيهِمُ الْحَرَّ، أَيْ: وَالْبَرْدَ ; لِأَنَّ مَا يَقِي الْحَرَّ مِنَ اللِّبَاسِ يَقِي الْبَرْدَ. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ السَّرَابِيلِ: الْقُمْصَانُ وَنَحْوُهَا مِنْ ثِيَابِ الْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ وَالصُّوفِ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْكُبْرَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا الْآيَةَ [7 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الْآيَةَ [7 \ 31] ، أَيْ: وَتِلْكَ الزِّينَةُ هِيَ مَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ الْحَسَنِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [16 \ 81] ، الْمُرَادُ بِهَا الدُّرُوعُ وَنَحْوُهَا، مِمَّا يَقِي لَابِسَهُ وَقْعَ السِّلَاحِ، وَيُسَلِّمُهُ مِنْ بَأْسِهِ. . وَقَدْ بَيَّنَ أَيْضًا هَذِهِ النِّعْمَةَ الْكُبْرَى، وَاسْتِحْقَاقَ مَنْ أَنْعَمَ بِهَا لِأَنْ يُشْكَرَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [21 \ 80] ، وَإِطْلَاقُ السَّرَابِيلِ عَلَى الدُّرُوعِ وَنَحْوِهَا مَعْرُوفٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا الْآيَةَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ، وَيُدَبِّرُ شُؤُونَهُمْ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ ; فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيُسَوُّونَهُ بِمَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يُغْنِي شَيْئًا. وَقَدْ أَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنَ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [10 \ 31] . فَقَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [10 \ 31] ، دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِمْ نِعْمَتَهُ. وَقَوْلُهُ: فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [10 \ 31] ، دَلِيلٌ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لَهَا. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [16 \ 80] ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ! قَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا الْآيَةَ [16 \ 80] ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ! ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ! حَتَّى بَلَغَ: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [16 \ 81] ، فَوَلَّى الْأَعْرَابِيُّ ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا [16 \ 83] ، وَعَنِ السُّدِّيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ، أَيْ: نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، أَيْ: يُكَذِّبُونَهُ وَيُنْكِرُونَ صِدْقَهُ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا -: أَنَّ بَعْثَةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 164] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُمْ قَابَلُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [14 \ 28] ، وَقِيلَ: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الشِّدَّةِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا فِي الرَّخَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [16 \ 83] ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَافِرُونَ. أَطْلَقَ الْأَكْثَرَ وَأَرَادَ الْكُلَّ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: أَوْ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْعُقَلَاءَ دُونَ الْأَطْفَالِ وَنَحْوِهِمْ. أَوْ أَرَادَ كُفْرَ الْجُحُودِ، وَلَمْ يَكُنْ كُفْرُ كُلِّهِمْ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ كُفْرُ بَعْضِهِمْ كُفْرَ جَهْلٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ; لَمْ يُبَيِّنْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُتَعَلِّقَ الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْذَنُ [16 \ 84] ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي (الْمُرْسَلَاتِ) أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِذْنِ الِاعْتِذَارُ، أَيْ: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ يَصِحُّ قَبُولُهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [77 \ 35 - 36] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ اعْتِذَارِهِمُ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنِ اعْتِذَارِهِمْ؟ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [16 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [40 \ 74] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ حَتَّى إِذَا قِيلَ لَهُمْ: «اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ» [23 \ 108] ، انْقَطَعَ نُطْقُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [27 \ 85] . وَمِنْهَا: أَنَّ نَفْيَ اعْتِذَارِهِمْ يُرَادُ بِهِ اعْتِذَارٌ فِيهِ فَائِدَةٌ. أَمَّا الِاعْتِذَارُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَهُوَ كَالْعَدَمِ، يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلِذَا صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ بُكْمٌ فِي قَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ [2 \ 171] ، مَعَ قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [63 \ 4] ، أَيْ: لِفَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ. وَقَالَ عَنْهُمْ أَيْضًا: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [33 \ 19] ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ فَصَاحَتِهِمْ وَحِدَّةِ أَلْسِنَتِهِمْ، مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُمْ بُكُمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَلَا شَيْءٍ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ: وَإِنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ لَكَالنَّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ. وَالتَّرْتِيبُ بِ «ثُمَّ» [16 \ 84] فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [16 \ 84] ، عَلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا [16 \ 84] ، لِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ابْتِلَاءَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنَ الِاعْتِذَارِ الْمُشْعِرِ بِالْإِقْنَاطِ الْكُلِّيِّ أَشَدُّ مِنِ ابْتِلَائِهِمْ بِشَهَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا هُمْ يَسْتَعْتِبُونَ، اعْلَمْ أَوْلًا: أَنَّ اسْتَعْتَبَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى طَلَبِ الْعُتْبَى ; أَيْ: الرُّجُوعِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِبِ وَيَسُرُّهُ. وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى أَعْتَبَ: إِذَا أَعْطَى الْعُتْبَى، أَيْ: رَجَعَ إِلَى مَا يُحِبُّ الْعَاتِبُ وَيَرْضَى، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [16 \ 84] ، وَجْهَيْنِ مِنَ التَّفْسِيرِ مُتَقَارِبِي الْمَعْنَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، أَيْ: لَا تُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعُتْبَى، بِمَعْنَى لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ ; لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، فَلَا يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتُوبُوا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، أَيْ: يُعْتَبُونَ، بِمَعْنَى يُزَالُ عَنْهُمُ الْعَتَبُ، وَيُعْطَوْنَ الْعُتْبَى وَهِيَ الرِّضَا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [41 \ 24] ، أَيْ: وَإِنْ يَطْلُبُوا الْعُتْبَى - وَهِيَ الرِّضَا عَنْهُمْ لِشِدَّةِ جَزَعِهِمْ - فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ; بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: الْمُعْطَيْنَ الْعُتْبَى وَهِيَ الرِّضَا عَنْهُمْ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَعْتِبَهُ إِذَا رَجَعَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ وَيَسُرُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ أَيْ: لَا يُرْجِعُ الدَّهْرُ إِلَى مَسَرَّةٍ مَنْ جَزَعَ، وَرِضَاهُ. وَقَوْلُ النَّابِغَةِ: فَإِنْ كُنْتَ مَظْلُومًا فَعَبْدٌ ظَلَمْتَهُ ... وَإِنْ كُنْتَ ذَا عُتْبَى فَمِثْلُكَ يَعْتِبُ وَأَمَّا قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ: غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتَّلَ ... عَامِرٌ يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ يَعْنِي: أَعْتَبْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ، أَيْ: أَرْضَيْنَاهُمْ بِالْقَتْلِ ; فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبْ: وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بَخِيلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِإِرْضَاءٍ، وَالضَّرْبَ الْوَجِيعَ لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا [41 \ 24] ، بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [41 \ 24] ، بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ طُلِبَتْ مِنْهُمُ الْعُتْبَى وَرُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، «فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» أَيِ: الرَّاجِعِينَ إِلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُمْ، بَلْ يَرْجِعُونَ إِلَى كُفْرِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ أَوْلًا. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [6 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ، وَلَا يُنْظَرُونَ أَيْ لَا يُمْهَلُونَ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ النَّارَ وَأَنَّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 تَرَاهُمْ، وَأَنَّهَا تَكَادُ تَتَقَطَّعُ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ عَلَيْهِمْ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [21 \ 39 - 40] ، وَقَوْلِهِ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [18 \ 53] ، وَقَوْلِهِ: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [25 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [67 \ 7، 8] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [2 \ 165] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَوْا مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُشْرِكُونَهَا بِاللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ قَالُوا لِرَبِّهِمْ: «رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» [16 \ 86] وَأَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ تُكَذِّبُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ! مَا «كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ» [10 \ 28] . وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 \ 5 - 6] ، وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 81 - 82] ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [29 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [28 \ 64] ، وَقَوْلِهِ: فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [10 \ 28] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ كَذَّبَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ وَنَفُوا أَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ، مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ مَا قَالُوا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ! فَالْجَوَابُ: أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَهُمْ مُنْصَبٌّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ، وَأَنَّ عِبَادَتَهُمْ حَقٌّ، وَأَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَأَشْنَعِ الِافْتِرَاءِ. وَلِذَلِكَ هُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَلْقَوْا إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَوْلِ، وَنَطَقُوا فِيهِ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ. وَمُرَادُ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ لِرَبِّهِمْ: «هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا» ، قِيلَ لِيُحَمِّلُوا شُرَكَاءَهُمْ تَبِعَةَ ذَنْبِهِمْ. وَقِيلَ: لِيَكُونُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 شُرَكَاءَهُمْ فِي الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [7 \ 38] ، وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. . . الْآيَةَ [21 \ 98] ، وَأَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى وَعُزَيْرًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. . . الْآيَةَ [21 \ 101] ; لِأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ بِرِضَاهُمْ. بَلْ لَوْ أَطَاعُوهُمْ لَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ، إِلْقَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ السَّلَّمَ: هُوَ انْقِيَادُهُمْ لَهُ، وَخُضُوعُهُمْ ; حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [16 \ 28] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [37 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [20 \ 111] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [16 \ 28] . وَقَوْلِهِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [16 \ 87] ، أَيْ: غَابَ عَنْهُمْ وَاضْمَحَلَّ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ. مِنْ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ. . . الْآيَةَ [10 \ 18] ، وَكَقَوْلِهِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَضَلَالُ ذَلِكَ عَنْهُمْ مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [10 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [28 \ 75] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي اللُّغَةِ بِشَوَاهِدِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ «صَدَّ» تُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِعْمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْتَعْمَلَ مُتَعَدِّيَةً إِلَى الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. . . الْآيَةَ [48 \ 25] ، وَمُضَارِعُ هَذِهِ الْمُتَعَدِّيَةِ «يَصُدُّ» بِالضَّمِّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمَصْدَرُهَا «الصَّدِّ» عَلَى الْقِيَاسِ أَيْضًا. وَالثَّانِي: أَنْ تُسْتَعْمَلَ «صَدَّ» لَازِمَةً غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَمَصْدَرُ هَذِهِ «الصُّدُودُ» عَلَى الْقِيَاسِ، وَفِي مُضَارِعِهَا الْكَسْرُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالضَّمُّ عَلَى السَّمَاعِ ; وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَتَانِ السَّبْعِيَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 [43 \ 57] ، بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ. فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ: فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [16 \ 88] ، مُحْتَمَلٌ ; لِأَنْ تَكُونَ «صَدَّ» مُتَعَدِّيَةً، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ ; عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ ... كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ وَمُحْتَمَلٌ لِأَنْ تَكُونَ «صَدَّ» لَازِمَةً غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثُ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ «صَدَّ» مُتَعَدِّيَةٌ، وَالْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَصَدُّوا النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. الْأُولَى: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا «صَدَّ» لَازِمَةً، وَأَنَّ مَعْنَاهَا: صُدُودُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ ; لَكَانَ ذَلِكَ تِكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ مَعَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا [16 \ 88] ، بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ: كَفَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الدِّينِ فَحَمَلُوهُ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْضًا. الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [16 \ 88] ، فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنَ الْعَذَابِ لِأَجْلِ إِضْلَالِهِمْ غَيْرَهُمْ. وَالْعَذَابُ الْمَزِيدُ فَوْقَهُ: هُوَ عَذَابُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ أَضَلُّوا غَيْرَهُمْ: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. . . الْآيَةَ [16 \ 25] ، وَقَوْلُهُ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ. . . الْآيَةَ [29 \ 13] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. الْقَرِينَةُ الثَّالِثَةُ، قَوْلُهُ: بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [16 \ 88] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْسِدُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلِهِ: فَوْقَ الْعَذَابِ [16 \ 88] ، أَيْ: الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الْمَزِيدَ: عَقَارِبُ أَنْيَابُهَا كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ، وَحَيَّاتٌ مِثْلُ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ، وَأَفَاعِي كَأَنَّهَا الْبَخَاتِيُّ تَضْرِبُهُمْ. أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا أَجَابُوا بِهِ رَسُولَهُمْ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهِدًا عَلَيْنَا. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 الْأَرْضُ. . . الْآيَةَ [4 \ 41، 42] ، وَكَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [5 \ 109] ، وَكَقَوْلِهِ: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْرَأْ عَلَيَّ» ، قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَأَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ ! قَالَ: «نَعَمْ ; إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» ، فَقَرَأْتُ «سُورَةَ النِّسَاءِ» ، حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [4 \ 41] ، فَقَالَ: «حَسْبُكَ الْآنَ» ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. اه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ [16 \ 89] ، مَنْصُوبٌ بِ «اذْكُرْ» مُقَدَّرًا. وَالشَّهِيدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَعِيلَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ: شَاهِدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [6 \ 38] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ فِيهَا الْقُرْآنُ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. فَلَا بَيَانَ بِالْآيَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. وَالسُّنَّةُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ ; وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِكْلِيلِ» فِي اسْتِنْبَاطِ التَّنْزِيلِ، قَالَ تَعَالَى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [16 \ 89] ، وَقَالَ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [6 \ 38] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَتَكُونُ فِتَنٌ» ، قِيلَ: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ» ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا خَدِيجُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ ; فَإِنَّ فِيهِ خَبَرَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَرَادَ بِهِ أُصُولَ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً: التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ. ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الثَّلَاثَةِ الْفَرْقَانَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ: الْمُفَصَّلَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ: فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ; فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ، وَجَمِيعُ شَرْحِ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا إِلَّا الْتَمَسْتُ لَهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا وَجَدْتُ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأْتُكُمْ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ كُلُّ عِلْمٍ، وَبُيِّنَ لَنَا فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ عِلْمَنَا يَقْصُرُ عَمَّا بُيِّنَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ لَوْ أَغْفَلَ شَيْئًا لَأَغْفَلَ الذَّرَّةَ وَالْخَرْدَلَةَ وَالْبَعُوضَةَ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنِّي لَا أَحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» ، رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: لَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ فِي الدِّينِ نَازِلَةٌ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: مِنَ الْأَحْكَامِ مَا ثَبَتَ ابْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ؟ قُلْنَا: ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَوْجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفَرَضَ عَلَيْنَا الْأَخْذَ بِقَوْلِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً بِمَكَّةَ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، أُخْبِرْكُمْ عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقَوُلُ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ؟ فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» [1 \ 1] ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ، وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اقْتَدَوْا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ» ، وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُحْرِمِ الزُّنْبُورَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مِنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ؟ ! قَالَ: لَئِنْ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهَا! أَمَا قَرَأْتِ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ،؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ بُرْجَانَ: مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَ، أَوْ عَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ، وَكَذَا كُلُّ مَا حَكَمَ أَوْ قَضَى بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ; حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمُرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا وَسِتِّينَ مِنْ قَوْلِهِ «فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ» : وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [63 \ 11] ; فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةٍ، وَعَقَّبَهَا «بِالتَّغَابُنِ» ، لِيُظْهِرَ التَّغَابُنَ فِي فَقْدِهِ. وَقَالَ الْمُرْسِيُّ: جَمَعَ الْقُرْآنُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، بِحَيْثُ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا حَقِيقَةً إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خَلَا مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ وَرِثَ عَنْهُ مُعْظَمَ ذَلِكَ سَادَاتُ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَامُهُمْ ; مِثْلُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى قَالَ: لَوْ ضَاعَ لِي عِقَالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ. ثُمَّ وَرِثَ عَنْهُمُ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ تَقَاصَرَتِ الْهِمَمُ، وَفَتَرَتِ الْعَزَائِمُ، وَتَضَاءَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَضَعُفُوا عَنْ حَمْلِ مَا حَمَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ عُلُومِهِ وَسَائِرِ فُنُونِهِ ; فَنَوَّعُوا عُلُومَهُ، وَقَامَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ بِفَنٍّ مِنْ فُنُونِهِ. فَاعْتَنَى قَوْمٌ بِضَبْطِ لُغَاتِهِ، وَتَحْرِيرِ كَلِمَاتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَخَارِجِ حُرُوفِهِ وَعَدَدِهَا، وَعَدِّ كَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ، وَسُوَرِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَأَنْصَافِهِ وَأَرْبَاعِهِ، وَعَدَدِ سَجَدَاتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَصْرِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَالْآيَاتِ الْمُتَمَاثِلَةِ. مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَعَانِيهِ، وَلَا تَدَبُّرٍ لِمَا أُوُدِعَ فِيهِ. فَسُمُّوا الْقُرَّاءَ. وَاعْتَنَى النُّحَاةُ بِالْمُعْرَبِ مِنْهُ وَالْمَبْنِيِّ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، وَالْحُرُوفِ الْعَامِلَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَوْسَعُوا الْكَلَامَ فِي الْأَسْمَاءِ وَتَوَابِعِهَا، وَضُرُوبِ الْأَفْعَالِ، وَاللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي، وَرُسُومِ خَطَّ الْكَلِمَاتِ، وَجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ; حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَعْرَبَ مُشْكَلَهُ. وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَهُ كَلِمَةً كَلِمَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 وَاعْتَنَى الْمُفَسِّرُونَ بِأَلْفَاظِهِ، فَوَجَدُوا مِنْهُ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ، وَلَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ ; فَأَجْرَوْا الْأَوَّلَ: عَلَى حُكْمِهِ، وَأَوْضَحُوا الْخَفِيَّ مِنْهُ، وَخَاضُوا إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ مُحْتَمَالَاتِ ذِي الْمَعْنَيَيْنِ أَوِ الْمَعَانِي، وَأَعْمَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِكْرَهُ، وَقَالَ بِمَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ. وَاعْتَنَى الْأُصُولِيُّونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالشَّوَاهِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ ; مِثْلُ قَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ ; فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ أَدِلَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَوُجُودِهِ، وَبَقَائِهِ وَقِدَمِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ; وَسَمَّوْا هَذَا الْعِلْمَ بِ «، أُصُولِ الدِّينِ» . وَتَأَمَّلَتْ طَائِفَةٌ مَعَانِيَ خِطَابِهِ ; فَرَأَتْ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ; فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ أَحْكَامَ اللُّغَةِ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَتَكَلَّمُوا فِي التَّخْصِيصِ وَالْإِضْمَارِ، وَالنَّصِّ وَالظَّاهِرِ، وَالْمُجْمَلِ وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنَّسْخِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ، وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالِاسْتِقَرَاءِ ; وَسَمَّوْا هَذَا الْفَنَّ «أُصُولَ الْفِقْهِ» . وَأَحْكَمَتْ طَائِفَةٌ صَحِيحَ النَّظَرِ، وَصَادِقَ الْفِكْرِ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَأَسَّسُوا أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ، وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا حَسَنًا ; وَسَمَّوْهُ بِ «عِلْمِ الْفُرُوعِ» وَبِ «، الْفِقْهِ أَيْضًا» . وَتَلَمَّحَتْ طَائِفَةٌ مَا فِيهِ مِنْ قَصَصِ الْقُرُونِ السَّابِقَةِ، وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَنَقَلُوا أَخْبَارَهُمْ، وَدَوَّنُوا آثَارَهُمْ وَوَقَائِعَهُمْ. حَتَّى ذَكَرُوا بَدْءَ الدُّنْيَا، وَأَوَّلَ الْأَشْيَاءِ ; وَسَمَّوْا ذَلِكَ بِ «التَّارِيخِ وَالْقَصَصِ» . وَتَنَبَّهَ آخَرُونَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ، وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي تُقَلْقِلُ قُلُوبَ الرِّجَالِ، وَتَكَادُ تُدَكْدِكُ الْجِبَالَ ; فَاسْتَنْبَطُوا مِمَّا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّحْذِيرِ وَالتَّبْشِيرِ، وَذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ، وَالنَّشْرِ وَالْحَشْرِ، وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فُصُولًا مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَأُصُولًا مِنَ الزَّوَاجِرِ. فَسُمُّوا بِذَلِكَ «الْخُطَبَاءَ وَالْوُعَّاظَ» . وَاسْتَنْبَطَ قَوْمٌ مِمَّا فِيهِ مِنْ أُصُولِ التَّعْبِيرِ ; مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: مِنَ الْبَقَرَاتِ السِّمَانِ، وَفِي مَنَامَيْ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَفِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ سَاجِدَاتٍ، وَسَمَّوْهُ «تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا» ; وَاسْتَنْبَطُوا تَفْسِيرَ كُلِّ رُؤْيَا مِنَ الْكِتَابِ، فَإِنْ عَزَّ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 مِنْهُ، فَمِنَ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ شَارِحَةُ الْكِتَابِ، فَإِنْ عَسُرَ فَمِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ. ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى اصْطِلَاحِ الْعَوَامِّ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَعُرْفِ عَادَاتِهِمُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [7 \ 199] . وَأَخَذَ قَوْمٌ مِمَّا فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ مِنْ ذِكْرِ السِّهَامِ وَأَرْبَابِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ «عِلْمَ الْفَرَائِضِ» ، وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا مِنْ ذِكْرِ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ وَالسُّدُسِ وَالثُّمُنِ «حِسَابَ الْفَرَائِضِ» ، وَمَسَائِلَ الْعَوْلِ ; وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ أَحْكَامَ الْوَصَايَا. وَنَظَرَ قَوْمٌ إِلَى مَا فِيهِ الْآيَاتُ الدَّالَّاتُ عَلَى الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَنَازِلِهِ، وَالنُّجُومِ وَالْبُرُوجِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَاسْتَخْرَجُوا «عِلْمَ الْمَوَاقِيتِ» . وَنَظَرَ الْكُتَّابُ وَالشُّعَرَاءُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ جَزَالَةِ اللَّفْظِ وَبَدِيعِ النَّظْمِ، وَحُسْنِ السِّيَاقِ وَالْمَبَادِئِ، وَالْمَقَاطِيعِ وَالْمَخَالِصِ وَالتَّلْوِينِ فِي الْخِطَابِ، وَالْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ «عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ» . وَنَظَرَ فِيهِ أَرْبَابُ الْإِشَارَاتِ وَأَصْحَابُ الْحَقِيقَةِ ; فَلَاحَ لَهُمْ مِنْ أَلْفَاظِهِ مَعَانٍ وَدَقَائِقُ، جَعَلُوا لَهَا أَعْلَامًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، مِثْلَ الْغِنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَالْحُضُورِ وَالْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ، وَالْأُنْسِ وَالْوَحْشَةِ، وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. هَذِهِ الْفُنُونُ الَّتِي أَخَذَتْهَا الْمِلَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْهُ. وَقَدِ احْتَوَى عَلَى عُلُومٍ أُخَرَ مِنْ عُلُومِ الْأَوَائِلِ، مِثْلَ: الطِّبِّ، وَالْجَدَلِ، وَالْهَيْئَةِ، وَالْهَنْدَسَةِ وَالْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ وَالنَّجَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. أَمَّا الطِّبُّ: فَمَدَارُهُ عَلَى حِفْظِ نِظَامِ الصِّحَّةِ، وَاسْتِحْكَامِ الْقُوَّةِ ; وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ تَبَعًا لِلْكَيْفِيَّاتِ الْمُتَضَادَّةِ، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [25 \ 67] . وَعَرَّفَنَا فِيهِ بِمَا يُعِيدُ نِظَامَ الصِّحَّةِ بَعْدَ اخْتِلَالِهِ، وَحُدُوثِ الشِّفَاءِ لِلْبَدَنِ بَعْدَ اعْتِلَالِهِ فِي قَوْلِهِ: شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [16 \ 69] . ثُمَّ زَادَ عَلَى طِبِّ الْأَجْسَادِ بِطِبِّ الْقُلُوبِ، وَشِفَاءِ الصُّدُورِ. وَأَمَّا الْهَيْئَةُ: فَفِي تَضَاعِيفِ سُورَهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَثَّ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وَأَمَّا الْهَنْدَسَةُ: فَفِي قَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [77 \ 30، 31] ، فَإِنَّ فِيهِ قَاعِدَةً هَنْدَسِيَّةً، وَهُوَ أَنَّ الشَّكْلَ الْمُثَلَّثَ لَا ظِلَّ لَهُ. وَأَمَّا الْجَدَلُ: فَقَدْ حَوَتْ آيَاتُهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَالْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، وَالْمُعَارَضَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمُنَاظَرَةُ إِبْرَاهِيمَ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ. وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْمُقَابَلَةُ: فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَائِلَ السُّورِ ذُكِرَ عَدَدٌ وَأَعْوَامٌ وَأَيَّامٌ لِتَوَارِيخِ أُمَمٍ سَالِفَةٍ، وَإِنَّ فِيهَا تَارِيخَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَارِيخَ مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ، مَضْرُوبًا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ. وَأَمَّا النَّجَامَةُ: فَفِي قَوْلِهِ: أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ [46 \ 4] ، فَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ. وَفِيهِ مِنْ أُصُولِ الصَّنَائِعِ، وَأَسْمَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهَا، فَمِنَ الصَّنَائِعِ الْخِيَاطَةُ فِي قَوْلِهِ: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ. . . الْآيَةَ [7 \ 22، 20 \ 121] ، وَالْحِدَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [18 \ 96] ، وَقَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ الْآيَةَ [34 \ 10] ، وَالْبِنَاءُ فِي آيَاتٍ، وَالنِّجَارَةُ، أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ [23 \ 27] ، وَالْغَزْلُ: نَقَضَتْ غَزْلَهَا [16 \ 92] ، وَالنَّسْجُ: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا [29 \ 41] ، وَالْفِلَاحَةُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [56 \ 63] ، فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَالصَّيْدُ فِي آيَاتٍ، وَالْغَوْصُ:، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [38 \ 37] ، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً [16 \ 14] ، وَالصِّيَاغَةُ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا. . . الْآيَةَ [7 \ 148] ، وَالزُّجَاجَةُ: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [37 \ 44] ، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [24 \ 35] ، وَالْفِخَارَةُ فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ [28 \ 38] ، وَالْمِلَاحَةُ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [18 \ 79] ، وَالْكِتَابَةُ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [96 \ 4] ، فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَالْخَبْزُ وَالطَّحْنُ:، أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ [12 \ 36] ، وَالطَّبْخُ، بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [11 \ 69] ، وَالْغَسْلُ وَالْقِصَارَةُ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [74 \ 4] ، قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [3 \ 52] [5 \ 112] [61 \ 14] ، وَهُمُ الْقَصَّارُونَ، وَالْجِزَارَةُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [5 \ 3] ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالصَّبْغُ، صِبْغَةَ اللَّهِ. . . الْآيَةَ [2 \ 138] ، جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ. . . الْآيَةَ [35 \ 27] ، وَالْحِجَارَةُ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [26 \ 149] ، وَالْكِيَالَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وَالْوَزْنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالرَّمْيُ: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [8 \ 17] ، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [8 \ 60] . وَفِيهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَلَاتِ، وَضُرُوبِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَنْكُوحَاتِ، وَجَمِيعِ مَا وَقَعَ وَيَقَعُ فِي الْكَائِنَاتِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [6 \ 38] ، انْتَهَى كَلَامُ الْمُرْسِيِّ مُلَخَّصًا مَعَ زِيَادَاتٍ. قُلْتُ: قَدِ اشْتَمَلَ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا أَنْوَاعُ الْعُلُومِ فَلَيْسَ مِنْهَا بَابٌ وَلَا مَسْأَلَةٌ هِيَ أَصْلٌ، إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. وَفِيهِ عِلْمُ عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَبَدْءُ الْخَلْقِ، وَأَسْمَاءُ مَشَاهِيرِ الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَعُيُونُ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ; كَقِصَّةِ آدَمَ مَعَ إِبْلِيسَ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي الْوَلَدِ الَّذِي سَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، وَرَفْعُ إِدْرِيسَ وَإِغْرَاقُ قَوْمِ نُوحٍ، وَقِصَّةُ عَادٍ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَثَمُودَ، وَالنَّاقَةَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَإِنَّهُ أُرْسِلَ مَرَّتَيْنِ، وَقَوْمِ تُبَّعٍ، وَيُونُسَ، وَإِلْيَاسَ، وَأَصْحَابِ الرَّسِّ، وَقِصَّةِ مُوسَى فِي وِلَادَتِهِ وَفِي إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ، وَقَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ، وَمَسِيرِهِ إِلَى مَدْيَنَ وَتَزَوُّجِهِ ابْنَةَ شُعَيْبٍ، وَكَلَامِهِ تَعَالَى بِجَانِبِ الطُّورِ، وَبَعْثِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَخُرُوجِهِ وَإِغْرَاقِ عَدُوِّهِ، وَقِصَّةُ الْعَجَلِ، وَالْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ وَأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ، وَقِصَّةُ الْقِتَالِ وَذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَقِصَّتُهُ فِي قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَقِصَّتُهُ مَعَ الْخِضْرِ وَالْقَوْمِ الَّذِينَ سَارُوا فِي سِرْبٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى الصِّينِ، وَقِصَّةُ طَالُوتَ وَدَاوُدَ مَعَ جَالُوتَ وَقَتْلِهِ، وَقِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَخَبَرِهِ مَعَ مَلِكَةِ سَبَإٍ وَفِتْنَتِهِ، وَقِصَّةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي مُجَادَلَتِهِ قَوْمَهُ، وَمُنَاظَرَتِهِ النُّمْرُوذَ، وَوَضْعِهِ إِسْمَاعِيلَ مَعَ أُمِّهِ بِمَكَّةَ، وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ، وَقِصَّةُ الذَّبِيحِ، وَقِصَّةُ يُوسُفَ وَمَا أَبْسَطَهَا، وَقِصَّةُ مَرْيَمَ وَوِلَادَتِهَا عِيسَى وَإِرْسَالِهِ وَرَفْعِهِ، وَقِصَّةُ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى، وَأَيُّوبَ وَذِي الْكِفْلِ، وَقِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَسِيرِهِ إِلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا وَبِنَائِهِ السَّدَّ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَقِصَّةُ بُخْتُنَصَّرَ، وَقِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لِأَحَدِهِمَا الْجَنَّةُ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا لِيُصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَقِصَّةُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَقِصَّةُ الْجَبَّارِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ. وَفِيهِ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ بِهِ، وَبِشَارَةُ عِيسَى وَبَعْثُهُ وَهِجْرَتُهُ. وَمِنْ غَزَوَاتِهِ: غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي (سُورَةِ الْأَنْفَالِ) ، وَأُحُدٍ فِي (آلِ عِمْرَانَ) ، وَبَدْرٍ الصُّغْرَى فِيهَا، وَالْخَنْدَقُ فِي (الْأَحْزَابِ) ، وَالنَّضِيرِ فِي (الْحَشْرِ) ، وَالْحُدَيْبِيَةِ فِي (الْفَتْحِ) ، وَتَبُوكَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 (بَرَاءَةَ) ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ فِي (الْمَائِدَةِ) ، وَنِكَاحُهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَتَحْرِيمُ سِرِّيَّتِهِ، وَتَظَاهُرُ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ الْإِفْكِ، وَقِصَّةُ الْإِسْرَاءِ، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَسِحْرُ الْيَهُودِ إِيَّاهُ. وَفِيهِ بَدْءُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِلَى مَوْتِهِ، وَكَيْفِيَّةُ الْمَوْتِ، وَقَبْضُ الرُّوحِ وَمَا يُفْعَلُ بِهَا بَعْدَ صُعُودِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَفَتْحُ الْبَابِ لِلْمُؤْمِنَةِ وَإِلْقَاءُ الْكَافِرَةِ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالسُّؤَالُ فِيهِ، وَمَقَرُّ الْأَرْوَاحِ، وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ الْكُبْرَى الْعَشْرَةُ، وَهِيَ: نُزُولُ عِيسَى، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَالدَّابَّةُ، وَالدُّخَانُ، وَرَفْعُ الْقُرْآنِ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَإِغْلَاقُ بَابِ التَّوْبَةِ، وَالْخَسْفُ. وَأَحْوَالُ الْبَعْثِ: مِنْ نَفْخَةِ الصُّورِ، وَالْفَزَعِ، وَالصَّعْقِ، وَالْقِيَامِ، وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَأَهْوَالِ الْمَوْقِفِ، وَشِدَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ، وَظِلِّ الْعَرْشِ، وَالصِّرَاطِ، وَالْمِيزَانِ، وَالْحَوْضِ، وَالْحِسَابِ لِقَوْمٍ، وَنَجَاةِ آخَرِينَ مِنْهُ، وَشَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ، وَإِيتَاءِ الْكُتُبِ بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ وَخَلْفَ الظُّهُورِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَالْجَنَّةِ وَأَبْوَابِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَالْحُلِيِّ وَالْأَلْوَانِ، وَالدَّرَجَاتِ، وَرُؤْيَتِهِ تَعَالَى، وَالنَّارِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَأَنْوَاعِ الْعُقَابِ، وَأَلْوَانِ الْعَذَابِ، وَالزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَوْ بُسِطَ جَاءَ فِي مُجَلَّدَاتٍ. وَفِي الْقُرْآنِ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحُسْنَى كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ. وَفِيهِ مِنْ أَسْمَائِهِ مُطْلَقًا أَلْفُ اسْمٍ، وَفِيهِ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُمْلَةٌ. وَفِيهِ شُعَبُ الْإِيمَانِ الْبِضْعُ وَالسَّبْعُونَ. وَفِيهِ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثُمِائَةِ وَخَمْسَ عَشْرَةَ. وَفِيهِ أَنْوَاعُ الْكَبَائِرِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَفِيهِ تَصْدِيقُ كُلِّ حَدِيثٍ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ. اه كَلَامُ السُّيُوطِيِّ فِي (الْإِكْلِيلِ) . وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ بِرُمَّتِهِ مَعَ طُولِهِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِيضَاحِ: أَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ أَشْيَاءُ جَدِيرَةٌ بِالِانْتِقَادِ تَرَكْنَا مُنَاقَشَتَهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، مَعَ كَثْرَةِ الْفَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْجُمْلَةِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [16 \ 89] ، وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنْكَرٌ وَاقِعٌ حَالًا ; عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وَمَصْدَرٌ مُنْكَرٌ حَالًا يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةٍ زَيْدٌ طَلَعْ تَنْبِيهٌ. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ التِّبْيَانَ مَصْدَرٌ، وَلَمْ يُسْمَعْ كَسْرُ تَاءِ التِّفْعَالِ مَصْدَرًا إِلَّا فِي التِّبْيَانِ وَالتِّلْقَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: التِّبْيَانُ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي (الْبَحْرِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ «تِبْيَانًا» مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى تِفْعَالٍ، وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمَصَادِرِ يَجِيءُ عَلَى تَفْعَالٍ (بِالْفَتْحِ) كَالتَّرْدَادِ وَالتَّطْوَافِ. وَنَظِيرُ تِبْيَانٍ فِي كَسْرِ تَائِهِ: تِلْقَاءُ، وَقَدْ جَوَّزَ الزَّجَّاجُ فَتْحَهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «تِبْيَانًا» اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ ; وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النُّحَاةِ. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَلَمْ يَجِئْ عَلَى تِفْعَالٍ مِنَ الْمَصَادِرِ إِلَّا ضَرْبَانِ: تِبْيَانٌ وَتِلْقَاءٌ. اه وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هُدًى وَرَحْمَةٌ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - أَيْ: مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا -: أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ صَرَّحَ بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [41 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [17 \ 82] ، وَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [9 \ 124 - 125] ، وَقَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [5 \ 64] ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَأْمُرُ خَلْقَهُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَأَنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ; لِأَجْلِ أَنْ يَتَّعِظُوا بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَيَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَيَجْتَنِبُوا نَهْيَهُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ «يَأْمُرُ» ، «وَيَنْهَى» ; لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْعَدْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [5 \ 8] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [4 \ 58] . وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْإِحْسَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [2 \ 195] ، وَقَوْلُهُ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [17 \ 23] ، وَقَوْلُهُ: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ [28 \ 77] ، وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [2 \ 83] ، وَقَوْلُهُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [9 \ 91] . وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [30 \ 38] ، وَقَوْلُهُ: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [17 \ 26] ، وَقَوْلُهُ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى الْآيَةَ [2 \ 177] ، وَقَوْلُهُ: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [90 \ 14، 15] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَهَى فِيهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَالْبَغْيِ قَوْلُهُ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. . . الْآيَةَ [6 \ 151] ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. . . الْآيَةَ [7 \ 33] ، وَقَوْلُهُ: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [6 \ 120] ، وَالْمُنْكَرُ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهَا. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالتَّفَضُّلِ بِالْإِحْسَانِ، قَوْلُهُ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [16 \ 126] ، فَهَذَا عَدْلٌ، ثُمَّ دَعَا إِلَى الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [16 \ 126] ، وَقَوْلُهُ:، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [42 \ 40] ، فَهَذَا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [42 \ 40] . وَقَوْلُهُ: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [5 \ 45] ، فَهَذَا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [5 \ 45] ، وَقَوْلُهُ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. . . الْآيَةَ [42 \ 43] ، فَهَذَا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42 \ 43] ، وَقَوْلُهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [4 \ 148] ، فَهَذَا عَدْلٌ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [4 \ 149] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدْلَ فِي اللُّغَةِ: الْقِسْطُ وَالْإِنْصَافُ، وَعَدَمُ الْجَوْرِ. وَأَصْلُهُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ ; أَيْ: الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. فَمَنْ جَانَبَ الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ فَقَدْ عَدَلَ. وَالْإِحْسَانُ مَصْدَرُ أَحْسَنَ، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً بِالْحَرْفِ نَحْوَ: أَحْسِنْ إِلَى وَالِدَيْكَ ; وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ الْآيَةَ [12 \ 100] ، وَتُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً بِنَفْسِهَا. كَقَوْلِكَ: أَحْسَنَ الْعَامِلُ عَمَلَهُ، أَيْ: أَجَادَهُ وَجَاءَ بِهِ حَسَنًا. وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ لِوَجْهِ اللَّهِ عَمَلٌ أَحْسَنَ فِيهِ صَاحِبُهُ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِحْسَانَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ ذَلِكَ فِي (سُورَةِ هُودٍ) . فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَاجِعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ; كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ ; لِأَنَّ عِبَادَةَ الْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ هِيَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ وَالْقِسْطِ، وَتَجَنُّبُ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ. وَمَنْ أَدَّى فَرَائِضَ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فَقَدْ أَحْسَنَ ; وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ الَّذِي حَلَفَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» ، وَكَقَوْلِ سُفْيَانَ: الْعَدْلُ: اسْتِوَاءُ الْعَلَانِيَةِ وَالسَّرِيرَةِ. وَالْإِحْسَانُ: أَنْ تَكُونَ السَّرِيرَةُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَلَانِيَةِ. وَكَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْعَدْلُ: الْإِنْصَافُ. وَالْإِحْسَانُ: التَّفَضُّلُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [16 \ 90] ، الْوَعْظُ:: الْكَلَامُ الَّذِي تَلِينُ لَهُ الْقُلُوبُ. تَنْبِيهٌ. فَإِنْ قِيلَ: يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْوَعْظِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ; كَقَوْلِهِ هُنَا: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [16 \ 90] ، مَعَ أَنَّهُ مَا ذَكَرَ إِلَّا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ. . . الْآيَةَ [16 \ 90] ، وَكَقَوْلِهِ فِي (سُورَةِ الْبَقَرَةِ) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [2 \ 232] ، وَقَوْلِهِ (فِي الطَّلَاقِ) فِي نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَوْلِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ مِثْلِ قَذْفِ عَائِشَةَ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا. . . الْآيَةَ [24 \ 17] ، مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ النَّاسِ: أَنَّ الْوَعْظَ يَكُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ضَابِطَ الْوَعْظِ: هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي تَلِينُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَأَعْظَمُ مَا تَلِينُ لَهُ قُلُوبُ الْعُقَلَاءِ أَوَامِرُ رَبِّهِمْ وَنَوَاهِيهِ ; فَإِنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا الْأَمْرَ خَافُوا مِنْ سُخْطِ اللَّهِ فِي عَدَمِ امْتِثَالِهِ، وَطَمِعُوا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي امْتِثَالِهِ. وَإِذَا سَمِعُوا النَّهْيَ خَافُوا مِنْ سُخْطِ اللَّهِ فِي عَدَمِ اجْتِنَابِهِ، وَطَمِعُوا فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي اجْتِنَابِهِ ; فَحَدَاهُمْ حَادِي الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ إِلَى الِامْتِثَالِ، فَلَانَتْ قُلُوبُهُمْ لِلطَّاعَةِ خَوْفًا وَطَمَعًا. وَالْفَحْشَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْخَصْلَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْقُبْحِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِشَدِيدِ الْبُخْلِ: فَاحِشٌ ; كَمَا فِي قَوْلِ طُرْفَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَالْمُنْكَرُ اسْمُ مَفْعُولِ أَنْكَرَ ; وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَوْعَدَ فَاعِلَهُ الْعِقَابَ. وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى: أَنَّ الْبَاغِيَ يَرْجِعُ ضَرَرُ بَغْيِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [10 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: ذِي الْقُرْبَى [16 \ 90] ، أَيْ: صَاحِبُ الْقَرَابَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، أَوْ هُمَا مَعًا ; لِأَنَّ إِيتَاءَ ذِي الْقُرْبَى صَدَقَةٌ وَصِلَةُ رَحِمٍ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَأَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ مَحْذُوفٌ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ: وَحُذِفَ الثَّانِي. وَالْأَصْلُ وَإِيتَاءُ صَاحِبِ الْقَرَابَةِ ; كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى. . . الْآيَةَ [2 \ 177] ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِبَادَهُ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدُوا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْعُهُودِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَكَرَّرَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ (فِي الْأَنْعَامِ) :، وَبِعَهْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. . . الْآيَةَ [6 \ 152] ، وَقَوْلِهِ فِي (الْإِسْرَاءِ) : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [17 \ 34] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا (فِي الْأَنْعَامِ) . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ إِنَّمَا يَضُرُّ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِهِ يُؤْتِيهِ اللَّهُ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ عَلَى ذَلِكَ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [48 \ 10] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ يَسْتَوْجِبُ اللَّعْنَ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ. . . الْآيَةَ [5 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ بَاقٍ لَا يَفْنَى. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [18 \ 2 - 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، أَقْسَمَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَيَجْزِي الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ - أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِمْ - بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ جَزَاءٌ بِلَا حِسَابٍ ; كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [39 \ 10] . تَنْبِيهٌ. اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ حَسَنٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 96] ، صِيغَةُ تَفْضِيلٍ تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ، وَالْوَاجِبُ أَحْسَنُ مِنَ الْمَنْدُوبِ، وَالْمَنْدُوبُ أَحْسَنُ مِنَ الْمُبَاحِ ; فَيُجَازَوْنَ بِالْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، دُونَ مُشَارَكَتِهِمَا فِي الْحَسَنِ وَهُوَ الْمُبَاحُ ; وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي قَوْلِهِ: مَا رَبُّنَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَسَنٌ ... وَغَيْرُهُ الْقَبِيحُ وَالْمُسْتَهْجَنُ إِلَّا أَنَّ الْحَسَنَ يَنْقَسِمُ إِلَى حَسَنٍ وَأَحْسَنَ ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى: فَخُذْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا. . . الْآيَةَ [7 \ 145] ، فَالْجَزَاءُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [16 \ 126] ، حَسَنٌ. وَالصَّبْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [16 \ 126] ، أَحْسَنُ ; وَهَكَذَا وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِخَلَفٍ عَنْهُ: «وَلَنَجْزِيَنَّ» بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي لِابْنِ ذَكْوَانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ سَوَاءً كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَإِنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يُقْسِمُ لَيُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَيَجْزِينَّهُ أَجْرَهُ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ مَا اسْتَكْمَلَ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: مُوَافَقَتُهُ لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] . الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [98 \ 5] ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [39 \ 14، 15] . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [16 \ 97] ، فَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْإِيمَانَ، وَمَفْهُومُ مُخَالَفَتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَدْ أَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْمَفْهُومَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي عَمَلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [11 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ الْآيَةَ [24 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [14 \ 18] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، فَهَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي الْجَنَّةِ ; لِأَنَّ الْحَيَاةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 الدُّنْيَا لَا تَخْلُو مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَلَامِ وَالْأَحْزَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [29 \ 64] ، وَالْمُرَادُ بِالْحَيَوَانِ: الْحَيَاةُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ عَبْدَهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ، وَيَرْزُقَهُ الْعَافِيَةَ وَالرِّزْقَ الْحَلَالَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [2 \ 201] . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الْآيَةِ: حَيَاتُهُ فِي الدُّنْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً ; وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ هِيَ أَنَّنَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ: حَيَاتُهُ فِي الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [16 \ 97] ، صَارَ قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] ، تِكْرَارًا مَعَهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ أَجْرُ عَمَلِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَلْنُحْيِيَنَّهُ فِي الدُّنْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنُجْزِيَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ، وَهُوَ وَاضِحٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ تُؤَيِّدُهُ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالرِّزْقِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْقَنَاعَةِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، وَالْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، وَالْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا هِيَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ وَالِانْشِرَاحُ بِهَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ تَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ،، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَعَهُ اللَّهُ بِمَا أَتَاهُ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيِّ بِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هَانِئٍ. عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجَنْبِيِّ، عَنْ فَضَالَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَدْ أَفْلَحَ مِنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا» ، انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. اه مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ فِي تَرْجِيحِ الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْلَحَ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ نَالَ الْفَلَاحَ نَالَ حَيَاةً طَيِّبَةً. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا» ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَابْنُ كَثِيرٍ إِنَّمَا سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهَا تُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّهُ إِذَا دَارَ الْكَلَامُ بَيْنَ التَّوْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ رُجِّحَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ جَامِعًا لَهُ مَعَ نَظَائِرَ يَجِبُ فِيهَا تَقْدِيمُ الرَّاجِحِ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ بِقَوْلِهِ: كَذَاكَ مَا قَابَلَ ذَا اعْتِلَالِ ... مِنَ التَّأَصُّلِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَمِنْ تَأَسُّسِ عُمُومٍ وَبَقَا ... الْإِفْرَادُ وَالْإِطْلَاقُ مِمَّا يُنْتَقَى كَذَاكَ تَرْتِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ ... بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يُحْتَمِلُ وَمَعْنَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمَرَاقِي: أَنَّهُ يُقَدِّمُ مُحْتَمَلَ اللَّفْظِ الرَّاجِحِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، كَالتَّأَصُّلِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الزِّيَادَةِ: نَحْوَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [42 \ 11] ، يُحْتَمَلُ كَوْنُ الْكَافِ زَائِدَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا غَيْرُ زَائِدَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الذَّاتُ ; كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِثْلُكَ لَا يَفْعَلُ هَذَا، يَعْنُونَ أَنْتَ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا، فَالْمَعْنَى: لَيْسَ كَاللَّهِ شَيْءٌ. وَنَظِيرُهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمِثْلِ وَإِرَادَةِ الذَّاتِ: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [46 \ 10] ، أَيْ: عَلَى نَفْسِ الْقُرْآنِ لَا شَيْءٍ آخَرَ مُمَاثِلٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [6 \ 122] ، أَيْ: كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ. وَكَالِاسْتِقْلَالِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْإِضْمَارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا الْآيَةَ [5 \ 33] ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يُضْمِرُونَ قُيُودًا غَيْرَ مَذْكُورَةٍ فَيَقُولُونَ: أَنْ يُقْتَلُوا إِذَا قَتَلُوا، أَوْ يُصْلَبُوا إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ إِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا. . إِلَخْ. فَالْمَالِكِيَّةُ يُرَجِّحُونَ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَذْكُورَاتِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ اسْتِقْلَالَ اللَّفْظِ أَرْجَحُ مِنْ إِضْمَارِ قُيُودٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا حَتَّى تَثْبُتَ بِدَلِيلٍ ; كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا فِي (الْمَائِدَةِ) وَكَذَلِكَ التَّأْسِيسُ يُقَدَّمُ عَلَى التَّأْكِيدِ وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ ; كَقَوْلِهِ: فَبِأَيَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 59، 61، 63، 65، 67، 69، 71، 73، 75] ، فِي (سُورَةِ الرَّحْمَنِ) ، وَقَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49] ، (فِي الْمُرْسَلَاتِ) . قِيلَ: تِكْرَارُ اللَّفْظِ فِيهِمَا تَوْكِيدٌ، وَكَوْنُهُ تَأْسِيسًا أَرْجَحُ لِمَا ذَكَرْنَا. فَتُحْمَلُ الْآلَاءُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قِيلَ: لَفَظُ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ فَلَا يَتَكَرَّرُ مِنْهَا لَفْظٌ. وَكَذَا يُقَالُ فِي (سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ) فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِمَا ذُكِرَ، قِيلَ كُلُّ لَفْظٍ إِلَخَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ - أَنَّا إِنْ حَمَلْنَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ تَأْسِيسًا. وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى حَيَاةِ الْجَنَّةِ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ الْآيَةَ [16 \ 97] ; لِأَنَّ حَيَاةَ الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةَ هِيَ أَجْرُهُمُ الَّذِي يُجْزَوْنَهُ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي (الْبَحْرِ) : وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [16 \ 97] ، أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ; وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [16 \ 97] ، يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ الْإِرَادَةِ، أَيْ: فَإِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. . الْآيَةَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا تَكَرُّرُ حَذْفِ الْإِرَادَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهَا ; كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ الْآيَةَ [5 \ 6] ، أَيْ: أَرَدْتُمِ الْقِيَامَ إِلَيْهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ الْآيَةَ [58 \ 9] ، أَيْ: إِذْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَتَنَاجَوْا فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يُرَادُ فِعْلُهُ، وَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْ فِعْلٍ مَضَى وَانْقَضَى كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ لِلْوُجُوبِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ لِلنَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَحَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَيْضًا: الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ سُلْطَانَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] ، وَقَوْلِهِ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [15 \ 39 - 40] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [17 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ الْآيَةَ [34 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [14 \ 22] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ الْحُجَّةُ، أَيْ: لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ: تَسَلُّطٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي ذَنْبٍ لَا تَوْبَةَ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا، وَالْمُرَادُ: بِ: الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [16 \ 100] ، الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ فَيُوَالُونَهُ بِالطَّاعَةِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 100] ، أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الشَّيْطَانِ لَا إِلَى اللَّهِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ بِهِ هُوَ طَاعَتُهُمْ لَهُ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [36 \ 60] ، وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ [19 \ 44] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فَهُوَ مَا جَعَلُوهُ لَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَالْمُوَالَاةِ، بِغَيْرِ مُوجِبٍ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ. فَإِنَّهُ قِيلَ: أَثْبَتَ اللَّهُ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي آيَاتٍ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ. . . الْآيَةَ [16 \ 100] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] ، فَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْغَاوِينَ ; مَعَ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُ السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ [34 \ 20 - 21] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُ مُقَرِّرًا لَهُ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [114 \ 22] . فَالْجَوَابُ هُوَ: أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي أَثْبَتَهُ لَهُ عَلَيْهِمْ غَيْرُ السُّلْطَانِ الَّذِي نَفَاهُ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السُّلْطَانَ الْمُثْبَتَ لَهُ هُوَ سُلْطَانُ إِضْلَالِهِ لَهُمْ بِتَزْيِينِهِ، وَالسُّلْطَانُ الْمَنْفِيُّ هُوَ سُلْطَانُ الْحُجَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِإِبْلِيسَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُجَّةٍ يَتَسَلَّطُ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. وَإِطْلَاقُ السُّلْطَانِ عَلَى الْبُرْهَانِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا ابْتِدَاءً الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَلَّطُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِطَاعَاتِهِ وَدُخُولِهِمْ فِي حِزْبِهِ، فَلَمْ يَتَسَلَّطْ عَلَيْهِمْ بِقُوَّةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [4 \ 76] ، وَإِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ. ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ بِوَجْهَيْهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِذَا بَدَّلَ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، بِأَنْ نَسَخَ آيَةً أَوْ أَنْسَاهَا، وَأَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَنَّ الْكُفَّارَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلطَّعْنِ فِي الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; بِادِّعَاءِ أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ، مُفْتَرٍ عَلَيْهِ. زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ نَسْخَ الْآيَةِ بِالْآيَةِ يَلْزَمُهُ الْبُدَاءُ، وَهُوَ الرَّأْيُ الْمُجَدَّدُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ. فَيُفْهَمُ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ اللَّهِ لَأَقَرَّهُ وَأَثْبَتَهُ، وَلَمْ يَطْرَأْ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ مُتَجَدِّدٌ حَتَّى يَنْسَخَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [16 \ 101] ، مَعْنَاهُ: نَسَخْنَا آيَةً وَأَنْسَيْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا [2 \ 106] ، وَقَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [87 \ 6، 7] ، أَيْ: أَنْ تَنْسَاهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نَسَخَ آيَةً أَوْ أَنْسَاهَا، لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106] ، وَقَوْلُهُ هُنَا: بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [16 \ 101] . وَمَا زَعَمَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ: مِنْ أَنَّ النَّسْخَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبُدَاءُ، وَهُوَ الرَّأْيُ الْمُتَجَدِّدُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَاضِحُ الْبُطْلَانِ لِكُلِّ عَاقِلٍ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَلْزَمُهُ الْبُدَاءُ الْبَتَّةَ، بَلِ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يُشَرِّعُ الْحُكْمَ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ سَتَنْقَضِي فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْسَخُ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَيُبَدِّلُهُ بِالْحُكْمِ الْجَدِيدِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ ; فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ أَنْجَزَ - جَلَّ وَعَلَا - مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ مِنْ نَسْخِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، الَّذِي زَالَتْ مَصْلَحَتُهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْجَدِيدِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ. كَمَا أَنَّ حُدُوثَ الْمَرَضِ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَعَكْسَهُ، وَحُدُوثَ الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ وَعَكْسَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْبُدَاءُ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَنَّ حِكْمَتَهُ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ التَّغْيِيرَ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ، عَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ فِي الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَقَدْ أَشَارَ - جَلَّ وَعَلَا - إِلَى عِلْمِهِ بِزَوَالِ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْمَنْسُوخِ، وَتَمَحُّضِهَا فِي النَّاسِخِ بِقَوْلِهِ هُنَا: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [16 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [2 \ 106] ، وَقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [87 \ 6، 7] ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [87 \ 7] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [87 \ 7] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ. فَهُوَ عَالِمٌ بِمَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ، وَمَصْلَحَةِ تَبْدِيلِ الْجَدِيدِ مِنَ الْأَوَّلِ الْمَنْسِيِّ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَلَا فِي وُقُوعِهِ فِعْلًا، وَمَنْ ذُكِرِ عَنْهُ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ كَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ - فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ لِزَمَنِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ الْجَدِيدِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْخَطَّابِ الْأَوَّلِ: اسْتِمْرَارُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ. وَالْخِطَابُ الثَّانِي دَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بِالزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَ النَّسْخِ ; فَلَيْسَ النَّسْخُ عِنْدَهُ رَفْعًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 رَفْعٌ لِحُكْمٍ أَوْ بَيَانُ الزَّمَنِ ... بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ أَوْ بِالسُّنَنِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ الْيَهُودُ وَبَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبُدَاءُ كَمَا بَيَّنَّا. وَمِنْ هُنَا قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى يَسْتَحِيلُ نَسْخُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَصِحُّ نَسْخُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ النَّسْخَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ مَمْنُوعٌ، وَكَذَلِكَ لَا نَسْخَ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَالْعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا حُجَّةَ مَعَهُ فِي قَوْلِ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ; وَلِذَا لَا بُدَّ فِي تَعْرِيفِ الْإِجْمَاعِ مِنَ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي فِي تَعْرِيفِ الْإِجْمَاعِ: وَهُوَ الِاتِّفَاقُ مِنْ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ أَحْمَدِ. وَبَعْدَ وَفَاتِهِ يَنْقَطِعُ النَّسَخُ ; لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ، وَلَا تَشْرِيعَ الْبَتَّةَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَى كَوْنِ الْعَقْلِ وَالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ النَّسْخُ بِمُجَرَّدِهِمَا - أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي النَّسْخِ: فَلَمْ يَكُنْ بِالْعَقْلِ أَوْ مُجَرَّدِ ... الْإِجْمَاعِ بَلْ يُنْمَى إِلَى الْمُسْتَنَدِ وَقَوْلُهُ: «بَلْ يُنْمَى إِلَى الْمُسْتَنَدِ» يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنْ نَصًّا مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْنُونَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنَّصِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ، لَا بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنْعِ النَّسْخِ بِهِ شَرْعًا. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْوَحْيِ بِالْقِيَاسِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ نَسْخُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ ... هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ جُلُّ النَّاسِ أَيْ: وَهُوَ الْحَقُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ جَوَازِ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ، وَعَزَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ لِلْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وَيُنْسَخُ الْخُفُّ بِمَا لَهُ ثِقَلْ وَقَدْ يَجِيءُ عَارِيًا مِنَ الْبَدَلْ. أَنَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَالَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الْأَجِلَّاءُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106] ، فَلَا كَلَامَ الْبَتَّةَ لِأَحَدٍ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [4 \ 122] ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [4 \ 87] ، أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [2 \ 140] ، فَقَدْ رَبَطَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ النَّسْخِ، وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِ الْمَنْسُوخِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فِي الشَّرْطِيَّةِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الرَّبْطِ ; فَيَلْزَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ وَقَعَ الْإِتْيَانُ بِخَيْرٍ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِلَا بَدَلٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [58 \ 12] ، فَإِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ الْآيَةَ [8 \ 13] ، وَلَا بَدَلَ لِهَذَا الْمَنْسُوخِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَهُ بَدَلًا، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ أَمَامَ الْمُنَاجَاةِ لَمَّا نُسِخَ بَقِيَ اسْتِحْبَابُ الصَّدَقَةِ وَنَدْبُهَا، بَدَلًا مِنَ الْوُجُوبِ الْمَنْسُوخِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ، وَالْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ. فَمِثَالُ نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ: نَسْخُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [2 \ 184] ، بِأَثْقَلَ مِنْهُ، وَهُوَ تَعْيِينُ إِيجَابِ الصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [2 \ 185] ، وَنُسِخَ حَبْسُ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ الْآيَةَ [4 \ 15] ، بِأَثْقَلَ مِنْهُ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ الْمَنْصُوصُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [24 \ 2] ، وَعَلَى الثَّانِي مِنْهُمَا بِآيَةِ الرَّجْمِ الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا ثَابِتًا، وَهِيَ قَوْلُهُ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "، وَمِثَالُ نَسْخِ الْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ: نَسْخُ وُجُوبِ مُصَابَرَةِ الْمُسْلِمِ عَشَرَةً مِنَ الْكَفَّارِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الْآيَةَ [8 \ 65] ، بِأَخَفَّ مِنْهُ وَهُوَ مُصَابَرَةُ الْمُسْلِمِ اثْنَيْنِ مِنْهُمُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 الْآيَةَ [8 \ 66] ، وَكَنَسْخِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [2 \ 284] ، بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، فَإِنَّهُ نَسْخٌ لِلْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَكَنَسْخِ اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِحَوْلٍ، الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ الْآيَةَ [2 \ 240] ، بِأَخَفَّ مِنْهُ وَهُوَ الِاعْتِدَادُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَ، الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [2 \ 234] . تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ: أَنْ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106] إِشْكَالًا مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَثْقَلُ خَيْرًا مِنَ الْأَخَفِّ ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُ أَجْرًا، أَوِ الْأَخَفُّ خَيْرًا مِنَ الْأَثْقَلِ ; لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنْهُ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِثَالِ. وَكَوْنُ الْأَثْقَلِ خَيْرًا يَقْتَضِي مَنْعَ نَسْخِهِ بِالْأَخَفِّ، كَمَا أَنَّ كَوْنَ الْأَخَفِّ خَيْرًا يَقْتَضِي مَنْعَ نَسْخِهِ بِالْأَثْقَلِ ; لِأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مُمَاثِلٌ لَهُ، لَا مَا هُوَ دُونَهُ. وَقَدْ عَرَفْتَ: أَنَّ الْوَاقِعَ جَوَازُ نَسْخِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَتَيِ الْإِشْكَالِ فِي قَوْلِهِ أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106] ; لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي نَسْخِ الْمِثْلِ لِيُبْدَلَ مِنْهُ مِثْلُهُ؟ وَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِلْمِثْلِ عَلَى الْمِثْلِ حَتَّى يُنْسَخَ وَيُبَدَّلَ مِنْهُ؟ . وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ فِي الْأَثْقَلِ لِكَثْرَةِ الْأَجْرِ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَجْرُ كَثِيرًا جِدًّا وَالِامْتِثَالُ غَيْرَ شَدِيدِ الصُّعُوبَةِ، كَنَسْخِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ بِإِيجَابِ الصَّوْمِ ; فَإِنَّ فِي الصَّوْمِ أَجْرًا كَثِيرًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: " إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ "، وَالصَّائِمُونَ مِنْ خِيَارِ الصَّابِرِينَ ; لِأَنَّهُمْ صَبَرُوا لِلَّهِ عَنْ شَهْوَةِ بُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ ; وَاللَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [39 \ 10] ، وَمَشَقَّةُ الصَّوْمِ عَادِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا صُعُوبَةٌ شَدِيدَةٌ تَكُونُ مَظِنَّةً لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَإِنْ عَرَضَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ; فَالتَّسْهِيلُ بِرُخْصَةِ الْإِفْطَارِ مَنْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [2 \ 184] ، وَتَارَةً تَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ فِي الْأَخَفِّ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَثْقَلُ الْمَنْسُوخُ شَدِيدَ الصُّعُوبَةِ بِحَيْثُ يَعْسُرُ فِيهِ الِامْتِثَالُ ; فَإِنَّ الْأَخَفَّ يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ ; لِأَنَّ مَظِنَّةَ عَدَمِ الِامْتِثَالِ تُعَرِّضُ الْمُكَلَّفَ لِلْوُقُوعِ فِيمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [2 \ 284] ، فَلَوْ لَمْ تُنْسَخِ الْمُحَاسَبَةُ بِخَطَرَاتِ الْقُلُوبِ لَكَانَ الِامْتِثَالُ صَعْبًا جِدًّا، شَاقًّا عَلَى النُّفُوسِ، لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِهِ، إِلَّا مَنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَشَكَّ أَنَّ نَسْخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، خَيْرٌ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الشَّاقِّ، وَهَكَذَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ مِثْلِهَا، يُرَادُ بِهِ مُمَاثَلَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي حَدِّ ذَاتِهِمَا ; فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ يَسْتَلْزِمُ فَوَائِدَ خَارِجَةً عَنْ ذَاتِهِ يَكُونُ بِهَا خَيْرًا مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مُمَاثِلًا لِلْمَنْسُوخِ، وَبِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْمَنْسُوخِ خَيْرًا مِنَ الْمَنْسُوخِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ عَامَّةَ الْمُفَسِّرِينَ يُمَثِّلُونَ لِقَوْلِهِ: أَوْ مِثْلِهَا، بِنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ; فَإِنَّ هَذَا النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِمَا مُتَمَاثِلَانِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ، وَهِيَ فِي حَقِيقَةِ أَنْفُسِهَا مُتَسَاوِيَةٌ، فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُشْتَمِلًا عَلَى حِكَمٍ خَارِجَةٍ عَنْ ذَاتِهِ تُصَيِّرُهُ خَيْرًا مِنَ الْمَنْسُوخِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ. فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ تَلْزَمُهُ نَتَائِجُ مُتَعَدِّدَةٌ مُشَارٌ لَهَا فِي الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ احْتِجَاجُ كُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِمْ: تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا تَسْتَقْبِلُ قِبْلَتَهَا! وَتَسْقُطُ بِهِ حُجَّةُ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِمْ: تَعِيبُ دِينَنَا وَتَسْتَقْبِلُ قِبْلَتَنَا، وَقِبْلَتُنَا مِنْ دِينِنَا! وَتَسْقُطُ بِهِ أَيْضًا حُجَّةُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْفَ يُؤْمَرُ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهُ إِلَى اسْتِقْبَالِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. فَلَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ لَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّهُ سَيُحَوَّلُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُحَوَّلْ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ الْحِكَمِ الَّتِي هِيَ إِدْحَاضُ هَذِهِ الْحُجَجِ الْبَاطِلَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا [2 \ 150] ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحِكْمَةَ بِقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ الْآيَةَ [2 \ 150] ، وَإِسْقَاطُ هَذِهِ الْحُجَجِ مِنَ الدَّوَاعِي الَّتِي دَعَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى حُبِّ التَّحْوِيلِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [2 \ 144] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّسْخَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 الْأَوَّلُ: نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ مَعًا، وَمِثَالُهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. .» ، الْحَدِيثُ. فَآيَةُ عَشْرِ رَضَعَاتٍ مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ إِجْمَاعًا. الثَّانِي: نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ، وَمِثَالُهُ آيَةُ الرَّجْمِ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا، وَآيَةُ خَمْسِ رَضَعَاتٍ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَعَائِشَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا. الثَّالِثُ: نَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ التِّلَاوَةِ، وَهُوَ غَالِبٌ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنْسُوخِ. كَآيَةِ الْمُصَابِرَةِ، وَالْعِدَّةِ، وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ، وَحَبْسِ الزَّوَانِي. كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ آنِفًا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَنَسْخِ السُّنَّةِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ كَعَكْسِهِ، وَفِي نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ; وَخِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَعْرُوفٌ. وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْكِتَابِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - هُوَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كِلَاهُمَا يُنْسَخُ بِالْآخَرِ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَمِثَالُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ: نَسْخُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ; فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا إِنَّمَا وَقَعَ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا الْآيَةَ [2 \ 144] ، وَمِثَالُ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ: نَسْخُ آيَةِ عَشْرِ رَضَعَاتٍ تِلَاوَةً وَحُكْمًا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَنَسْخُ سُورَةِ الْخَلْعِ وَسُورَةِ الْحَفْدِ تِلَاوَةً وَحُكْمًا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَسُورَةِ الْخَلْعِ وَسُورَةِ الْحَفْدِ: هُمَا الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَدْ أَوْضَحَ صَاحِبُ (الدُّرِّ الْمَنْثُورِ) وَغَيْرُهُ تَحْقِيقَ أَنَّهُمَا كَانَتَا سُورَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ نُسِخَتَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي (سُورَةِ الْأَنْعَامِ) أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ: هُوَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الصَّحِيحَةَ يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِهَا إِذَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ حَقٌّ، وَالسُّنَّةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَهُ إِنَّمَا بَيَّنَتْ شَيْئًا جَدِيدًا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلُ، فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ لِاخْتِلَافِ زَمَنِهِمَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [6 \ 145] الْآيَةَ. يَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى إِبَاحَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ; لِصَرَاحَةِ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الْآيَةِ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ: «بِأَنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ غَيْرُ مُبَاحَةٍ» ، فَلَا مُعَارَضَةَ الْبَتَّةَ بَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْآيَةِ النَّازِلَةِ قَبْلَهُ بِسِنِينَ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمٍ جَدِيدٍ، وَالْآيَةَ مَا نَفَتْ تَجَدُّدَ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. فَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - هُوَ جَوَازُ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتِ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، وَدَرَجَ عَلَى خِلَافِهِ وِفَاقًا لِلْجُمْهُورِ صَاحِبُ الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: وَالنَّسْخُ بِالْآحَادِ لِلْكِتَابِ لَيْسَ بِوَاقِعٍ عَلَى الصَّوَابِ. وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَشْرِيعِ الْحُكْمِ أَوَّلًا إِذَا كَانَ سَيُنْسَخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهِ؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحِكْمَةَ ابْتِلَاءُ الْمُكَلَّفِينَ بِالْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، وَقَدْ نَسَخَ عَنْهُ هَذَا الْحُكْمَ بِفِدَائِهِ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْفِعْلِ. وَبَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ: الِابْتِلَاءَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [37 \ 106، 107] ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ: نَسْخُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ صَلَاةً لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، بَعْدَ أَنْ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَالنَّسْخُ مِنْ قَبْلِ وُقُوعِ الْفِعْلِ ... جَاءَ وُقُوعًا فِي صَحِيحِ النَّقْلِ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّهُ مَا كُلُّ زِيَادَةٍ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بَلِ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مُخَالِفٌ النَّصَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَكُونُ نَسْخًا عَلَى التَّحْقِيقِ ; كَزِيَادَةِ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ مَثْلًا، عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ الْآيَةَ [6 \ 145] ; لِأَنَّ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ وَنَحْوَهَا لَمْ يُسْكَتْ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآيَةِ، بَلْ مُقْتَضَى الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 فِي قَوْلِهِ: فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الْآيَةَ، صَرِيحٌ فِي إِبَاحَةِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا ; فَكَوْنُ زِيَادَةِ تَحْرِيمِهَا نَسْخًا أَمْرٌ ظَاهِرٌ. وَقِسْمٌ لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِيهِ مُخَالِفَةً لِلنَّصِّ، بَلْ تَكُونُ زِيَادَةَ شَيْءٍ سَكَتَ عَنْهُ النَّصُّ الْأَوَّلُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا، بَلْ بَيَانَ حُكْمِ شَيْءٍ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ ; كَتَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ، وَكَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِي الْأَوَّلِ: أَوْجَبَ الْجَلْدَ وَسَكَتَ عَمَّا سِوَاهُ، فَزَادَ النَّبِيُّ حُكْمًا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَهُوَ التَّغْرِيبُ. كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الثَّانِي فِيهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ الْآيَةَ [2 \ 282] ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَزَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمًا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ ; وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ نَسْخًا كُلُّ مَا أَفَادَا ... فِيمَا رَسَا بِالنَّصِّ إِلَّا ازْدِيَادَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي (الْأَنْعَامِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ [6 \ 145] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَّبِّكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ، أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ افْتِرَاءٌ بِسَبَبِ تَبْدِيلِ اللَّهِ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ; أَنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَيْهِ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّهِ - جَلَّ وَعَلَا - ; فَلَيْسَ مُفْتَرِيًا لَهُ. وَرُوحُ الْقُدُسِ: جِبْرِيلُ، وَمَعْنَاهُ الرُّوحُ الْمُقَدَّسُ، أَيِ: الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 97] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 192 - 195] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [20 \ 114] ، وَقَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [75 \ 16 - 18] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، أَقْسَمَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّمَهُ مَنْ بَشَرٍ مِنَ النَّاسِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [25 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [74 \ 24] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 أَيْ: يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غَيْرِهِ، وَقَوْلِهِ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ الْآيَةَ [6 \ 105] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (الْأَنْعَامِ) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْبَشَرِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ يُعَلِّمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ ; فَقِيلَ: هُوَ غُلَامُ الْفَاكِهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَاسْمُهُ جَبْرٌ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ. وَقِيلَ: اسْمُهُ يَعِيشُ عَبْدٌ لَبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ الْأَعْجَمِيَّةَ. وَقِيلَ: غُلَامٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَقِيلَ: هُمَا غُلَامَانِ: اسْمُ أَحَدِهِمَا يَسَارٌ، وَاسْمُ الْآخَرِ جَبْرٌ، وَكَانَا صَيْقَلِيَّيْنِ يَعْمَلَانِ السُّيُوفَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ كِتَابًا لَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَذِبَهُمْ وَتَعَنُّتَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [16 \ 103] ، بِقَوْلِهِ: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] ، أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ تَعَلُّمُهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَشَرِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْبَشَرَ أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ. وَهَذَا الْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فَصِيحٌ، لَا شَائِبَةَ فِيهِ مِنَ الْعُجْمَةِ ; فَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَبَيَّنَ شِدَّةَ تَعَنُّتِهِمْ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْقُرْآنَ أَعْجَمِيًّا لَكَذَّبُوهُ أَيْضًا وَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ عَرَبِيٌّ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [41 \ 44] ، أَيْ: أَقُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ، وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ. فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَعْجَمِيٌّ وَالرَّسُولَ عَرَبِيٌّ، وَلَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ الْمَزْعُومَ أَعْجَمِيٌّ، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَزْعُومَ تَعْلِيمُهُ لَهُ عَرَبِيٌّ. كَمَا بَيَّنَ تَعَنُّتَهُمْ أَيْضًا، بِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ، عَلَى أَعْجَمِيٍّ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ عَرَبِيًّا لَكَذَّبُوهُ أَيْضًا، مَعَ ذَلِكَ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ ; لِشِدَّةِ عِنَادِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [26 \ 198 - 199] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُلْحِدُونَ، أَيْ: يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ. وَالْمَعْنَى لِسَانُ الْبَشَرِ الَّذِي يُلْحِدُونَ، أَيْ: يُمِيلُونَ قَوْلَهُمْ عَنِ الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ ; أَعْجَمِيٌّ غَيْرُ بَيَّنٍ، وَهَذَا الْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، أَيْ: ذُو بَيَانٍ وَفَصَاحَةٍ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَلْحَدُونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، مِنْ لَحَدَ الثُّلَاثِيِّ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: يُلْحُدُونَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، مِنْ لَحُدَ الثُّلَاثِيِّ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: يُلْحِدُونَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَنْ أَلْحَدَ الرُّبَاعِيِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، أَيْ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ. وَأَمَّا يُلْحِدُونَ، الَّتِي فِي (الْأَعْرَافِ) ، وَالَّتِي فِي (فُصِلَتْ) فَلَمْ يَقْرَأْهُمَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ إِلَّا حَمْزَةُ وَحْدَهُ دُونَ الْكِسَائِيِّ. وَإِنَّمَا وَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ الَّتِي فِي (النَّحْلِ) وَأَطْلَقَ اللِّسَانَ عَلَى الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ اللِّسَانَ وَتُرِيدُ بِهِ الْكَلَامَ ; فَتُؤَنِّثُهَا وَتُذَكَّرُهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ: إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسِرُّ بِهَا ... مِنْ عُلُوٍّ لَا عَجَبَ فِيهَا وَلَا سَخَرَ وَقَوْلُ الْآخَرِ: لِسَانُ الشَّرِّ تُهْدِيهَا إِلَيْنَا ... وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَخُونَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَتَتْنِي لِسَانُ بَنِي عَامِرِ ... أَحَادِيثُهَا بَعْدَ قَوْلٍ نُكُرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [26 \ 84] ، أَيْ: ثَنَاءً حَسَنًا بَاقِيًا. وَمِنْ إِطْلَاقِ اللِّسَانِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ مُذَكَّرًا قَوْلُ الْحُطَيْئَةَ: نَدِمْتُ عَلَى لِسَانٍ فَاتَ ... مِنِّي فَلَيْتَ بِأَنَّهُ فِي جَوْفِ عِكْمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: " إِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ "، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَحَكَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ الَّتِي اتَّصَفَتْ بِهَا هَذِهِ الْقَرْيَةُ: تَتَّفِقُ مَعَ صِفَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ; فَقَوْلُهُ عَنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ: كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [16 \ 112] ، قَالَ نَظِيرُهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ ; كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا الْآيَةَ [28 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ الْآيَةَ [29 \ 67] ، وَقَوْلِهِ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [106 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [3 \ 97] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا الْآيَةَ [2 \ 125] ، وَقَوْلِهِ: يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [16 \ 112] ، قَالَ نَظِيرُهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْضًا ; كَقَوْلِهِ: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [28 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [106 \ 1 - 4] ، فَإِنَّ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ كَانَتْ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةَ الصَّيْفِ كَانَتْ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ مِنْ كِلْتَا الرِّحْلَتَيْنِ أَمْوَالٌ وَأَرْزَاقٌ ; وَلِذَا أَتْبَعَ الرِّحْلَتَيْنِ بِامْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ: بِأَنْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ. وَقَوْلِهِ فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [2 \ 126] ، وَقَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [14 \ 37] . وَقَوْلُهُ: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [16 \ 112] ، ذَكَرَ نَظِيرَهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [14 \ 28] . وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا الْآيَةَ [16 \ 83] . وَقَوْلُهُ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [16 \ 112] ، وَقَعَ نَظِيرُهُ قَطْعًا لِأَهْلِ مَكَّةَ ; لَمَّا لَجُّوا فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ "، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ أَذْهَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجِيفَ وَالْعَلْهَزَ (وَهُوَ وَبَرُ الْبَعِيرِ يُخْلَطُ بِدَمِهِ إِذَا نَحَرُوهُ) ، وَأَصَابَهُمُ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ بَعْدَ الْأَمْنِ ; وَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْ جُيُوشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَغَزَوَاتِهِ وَبُعُوثِهِ وَسَرَايَاهُ. وَهَذَا الْجُوعُ وَالْخَوْفُ أَشَارَ لَهُمَا الْقُرْآنُ عَلَى بَعْضِ التَّفْسِيرَاتِ ; فَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ آيَةَ (الدُّخَانِ) بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [44 \ 10] ، " فَارْتَقِبْ " [44 \ 10] : فَانْتَظِرْ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَضَى خَمْسٌ: الدُّخَانُ، وَالرُّومُ، وَالْقَمَرُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [44 \ 11] ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " إِنَّمَا كَانَ هَذَا ; لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ; فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 عَذَابٌ أَلِيمٌ [44 \ 10، 11] ، فَأُتِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ! قَالَ: " لِمُضَرَ! إِنَّكَ لِجَرِيءٌ! "، فَاسْتَسْقَى فَسُقُوا. فَنَزَلَتْ: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [44 \ 15] ، فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [44 \ 16] ، يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ. بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [44 \ 12] ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: " إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لَا تَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [38 \ 86] "، إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ، قَالَ: " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ "، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجَهْدِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، قَالُوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [44 \ 12] ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا ; فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا، فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [44 \ 10] ، إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [44 \ 16] ، انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَنَّ مَا أُذِيقَتْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي (سُورَةِ النَّحْلِ) مِنْ لِبَاسِ الْجُوعِ أُذِيقَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، وَصَارَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَخَيَّلُ لَهُ مِثْلُ الدُّخَّانِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ: مِنْ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الْمُتَعَلِّقَ بِسَبَبِ النُّزُولِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ طَلْعَةِ الْأَنْوَارِ بِقَوْلِهِ: تَفْسِيرُ صَاحِبٍ لَهُ تَعَلُّقُ بِالسَّبَبِ الرَّفْعُ لَهُ مُحَقَّقُ. وَكَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي (سُورَةِ الْبَقَرَةِ) فِي الْكَلَامِ: عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [2 \ 222] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الدُّخَانَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى الدُّخَانَيْنِ: الدُّخَانِ الَّذِي مَضَى، وَالدُّخَانِ الْمُسْتَقْبَلِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّفْسِيرَاتِ الْمُتَعَدِّدَةَ فِي الْآيَةِ إِنْ كَانَ يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِهَا فَهُوَ أَوْلَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي حَقَّقَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، بِأَدِلَّتِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وَأُمَّا الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ " النَّحْلِ " فَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - مِثْلَهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ تَفْسِيرَاتِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي هِيَ: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ [13 \ 31] ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْقَارِعَةِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ بِسَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [13 \ 31] ، قَالَ: السَّرَايَا، وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: " وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [13 \ 31] ، قَالَ: سَرِيَّةٌ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ [13 \ 31] ، قَالَ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَتْحُ مَكَّةَ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: " تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ، قَالَ: سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَحُلُّ: يَا مُحَمَّدُ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " الْقَارِعَةُ السَّرَايَا أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ، قَالَ: الْحُدَيْبِيَةُ، حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَتْحُ مَكَّةَ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي سَرَايَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ قَرِيبًا مِنْ دَرَاهِمَ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَهَذَا التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ (الرَّعْدِ) هَذِهِ، وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ فِي آيَةِ (الدُّخَانِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أُبْدِلُوا بَعْدَ سَعَةِ الرِّزْقِ بِالْجُوعِ، وَبَعْدَ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ بِالْخَوْفِ ; كَمَا قَالَ فِي الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ: كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [16 \ 112] ، وَقَوْلُهُ فِي الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ. . . الْآيَةَ [16 \ 113] ، لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ قُرَيْشٍ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ [9 \ 128] ، وَقَوْلِهِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 164] . وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ. . . الْآيَةَ [38 \ 5] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وَقَوْلِهِ: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا الْآيَةَ [25 \ 41 - 42] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. فَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرْنَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ الْمَضْرُوبَةِ مَثَلًا فِي آيَةِ (النَّحْلِ) هَذِهِ: هِيَ مَكَّةُ. وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ وَغَيْرِهَا: " أَنَّهَا الْمَدِينَةُ، قَالَتْ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهَا قَتْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، ضَرَبَهَا اللَّهُ مَثَلًا لِلتَّخْوِيفِ مِنْ مُقَابَلَةِ نِعْمَةِ الْأَمْنِ وَالِاطْمِئْنَانِ وَالرِّزْقِ، بِالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَقَالَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ الْقَرْيَةِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً الْآيَةَ [16 \ 112] . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَذَا الْمَثَلِ، وَأَلَّا يُقَابِلَ نِعَمَ اللَّهِ بِالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ ; لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَكِنَّ الْأَمْثَالَ لَا يَعْقِلُهَا عَنِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمًا ; لِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [29 \ 43] . وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَرْيَةً، وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلًا، الثَّانِي: أَنَّ ضَرَبَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى جَعَلَ، وَأَنَّ: قَرْيَةً، هِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَ: مَثَلًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ قَرْيَةً لِئَلَّا يَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: كَانَتْ آمِنَةً. . .، إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُّطْمَئِنَّةً، أَيْ: لَا يُزْعِجُهَا خَوْفٌ ; لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مَعَ الْأَمْنِ، وَالِانْزِعَاجَ وَالْقَلَقَ مَعَ الْخَوْفِ. وَقَوْلُهُ: رَغَدًا، أَيْ: وَاسِعًا لَذِيذًا. وَالْأَنْعُمُ قِيلَ: جَمْعُ نِعْمَةٍ كَشِدَّةٍ وَأَشُدَّ. أَوْ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَادِ بِالتَّاءِ. كَدِرْعٍ وَأَدْرُعٍ. أَوْ جَمْعُ نُعْمٍ كَبُؤْسٍ وَأَبْؤُسٍ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي (سُورَةِ الْأَنْعَامِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ الْآيَةَ [الْآيَةَ \ 152] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، هُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ أَوْقَعَ الْإِذَاقَةَ عَلَى اللِّبَاسِ فِي قَوْلِهِ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ الْآيَةَ [16 \ 112] ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ الزِّنْدِيقَ قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ - إِمَامِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ -: هَلْ يُذَاقُ اللِّبَاسُ؟ ! يُرِيدُ الطَّعْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ الْآيَةَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا بَأْسَ أَيُّهَا النَّسْنَاسُ! هَبْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ نَبِيًّا! أَمَا كَانَ عَرَبِيًّا؟ . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ اللِّبَاسِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ; لِأَنَّ آثَارَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ تَظْهَرُ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، وَتُحِيطُ بِهَا كَاللِّبَاسِ. وَمِنْ حَيْثُ وُجْدَانِهِمْ ذَلِكَ اللِّبَاسُ الْمُعَبَّرُ بِهِ عَنْ آثَارِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، أَوْقَعَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ الْبَيَانِيُّونَ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي رِسَالَتِنَا الَّتِي سَمَّيْنَاهَا (مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ) : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْبَيَانِيُّونَ مَجَازًا أَنَّهُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: فِيهَا اسْتِعَارَةٌ مُجَرَّدَةٌ ; يَعْنُونَ أَنَّهَا جِيءَ فِيهَا بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ. وَذَلِكَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ اسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِمَا غَشِيَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ كَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ، بِجَامِعِ اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِمْ كَاشْتِمَالِ اللِّبَاسِ عَلَى اللَّابِسِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ التَّحْقِيقِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ الْإِذَاقَةُ مُلَائِمًا لِلْمُسْتَعَارِ لَهُ الَّذِي هُوَ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الذَّوْقِ عَلَى وُجْدَانِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. فَيَقُولُونَ: ذَاقَ الْبُؤْسَ وَالضُّرَّ، وَأَذَاقَهُ غَيْرُهُ إِيَّاهُمَا ; فَكَانَتِ الِاسْتِعَارَةُ مُجَرَّدَةً لِذِكْرِ مَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ، الَّذِي هُوَ الْمُشَبَّهُ فِي الْأَصْلِ فِي التَّشْبِيهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الِاسْتِعَارَةِ. وَلَوْ أُرِيدَ تَرْشِيحُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ فِي زَعْمِهِمْ لَقِيلَ: فَكَسَاهَا ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ الَّذِي هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ فِي التَّشْبِيهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الِاسْتِعَارَةِ يُسَمَّى " تَرْشِيحًا "، وَالْكِسْوَةُ تُلَائِمُ اللِّبَاسَ، فَذِكْرُهَا تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَتِ الِاسْتِعَارَةُ الْمُرَشَّحَةُ أَبْلَغَ مِنَ الْمُجَرَّدَةِ، فَتَجْرِيدُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْآيَةِ أَبْلَغُ ; مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رُوعِيَ الْمُسْتَعَارُ لَهُ الَّذِي هُوَ الْخَوْفُ وَالْجُوعُ، وَبِذِكْرِ الْإِذَاقَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ لِيَزْدَادَ الْكَلَامُ وُضُوحًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِعَارَةٍ ; فَإِنَّهُ أَوَّلًا اسْتَعَارَ لِمَا يَظْهَرُ عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنَ الِاصْفِرَارِ وَالذُّبُولِ وَالنُّحُولِ اسْمَ اللِّبَاسِ، بِجَامِعِ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ وَالِاشْتِمَالِ عَلَيْهِ، فَصَارَ اسْمُ اللِّبَاسِ مُسْتَعَارًا لِآثَارِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، ثُمَّ اسْتَعَارَ اسْمَ الْإِذَاقَةِ لِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَلَمِ ذَلِكَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللِّبَاسِ، بِجَامِعِ التَّعَرُّفِ وَالِاخْتِبَارِ فِي كُلٍّ مِنَ الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَوُجُودِ الْأَلَمِ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ; وَعَلَيْهِ فَفِي اللِّبَاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَفِي الْإِذَاقَةِ الْمُسْتَعَارَةِ لَمْسُ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَقَدْ أَلْمَمْنَا هُنَا بِطَرَفٍ قَلِيلٍ مِنْ كَلَامِ الْبَيَانِيِّينَ هُنَا لِيَفْهَمَ النَّاظِرُ مُرَادَهُمْ، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْإِذَاقَةَ عَلَى الذَّوْقِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ وُجُودِ الْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ، وَأَنَّهَا تُطْلِقُ اللِّبَاسَ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَتُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى اللِّبَاسِ مِنَ الِاشْتِمَالِ ; كَقَوْلِهِ: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [2 \ 187] ، وَقَوْلِ الْأَعْشَى: إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عَطْفَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسًا وَكُلُّهَا أَسَالِيبُ عَرَبِيَّةٌ. وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ اللِّبَاسُ عَلَى مُؤَثِّرٍ مُؤْلِمٍ يُحِيطُ بِالشَّخْصِ إِحَاطَةَ اللِّبَاسِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِيقَاعِ الْإِذَاقَةِ عَلَى ذَلِكَ الْأَلَمِ الْمُحِيطِ الْمُعَبَّرِ بِاسْمِ اللِّبَاسِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارَ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ رِزْقِهِ، مِمَّا شَرَعَ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ (لَعَنَهُ اللَّهُ) مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [6 \ 150] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [6 \ 140] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا الْآيَةَ [6 \ 139] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ الْآيَةَ [6 \ 138] ، وَقَوْلِهِ حِجْرٌ، أَيْ: حَرَامٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي قَوْلِهِ الْكَذِبَ [16 \ 116] ، أَوْجُهٌ مِنَ الْإِعْرَابِ: أَحَدُهُمْ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِـ: تَقُولُوا، أَيْ: لَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ; كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّامُ مَثَلُهَا فِي قَوْلِكَ: لَا تَقُولُوا لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ: هُوَ حَرَامٌ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ الْآيَةَ [2 \ 154] ، وَجُمْلَةُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 حَرَامٌ، بَدَلٌ مِنَ: الْكَذِبِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ: تَصِفُ، بِتَضْمِينِهَا مَعْنَى تَقُولُ، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ، فَتَقُولَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَقِيلَ: الْكَذِبَ، مَفْعُولٌ بِهِ لِ تَصِفُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ لَا تَقُولُوا، أَيْ: لَا تَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ ; أَيْ: لَا تُحَرِّمُوا وَلَا تُحَلِّلُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ، وَيَجُولُ فِي أَفْوَاهِكُمْ ; لَا لِأَجْلِ حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ، قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقِيلَ: الْكَذِبَ بَدَلٌ مِنْ هَاءِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفَةِ ; أَيْ: لِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ. تَنْبِيهٌ. كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَتَوَرَّعُونَ عَنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ; خَوْفًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا هَارُونُ، عَنْ حَفْصٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: «مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ قَطُّ يَقُولُ: حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ، وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ» . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ يَقُولُوا إِيَّاكُمْ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [16 \ 116] ، مِنَ التَّعْلِيلِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْفَرْضِ. اه. وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَالْبَيَانِيُّونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ حَرْفَ التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ إِذَا لَمْ تُقْصَدْ بِهِ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ ; كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا الْآيَةَ [28 \ 8] ، وَقَوْلِهِ هُنَا: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [16 \ 116] ، أَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً فِي مَعْنَى الْحَرْفِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فَمِنْ أَسَالِيبِهَا: الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ ; كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ [57 \ 25] ، وَمِنْ أَسَالِيبِهَا الْإِتْيَانُ بِاللَّامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ ; كَتَرَتُّبِ الْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ الْغَائِيَّةِ. وَهَذَا الْأَخِيرُ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [28 \ 8] ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ الْبَاعِثَةَ لَهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ لَيْسَتْ هِيَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا، بَلْ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ ; كَمَا قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [28 \ 9] ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَوْنُهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَنًا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ ; كَتَرَتُّبِ الْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ الْغَائِيَّةِ، عُبِّرَ فِيهِ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا يُطِيلُ بِهِ الْبَيَانِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَبْحَثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ - أَيْ يَخْتَلِقُونَهُ عَلَيْهِ - كَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ حَرَّمَ هَذَا وَهُوَ لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَدَعْوَاهُمْ لَهُ الشُّرَكَاءَ وَالْأَوْلَادَ - لَا يُفْلِحُونَ ; لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَنَالُونَ إِلَّا مَتَاعًا قَلِيلًا لَا أَهَمِّيَّةَ لَهُ، وَفِي الْآخِرَةِ يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، الشَّدِيدَ الْمُؤْلِمَ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي يُونُسَ: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 69 - 70] ، وَقَوْلِهِ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [2 \ 126] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَتَاعُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْفَعَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَوْلُهُ لَا يُفْلِحُونَ، أَيْ: لَا يَنَالُونَ الْفَلَاحَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ، وَالثَّانِي: الْبَقَاءُ السَّرْمَدِيُّ ; كَمَا تَقَدَّمَ بِشَوَاهِدِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ. هَذَا الْمُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ، الْمَقْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ الْمُحَلُّ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي (سُورَةِ الْأَنْعَامِ) ، فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [6 \ 164] . وَجُمْلَةُ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ كُلُّ ذِي ظُفْرٍ: كَالنَّعَامَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وَالْبَعِيرُ، وَالشَّحْمُ الْخَالِصُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ - وَهُوَ الثُّرُوبُ - وَشَحْمُ الْكُلَى. أَمَّا الشَّحْمُ الَّذِي عَلَى الظَّهْرِ، وَالَّذِي فِي الْحَوَايَا وَهِيَ الْأَمْعَاءُ، وَالْمُخْتَلِطُ بِعَظْمٍ كَلَحْمِ الذَّنَبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّحُومِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالْعِظَامِ ; فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ ; كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَثْنَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ عَلَى نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بِأَنَّهُ أُمَّةٌ ; أَيْ: إِمَامٌ مُقْتَدًى بِهِ، يَعْلَمُ النَّاسَ الْخَيْرَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [2 \ 124] ، وَأَنَّهُ قَانِتٌ لِلَّهِ، أَيْ: مُطِيعٌ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ شَاكِرٌ لِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ، أَيِ: اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ. وَأَنَّهُ هَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَرَّرَ هَذَا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [53 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [2 \ 124] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [21 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [6 \ 75] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 79] ، وَقَوْلِهِ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [3 \ 67] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [37 \ 83 - 84] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ «الْأُمَّةِ» ، فِي الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً الْآيَةَ [16 \ 221] ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَسَنَةُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا: الذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ، وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ. وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ بِسَبَبِ إِخْلَاصِهِ لِلَّهِ، وَاعْتِزَالِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ: الذُّرِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ. وَأَشَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ثَنَاءً حَسَنًا بَاقِيًا فِي الدُّنْيَا ; قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [19 \ 49 - 50] ، وَقَالَ: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [29 \ 27] ، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [26 \ 84] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَبَيَّنَ هَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 161] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِلَى قَوْلِهِ - مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [22 \ 77 - 78] وَقَوْلِهِ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [60 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمِلَّةُ: الشَّرِيعَةُ. وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَنْ كُلِّ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينِ الْحَقِّ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَنَفِ: وَهُوَ اعْوِجَاجُ الرِّجْلَيْنِ ; يُقَالُ: بِرِجْلِهِ حَنَفٌ، أَيِ: اعْوِجَاجٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ تُرَقِّصُهُ وَهُوَ صَبِيٌّ: وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ. وَقَوْلُهُ: حَنِيفًا حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ; عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: مَا كَانَ جُزْءُ مَا لَهُ أُضِيفَا أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا. لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا وَهُوَ مِلَّةُ، كَالْجُزْءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ: إِبْرَاهِيمَ ; لِأَنَّهُ لَوْ حُذِفَ لَبَقِيَ الْمَعْنَى تَامًّا ; لِأَنَّ قَوْلَنَا: أَنِ اتَّبِعْ إِبْرَاهِيمَ، كَلَامٌ تَامُّ الْمَعْنَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُهُ بِكَوْنِهِ مِثْلَ جُزْئِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يُجَادِلَ خُصُومَهُ بِالطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ: مِنْ إِيضَاحِ الْحَقِّ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] ، قَالَ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [29 \ 46] أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ نَصَبُوا لِلْمُؤْمِنِينَ الْحَرْبَ فَجَادِلْهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُؤْمِنُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ فِي شَأْنِ فِرْعَوْنَ: «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» [20 \ 44] ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ: قَوْلُ مُوسَى لَهُ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [79 \ 18 - 19] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ: زَاغَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وَالْحَقِّ، إِلَى طَرِيقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ (الْقَلَمِ) : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [68 \ 7 - 8] ، وَقَوْلِهِ فِي (الْأَنْعَامِ) : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [6 \ 117] ، وَقَوْلِهِ فِي (النَّجْمِ) : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [53 \ 30] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ الَّتِي هِيَ: أَعْلَمُ، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ الْوَصْفِ لَا التَّفْضِيلُ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي عِلْمِ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ خَلْقُهُ مِنْ شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ ; فَهِيَ كَقَوْلِ الشَّنْفَرَى: وَإِنْ مُدَّتِ الْأَيْدِيَ إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ. أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِعَجِلِهِمْ. وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقَ: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ. أَيْ عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةُ مِنْ (سُورَةِ النَّحْلِ) بِالْمَدِينَةِ، فِي تَمْثِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِحَمْزَةَ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَئِنْ أَظْفَرَنَا اللَّهُ بِهِمْ لَنُمَثِّلُنَّ بِهِمْ ; فَنَزَلَتِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةُ، فَصَبَرُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [16 \ 126] ، مَعَ أَنَّ (سُورَةَ النَّحْلِ) مَكِّيَّةٌ، إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ آخِرِهَا. وَالْآيَةَ فِيهَا جَوَازُ الِانْتِقَامِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ الْعَفْوِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [42 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الْآيَةَ [5 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ - إِلَى قَوْلِهِ - وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42 \ 41 - 43] ، وَقَوْلِهِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ - إِلَى قَوْلِهِ -: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [4 \ 149] ، كَمَا قَدَّمْنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 مَسَائِلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ، وَهِيَ أَنَّكَ إِنْ ظَلَمَكَ إِنْسَانٌ: بِأَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِكَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يُمْكِنْ لَكَ إِثْبَاتُهُ، وَقَدَرْتَ لَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ظَلَمَكَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَأْمَنُ مَعَهُ الْفَضِيحَةَ وَالْعُقُوبَةَ ; فَهَلْ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ أَوْ لَا؟ . أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَأَجْرَأُهُمَا عَلَى ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَعَلَى الْقِيَاسِ: أَنَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [16 \ 126] ، وَقَوْلِهِ: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [2 \ 194] . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: ابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ; وَعَلَيْهِ دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ: وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا لِمَنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ: " أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ. وَلَا تَخُنْ مِنْ خَانَكَ "، اه. وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ لَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَخُنْ مَنْ خَانَهُ، وَإِنَّمَا أَنْصَفَ نَفْسَهُ مِمَّنْ ظَلَمَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا، وَمَنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رَضُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَ يَهُودِيٍّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ; قِصَاصًا لِجَارِيَةٍ فَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ ". وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، زَاعِمًا أَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ شِبْهُ عَمْدٍ، لَا عَمْدٌ صَرِيحٌ حَتَّى يَجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي (سُورَةِ الْإِسْرَاءِ) . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَطْلَقَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اسْمَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [16 \ 126] ، وَالْجِنَايَةُ الْأُولَى لَيْسَتْ عُقُوبَةً ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُشَاكَلَةُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ ; فَيُؤَدِّي لَفْظٌ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ مُشَاكَلَةً لِلَفْظٍ آخَرَ مُقْتَرِنٍ بِهِ فِي الْكَلَامِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نَجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 أَيْ: خَيِّطُوا لِي. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قُضِيَتْ حَاجَتُهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَرَامِلَ لَا تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا عَلَى الْإِنَاثِ. وَنَظِيرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي إِطْلَاقِ إِحْدَى الْعُقُوبَتَيْنِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ مُشَاكَلَةً لِلَّفْظِ الْآخَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [22 \ 60] ، وَنَحْوُهُ أَيْضًا. قَوْلُهُ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [42 \ 40] ، مَعَ أَنَّ الْقَصَّاصَ لَيْسَ بِسَيِّئَةٍ، وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 194] ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنَ الْمُعْتَدِي أَيْضًا لَيْسَ بِاعْتِدَاءٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا أُدِّيَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ لِلْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ [16 \ 127] . ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَثِلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ ; لِقَوْلِهِ: وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ [16 \ 127] ، وَأَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [41 \ 35] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ الْآيَةَ، مَعْنَاهُ أَنَّ خَصْلَةَ الصَّبْرِ لَا يُلَقَّاهَا إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْحَظُّ الْأَكْبَرُ وَالنَّصِيبُ الْأَوْفَرُ، بِفَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَتَيْسِيرِ ذَلِكَ لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَعَ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ مَعْنَى التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ. وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ. وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [20 \ 46] ، وَقَوْلِهِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [8 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [9 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [26 \ 62] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَهِيَ بِالْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ، وَنُفُوذِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنِ الْجَمِيعِ فِي قَبْضَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: فَالْكَائِنَاتُ فِي يَدِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَصْغَرُ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَهَذِهِ هِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 الْمَذْكُورَةُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ الْآيَةَ [58 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا الْآيَةَ [57 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [7 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الْآيَةَ [10 \ 61] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَهُوَ - جَلَّ وَعَلَا - مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ، عَلَى الْكَيْفِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِخَلْقِهِ، كُلِّهِمْ فِي قَبْضَةِ يَدِهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. الْآيَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ ذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ بِرُوحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ جَسَدِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ فِي الْمَنَامِ لَا الْيَقَظَةِ ; لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِالْجَسَدِ، وَالْمِعْرَاجَ بِالرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، لِأَنَّهُ قَالَ بِعَبْدِهِ وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: سُبْحَانَ وَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِنْهُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [53 \ 17] لِأَنَّ الْبَصَرَ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا. [17 \ 1] وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، [17 \ 60] فَإِنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ يَقَظَةٍ، لَا رُؤْيَا مَنَامٍ، كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ لَمَا كَانَتْ فِتْنَةً، وَلَا سَبَبًا لِتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ ; لَأَنَّ رُؤْيَا الْمَنَامِ لَيْسَتْ مَحَلَّ إِنْكَارٍ ; لِأَنَّ الْمَنَامَ قَدْ يُرَى فِيهِ مَا لَا يَصِحُّ. فَالَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِتْنَةً هُوَ مَا رَآهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ. فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ لَا مَحَالَةَ، فَصَارَ فِتْنَةً لَهُمْ. وَكَوْنُ الشَّجَرَةِ الْمُعَلْوَنَةِ الَّتِي هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِتْنَةً لَهُمْ: " أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قَالُوا [37 \ 64] ، ظَهَرَ كَذِبُهُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ بِالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ، فَكَيْفَ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ النَّارِ! " كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَةِ ". وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِهَا رُؤْيَا عَيْنٍ يَقَظَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا الْآيَةَ [17 \ 1] ، وَقَوْلُهُ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. [53 \ 17 - 18] وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الرُّؤْيَا لَا تُطْلَقُ بِهَذَا اللَّفْظِ لُغَةً إِلَّا عَلَى رُؤْيَا الْمَنَامِ مَرْدُودٌ. بَلِ التَّحْقِيقُ: أَنَّ لَفْظَ الرُّؤْيَا يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ يَقَظَةً أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي وَهُوَ عَرَبِيٌّ قُحٌّ: فَكَبَّرَ لِلرُّؤْيَا وَهَشَّ فُؤَادُهُ ... وَبَشَّرَ نَفْسًا كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا فَإِنَّهُ يَعْنِي رُؤْيَةَ صَائِدٍ بِعَيْنِهِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ: وَرُؤْيَاكَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الْغَمْضِ قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ. وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [17 \ 60] رُؤْيَا مَنَامٍ، وَأَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ، [48 \ 27] وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ. وَرُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبُرَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجِسْمِهِ ; لِأَنَّ الرُّوحَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الرُّكُوبُ عَلَى الدَّوَابِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ: " أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَأَنَّهُ عُرِجَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ". وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كِلَيْهِمَا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُلْحِدِينَ. وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 الْمَذْكُورَ وَقَعَ مَنَامًا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْإِسْرَاءَ الْمَذْكُورَ نَوْمًا، ثُمَّ جَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ فَأُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةِ. كَمَا رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَجَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عَامَ سَبْعٍ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ الْآيَةَ [48 \ 27] ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الصَّحِيحُ: " فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ " مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ سَاءَ حِفْظُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ، وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ. وَرَوَاهَا عَنْ أَنَسٍ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَنَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَرِيكٌ الْمَذْكُورُ. وَانْظُرْ رِوَايَاتِهِمْ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ جَمَعَ طُرُقَ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا حَسَنًا بِإِتْقَانٍ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يَرْقَى فِيهَا، فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكَلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي السَّابِعَةِ، ثُمَّ جَاوَزَ مَنْزِلَيْهِمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ - أَيْ: أَقْلَامِ الْقَدَرِ - بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مَنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ، وَرَأَى هُنَاكَ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَرَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ بَانِيَ الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ. لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ. وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ ; رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ. وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا. ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ. فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصُّبْحُ مِنْ يَوْمَئِذٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَكِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ. لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ اجْتَمَعَ بِهِ هُوَ وَإِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثَبَتَ الْإِسْرَاءُ فِي جَمِيعِ مُصَنَّفَاتِ الْحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ مِمَّنْ رَوَاهُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكَرُ بَعْضَ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَسْطُ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، تَرَكْنَاهُ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَتَوَاتُرِهِ فِي الْأَحَادِيثِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَائِدَتَيْنِ، قَالَ فِي أُولَاهُمَا: " فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ جَلِيلَةٌ. وَرَوَى الْحَافِظَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ إِلَى قَيْصَرَ. . . ". فَذَكَرَ وُرُودَهُ عَلَيْهِ وَقُدُومَهُ إِلَيْهِ، وَفِي السِّيَاقِ دَلَالَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى وُفُورِ عَقْلِ هِرَقْلَ، ثُمَّ اسْتَدْعَى مَنْ بِالشَّامِ مِنَ التُّجَّارِ فَجِيءَ بِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَجْتَهِدُ أَنَّ يُحَقِّرَ أَمْرَهُ وَيُصَغِّرَ عِنْدَهُ، قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ: " وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ قَوْلًا أُسْقِطُهُ بِهِ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَكْذِبَ عِنْدَهُ كِذْبَةً يَأْخُذُهَا عَلَيَّ وَلَا يُصَدِّقُنِي فِي شَيْءٍ. قَالَ: حَتَّى ذَكَرْتُ قَوْلَهُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَلَا أُخْبِرُكَ خَبَرًا تَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ قَدْ كَذَبَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ إِنَّهُ يَزْعُمُ لَنَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَرْضِنَا أَرْضِ الْحَرَمِ فِي لَيْلَةٍ، فَجَاءَ مَسْجِدَكُمْ هَذَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ، وَرَجَعَ إِلَيْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَبْلَ الصَّبَاحِ. قَالَ: وَبِطْرِيقُ إِيلِيَاءَ عِنْدَ رَأْسِ قَيْصَرَ، فَقَالَ بِطْرِيقُ إِيلِيَاءَ: قَدْ عَلِمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَيْصَرُ. وَقَالَ: وَمَا عِلْمُكَ بِهَذَا؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ لَا أَنَامُ لَيْلَةً حَتَّى أُغْلِقَ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ. فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَغْلَقْتُ الْأَبْوَابَ كُلَّهَا غَيْرَ بَابٍ وَاحِدٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 غَلَبَنِي، فَاسْتَعَنْتُ عَلَيْهِ بِعُمَّالِي وَمَنْ يَحْضُرُنِي كُلُّهُمْ فَغَلَبَنَا، فَلَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُحَرِّكَهُ كَأَنَّمَا نُزَاوِلُ بِهِ جَبَلًا، فَدَعَوْتُ إِلَيْهِ النَّجَاجِرَةَ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الْبَابَ سَقَطَ عَلَيْهِ النِّجَافُ وَالْبُنْيَانُ وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَرِّكَهُ، حَتَّى نُصْبِحَ فَنَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ أَتَى. قَالَ: فَرَجَعْتُ وَتَرَكْتُ الْبَابَيْنِ مَفْتُوحَيْنِ. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ غَدَوْتُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا الْمَجَرُّ الَّذِي فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ مَثْقُوبٌ. وَإِذَا فِيهِ أَثَرُ مَرْبِطِ الدَّابَّةِ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: مَا حُبِسَ هَذَا الْبَابُ اللَّيْلَةَ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ وَقَدْ صَلَّى اللَّيْلَةَ فِي مَسْجِدِنَا اهـ. ثُمَّ قَالَ فِي الْأُخْرَى: " فَائِدَةٌ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْخَطَّابِ عُمَرُ بْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ (التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ السِّرَاجِ الْمُنِيرِ) وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ، وَأَبِي حَبَّةَ، وَأَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيَّيْنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَبُرَيْدَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَأَبِي الْحَمْرَاءِ، وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ، وَأُمِّ هَانِئٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ " فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ الزَّنَادِقَةُ وَالْمُلْحِدُونَ ; يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَحْسَنَ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي سُبْحَانَ [17 \ 1] أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانًا ; أَيْ تَسْبِيحًا. وَالتَّسْبِيحُ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ. وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ: التَّنْزِيهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ لَفْظَةَ سُبْحَانَ عَلَمٌ لِلتَّنْزِيهِ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ لِمَعْنَى التَّنْزِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ يَكُونُ لِلْمَعْنَى كَمَا يَكُونُ لِلذَّاتِ: وَمِثْلُهُ بَرَّةُ لِلْمَبَرَّةِ كَذَا فُجَّارِ عَلَمٌ لِلْفَجَرَةِ وَعَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ: فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ، وَأَنَّ مَعْنَى سُبْحَانَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَلَفْظَةُ سُبْحَانَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ، وَوُرُودُهَا غَيْرُ مُضَافَةٍ قَلِيلٌ. كَقَوْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الْأَعْشَى: فَقُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ مُلَازَمَتُهُ لِلْإِضَافَةِ وَالْأَعْلَامُ تَقِلُّ إِضَافَتُهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ لَفْظَةَ سُبْحَانَ غَيْرَ مُضَافَةٍ مَعَ التَّنْوِينِ وَالتَّعْرِيفِ. فَمِثَالُهُ مَعَ التَّنْوِينِ قَوْلُهُ: سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ وَمِثَالُهُ مُعَرَّفًا قَوْلُ الرَّاجِزِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السُّبْحَانِ وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ أَشْرَفُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا. إِذْ لَوْ كَانَ هُنَاكَ وَصْفٌ أَعْظَمُ مِنْهُ لَعَبَّرَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ، الَّذِي اخْتَرَقَ الْعَبْدُ فِيهِ السَّبْعَ الطِّبَاقَ، وَرَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي مَحْبُوبٍ مَخْلُوقٍ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى: يَا قَوْمُ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ ... يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّكْتَةِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي نَكَّرَ مِنْ أَجْلِهَا لَيْلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي [الْكَشَّافِ] : أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْلًا [17 \ 1] بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ: مِنَ اللَّيْلِ ; أَيْ بَعْضُ اللَّيْلِ. كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً [17 \ 79] يَعْنِي بِالْقِيَامِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ اه. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ ; أَيْ: لَيْلًا أَيَّ لَيْلٍ، دَنَا فِيهِ الْمُحِبُّ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنْ أَسْرَى وَسَرَى لُغَتَانِ. كَسَقَى وَأَسْقَى، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَيِّ النَّضِيرَةَ رَبَّةَ الْخِدْرِ ... أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي بِفَتْحِ التَّاءِ مَنْ " تَسْرِي " وَالْبَاءُ فِي اللُّغَتَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ، كَالْبَاءِ فِي ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 [2 \ 17] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُ هَذَا فِي " سُورَةِ هُودٍ ") . تَنْبِيهٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِعَيْنِ رَأْسِهِ أَوْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: " رَآهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ " وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا: " لَمْ يَرَهُ ". وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرُوفٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ. وَمَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ. فَالْمُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ بِالْقَلْبِ. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ " لَا بِعَيْنِ الرَّأْسِ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَهُوَ هُوَ فِي صِدْقِ اللَّهْجَةِ) سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا. فَأَفْتَاهُ بِمَا مُقْتَضَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: " نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ "؟ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي. (ح) وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثْنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: " قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ: " رَأَيْتُ نُورًا " هَذَا لَفَظَ مُسْلِمٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ: أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نُورًا أَنَّى أَرَاهُ " ا! فَهُوَ بِتَنْوِينِ " نُورٍ " وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي " أَنَّى " وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِهَا. وَ " أَرَاهُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالرِّوَايَاتِ. وَمَعْنَاهُ: حِجَابُهُ نُورٍ، فَكَيْفَ أَرَاهُ! . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّمِيرُ فِي " أَرَاهُ " عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ النُّورَ مَنَعَنِي مِنَ الرُّؤْيَةِ. كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِغْشَاءِ الْأَنْوَارِ الْأَبْصَارَ، وَمَنْعِهَا مِنْ إِدْرَاكِ مَا حَالَتْ بَيْنَ الرَّائِي وَبَيْنَهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ نُورًا " مَعْنَاهُ: رَأَيْتُ النُّورَ فَحَسْبُ، وَلَمْ أَرَ غَيْرَهُ. قَالَ: وَرُوِيَ " نُورَانِيٌّ " بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى مَا قُلْنَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 أَيْ خَالِقُ النُّورِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ تَقَعْ إِلَيْنَا وَلَا رَأَيْنَاهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ: أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ هُوَ مَا ذُكِرَ ; مِنْ كَوْنِهِ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِقُوَّةِ النُّورِ الَّذِي هُوَ حِجَابُهُ. وَمَنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ " حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ "؟ . أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ وَحِجَابُهُ نُورٌ، مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرَهُ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ مُوسَى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [7 \ 143] ; لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ الْمُسْتَحِيلَ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ شَرْعًا وَوَاقِعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مُمْتَنِعَةٌ شَرْعًا فِي الدُّنْيَا قَالَ: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [7 \ 143] إِلَى قَوْلِهِ: جَعَلَهُ دَكًّا [7 \ 143] . وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: " إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا " فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ [53 \ 8 - 9] فَذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ. أَظْهَرُ التَّفْسِيرَاتِ فِيهِ: أَنَّ مَعْنَى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [17 \ 1] أَكْثَرْنَا حَوْلَهُ الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ بِالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [21 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [21 \ 81] ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ: الشَّامُ. وَالْمُرَادُ بِأَنَّهُ بَارَكَ فِيهَا: أَنَّهُ أَكْثَرَ فِيهَا الْبَرْكَةَ وَالْخَيْرَ بِالْخَصْبِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْمِيَاهِ. كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِأَنَّهُ بَارَكَ فِيهَا أَنَّهُ بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْهَا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا. الظَّاهِرُ إِنَّمَا أَرَاهُ اللَّهَ مِنْ آيَاتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَرَاهُ إِيَّاهُ رُؤْيَةَ عَيْنٍ. فَهَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ دَاخِلَةٌ عَلَى رَأَى الْبَصَرِيَّةِ ; كَقَوْلِكَ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا دَارَ عَمْرٍو. أَيْ جَعَلْتَهُ يَرَاهَا بِعَيْنِهِ. ومِنْ فِي الْآيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا: أَيْ بَعْضَ آيَاتِنَا فَنَجْعَلُهُ يَرَاهَا بِعَيْنِهِ. وَذَلِكَ مَا رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ. كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ. وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [53 \ 17 - 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ; لِمَا بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِظَمَ شَأْنِ نَبِيهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ عِظَمَ شَأْنِ مُوسَى بِالْكِتَابِ الْعَظِيمِ، الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. مُبَيِّنًا أَنَّهُ جَعَلَهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَكَرَّرَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ. كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [32 \ 23 - 24] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ [28 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [6 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [7 \ 145] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ قَرَأَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَلَا تَتَّخِذُونَ بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا فَ «أَنْ» هِيَ الْمُفَسِّرَةُ. فَجَعَلَ التَّوْرَاةَ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُفَسِّرٌ بِنَهْيِهِمْ عَنِ اتِّخَاذِ وَكَيْلٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ كُلَّهُ فِي عِبَادَتِهِ هُوَ ثَمَرَةُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَ «لَا» فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّخِذُوا [17 \ 2] نَاهِيَةٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنَّ» وَصِلَتِهَا مَجْرُورٌ بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفِ. أَيْ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَجْلِ أَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا. لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَكِيلِ الَّذِي تُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَتُفَوَّضُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ مِنَ الْهُدَى. فَمَرْجِعُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ [73 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [67 \ 29] . وَقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ [9 \ 129] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [65 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [14 \ 11 - 12] ، وَقَوْلِهِ: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ [11 \ 56] ، وَقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [10 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [33 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْآيَةَ [25 \ 58] ، وَقَوْلِهِ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [3 \ 173] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جَدًّا. وَالْوَكِيلُ: فَعِيلٌ مِنَ التَّوَكُّلِ ; أَيْ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، تُفَوِّضُونَ إِلَيْهِ أُمُورَكُمْ. فَيُوصِلُ إِلَيْكُمُ النَّفْعَ، وَيَكُفُّ عَنْكُمُ الضُّرَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكِيلًا [17 \ 2] ; أَيْ رِبًّا تَكِلُونَ إِلَيْهِ أُمُورَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ لِلرَّبِّ وَكِيلٌ لِكِفَايَتِهِ وَقِيَامِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى ارْتِفَاعِ مَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ وَانْحِطَاطِ أَمْرِ الْوَكِيلِ اه. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكِيلًا ; أَيْ شَرِيكًا، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: كَفِيلًا بِأُمُورِهِمْ. حَكَاهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: رَبًّا يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ. قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَافِيًا اه وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ: مَنْ يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ. فَتُفَوَّضُ الْأُمُورُ إِلَيْهِ، لِيَأْتِيَ بِالْخَيْرِ، وَيَدْفَعَ الشَّرَّ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَلِهَذَا حَذَّرَ مِنَ اتِّخَاذِ وَكِيلٍ دُونَهُ. لِأَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ، وَلَا كَافِيَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. . عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ حَمَلَهُمْ مَعَ نُوحٍ، تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي نَجَّاهُمْ بِهَا مِنَ الْغَرَقِ، لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ تَهْيِيجٌ لِذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ; أَيْ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، فَنَجَّيْنَاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ، تَشَبَّهُوا بِأَبِيكُمْ، فَاشْكُرُوا نِعَمِنَا. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ الْآيَةَ [19 \ 58] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَ نُوحٍ مِنْ هُمْ، وَبَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي حَمَلَهُمْ فِيهِ، وَبَيَّنَ مَنْ بَقِيَ لَهُ نَسْلٌ، وَعَقِبٌ مِنْهُمْ، وَمَنِ انْقَطَعَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ. فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَ نُوحٍ: هُمْ أَهْلُهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ. [11 \ 40] وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ قَوْمِهِ قَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [11 \ 40] . وَبَيَّنَ أَنَّ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ بِالشَّقَاءِ امْرَأَتَهُ وَابْنَهُ. قَالَ فِي امْرَأَتِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ [66 \ 10] إِلَى قَوْلِهِ: وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [66 \ 10] . وَقَالَ فِي ابْنِهِ: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [11 \ 43] ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ الْآيَةَ. [11 \ 46] ، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [11 \ 46] أَيِ: الْمَوْعُودُ بِنَجَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ الْآيَةَ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ فِيهِ هُوَ السَّفِينَةُ فِي قَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا الْآيَةَ [11 \ 40] ; أَيِ السَّفِينَةِ. وَقَوْلُهُ: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [23 \ 27] . أَيْ أَدْخِلْ فِيهَا - أَيِ السَّفِينَةِ: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [23 \ 27] . وَبَيَّنَ أَنَّ ذُرِّيَّةَ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا ذُرِّيَّةُ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [37 \ 77] ، وَكَانَ نُوحٌ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. فَسَمَّاهُ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ [17 \ 3] ، أَنَّهُ مُنَادَى بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ، أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ: أَنَّهُ بِمَعْنَى أَخْبَرْنَاهُمْ وَأَعْلَمْنَاهُمْ. وَمِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ: الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [15 \ 66] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِـ «إِلَى» لِأَنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْإِيحَاءِ. وَقِيلَ: مُضَمَّنٌ مَعْنَى: تَقَدَّمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْنَاهُمْ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ - أَيْ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ - فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً. وَأَنَّ مَنْ أَسَاءَ - أَيْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي - فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُسِيءُ عَلَى نَفْسِهِ. لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا الْآيَةَ [41 \ 46 و45 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99 \ 7 - 8] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [30 \ 44] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [17 \ 7] بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ فَعَلَيْهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [41 \ 46، 45 \ 15] . وَمِنْ إِتْيَانِ اللَّامِ بِمَعْنَى عَلَى، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ الْآيَةَ [17 \ 109] ; أَيْ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: فَسَلَامٌ لَكَ الْآيَةَ [56 \ 91] . أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: قَوْلُ جَابِرٍ التَّغْلِبِيِّ، أَوْ شُرَيْحٍ الْعَبْسِيِّ، أَوْ زُهَيْرٍ الْمُزْنِيِّ أَوْ غَيْرِهِمْ: تَنَاوَلَهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ انْثَنَى لَهُ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ أَيْ عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَمِ. وَالتَّعْبِيرُ بِهَذِهِ اللَّامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ. كَمَا قَدَّمْنَا فِي نَحْوِ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ الْآيَةَ [42 \ 40] ، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 عَلَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 194] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ. جَوَابُ إِذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَسُوءُوا [17 \ 7] وَتَقْدِيرُهُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَاهُمْ لِيَسُؤُوَا وُجُوهَكُمْ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْأُولَى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا الْآيَةَ [17 \ 5] ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي مُشْكَلِ الْقُرْآنِ: وَنَظِيرُهُ فِي حَذْفِ الْعَامِلِ قَوْلُ حُمَيْدٍ بْنِ ثَوْرٍ: رَأَتْنِي بِحَبَلَيْهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ فَرُوقُ أَيْ: رَأَتْنِي أَقْبَلَتْ، أَوْ مُقْبِلًا. وَفِي هَذَا الْحَرْفِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ: قَرَأَهُ عَلَى الْكِسَائِيِّ «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; أَيْ لِنَسُوءَهَا بِتَسْلِيطِنَا إِيَّاهُمْ عَلَيْكُمْ يَقْتُلُونَكُمْ وَيُعَذِّبُونَكُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «لِيَسُوءَ وُجُوهُكُمْ» بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ. أَيْ لِيَسُوءَ هُوَ - أَيِ: اللَّهُ - وُجُوهَكُمْ بِتَسْلِيطِهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: [17 \ 7] لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا وَاوُ الْجَمْعِ الَّتِي هِيَ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَنَصَبَهُ فَحَذَفَ النُّونَ، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَسْؤُوَا وُجُوهَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْقَتْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا. لَمَّا بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَضَى إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَعْدُ الْأُولَى مِنْهُمَا: بَعَثَ عَلَيْهِمْ عِبَادًا لَهُ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَاحْتَلُّوا بِلَادَهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ. وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ: بَعَثَ عَلَيْهِمْ قَوْمًا لِيَسُوءُوا وُجُوهَهُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. وَبَيَّنَ أَيْضًا: أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعُودُ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [17 \ 8] وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا: هَلْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتْمِ صِفَاتِهِ وَنَقْضِ عُهُودِهِ، وَمُظَاهَرَةِ عَدُّوهُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ. فَعَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [17 \ 8] فَسَلِّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وَخَيْبَرَ مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْإِجْلَاءِ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ. فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [2 \ 89، 90] ، وَقَوْلُهُ: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [2 \ 100] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ الْآيَةَ [5 \ 13] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [59 \ 2 - 3، 46] ، وَتَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا الْآيَةَ [33 \ 26، 27] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَتَرَكْنَا بَسْطَ قِصَّةِ الَّذِينَ سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّتَيْنِ، لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا . فِي قَوْلِهِ: حَصِيرًا [17 \ 8] فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ قُرْآنٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ أَوْ أَوْجُهٌ، وَكُلُّهَا صَحِيحٌ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ ; فَنُورِدُ جَمِيعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَصِيرَ: الْمَحْبَسُ وَالسِّجْنُ ; مِنَ الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ حَصَرَهُ يَحْصُرُهُ حَصْرًا: ضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَأَحَاطَ بِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 تَعَالَى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [25 \ 13] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى حَصِيرًا ; أَيْ: فِرَاشًا وَمِهَادًا، مِنَ الْحَصِيرِ الَّذِي يُفْرَشُ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبِسَاطَ الصَّغِيرَ حَصِيرًا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ الْآيَةَ [7 \ 41] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْآيَةَ، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَأَجْمَعُهَا لِجَمِيعِ الْعُلُومِ، وَآخِرُهَا عَهْدًا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَلَا، يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ; أَيِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي هِيَ أَسَدُّ وَأَعْدَلُ وَأَصْوَبُ. فَ الَّتِي نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ... يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لِلْحَالِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَجْمَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِيهَا جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى إِلَى خَيْرِ الطَّرْقِ وَأَعْدَلِهَا وَأَصْوَبِهَا، فَلَوْ تَتَبَّعْنَا تَفْصِيلَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَأَتَيْنَا عَلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِشُمُولِهَا لِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى إِلَى خَيْرِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَكِنَّنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَنَذْكُرُ جُمَلًا وَافِرَةً فِي جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هُدَى الْقُرْآنِ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بَيَانًا لِبَعْضِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، تَنْبِيهًا بِبَعْضِهِ عَلَى كُلِّهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِظَامِ، وَالْمَسَائِلِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُلْحِدُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَطَعَنُوا بِسَبَبِهَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، لِقُصُورِ إِدْرَاكِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكَمِهَا الْبَالِغَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَقَدْ هَدَى الْقُرْآنُ فِيهِ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدَلُهَا، وَهِيَ تَوْحِيدُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَفِي عِبَادَتِهِ، وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: تَوْحِيدُهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ جُبِلَتْ عَلَيْهِ فِطْرُ الْعُقَلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الْآيَةَ [43 \ 87] ، وَقَالَ: قُلْ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنَ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [10 \ 31] ، وَإِنْكَارُ فِرْعَوْنَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [26 \ 23] تَجَاهُلٌ عَنْ عَارِفٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ الْآيَةَ [17 \ 102] ، وَقَوْلُهُ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [27 \ 14] ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [12 \ 106] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جَدًّا. الثَّانِي: تَوْحِيدُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي عِبَادَتِهِ، وَضَابِطُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ هُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا: خَلْعُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ. وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا: إِفْرَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ بِإِخْلَاصٍ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَكْثَرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْمَعَارِكُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [38 \ 5] . وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ الْآيَةَ [47 \ 19] ، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] ، وَقَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] ، وَقَوْلُهُ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [43 \ 45] ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [21 \ 108] ، فَقَدْ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَحْصُورٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ، لِشُمُولِ كَلِمَةِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» لِجَمِيعِ مَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ ; لِأَنَّهَا تَقْتَضِي طَاعَةَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ. فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ كَثِيرَةٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَوْحِيدُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ فِي صِفَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [42 \ 11] . وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، كَمَا قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ مَعَ قَطْعِ الطَّمَعِ عَنْ إِدْرَاكِ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ، قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [20 \ 110] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مُسْتَوْفًى مُوَضَّحًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ «فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ» . وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْكُفَّارِ بِاعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدٍ فِي عِبَادَتِهِ ; وَلِذَلِكَ يُخَاطِبُهُمْ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَوَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِهِ غَيْرَهُ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ [10 \ 31] إِلَى قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [10 \ 31] . فَلَّمَا أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِهِ غَيْرَهُ، بِقَوْلِهِ: فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [10 \ 31] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [23 \ 84، 85] ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [23 \ 85] ، ثُمَّ قَالَ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [23 \ 86 - 87] ، فَلَمَّا أَقَرُّوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [23 \ 87] ، ثُمَّ قَالَ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [23 \ 88، 89] ، فَلَمَّا أَقَرُّوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [23 \ 89] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [13 \ 16] ، فَلَمَّا صَحَّ الِاعْتِرَافُ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [13 \ 16] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [43 \ 87] ، فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [43 \ 87] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [29 \ 61] ، فَلَمَّا صَحَّ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [29 \ 61] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [29 \ 63] ، فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [29 \ 63] ، وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [31 \ 25] ، فَلَمَّا صَحَّ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [31 \ 25] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [27 \ 59 - 60] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُمُ الْبَتَّةَ غَيْرُهُ: هُوَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا، خَيْرٌ مِنْ جَمَادٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [27 \ 60] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا [27 \ 61] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ كَمَا قَبْلَهُ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [27 \ 61] ، ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [27 \ 62] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قَبْلَهُ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ إِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [27 \ 62] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [27 \ 63] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قَبِلَهُ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ إِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [27 \ 63] ، ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [27 \ 64] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قَبْلَهُ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ الِاعْتِرَافُ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [27 \ 64] ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [30 \ 40] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُمْ غَيْرُهُ هُوَ: لَا، أَيْ: لَيْسَ مِنْ شُرَكَائِنَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [30 \ 40] . وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ هَذَا كَثِيرَةٌ جَدًّا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كُلَّ الْأَسْئِلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهَامَاتُ تَقْرِيرٍ، يُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ إِذَا أَقَرُّوا رَتَّبَ لَهُمُ التَّوْبِيخَ وَالْإِنْكَارَ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ ; لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِالْأُلُوهِيَّةِ ضَرُورَةً ; نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [14 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [6 \ 164] ، وَإِنَّ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ ; لِأَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَلَيْسَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الرُّبُوبِيَّةَ، كَمَا رَأَيْتَ كَثْرَةَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ التَّوْحِيدِ سَتَجِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، بِحَسْبَ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَى بَيَانِهَا بِآيَاتٍ أُخَرَ. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ جَعْلُهُ الطَّلَاقَ بِيَدِ الرَّجُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ الْآيَةَ [65 \ 1] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ النِّسَاءَ مَزَارِعُ وَحُقُولٌ، تُبْذَرُ فِيهَا النُّطَفُ كَمَا يُبْذَرُ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [2 \ 223] . وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ: أَنَّ الزَّارِعَ لَا يُرْغَمُ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِي حَقْلٍ لَا يَرْغَبُ الزِّرَاعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَرَاهُ غَيْرَ صَالِحٍ لَهُ، وَالدَّلِيلُ الْحِسِّيُّ الْقَاطِعُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ زَارِعٌ، وَالْمَرْأَةَ مَزْرَعَةٌ، أَنَّ آلَةَ الِازْدِرَاعِ مَعَ الرَّجُلِ، فَلَوْ أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُجَامِعَ الرَّجُلَ وَهُوَ كَارِهٌ لَهَا، لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا لَمْ يَنْتَشِرْ، وَلَمْ يَقُمْ ذَكَرُهُ إِلَيْهَا فَلَا تَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرْغِمُهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَتَحْمِلُ وَتَلِدُ، كَمَا قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ: مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقُدٌ حُبُكَ ... النِّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهَبَّلِ فَدَلَّتِ الطَّبِيعَةُ وَالْخِلْقَةُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَأَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهِ، وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى نِسْبَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 الْوَلَدِ لَهُ لَا لَهَا. وَتَسْوِيَةُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ مُكَابَرَةً فِي الْمَحْسُوسِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ إِبَاحَتُهُ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ إِلَى أَرْبَعٍ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، لَزِمَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، أَوْ مِلْكِ يَمِينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 3] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدَلُهَا، هِيَ إِبَاحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لِأُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ يَعْرِفُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ. مِنْهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ تَحِيضُ وَتَمْرَضُ، وَتَنْفَسُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ مِنْ قِيَامِهَا بِأَخَصِّ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالرَّجُلُ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّسَبُّبِ فِي زِيَادَةِ الْأُمَّةِ، فَلَوْ حُبِسَ عَلَيْهَا فِي أَحْوَالِ أَعْذَارِهَا لَعُطِّلَتْ مَنَافِعُهُ بَاطِلًا فِي غَيْرِ ذَنْبٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّ الرِّجَالَ أَقَلُّ عَدَدًا مِنَ النِّسَاءِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ تَعَرُّضًا لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ مِنْهُنَّ فِي جَمِيعِ مَيَادِينِ الْحَيَاةِ، فَلَوْ قَصَرَ الرَّجُلُ عَلَى وَاحِدَةٍ، لَبَقِيَ عَدَدٌ ضَخْمٌ مِنَ النِّسَاءِ مَحْرُومًا مِنَ الزَّوَاجِ، فَيَضْطَرُّونَ إِلَى رُكُوبِ الْفَاحِشَةِ فَالْعُدُولُ عَنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضَيَاعِ الْأَخْلَاقِ، وَالِانْحِطَاطِ إِلَى دَرَجَةِ الْبَهَائِمِ فِي عَدَمِ الصِّيَانَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرَفِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْأَخْلَاقِ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِنَاثَ كُلَّهُنَّ مُسْتَعِدَّاتٌ لِلزَّوَاجِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِلَوَازِمِ الزَّوَاجِ لِفَقْرِهِمْ، فَالْمُسْتَعِدُّونَ لِلزَّوَاجِ مِنَ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنَ الْمُسْتَعِدَّاتِ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا عَائِقَ لَهَا، وَالرَّجُلُ يَعُوقُهُ الْفَقْرُ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى لَوَازِمَ النِّكَاحِ، فَلَوْ قَصَرَ الْوَاحِدُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، لَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْتَعِدَّاتِ لِلزَّوَاجِ أَيْضًا بِعَدَمِ وُجُودِ أَزْوَاجٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَيَاعِ الْفَضِيلَةِ وَتَفَشِّي الرَّذِيلَةِ، وَالِانْحِطَاطِ الْخُلُقِيِّ، وَضَيَاعِ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، فَإِنْ خَافَ الرَّجُلُ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، أَوْ مِلْكِ يَمِينِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ الْآيَةَ [16 \ 90] ، وَالْمَيْلُ بِالتَّفْضِيلِ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَهُنَّ لَا يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [4 \ 129] ، أَمَّا الْمَيْلُ الطَّبِيعِيُّ بِمَحَبَّةِ بَعْضِهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ دَفْعُهُ لِلْبَشَرِ، لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ وَتَأَثُّرٌ نَفْسَانِيٌّ لَا فِعْلٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [4 \ 129] ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ أَعْدَاءِ دِينِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ يُلْزِمُهُ الْخِصَامَ وَالشَّغَبَ الدَّائِمَ الْمُفْضِي إِلَى نَكَدِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا أَرْضَى إِحْدَى الضَّرَّتَيْنِ سَخِطَتِ الْأُخْرَى، فَهُوَ بَيْنُ سَخْطَتَيْنِ دَائِمًا، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَهُوَ كَلَامٌ سَاقِطٌ، يَظْهَرُ سُقُوطُهُ لِكُلِّ عَاقِلٍ ; لِأَنَّ الْخِصَامَ وَالْمُشَاغَبَةَ بَيْنَ أَفْرَادِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، فَيَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْوَاحِدَةِ. فَهُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ، وَهُوَ فِي جَنْبِ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنْ صِيَانَةِ النِّسَاءِ وَتَيْسِيرِ التَّزْوِيجِ لِجَمِيعِهِنَّ، وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْأُمَّةِ لِتَقُومَ بِعَدَدِهَا الْكَثِيرِ فِي وَجْهِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ كَلَا شَيْءٍ; لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعُظْمَى يُقَدَّمُ جَلْبُهَا عَلَى دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الصُّغْرَى. فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُشَاغَبَةَ الْمَزْعُومَةَ فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مَفْسَدَةٌ، أَوْ أَنَّ إِيلَامَ قَلْبِ الزَّوْجَةِ الْأَوْلَى بِالضَّرَّةِ مَفْسَدَةٌ، لَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْمَصَالِحُ الرَّاجِحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ عَاطِفًا عَلَى مَا تُلْفِي فِيهِ الْمَفْسَدَةَ الْمَرْجُوحَةَ فِي جَنْبِ الْمُصْلِحَةِ الرَّاجِحَةِ: أَوْ رَجَّحَ الْإِصْلَاحَ كَالْأَسَارَى ... تُفْدَى بِمَا يَنْفَعُ لِلنَّصَارَى وَانْظُرْ تَدَلِّي دَوَالِي الْعِنَبِ ... فِي كُلِّ مَشْرِقِ وَكُلِّ مَغْرِبٍ فَفِدَاءُ الْأُسَارَى مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَدَفْعُ فَدَائِهِمُ النَّافِعِ لِلْعَدُوِّ مَفْسَدَةٌ مَرْجُوحَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ، أَمَّا إِذَا تَسَاوَتِ الْمَصْلَحَةُ وَالْمُفْسَدَةُ، أَوْ كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ أَرْجَحَ كَفِدَاءِ الْأُسَارَى بِسِلَاحٍ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ الْعَدُوُّ مِنْ قَتْلِ قَدْرِ الْأُسَارَى أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ تُلْغَى لِكَوْنِهَا غَيْرَ رَاجِحَةٍ، كَمَا قَالَ فِي الْمَرَاقِي: اخْرُمْ مُنَاسِبًا بِمُفْسِدٍ لَزِمْ ... لِلْحُكْمِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْجُوحٍ عُلِمْ وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ تُعْصَرُ مِنْهُ الْخَمْرَ وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِلَّا أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُودِ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِمَا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنْهَا أُلْغِيَتْ لَهَا تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ الْمَرْجُوحَةُ، وَاجْتِمَاعُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ الزِّنَى إِلَّا أَنَّ التَّعَاوُنَ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ مَصْلَحَةٌ أَرْجَحُ مِنْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ يَجِبُ عَزْلُ النِّسَاءِ فِي مَحَلٍّ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الرِّجَالِ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِنَّ حِصْنٌ قَوِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِنَّ مَعَهُ، وَتُجْعَلُ الْمَفَاتِيحُ بِيَدِ أَمِينٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 مَعْرُوفٌ بِالتُّقَى وَالدِّيَانَةِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. فَالْقُرْآنُ أَبَاحَ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ حِرْمَانِهَا مِنَ الزَّوَاجِ، وَلِمَصْلَحَةِ الرَّجُلِ بِعَدَمِ تَعَطُّلِ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعُذْرِ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ لِيَكْثُرَ عَدَدُهَا فَيُمْكِنُهَا مُقَاوَمَةُ عَدُوِّهَا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ تَشْرِيعُ حَكِيمٍ خَبِيرٍ لَا يَطْعَنُ فِيهِ إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِظُلُمَاتِ الْكُفْرِ. وَتَحْدِيدُ الزَّوْجَاتِ بِأَرْبَعٍ ; تَحْدِيدٌ مِنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَهُوَ أَمْرٌ وَسَطٌ بَيْنَ الْقِلَّةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى تَعَطُّلِ بَعْضِ مَنَافِعِ الرَّجُلِ، وَبَيْنَ الْكَثْرَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِلَوَازِمَ الزَّوْجِيَّةِ لِلْجَمِيعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: تَفْضِيلُهُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [4 \ 176] . وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِخَلْقِهِ هَذَا الْبَيَانَ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ لِئَلَّا يَضِلُّوا، فَمِنْ سَوَّى بَيْنِهِمَا فِيهِ فَهُوَ ضَالٌّ قَطْعًا. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَبِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [4 \ 176] ، وَقَالَ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4 \ 11] . وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدَلُهَا: تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ; أَيْ وَهُوَ الرِّجَالُ عَلَى بَعْضٍ [4 \ 34] ، أَيْ وَهُوَ النِّسَاءُ، وَقَوْلِهِ: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [2 \ 228] ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ فِي كَمَالٍ خِلْقِيٍّ، وَقُوَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ، وَشَرَفٍ وَجَمَالٍ، وَالْأُنُوثَةُ نَقْصٌ خِلْقِيٌّ، وَضَعْفٌ طَبِيعِيٌّ، كَمَا هُوَ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ، لَا يَكَادُ يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ فِي الْمَحْسُوسِ. وَقَدْ أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 18] ; لِأَنَّ اللَّهَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ نَسَبُوا لَهُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْوَلَدِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَسَبُوا لَهُ أَخَسَّ الْوَلَدَيْنِ وَأَنْقَصَهُمَا وَأَضْعَفَهُمَا، وَلِذَلِكَ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ; أَيِ: الزِّينَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ لِيَجْبُرَ نَقْصَهُ الْخِلْقِيَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 الطَّبِيعِيَّ بِالتَّجْمِيلِ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَهُوَ الْأُنْثَى. بِخِلَافِ الرَّجُلِ، فَإِنَّ كَمَالَ ذُكُورَتِهِ وَقُوَّتَهَا وَجَمَالَهَا يَكْفِيهِ عَلَى الْحُلِيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا الْحُلِيُّ إِلَّا زِينَةً مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا ... كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرَا وَقَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [53 \ 21 - 22] ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ ضِيزَى - أَيْ غَيْرُ عَادِلَةٍ - لِأَنَّ الْأُنْثَى أَنْقَصُ مِنَ الذَّكَرِ خِلْقَةً وَطَبِيعَةً، فَجَعَلُوا هَذَا النَّصِيبَ النَّاقِصَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلْوًا كَبِيرًا! وَجَعَلُوا الْكَامِلَ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [16 \ 62] ، أَيْ وَهُوَ الْبَنَاتُ. وَقَالَ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [16 \ 58، 59] ، وَقَالَ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا - أَيْ وَهُوَ الْأُنْثَى - ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [43 \ 17] . وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُنْثَى نَاقِصَةٌ بِمُقْتَضَى الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، وَأَنَّ الذَّكَرَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا: أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [37 \ 153 - 154] ، أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا الْآيَةَ [17 \ 40] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْأُنْثَى مَتَاعٌ لَا بُدَّ لَهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِشُئُونِهَا وَيُحَافِظُ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّمَتُّعِ بِالزَّوْجَةِ: هَلْ هُوَ قُوتٌ؟ أَوْ تَفَكُّهٌ؟ وَأَجْرَى عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ حُكْمَ إِلْزَامِ الِابْنِ بِتَزْوِيجِ أَبِيهِ الْفَقِيرِ، قَالُوا: فَعَلَى أَنَّ النِّكَاحَ قُوتٌ فَعَلَيْهِ تَزْوِيجُهُ؟ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوتِ الْوَاجِبِ لَهُ عَلَيْهِ. وَعَلَى أَنَّهُ تَفَكُّهٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فَانْظُرْ شِبْهَ النِّسَاءِ بِالطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْجِهَادِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الْغَانِمِينَ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْأُولَى خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ. فَأَصْلُهَا جُزْءٌ مِنْهُ. فَإِذَا عَرَفَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ: أَنَّ الْأُنُوثَةَ نَقْصٌ خِلْقِيٌّ، وَضَعْفٌ طَبِيعِيٌّ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ الَّذِي يُدْرِكُ الْحِكَمَ وَالْأَسْرَارَ، يَقْضِي بِأَنَّ النَّاقِصَ الضَّعِيفَ بِخِلْقَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ نَظَرِ الْكَامِلِ فِي خِلْقَتِهِ، الْقَوِيِّ بِطَبِيعَتِهِ ; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 لِيَجْلِبَ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِهِ مِنَ النَّفْعِ، وَيَدْفَعَ عَنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ مِنَ الضُّرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [4 \ 34] . وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّعِيفُ النَّاقِصُ مُقَوَّمًا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْقَوِيِّ الْكَامِلِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُلْزَمًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نِسَائِهِ، وَالْقِيَامِ بِجَمِيعِ لَوَازِمِهِنَّ فِي الْحَيَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [4 \ 34] ، وَمَالُ الْمِيرَاثِ مَا مَسَحَا فِي تَحْصِيلِهِ عَرَقًا، وَلَا تَسَبَّبَا فِيهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْلِيكٌ مِنَ اللَّهِ مَلَّكَهُمَا إِيَّاهُ تَمْلِيكًا جَبْرِيًّا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ أَنْ يُؤْثِرَ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَإِنْ أَدْلَيَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ دَائِمًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نِسَائِهِ، وَبِذْلِ الْمُهُورِ لَهُنَّ، وَالْبَذْلِ فِي نَوَائِبِ الدَّهْرِ، وَالْمَرْأَةُ مُتَرَقِّبَةٌ لِلزِّيَادَةِ بِدَفْعِ الرَّجُلِ لَهَا الْمَهْرَ، وَإِنْفَاقِهِ عَلَيْهَا وَقِيَامِهِ بِشُئُونِهَا، وَإِيثَارُ مُتَرَقِّبُ النَّقْصِ دَائِمًا عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ دَائِمًا لِجَبْرِ بَعْضِ نَقْصِهِ الْمُتَرَقِّبِ، حِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ، لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4 \ 11] ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكَمِ الَّتِي بَيِّنَا بِهَا فَضْلَ نَوْعِ الذَّكَرِ عَلَى نَوْعِ الْأُنْثَى فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، جَعَلَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الرَّجُلَ هُوَ الْمَسْئُولَ عَنِ الْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا. وَخَصَّهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ دُونَهَا، وَمَلَّكَهُ الطَّلَاقَ دُونَهَا، وَجَعَلَهَ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ دُونَهَا، وَجَعَلَ انْتِسَابَ الْأَوْلَادِ إِلَيْهِ لَا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ شَهَادَتَهُ فِي الْأَمْوَالِ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] ، وَجَعَلَ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقَصَاصِ دُونَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَارِقِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّعْفَ الْخِلْقِيَّ وَالْعَجْزَ عَنِ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ عَيْبٌ نَاقِصٌ فِي الرِّجَالِ، مَعَ أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ الَّتِي تَجْذِبُ إِلَيْهَا الْقُلُوبَ، قَالَ جَرِيرٌ: إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرَفِهَا حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمَّ يُحْيِينَ قَتْلَانَا يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ ... بِهِ وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكَانًا وَقَالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ: بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ إِذَا عَرَضُوا ... لَهُ بِبَعْضِ الْأَذَى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ فَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ الْبَرِيءِ ... وَلَمْ تَزَلْ بِهِ سَكْتَةٌ حَتَّى يُقَالَ مُرِيبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 فَالْأَوَّلُ: تَشَبَّبَ بِهِنَّ بِضَعْفِ أَرْكَانِهِنَّ، وَالثَّانِي: بِعَجْزِهِنَّ عَنِ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 18] ، وَلِهَذَا التَّبَايُنِ فِي الْكَمَالِ وَالْقُوَّةِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّعْنَ عَلَى مَنْ تَشَبَّهَ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [59 \ 7] ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَلْتَعْلَمْنَ أَيَّتُهَا النِّسَاءُ اللَّاتِي تُحَاوِلْنَ أَنْ تَكُنَّ كَالرِّجَالِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ أَنَّكُنَّ مُتَرَجِّلَاتٌ مُتَشَبِّهَاتٌ بِالرِّجَالِ، وَأَنَّكُنَّ مَلْعُونَاتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ الْمُخَنَّثُونَ الْمُتَشَبِّهُونَ بِالنِّسَاءِ، فَهُمْ أَيْضًا مَلْعُونُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ فِيهِمْ: وَمَا عَجَبِي أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجَّلَتْ ... وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ وَاعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ: أَنَّ هَذِهِ الْفِكْرَةَ الْكَافِرَةَ، الْخَاطِئَةَ الْخَاسِئَةَ، الْمُخَالِفَةَ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلَ، وَلِلْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ وَتَشْرِيعِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ مِنْ تَسْوِيَةِ الْأُنْثَى بِالذِّكْرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالْمَيَادِينِ، فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِخْلَالِ بِنِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ الْأُنْثَى بِصِفَاتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا صَالِحَةٌ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ، صَلَاحًا لَا يُصْلِحُهُ لَهَا غَيْرُهَا، كَالْحَمْلِ وَالْوَضْعِ، وَالْإِرْضَاعِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، وَخِدْمَةِ الْبَيْتِ، وَالْقِيَامِ عَلَى شُئُونِهِ. مِنْ طَبْخٍ وَعَجْنٍ وَكَنْسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْخِدْمَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا لِلْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ دَاخِلَ بَيْتِهَا فِي سَتْرٍ وَصِيَانَةٍ، وَعَفَافٍ وَمُحَافِظَةٍ عَلَى الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، لَا تَقِلُّ عَنْ خِدْمَةِ الرَّجُلِ بِالِاكْتِسَابِ، فَزَعَمَ أُولَئِكَ السَّفَلَةُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَتْبَاعِهِمْ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا مِنَ الْحُقُوقِ فِي الْخِدْمَةِ خَارِجَ بَيْتِهَا مِثْلُ مَا لِلرَّجُلِ، مَعَ أَنَّهَا فِي زَمَنِ حَمْلِهَا وَرِضَاعِهَا وَنِفَاسِهَا، لَا تَقْدِرُ عَلَى مُزَاوَلَةِ أَيِّ عَمَلٍ فِيهِ أَيُّ مَشَقَّةٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا بَقِيَتْ خِدْمَاتُ الْبَيْتِ كُلُّهَا ضَائِعَةً: مِنْ حِفْظِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ، وَإِرْضَاعِ مَنْ هُوَ فِي زَمَنِ الرَّضَاعُ مِنْهُمْ، وَتَهْيِئَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلرَّجُلِ إِذَا جَاءَ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَوْ أَجْرَوْا إِنْسَانًا يَقُومُ مَقَامَهَا، لِتُعَطِّلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ التَّعَطُّلَ الَّذِي خَرَجَتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 الْمَرْأَةُ فِرَارًا مِنْهُ ; فَعَادَتِ النَّتِيجَةُ فِي حَافِرَتِهَا عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ وَابْتِذَالَهَا فِيهِ ضَيَاعُ الْمُرُوءَةِ وَالدِّينِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَاعٌ، هُوَ خَيْرُ مَتَاعٍ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَشَدُّ أَمْتِعَةِ الدُّنْيَا تَعَرُّضًا لِلْخِيَانَةِ. لِأَنَّ الْعَيْنَ الْخَائِنَةَ إِذَا نَظَرَتْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا فَقَدِ اسْتَغَلَّتْ بَعْضَ مَنَافِعِ ذَلِكَ الْجَمَالِ خِيَانَةً وَمَكْرًا. فَتَعْرِيضُهَا لِأَنْ تَكُونَ مَائِدَةً لِلْخَوَنَةِ فِيهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمَسَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا بَدَنُ خَائِنٍ سَرَتْ لَذَّةُ ذَلِكَ اللَّمْسِ فِي دَمِهِ وَلَحْمِهِ بِطَبِيعَةِ الْغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَغَلَّ نِعْمَةَ ذَلِكَ الْبَدَنِ خِيَانَةً وَغَدْرًا، وَتَحْرِيكُ الْغَرَائِزِ بِمِثْلِ ذَلِكَ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ يَكُونُ غَالِبًا سَبَبًا لِمَا هُوَ شَرُّ مِنْهُ. كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بِكَثْرَةٍ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَخَلَّتْ عَنْ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، وَتَرَكَتِ الصِّيَانَةَ. فَصَارَتْ نِسَاؤُهَا يَخْرُجْنَ مُتَبَرِّجَاتٍ عَارِيَاتِ الْأَجْسَامِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. لِأَنَّ اللَّهَ نَزَعَ مِنْ رِجَالِهَا صِفَةَ الرُّجُولَةِ وَالْغِيرَةِ عَلَى حَرِيمِهِمْ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مَنْ مَسْخِ الضَّمِيرِ وَالذَّوْقِ، وَمِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَدَعْوَى الْجَهَلَةِ السَّفَلَةِ: أَنَّ دَوَامَ خُرُوجِ النِّسَاءِ بَادِيَةَ الرُّءُوسِ وَالْأَعْنَاقِ وَالْمَعَاصِمِ، وَالْأَذْرُعِ وَالسُّوقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ يُذْهِبُ إِثَارَةَ غَرَائِزِ الرِّجَالِ ; لِأَنَّ كَثْرَةَ الْإِمْسَاسِ تُذْهِبُ الْإِحْسَاسَ ; كَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَالْخِسَّةِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِشْبَاعُ الرَّغْبَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ، حَتَّى يَزُولَ الْأَرَبُ مِنْهُ بِكَثْرَةِ مُزَاوَلَتِهِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى. وَلِأَنَّ الدَّوَامَ لَا يُذْهِبُ إِثَارَةَ الْغَرِيزَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ يَمْكُثُ مَعَ امْرَأَتِهِ سِنِينَ كَثِيرَةً حَتَّى تَلِدَ أَوْلَادَهُمَا، وَلَا تَزَالُ مُلَامَسَتُهُ لَهَا، وَرُؤْيَتُهُ لِبَعْضِ جِسْمِهَا تُثِيرُ غَرِيزَتَهُ. كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ: لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي وَقَدْ أَمَرَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَالِقُ هَذَا الْكَوْنِ وَمُدَبِّرُ شُئُونِهِ، الْعَالِمُ بِخَفَايَا أُمُورِهِ وَبِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ بِغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا لَا يَحِلُّ ; قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ. . . الْآيَةَ [24 \ 30، 31] . وَنَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلِهَا لِتُسْمِعَ الرِّجَالَ صَوْتَ خَلْخَالِهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [24 \ 31] ، وَنَهَاهُنَّ عَنْ لِينِ الْكَلَامِ، لِئَلَّا يَطْمَعَ أَهْلُ الْخَنَى فِيهِنَّ، قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [32 \ 33] ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْحِجَابِ فِي (سُورَةِ الْأَحْزَابِ) ، كَمَا قَدَّمْنَا الْوَعْدَ بِذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: مِلْكُ الرَّقِيقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [23 \ 5 - 6] فِي «سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَأَلَ سَائِلٌ» ، وَقَوْلِهِ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ الْآيَةَ [4 \ 24] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ الْآيَةَ [24 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ الْآيَةَ [33 \ 52] . وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْآيَةَ [33 \ 50] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [33 \ 55] ، وَقَوْلِهِ: أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [24 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [4 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [16 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ الْآيَةَ [30 \ 28] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَالْمُرَادُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا: مِلْكُ الرَّقِيقِ بِالرِّقِّ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَلِكِ الرَّقِيقِ قَوْلُهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا الْآيَةَ [16 \ 75] ، وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ الْآيَةَ [2 \ 221] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَسَبَبُ الْمِلْكِ بِالرِّقِّ: هُوَ الْكُفْرُ، وَمُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا أَقْدَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاهِدِينَ الْبَاذِلِينَ مُهَجَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَجَمِيعَ قُوَاهُمْ، وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا عَلَى الْكُفَّارِ، جَعَلَهُمْ مِلْكًا لَهُمْ بِالسَّبْيِ ; إِلَّا إِذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَعْدَلِ الْأَحْكَامِ وَأَوْضَحِهَا وَأَظْهَرِهَا حِكْمَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ وَيُوَحِّدُوهُ، وَيَمْتَثِلُوا أَوَامَرَهُ وَيَجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [51 \ 56، 57] . وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً. كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [14 \ 34] ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي «سُورَةِ النَّحْلِ» : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [16 \ 18] ، وَجَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِيَشْكُرُوهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [16 \ 78] فَتَمَرَّدَ الْكُفَّارُ عَلَى رَبِّهِمْ وَطَغَوْا وَعَتَوْا، وَأَعْلَنُوا الْحَرْبَ عَلَى رُسُلِهِ لِئَلَّا تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَاسْتَعْمَلُوا جَمِيعَ الْمَوَاهِبِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي مُحَارَبَتِهِ، وَارْتِكَابِ مَا يُسْخِطُهُ، وَمُعَادَاتِهِ وَمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِهِ الْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا أَكْبَرُ جَرِيمَةٍ يَتَصَوَّرُهَا الْإِنْسَانُ. فَعَاقَبَهُمُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ جَلَّ وَعَلَا عُقُوبَةً شَدِيدَةً تُنَاسِبُ جَرِيمَتَهُمْ. فَسَلَبَهُمُ التَّصَرُّفَ، وَوَضَعَهُمْ مِنْ مَقَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى مَقَامٍ أَسْفَلَ مِنْهُ كَمَقَامِ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَجَازَ بَيْعَهُمْ وَشِرَاءَهُمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْهُمْ حُقُوقَ الْإِنْسَانِيَّةِ سَلْبًا كُلِّيًّا. فَأَوْجَبَ عَلَى مَالِكِيهِمُ الرِّفْقَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يُطْعِمُونَ، وَيُكْسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ، وَلَا يُكَلِّفُوهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَإِنْ كَلَّفُوهُمْ أَعَانُوهُمْ ; كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْإِيصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 36] كَمَا تَقَدَّمَ. وَتَشَوَّفَ الشَّارِعُ تَشَوُّفًا شَدِيدًا لِلْحُرِّيَّةِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الرِّقِّ، فَأَكْثَرَ أَسْبَابَ ذَلِكَ، كَمَا أَوْجَبَهُ فِي الْكَفَّارَاتِ مِنْ قَتْلٍ خَطَأٍ وَظِهَارٍ وَيَمِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَوْجَبَ سَرَايَةَ الْعِتْقِ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابَةِ فِي قَوْلِهِ: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [24 \ 33] ، وَرَغَّبَ فِي الْإِعْتَاقِ تَرْغِيبًا شَدِيدًا، وَلَوْ فَرَضْنَا - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَنَّ حُكُومَةً مِنْ هَذِهِ الْحُكُومَاتِ الَّتِي تُنْكِرُ الْمِلْكَ بِالرِّقِّ، وَتُشَنِّعُ فِي ذَلِكَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ رَعَايَاهَا كَانَتْ تُغْدِقُ عَلَيْهِ النِّعَمَ، وَتُسْدِي إِلَيْهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَدَبَّرَ عَلَيْهَا ثَوْرَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 شَدِيدَةً يُرِيدُ بِهَا إِسْقَاطَ حُكْمَهَا، وَعَدَمَ نُفُوذِ كَلِمَتِهَا، وَالْحَيْلُولَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تُرِيدُهُ مِنْ تَنْفِيذِ أَنْظِمَتِهَا، الَّتِي يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ بِهِمَا صَلَاحَ الْمُجْتَمَعِ، ثُمَّ قَدَرَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ مُقَاوَمَةٍ شَدِيدَةٍ فَإِنَّهَا تَقْتُلُهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ يَسْلُبُهُ جَمِيعَ تَصَرُّفَاتِهِ وَجَمِيعَ مَنَافِعِهِ، فَهُوَ أَشَدُّ سَلْبًا لِتَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ وَمَنَافِعِهِ مِنَ الرِّقِّ بِمَرَاحِلَ، وَالْكَافِرُ قَامَ بِبَذْلِ كُلِّ مَا فِي وُسْعِهِ لِيَحُولَ دُونَ إِقَامَةِ نِظَامِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِيَسِيرَ عَلَيْهِ خَلْقُهُ، فَيُنْشَرُ بِسَبَبِهِ فِي الْأَرْضِ الْأَمْنُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَالرَّخَاءُ وَالْعَدَالَةُ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَنْتَظِمُ بِهِ الْحَيَاةُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلِهَا وَأَسْمَاهَا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [16 \ 90] فَعَاقَبَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمُعَاقَبَةَ بِمَنْعِهِ التَّصَرُّفَ، وَوَضْعُ دَرَجَتِهِ وَجَرِيمَتِهِ تَجْعَلُهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الرَّقِيقُ مُسْلِمًا فَمَا وَجْهُ مِلْكِهِ بِالرِّقِّ؟ مَعَ أَنَّ سَبَبَ الرِّقِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ وَمُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرُسُلِهِ قَدْ زَالَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَكَافَّةِ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْحَقَّ السَّابِقَ لَا يَرْفَعُهُ الْحَقُّ اللَّاحِقُ، وَالْأَحَقِّيَّةُ بِالْأَسْبَقِيَّةِ ظَاهِرَةٌ لَا خَفَاءَ بِهَا، فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَمَا غَنِمُوا الْكُفَّارَ بِالسَّبْيِ ثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الْمِلْكِيَّةِ بِتَشْرِيعِ خَالِقِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الْحَقُّ وَثَبَتَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّقِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ حَقُّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الرِّقِّ بِالْإِسْلَامِ مَسْبُوقًا بِحَقِّ الْمُجَاهِدِ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ الْمِلْكِيَّةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ رَفْعُ الْحَقِّ السَّابِقِ بِالْحَقِّ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، نَعَمْ، يَحْسُنُ بِالْمَالِكِ وَيَجْمُلُ بِهِ أَنْ يُعْتِقَهُ إِذَا أَسْلَمَ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ بِذَلِكَ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَفَتَحَ لَهُ الْأَبْوَابَ الْكَثِيرَةَ كَمَا قَدَّمْنَا، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [6 \ 115] ، فَقَوْلُهُ صِدْقًا أَيْ فِي الْإِخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: وَعَدْلًا ; أَيْ فِي الْأَحْكَامِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ: الْمِلْكَ بِالرِّقِّ وَغَيْرَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: الْقِصَاصُ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا غَضِبَ وَهَمَّ بِأَنْ يَقْتُلَ إِنْسَانًا آخَرَ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، خَافَ الْعَاقِبَةَ فَتَرَكَ الْقَتْلَ، فَحَيِيَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 قَتْلَهُ، وَحَيِيَ هُوَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا، فَقَتْلُ الْقَاتِلِ يَحْيَا بِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَثْرَةً كَمَا ذَكَرْنَا، قَالَ تَعَالَى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [2 \ 179] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْدَلِ الطُّرُقِ وَأَقْوَمِهَا، وَلِذَلِكَ يُشَاهِدُ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا قِلَّةُ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَحْكُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ رَادِعٌ عَنْ جَرِيمَةِ الْقَتْلِ. كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَمَا يَزْعُمُهُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْحِكْمَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِقْلَالَ عَدَدِ الْمُجْتَمَعِ بِقَتْلِ إِنْسَانٍ ثَانٍ بَعْدِ أَنْ مَاتَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ بِغَيْرِ الْقَتْلِ فَيُحْبَسُ، وَقَدْ يُولَدُ لَهُ فِي الْحَبْسِ فَيَزِيدُ الْمُجْتَمَعُ. كُلُّهُ كَلَامٌ سَاقِطٌ، عَارٍ مِنَ الْحِكْمَةِ ; لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الْقَتْلِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ رَادِعَةً فَإِنَّ السُّفَهَاءَ يَكْثُرُ مِنْهُمُ الْقَتْلُ، فَيَتَضَاعَفُ نَقْصُ الْمُجْتَمَعِ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّهَا الْيُمْنَى. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يَقْرَءُونَ «فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا» . وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَيَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنَّ سَرَقَ فَرِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُعَزَّرُ. وَقِيلَ: يُقْتَلُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ قِيمَتِهِ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ» كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأَحَادِيثِ. وَلَيْسَ قَصْدُنَا هُنَا تَفْصِيلَ أَحْكَامِ السَّرِقَةِ وَشُرُوطِ الْقَطْعِ، كَالنِّصَابِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْيَدَ الْخَبِيثَةَ الْخَائِنَةَ، الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَبْطِشَ وَتَكْتَسِبَ فِي كُلِّ مَا يُرْضِيهِ مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَمَدَّتْ أَصَابِعَهَا الْخَائِنَةَ إِلَى مَالِ الْغَيْرِ لِتَأْخُذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاسْتَعْمَلَتْ قُوَّةَ الْبَطْشِ الْمُودَعَةَ فِيهَا فِي الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْقَبِيحِ، يَدٌ نَجِسَةٌ قَذِرَةٌ، سَاعِيَةٌ فِي الْإِخْلَالِ بِنِظَامِ الْمُجْتَمَعِ، إِذْ لَا نِظَامَ لَهُ بِغَيْرِ الْمَالِ، فَعَاقَبَهَا خَالِقُهَا بِالْقَطْعِ وَالْإِزَالَةِ ; كَالْعُضْوِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَجُرُّ الدَّاءَ لِسَائِرِ الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ يُزَالُ بِالْكُلِّيَّةِ إِبْقَاءً عَلَى الْبَدَنِ وَتَطْهِيرًا لَهُ مِنَ الْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ يُطَهِّرُ السَّارِقَ مِنْ دَنَسِ ذَنْبِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةِ السَّرِقَةِ، مَعَ الرَّدْعِ الْبَالِغِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 بِالْقِطَعِ عَنِ السَّرِقَةِ ; قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «بَابُ الْحُدُودِ كَفَّارَةٌ» ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا «فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» . اه هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَهُوَ كَفَّارَتُهُ» نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُدُودَ تُطَهِّرُ الْمُرْتَكِبِينَ لَهَا مِنَ الذَّنْبِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ مَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِنْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ يُطَهَّرُ مِنْهَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَحَقُّ الْمَخْلُوقِ يَبْقَى، فَارْتِكَابُ جَرِيمَةِ السَّرِقَةِ مَثَلًا يُطَهَّرُ مِنْهُ بِالْحَدِّ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالْمَالِ تَبْقَى ; لِأَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ مُوجِبَةُ حُكْمَيْنِ: وَهُمَا الْقَطْعُ وَالْغُرْمُ. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: وَذَاكَ فِي الْحُكْمِ الْكَثِيرِ أُطْلِقُهُ ... كَالْقَطْعِ مَعَ غُرْمِ نِصَابِ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: لَا يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ مَعَ الْقَطْعِ ; لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّهَا نَصَّتْ عَلَى الْقَطْعِ وَلَمْ تَذْكُرْ غُرْمًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يُغَرَّمُ الْمَسْرُوقَ مُطْلَقًا، فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ، مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا، وَيُتْبَعُ بِهِ دَيْنًا إِنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يَرُدُّ الْمَسْرُوقُ إِنْ كَانَ قَائِمًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا رَدَّ قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يُتْبَعُ بِهِ دَيْنًا. وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَطْعُ السَّارِقِ كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ. وَعَقَدَ ابْنُ الْكَلْبِي بَابًا لِمَنْ قُطِعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِينَ سَرَقُوا غَزَالَ الْكَعْبَةِ فَقُطِعُوا فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَذَكَرَ مِمَّنْ قُطِعَ فِي السَّرِقَةِ عَوْفَ بْنَ عَبْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وَمَقِيسَ بْنَ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَهْمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ عَوْفًا السَّابِقَ لِذَلِكَ، انْتَهَى. وَكَانَ مِنْ هَدَايَا الْكَعْبَةِ صُورَةُ غَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، أَهْدَتْهُمَا الْفُرْسُ لِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، كَمَا عَقَدَهُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ خَبَايَاهُ غَزَالًا ذَهَبْ ... أَهْدَتْهُمَا الْفُرْسُ لِبَيْتِ الْعَرَبْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ قُطِعَ السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِقَطْعِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلُ سَارِقٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ الْخِيَارَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَ الْيَمَنِيِّ الَّذِي سَرَقَ الْعَقْدَ. وَقَطَعَ عُمَرُ يَدَ ابْنِ سَمُرَةَ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ اه. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهَا أَوَّلًا هِيَ مُرَّةُ بِنْتُ سُفْيَانَ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، الَّذِي كَانَ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُتِلَ أَبُوهَا كَافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَطْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَأَمَّا سَرِقَةُ أُمِّ عَمْرِو بِنْتِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ ابْنَةِ عَمِّ الْمَذْكُورَةِ، وَقَطْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهَا فَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بَعْدَ قِصَّةِ الْأَوْلَى بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ غَيْرَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارِ فَصَاعِدًا» وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، مَعَ أَنَّهُ عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْيَدَ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وِدِيَةُ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ. فَتَكُونُ دِيَةُ الْيَدِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، فَكَيْفَ تُؤْخَذُ فِي مُقَابَلَةِ رُبْعِ دِينَارٍ؟ وَمَا وَجْهُ الْعَدَالَةِ وَالْإِنْصَافِ فِي ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنِ اعْتِرَاضَاتِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، هُوَ الَّذِي نَظَمَهُ الْمِعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ: يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ نَظْمًا وَنَثْرًا ; مِنْهَا قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مُجِيبًا لَهُ فِي بَحْرِهِ وَرَوِيِّهِ: عِزُّ الْأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا خَانَتْ هَانَتْ. وَمِنَ الْوَاضِحِ: أَنَّ تِلْكَ الْيَدَ الْخَسِيسَةَ الْخَائِنَةَ لَمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 تَحَمَّلَتْ رَذِيلَةَ السَّرِقَةِ وَإِطْلَاقَ اسْمِ السَّرِقَةِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ حَقِيرٍ كَثَمَنِ الْمِجَنِّ وَالْأُتْرُجَّةِ، كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ الْمَعْقُولِ أَنْ تُؤْخَذَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، الَّذِي تَحَمَّلَتْ فِيهِ هَذِهِ الرَّذِيلَةَ الْكُبْرَى. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ إِنَّا أَجَبْنَا عَنْ هَذَا الطَّعْنِ، بِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا قَطَعَ يَدَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الدَّنَاءَةَ وَالْخَسَاسَةَ فِي سَرِقَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ. فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ يُعَاقِبَهُ الشَّرْعُ بِسَبَبِ تِلْكَ الدَّنَاءَةِ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْعَظِيمَةَ اه. فَانْظُرْ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّنَزُّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ السَّمَاوِيَّ يَضَعُ دَرَجَةَ الْخَائِنِ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دَرَجَةٍ إِلَى رُبْعِ دَرَجَةٍ، فَانْظُرْ هَذَا الْحَطَّ الْعَظِيمَ لِدَرَجَتِهِ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ الرَّذَائِلِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ قَطَعَ يَدِ السَّارِقِ فِي السَّرِقَةِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالْغَصْبِ، وَالِانْتِهَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: صَانَ اللَّهُ الْأَمْوَالَ بِإِيجَابِ قَطْعِ سَارِقِهَا، وَخَصَّ السَّرِقَةَ لِقِلَّةِ مَا عَدَاهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، مِنَ الِانْتِهَابِ وَالْغَصْبِ، وَلِسُهُولَةِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا عَدَا السَّرِقَةَ بِخِلَافِهَا، وَشَدَّدَ الْعُقُوبَةَ فِيهَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ دِيَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يَقْطَعُ فِيهِ حِمَايَةً لِلْيَدِ، ثُمَّ لَمَّا خَانَتْ هَانَتْ، وَفِي ذَلِكَ إِثَارَةٌ إِلَى الشُّبْهَةِ الَّتِي نُسِبَتْ إِلَى أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ فِي قَوْلِهِ: يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ فَأَجَابَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ: صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... حِمَايَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الدِّيَةَ لَوْ كَانَتْ رُبْعَ دِينَارٍ لَكَثُرَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَيْدِي، وَلَوْ كَانَ نِصَابُ الْقَطْعِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ لَكَثُرَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ صِيَانَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَقَدْ عَسَرَ فَهْمُ الْمَعْنَى الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ النَّهْبِ وَنَحْوِهِ عَلَى بَعْضِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، فَقَالَ: الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الْغَصْبِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ; فَإِنَّ الْغَصْبَ أَكْثَرُ هَتْكًا لِلْحُرْمَةِ مِنَ السَّرِقَةِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ فِي الْأَعْلَى فَلَا يُعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسَاوِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُتَكَلَّفَ لِإِيرَادِهَا، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. اه بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَازِرِيُّ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْبَ وَالْغَصْبَ وَنَحْوَهُمَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَةِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الظَّاهِرَ غَالِبًا تُوجَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ السَّارِقَ إِنَّمَا يَسْرِقُ خِفْيَةً بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَعْسُرُ الْإِنْصَافُ مِنْهُ، فَغَلُظَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَجَلْدُ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةَ جَلْدَةٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. أَمَا الرَّجْمُ: فَهُوَ مَنْصُوصٌ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحِكَمِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَمَّ الْقُرْآنِ لِلْمُعْرِضِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ، فَدَلَّ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُحْكَمَةٍ كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ الْآيَةَ [5 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [3 \ 23] عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّجْمِ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَمِّهِ فِي كِتَابِنَا لِلْمُعْرِضِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ لَا يُنَافِي قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَجَمَ امْرَأَةً يَوْمَ الْجُمْعَةِ: «رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ; لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ بَاقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ: «فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلُ إِلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ. . .» الْحَدِيثَ. وَالْمُلْحِدُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّجْمَ قَتْلٌ وَحْشِيٌّ لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فِي الْأَنْظِمَةِ الَّتِي يُعَامَلُ بِهَا الْإِنْسَانُ، لِقُصُورِ إِدْرَاكِهِمْ عَنْ فَهْمِ حِكَمِ اللَّهِ الْبَالِغَةِ فِي تَشْرِيعِهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الرَّجْمَ عُقُوبَةٌ سَمَاوِيَّةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الزَّانِيَ لَمَّا أَدْخَلَ فَرَّجَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ عَلَى وَجْهِ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، فَإِنَّهُ ارْتَكَبَ أَخَسَّ جَرِيمَةٍ عَرَفَهَا الْإِنْسَانُ بِهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَتَقْذِيرِ الْحُرُمَاتِ، وَالسَّعْيِ فِي ضَيَاعِ أَنْسَابِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُطَاوِعُهُ فِي ذَلِكَ مِثْلُهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نَجِسٌ قَذِرٌ لَا يَصْلُحُ لِلْمُصَاحَبَةِ، فَعَاقَبَهُ خَالِقُهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ بِالْقَتْلِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ الْبَالِغَ غَايَةَ الْخُبْثِ وَالْخِسَّةِ، وَشَرَّ أَمْثَالِهِ عَنِ الْمُجْتَمَعِ، وَيُطَهِّرُهُ هُوَ مِنَ التَّنْجِيسِ بِتِلْكَ الْقَاذُورَةِ الَّتِي ارْتَكَبَ، وَجَعَلَ قِتْلَتَهُ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ ; لِأَنَّ جَرِيمَتَهُ أَفْظَعُ جَرِيمَةٍ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَقَدْ دَلَّ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ عَلَى أَنَّ إِدْخَالَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَالْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَتَطَلَّبُ طَهَارَةً فِي الْأَصْلِ، وَطَهَارَتُهُ الْمَعْنَوِيَّةُ إِنْ كَانَ حَرَامًا قَتْلُ صَاحِبِهِ الْمُحْصَنِ، لِأَنَّهُ إِنْ رُجِمَ كَفَّرَ ذَلِكَ عَنْهُ ذَنْبَ الزِّنَى، وَيَبْقَى عَلَيْهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ ; كَالزَّوْجِ إِنْ زَنَى بِمُتَزَوِّجَةٍ، وَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِي إِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا لَهُ سَابِقًا. وَشِدَّةُ قُبْحِ الزِّنَى أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبَائِعِ، وَقَدْ قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَهِيَ كَافِرَةٌ: مَا أَقْبَحَ ذَلِكَ الْفِعْلَ حَلَالًا! فَكَيْفَ بِهِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَغَلَّظَ جَلَّ وَعَلَا عُقُوبَةَ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ تَغْلِيظًا أَشَدَّ مِنْ تَغْلِيظِ عُقُوبَةِ الْبِكْرِ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ ; لِأَنَّ الْمُحْصَنَ قَدْ ذَاقَ عُسَيْلَةَ النِّسَاءِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ، فَلَمَّا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الزِّنَى أَعْظَمَ، كَانَ الرَّادِعُ عَنْهُ أَعْظَمَ وَهُوَ الرَّجْمُ. وَأَمَّا جَلْدُ الزَّانِي الْبِكْرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِائَةَ جَلْدَةٍ فَهَذَا مَنْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الْآيَةَ [24 \ 2] ; لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنِ الزِّنَى، وَتُطَهِّرُهُ مِنْ ذَنْبِ الزِّنَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَفْصِيلُ مَا يَلْزَمُ الزُّنَاةَ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ، وَعَبِيدٍ وَأَحْرَارٍ «فِي سُورَةِ النُّورِ» . وَتَشْرِيعُ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ جَلَّ وَعَلَا مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْحِكَمِ مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَالْجَرْيِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَقْوَمِ الطُّرُقِ مُعَاقَبَةُ فَظِيعِ الْجِنَايَةِ بِعَظِيمِ الْعِقَابِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: هَدْيُهُ إِلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ لَا يُنَافِي التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ، فَمَا خَيَّلَهُ أَعْدَاءُ الدِّينِ لِضِعَافِ الْعُقُولِ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ: مِنْ أَنَّ التَّقَدُّمَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالِانْسِلَاخِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، بَاطِلٌ لَا أَسَاسَ لَهُ، وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يَدْعُو إِلَى التَّقَدُّمِ فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ الَّتِي لَهَا أَهَمِّيَّةٌ فِي دُنْيَا أَوْ دِينٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ فِي حُدُودِ الدِّينِ، وَالتَّحَلِّي بِآدَابِهِ الْكَرِيمَةِ، وَتَعَالِيمِهِ السَّمَاوِيَّةِ ; قَالَ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الْآيَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 [8 \ 60] ، وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا الْآيَةَ [34 \ 10، 11] . فَقَوْلُهُ: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِمُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَقَوْلِهِ: وَاعْمَلُوا صَالِحًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادَ لِمُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ فِي حُدُودِ الدِّينِ الْحَنِيفِ، وَدَاوُدُ مِنْ أَنْبِيَاءِ «سُورَةِ الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورِينَ فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ الْآيَةَ [6 \ 84] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُمْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ السَّجْدَةَ «فِي ص» فَقَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 84 - 90] ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَا مُخَاطَبُونَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِمَّا أُمِرَ بِهِ دَاوُدُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَسْتَعِدَّ لِكِفَاحِ الْعَدُوِّ مَعَ التَّمَسُّكِ بِدِينِنَا، وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، فَهُوَ أَمْرٌ جَازِمٌ بِإِعْدَادِ كُلِّ مَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ قُوَّةٍ وَلَوْ بَلَغَتِ الْقُوَّةُ مِنَ التَّطَوُّرِ مَا بَلَغَتْ، فَهُوَ أَمْرٌ جَازِمٌ بِمُسَايَرَةِ التَّطَوُّرِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَدَمِ الْجُمُودِ عَلَى الْحَالَاتِ الْأُوَلِ إِذَا طَرَأَ تَطَوُّرٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ الْآيَةَ [4 \ 102] ; فَصَلَاةُ الْخَوْفِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا مِنْ دِينِهِ، فَأَمْرُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الْتِحَامِ الْكِفَاحِ الْمُسَلَّحِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [8 \ 45] ، فَأَمْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْكُفَّارُ خَيَّلُوا لِضِعَافِ الْعُقُولِ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ، وَالسِّمَاتِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، تَبَايَنُ مُقَابَلَةٍ كَتَبَايُنِ النَّقِيضَيْنِ كَالْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَوِ الضِّدَّيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، أَوِ الْمُتَضَائِفَيْنِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَالْفَوْقِ وَالتَّحْتِ، أَوِ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ كَالْبَصَرِ وَالْعَمَى. فَإِنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ مَثَلًا، وَكَذَلِكَ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ، فَكُلُّ ذَاتٍ ثَبَتَتْ لَهَا الْأُبُوَّةُ لَذَاتٍ اسْتَحَالَتْ عَلَيْهَا النُّبُوَّةُ لَهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ شَخْصٌ أَبًا وَابْنًا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، كَاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي نُقْطَةٍ بَسِيطَةٍ، أَوِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فِي جُرْمٍ، وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ وَالْعَمَى لَا يَجْتَمِعَانِ. فَخَيَّلُوا لَهُمْ أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّمَسُّكَ بِالدِّينِ مُتَبَايِنَانِ تَبَايُنَ مُقَابَلَةٍ، بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَكَانَ مِنْ نَتَائِجِ ذَلِكَ انْحِلَالُهُمْ مِنَ الدِّينِ رَغْبَةً فِي التَّقَدُّمِ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْعَقْلِ وَحْدَهُ، وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا هِيَ تَبَايُنُ الْمُخَالَفَةِ، وَضَابِطُ الْمُتَبَايِنَيْنِ تَبَايُنَ الْمُخَالَفَةِ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَدِّ ذَاتِهَا تُبَايِنُ حَقِيقَةَ الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُمَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا عَقْلًا فِي ذَاتٍ أُخْرَى ; كَالْبَيَاضِ وَالْبُرُودَةِ، وَالْكَلَامِ وَالْقُعُودِ، وَالسَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ. فَحَقِيقَةُ الْبَيَاضِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تُبَايِنُ حَقِيقَةَ الْبُرُودَةِ، وَلَكِنَّ الْبَيَاضَ وَالْبُرُودَةَ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهَا فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ كَالثَّلْجِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالْقُعُودُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ تُبَايِنُ حَقِيقَةَ الْقُعُودِ، مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَاعِدًا مُتَكَلِّمًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَهَكَذَا فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالتَّقَدُّمِ بِالنَّظَرِ إِلَى حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَكَمَا أَنَّ الْجِرْمَ الْأَبْيَضَ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ بَارِدًا كَالثَّلْجِ، وَالْإِنْسَانَ الْقَاعِدَ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا، فَكَذَلِكَ الْمُتَمَسُّكُ بِالدِّينِ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا، إِذْ لَا مَانِعَ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ كَوْنِ الْمُحَافِظِ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، مُشْتَغِلًا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ التَّقَدُّمِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَمَا عَرَفَهُ التَّارِيخُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ. أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ الْآيَةَ [22 \ 40] وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 [37 \ 171 - 173] وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [58 \ 21] وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [40 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [9 \ 14] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ. فَإِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالتَّقَدُّمِ، كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْمَلْزُومِ وَلَازِمِهِ ; لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ مَلْزُومٌ لِلتَّقَدُّمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّقَدُّمُ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَلْزُومِ وَلَازِمِهِ لَا تَعْدُو أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُسَاوَاةَ أَوِ الْخُصُوصَ الْمُطْلَقَ ; لِأَنَّ الْمَلْزُومَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مَنْ لَازِمِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: الْإِنْسَانُ مَثَلًا، فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْبَشَرِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَلْزَمُ عَلَى كَوْنِهِ إِنْسَانًا أَنْ يَكُونَ بَشَرًا وَأَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا، وَأَحَدُ هَذَيْنِ اللَّازِمَيْنِ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْمَاصَدَقِ وَهُوَ الْبَشَرُ. وَالثَّانِي أَعَمُّ مِنْهُ مَا صِدْقًا وَهُوَ الْحَيَوَانُ، فَالْإِنْسَانُ أَخَصُّ مِنْهُ خُصُوصًا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. فَانْظُرْ كَيْفَ خَيَّلُوا لَهُمْ أَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الْمَلْزُومِ وَلَازِمِهِ كَالتَّنَافِي الَّذِي بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ، وَأَطَاعُوهُمْ فِي ذَلِكَ لِسَذَاجَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَعَمَى بَصَائِرِهِمْ، فَهُمْ مَا تَقَوَّلُوا عَلَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَرَمَوْهُ بِمَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ إِلَّا لِيُنَفِّرُوا مِنْهُ ضِعَافَ الْعُقُولِ مِمَّنْ يَنْتَمِي لِلْإِسْلَامِ لِيُمْكِنَهُمُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا الدِّينَ حَقًّا وَاتَّبَعُوهُ لَفَعَلُوا بِهِمْ مَا فَعَلَ أَسْلَافُهُمْ بِأَسْلَافِهِمْ، فَالدِّينُ هُوَ هُوَ، وَصِلَتُهُ بِاللَّهِ هِيَ هِيَ، وَلَكِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ فِي جُلِّ أَقْطَارِ الدُّنْيَا تَنَكَّرُوا لَهُ، وَنَظَرُوا إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْمَقْتِ وَالِازْدِرَاءِ، فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ أَرِقَّاءَ لِلْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ، وَلَوْ رَاجَعُوا دِينَهُمْ لَرَجَعَ لَهُمْ عِزُّهُمْ وَمَجْدُهُمْ، وَقَادُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [47 \ 4] . وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بَيَانُهُ أَنَّهُ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ التَّشْرِيعِ الَّذِي جَاءَ بِهِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَاتِّبَاعُهُ لِذَلِكَ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ كُفْرٌ بَوَاحٌ، مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَمَّا قَالَ الْكُفَّارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّاةُ تُصْبِحُ مَيِّتَةً مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: «اللَّهُ قَتَلَهَا» فَقَالُوا لَهُ: مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيهِمْ حَلَالٌ، وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ تَقُولُونَ إِنَّهُ حَرَامٌ! فَأَنْتُمْ إِذَنْ أَحْسَنُ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 اللَّهِ؟ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [6 \ 121] وَحَذْفُ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يَدُلُّ عَلَى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمٍ ... جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ إِذْ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَاقْتَرَنَتْ بِالْفَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا: وَاقْرِنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جَعَلْ ... شَرْطًا لَأَنَّ أَوْ غَيْرَهَا لَمْ يَنْجَعِلْ فَهُوَ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا أَقْسَمَ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فِي تَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ، وَهَذَا الشِّرْكُ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [36 \ 60] لِأَنَّ طَاعَتَهُ فِي تَشْرِيعِهِ الْمُخَالِفِ لِلْوَحْيِ هِيَ عِبَادَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [4 \ 117] ، أَيْ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِهِمْ تَشْرِيعَهُ. وَقَالَ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ الْآيَةَ [6 \ 137] ، فَسَمَّاهُمْ شُرَكَاءَ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [19 \ 44] ، أَيْ بِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلَمَّا سَأَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا الْآيَةَ [9 \ 31] ، بَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ غَيْرَ تَشْرِيعِ اللَّهِ ثُمَّ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [4 \ 60] ، وَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [5 \ 44] ، وَقَالَ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [6 \ 114] . وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ هَدْيُهُ إِلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَأَنْ يُنَادَى بِالِارْتِبَاطِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا إِنَّمَا هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْبِطُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ حَتَّى يَصِيرَ بِقُوَّةِ تِلْكَ الرَّابِطَةِ جَمِيعُ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ كَأَنَّهُ جَسَدٌ وَاحِدٌ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى، فَرَبْطُ الْإِسْلَامِ لَكَ بِأَخِيكِ كَرَبْطِ يَدِكَ بِمِعْصَمِكَ، وَرِجْلِكَ بِسَاقِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ النَّفْسِ وَإِرَادَةُ الْأَخِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ رَابِطَةَ الْإِسْلَامِ تَجْعَلُ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ الْآيَةَ [2 \ 84] ، أَيْ لَا تُخْرِجُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَقَوْلِهِ: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [24 \ 12] ، أَيْ بِإِخْوَانِهِمْ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [49 \ 11] ، أَيْ إِخْوَانَكُمْ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 188] ، أَيْ لَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الدِّينُ، وَأَنَّ تِلْكَ الرَّابِطَةَ تَتَلَاشَى مَعَهَا جَمِيعُ الرَّوَابِطِ النِّسْبِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [58 \ 22] ، إِذْ لَا رَابِطَةَ نِسْبِيَّةً أَقْرَبُ مِنْ رَابِطَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالْعَشَائِرِ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَةَ [9 \ 71] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [49 \ 10] ، وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا الْآيَةَ [3 \ 103] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ بِرَابِطَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالْعَصَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْقَوْمِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [63 \ 8] ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ قَالَ: «مَا هَذَا» ؟ فَقَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» الْحَدِيثَ. فَقَوْلُ هَذَا الْأَنْصَارِيِّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَهَذَا الْمُهَاجَرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ هُوَ النِّدَاءُ بِالْقَوْمِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» يَقْتَضِي وُجُوبَ تَرْكِ النِّدَاءِ بِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «دَعُوهَا» أَمْرٌ صَرِيحٌ بِتَرْكِهَا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] ، وَيَقُولُ لِإِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى فِي خِطَابِهِ لِأَخِيهِ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [20 \ 93] ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ: وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَانِعٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ، مُوجِبٌ لِلِامْتِثَالِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْأَمْرَ بِالتَّرْكِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» ، وَحَسْبُكَ بِالنَّتَنِ مُوجِبًا لِلتَّبَاعُدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْخُبْثِ الْبَالِغِ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ بِرَابِطَةِ الْقَوْمِيَّةِ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ فَاعِلَهُ يَتَعَاطَى الْمُنْتِنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْتِنَ خَبِيثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ الْآيَةَ [24 \ 26] ، وَيَقُولُ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [7 \ 157] وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ!» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ.» الْحَدِيثَ. وَقَدْ عَرَفْتَ وَجْهَ دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ، مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ: «يَا لِبَنِي فُلَانٍ» مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِذَا صَحَّ بِذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: «لَيْسَ مِنَّا مِنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ دَعَا تِلْكَ الدَّعْوَى لَيْسَ مِنَّا، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَزَّى عَلَيْكُمْ بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِّ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ السَّعْدِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ «إِذَا سَمِعْتُمْ مَنْ يُعْتَزَى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعَضُّوهُ وَلَا تَكْنُوا» وَأَشَارَ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ. وَذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَزَّى. .» إِلَخْ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ. وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ، قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْعَزِيزِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ فِيهِ الشَّيْخُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَجْلُونِيُّ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ الْخَفَاءِ وَمُزِيلُ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ) قَالَ النَّجْمُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمُرَادُهُ بِالنَّجْمِ: الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ نَجْمُ الدِّينِ الْغُزِّيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (إِتْقَانُ مَا يُحْسِنُ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّائِرَةِ عَلَى الْأَلْسُنِ) فَانْظُرْ كَيْفَ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ النِّدَاءَ «عَزَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ» وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ لِلدَّاعِي بِهِ «اعْضَضْ عَلَى هِنِّ أَبِيكَ» أَيْ فَرْجِهِ، وَأَنْ يُصَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكِنَايَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ قُبْحِ هَذَا النِّدَاءِ، وَشِدَّةِ بُغْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ رُؤَسَاءَ الدُّعَاةِ إِلَى نَحْوِ هَذِهِ الْقَوْمِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ: أَبُو جَهْلٍ، وَأَبُو لَهَبٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى تَعَصُّبَهُمْ لِقَوْمِيَّتِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا الْآيَةَ [5 \ 104] وَقَوْلِهِ: قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا الْآيَةَ [2 \ 170] ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ - كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا - فِي مَنْعِ النِّدَاءِ بِرَابِطَةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَالْقَوْمِيَّاتِ وَالْعَصَبِيَّاتِ النِّسْبِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ النِّدَاءُ بِالْقَوْمِيَّةِ يُقْصَدُ مِنْ وَرَائِهِ الْقَضَاءُ عَلَى رَابِطَةِ الْإِسْلَامِ وَإِزَالَتُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ النِّدَاءَ بِهَا حِينَئِذٍ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ: أَنَّهُ نِدَاءٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 إِلَى التَّخَلِّي عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَرَفْضِ الرَّابِطَةِ السَّمَاوِيَّةِ رَفْضًا بَاتًّا، عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَعْتَاصَ مِنْ ذَلِكَ رَوَابِطَ عَصَبِيَّةً قَوْمِيَّةً، مَدَارُهَا عَلَى أَنَّ هَذَا مِنَ الْعَرَبِ، وَهَذَا مِنْهُمْ أَيْضًا مَثَلًا. فَالْعُرُوبَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَاسْتِبْدَالُهَا بِهِ صَفْقَةٌ خَاسِرَةٌ، فَهِيَ كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: بَدَّلْتُ بِالْجَمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرًا ... وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدُّرْدُرَا كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا وَقَدْ عُلِمَ فِي التَّارِيخِ حَالُ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَحَالُهُمْ بَعْدَهُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي جَعْلِهِ بَنِي آدَمَ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ هِيَ التَّعَارُفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَتْ هِيَ أَنْ يَتَعَصَّبَ كُلُّ شَعْبٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى غَيْرِهَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [49 \ 13] ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَعَارَفُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْأَصْلُ لِتَتَعَارَفُوا، وَقَدْ حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ ; فَالتَّعَارُفُ هُوَ الْعِلَّةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ [49 \ 13] ، وَنَحْنُ حِينَ نُصَرِّحُ بِمَنْعِ النِّدَاءِ بِالرَّوَابِطِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَوَاصِرِ النِّسْبِيَّةِ، وَنُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْمُسْلِمَ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِرَوَابِطَ نِسْبِيَّةٍ لَا تَمُتُّ إِلَى الْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا نَفَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ عَطْفَ ذَلِكَ الْعَمِّ الْكَافِرِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [93 \ 6] ، أَيْ آوَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينًا كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِتِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [11 \ 91] . وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ صَالِحًا أَيْضًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [27 \ 49] ، فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَخَافُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ صَالِحٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَكِّرُوا أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ سُوءًا إِلَّا لَيْلًا خِفْيَةً. وَقَدْ عَزَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ أَنْكَرُوا وَحَلَفُوا لِأَوْلِيَائِهِ أَنَّهُمْ مَا حَضَرُوا مَا وَقَعَ بِصَالِحٍ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَلَمَّا كَانَ لُوطٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا عُصْبَةَ لَهُ فِي قَوْمِهِ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [11 \ 80] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي «سُورَةِ هُودٍ» . فَيَلْزَمُ النَّاظِرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ النِّدَاءَ بِرَوَابِطِ الْقَوْمِيَّاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ الْقَضَاءَ عَلَى رَابِطَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِزَالَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يُسَايِرُ التَّطَوُّرَ الْجَدِيدَ، أَوْ أَنَّهُ جُمُودٌ وَتَأَخُّرٌ عَنْ مُسَايَرَةِ رَكْبِ الْحَضَارَةِ - نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَمْسِ الْبَصِيرَةِ - وَأَنَّ مَنْعَ النِّدَاءِ بِرَوَابِطِ الْقَوْمِيَّاتِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ رُبَّمَا انْتَفَعَ الْمُسْلِمُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ النِّسْبِيَّةِ وَالْأَوَاصِرِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي لَا تَمُتُّ إِلَى الْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» وَلَكِنَّ تِلْكَ الْقَرَابَاتِ النِّسْبِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ هِيَ الرَّابِطَةَ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ عَدُوُّ الْكَافِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ [58 \ 22] ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي تَجْمَعُ الْمُفْتَرَقَ وَتُؤَلِّفُ الْمُخْتَلَفَ هِيَ رَابِطَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الرَّابِطَةَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ كَأَنَّهُ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَتَجْعَلُهُ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، عَطَفَتْ قُلُوبَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [40 \ 7 - 9] . فَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي رَبَطَتْ بَيْنَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ، وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى دَعَوُا اللَّهَ لَهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ الصَّالِحَ الْعَظِيمَ، إِنَّمَا هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ; لِأَنَّهُ قَالَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 [40 \ 7] فَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ عَنْ بَنِي آدَمَ فِي اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [40 \ 7] ، فَوَصَفَهُمْ أَيْضًا بِالْإِيمَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ بَيْنَهُمْ هِيَ الْإِيمَانُ، وَهُوَ أَعْظَمُ رَابِطَةً. وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَبِي لَهَبٍ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [111 \ 3] وَيُقَابِلُ ذَلِكَ بِمَا لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ، وَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْقُرَبَاءِ إِلَّا ابْنٌ كَافِرٌ، أَنَّ إِرْثَهُ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَكُونُ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ الَّذِي هُوَ كَافِرٌ، وَالْمِيرَاثُ دَلِيلُ الْقَرَابَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأُخُوَّةَ الدِّينِيَّةَ أَقْرَبُ مِنَ الْبُنُوَّةِ النِّسْبِيَّةِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي تَرْبُطُ أَفْرَادَ أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَرْبُطُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، هِيَ رَابِطَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، فَلَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ النِّدَاءُ بِرَابِطَةٍ غَيْرَهَا. وَمَنْ وَالَى الْكُفَّارَ بِالرَّوَابِطِ النِّسْبِيَّةِ مَحَبَّةً لَهُمْ، وَرَغْبَةً فِيهِمْ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [5 \ 51] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [8 \ 73] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْمَصَالِحُ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الشَّرَائِعِ ثَلَاثَةٌ: الْأُولَى: دَرْءُ الْمَفَاسِدِ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالضَّرُورِيَّاتِ. وَالثَّانِيَةُ: جَلْبُ الْمَصَالِحِ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْحَاجِيَّاتِ. وَالثَّالِثَةُ: الْجَرْيُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالتَّحْسِينِيَّاتِ وَالتَّتْمِيمَاتِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَصَالِحِ الثَّلَاثِ هَدَى فِيهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدُلُهَا. فَالضَّرُورِيَّاتُ الَّتِي هِيَ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ إِنَّمَا هِيَ دَرْؤُهَا عَنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 الْأَوَّلُ: الدِّينُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [2 \ 193] ، وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الْآيَةَ 39] ، وَقَالَ تَعَالَى: تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [48 \ 16] ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ. وَالثَّانِي: النَّفْسُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ عَنِ الْأَنْفُسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الْآيَةَ [2 \ 179] ، وَقَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ [2 \ 178] ، وَقَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [17 \ 33] . الثَّالِثُ: الْعَقْلُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ - إِلَى قَوْلِهِ - فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 90، 91] ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَقَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مُسْتَوْفًى «فِي سُورَةِ النَّحْلِ» ، وَلِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَقْلِ أَوْجَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ الشَّارِبِ دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ عَنِ الْعَقْلِ. الرَّابِعُ: النَّسَبُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الزِّنَى وَأَوْجَبَ فِيهِ الْحَدَّ الرَّادِعَ، وَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ عَلَى النِّسَاءِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ بِطَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ، لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاءُ رَجُلٍ بِمَاءٍ آخَرَ فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ مُحَافَظَةً عَلَى الْأَنْسَابِ ; قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [17 \ 32] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الْآيَةَ [24 \ 2] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا آيَةَ الرَّجْمِ وَالْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي إِيجَابِ الْعِدَّةِ حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ الْآيَةَ [2 \ 228] ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [2 \ 234] وَإِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِيهَا شِبْهَ تَعَبُّدٍ لِوُجُوبِهَا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَلِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى النِّسَبِ مَنَعَ سَقْيَ زَرْعِ الرَّجُلِ بِمَاءِ غَيْرِهِ ; فَمَنَعَ نِكَاحَ الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ، قَالَ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] . الْخَامِسُ: الْعِرْضُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، فَنَهَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 الْمُسْلِمَ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَخِيهِ بِمَا يُؤْذِيهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ إِنْ رَمَاهُ بِفِرْيَةٍ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ جِلْدَةً، قَالَ تَعَالَى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [49 \ 12] ، وَقَبَّحَ جَلَّ وَعَلَا غِيبَةَ الْمُسْلِمِ غَايَةَ التَّقْبِيحِ بِقَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [49 \ 12] ، وَقَالَ: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [49 \ 11] وَقَالَ فِي إِيجَابِ حَدِّ الْقَاذِفِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ [24 \ 4، 5] . السَّادِسُ: الْمَالُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَلِذَلِكَ مَنَعَ أَخْذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ، وَأَوْجَبَ عَلَى السَّارِقِ حَدَّ السَّرِقَةِ وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [4 \ 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [2 \ 188] ، وَقَالَ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [5 \ 38] ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَافَظَةً عَلَى الْمَالِ وَدَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ عَنْهُ. الْمَصْلَحَةُ الثَّانِيَةُ: جَلْبُ الْمَصَالِحِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، فَفَتَحَ الْأَبْوَابِ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [62 \ 10] ، وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [2 \ 198] ، وَقَالَ: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [73 \ 20] ، وَقَالَ: بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [4 \ 29] . وَلِأَجْلِ هَذَا جَاءَ الشَّرْعُ الْكَرِيمُ بِإِبَاحَةِ الْمَصَالِحِ الْمُتَبَادَلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، لِيَسْتَجْلِبَ كُلٌّ مَصْلَحَتَهُ مِنَ الْآخَرِ، كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْأَكْرِيَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. الْمَصْلَحَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَرْيُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَالْحَضُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 فِي نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] . فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَةِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ: أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَسَنَذْكُرُ لَكَ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 237] . فَانْظُرْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْحَضِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ وَالنَّهْيِ عَنْ نِسْيَانِ الْفَضْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا الْآيَةَ [5 \ 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [5 \ 8] . فَانْظُرْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَمْرُ بِأَنْ تُعَامِلَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِأَنْ تُطِيعَهُ فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 36] فَانْظُرْ إِلَى هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ وَالضُّعَفَاءِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [16 \ 90] ، وَقَالَ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الْآيَةَ [7 \ 31] ، وَقَالَ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [6 \ 151] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [25 \ 72] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [28 \ 55] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ. وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: هَدْيُهُ إِلَى حَلِّ الْمَشَاكِلِ الْعَالَمِيَّةِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَنَحْنُ دَائِمًا فِي الْمُنَاسَبَاتِ نُبَيِّنُ هَدْيَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَى حَلِّ ثَلَاثِ مُشْكِلَاتٍ، هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعَانِيهِ الْعَالَمُ فِي جَمِيعِ الْمَعْمُورَةِ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ، تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا: الْمُشْكِلَةُ الْأُولَى: هِيَ ضَعْفُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا فِي الْعَدَدِ وَالْعِدَدِ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ هَدَى الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى حَلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ عِلَاجَ الضَّعْفِ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ بِصِدْقِ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، قَاهِرٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَغْلِبَهُ الْكُفَّارُ وَلَوْ بَلَغُوا مِنَ الْقُوَّةِ مَا بَلَغُوا. فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا ضَرَبُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْحِصَارَ الْعَسْكَرِيَّ الْعَظِيمَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [33 \ 10 - 11] ، كَانَ عِلَاجُ ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَانْظُرْ شِدَّةَ هَذَا الْحِصَارِ الْعَسْكَرِيِّ وَقُوَّةَ أَثَرِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُقَاطِعُوهُمْ سِيَاسَةً وَاقْتِصَادًا، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَاجَ الَّذِي قَابَلُوا بِهِ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ، وَحَلُّوا بِهِ هَذِهِ الْمُشْكِلَةَ الْعُظْمَى، هُوَ مَا بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا (فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ) بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [33 \ 22] . فَهَذَا الْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَهَذَا التَّسْلِيمُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، ثِقَةً بِهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، هُوَ سَبَبُ حَلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ الْعُظْمَى. وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَتِيجَةِ هَذَا الْعِلَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [33 \ 25، 26، 27] . وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ، وَلَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ بِهِ وَهُوَ الْمَلَائِكَةُ وَالرِّيحُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [33 \ 9] ، وَلَمَّا عَلِمَ جَلَّ وَعَلَا مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الْإِخْلَاصَ الْكَامِلَ، وَنَوَّهَ عَنْ إِخْلَاصِهِمْ بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [48 \ 18] : أَيْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، كَانَ مِنْ نَتَائِجَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [48 \ 21] ، فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 عَلَيْهَا، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَحَاطَ بِهَا فَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ نَتَائِجِ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَشِدَّةِ إِخْلَاصِهِمْ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَقُوَّةَ الْإِيمَانِ بِهِ، هُوَ السَّبَبُ لِقُدْرَةِ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ وَغَلَبَتِهِ لَهُ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [2 \ 249] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا [48 \ 21] فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ - «أَعْنِي الَّذِي يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ فِعْلَ الْأَمْرِ أَوِ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ أَوِ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ» - يَنْحَلُّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَبَعْضِ الْبَلَاغِيِّينَ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ ... مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا حَرَّرَهُ بَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ، فِي بَحْثِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ. فَالْمَصْدَرُ إِذَنْ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ إِجْمَاعًا، فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ الدَّاخِلُ عَلَى الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِهِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ، إِذْ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَجْعَلُهُ مُعَرَّفَةً، فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مَنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. فَقَوْلُهُ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا [48 \ 21] فِي مَعْنَى: لَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَيْهَا، وَهَذَا يَعُمُّ سَلْبَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ ; لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ السَّلْبِ وَشُمُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُنْوَانِ. كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا مَسْلُوبٌ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَحَاطَ بِهَا فَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا، لِمَا عَلِمَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 173] . الْمُشْكِلَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ تَسْلِيطُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَأَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ، وَالْكُفَّارَ عَلَى الْبَاطِلِ. وَهَذِهِ الْمُشْكِلَةُ اسْتَشْكَلَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَفْتَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِيهَا، وَبَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ بِفَتْوَى سَمَاوِيَّةٍ تُتْلَى فِي كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ: فَقُتِلَ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 عَمَّتِهِ، وَمُثِّلَ بِهِمَا، وَقُتِلَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقُتِلَ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَجُرِحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشُقَّتْ شَفَتُهُ، وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ، وَشُجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اسْتَشْكَلَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: كَيْفَ يُدَالُ مِنَّا الْمُشْرِكُونَ وَنَحْنُ عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُبِينٍ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [3 \ 165] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، فِيهِ إِجْمَالٌ بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا - إِلَى قَوْلِهِ - لِيَبْتَلِيَكُمْ [3 \ 152] . فَفِي هَذِهِ الْفَتْوَى السَّمَاوِيَّةِ بَيَانٌ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ سَبَبَ تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هُوَ فَشَلُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَنَازُعُهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعِصْيَانُهُمْ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِرَادَةُ بَعْضِهِمُ الدُّنْيَا مُقَدِّمًا لَهَا عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» وَمَنْ عَرَفَ أَصْلَ الدَّاءِ عَرَفَ الدَّوَاءَ، كَمَا لَا يَخْفَى. الْمُشْكِلَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ اخْتِلَافُ الْقُلُوبِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى كِيَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لِاسْتِلْزَامِهِ الْفَشَلَ، وَذَهَابَ الْقُوَّةِ وَالدَّوْلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْآيَةَ 8 \ 46] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» . فَتَرَى الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ الْيَوْمَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا يُضْمِرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَإِنْ جَامَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهَا مُجَامِلَةً، وَأَنَّ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ سَبَبَ هَذَا الدَّاءِ الَّذِي عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى إِنَّمَا هُوَ ضَعْفُ الْعَقْلِ ; قَالَ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [59 \ 14] ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِكَوْنِ قُلُوبِهِمْ شَتَّى بُقُولِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [59 \ 14] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ دَاءَ ضَعْفِ الْعَقْلِ الَّذِي يُصِيبُهُ فَيُضْعِفُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالنَّافِعِ مِنَ الضَّارِّ، وَالْحَسَنِ مِنَ الْقَبِيحِ، لَا دَوَاءَ لَهُ إِلَّا إِنَارَتُهُ بِنُورِ الْوَحْيِ ; لِأَنَّ نُورَ الْوَحْيِ يَحْيَا بِهِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا وَيُضِيءُ الطَّرِيقَ لِلْمُتَمَسِّكِ بِهِ، فَيُرِيهِ الْحَقَّ حَقًّا وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَالنَّافِعَ نَافِعًا، وَالضَّارَّ ضَارًّا، قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ [6 \ 122] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2 \ 257] وَمَنْ أُخْرِجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَبْصَرَ الْحَقَّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ النُّورَ يَكْشِفُ لَهُ عَنِ الْحَقَائِقِ فَيُرِيهِ الْحَقَّ حَقًّا، وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَقَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [67 \ 22] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [35 \ 19 - 22] ، وَقَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْآيَةَ [11 \ 24] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُكْسِبُ الْإِنْسَانَ حَيَاةً بَدَلًا مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَنُورًا بَدَلًا مِنَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي كَانَ فِيهَا. وَهَذَا النُّورُ عَظِيمٌ يَكْشِفُ الْحَقَائِقَ كَشْفًا عَظِيمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ - إِلَى قَوْلِهِ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [24 \ 35] ، وَلَمَّا كَانَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يَقْتَضِي تَتَبُّعَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَجَمِيعِ السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ، وَكَانَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، اقْتَصَرْنَا عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ. وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ [17 \ 11] ، كَأَنْ يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِالْهَلَاكِ عِنْدَ الضَّجَرِ مِنْ أَمْرٍ، فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَهْلِكْنِي، أَوْ أَهْلِكْ وَلَدِي، فَيَدْعُو بِالشَّرِّ دُعَاءً لَا يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وَقَوْلُهُ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ أَيْ يَدْعُو بِالشَّرِّ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ عِنْدَ الضَّجَرِ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْ وَلَدِي، كَمَا يَقُولُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّجَرِ: اللَّهُمَّ عَافِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ. وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِالشَّرِّ لَهَلَكَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [10 \ 11] أَيْ: لَوْ عَجَّلَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ بِالشَّرِّ كَمَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الْإِجَابَةَ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ; أَيْ لَهَلَكُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وَمَاتُوا، فَالِاسْتِعْجَالُ بِمَعْنَى التَّعْجِيلِ. وَيَدْخُلُ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ قَوْلُ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيِّ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [8 \ 32] . وَمِمَّنْ فَسَّرَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِمَا ذَكَرْنَا: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ التَّفْسِيرَيْنِ لِدَلَالَةِ آيَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ فَيَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَالسَّلَامَةَ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، كَذَلِكَ قَدْ يَدْعُو بِالشَّرِّ فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لَهُ الزِّنَى بِمَفْسُوقَتِهِ، أَوْ قَتْلَ مُسْلِمٍ هُوَ عَدُوٌّ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنُ جَامِعٍ: أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِيمَنْ يَطُوفُ ... وَأَرْفَعُ مِنْ مِئْزَرِي الْمُسْبَلِ وَأَسْجُدُ بِاللَّيْلِ حَتَّى الصَّبَاحَ ... وَأَتْلُو مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُنَزَّلِ عَسَى فَارِجُ الْهَمَّ عَنْ يُوسُفَ ... يُسَخِّرُ لِي رَبَّةَ الْمَحْمَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ، أَيْ عَلَامَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكُ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَكَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ [41 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [36 \ 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [10 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3 \ 190] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - إِلَى قَوْلِهِ - لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [33 \ 80] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [25 \ 62] ، وَقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [39 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [6 \ 96] ، وَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا الْآيَةَ [91 \ 1 - 4] ، وَقَوْلِهِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى الْآيَةَ [92 \ 1، 2] ، وَقَوْلِهِ: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى الْآيَةَ [93 \ 1 - 2] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [17 \ 12] يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِمًا مُنَاسِبًا لِلْهُدُوءِ وَالرَّاحَةِ، وَالنَّهَارَ مُضِيئًا مُنَاسِبًا لِلْحَرَكَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا، فَيَسْعَوْنَ فِي مَعَاشِهِمْ فِي النَّهَارِ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ بِاللَّيْلِ، وَلَوْ كَانَ الزَّمَنُ كُلُّهُ لَيْلًا لَصَعُبَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ فِي مَعَاشِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ نَهَارًا لَأَهْلَكَهُمُ التَّعَبُ مِنْ دَوَامِ الْعَمَلِ. فَكَمَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهُمَا أَيْضًا نِعْمَتَانِ مَنْ نِعَمِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [28 \ 71 - 73] . فَقَوْلُهُ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ فِي اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [28 \ 73] ، أَيْ فِي النَّهَارِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا الْآيَةَ [78 \ 9 - 11] ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [25 \ 47] ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [30 \ 23] ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [6 \ 60] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [17 \ 12] ، بَيَّنَ فِيهِ نِعْمَةً أُخْرَى عَلَى خُلُقِهِ، وَهِيَ مَعْرِفَتُهُمْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، لِأَنَّهُمْ بِاخْتِلَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْلَمُونَ عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَيَعْرِفُونَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيُصَلُّوا فِيهِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، وَيَعْرِفُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَشْهُرَ الْحَجِّ، وَيَعْلَمُونَ مُضِيَّ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ لِمَنْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [65 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [2 \ 234] . وَيَعْرِفُونَ مُضِيِّ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلدُّيُونِ وَالْإِجَارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [10 \ 5] . وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [2 \ 189] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [17 \ 12] فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَآيَةُ اللَّيْلِ هِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ هِيَ الشَّمْسُ، وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ قِيلَ مَعْنَاهُ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقِيلَ: مَعْنَى فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [17 \ 12] ، أَيْ لَمْ نَجْعَلْ فِي الْقَمَرِ شُعَاعًا كَشُعَاعِ الشَّمْسِ تَرَى بِهِ الْأَشْيَاءَ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، فَنَقُصُّ نُورَ الْقَمَرِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ هُوَ مَعْنَى الطَّمْسِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي لِمُقَابَلَتِهِ تَعَالَى لَهُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [17 \ 12] ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى مَحْوِ آيَةِ اللَّيْلِ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَبَعْضُ أَجِلَّاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ ; أَيِ الشَّمْسَ مُبْصِرَةً، أَيْ: ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَبْصَرَ النَّهَارَ: إِذَا أَضَاءَ وَصَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 بِهَا، نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أَمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى ... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمُحِبِّ بِنَائِمِ وَغَايَةُ مَا فِي الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنَ التَّفْسِيرِ: حَذْفُ مُضَافٍ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفًا عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [17 \ 12] ، فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَهُمَا لَا هُمَا أَنْفَسَهُمَا، وَحَذْفُ الْمُضَافِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [12 \ 82] ، وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [4 \ 23] ; أَيْ نِكَاحُهَا، وَقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [5 \ 3] ، أَيْ أَكْلُهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِكَوْنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ تَقَدَّمَتْ مُوَضَّحَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَيْسَ فِيهَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ نَفْسُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ، تَنْزِيلًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَعْنَى، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الْآيَةَ [2 \ 185] ، وَرَمَضَانُ هُوَ نَفْسُ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَقَوْلُهُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ الْآيَةَ [12 \ 109] ، وَالدَّارُ هِيَ الْآخِرَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ [6 \ 32] بِالتَّعْرِيفِ، وَالْآخِرَةُ نَعْتٌ لِلدَّارِ، وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [50 \ 16] ، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقَوْلُهُ: وَمَكْرَ السَّيِّئِ الْآيَةَ [35 \ 43] ، وَالْمَكْرُ هُوَ السَّيْءُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 43] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَبِكْرِ الْمُقَانَاةِ الْبَيَاضِ بِصُفْرَةٍ ... غَذَّاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ لِأَنَّ الْمُقَانَاةَ هِيَ الْبِكْرُ بِعَيْنِهَا، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَمِشَكٍّ سَابِغَةٍ هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ... بِالسَّيْفِ عَنْ حَامِي الْحَقِيقَةِ مُعْلِمِ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِشَكِّ: السَّابِغَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى السَّابِغَةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمِشَكِّ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ فَاطِرٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا: أَنَّ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ تَغَايُرَ اللَّفْظَيْنِ رُبَّمَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِكَثْرَةِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدَ ... مَعْنًى وَأَوَّلْ مُوَهَّمًا إِذَا وَرَدَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُونَا مُفْرَدَيْنِ فَأَضِفْ ... حَتْمًا وَإِلَّا أَتْبَعَ الَّذِي رَدَفَ لِأَنَّ إِيجَابَ إِضَافَةِ الْعَلَمِ إِلَى اللَّقَبِ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْمَعْنَى إِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتَّأْوِيلِ، وَمَنْعُ الْإِتْبَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَسَالِيبِهَا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ عَلَى الْمُحْتَاجِ إِلَى تَأْوِيلٍ كَمَا تَرَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَالْمَعْنَى: فَمَحَوْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَجَعَلَنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ النَّهَارُ مُبْصِرَةً، أَيْ: جَعَلْنَا اللَّيْلَ مَمْحُوَّ الضَّوْءِ مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا تُسْتَبَانُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا، أَيْ تُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [17 \ 12] تَقَدَّمَ إِيضَاحَهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [16 \ 89] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ [17 \ 13] ، وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ: الْعَمَلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَ لَهُ سَهْمٌ إِذَا خَرَجَ لَهُ، أَيْ: أَلْزَمْنَاهُ مَا طَارَ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ مَا سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ ; لِأَنَّ مَا يَطِيرُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ سَبَبُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ. فَإِذَا عَرَفْتَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَاعْلَمْ: أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ أَوْ أَقْوَالٌ، وَكُلُّهَا حَقٌّ، وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنُ، فَنَذْكُرُ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَأَدِلَّتَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ، وَالْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِطَائِرِهِ عَمَلُهُ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ لَازِمٌ لَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الْآيَةَ [4 \ 123] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [66 \ 7] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [84 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [41 \ 46] ، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99 \ 7، 8] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِطَائِرِهِ نَصِيبُهُ الَّذِي طَارَ لَهُ فِي الْأَزَلِ مِنَ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [7 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [42 \ 7] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِي عُنُقِهِ [17 \ 13] ; أَيْ: جَعَلْنَا عَمَلَهُ، أَوْ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ شَقَاوَةٍ فِي عُنُقِهِ، أَيْ: لَازِمًا لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوِ الْغِلِّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: تَقَلَّدَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، وَقَوْلُهُمْ: الْمَوْتُ فِي الرِّقَابِ، وَهَذَا الْأَمْرُ رِبْقَةٌ فِي رَقَبَتِهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طَوَّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: اللُّزُومُ وَعَدَمُ الِانْفِكَاكِ. وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [17 \ 13] ، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الَّذِي أَلْزَمَ الْإِنْسَانَ إِيَّاهُ يُخْرِجُهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي كِتَابٍ يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، أَيْ مَفْتُوحًا يَقْرَؤُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ. وَبَيَّنَ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي يَلْقَاهُ مَنْشُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقُونَ ; أَيْ خَائِفُونَ مِمَّا فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهِ جَمِيعَ مَا عَمِلُوا حَاضِرًا لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ غَائِبًا، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَا يَظْلِمُهُمْ فِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18 \ 49] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُؤْتَى هَذَا الْكُتَّابُ بِيَمِينِهِ - جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ - وَأَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ بِيَمِينِهِ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَنَّهُ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [84 \ 7 - 9] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [69 \ 19 - 23] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ بِشَمَالِهِ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَهُ، وَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ فَيَصْلَى الْجَحِيمَ، وَيُسْلَكُ فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ سَلَاسِلِ النَّارِ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [69 \ 25 - 32] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ، وَمِمَّا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ يَصْلَى السَّعِيرَ، وَيَدْعُو الثُّبُورَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [84 \ 10 - 12] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 14] ، يَعْنِي أَنَّ نَفْسَهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ إِلَّا مَا عَمِلَ ; لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَذَكَّرُ كُلَّ مَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [75 \ 13] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ شَهِدَتْ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [36 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [41 \ 23] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [75 \ 14 - 15] ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ. تَنْبِيهٌ لَفْظَةُ «كَفَى» تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِعْمَالَيْنِ: تُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً، وَهِيَ تَتَعَدَّى غَالِبًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَفَاعِلُ هَذِهِ الْمُتَعَدِّيَةِ لَا يَجُرُّ بِالْبَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [33 \ 25] ، وَكَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الْآيَةَ [39 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [2 \ 137] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَتَسْتَعْمِلُ لَازِمَةً، وَيَطَّرِدُ جَرُّ فَاعِلِهَا بِالْبَاءِ الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ الْكِفَايَةِ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وَقَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَكْثُرُ إِتْيَانُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ فَاعِلِهَا الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 جَرَّ فَاعِلِهَا بِالْبَاءِ لَازِمٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَدَمُ جَرِّهِ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَمِيرَةُ وَدَّعَ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا ... كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ ... كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرًا وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يَلْقَاهُ ; بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُلْقِيهِ ذَلِكَ الْكِتَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَذَفَ الْفَاعِلَ فَبَنِي الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ. وَقِرَاءَةُ مِنْ قَرَأَ: يَخْرُجُ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مُضَارِعٌ خَرَجَ مَبْنِيًا لِلْفَاعِلِ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الطَّائِرِ بِمَعْنَى الْعَمَلِ، وَقَوْلُهُ كِتَابًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، أَيْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْرُجُ هُوَ، أَيِ الْعَمَلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالطَّائِرِ فِي حَالِ كَوْنِهِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا. وَكَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ يُخْرَجُ - بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ - فَالْضَمِيرُ النَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ رَاجِعٌ أَيْضًا إِلَى الطَّائِرِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ، أَيْ يَخْرُجُ لَهُ هُوَ، أَيْ طَائِرُهُ بِمَعْنَى عَمَلِهِ، فِي حَالِ كَوْنِهِ كِتَابًا. وَعَلَى قِرَاءَةِ «يَخْرِجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ كِتَابًا مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْرِجُ هُوَ، أَيِ اللَّهُ لَهُ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمُ السَّبْعَةُ: فَالنُّونُ فِي نُخْرِجُ نُونُ الْعَظَمَةِ لِمُطَابَقَةِ قَوْلِهِ: أَلْزَمْنَاهُ وَكِتَابًا مَفْعُولٌ بِهِ لِنَخْرُجَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنِ اهْتَدَى فَعَمِلَ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّ اهْتِدَاءَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَائِدَةُ ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ، وَثَمَرَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ مَنْ ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ فَعَمِلَ بِمَا يُسْخِطُ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّ ضَلَالَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجْنِي ثَمَرَةَ عَوَاقِبَهُ السَّيِّئَةَ الْوَخِيمَةَ، فَيَخْلُدُ بِهِ فِي النَّارِ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا الْآيَةَ [41 \ 46] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [30 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [6 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [10 \ 108] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ ذَنْبَ أُخْرَى، بَلْ لَا تَحْمَلُ نَفْسٌ إِلَّا ذَنْبَهَا. فَقَوْلُهُ: وَلَا تَزِرُ [17 \ 15] ، أَيْ لَا تَحْمِلُ، مِنْ وَزَرَ يَزِرُ إِذَا حَمَلَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ أَعْبَاءَ تَدْبِيرِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ، يُقَالُ: وَزَرَ يَزِرُ وِزْرًا، إِذَا أَثِمَ. وَالْوِزْرُ أَيْضًا: الثُّقْلُ الْمُثْقَلُ، أَيْ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ وَازِرَةٌ، أَيْ: آثِمَةٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى. أَيْ إِثْمَهَا، أَوْ حِمْلَهَا الثَّقِيلِ، بَلْ لَا تَحْمِلُ إِلَّا وِزْرَ نَفْسِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [35 \ 18] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ الْآيَةَ [6 \ 164] ، وَقَوْلِهِ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» بِإِيضَاحٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يُعَارِضُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ الْآيَةَ [29 \ 13] ، وَلَا قَوْلُهُ: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [16 \ 25] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ حَمَلُوا أَوْزَارَ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَوْزَارَ إِضْلَالِهِمْ غَيْرَهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى. تَنْبِيهٌ يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ " أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذِّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " فَيُقَالُ: مَا وَجْهُ تَعْذِيبِهِ بِبُكَاءِ غَيْرِهِ، إِذْ مُؤَاخَذَتُهُ بِبُكَاءِ غَيْرِهِ قَدْ يَظُنُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ أَخْذِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ؟ السُّؤَالُ الثَّانِي: إِيجَابُ دِيِّ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَيُقَالُ: مَا وَجْهُ إِلْزَامِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 بِجِنَايَةِ إِنْسَانٍ آخَرَ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ حَمَلُوهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِالنَّوْحِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَابِنَّةَ مَعْبَدِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَوْصَى بِأَنْ يُنَاحَ عَلَيْهِ: فَتَعْذِيبُهُ بِسَبَبِ إِيصَائِهِ بِالْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ لَا فِعْلِ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَهْمِلَ نَهْيَهُمْ عَنِ النَّوْحِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ إِهْمَالَهُ نَهْيَهُمْ تَفْرِيطٌ مِنْهُ، وَمُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [66 \ 6] فَتَعْذِيبُهُ إِذًا بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ، وَتَرْكِهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: قُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ إِيجَابَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَيْسَ مِنْ تَحْمِيلِهِمْ وِزْرَ الْقَاتِلِ، وَلَكِنَّهَا مُوَاسَاةٌ مَحْضَةٌ أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي ; لِأَنَّ الْجَانِيَ لَمْ يَقْصِدْ سُوءًا، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فَأَوْجَبَ اللَّهُ فِي جِنَايَتِهِ خَطَأً الدِّيَةَ بِخِطَابِ الْوَضْعِ، وَأَوْجَبَ الْمُوَاسَاةَ فِيهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي إِيجَابِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ مُوَاسَاةَ بَعْضِ خَلْقِهِ، كَمَا أَوْجَبَ أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَرَدِّهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَاعْتَقَدَ مَنْ أَوْجَبَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ دِيوَانِ الْقَاتِلِ خَطَأً كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ فَأَوْجَبَهَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: " وَأَجْمَعَ أَهْلُ السِّيَرِ وَالْعِلْمِ: أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يَتَعَاقَلُونَ بِالنُّصْرَةِ ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. حَتَّى جَعَلَ عُمَرُ الدِّيوَانَ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ وَالْقَوْلُ بِهِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ دِيوَانٌ، وَأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ الدِّيوَانَ، وَجَمَعَ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَعَلَ أَهْلَ كُلِّ نَاحِيَةٍ يَدًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يُنْذِرُهُ وَيُحَذِّرُهُ، فَيُعْصَى ذَلِكَ الرَّسُولُ، وَيُسْتَمَرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] ، فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّةَ كُلِّ أَحَدٍ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمُ النَّارَ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَوْضَحَ هُنَا قَطَعَهَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، بَيَّنَهَا فِي آخِرِ سُورَةِ طه بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [20 \ 134] . وَأَشَارَ لَهَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [28 \ 47] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [6 \ 131] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ الْآيَةَ [5 \ 19] ، وَكَقَوْلِهِ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ الْآيَةَ [6 \ 155 - 157] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُوَضِّحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَصْرِيحُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: " بِأَنْ لَمْ يْدْخِلْ أَحَدًا النَّارَ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [67 \ 8، 9] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَفْوَاجِ الْمُلْقِينَ فِي النَّارِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ الْمُحِيطِ " فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا مَا نَصُّهُ: " وَكُلَّمَا " تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ أَزْمَانِ الْإِلْقَاءِ فَتَعُمُّ الْمُلْقِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [39 \ 71] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْمُوصُولَاتِ كَالَّذِي وَالَّتِي وَفُرُوعِهِمَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، لِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَاتُهَا، وَعَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ: صِيغَةُ كُلٍّ أَوِ الْجَمِيعِ ... وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعَ وَمُرَادُهُ بِالْبَيْتِ: أَنَّ لَفْظَةَ " كُلٍّ، وَجَمِيعٍ، وَالَّذِي، وَالَّتِي " وَفُرُوعِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الصِّيَغِ الْعُمُومِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا - إِلَى قَوْلِهِ - قَالُوا بَلَى [39 \ 71] عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قَدْ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَعَصَوُا أَمْرَ رَبِّهِمْ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [35 \ 36] ، فَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ - إِلَى قَوْلِهِ - وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [35 \ 37] ، عَامٌّ أَيْضًا فِي جَمِيعِ أَهْلِ النَّارِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [40 \ 49، 50] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى عُذْرِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ وَلَوْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَبِهَذَا قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِأَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [4 \ 18] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [2 \ 161] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [3 \ 91] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4 \ 48] ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [22 \ 31] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَقَوْلُهُ: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [7 \ 50] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَظَاهِرُ جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعُمُومُ، لِأَنَّهَا لَمْ تُخَصَّصْ كَافِرًا دُونَ كَافِرٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا شُمُولُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُعْذَرُونَ فِي كُفْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: " فِي النَّارِ " فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: " إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " اه. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ - يَعْنِي ابْنَ كِيسَانَ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي "، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. فَقَالَ: " اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ " اه، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ عُذْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْفَتْرَةِ. وَهَذَا الْخِلَافُ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ: هَلِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْفَتْرَةِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ فِي النَّارِ لِكُفْرِهِمْ، أَوْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ؟ وَعَقَدَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ: ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ ... وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فِي النَّارِ: النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَحَكَى عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ الْإِجْمَاعَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ " نَشْرِ الْبُنُودِ ". وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْذِيبَ الْمَنْفِيِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ الْآيَةَ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 الْآيَاتِ، إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ، كَمَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِذًا فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّعْذِيبَ فِي الْآخِرَةِ. وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ، وَالشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي تَفَاسِيرِهِمْ إِلَى الْجُمْهُورِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ الْمَنْصُوصَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ الْآيَةَ، وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ، أَمَّا الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عَقْلٌ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ، النَّافِعُ، الضَّارُّ، وَيَتَحَقَّقُونَ كُلَّ التَّحَقُّقِ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا عَلَى دَفْعِ ضُرٍّ، كَمَا قَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ [21 \ 65] ، وَكَمَا جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِكَثْرَةٍ بِأَنَّهُمْ وَقْتَ الشَّدَائِدِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، كَقَوْلِهِ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [29 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [31 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَةَ [17 \ 67] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ غَالَطُوا أَنْفُسَهُمْ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِأَوْثَانِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ; مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْطَعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةَ إِنْذَارٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَجَزَمَ بِهَذَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعِبَادِي فِي (الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ) . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي النَّارِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِعُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ، فَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ التَّعْذِيبِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ دُونَ الْأُخْرَوِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ انْتِفَاءُ التَّعْذِيبِ مُطْلَقًا، فَهُوَ أَعَمُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 مِنْ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَصَرْفُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَاهِرِهِ مَمْنُوعٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَنْ شُمُولِ التَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ ; كَقَوْلِهِ: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى [67 \ 8، 9] ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْوَاجِ أَهْلِ النَّارِ مَا عُذِّبُوا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَحَدٍ بِنَفْسِ الْجَوَابَيْنِ الْمَذْكُورِينَ آنِفًا ; لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَاضِحِ وَغَيْرِهِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَا عُذِّبُوا بِهَا حَتَّى كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْوَاضِحِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعَبَّادِيُّ وَهُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ، لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِبُطْلَانِهِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ أُنْذِرُوا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنُ يَنْفِي هَذَا نَفْيًا بَاتًّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي " يس ": لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [36 \ 6] وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ: مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [36 \ 6] نَافِيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا مَوْصُولَةٌ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ غَافِلُونَ، وَكَقَوْلِهِ فِي " الْقَصَصِ ": وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [28 \ 46] ، وَكَقَوْلِهِ فِي " سَبَأٍ " وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [34 \ 44] ، وَكَقَوْلِهِ فِي " الم السَّجْدَةِ ": أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [32 \ 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ: بِأَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْقَاطِعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَقَوْلُهُ: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى [67 \ 8 - 9] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ أَيْضًا عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مُخَالِفُوهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [4 \ 18] ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 مِنَ الْآيَاتِ، بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَكَذَّبُوهُمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِتَعْذِيبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِمْ: إِنَّ الْقَاطِعَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْذِيبِ بَعْضِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، كَحَدِيثَيْ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَالْحَدِيثَيْنِ كِلَاهُمَا خَاصٌّ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ ; لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَمًا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ خَرَجَ مِنَ الْعُمُومِ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ بَقِيَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ يُبْطِلُ حِكْمَةَ الْعَامِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا تَمَدَّحُ بِكَمَالِ الْإِنْصَافِ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ حَتَّى يَقْطَعَ حُجَّةَ الْمُعَذَّبِ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَشَارَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْصَافَ الْكَامِلَ، وَالْإِعْذَارَ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الْعُذْرِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ، فَلَوْ عَذَّبَ إِنْسَانًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ لَاخْتَلَّتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ الَّتِي تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهَا، وَلَثَبَتَتْ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ لِقَطْعِهَا، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ الْآيَةَ [4 \ 165] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [20 \ 134] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ عَدَمَ الْإِنْذَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَصَلَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الْإِنْذَارِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ لِلنَّصِّ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى التَّعْذِيبِ فِيهَا، فَإِنَّ وُجُودَ عِلَّةِ الْحُكْمِ مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الْمُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ. بِـ " النَّقْضِ " تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَصَرَ لَهَا عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ مَعْلُولِهَا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ ; أَيْ قَصْرُهُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ، وَالْخِلَافُ فِي النَّقْضِ هَلْ هُوَ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، أَوْ تَخْصِيصٌ لَهَا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَعَقَدَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ: مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ ... سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ ... بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحِّحٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصٌ ... إِنْ يَكُ الِاسْتِنْبَاطُ لَا التَّنْصِيصُ وَعَكْسُ هَذَا قَدْ رَآهُ الْبَعْضُ ... وَمُنْتَقَى ذِي الِاخْتِصَارِ النَّقْضُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً بِظَاهِرٍ ... وَلَيْسَ فِيمَا اسْتُنْبِطَتْ بِضَائِرِ إِنْ جَا لِفَقْدِ الشَّرْطِ أَوْ لِمَا مَنَعَ ... وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ فَقَدْ أَشَارَ فِي الْأَبْيَاتِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فِي النَّقْضِ: هَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ، أَوْ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، مَعَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْوَصْفِ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ مَانِعٍ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ، أَوْ لِفَقْدِ شَرْطِ تَأْثِيرِهَا فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لَهَا، فَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعَدُوَّانُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ إِجْمَاعًا. فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُرَكَّبَ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ لِكَوْنِ الْأُبُوَّةِ مَانِعًا مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يُقَالُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْقُوضَةٌ، لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ هِيَ عِلَّةُ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِهَا مَانِعٌ، فَيُخَصَّصُ تَأْثِيرُهَا بِمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَغَرَّهُ فَزَعَمَ لَهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَ مِنْهَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا، مَعَ أَنَّ رِقَّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا ; لِأَنَّ الْغُرُورَ مَانِعٌ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ رِقُّ الْأُمِّ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رِقُّ الْوَلَدِ. وَكَذَلِكَ الزِّنَى ; فَإِنَّهُ عَلِمَ لِلرَّجْمِ إِجْمَاعًا. فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الزِّنَى فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي هِيَ الرَّجْمُ، وَنَعْنِي بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْإِحْصَانَ، فَلَا يُقَالُ إِنَّهَا عِلَّةٌ مَنْقُوضَةٌ، بَلْ هِيَ عِلَّةٌ تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِهَا، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ آيَةَ " الْحَشْرِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ مُطْلَقًا، وَاللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَنَعْنِي بِآيَةِ " الْحَشْرِ " قَوْلَهُ تَعَالَى فِي بَنِي النَّضِيرِ: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [59 \ 3] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا عِلَّةَ هَذَا الْعِقَابِ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ [59 \ 4] ، وَقَدْ يُوجَدُ بَعْضُ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَمْ يُعَذِّبْ بِمِثْلِ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ بَنُو النَّضِيرِ، مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مُشَاقَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ لَا نَقْضٌ لَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا مَثَلُ بَيْعِ التَّمْرِ الْيَابِسِ بِالرَّطْبِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْعَرَايَا، فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ إِجْمَاعًا لَا نَقْضَ لَهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْأَبْيَاتِ بِقَوْلِهِ: وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ: هَلْ يَعْذُرُ الْمُشْرِكُونَ بِالْفَتْرَةِ أَوْ لَا؟ هُوَ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَارٍ يَأْمُرُهُمْ بِاقْتِحَامِهَا، فَمَنِ اقْتَحَمَهَا دَخْلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ امْتَنَعَ دَخَلَ النَّارَ وَعُذِّبَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا ; لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثُبُوتُهُ عَنْهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; فَلَا وَجْهَ لِلنِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ مَعَ ذَلِكَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى عُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ وَامْتِحَانِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَادًّا عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَضْعِيفَ أَحَادِيثِ عُذْرِهِمْ وَامْتِحَانِهِمْ، بِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا عَمَلٍ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُخُولِ النَّارِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ مَا نَصَّهُ: وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَيْفٌ يَتَقَوَّى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ مُتَّصِلَةً مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ، أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ، وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ امْتِحَانِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [68 \ 42] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا: " أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَيَعُودُ ظَهْرُهُ كَالصَّفِيحَةِ الْوَاحِدَةِ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ "، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا: " أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَلَّا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَابْنَ آدَمَ، مَا أَعْذَرَكَ! ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ " وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمُ اللَّهُ دُخُولَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ؟ فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ. " فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. وَمِنْهُمُ السَّاعِي، وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوسُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ " وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا، بَلْ هَذَا أُطْمٌ وَأَعْظَمَا وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ نَارٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، وَهُمْ فِي عَمَايَةِ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ; وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِقَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشَّقَاوَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ، الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الِاعْتِقَادِ) وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ بِالْعُذْرِ وَالِامْتِحَانِ، فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِحَانِ، وَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارُ عَمَلٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تَرِدَ بِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا (دَفَعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [17 \ 16] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، وَالْمَعْنَى: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ: فَفَسَقُوا، أَيْ: خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْوَعِيدُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، أَيْ أَهْلَكْنَاهَا إِهْلَاكًا مُسْتَأْصِلًا، وَأَكَّدَ فِعْلَ التَّدْمِيرِ بِمَصْدَرِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الْهَلَاكِ الْوَاقِعِ بِهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ الْآيَةَ [7 \ 28] . فَتَصْرِيحُهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا [17 \ 16] ، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 34، 35] . فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ الْآيَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 [43 \ 23] ، لَفْظٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى أَنَّ الرُّسُلَ أَمَرَتْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَتَبَجَّحُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ: أَنَّ مَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ; أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، وَأَنَّ هَذَا مَجَازٌ تَنْزِيلًا لِإِسْبَاغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمُ الْمُوجِبِ لِبَطَرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ، كَلَامٌ كُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ، وَقَدْ أَوْضَحَ إِبْطَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ "، وَالرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَشُكُّ مُنْصِفٌ عَارِفٌ فِي بُطْلَانِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْمَأْلُوفِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي، أَيْ أَمَرْتُهُ بِالطَّاعَةِ فَعَصَى. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِالْعِصْيَانِ كَمَا لَا يَخْفَى. الْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَسَخَّرْنَاهُمْ لَهُ ; لِأَنَّ كَلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَالْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ كَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [54 \ 50] ، وَقَوْلِهِ: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [2 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [10 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 \ 82] . الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ " أَمَرْنَا " بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، أَيْ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمَرْنَا بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَآمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ مَالِ امْرِئٍ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ ". قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ (الْغَرِيبِ) : الْمَأْمُورَةُ: كَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَالسِّكَّةُ: الطَّرِيقَةُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخْلِ. وَالْمَأْبُورَةُ: مِنَ التَّأْبِيرِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الذَّكَرِ عَلَى النَّخْلَةِ لِئَلَّا يُسْقَطَ ثَمَرَهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِتْيَانَ الْمَأْمُورَةِ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُجَرَّدًا عَنِ الزَّوَائِدِ، مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَيَتَّضِحُ كَوْنُ أَمْرِهِ بِمَعْنَى أَكْثَرَ، وَأَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ تَعَدِّي أَمْرِ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى الْإِكْثَارِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَالُوا: حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبِيلِ الِازْدِوَاجِ، كَقَوْلِهِمْ: الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَكَحَدِيثِ " ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ " ; لِأَنَّ الْغَدَايَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا سَاغَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 لِلِازْدِوَاجِ مَعَ الْعَشَايَا، وَكَذَلِكَ مَأْزُورَاتٌ بِالْهَمْزِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ ; لِأَنَّ الْمَادَّةَ مِنَ الْوِزْرِ بِالْوَاوِ، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَ فِي قَوْلِهِ: " مَأْزُورَاتٍ " لِلِازْدِوَاجِ مَعَ " مَأْجُورَاتٍ "، وَالِازْدِوَاجُ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: " مَأْمُورَةٌ " إِتْبَاعٌ لِقَوْلِهِ: " مَأْبُورَةٌ " وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا قَبْلَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْرُنَا [17 \ 16] ، قَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: " أَمَّرْنَا " بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْ سَلَّطْنَا شَرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ " أَمَّرْنَا " بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ. وَقَالَهُ ابْنُ عَزِيزٍ: وَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: " آمَرْنَا " بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ ; أَيْ أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: " آمَرْتُهُ - بِالْمَدِّ - وَأَمَرْتُهُ لُغَتَانِ بِمَعْنَى أَكْثَرْتُهُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ " خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ " ; أَيْ كَثِيرَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَزِيزٍ: آمَرْنَا وَأَمَرْنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ أَكْثَرْنَا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: أَمَرْنَا - بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ - عَلَى فِعْلِنَا، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا، وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَأَصْلُهَا أَأَمَرْنَا فَخَفَّفَ ; حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَفِي الصِّحَاحِ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمِرَ مَالُهُ - بِالْكَسْرِ - أَيْ كَثُرَ. وَأَمِرَ الْقَوْمُ: أَيْ كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ الْأَعْشَى: طَرِفُونَ وَلَادُّونَ كُلَّ مُبَارَكٍ ... أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ الْقُعْدُدِ وَآمَرَ اللَّهُ مَالَهُ ; بِالْمَدِّ. الثَّعْلَبِيُّ: وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمْرٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَمَرَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا: إِذَا كَثُرُوا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا: أَمَرَ أَمْرٍ بَنِي فُلَانٍ ; قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 لَبِيدٌ: كُلُّ بَنِي حُرَّةَ مَصِيرُهُمْ ... قُلْ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنَ الْعَدَدِ إِنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمَرُوا ... يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهَلَكِ وَالنَّكَدِ قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَقَدْ أَمَرَ أَمْرَ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ لِيَخَافَهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ ; أَيْ كَثُرَ، وَكُلُّهَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ أَمَرَ فَهِيَ لُغَةٌ، وَوَجْهُ تَعْدِيَةِ أَمْرٍ أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِـ (عَمَرَ) مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْكَثْرَةُ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْعِمَارَةِ، فَعَدَّى كَمَا عَدَّى عَمَرَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقِيلَ أَمَرْنَاهُمْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَمِيرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ، أَيْ غَيْرُ مُؤَمِّرٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: بَعَثْنَا مُسْتَكْبَرِيهَا. قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: بَعَثْنَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَحَكَى النَّحَّاسُ: وَقَالَ هَارُونُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بَعَثْنَا فِيهَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَمَكَرُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا أَمْرَنَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَسْنَدَ الْفِسْقَ فِيهَا لِخُصُوصِ الْمُتْرَفِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [17 \ 16] مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ عُمُومَ الْهَلَاكِ لِجَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ وَغَيْرِهِمْ، فِي قَوْلِهِ: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [17 \ 16] يَعْنِي الْقَرْيَةَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا غَيْرَ الْمُتْرَفِينَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ غَيْرَ الْمُتْرَفِينَ تَبَعٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمُتْرَفِينَ الَّذِينَ هُمْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ ; لِأَنَّ غَيْرَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [33 \ 67] ، وَكَقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ الْآيَةَ [2 \ 166] ، وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا الْآيَةَ [7 \ 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [14 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [40 \ 47] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ إِنْ عَصَى اللَّهَ وَبَغَى وَطَغَى وَلَمْ يَنْهَهُمُ الْآخَرُونَ فَإِنَّ الْهَلَاكَ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [8 \ 25] ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرِبْ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذِهِ» - وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مُوَضِّحًا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ كَمْ فِي قَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا [17 \ 17] خَبَرِيَّةٌ، مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا خَبِيرٌ بَصِيرٌ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكَفَى بِرَبِّكَ الْآيَةَ [17 \ 17] . وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوْضَحَتْهُ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَهْدِيدًا لِكُفَّارِ مَكَّةَ، وَتَخْوِيفًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا ; أَيْ أَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرَةً مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، فَلَا تُكَذِّبُوا رَسُولَنَا لِئَلَّا نَفْعَلَ بِكُمْ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ. وَالْآيَاتُ الَّتِي أَوْضَحَتْ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137 - 138] ، وَكَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 75، 76] ، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [29 \ 35] ، وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] ، وَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ جَلَّ وَعَلَا إِهْلَاكَهُ لِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 8] ، وَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ مُوسَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [79 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَقَوْلِهِ: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ الْآيَةَ [44 \ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَّ تَخْوِيفِهِمْ بِمَا وَقَعَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْقُرُونَ تَعَرَّضَتْ لِبَيَانِهَا آيَاتٌ أُخَرَ ; فَبَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ أَنَّ تِلْكَ الْقُرُونَ كَثِيرَةٌ فِي قَوْلِهِ: وَعَادًا وَثَمُودًا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [25 \ 38] وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [14 \ 9] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ أَنَّ رُسُلَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّ خَبَرَهُ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْهُ عَلَيْهِ، وَهَمَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [4 \ 164] ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [40 \ 78] . الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [17 \ 17] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أَنَّهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ الْآيَةَ [2 \ 213] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا الْآيَةَ [10 \ 19] ; لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْكُفْرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ، مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالنَّارِ، وَأَوَّلُهُمْ فِي ذَلِكَ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ الْآيَةَ [4 \ 163] . وَفِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِنُوحٍ: إِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعْثَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْجِهَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [17 \ 17] فِيهِ أَعْظَمُ زَجْرٍ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [50 \ 16] وَقَوْلِهِ: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [2 \ 235] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مُوَضَّحًا فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ. وَلَفْظَةُ «كَمْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ لِـ «أَهْلَكْنَا» وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: كَمْ وَتَمْيِيزٌ لَهُ كَمَا يُمَيَّزُ الْعَدَدُ بِالْجِنْسِ. وَأَمَّا لَفْظُهُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ» ، وَزَعَمَ الْحَوْفِيُّ أَنَّ «مِنْ» الثَّانِيَةِ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [17 \ 19] أَيْ عَمِلَ لَهَا عَمَلَهَا الَّذِي تَنَالُ بِهِ، وَهُوَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتنَابُ نَهْيِهِ بِإِخْلَاصٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [17 \ 19] أَيْ مُوَحِّدٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، غَيْرُ مُشْرِكٍ بِهِ وَلَا كَافِرٍ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَشْكُرُ سَعْيَهُ، بِأَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عَنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ. وَفِي الْآيَةِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [17 \ 19] . وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [4 \ 124] ، وَقَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] وَقَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [40 \ 40] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ بِإِخْلَاصٍ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ ; لِفَقْدِ شَرْطِ الْقَبُولِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَفْهُومَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] ، وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ الْآيَةَ [14 \ 18] ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا الْآيَةَ [24 \ 39] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ يُجَازَى بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا حَظَّ لَهُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. كَقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [11 \ 15، 16] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [42 \ 20] . وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَاتُ: مِنَ انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا الْآخِرَةَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» . حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضِرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمُ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَّرَنَا أَدِلَّتَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا: كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ وَالْجَارِ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلِّهِ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ الْآيَةَ [17 \ 18] . فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُقَيِّدَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا، وَأَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبْ ... إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَشْرَعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْعُدُ مَذْمُومًا مَخْذُولًا. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ لَا نَفْسُ خِطَابِهِ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [17 \ 23] ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ الْآيَةَ [17 \ 23] ، أَيْ إِنْ يَبْلُغْ عِنْدَكَ وَالِدَاكَ أَوْ أَحَدُهُمَا الْكِبَرَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَالِدَيْهِ قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِ بُلُوغِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ بَعْدَ أَنْ مَاتَا مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ التَّشْرِيعُ لِغَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ خِطَابُهُمْ إِنْسَانًا وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ السَّائِرَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ، وَهُوَ سَهْلُ بْنُ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ: إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وَسَبَبُ هَذَا الْمَثَلِ: أَنَّهُ زَارَ حَارِثَةَ بْنَ لَأْمٍ الطَّائِيَّ فَوَجَدَهُ غَائِبًا، فَأَنْزَلَتْهُ أُخْتُهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَأَعْجَبَهُ جَمَالُهَا، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِأُخْرَى غَيْرَهَا لِيَسْمِعَهَا هِيَ: يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَهْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَهْ أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ فَفَهِمَتِ الْمَرْأَةُ مُرَادَهُ، وَأَجَابَتْهُ بِقَوْلِهَا: إِنِّي أَقُولُ يَا فَتَى فَزَارَهْ ... لَا أَبْتَغِي الزَّوْجَ وَلَا الدَّعَارَهْ وَلَا فِرَاقَ أَهْلِ هَذِي الْحَارَهْ ... فَارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِاسْتِحَارَهْ وَالظَّاهِرِ أَنَّ قَوْلَهَا «بِاسْتِحَارَهْ» أَنَّ أَصْلَهُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بِمَعْنَى رَجْعِ الْكَلَامِ بَيْنَهُمَا، أَيِ ارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِالْمُحَاوَرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَهِيَ كَلَامُكَ وَجَوَابِي لَهُ، وَلَا تَحْصُلُ مِنِّي عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ! وَالْهَاءُ فِي «الِاسْتِحَارَةِ» عِوَضٌ مِنَ الْعَيْنِ السَّاقِطَةِ بِالْإِعْلَالِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فَنِّ الصَّرْفِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: إِفْرَادُ الْخِطَابِ مَعَ قَصْدِ التَّعْمِيمِ ; كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَتَقْعُدَ [17 \ 22] أَيْ: تَصِيرُ. وَجَعَلَ الْفَرَّاءُ مِنْهُ قَوْلَ الرَّاجِزِ: لَا يُقْنِعُ الْجَارِيَةَ الْخِضَابُ ... وَلَا الْوِشَاحَانِ وَلَا الْجِلْبَابُ مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِيَ الْأَرْكَابُ ... وَيَقْعُدَ الْأَيْرُ لَهُ لُعَابُ أَيْ يَصِيرُ لَهُ لُعَابٌ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: قَعَدَ لَا يُسْأَلُ حَاجَةً إِلَّا قَضَاهَا. بِمَعْنَى صَارَ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: وَالْقُعُودُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُكْثِ، أَيْ فَتَمْكُثُ فِي النَّاسِ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ حَالِ شَخْصٍ: هُوَ قَاعِدٌ فِي أَسْوَأِ حَالٍ ; وَمَعْنَاهُ مَاكِثٌ وَمُقِيمٌ. سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَمْ جَالِسًا. وَقَدْ يُرَادُ الْقُعُودُ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ حَائِرًا مُتَفَكِّرًا، وَعَبَّرَ بِغَالِبِ حَالِهِ وَهُوَ الْقُعُودُ، وَقِيلَ: مَعْنَى فَتَقْعُدَ [17 \ 22] فَتَعْجَزُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَقْعَدَكَ عَنِ الْمَكَارِمِ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ. وَالْمَذْمُومُ هُنَا: هُوَ مَنْ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ الْعُقَلَاءِ مِنَ النَّاسِ ; حَيْثُ أَشْرَكَ بِاللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. وَالْمَخْذُولُ: هُوَ الَّذِي لَا يَنْصُرُهُ مَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مِنْهُ النَّصْرَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَرْءَ مَيِّتًا بِانْقِضَاءِ حَيَاتِهِ ... وَلَكِنْ بِأَنْ يَبْغَى عَلَيْهِ فَيُخْذُلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَقَرَنَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ. وَجَعْلُهُ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا الْمَذْكُورُ هُنَا ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الْآيَةَ [4 \ 36] ، وَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الْآيَةَ [2 \ 83] ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [31 \ 14] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ بِرَّهُمَا لَازِمٌ وَلَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ دَاعِيَيْنِ إِلَى شِرْكِهِمَا ; كَقَوْلِهِ فِي «لُقْمَانَ» : وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [31 \ 15] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ الْآيَةَ [29 \ 8] . وَذِكْرُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِتَوْحِيدِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي عِبَادَتِهِ، يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَأَكُّدِ وُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ. وَجَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [17 \ 23] بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [17 \ 23 - 24] ; لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِيضَاحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّلِّ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ «مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَضَى رَبُّكَ [17 \ 23] مَعْنَاهُ: أَمَرَ وَأَلْزَمَ، وَأَوْجَبَ وَوَصَّى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَضَى رَبُّكَ [17 \ 23] ، أَيْ أَمَرَ أَمْرًا مَقْطُوعًا بِهِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» أَنَّ إِعْرَابَ قَوْلِهِ: إِحْسَانًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَعَطْفُ الْأَمْرِ الْمَعْنَوِيِّ أَوِ الصَّرِيحِ عَلَى النَّهْيِ مَعْرُوفٌ ; كَقَوْلِهِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيِّهِمْ ... يَقُولُونَ لَا تَهْلَكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أَوْ بِأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْهُمُ [17 \ 28] ، رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ الْآيَةَ [17 \ 26] . وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ تُعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَلَمْ تُعْطَهُمْ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَكَ، وَإِعْرَاضُكَ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا [17 \ 28] ، أَيْ رِزْقٍ حَلَالٍ ; كَالْفَيْءِ يَرْزُقُكَهُ اللَّهُ فَتُعْطِيهِمْ مِنْهُ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، أَيْ لَيِّنًا لَطِيفًا طَيِّبًا، كَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْغِنَى وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ إِذَا يَسَّرَ مِنْ فَضْلِهِ رِزْقًا أَنَّكَ تُعْطِيهِمْ مِنْهُ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِعْطَاءِ الْجَمِيلِ فَلْيَتَجَمَّلْ فِي عَدَمِ الْإِعْطَاءِ ; لِأَنَّ الرَّدَّ الْجَمِيلَ خَيْرٌ مِنَ الْإِعْطَاءِ الْقَبِيحِ. وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، صَرَّحَ بِهِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى الْآيَةَ [2 \ 263] ، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: إِلَّا تَكَنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجْوَدُ بِهَا ... لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي ... إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِي وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْرِضُ عَنِ الْإِعْطَاءِ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ مَا يُعْطَى مِنْهُ، وَأَنَّ الرِّزْقَ الْمُنْتَظَرَ إِذَا يَسَّرَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُمْ. وَهَذَا هُوَ غَايَةُ الْجُودِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلًا مَيْسُورًا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ مِنْ لَفْظِ الْيُسْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 كَالْمَيْمُونِ. وَقَدْ عَلِمَتْ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [17 \ 28] مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ تُعْرِضَنَّ لَا بِجَزَاءِ الشَّرْطِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ تَعَلُّقَهُ بِالْجَزَاءِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ يَسِّرْ عَلَيْهِمْ وَالْطُفْ بِهِمْ، لِابْتِغَائِكَ بِذَلِكَ رَحْمَةَ اللَّهِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» بِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبِلَهُ. قَالَ: لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِكَ إِنْ يَقُمْ فَاضْرِبْ خَالِدًا أَنْ تَقُولَ: إِنْ يَقُمْ خَالِدًا فَاضْرِبْ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ [17 \ 28] رَاجِعٌ لِلْكُفَّارِ ; أَيْ إِنْ تُعْرِضَ عَنِ الْكُفَّارِ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ نَصْرٍ لَكَ عَلَيْهِمْ، أَوْ هِدَايَةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ الْمَيْسُورُ: الْمُدَارَاةُ بِاللِّسَانِ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانُ الدِّمَشْقِيُّ، انْتَهَى مِنَ الْبَحْرِ. وَيَسَرَ بِالتَّخْفِيفِ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمَيْسُورٌ مِنَ الْمُتَعَدِّي، تَقُولُ: يَسَّرْتُ لَكَ كَذَا إِذَا أَعْدَدْتُهُ ; قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا، وَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَوَعَدَهُ بِأَنَّهُ مَنْصُورٌ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ هَنَا شَامِلٌ ثَلَاثَ صُوَرٍ: الْأُولَى: أَنْ يَقْتُلَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِوَاحِدٍ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَقَوْلِ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمَّا قَتَلَ بُجَيْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ فِي حَرْبِ الْبَسُوسِ الْمَشْهُورَةِ: بُؤْ بِشَسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ ; فَغَضِبَ الْحَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ، وَقَالَ قَصِيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ: قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... لَقِحَتْ حَرْبُ وَائِلٍ عَنْ حِيَالِ قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... إِنَّ بَيْعَ الْكِرَامِ بِالشَّسْعِ غَالِي ، إِلَخْ وَقَالَ مُهَلْهِلٌ أَيْضًا: كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غَرَّهُ ... حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلَ آلُ مُرَّهْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتْلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي قَتْلِهِ: إِسْرَافٌ فِي الْقَتْلِ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 الثَّانِيَةُ أَنْ يَقْتُلَ بِالْقَتِيلِ وَاحِدًا فَقَطْ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ الْقَاتِلِ ; لِأَنَّ قَتْلَ الْبَرِيءِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ إِسْرَافٌ فِي الْقَتْلِ، مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَ الْقَاتِلِ وَيُمَثِّلَ بِهِ، فَإِنَّ زِيَادَةَ الْمُثْلَةِ إِسْرَافٌ فِي الْقَتْلِ أَيْضًا. وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَالَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْضَ الْمَيْلِ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: فَلَا يُسْرِفُ الظَّالِمُ الْجَانِي فِي الْقَتْلِ ; تَخْوِيفًا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَالنَّصْرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [17 \ 33] . وَهَذَا السُّلْطَانُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا بَيَانًا مُفَصَّلًا، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ هُوَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ مِنَ السُّلْطَةِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ، مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ قَتْلِهِ إِنْ أَحَبَّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ أَوْ مَجَّانًا. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ هُنَا: فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [17 \ 33 بَعْدَ ذِكْرِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ مُقْتَرِنًا بِذِكْرِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ هُوَ ذَلِكَ الْقَتْلُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى - إِلَى قَوْلِهِ - وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الْآيَةَ [2 \ 178 - 179] ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْقِصَاصِ هَذِهِ، وَخَيْرُ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مَظْلُومًا أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْرَ مَظْلُومٍ لَيْسَ لِوَلِيِّهِ سُلْطَانٌ عَلَى قَاتِلِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَدَمَهُ حَلَالٌ، وَلَا سُلْطَانَ لِوَلِيِّهِ فِي قَتْلِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا بِذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحُلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَبَيَّنَا هَذَا الْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ: مَظْلُومًا يَظْهَرُ بِهِ بَيَانُ الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ أَيْضًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [17 \ 33] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَدِلَّةِ أَسْبَابٌ أُخَرُ لِإِبَاحَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ غَيْرَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. مِنْ ذَلِكَ: الْمُحَارِبُونَ إِذَا لَمَّ يَقْتُلُوا أَحَدًا. عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا الْآيَةَ [5 \ 33] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَمِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فِي فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ وَأَدِلَّتَهَا بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «هُودٍ» . وَأَمَّا قَتْلُ السَّاحِرِ فَلَا يَبْعُدُ دُخُولُهُ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: «التَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الْآيَةَ [2 \ 102] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ الْآيَةَ [2 \ 102] ، وَقَوْلِهِ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [2 \ 102] . وَأَمَّا قَتْلُ مَانِعِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ دَاخِلٌ فِي «التَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» ، وَأَمَّا إِنْ مَنَعَهَا وَهُوَ مُقِرٌّ بِوُجُوبِهَا فَالَّذِي يَجُوزُ فِيهِ: الْقِتَالُ لَا الْقَتْلُ، وَبَيْنَ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ فَرْقٌ وَاضِحٌ مَعْرُوفٌ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً يُقْتَلُ هُوَ وَتُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ مَعَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» . قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» : رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ; لِأَنَّ حَصْرَ مَا يُبَاحُ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مَعَ التَّشْدِيدِ الْعَظِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفُرُوعِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْحَصْرُ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا ثَبَتَ بِوَحْيٍ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، لِقُوَّتِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ خَطَأً لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ ; كَقَوْلِهِ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [33 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا الْآيَةَ [2 \ 286] ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَهَا، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتَ. وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [4 \ 92] ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَلْزَمُ الْقَاتِلَ خَطَأً بِقَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا الْآيَةَ [4 \ 92] ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّيَةَ قَدْرًا وَجِنْسًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا [17 \ 33] أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَتْلُ بِمُحَدَّدٍ كَالسِّلَاحِ، وَبِغَيْرِ مُحَدَّدٍ كَرَضْخِ الرَّأْسِ بِحَجَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ خَشَبٍ، أَوْ فِيمَا كَانَ مَعْرُوفًا بِقَتْلِ النَّاسِ كَالْمَنْجَنِيقِ، وَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِأَدِلَّةٍ: الْأَوَّلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِطْلَاقِ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ. الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوَضَاحٍ لَهَا، فَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، رَضَّ رَأْسَهُ بِهِمَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفِقُ عَلَيْهِ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِهِ: بِاسْتِوَاءِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْمَعْصُومِ الدَّمُ كَالذِّمِّيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 الثَّالِثُ: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ مِنَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمِسْطَحِ. قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ نَشَدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ حُجْرَتِي امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ، وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ فِي قَضِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ، وَأَنْ تُقْتَلَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمِسْطَحُ هُوَ الصَّوْلَجُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمِسْطَحُ عُودٌ مِنْ أَعْوَادِ الْخِبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ نَشَدَ النَّاسَ قَضَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ (يَعْنِي فِي الْجَنِينِ) فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةَ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لِي، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَقَتَلَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ، وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا. انْتَهَى مِنَ السُّنَنِ الثَّلَاثِ بِأَلْفَاظِهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ صَحِيحٌ، فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ الْمِصِّيصِيِّ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودِ بْنِ يُوسُفَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمِصِّيصِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَجَمِيُّ نَزِيلُ طَرْسُوسَ وَالْمِصِّيصَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ عَارِفٌ. وَرِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرِ الدَّارِمِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَكِلَاهُمَا (أَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ) رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ وَهُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُسْلِمٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَالضَّحَّاكُ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ فَقِيهٌ فَاضِلٌ، وَكَانَ يُدَلِّسُ وَيُرْسِلُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ ثِقَةٌ فَقِيهٌ فَاضِلٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ حَمْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وَأَمَّا رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ فَهِيَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْمِصِّيصِيُّ ثِقَةٌ حَافِظٌ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيُّ الْأَعْوَرُ أَبُو مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيُّ الْأَصْلِ نُزِيلُ بَغْدَادَ ثُمَّ الْمِصِّيصَةِ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ قَبْلَ مَوْتِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، إِلَى آخَرَ السَّنَدِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَخْلِطْ فِيهِ حَجَّاجٌ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ; بِدَلِيلِ رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ لَهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَرِوَايَةِ حَجَّاجٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبُو عَاصِمٍ ثِقَ ثَبْتٌ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَجَزَمَ بِصِحَّةِ هَذَا الْإِسْنَادِ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ فِي تَرْجَمَةِ حَمَلٍ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَفِيمَا ذَكَرَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ «الْعِلَلِ» قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا (يَعْنِي الْبُخَارِيَّ) عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ حَافِظٌ اه. فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ قَوِيٌّ فِي الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ; لِأَنَّ الْمِسْطَحُ عَمُودٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَالْمِسْطَحُ أَيْضًا عَمُودُ الْخِبَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ: تَعَرَّضُ ضَيْطَارُو خُزَاعَةَ دُونَنَا ... وَمَا خَيْرُ ضَيْطَارٍ يَقْلِبُ مِسْطَحَا يَقُولُ: تَعَرَّضَ لَنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لِيُقَاتِلُونَا وَلَيْسُوا بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهُمْ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ سِوَى الْمِسْطَحِ وَالضَّيْطَارُ، هُوَ الرَّجُلُ الضَّخْمُ الَّذِي لَا غِنَاءَ عِنْدَهُ. الرَّابِعُ: ظَوَاهِرُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [2 \ 194] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [16 \ 126] ، وَقَوْلِهِ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [42 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [22 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ الْآيَةَ [42 \ 41 - 42] . وَفِي الْمُوَطَّأِ مَا نَصُّهُ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَقَادَ وَلِيَّ رَجُلٍ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ بِعَصًا. فَقَتَلَهُ وَلَيُّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 بِعَصًا. قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَرَبَ الرَّجُلَ بِعَصًا أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْعَمْدُ وَفِيهِ الْقِصَاصُ. قَالَ مَالِكٌ: فَقَتْلُ الْعَمْدِ عِنْدَنَا أَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَضْرِبُهُ حَتَّى تَفِيضَ نَفْسُهُ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بِالْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنَ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالُوا: لَا قِصَاصَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا أَنَّ الْقِصَاصَ يُشْتَرَطُ لَهُ الْعَمْدُ، وَالْعَمْدُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَرَائِنِ الْجَازِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بِآلَةِ الْقَتْلِ كَالْمُحَدَّدِ، عُلِمَ أَنَّهُ عَامِدُ قَتْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ عُمَدُهُ لِلْقَتْلِ ; لِاحْتِمَالِ قَصْدِهِ أَنْ يَشُجَّهُ أَوْ يُؤْلِمَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ قَتْلِهِ فَيُئَوَّلُ إِلَى شِبْهِ الْعَمْدِ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مَنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ ; فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا ; فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» . قَالُوا: فَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ; لِأَنَّ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا أَنَّهَا قَتَلَتْهَا بِعَمُودٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهَا قَتَلَتْهَا بِحَجَرٍ. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَرْفُوعًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا قَوْدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ» . وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: «كُلُّ شَيْءٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 خَطَأٌ إِلَّا السَّيْفَ، وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ» . وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رَدَّ حُجَجِ مُخَالِفِيهِمْ، فَزَعَمَ أَنَّ رَضَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ إِنَّمَا وَقَعَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْجَارِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا. وَأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ ; وَلِذَلِكَ فَعَلَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ. وَرَدُّ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ لَا بِالْقِصَاصِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي (السُّنَنِ الْكُبْرَى) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ صِحَّةَ إِسْنَادِ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْقِصَاصِ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتِ الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ كَمَا تَقَدَّمَ مَا نَصُّهُ: إِلَّا أَنَّ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ زِيَادَةً لَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ قَتْلُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا، وَحَدِيثِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا، وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا ثَابِتًا أَنَّهُ قَضَى بِدِيَتِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رُوجِعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ ابْنَ طَاوُسٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَلَى خِلَافِ رِوَايَةِ عَمْرٍو، فَقَالَ لِلَّذِي رَاجِعْهُ: شَكَّكْتَنِي. وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الِاحْتِجَاجَاتِ: بِأَنَّ رَضَّهُ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ قِصَاصٌ ; فَفِي رِوَايَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَقْتُلْهُ حَتَّى اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ قَتَلَ الْجَارِيَةَ ; فَهُوَ قَتْلُ قِصَاصٍ بِاعْتِرَافِ الْقَاتِلِ، وَهُوَ نَصٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِوَاءِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَالذِّمِّيِّ ; كَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِ الْعَمْدِ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَامِدًا إِلَّا إِذَا ضَرَبَ بِالْآلَةِ الْمَعْهُودَةِ لِلْقَتْلِ بِأَنَّ الْمُثْقَلَ كَالْعَمُودِ وَالصَّخْرَةِ الْكَبِيرَةِ مِنْ آلَاتِ الْقَتْلِ كَالسَّيْفِ ; لِأَنَّ الْمَشْدُوخَ رَأْسُهُ بِعَمُودٍ أَوْ صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ حَالًا عَادَةً كَمَا يَمُوتُ الْمَضْرُوبُ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ يَكْفِي مِنَ الْقَرِينَةِ عَلَى قَصْدِ الْقَتْلِ. وَأَجَابُوا عَمَّا ثَبَتَ مِنْ قَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ بِعَمُودٍ أَوْ حَجَرٍ بِالدِّيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ كَصَاحِبِ الْقِصَّةِ. لِأَنَّ الْقَاتِلَةَ وَالْمَقْتُولَةَ زَوْجَتَاهُ مِنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهَا بِالْقِصَاصِ لَا بِالدِّيَةِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَجَرٍ صَغِيرٍ وَعَمُودٍ صَغِيرٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يَجُبْ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ عَلَى الْجَانِي، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاهِيرِ اه كَلَامُ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ وَجِيهٍ عِنْدِي ; لِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهَا قُتِلَتْ بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، وَحِمْلُهُ عَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَقْتُلُ غَالِبًا بَعِيدٌ. الثَّالِثُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَا تَقْصِدُ غَالِبًا قَتْلَ الْأُخْرَى، قَالَ مَا نَصُّهُ: وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِهِ - يَعْنِي الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ - بِأَنَّ عَمُودَ الْفُسْطَاطِ يَخْتَلِفُ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، بِحَيْثُ يَقْتُلُ بَعْضُهُ غَالِبًا وَلَا يَقْتُلُ بَعْضُهُ غَالِبًا، وَطَرْدُ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْقِصَاصِ إِنَّمَا يُشْرَعُ فِيمَا إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوْدُ لِأَنَّهَا لَمْ يَقْصِدْ مِثْلُهَا وَشَرْطُ الْقَوْدِ الْعَمْدُ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ وَلَا عَكْسِهِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لِضَرَّتِهَا خَطَأٌ فِي الْقَتْلِ شِبْهُ عَمْدٍ ; لِقَصْدِ الضَّرْبِ دُونَ الْقَتْلِ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، تَصْرِيحُ الرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ: «لَا قَوْدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ» بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» بَعْدَ أَنْ سَاقَ طُرُقَهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَبِي بَكْرَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إِسْنَادٌ فَعَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ الطَّحَّانُ مَتْرُوكٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ ضَعِيفٌ، وَمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَجَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ مَطْعُونٌ فِيهِ اه. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ «فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي بَابِ إِذَا قُتِلَ بِحَجَرٍ أَوْ عَصَا» مَا نَصُّهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «لَا قَوْدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ: وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: طُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَتِهِمْ فِي: أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ وَلَا تُخَصِّصُهُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى غَيْرِ الْمُثْلَةِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» مَا نَصُّهُ: وَذَهَبَتِ الْعِتْرَةُ وَالْكُوفِيُّونَ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الِاقْتِصَاصَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارِ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا «لَا قَوْدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، وَالْبَزَّارُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا. وَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا لَا تَخْلُو وَاحِدَةٌ مِنْهَا مِنْ ضَعِيفٍ أَوْ مَتْرُوكٍ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: طُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إِسْنَادٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الشَّوْكَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَقَدْ حَاوَلَ الشَّيْخُ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ تَقْوِيَتَهُ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ» بِدَعْوَى تَقْوِيَةِ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، وَمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، مَعَ أَنَّ جَابِرًا ضَعِيفٌ رَافِضِيٌّ، وَمُبَارَكٌ يُدَلِّسُ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ عِنْدِي: هُوَ الْقِصَاصُ مُطْلَقًا فِي الْقَتْلِ عَمْدًا بِمُثْقَلٍ كَانَ أَوْ بِمُحَدَّدٍ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ الْآيَةَ [2 \ 179] ; لِأَنَّ الْقَاتِلَ بِعَمُودٍ أَوْ صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ جَرَّأَهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَتْلِ، فَتَنْتَفِي بِذَلِكَ الْحِكْمَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ الْآيَةَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا يَسْتَلْزِمُ الْخِيَارَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْقِصَاصُ، وَالْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ جَبْرًا عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 الْجَانِي، وَالْعَفْوُ مَجَّانًا فِي غَيْرِ مُقَابِلٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَزَاهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ إِلَى الْجُمْهُورِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالُوا: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا الْقِصَاصُ، أَوِ الْعَفْوُ مَجَّانًا، فَلَوْ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ، وَقَالَ الْجَانِي: لَا أَرْضَى إِلَّا الْقَتْلَ، أَوِ الْعَفْوَ مَجَّانًا، وَلَا أَرْضَى الدِّيَةَ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ إِلْزَامُهُ الدِّيَةَ جَبْرًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ اخْتَلَفُوا فِي عَيْنِ مَا يُوجِبُهُ الْقَتْلُ عَمْدًا إِلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَوْدُ فَقَطْ ; وَعَلَيْهِ فَالدِّيَةُ بَدَلٌ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: هُمَا الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ. وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي عَفْوًا مُطْلَقًا، لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِإِرَادَةِ الدِّيَةِ وَلَا الْعَفْوِ عَنْهَا. فَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَيْنًا الْقِصَاصُ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَلْزَمُ مَعَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ. أَمَّا لَوْ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ فَهِيَ لَازِمَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ رِوَايَتَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْخِيَارَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ: «إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ» . وَمَعْنَى «يُفْدَى» فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، «وَيُودَى» فِي بَعْضِهَا: يَأْخُذُ الْفِدَاءَ بِمَعْنَى الدِّيَةِ. وَقَوْلُهُ «يَقْتُلُ» بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: أَيْ يَقْتُلُ قَاتِلَ وَلَيِّهِ. قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، مُصَرِّحٌ بِأَنْ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَأَنَّ لَهُ إِجْبَارَ الْجَانِي عَلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ، وَهَذَا الدَّلِيلُ قَوِيٌّ دَلَالَةً وَمَتْنًا كَمَا تَرَى. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [2 \ 178] ، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا رَتَّبَ الِاتِّبَاعَ بِالدِّيَةِ بِالْفَاءِ عَلَى الْعَفْوِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ الْآيَةَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ تَلْزَمُ الدِّيَةُ، وَهُوَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ قَوِيٌّ أَيْضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِلْمُخَالِفِينَ فِي هَذَا ; كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ أَنَّ الْحُجَّةَ لَهُمْ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عَمَّتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» ، فَإِنَّهُ حَكَمَ بِالْقِصَاصِ وَلَمْ يُخَيِّرْ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ لِأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِذْ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَحَكَّمَ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ بِأَحَدِهِمَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا حَكَمَ بِالْقِصَاصِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» ، أَيْ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بِشَرْطِ أَنْ يَرْضَى الْجَانِي أَنْ يُغَرَّمَ الدِّيَةَ اه. وَتَعَقَّبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» احْتِجَاجَ الطَّحَاوِيِّ هَذَا بِمَا نَصُّهُ: وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» إِنَّمَا وَقَعَ عِنْدَ طَلَبِ أَوْلِيَاءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ الْقَوْدَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ اللَّهِ نَزَلَ عَلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ إِذَا طَلَبَ الْقَوْدَ أُجِيبَ إِلَيْهِ ; وَلَيْسَ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا: مِنْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ قَالَ لِلْقَاتِلِ: رَضِيتُ أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا عَلَى أَلَّا أَقْتُلَكَ. أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَرْهًا، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْقِنَ دَمَ نَفْسِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ. .» الْحَدِيثُ جَارٍ مَجْرَى الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّصَّ إِذَا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ لَهُ، لِاحْتِمَالِ قَصْدِ نَفْسِ الْأَغْلَبِيَّةِ دُونَ قَصْدِ إِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ. وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ الْآيَةَ [4 \ 23] ; لِجَرْيِهِ عَلَى الْغَالِبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» أَنَّ الْجَانِيَ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الدِّيَةِ وَقَدَّمَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ مُمْتَنِعًا مِنْ إِعْطَاءِ الدِّيَةِ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إِعْطَائِهَا ; لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ النَّظَرَيْنِ اللَّذَيْنِ خَيَّرَ الشَّارِعُ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ بَيْنَهُمَا، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ عَلَى مَالِهِ فَيَفْتَدِي بِمَالِهِ مِنَ الْقَتْلِ. وَجَرَيَانُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْغَالِبِ يَمْنَعُ مِنَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ، وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ ... لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ قَوْلُهُ: «أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ هُوَ الْمُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَوْ أَرَادَ الدِّيَةَ وَامْتَنَعَ الْجَانِي فَلَهُ إِجْبَارُهُ عَلَى دَفْعِهَا ; لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَالَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [4 \ 29] ، وَيَقُولُ: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [2 \ 195] . وَمِنَ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَ نَفْسِهِ صَوْنًا لِمَالِهِ لِلْوَارِثِ: أَنَّ الشَّارِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ الزَّائِغِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى صَوْنِ دَمِهِ بِمَالِهِ. وَمَا احْتَجَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَذَا عَلَى أَلَّا أَقْتُلَكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْطِنِي الدِّيَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ; لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَذَا غَيْرَ الدِّيَةِ لَمْ يُجْبَرْ، لِأَنَّهُ طَلَبٌ غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: الْعَمْدُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ السُّلْطَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَالثَّانِيَةُ: شِبْهُ الْعَمْدِ. وَالثَّالِثَةُ: الْخَطَأُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَنَقَلَهُ فِي الْمُغْنِي عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: الْقَتْلُ لَهُ حَالَتَانِ فَقَطْ. الْأُولَى: الْعَمْدُ، وَالثَّانِيَةُ الْخَطَأُ. وَمَا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُ شِبْهُ الْعَمْدِ جَعَلَهُ مِنَ الْعَمْدِ. وَاسْتَدَلَّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، بَلْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، كَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ الْآيَةَ [4 \ 92] ، ثُمَّ قَالَ فِي الْعَمْدِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ الْآيَةَ [4 \ 93] ، فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَاسِطَةً، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ الْآيَةَ [33 \ 5] ، فَلَمْ يَجْعَلْ فِيهَا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَاسِطَةً وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَالْعَمْدِ الْمَحْضِ، تُسَمَّى خَطَأَ شِبْهِ عَمْدٍ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا هُوَ عَيْنُ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ مَنْ ضَرَبَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ حَجَرٍ صَغِيرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، وَهُوَ قَاصِدٌ لِلضَّرْبِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْمَضْرُوبَ لَا يَقْتُلُهُ ذَلِكَ الضَّرْبُ، فَفِعْلُهُ هَذَا شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ أَصْلَ الضَّرْبِ وَهُوَ خَطَأٌ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَقْصِدُ الْقَتْلَ، بَلْ وَقَعَ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ إِيَّاهُ. وَالثَّانِي: حَدِيثٌ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ - الْمَعْنَى - قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مُسَدَّدٌ: خَطَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، فَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ (إِلَى هَا هُنَا حَفِظْتُهُ عَنْ مُسَدَّدٍ، ثُمَّ اتَّفَقَا) : أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُذْكَرُ وَتُدْعَى مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ تَحْتَ قَدَمَيَّ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ أَوْ سَدَانَةِ الْبَيْتِ - ثُمَّ قَالَ - أَلَا إِنَّ دِيَةِ الْخَطَأِ شِبْهَ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، وَحَدِيثُ مُسَدَّدٍ أَتَمُّ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ مَعْنَاهُ. حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَاهُ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ - أَوْ فَتْحِ مَكَّةَ - عَلَى دَرَجَةِ الْبَيْتِ أَوِ الْكَعْبَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وَرَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِثْلُ حَدِيثِ خَالِدٍ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ السَّدُوسِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ عَلَى أَيُّوبَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ فِيهِ، وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ عَلَى خَالِدٍ الْحَذَّاءِ فِيهِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْنَا لَفْظَ كَلَامِهِ لِطُولِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: أَرْبَعُونَ مِنْهَا خِلْفَةٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، سَمِعَهُ مِنَ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ". اه. وَسَاقَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي فِي إِسْنَادِهَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ السُّكَّرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ الْمُزَنِيَّ يَوْمًا، وَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ عَنْ شِبْهِ الْعَمْدِ، فَقَالَ السَّائِلُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ الْقَتْلَ فِي كِتَابِهِ صِفَتَيْنِ: عَمْدًا وَخَطَأً، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ؟ وَلِمَ قُلْتُمْ شِبْهَ الْعَمْدِ؟ فَاحْتَجَّ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ مُنَاظِرُهُ: أَتَحْتَجُّ بِعَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ؟ فَسَكَتَ الْمُزَنِيُّ فَقُلْتُ لِمُنَاظِرِهِ: قَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ. فَقَالَ: وَمَنْ رَوَاهُ غَيْرُ عَلِيٍّ؟ قُلْتُ: رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ. قَالَ لِي: فَمَنْ عُقْبَةُ بْنُ أَوْسٍ؟ فَقُلْتُ: عُقْبَةُ بْنُ أَوْسٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ مَعَ جَلَالَتِهِ. فَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 لِلْمُزَنِيِّ: أَنْتَ تُنَاظِرُ أَوْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَهُوَ يُنَاظِرُ. لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنِّي، ثُمَّ أَتَكَلَّمُ أَنَا، اه. ثُمَّ شَرَعَ الْبَيْهَقِيُّ يَسُوقُ طُرُقَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأَسَانِيدِ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهْمٌ، وَآفَتُهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ. وَالْمَعْرُوفُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا جَاءَ صَحِيحًا مَنْ وَجْهٍ لَا يُعَلُّ بِإِتْيَانِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ صَحِيحٍ، وَالْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي مُنَاظَرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ لِلْعِرَاقِيِّ الَّذِي نَاظَرَ الْمُزَنِيَّ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا عَرَفْتَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حَالَاتِ الْقَتْلِ: هَلْ هِيَ ثَلَاثٌ، أَوِ اثْنَتَانِ؟ وَعَرَفْتَ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: عَمْدٌ مَحْضٌ، وَخَطَأٌ مَحْضٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا أَثْبَتَ شَيْئًا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ، فَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ زِيَادَةُ أَمْرٍ سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى الْجَارِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُنْسَخُ بِالْآحَادِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ " الْأَنْعَامِ ". وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَالَاتِ الْقَتْلِ ثَلَاثٌ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَمْدَ الْمَحْضَ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْمَ الْعَفْوِ فِيهِ. وَالْخَطَأُ شِبْهُ الْعَمْدِ. وَالْخَطَأُ الْمَحْضُ فِيهِمَا الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَسْنَانِ الدِّيَةِ فِيهِمَا، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَقَادِيرَ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ إِذَا وَقَعَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ، وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ. اعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَسْنَانِهَا فِيهِمَا، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَالْمُغِيرَةِ. وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ. لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا "، وَبَعْضُ طُرُقِهِ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي بَيَانِ السِّتِّينَ الَّتِي لَمَّ يَتَعَرَّضُ لَهَا هَذَا الْحَدِيثُ: (بَابُ صِفَةِ السِّتِّينَ الَّتِي مَعَ الْأَرْبَعِينَ) ثُمَّ سَاقَ أَسَانِيدَهُ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيٍّ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ عَنْهُ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي مُسْتَدِلًّا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَدَلِيلُهُ هُوَ مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَإِنَّ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، وَمَا صُولِحُوا فَهُوَ لَهُمْ "، وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْلِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الَّذِي قَدَّمْنَا. ثُمَّ قَالَ مُسْتَدِلًّا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: " كَانَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَاعًا: خَمْسًا وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ حِقَّةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ " وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ اه مِنْهُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَانَ يَقُولُ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ، وِديَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَفِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثٌ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ثَنْيَةً إِلَى بَازِلِ عَامِهَا، وَكُلُّهَا خِلْفَةٌ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أَنَّهَا أَرْبَاعٌ: رُبْعٌ بَنَاتُ لَبُونٍ، وَرُبْعٌ حِقَاقٌ وَرُبْعٌ جِذَاعٌ " وَرُبْعٌ ثَنْيَةٌ إِلَى بَازِلِ عَامِهَا، هَذَا حَاصِلُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا: مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ كَوْنِهَا ثَلَاثَةً حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ مَا نَصُّهُ: قَدِ اخْتَلَفُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ، وَقَوْلُ مَنْ يُوَافِقُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ إِذَا عَفَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ: إِنَّمَا هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ إِجْمَاعًا، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا حَالَةٌ غَيْرُ مُنَجَّمَةٍ فِي سِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: بِتَنْجِيمِهَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمْدَ لَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ مُقَرَّرَةٌ أَصْلًا، بَلِ الْوَاجِبُ فِيهِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَانِي وَأَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ حَالٌ عِنْدَهُ. أَمَّا الدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَهِيَ مُنَجَّمَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، يُدْفَعُ ثُلُثُهَا فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السَّنَةَ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الدِّيَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالدِّيَةِ، وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِي مَالِ الْجَانِي لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ; لِقَصْدِهِ الضَّرْبَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْلَ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، اه مِنْ " الْمُغْنِي " لِابْنِ قُدَامَةَ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُ، لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَقُولُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ أَصْلًا، فَهُوَ عِنْدَهُ عَمْدٌ مَحْضٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَهُوَ أَخْمَاسٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاتَّفَقَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى السِّنِّ وَالصِّنْفِ فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَامِسِ، أَمَّا الْأَرْبَعُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ فَهِيَ عِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَأَمَّا الْخَامِسُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: هُوَ عِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْوَارِدِ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، ثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرًا "، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْخَطَأِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورًا، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حِقَّةً. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا الصَّبَّاحُ بْنُ مُحَارِبٍ، ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُورًا " وَنَحْوُ هَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنْ فِيهِ: وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ بَدَلَ بَنِي مَخَاضٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ ": إِنَّ إِسْنَادَهُ أَقْوَى مِنْ إِسْنَادِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوعِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فِي هَذَا الْخَامِسِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَهُوَ أَنَّهُ عِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا، مَعَ عِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حَقَّةً، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَرَبِيعَةُ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي "، وَقَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنِ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَدَى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ " وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الرَّفَّاءُ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَعِيسَى بْنُ مِينَا، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ فُقَهَائِنَا الَّذِي يُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ ; وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، فِي مَشْيَخَةٍ جُلَّةٍ سِوَاهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، وَرُبَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ فَأَخَذْنَا بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْعَقْلُ فِي الْخَطَأِ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ: فَخُمْسٌ جِذَاعٌ، وَخُمْسٌ حِقَاقٌ، وَخُمْسٌ بَنَاتُ لَبُونٍ، وَخُمْسٌ بَنَاتُ مَخَاضٍ، وَخُمْسٌ بَنُو لَبُونٍ ذُكُورٍ، وَالسِّنُّ فِي كُلِّ جُرْحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: جَعَلَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّنْفَ الْخَامِسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمَخَاضِ الذُّكُورِ لَا مِنْ أَبْنَاءِ اللَّبُونِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ الْمُصَرِّحِ بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِغَيْرِهِ مِنَ الرَّأْيِ. وَسَنَدُ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ صَالِحُونَ لِلِاحْتِجَاجِ، إِلَّا الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ فَإِنَّ فِيهِ كَلَامًا كَثِيرًا وَاخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يُوَثِّقُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُضَعِّفُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ تَضْعِيفُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَالتَّدْلِيسِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: حَجَّاجٌ الْمَذْكُورُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَأَعَلَّ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْحَدِيثَ بِالْوَقْفِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالُوا: رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأٌ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ قَرِيبًا. أَمَّا وَجْهُ صَلَاحِيَّةِ بَقِيَّةِ رِجَالِ السُّنَنِ، فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنْ سَنَدِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مُسَدَّدٌ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ سَعِيدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ صَدُوقٌ. وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْعَبْدِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ، فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ وَحْدَهُ مَقَالٌ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مُتْقِنٌ. وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَهُمَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ الْمَذْكُورُ. وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ عِنْدَهُمَا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَهُوَ ثِقَةٌ. وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ عِنْدَهُمَا خَشْفُ بْنُ مَالِكٍ الطَّائِيُّ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. وَالطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالطَّبَقَةُ الْأُولَى عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَاصِمٍ الْجُعْفِيُّ الْهِسِنْجَانِيُّ الرَّازِيُّ، وَهُوَ مَقْبُولٌ. وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُ الصَّبَّاحُ بْنُ مُحَارِبٍ التَّيْمِيُّ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الرَّيِّ وَهُوَ صَدُوقٌ، رُبَّمَا خَالَفَ. وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَهُ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ الْمَذْكُورِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْحَدِيثَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأَوْلَى مِنْ قِبَلِ حَجَّاجِ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 أَرْطَاةَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ، وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَالثَّانِيَةُ إِعْلَالُهُ بِالْوَقْفِ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَدَى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ " وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الَّذِي قُتِلَ فِي خَيْبَرَ قُتِلَ عَمْدًا، وَكَلَامُنَا فِي الْخَطَأِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ يَجْعَلُ أَبْنَاءَ اللَّبُونِ بَدَلَ أَبْنَاءِ الْمَخَاضِ رِوَايَةَ الدَّارَقُطْنِيِّ الْمَرْفُوعَةَ الَّتِي قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ سَنَدَهَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبْنَاءِ الْمَخَاضِ، وَكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَفِي دِيَةِ الْخَطَأِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَاسْتَدَلُّوا لَهَا بِأَحَادِيثَ أُخْرَى انْظُرْهَا فِي " سُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ " وَغَيْرِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَا شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ، ثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ، قَالَ: فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَضَى فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَمْحِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ مُحَمَّدٌ ". قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَرَأْتُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الطَّالَقَانِيِّ قَالَ: ثِنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: ذَكَرَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَرَضَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ مُوسَى، وَقَالَ: وَعَلَى أَهْلِ الطَّعَامِ شَيْئًا لَمْ أَحْفَظْهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مِنْ قُتِلَ خَطَأً فَدَيْتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حَقَّةً، وَعَشَرَةٌ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ ". قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَوِّمُهَا عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ عَدْلَهَا مِنَ الْوَرِقِ، وَيُقَوِّمُهَا عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ إِذَا غَلَتْ رَفَعَ قِيمَتَهَا، وَإِذَا هَانَتْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا عَلَى نَحْوِ الزَّمَانِ مَا كَانَ. فَبَلَغَ قِيمَتُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، إِلَى ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ عَدْلِهَا مِنَ الْوَرَقِ. قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الْبَقَرِ: عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الشَّاءِ: أَلْفَيْ شَاةٍ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ، فَمَا فَضَلَ فَلِلْعَصَبَةِ " وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْ يَعْقِلَ عَلَى الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا مَنْ كَانُوا، وَلَا يَرِثُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا، وَإِنْ قُتِلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَهُمْ يَقْتُلُونَ قَاتِلَهَا ". وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ (ح) ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَذَكَرَ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [9 \ 74] فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَةَ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَضَى بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا " - يَعْنِي فِي الدِّيَةِ - انْتَهَى كَلَامُ النَّسَائِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْبَارِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، ثَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا " قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [9 \ 74] قَالَ: بِأَخْذِهِمُ الدِّيَةَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، قَالَ مَالِكٌ: فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ الدِّيَةَ تَقْطَعُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ، قَالَ مَالِكٌ: وَالثَّلَاثُ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَى فِي ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ الذَّهَبُ وَلَا الْوَرِقُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ الْوَرِقُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ الذَّهَبُ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْأَوَّلُ: جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، يَدْفَعُ ثُلْثَهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلَاثِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ فِي أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ; فَإِنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَعَلَا دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَاتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ اه. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَهُوَ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» مَعَ بَيَانِ شَرْطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجَعْلُ مَنْ سَكَتَ مِثْلَ مَنْ أَقَرْ ... فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِهِمْ قَدِ اشْتُهِرْ فَالِاحْتِجَاجُ بِالسُّكُوتِي نَمَّا ... تَفْرِيعَهُ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَا وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ وَالضِّدِّ حَرِي ... مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ وَتَأْجِيلُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَفْسِ الْجَانِي ; هَلْ يَلْزَمُهُ قِسْطٌ مِنْ دِيَةِ الْخَطَأِ كَوَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ، أَوْ لَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الْجَانِيَ يَلْزَمُهُ قِسْطٌ مِنَ الدِّيَةِ كَوَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ» وَظَاهِرُهُ قَضَاؤُهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: أَنْ أَصْلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَهُمْ مُعِينُونَ لَهُ، فَيَتَحَمَّلُ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا يَتَحَمَّلُ رَجُلٌ مِنْ عَاقِلَتِهِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ عَنِ الْجَانِي دِيَةَ الْخَطَأِ. فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْعَاقِلَةَ هُمْ أَهْلُ دِيوَانِ الْقَاتِلِ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ، وَأَهْلُ الدِّيوَانِ أَهْلُ الرَّايَاتِ، وَهُمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ كَتَبَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الدِّيوَانِ لِمُنَاصَرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ، وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَتَّسِعِ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ نَسَبًا عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصِبَاتِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبُدَاءَةُ بِأَهْلِ الدِّيوَانِ أَيْضًا، فَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَطَاؤُهُمْ قَائِمًا فَعَاقِلَتُهُ عَصَبَتُهُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَلَا يَحْمِلُ النِّسَاءَ وَلَا الصِّبْيَانَ شَيْئًا مِنَ الْعَقْلِ. وَلَيْسَ لِأَمْوَالِ الْعَاقِلَةِ حَدٌّ إِذَا بَلَغَتْهُ عَقَلُوا، وَلَا لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ حَدٌّ، وَلَا يُكَلَّفُ أَغْنِيَاؤُهُمُ الْأَدَاءَ عَنْ فُقَرَائِهِمْ. وَمِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَصَبَةً فَعَقْلُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَوَالِي بِمَنْزِلَةِ الْعَصَبَةِ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْقَرَابَةِ الِابْنُ وَالْأَبُ. قَالَ سَحْنُونٌ: إِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ أَلْفًا فَهُمْ قَلِيلٌ، يُضَمُّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إِلَيْهِمْ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَصَبَةِ مِنَ الدِّيَةِ أَكْثَرُ مِنْ دِرْهَمٍ وَثُلُثٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، فَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الْعَقْلِ إِلَّا إِذَا كَانُوا عَصَبَةً، وَمَذْهَبُهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّ الْعَاقِلَةَ هِيَ الْعَصَبَةُ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَبْنَاءُ وَالْآبَاءُ؟ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْعَصَبَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْعَاقِلَةِ ; لِظَاهِرِ حَدِيثِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ: «أَنَّ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ لِوَلَدِهَا، وَالدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهَا» ، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ دُخُولِ أَوْلَادِهَا، فَقِيسَ الْآبَاءُ عَلَى الْأَوْلَادِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْمِلُونَ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُونَ. هَذَا لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ وَلَا يُؤْذِي، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ كَمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَفْرِضُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ مِثْقَالٍ ; لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ يَتَقَدَّرُ فِي الزَّكَاةِ فَكَانَ مُعَبَّرًا بِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبُعُ مِثْقَالٍ ; لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ لِكَوْنِ الْيَدِ لَا تُقْطَعُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَمَا دُونَ رُبُعِ دِينَارٍ لَا تُقْطَعُ فِيهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ. اه كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» . الْفَرْعُ الرَّابِعُ: لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنَ الْكَفَّارَةِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [4 \ 92] ، بَلْ هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي إِجْمَاعًا، وَشَذَّ مَنْ قَالَ: هِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَاجِبَةٌ إِجْمَاعًا بِنَصِّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمْدِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ مَشْهُورٌ، وَأَجْرَى الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ ; لِأَنَّ الْعُمَدَ فِي الْقَتْلِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَهُ الْعِتْقُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَاتِلِ عَمْدًا: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [4 \ 93] ، فَهَذَا الْأَمْرُ أَعْلَى وَأَفْخَمُ مِنْ أَنْ يُكَّفَرَ بِعِتْقِ رَقَبَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالدِّيَةُ لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَّأً ثَابِتًا بِإِقْرَارِ الْجَانِي وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، بَلْ إِنَّمَا تَحْمِلُهَا إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالثَّوْرِيُّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَحَكَى غَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: دِيَتُهَا كَدِيَةِ الرَّجُلِ. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَجِرَاحُ الْمَرْأَةِ تُسَاوِي جِرَاحَ الرَّجُلِ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ فَعَلَى النِّصْفِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَوِيَانِ إِلَى النِّصْفِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ; لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَةُ نَفْسِهِمَا فَاخْتَلَفَ أَرْشُ جِرَاحِهُمَا. اه وَهَذَا الْقَوْلُ أَقِيسُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: كَلَامُ ابْنِ قُدَامَةَ وَالْخِرَقِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا بَلَغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَأَنَّ تَفْضِيلَهُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمَا أَنَّ دِيَةَ جَائِفَةِ الْمَرْأَةِ وَمَأْمُومَتِهَا كَدِيَةِ جَائِفَةِ الرَّجُلِ وَمَأْمُومَتِهِ ; لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَأَنَّ عَقْلَهَا لَا يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عَقْلِهِ إِلَّا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، كَدِيَةِ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ مِنَ الْيَدِ، فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعِينَ مِنَ الْإِبِلِ، إِذْ فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ، وَالْأَرْبَعُونَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلْثِ الْمِائَةِ. وَكَلَامُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا بَلَغَ الثُّلُثُ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ تَكُونُ دِيَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ مَحَلَّ اسْتِوَائِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 إِنَّمَا هُوَ فِيمَا دُونَ الثُّلْثِ خَاصَّةً كَالْمُوَضَّحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْإِصْبَعِ وَالْإِصْبَعَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَهُمَا قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَصَحَّهُمَا هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ بِالْحَدِيثِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّ قَطَعَتْ مِنْ يَدِهَا ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ كَانَتْ دِيَتُهَا ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ كَأَصَابِعِ الرَّجُلِ، لِأَنَّهَا دُونَ الثُّلْثِ، وَإِنْ قَطَعَتْ مِنْ يَدِهَا أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ كَانَتْ دِيَتُهَا عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّهَا زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ فَصَارَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَكَوْنُ دِيَةِ الْأَصَابِعِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وِدِيَةِ الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعَةِ عِشْرِينَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ كَمَا تَرَى. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ، فَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي ثَلَاثٍ؟ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ. بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ، أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. فَقَالَ سَعِيدٌ: هِيَ السُّنَّةُ يَابْنَ أَخِي. وَظَاهِرُ كَلَامِ سَعِيدٍ هَذَا: أَنَّ هَذَا مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ سَعِيدًا لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ مُرَادَهُ بِالسُّنَّةِ هُنَا سُنَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» اه وَهَذَا يُعَضِّدُ قَوْلَ سَعِيدٍ: إِنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِسْنَادُ النَّسَائِيِّ هَذَا ضَعِيفٌ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ جِهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ضَعِيفَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ لَيْسَ بِشَامِيٍّ، بَلْ هُوَ حِجَازِيٌّ مَكِّيٌّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 الثَّانِيَةُ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ عَنْعَنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُدَلِّسٌ، وَعَنْعَنَةُ الْمُدَلِّسُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا مَا لَمْ يَثْبُتِ السَّمَاعُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْإِعْلَالَ مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - قَالَ: إِنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ تَصْحِيحَ ابْنِ خُزَيْمَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «بُلُوغِ الْمَرَامِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثُونَ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ عِشْرُونَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَهِدَ مِنْ حِكْمَةِ هَذَا الشَّرْعِ الْكَرِيمِ كَمَا تَرَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنْ جَعَلَ الْمَرْأَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا بَلَغَ الثَّالِثَ فَصَاعِدًا أَنَّهُ فِي الزَّائِدِ فَقَطْ، فَيَكُونُ فِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِهَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ، فَيَكُونُ النَّقْصُ فِي الْعَشْرَةِ الرَّابِعَةُ فَقَطْ، وَهَذَا مَعْقُولٌ وَظَاهِرٌ، وَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنَمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ» ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ ثِقَةٌ فَاضِلٌ، فَالضَّعْفُ الَّذِي يَعْنِيهِ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي الْكُلِّ» . وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْهُ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ وَعَنْ عُمَرَ، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ أَصَحَّ الْأَقْوَالِ وَأَظْهَرُهَا دَلِيلًا: أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ دِيَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ عِنْدَ تَقْوِيمِهِ الدِّيَةَ لَمَّا غَلَتِ الْإِبِلُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مَوْهَبٍ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مِثْلَهُ اه. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. . - وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ» . وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: دِيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ; كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا قَدْرُ ثُلْثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. كَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِأَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهِدِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ضَعِيفَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ضَعْفَهَا فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» ، وَقَدْ حَاوَلَ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ صَالِحَةً لِلِاحْتِجَاجِ، وَهِيَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ. أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [4 \ 92] ، فَيُقَالُ فِيهِ: هَذِهِ دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ، وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ: أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْ قَدْرَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَلَا الْكَافِرِ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. أَمَّا اسْتِوَاؤُهُمَا فِي قَدْرِ الْكَفَّارَةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى. وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا دَلَالَتَهَا أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ أَقْوَى، وَيُؤَيِّدُهَا: أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» فَمَفْهُومُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 قَوْلِهِ «الْمُؤْمِنَةِ» أَنَّ النَّفْسَ الْكَافِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ فِي هَذِهِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِهِ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَنْهُ. وَلَا يَقُولُ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيِّدِ، فَيَسْتَدِلُّ بِإِطْلَاقِ النَّفْسِ عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى عَلَى شُمُولِهَا لِلْكَافِرِ، وَالْقَوْلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْكَافِرِ الْمَقْتُولِ عَمْدًا فَتَكُونُ دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ خَطَأً فَتَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لَا نَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سَنَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ: فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا ثُلْثُ خُمْسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ; فَهِيَ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ; مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ قَالَ: دِيَتُهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ بِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» لَا يَتَّجِهُ، لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا صَلَاحِيَةَ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَخْذُ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ فَقَطْ، بِدَلِيلِ أَنَّ نِسَاءَهُمْ لَا تَحِلُّ، وَذَبَائِحُهُمْ لَا تُؤْكَلُ اه. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : إِنَّ قَوْلَ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثُ خُمْسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لَمْ يُخَالِفْهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حُجَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: دِيَةُ الْمُرْتَدِّ إِنْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ كَدِيَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَأَمَّا الْحَرُبِيُّونَ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ مُطْلَقًا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مُوجَبِ التَّغْلِيظِ فِي الدِّيَةِ، وَبِمَ تُغَلَّظُ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْقَتْلُ فِي الْحَرَمِ، وَكَوْنُ الْمَقْتُولِ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ; فَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِزِيَادَةِ ثُلُثِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 فَمَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ، وَمَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ فِدْيَةٌ وَثُلْثَانِ، وَمَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَدِيَتَانِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ; نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَغَيْرُهُمْ ; كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُغَلِّظُ الدِّيَةُ بِالْحَرَمِ، وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَذِي الرَّحِمِ الْمُحْرِمِ، وَفِي تَغْلِيظِهَا بِالْإِحْرَامِ عَنْهُمْ وَجْهَانِ. وَصِفَةُ التَّغْلِيظِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هِيَ أَنْ تَجْعَلَ دِيَةَ الْعَمْدِ فِي الْخَطَأِ، وَلَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ قَتْلًا شِبْهَ عَمْدٍ ; كَمَا فَعَلَ الْمُدْلِجِيُّ بِأَبِيهِ، وَالْجَدُّ وَالْأُمُّ عِنْدَهُ كَالْأَبِ. وَتَغْلِيظُهَا عِنْدَهُ: هُوَ تَثْلِيثُهَا بِكَوْنِهَا ثَلَاثِينَ حَقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّ الْأَسْنَانِ كَانَتْ، وَلَا يَرِثُ الْأَبُ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ دِيَةِ الْوَلَدِ وَلَا مِنْ مَالِهِ شَيْئًا. وَظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ مُطْلَقًا مِنْ دِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْخَطَأِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنَعُوا مِيرَاثَهُ مِنَ الدِّيَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ مَالِ التَّرِكَةِ. وَالْإِطْلَاقُ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِصَّةُ الْمُدْلِجِيُّ: هِيَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ «قَتَادَةُ» حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ ; فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنَزَّى فِي جُرْحِهِ فَمَاتَ، فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جَعْشَمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَعْدِدْ عَلَى مَاءِ قَدِيدٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ، فَلَمَّا قَدِمَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثِينَ حَقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خِلْفَةً، وَقَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: هَاأَنَذَا. قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» . الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ; كَسَائِرِ مَا خَلَّفَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، لَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ، وَزَادَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ قَتْلُهُمْ أَشْيَمَ خَطَأً. وَمَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. رُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَزُرَارَةُ بْنُ جَرِيٍّ. كَمَا ذَكَرَهُ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا نَصَّ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَوَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ ; قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ. وَهُوَ مُعْتَضِدٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَبِمَا يَأْتِي، وَبِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ قُرَّةَ بْنِ دَعْمُوصٍ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَعَمِّي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدَ هَذَا دِيَةُ أَبِي فَمُرْهُ يُعْطِنِيهَا. وَكَانَ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «أَعْطِهِ دِيَةَ أَبِيهِ» فَقُلْتُ: هَلْ لِأُمِّي فِيهَا حَقٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، وَكَانَتْ دِيَتُهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ. وَقَدْ سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ هَكَذَا: قَالَ قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ: أَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: أَنَا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَعَمِّي - إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا - وَسَكَتَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ صَالِحُونَ لِلِاحْتِجَاجِ، إِلَّا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيُّ فَلَمْ نَرَ مَنْ جَرَحَهُ وَلَا مَنْ عَدَلَهُ. وَذَكَرَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ تَرْجَمَةً، وَذَكَرَا أَنَّهُ سَمِعَ قُرَّةَ بْنَ دَعْمُوصٍ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ جَرْحًا وَلَا تَعْدِيلًا. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ تُقَسَّمُ كَسَائِرِ تَرَكَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ; سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا مِيرَاثٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 الدِّيَةَ لَا يَرِثُهَا إِلَّا الْعَصَبَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا هُوَ رَأْيُ عُمَرَ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ: أَنْ يُوَرِّثَ زَوْجَةَ أَشْيَمَ الْمَذْكُورِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ مِيرَاثٌ، وَلَكِنَّهَا لَا تَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، وَلَا تَنْفُذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيُّ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَقُتِلَ وَأُخِذَتْ دِيَتُهُ ; فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْأُخْرَى: لَيْسَ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ. وَمَبْنَى هَذَا: عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ بَدَلَهَا لَهُ كَدِيَةِ أَطْرَافِهِ الْمَقْطُوعَةِ مِنْهُ فِي الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهَا عَنِ الْقَاتِلِ بَعْدَ جُرْحِهِ إِيَّاهُ كَانَ صَحِيحًا وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ مَوْرُوثٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَمْوَالِهِ. وَالْأُخْرَى أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، وَيَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِوَرَثَتِهِ ابْتِدَاءً، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمَيِّتَ يُجَهَّزُ مِنْهَا. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ يُقَرَّرُ مِلْكُ الْمَيِّتِ لِدِيَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَتُوَرَّثُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ; لِتَصْرِيحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضَّحَّاكِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ، وَالْمِيرَاثُ لَا يُطْلِقُ شَرْعًا إِلَّا عَلَى مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَيِّتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُ هَذَا السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [17 \ 33] . فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ فِي الْآيَةِ: الْوَرَثَةُ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ; فَإِنْ عَفَا مَنْ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ بِهِ الْقِصَاصُ، وَتَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ لِمَنْ لَمْ يَعْفُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ عَفْوٌ ; أَيْ: فَهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ عِنْدَهُمْ فِي اسْمِ الْوَلِيِّ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ فِي الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لِلْعَصَبَاتِ خَاصَّةً، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ تَفْصِيلٌ: فَالْوَلِيُّ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّذِي هُوَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ أَوِ الْعَفْوُ عِنْدَهُ هُوَ أَقْرَبُ الْوَرَثَةِ الْعَصَبَةِ الذُّكُورِ، وَالْجَدُّ وَالْإِخْوَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْعَاصِبِ كَالْوَلَاءِ ... ، إِلَّا الْجَدُّ وَالْأُخْوَةُ فَسِيَّانٌ اه. وَلَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ عِنْدَهُ حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ وَلَا الْعَفْوِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ غَيْرُ الْوَارِثَاتِ: كَالْعَمَّاتِ، وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ، وَبَنَاتِ الْعَمِّ. أَمَّا النِّسَاءُ الْوَارِثَاتُ: كَالْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأُمَّهَاتِ فَلَهُنَّ الْقِصَاصُ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ مُسَاوٍ لَهُنَّ فِي الدَّرَجَةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَلِلنِّسَاءِ إِنْ وَرِثْنَ وَلَمْ يُسَاوِهُنَّ عَاصِبٌ فَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: «إِنْ وَرِثْنَ» أَنَّ غَيْرَ الْوَارِثَاتِ لَا حَقَّ لَهُنَّ، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: «وَلَمْ يُسَاوِهُنَّ عَاصِبٌ» أَنَّهُنَّ إِنْ سَاوَاهُنَّ عَاصِبٌ: كَبَنِينٍ، وَبَنَاتٍ، وَإِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ، فَلَا كَلَامَ لِلْإِنَاثِ مَعَ الذُّكُورِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُنَّ عَاصِبٌ غَيْرُ مُسَاوٍ لَهُنَّ: كَبَنَاتٍ، وَإِخْوَةٍ ; فَثَالِثُ الْأَقْوَالِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْقِصَاصَ وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ ; أَعْنِي وَلَوْ عَفَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَلِكُلٍّ الْقَتْلُ وَلَا عَفْوَ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ ; يَعْنِي: وَلَوْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْوَلِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْوَرَثَةُ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِطْلَاقِ الْوَلِيِّ عَلَى الْأُنْثَى ; لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الْوَلِيِّ الشَّامِلِ لِكُلِّ مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ سَبَبٌ يَجْعَلُ كُلًّا مِنْهُمَا يُوَالِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الْآخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [9 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ الْآيَةَ [8 \ 75] . وَالدَّلِيلُ عَلَى شُمُولِ الْوَلِيِّ فِي الْآيَةِ لِلْوَارِثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَلَوْ بِالزَّوْجِيَّةِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: (بَابُ عَفْوِ النِّسَاءِ عَنِ الدَّمِ) : حَدَّثْنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ عَنِ الْأَزْوَاعِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ حِصْنًا، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ يُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمُقْتَتِلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَفْوَ النِّسَاءِ فِي الْقَتْلِ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الْأَوْلِيَاءِ، وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: «يَنْحَجِزُوا» يَكُفُّوا عَنِ الْقَوَدِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حِصْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ (ح) . وَأَنْبَأْنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُصَيْنٌ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَعَلَى الْمُقْتَتَلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً» اه. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مُقَارِبٌ ; لِأَنَّ رِجَالَهُ صَالِحُونَ لِلِاحْتِجَاجِ، إِلَّا حِصْنًا الْمَذْكُورَ فِيهِ فَفِيهِ كَلَامٌ. فَطَبَقَتُهُ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: هِيَ دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ الْهَاشِمِيُّ مَوْلَاهُمُ الْخَوَارِزْمِيِّ نَزِيلُ بَغْدَادَ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْخُزَاعِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَمَّارٍ الْمَرْوَزِيُّ ثِقَةٌ. وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُمَا: هِيَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الدِّمَشْقِيُّ ثِقَةٌ، لَكِنَّهُ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ وَالتَّسْوِيَةُ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ. وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَهُمَا: هِيَ الْإِمَامُ الْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو أَبُو [عَمْرٍو] الْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْمَشْهُورُ، ثِقَةٌ جَلِيلٌ. وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ عِنْدَهُمَا: هِيَ حِصْنٌ الْمَذْكُورُ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوِ ابْنُ مِحْصَنٍ التَّرَاغِمِيُّ أَبُو حُذَيْفَةَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : مَقْبُولٌ. وَقَالَ فِيهِ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» : قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ شَيْخٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، لَهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ حَدِيثٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وَاحِدٌ «عَلَى الْمُقْتَتِلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً» ، قَلْتُ: وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يُعْرَفُ حَالُهُ (اهـ) وَتَوْثِيقُ ابْنِ حِبَّانَ لَهُ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهِ ; لِأَنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ مُدَّعٍ أَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْرَ الْأَوْزَاعِيِّ. وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ عِنْدَهُمَا: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ. وَالطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ عِنْدَهُمَا: عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ حِصْنًا الْمَذْكُورَ فِي الثِّقَاتِ، وَأَنَّ بَقِيَّةَ طَبَقَاتِ السَّنَدِ كُلِّهَا صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ إِذَا كَانَ بَعْضُ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ غَائِبًا ; فَهَلْ لِلْبَالِغِ الْحَاضِرِ الْعَاقِلِ: الْقِصَاصُ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ، وَبُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ؟ أَوْ يَجِبُ انْتِظَارُ قُدُومِ الْغَائِبِ، وَبُلُوغِ الصَّغِيرِ. .! إِلَخْ. فَإِنْ عَفَا الْغَائِبُ بَعْدَ قُدُومِهِ، أَوِ الصَّغِيرُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَثَلًا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ ; فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ انْتِظَارِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لِلْكِبَارِ الْعُقَلَاءِ اسْتِيفَاؤُهُ ; وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُغْنِي. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَيْضًا: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ انْتِظَارِ قُدُومِ الْغَائِبِ، وَمِنْهُ اسْتِبْدَادُ الْحَاضِرِ دُونَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ قَرِيبَةً فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً فَفِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 خِلَافٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ الِانْتِظَارُ وَلَوْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، مِنْهُمْ سَحْنُونٌ: لَا يُنْتَظَرُ بَعِيدُ الْغَيْبَةِ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى بِقَوْلِهِ: وَانْتَظِرْ غَائِبًا لَمْ تَبْعُدْ غَيْبَتُهُ، لَا مُطْبِقًا وَصَغِيرًا لَمْ يَتَوَقَّفِ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " مَا نَصُّهُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فِيهِ حَقًّا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَاسْتَحَقَّهُ ; وَلَوْ نَافَاهُ الصِّغَرُ مَعَ غَيْرِهِ لَنَافَاهُ مُنْفَرِدًا كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا عِنْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ مُسْتِحَقًّا بَعْدَهُ ; كَالرَّقِيقِ إِذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتِحَقًّا لِلْقِصَاصِ لَمَا اسْتَحَقَّ بَدَلَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّغِيرُ لَاسْتَحَقَّهُ وَرَثَتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَمْ يَرِثْهُ كَسَائِرِ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ انْتِظَارُ بُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَلَا إِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْقَاصِرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاجِزًا عَنِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ كَانَ غَيْرُهُ يَتَوَلَّى النَّظَرُ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفِ بِالْمَصْلَحَةِ فِي جَمِيعِ حُقُوقِهِ، وَأَوْلَى مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْقِصَاصِ الْوَرَثَةُ الْمُشَارِكُونَ لَهُ فِيهِ. وَهَذَا لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي ; لِأَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِمُوجِبِهَا فَيُقَالُ فِيهِ: هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَكِنَّهُ قَاصِرٌ فِي الْحَالِ، فَيَعْمَلُ غَيْرُهُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ ; وَلَا سِيَّمَا شَرِيكُهُ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِتَعْطِيلِ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ إِلَى زَمَنٍ بَعِيدٍ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيَّ قِصَاصًا بِقَتْلِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَعْضُ أَوْلَادِ عَلِيٍّ إِذْ ذَاكَ صِغَارٌ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِقَتْلِهِ بُلُوغَهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ، وَلَوْ كَانَ انْتِظَارُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَاجِبًا لَانْتَظَرَهُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا مِنْ قِبَلِ الْمُخَالِفِينَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ كَافِرٌ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِلٌّ دَمَ عَلِيٍّ، وَمَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مِثْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِذَا كَانَ كَافِرًا فَلَا حُجَّةَ فِي قَتْلِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَهُوَ مُحَارِبٌ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَلَ وَجَبَ قَتْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ عَفَا أَوْلِيَاءُ الدَّمِ ; كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " وَإِذَنْ فَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 دَاعِي لِلِانْتِظَارِ. قَالَ: الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى مَا نَصُّهُ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا اسْتَبَدَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِقَتْلِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الصِّغَارِ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ قَتَلَهُ حَدًّا لِكُفْرِهِ لَا قِصَاصًا. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": فَأَمَّا ابْنُ مُلْجِمٍ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ قَتَلَهُ بِكُفْرِهِ ; لِأَنَّهُ قَتَلَ عَلِيًّا مُسْتَحِلًّا لِدَمِهِ، مُعْتَقِدًا كُفْرَهُ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: قَتَلَهُ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ، فَيَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَتَلَ، وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ، وَهُوَ إِلَى الْإِمَامِ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْإِمَامُ، وَلِذَلِكَ لَمَّ يَنْتَظِرِ الْغَائِبِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِي وُجُوبِ انْتِظَارِهِمْ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ قِصَاصًا فَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْمُغْنِي. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِقَتْلِهِ بُلُوغَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيٍّ ; فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَ قُتِلَ أَبُوهُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ كَانَ قَتْلَ مُحَارَبَةٍ لَا قِصَاصًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اه. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ كَافِرٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ "؟ قُلْتُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ: " صَدَقْتَ. فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ "؟ قُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى يَافُوخِهِ - فَيُخَضِّبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ - مِنْ دَمِ رَأْسِهِ " قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أَشْقَاكُمْ " وَقَدْ سَاقَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " الِاسْتِيعَابِ " وَغَيْرُهُمَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّارِيخِ وَالْأَخْبَارِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ قَتْلَ ابْنِ مُلْجِمٍ كَانَ قِصَاصًا لِقَتْلِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا لِكُفْرٍ وَلَا حَرَابَةٍ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِ الْخَوَارِجِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُمْ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا، فَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوا ابْنَ مُلْجِمٍ وَيُحْسِنُوا إِسَارَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَتَلُوهُ بِهِ قِصَاصًا، وَإِنْ حَيِيَ فَهُوَ وَلِيُّ دَمِهِ ; كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْأَثِيرِ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمْ فِي تَوَارِيخِهِمْ. وَذِكْرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِخْبَارِيِّينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 مُتَأَوِّلٌ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّهُ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ فَاسِدٌ، مُورِدُ صَاحِبِهِ النَّارَ، وَلَمَّا ضَرَبَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْحُكْمُ لِلَّهِ يَا عَلِيُّ، لَا لَكَ وَلَا لِأَصْحَابِكَ، وَمُرَادُهُ أَنَّ رِضَاهُ بِتَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ: أَبِي مُوسَى، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، كُفْرٌ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ; لِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [6 \ 57 - 12 \ 40] . وَلَمَّا أَرَادَ أَوْلَادُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَشَفَّوْا مِنْهُ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرَجُلَاهُ لَمْ يَجْزَعْ، وَلَا فَتَرَ عَنِ الذِّكْرِ، ثُمَّ كُحِّلَتْ عَيْنَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَذْكُرُ اللَّهَ، وَقَرَأَ سُورَةَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [96 \ 1] إِلَى آخِرِهَا، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَسِيلَانِ عَلَى خَدَّيْهِ، ثُمَّ حَاوَلُوا لِسَانَهُ لِيَقْطَعُوهُ فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَمْكُثَ فَوَاقًا لَا أَذْكُرُ اللَّهَ (اهـ) ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ السَّدُوسِيُّ يَمْدَحُ ابْنَ مُلْجِمٍ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فِي قَتْلِهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ ... أَوْفَى الْبَرِّيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا وَجَزَى اللَّهُ خَيْرًا الشَّاعِرَ الَّذِي يَقُولُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ: قُلْ لِابْنِ مُلْجِمٍ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ ... هَدَمْتَ وَيْلَكَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَانَا قَتَلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا وَإِيمَانَا وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ بِمَا ... سَنَّ الرَّسُولُ لَنَا شَرْعًا وَتِبْيَانَا صِهْرُ النَّبِيِّ وَمَوْلَاهُ وَنَاصِرُهُ ... أَضْحَتْ مَنَاقِبُهُ نُورًا وَبُرْهَانَا وَكَانَ مِنْهُ عَلَى رَغْمِ الْحَسُودِ لَهُ ... مَكَانُ هَارُونَ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَا ذَكَرْتُ قَاتِلَهُ وَالدَّمْعُ مُنْحَدِرٌ ... فَقَلْتُ سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ سُبْحَانَا إِنِّي لَأَحْسَبُهُ مَا كَانَ مِنْ بَشَرٍ ... يَخْشَى الْمَعَادَ وَلَكِنْ كَانَ شَيْطَانَا أَشْقَى مُرَادٍ إِذَا عُدَّتْ قَبَائِلُهَا ... وَأَخْسَرُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا كَعَاقِرِ النَّاقَةِ الْأُولَى الَّتِي جَلَبَتْ ... عَلَى ثَمُودَ بِأَرْضِ الْحِجْرِ خُسْرَانَا قَدْ كَانَ يُخْبِرُهُمْ أَنْ سَوْفَ يُخَضِّبُهَا ... قَبْلَ الْمَنِيَّةِ أَزْمَانًا فَأَزْمَانَا فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ مَا تَحَمَّلَهُ ... وَلَا سَقَى قَبْرَ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَا لِقَوْلِهِ فِي شَقِيٍّ ظَلَّ مُجْتَرِمًا ... وَنَالَ مَا نَالَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ غَوِيٍّ أَوْرَدَتْهُ لَظًى ... فَسَوْفَ يَلْقَى بِهَا الرَّحْمَنَ غَضْبَانَا كَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَصْدًا بِضَرْبَتِهِ ... إِلَّا لِيَصْلَى عَذَابَ الْخُلْدِ نِيرَانَا وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَتْلَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَنْهُ لِابْنِ مُلْجِمٍ قَبْلَ بُلُوغِ الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ يُقَوِّي حُجَّةَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ انْتِظَارِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ أَيْضًا بِكُفْرِهِ قَوِيَّةٌ ; لِلْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ أَشْقَى الْآخِرِينَ، مَقْرُونًا بِقَاتِلِ نَاقَةِ صَالِحٍ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ ظُلْمًا، الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ بِسَبَبِهِ هَذَا السُّلْطَانَ وَالنَّصْرَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [17 \ 33] ، يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اثْنَانِ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَوَاحِدٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَمَّا الِاثْنَانِ الْمُتَّفَقُ عَلَى ثُبُوتِهِ بِهِمَا: فَهُمَا الْإِقْرَارُ بِالْقَتْلِ، وَالْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَهُوَ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ مَعَ وُجُودِ اللَّوْثِ، وَهَذِهِ أَدِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ. أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْقَتْلِ: فَقَدْ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ عَلَى لُزُومِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «بَابُ إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ» حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرْنَا حِبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلَانٌ؟ أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّي الْيَهُودِيُّ. فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ قَالَ هَمَّامٌ: بِحَجَرَيْنِ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: (بَابُ سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ) ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا، وَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ فَرَضَّ رَأْسَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ وَاضِحٌ عَلَى لُزُومِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِقْرَارِ الْقَاتِلِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ: أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنَسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَتَلْتَهُ» ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ. قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟» قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ» ؟ قَالَ: مَا لِي مَالٌ إِلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: «فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ» قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ. فَرَمَى إِلَيْهِ بِنَسْعَتِهِ، وَقَالَ: «دُونَكَ صَاحِبَكَ. .» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالْإِقْرَارِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحُ إِلْزَامِ الْإِنْسَانِ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي سُورَةِ «الْقِيَامَةِ» . وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ بِالْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا: فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَيْضًا عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِهَا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَاشِدٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، ثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَصْبَحَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَقْتُولًا بِخَيْبَرَ ; فَانْطَلَقَ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «لَكُمْ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِكُمْ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ يَهُودٌ، وَقَدْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَعْظَمِ مِنْ هَذَا، قَالَ: «فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ خَمْسِينَ، فَاسْتَحْلِفُوهُمْ فَأَبَوْا. فَوَدَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ اه» . فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «لَكُمْ شَاهِدَانِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِكُمْ» ، فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى الْقَتْلِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِجَالَ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ رَاشِدٍ وَقَدْ وُثِّقَ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ رُمِيَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّدْلِيسِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ ابْنَ مُحَيِّصَةَ الْأَصْغَرَ أَصْبَحَ قَتِيلًا عَلَى أَبْوَابِ خَيْبَرَ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِمْ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ، وَإِنَّمَا أَصْبَحَ قَتِيلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 عَلَى أَبْوَابِهِمْ، قَالَ: «فَتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَا أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَسْتَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسِينَ قَسَامَةً» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَسْتَحْلِفُهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ وَأَعَانَهُمْ بِنِصْفِهَا. اهـ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «أَقِمْ شَاهِدَيْنَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنَ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ الْحُسْنُ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : هَذَا السَّنَدُ صَحِيحٌ حَسَنٌ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ تَعْتَضِدُ بِمُوَافَقَةِ الْإِجْمَاعِ لَهَا حَتَّى تَصِيرَ قَطْعِيَّةً كَالْمُتَوَاتِرِ، لِاعْتِضَادِهَا بِالْمَعْصُومِ وَهُوَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ يَقُولُونَ: إِنَّ اعْتِضَادَ خَبَرِ الْآحَادِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُصَيِّرُهُ قَطْعِيًّا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ أَخْبَارِ الْآحَادِ: وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ مَا يُوَافِقُ الْ ... إِجْمَاعَ وَالْبَعْضُ بِقَطْعٍ يَنْطِقُ وَبَعْضُهُمْ يُفِيدُ حَيْثُ عَوَّلَا ... عَلَيْهِ وَأَنِفَهُ إِذَا مَا قَدْ خَلَا مَعَ دَوَاعِي رَدِّهِ مِنْ مُبْطِلٍ ... كَمَا يَدُلُّ لِخِلَافَةِ عَلِي وَقَوْلُهُ: وَأَنِفَهُ إِذَا مَا قَدْ خَلَا. . إِلَخْ ; مَسْأَلَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِارْتِبَاطِ بَعْضِ الْأَبْيَاتِ بِبَعْضٍ. وَأَمَّا أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ مَعَ وُجُودِ اللَّوْثِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ. فَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَجَعَ عَنْهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُدَ. وَقَضَى بِالْقَتْلِ بِالْقَسَامَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَبُوهُ مَرْوَانُ ; وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قُلْنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 بِهَا وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، إِنِّي لَأَرَى أَنَّهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ، فَمَا اخْتَلَفَ مِنْهُمُ اثْنَانِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي فَتْحِ الْبَارِي) : إِنَّمَا نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ; كَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، وَإِلَّا فَأَبُو الزِّنَادِ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ رَأَى عِشْرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَنْ أَلْفٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْقَوَدُ: الشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعُثْمَانَ الْبُتِّيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ: الْقَتْلُ بِهَا أَيْضًا. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ مِنْ قِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَإِلَيْهِ يَنْحُو الْبُخَارِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ، وَمَحَا أَسْمَاءَ الَّذِينَ حَلَفُوا أَيْمَانَهُمْ مِنَ الدِّيوَانِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَسَامَةِ فَدُونَكَ أَدِلَّتَهُمْ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِالْقِصَاصِ بِالْقَسَامَةِ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ بِخَيْبَرَ، مُخَاطِبًا لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ: " يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ. . " الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ " فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ " مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُمْ لِيَقْتُلُوهُ بِصَاحِبِهِمْ. وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: صَحِيحٌ حَسَنٌ. فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: " أَقِمْ شَاهِدَيْنَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ " صَرِيحٌ أَيْضًا فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ. وَادِّعَاءُ أَنَّ مَعْنَى دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ بِرُمَّتِهِ: أَيْ لِيَأْخُذُوا مِنْهُ الدِّيَةَ، بِعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ: " تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ. أَوْ: صَاحِبَكُمْ. . " الْحَدِيثَ، قَالُوا: فَعَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ " قَاتِلَكُمْ " فَهِيَ صَرِيحٌ فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ. وَعَلَى أَنَّهَا " صَاحِبَكُمْ " فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ احْتِمَالًا قَوِيًّا. وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِلشَّكِّ فِي اللَّفْظِ الَّذِي قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ " صَاحِبَكُمْ " لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَقْتُولَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: تَسْتَحِقُّونَ دِيَتَهُ. وَالِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي يُبْطِلُ الِاسْتِدْلَالَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ ; لِأَنَّ مُسَاوَاةَ الِاحْتِمَالَيْنِ يَصِيرُ بِهَا اللَّفْظُ مُجْمَلًا، وَالْمُجْمَلُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْهُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تُسَمُّونَ قَاتِلَكُمْ ثُمَّ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ نُسَلِّمُهُ ". وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ " قَالُوا: مَعْنَى " دَمَ صَاحِبِكُمْ " قَتْلُ الْقَاتِلِ. وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ " بِدَمِ صَاحِبِكُمْ " الدِّيَةُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ قَوِيٌّ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الدَّمَ عَلَى الدِّيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ (ح) ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ قَتَلَ بِالْقَسَامَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ بِبَحْرَةِ الرُّغَاةِ عَلَى شَطِّ لِيَّةِ الْبَحْرَةِ، قَالَ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ مِنْهُمْ، وَهَذَا لَفْظُ مَحْمُودٍ: بِبَحْرَةٍ، أَقَامَهُ مَحْمُودٌ وَحْدَهُ عَلَى شَطِّ لِيَّةَ اهـ. وَانْقِطَاعُ سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ: " عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَمَا تَرَى. وَقَدْ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ هَذَا، وَقَالَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَامِرٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَقَادَ بِالْقَسَامَةِ الطَّائِفَ "، وَهُوَ أَيْضًا مُنْقَطِعٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 رَجُلًا ضَرَبَهُ بِشَوِيقٍ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ قَاطِعَةٌ إِلَّا لَطْخٌ أَوْ شَبِيهُ ذَلِكَ، وَفِي النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ فُقَهَاءِ النَّاسِ مَا لَا يُحْصَى، وَمَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنْ يَحْلِفَ وُلَاةُ الْمَقْتُولِ وَيَقْتُلُوا أَوْ يَسْتَحْيُوا، فَحَلَفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَقَتَلُوا، وَكَانُوا يُخْبِرُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْقَسَامَةِ، وَيَرَوْنَهَا لِلَّذِي يَأْتِي بِهِ مِنَ اللَّطْخِ أَوِ الشُّبْهَةِ أَقْوَى مِمَّا يَأْتِي بِهِ خَصْمُهُ، وَرَأَوْا ذَلِكَ فِي الصُّهَيْبِيِّ حِينَ قَتَلَهُ الْحَاطِبِيُّونَ وَفِي غَيْرِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَزَادَ فِيهِ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: إِنْ كَانَ مَا ذَكَرْنَا لَهُ حَقًّا أَنْ يُحَلِّفَنَا عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إِلَيْنَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ آلِ صُهَيْبٍ مُنَازَعَةٌ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قَتْلِهِ، قَالَ: فَرَكِبَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي ذَلِكَ، فَقَضَى بِالْقَسَامَةِ عَلَى سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ آلِ حَاطِبٍ، فَثَنَّى عَلَيْهِمُ الْأَيْمَانَ، فَطَلَبَ آلُ حَاطِبٍ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى اثْنَيْنِ وَيَقْتُلُوهُمَا، فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ، فَحَلَفُوا عَلَى الصُّهَيْبِيِّ فَقَتَلُوهُ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُرْوَةُ، وَرَأَى أَنْ قَدْ أُصِيبَ فِيهِ الْحَقُّ، وَرُوِّينَا فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُمَا أَقَادَا بِالْقَسَامَةِ. وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلَّا فَلَا تُظْلَمُ النَّاسُ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. هَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ مَنْ أَوْجَبَ الْقَوَدَ بِالْقَسَامَةِ. وَأَمَّا حُجَجُ مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ بِهَا إِلَّا الدِّيَةُ فَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ ". قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَاهُ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ عَلَيْهِمْ بِقَسَامَتِكُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ - أَيْ: يَدْفَعُوا إِلَيْكُمْ دِيَتَهُ - وَإِمَّا أَنْ يُعْلِمُونَا أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنِ الْتِزَامِ أَحْكَامِنَا، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ، وَيَصِيرُونَ حَرْبًا لَنَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ بِالْقَسَامَةِ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ. اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ "، قَالُوا: هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ إِنَّمَا هُوَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ (فِي فَتْحِ الْبَارِي) ، قَالَ: وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ فِيهَا إِلَّا الدِّيَةُ بِمَا أَخْرَجَهُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمْرُ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا وَجَدْتُمُوهُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ فَأَحْلِفُوهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَأَغْرِمُوهُمُ الدِّيَةَ. وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عُمْرَ كَتَبَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ خِيرَانَ وَوَدَاعَةَ أَنْ يُقَاسَ مَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ ; فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ أُخْرِجَ إِلَيْهِ مِنْهَا خَمْسُونَ رَجُلًا حَتَّى يُوَافُوهُ فِي مَكَّةَ، فَأَدْخَلَهُمُ الْحِجْرَ فَأَحْلَفَهُمْ، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَقَالَ: " حَقَنْتُ بِأَيْمَانِكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَلَا يُطَلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا أَخَذَهُ الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، وَالْحَارِثُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. انْتَهَى. وَلَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ حَيَّيْنِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْ يُقَاسَ إِلَى أَيِّهِمَا أَقْرَبُ فَأَلْقَى دِيَتَهُ عَلَى الْأَقْرَبِ "، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ: أَعَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ بِالْقَسَامَةِ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَلِمَ تَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا؟ فَسَكَتَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْقَسَامَةِ: تُوجِبُ الْعَقْلَ وَلَا تُسْقِطُ الدَّمَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَهَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَسَامَةَ تُوجِبُ الدِّيَةَ وَلَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَسَامَةَ لَا يَلْزَمُ بِهَا حُكْمٌ، فَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ إِنَّمَا يَحْلِفُونَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَحْضُرُوهُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَحَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ مِنْ آلِ أَبِي قِلَابَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 قِلَابَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالُوا: نَقُولُ الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ. قَالَ لِي: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلَابَةَ؟ وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدَكَ رُءُوسُ الْأَجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ، أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ، أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ. . . إِلَى آخِرِ حَدِيثِهِ. وَمُرَادُ أَبِي قِلَابَةَ وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يُقْتَلُ بِأَيْمَانِ قَوْمٍ يَحْلِفُونَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَحْضُرُوهُ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، وَهَذِهِ حُجَجُهُمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي دَلِيلًا - الْقَوَدُ بِالْقَسَامَةِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي قَدَّمْنَا فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهُمْ إِنْ حَلَفُوا أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ دَفَعَ الْقَاتِلَ بِرُمَّتِهِ إِلَيْهِمْ "، وَهَذَا مَعْنَاهُ الْقَتْلُ بِالْقَسَامَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُعَارِضُ هَذَا. وَالْقَسَامَةُ أَصْلٌ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ قَطْعٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو قِلَابَةَ فِي كَلَامِهِ الْمَارِّ آنِفًا ; لِأَنَّ الْقَسَامَةَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، شُرِعَ لِحَيَاةِ النَّاسِ وَرَدْعِ الْمُعْتَدِينَ، وَلَمْ تُمَكَّنْ فِيهِ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ إِلَّا مَعَ حُصُولِ لَوْثٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِهِ صِدْقُهُمْ فِي ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الَّتِي فِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا سَأَلَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ هَلْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ» وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، قَالَ: «يَحْلِفُونَ» يَعْنِي الْيَهُودَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَصْلًا - لَا دَلِيلَ فِيهَا لِمَنْ نَفَى الْقَوَدَ بِالْقَسَامَةِ ; لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدٍ وَهِمَ فِيهَا، فَأَسْقَطَ مِنَ السِّيَاقِ تَبْرِئَةَ الْمُدَّعِينَ بِالْيَمِينِ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَتِهِ رَدَّ الْيَمِينِ. وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، فَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ الْأَيْمَانَ أَوَّلًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا أَبَوْا عَرَضَ عَلَيْهِمْ رَدَّ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ. فَاشْتَمَلَتْ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَلَى زِيَادَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 مِنْ ثِقَةٍ حَافِظٍ فَوَجَبَ قَبُولُهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ (فِي بَابِ الْقَسَامَةِ) وَذَكَرَ رِوَايَةَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (فِي بَابِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ) وَفِيهَا: «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ» أَوْ صَاحِبَكُمْ. . . الْحَدِيثَ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ» لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ. وَجَزَمَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ عَلَى رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ - ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ ثِقَةٍ حَافِظٍ لَمْ يُعَارِضْهَا غَيْرُهَا فَيَجِبُ قَبُولُهَا ; كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَعِلْمِ الْأُصُولِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا الْآيَةَ [2 \ 73] ، وَقَدْ أَسْنَدَ حَدِيثَ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْمُدَّعِينَ - يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ. وَإِنْ كَانَ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ، فَقَدْ وَصَلَهُ جَمَاعَةُ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ (فِي الْمُوَطَّأِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ رِوَايَةَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُهُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ، وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ. اهـ مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ يُشْتَرَطُ لَهَا لَوْثٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ اللَّوْثِ الَّذِي تُحْلَفُ مَعَهُ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. وَهَلْ يَكْفِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ، أَوْ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ؟ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَشْهَدَ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقَتْلُ كَاثْنَيْنِ غَيْرِ عَدْلَيْنِ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُهُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ، وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ، وَأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ يَأْتِيَ وُلَاةُ الدَّمِ بِلَوْثٍ مِنْ بَيِّنَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً عَلَى الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّمُ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ لِمُدَّعِي الدَّمَ عَلَى مَنِ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةَ عِنْدَنَا إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 الْوَجْهَيْنِ. اهـ مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، هَكَذَا قَالَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَسَتَأْتِي زِيَادَةٌ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْكَرُوا عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إِيجَابَهُ الْقَسَامَةَ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. قَالُوا: هَذَا قَتْلُ مُؤْمِنٍ بِالْأَيْمَانِ عَلَى دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ طَبْعِ النَّاسِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ: الْإِنَابَةُ وَالتَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ ; كَقَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [63 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [4 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [40 \ 84] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَهَذَا مَعْهُودٌ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدَعَ قَاتِلَهُ وَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا نَادِرٌ فِي النَّاسِ لَا حُكْمَ لَهُ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ قِصَّةَ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. فَقَدِ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِقِصَّةِ الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِهِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، أَوْ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ. وَرَدَّ الْمُخَالِفُونَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِقَاتِلِهِ خَبَرًا جَازِمًا لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ، فَافْتَرَقَا. وَرَدَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ إِنَّمَا كَانَتْ فِي إِحْيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. قَالَ: وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ إِلَّا مَالِكٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ، فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَتِيلَ إِذَا ضُرِبَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ وَحَيِيَ أَخْبَرَهُمْ بِقَاتِلِهِ، فَانْقَطَعَ بِذَلِكَ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [2 \ 72] . فَالْغَرَضُ الْأَسَاسِيُّ مِنْ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ قَطَعُ النِّزَاعِ بِمَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ بِإِخْبَارِ الْمَقْتُولِ إِذَا ضُرِبَ بِبَعْضِهَا فَحَيِيَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالشَّاهِدُ الْعَدْلُ لَوْثٌ عِنْدَ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 يُقْسَمُ مَعَ الشَّاهِدِ غَيْرِ الْعَدْلِ وَمَعَ الْمَرْأَةِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ: أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَوْثٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لَوْثٌ، دُونَ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتُلِفَ فِي اللَّوْثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ بِقَوْلِهِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ: اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِهِ جِرَاحٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ. وَالَّذِي بِهِ الْحُكْمُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ جُرْحٍ أَوْ ضَرْبٍ بِالْمَقْتُولِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِدُونِ وُجُودِ أَثَرِ الضَّرْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَتْ صُورَتَانِ مِنْ صُوَرِ الْقَسَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ. الْأُولَى: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ بِالضَّرْبِ، ثُمَّ يَعِيشُ الْمَضْرُوبُ بَعْدَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ يَمُوتُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ إِفَاقَةٍ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْقِصَاصُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ عَلَى الضَّرْبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوجَدَ مَقْتُولٌ وَعِنْدَهُ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ مَنْ بِيَدِهِ آلَةُ الْقَتْلِ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ الدَّمِ مَثَلًا، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ فَتُشْرَعُ الْقَسَامَةُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَيَلْحَقُ بِهَذَا أَنْ تَفْتَرِقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مُقْتَتِلَتَيْنِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْهَا الْقَتِيلُ إِنْ كَانَ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. أَمَّا إِنَّ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمَا مَعًا مُطْلَقًا. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ. وَأَمَّا اللَّوْثُ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْقَسَامَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ لَمْ يُدْرَ قَاتِلُهُ، فَيَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ يَتَخَيَّرُهُمُ الْوَلِيُّ: مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ إِذَا حَلَفُوا غُرِّمَ أَهْلُ الْمَحِلَّةِ الدِّيَةَ، وَلَا يَحْلِفُ الْوَلِيُّ، وَلَيْسَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَسَامَةٌ إِلَّا بِهَذِهِ الصُّورَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ بِمَحِلَّةٍ لَوْثٌ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ: الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وَشَرْطُ هَذَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلَّا الْحَنَفِيَّةَ: أَنْ يُوجَدَ بِالْقَتِيلِ أَثَرٌ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ بِمَحِلَّةٍ لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، بَلْ يَكُونُ هَدَرًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ وَيُلْقَى فِي الْمَحِلَّةِ لِتُلْصَقَ بِهِمُ التُّهْمَةُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُونُوا أَعْدَاءً لِلْمَقْتُولِ وَلَمْ يُخَالِطْهُمْ غَيْرُهُمْ وَإِلَّا وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ ; كَقِصَّةِ الْيَهُودِ مَعَ الْأَنْصَارِيِّ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِ ; كَالْوَاحِدِ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ. وَكَذَلِكَ تَجِبُ عِنْدَهُ بِوُجُودِ الْمَقْتُولِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَعِنْدَهُ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ مَنْ بِيَدِهِ آلَةُ الْقَتْلِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الدَّمِ مَثَلًا، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ، وَيَلْحَقُ بِهِ افْتِرَاقُ الْجَمَاعَةِ عَنْ قَتِيلٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْجُمْهُورِ فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى دُونَ طَائِفَتِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ تَجِبُ عِنْدَهُ فِيمَا كَانَ كَقِصَّةِ الْيَهُودِيِّ مَعَ الْأَنْصَارِيِّ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَاللَّوْثُ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْقَسَامَةُ عِنْدَهُ، فِيهِ رِوَايَتَانِ. الْأُولَى: أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَنَحْوِ مَا كَانَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَالْيَهُودِ، وَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالْأَحْيَاءِ وَأَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ بَيْنَهُمُ الدِّمَاءُ وَالْحُرُوبُ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَلَّا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّأٍ. وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أَلَّا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ; قَالَهُ فِي الْمُغْنِي. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ مَا يَغْلِبُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْعَدَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنِ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ فَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ الْمَقْتُولُ وَيُوجَدَ بِقُرْبِهِ رَجُلٌ مَعَهُ سِكِّينٌ أَوْ سَيْفٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ. الرَّابِعُ: أَنْ تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَفْتَرِقُوا عَنْ قَتِيلٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَاللَّوْثُ عَلَى الْأُخْرَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا تَصِلُ سِهَامُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَاللَّوْثُ عَلَى طَائِفَةِ الْقَتِيلِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ عَقْلَ الْقَتِيلِ عَلَى الَّذِينَ نَازَعُوهُمْ فِيمَا إِذَا اقْتَتَلَتِ الْفِئَتَانِ إِلَّا أَنْ يَدَّعُوا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ أَصْحَابِهِ فَاسْتَوَى الْجَمِيعُ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ بِالْقَتْلِ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ ; فَعَنْ أَحْمَدَ هُوَ لَوْثٌ، لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي، وَعَنْهُ: لَيْسَ بِلَوْثٍ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ. فَأَمَّا الْقَتِيلُ الَّذِي يُوجَدُ فِي الزِّحَامِ كَالَّذِي يَمُوتُ مِنَ الزِّحَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَوْثٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ مَاتَ بِالزِّحَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، فَإِنَّ سَعِيدًا رَوَى فِي سُنَنِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ. فَجَاءَ أَهْلُهُ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: بَيِّنَتُكُمْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ وَإِلَّا فَأَعْطِهِمْ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. انْتَهَى مِنَ الْمُغْنِي. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (فِي بَابِ إِذَا مَاتَ فِي الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ بِهِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ الْيَمَانَ وَالِدَ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا نَصُّهُ: وَحُجَّتُهُ (يَعْنِي إِعْطَاءَ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ قِصَّةِ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: أَنَّ وَالِدَ حُذَيْفَةَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ أَيْضًا (فِي بَابِ الْعَفْوِ عَنِ الْخَطَأِ) وَرَوَى مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ مَذْكُورٍ: أَنَّ رَجُلًا زُحِمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَاتَ، فَوَدَاهُ عَلِيٌّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أُخْرَى (مِنْهَا) قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ حَضَرَ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِمْ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. (وَمِنْهَا) قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ: أَنَّهُ يُقَالُ لِوَلِيِّهِ ادَّعِ عَلَى مَنْ شِئْتَ وَاحْلِفْ، فَإِنْ حَلَفْتِ اسْتَحْقَقْتَ الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلْتَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّفْيِ وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّ الدَّمَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالطَّلَبِ. (وَمِنْهَا) قَوْلُ مَالِكٍ: دَمُهُ هَدَرٌ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ أَحَدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الرَّاجِحِ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ (فِي بَابِ الْعَفْوِ عَنِ الْخَطَأِ) انْتَهَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالتَّرْجِيحُ السَّابِقُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُوَ قَوْلُهُ فِي قَوْلِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُخَاطِبًا لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ خَطَأً: «غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ» اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دِيَتَهُ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ حَضَرَ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ» ، عَفَوْتُ عَنْكُمْ، وَهُوَ لَا يَعْفُو إِلَّا عَنْ شَيْءٍ اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَكَأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ يَمِيلُ إِلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي اللَّوْثِ الَّذِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِهِ: أَنَّهُ كُلُّ مَا يَغْلِبُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي دَعْوَاهُمْ ; لِأَنَّ جَانِبَهُمْ يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ فَيَحْلِفُونَ مَعَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ «أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الرِّوَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ مَا تَحْصُلُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ» وَعَقَدَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي شُرُوطِ الرَّاوِي: بِغَالِبِ الظَّنِّ يَدُورُ الْمُعْتَبَرْ ... فَاعْتَبَرَ الْإِسْلَامَ كُلُّ مَنْ غَبَرْ ، إِلَخْ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: لَا يَحْلِفُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ فِي الْقَسَامَةِ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ فِيهَا الرِّجَالُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي قَسَامَةِ الْعَمْدِ، وَأَجَازَ حَلِفَ النِّسَاءِ الْوَارِثَاتِ فِي قَسَامَةِ الْخَطَإِ خَاصَّةً. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ إِلَّا الرِّجَالُ بِأَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي الْقَسَامَةِ يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ. قَالُوا: وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الرِّجَالِ لَا يُقْسِمُ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» ، فَجَعَلَ الْحَالِفَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْوَارِثِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَلِفُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ. وَأَجَابَ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ بِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ» مَا نَصُّهُ: هَذَا مِمَّا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْوَارِثِ خَاصَّةً لَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَبِيلَةِ. وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ يَمِينًا، وَالْحَالِفُ هُمُ الْوَرَثَةُ، فَلَا يَحْلِفُ أَحَدٌ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الْأَقَارِبِ غَيْرُ الْوَرَثَةِ، يَحْلِفُ كُلُّ الْوَرَثَةِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَوَافَقَنَا مَالِكٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَقَالَ: يَحْلِفُ الْأَقَارِبُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تَحْلِفُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ. وَوَافَقَهُ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي أَوَّلُوا بِهِ الْحَدِيثَ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِتَمْيِيزِ الْخَمْسِينَ بِالرَّجُلِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَبْدَأَ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ ; فَإِنْ حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ نَكَلُوا رُدِّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ; فَإِنْ حَلَفُوهَا بُرِّئُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ» أَيْ يَبْرَءُونَ مِنْكُمْ بِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْلَ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ أَنْ يُغَرَّمُوا الدِّيَةَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ أَلْزَمَهُمُ الدِّيَةَ بَعْدَ أَنْ حَلَفُوا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَلَا حَلِفَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: إِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعُونَ مِنَ الْحَلِفِ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] . الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إِنْ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَبْرَأُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَحْلِفَ بِانْفِرَادِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ عَدَدِهِمْ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ: تُقَسَّمُ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مُتَسَاوُونَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْيَمِينِ فَقِيلَ يُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 مَالِكٍ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنْ طَالَ حَبْسُهُمْ وَلَمْ يَحْلِفُوا تُرِكُوا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَلْدُ مِائَةٍ وَحَبْسُ سَنَةٍ، وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا دَلِيلًا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهُمْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ بِنُكُولِهِمْ عَنِ الْأَيْمَانِ، وَرَوَاهُ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنُّكُولِ فَثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ هَاهُنَا كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ; قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ الْعَدَدِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَحْلِفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ ; فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْلِفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ ابْنٌ وَاحِدٌ مَثَلًا اسْتَعَانَ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنْ عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ وَلَوْ غَيْرَ وَارِثٍ يَحْلِفُ مَعَهُ أَيْمَانَهَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا هُوَ صِحَّةُ اسْتِعَانَةِ الْوَارِثِ بِالْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ: «يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ.» الْحَدِيثَ. وَهُمَا ابْنَا عَمِّ الْمَقْتُولِ، وَلَا يَرِثَانِ فِيهِ لِوُجُودِ أَخِيهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ «يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ» ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْمَقْتُولِ عِشْرُونَ رَجُلًا وَارِثُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ إِلَّا أَخُوهُ وَمَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبُ مِنْهُ نَسَبًا. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمَجْمُوعِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْوَارِثُونَ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ ; فَإِنْ كَانُوا خَمْسِينَ حَلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وُزِّعَتْ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ، فَإِنْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّ نَصِيبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ إِنْ كَانَ النَّاكِلُ مُعِينًا لَا وَارِثًا، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الدَّمِ، سَقَطَ الْقَوَدُ بِنُكُولِهِ، وَرُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَمَّا الْقَسَامَةُ فِي الْخَطَأِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَحْلِفُ أَيْمَانَهَا الْوَارِثُونَ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا وَاحِدٌ وَلَوِ امْرَأَةٌ حَلَفَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا كُلَّهَا وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: لَا يَجِبُ الْحَقُّ حَتَّى يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ خَاصَّةً خَمْسِينَ يَمِينًا سَوَاءٌ قَلُّوا أَمْ كَثُرُوا، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ خَمْسِينَ حَلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ أَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَاسْتَحَقَّ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ أَوْ بِالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ الْعَصَبَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا، كُلُّ رَجُلٍ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً، فَإِنْ وُجِدَتِ الْخَمْسُونَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فَذَلِكَ، وَإِلَّا كُمِّلَتِ الْخَمْسُونَ مِنَ الْعَصَبَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، الْأَقْرَبِ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبِ حَتَّى تَتِمَّ الْخَمْسُونَ، وَهَذَا قَوْلٌ لِمَالِكٍ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سَهْلٍ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ إِلَّا الْوَرَثَةُ خَاصَّةً، وَتُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ الْخَمْسِينَ وَاسْتَحَقَّ، إِلَّا أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ، فَالْمُرَادُ بِالْوَرَثَةِ عِنْدَهُ الذُّكُورُ خَاصَّةً. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عِنْدَهُ لَا يَحْلِفُهَا إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ، فَيُقْسِمُونَ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا. تَنْبِيهٌ قَدْ عَلِمْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا وُزِّعَتْ عَلَى عَدَدٍ أَقَلَّ مِنَ الْخَمْسِينَ وَوَقَعَ فِيهَا انْكِسَارٌ، فَإِنْ تَسَاوَوْا جُبِرَ الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ خَلَّفَ الْمَقْتُولُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ; فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا، وَهُوَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثُلُثَانِ، فَيُتَمَّمُ الْكَسْرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ خِلَافُ الشَّرْعِ فِي زِيَادَةِ الْأَيْمَانِ عَلَى خَمْسِينَ يَمِينًا ; لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ يَمِينًا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَقْصَ الْأَيْمَانِ عَنْ خَمْسِينَ لَا يَجُوزُ، وَتَحْمِيلُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ زِيَادَةً عَلَى الْآخَرِينَ لَا يَجُوزُ، فَعُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي جَبْرِ الْكَسْرِ، فَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ الْمُنْكَسِرَةُ لَمْ يَسْتَوِ فِي قَدْرِ كَسْرِهَا الْحَالِفُونَ، كَأَنْ كَانَ عَلَى أَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَعَلَى آخَرَ ثُلُثُهَا، وَعَلَى آخَرَ سُدُسُهَا، حَلَفَهَا مَنْ عَلَيْهِ نِصْفُهَا تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالسُّدُسِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تُجْبَرُ عَلَى الْجَمِيعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِينَ خَمْسِينَ يَمِينًا، سَوَاءٌ تَسَاوَوْا فِي الْمِيرَاثِ أَوِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ لَحَلَفَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا كُلَّهَا. قَالَ: وَمَا يَحْلِفُهُ مُنْفَرِدًا يَحْلِفُهُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْقَسَامَةِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ عَدَدَ أَيْمَانِهَا خَمْسُونَ فَقَطْ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ تَصِيرُ بِهِ مِئَاتٍ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّادِسُ: لَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْقَوَدَ بِهَا إِلَّا وَاحِدٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِالْقَوَدِ بِهَا، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالزُّهْرِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ.» الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْرِضِ بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: يُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ كَالْبَيِّنَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو ثَوْرٍ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَهَلْ تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي الْقَسَامَةِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ لَا؟ وَهَلْ تُسْمَعُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُسْمَعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُسْتَدِلًّا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَقْتُولِ بِخَيْبَرَ ; لِأَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ادَّعَوْا عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الدَّعْوَى فِيهَا لَا تُسْمَعُ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ، قَالُوا: وَلَا دَلِيلَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ وَالْأَنْصَارِيِّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهَا: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ» فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيَّنَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنِ اشْتَرَطَ كَوْنَهَا عَلَى مُعَيَّنٍ: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَشْتَرِطُ كَوْنَهَا عَلَى مُعَيَّنٍ: يَجُوزُ الْحَلِفُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَهُمْ: هَلْ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا يُقْتَلُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ: لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى جَمَاعَةٍ وَيَخْتَارُوا وَاحِدًا لِلْقَتْلِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وَيُسْجَنُ الْبَاقُونَ عَامًا، وَيُضْرَبُونَ مِائَةً. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُحْلَفُ عَلَى الْبَتِّ، وَدَعْوَى الْقَتْلِ أَيْضًا عَلَى الْبَتِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْلِفُ الْغَائِبُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَحْضُرْهُ، وَكَيْفَ يَأْذَنُ الشَّارِعُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ تَكْفِي فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غَلَبَةٌ قَوِيَّةٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ غَلَبَةٌ قَوِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْحَلِفِ. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: إِنْ مَاتَ مُسْتَحِقُّ الْأَيْمَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَلِّفَهَا انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ، وَيُجْبَرُ الْكَسْرُ فِيهَا عَلَيْهِمْ كَمَا يُجْبَرُ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ. وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْقَسَامَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَهَا كَثِيرَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَسَطَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا الْكَلَامَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. غَرِيبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا أَيَّامَ النِّزَاعِ بَيْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ السَّلْطَنَةَ وَالْمُلْكَ سَيَكُونَانِ لِمُعَاوِيَةَ، لِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَقْتُولٌ ظُلْمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [17 \ 33] ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ عَنْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ بِسَنَدِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا نَهَى جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: رَأَيْتُ، وَلَمْ يَرَ. وَسَمِعْتُ، وَلَمْ يَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ، وَلَمْ يَعْلَمْ. وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ، وَأَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَقَدْ أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 [2 \ 169] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ الْآيَةَ [49 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [53 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [4 \ 157] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْعِلْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . تَنْبِيهٌ أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْعَ التَّقْلِيدِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ اتِّبَاعُ غَيْرِ الْعِلْمِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا شَكَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَنْعِهِ، وَكُفْرِ مُتَّبِعِهِ ; كَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [31 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [21 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْآيَةَ [14 \ 10] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. أَمَّا اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ كَابْنِ حَزْمٍ وَمَنْ تَبِعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا، وَتَضْلِيلِ الْقَائِلِ بِهِ، وَمَنْعِ التَّقْلِيدِ مِنْ أَصْلِهِ - فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَتَفْسِيرِهِ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ، كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 الظَّاهِرِيَّةِ ; لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ سُؤَالِ الْجَاهِلِ لِلْعَالِمِ وَعَمَلِهِ بِفُتْيَاهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ الْعَامِّيُّ يَسْأَلُ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُفْتِيهِ فَيَعْمَلُ بِفُتْيَاهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; كَمَا أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتِهَادُ الْعَالِمِ حِينَئِذٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ فِي تَفَهُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْرِفَ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ - لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ، وَكَانَ جَارِيًا بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَسَنُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَشْرِ» مَسْأَلَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ، وَاسْتِنْبَاطِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ، قِيَاسًا كَانَ الْإِلْحَاقُ أَوْ غَيْرُهُ، وَنُبَيِّنُ أَدِلَّةَ ذَلِكَ، وَنُوَضِّحُ رَدَّ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ كَالظَّاهِرِيَّةِ وَالنَّظَّامِ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِأَحَادِيثَ وَآيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، وَبِشُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ حَتَّى يَتَّضِحَ بُطْلَانُ جَمِيعِ ذَلِكَ. وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِهِ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ الْكَرِيمِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ إِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَا يَكَادُ يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَيُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ» وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ لَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْقِيَاسِ، مَعَ أَنَّهُ إِلْحَاقُ مَسْكُوتٍ عَنْهُ بِمَنْطُوقٍ بِهِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ; أَعْنِي الْفَرْقَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحُكْمِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [17 \ 23] ، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّأَفُّفِ الْمَنْطُوقِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99 \ 7، 8] فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمِثَالِ الذَّرَّةِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ، وَالْإِثَابَةِ بِمِثْقَالِ الْجَبَلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ الْآيَةَ [65 \ 2] ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ مَسْكُوتًا عَنْهَا. وَنَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى الْآيَةَ [4 \ 10] ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ إِحْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ وَإِغْرَاقِهِ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ إِتْلَافٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي أَمَةٍ فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ، لِمَا عُرِفَ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ أَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِتْقِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالشَّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ قَضَاءِ الْحَكَمِ فِي كُلِّ حَالٍ يَحْصُلُ بِهَا التَّشْوِيشُ الْمَانِعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ ; كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالسُّرُورِ وَالْحُزْنِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْحَقْنِ وَالْحَقْبِ الْمُفْرِطَيْنِ. وَنَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي قَارُورَةٍ مَثَلًا، وَصَبِّ الْبَوْلِ مِنَ الْقَارُورَةِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ; إِذْ لَا فَرْقَ يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْبَوْلِ فِيهِ مُبَاشَرَةً وَصَبِّهِ فِيهِ مِنْ قَارُورَةٍ وَنَحْوِهَا، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِفَ فِيهَا إِلَّا مُكَابِرٌ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتِدْلَالًا بِمَنْطُوقٍ بِهِ عَلَى مَسْكُوتٍ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ نَوْعُ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ «بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ» لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْكِرَهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَمَسَائِلُهُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُكَابِرٍ لَا يُحِيطُ بِهَا الْحَصْرُ، وَسَنَذْكُرُ أَمْثِلَةً مِنْهَا ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [5 \ 95] فَكَوْنُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ يُمَاثِلُهُ النَّوْعُ الْمُعَيَّنُ مِنَ النَّعَمِ اجْتِهَادٌ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ هَذَا الْحُكْمِ، نَصَّ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الِاجْتِهَادَ فِي الشَّرْعِ مُسْتَحِيلًا مِنْ أَصْلِهِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ، وَتَحْدِيدُ الْقَدْرِ اللَّازِمِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ، وَتَحْدِيدُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اجْتِهَادٍ، وَالزَّكَاةُ لَا تُصْرَفُ إِلَّا فِي مَصْرِفِهَا، كَالْفَقِيرِ وَلَا يُعْلِمُ فَقْرُهُ إِلَّا بِأَمَارَاتٍ ظَنِّيَّةٍ يُجْتَهَدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا بِالْقَرَائِنِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَاطِنِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُحْكَمُ إِلَّا بِقَوْلِ الْعَدْلِ، وَعَدَالَتُهُ إِنَّمَا تُعْلَمُ بِأَمَارَاتٍ ظَنِّيَّةٍ يُجْتَهَدُ فِي مَعْرِفَتِهَا بِقَرَائِنِ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَطُولِ الْمُعَاشَرَةِ. وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى. وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي مَسَائِلِ الشَّرْعِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» . وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي عَقِبِ الْحَدِيثِ: قَالَ يَزِيدُ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ - حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، مِثْلَ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا. انْتَهَى. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ، وَهَذَا يَقْطَعُ دَعْوَى الظَّاهِرِيَّةِ مَنْعَ الِاجْتِهَادِ مِنْ أَصْلِهِ، وَتَضْلِيلَ فَاعِلِهِ وَالْقَائِلِ بِهِ قَطْعًا بَاتًّا كَمَا تَرَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ ; فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْكُمَ فَاجْتَهَدَ. قَالُوا: فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ، فَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ بَلْ هُوَ آثِمٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لَا ; لِأَنَّ إِصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةٌ لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لَا، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ كُلُّهَا، وَلَا يُعْذَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي السُّنَنِ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ. قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: الِاجْتِهَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا صَرْفٌ لِكَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ - مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ الِاجْتِهَادَ مِنْ أَصْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمُحَاوَلَةُ ابْنِ حَزْمٍ تَضْعِيفَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، الَّذِي رَأَيْتَ أَنَّهُ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ لِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ عَلَيْهِ - لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِبْطَالِهَا لِظُهُورِ سُقُوطِهَا كَمَا تَرَى ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَرْوِيٌّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: «فَبِمَ تَحْكُمُ» ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ (فِي رَوْضَةِ النَّاظِرِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: قَالُوا هَذَا الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَالْحَارِثُ وَالرِّجَالُ مَجْهُولُونَ ; قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انْتَهَى. وَمُرَادُ ابْنِ قُدَامَةَ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ رَدَّ الظَّاهِرِيَّةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِجَهَالَةِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ مُعَاذٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ هِيَ مُرَادَ ابْنِ كَثِيرٍ بِقَوْلِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُسْنَدِ وَلَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 السُّنَنِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِجَوْدَةِ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ الْحَارِثَ ابْنَ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَنَّ أَصْحَابَ مُعَاذٍ يَرَاهُمْ عُدُولًا لَيْسَ فِيهِمْ مَجْرُوحٌ وَلَا مُتَّهَمٌ، وَسَيَأْتِي اسْتِقْصَاءُ الْبَحْثِ فِي طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ ثِقَةٌ فَاضِلٌ كَمَا قَدَّمْنَا. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ قِيلَ صَحَابِيٌّ، وَذَكَرُهُ الْعِجْلِيُّ فِي كِبَارِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، قَالَهُ فِي التَّقْرِيبِ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ هَذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِالْقَبُولِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ «فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَ «سُورَةِ الْحَشْرِ» مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ فِي الشَّرْعِ جَائِزٌ: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نُذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: «أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهِ عَنْهَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» . انْتَهَى. وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُعَدُّ اضْطِرَابًا، لِأَنَّهَا وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ: سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَفْتَاهَا، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَأَفْتَاهُ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ الْمَرْأَةَ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَرِيحٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ إِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ إِلْحَاقَ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ حَقٌّ مُطَالَبٌ بِهِ تَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ بِأَدَائِهِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا تَرَى. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ إِبِلٌ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا» ؟ قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: «فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا. قَالَ: «فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ» ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: «وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . اهـ. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحٌ فِي قِيَاسِ النَّظِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ سَوَادِ الْوَلَدِ مَعَ بَيَاضِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، لَيْسَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ ; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 فَلَمْ يَجْعَلْ سَوَادَهُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهَا زَنَتْ بِإِنْسَانٍ أَسْوَدَ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ هُوَ أَسْوَدُ فَنَزَعَهُ إِلَى السَّوَادِ سَوَادُ ذَلِكَ الْجَدِّ ; كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْإِبِلَ الْحُمْرَ فِيهَا جِمَالٌ وُرْقٌ يُمْكِنُ أَنَّ لَهَا أَجْدَادًا وُرْقًا نَزَعَتْ أَلْوَانُهَا إِلَى الْوُرْقَةِ، وَبِهَذَا اقْتَنَعَ السَّائِلُ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: هَشَشْتُ يَوْمًا فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا! قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ» ؟ فَقُلْتُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَمَهْ» . اهـ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرٌ. قُلْنَا: صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ: أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثَنَا اللَّيْثُ (ح) وَثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ. . إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، أَمَّا أَحْمَدُ فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْكُوفِيُّ التَّمِيمِيُّ الْيَرْبُوعِيُّ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ التَّجِيبِيُّ أَبُو مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ الْمُلَقَّبُ زُغْبَةَ، ثِقَةٌ. وَطَبَقَتُهُ الثَّانِيَةُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَهْمِيُّ أَبُو الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، فَقِيهٌ إِمَامٌ مَشْهُورٌ. وَطَبَقَتُهُ الثَّالِثَةُ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ أَبُو يُوسُفَ الْمَدَنِيُّ، نَزِيلُ مِصْرَ ; ثِقَةٌ. وَطَبَقَتُهُ الرَّابِعَةُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ. وَطَبَقَتُهُ الْخَامِسَةُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ كَمَا تَرَى. فَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَ الْقُبْلَةَ عَلَى الْمَضْمَضَةِ ; لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ مُقَدِّمَةُ الشُّرْبِ، وَالْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ، فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مُقَدِّمَةُ الْفِطْرِ، وَهِيَ لَا تُفْطِرُ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهَا. فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا - فِيهَا الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ مِنَ الشَّرْعِ لَا مُخَالِفَ لَهُ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ، وَاللَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا لِيُنَبِّهَ النَّاسَ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ. قُلْنَا: فِعْلُهُ حُجَّةٌ فِي فِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ فَعَلَهُ بِوَحْيٍ كَسَائِرِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ، فَكُلُّهَا تَثْبُتُ بِهَا الْحُجَّةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 \ 36] دَلَّ عَلَى جَوَازِ مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ، فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْإِنْسَانُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ. وَبِهَذَا احْتَجَجْنَا عَلَى إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ وَالْخَرْصِ ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَدْ يُسَمَّى عِلْمًا اتِّسَاعًا، فَالْقَائِفُ يُلْحِقُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُلْحِقُ الْفَقِيهُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ عَنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ» وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ: وَكَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا. اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي لَاعَنَتْ زَوْجَهَا وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ شَبِيهٍ جِدًّا بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّبَهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ زِنًى وَلَمْ يَجْلِدِ الْمَرْأَةَ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ تَثْبُتُ بِهِ الْأَنْسَابُ لَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ إِقَامَةُ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الْوَلَدَ ابْنُ زِنًى، وَلَمْ يَفْعَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ (فِي سُورَةِ النُّورِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا الْقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ، مُحْتَجِّينَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ الْمُدْلِجِيِّ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ مِنَ السُّرُورِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 قَالُوا: وَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسَرَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا يُعْجِبَهُ، بَلْ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَقِّ لَا مِنَ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مَا قَرَّرَ عَلَيْهِ، وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ زَادَ السُّرُورُ بِالْأَمْرِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِاعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ; لِأَنَّ سُرُورَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ فِي وَلَدِ حُرَّةٍ، وَصُورَةُ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِلًا: إِنَّ صُورَةَ السَّبَبِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ، وَعَقَدَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ ... وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: لَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُ الْقَافَةِ فِي شَبَهِ مَوْلُودٍ بِرَجُلٍ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ آخَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شِدَّةَ شَبَهِ الْوَلَدِ الَّذِي اخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ عِنْدَهُ هَذَا الشَّبَهُ فِي النَّسَبِ لِكَوْنِ أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشًا لِزَمْعَةَ ; فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّبَهَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّسَبِ، فَقَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «احْتَجِبِي عَنْهُ» مَعَ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهَا، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْقَفْوِ الْبُهْتُ وَالْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَسَاقَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ، وَقَوْلُهُ «لَا نَقْفُو أُمَّنَا» أَيْ لَا نَقْذِفُ أُمَّنَا وَنَسُبُّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاصِنَ إِنْ قُفِينَا وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ أَصْلَ الْقَفْوِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الِاتِّبَاعُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اتِّبَاعُ الْمَسَاوِي كَمَا ذَكَرَهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ الْقَذْفُ وَالْبُهْتُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [17 \ 36] فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَفْعَالِ جَوَارِحِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ؟ وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ؟ وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ؟ وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [16 \ 93] ، وَقَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [15 \ 92 - 93] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ الَّتِي تُسْأَلُ عَنْ أَفْعَالِ صَاحِبِهَا، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ بِمَا فَعَلَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَهَذَا الْمَعْنَى أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ ; فَإِنَّهُ يَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِنْ جَوَارِحِهِ، وَتِلْكَ غَايَةُ الْخِزْيِ، كَمَا قَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [36 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [41 \ 20] . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نُكْتَةٌ نَبَّهَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [17 \ 36] ، يُفِيدُ تَعْلِيلَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 \ 36] بِالسُّؤَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ: أَنَّ «إِنَّ» الْمَكْسُورَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: انْتَهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ لِتَشْكُرَهُ، وَهُوَ مُخْتَبِرُكَ بِذَلِكَ وَسَائِلُكَ عَنْهُ، فَلَا تَسْتَعْمِلْ نِعَمَهُ فِي مَعْصِيَةٍ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 [16 \ 78] ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِشَارَةِ «أُولَئِكَ» لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْعَرْجِيُّ: يَا مَا أُمَيْلَحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ... مِنْ هَاؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّالِ وَالسَّمُرِ وَقَوْلُ جَرِيرٍ: ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ لَا شَاهِدَ فِيهِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ «بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ» وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ التَّجَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ. وَقَوْلُهُ: مَرَحًا [17 \ 37] مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ، وَهُوَ حَالٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حَالًا يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ وَقُرِئَ: «مَرِحًا» بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ الْوَصْفُ مِنْ مَرِحَ (بِالْكَسْرِ) يَمْرَحُ (بِالْفَتْحِ) أَيْ: لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ فِي حَالِ كَوْنِكَ مُتَبَخْتِرًا مُتَمَايِلًا مَشْيَ الْجَبَّارِينَ. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ الْآيَةَ [31 \ 18، 19] ، وَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الْآيَةَ [25 \ 63] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَصْلُ الْمَرَحِ فِي اللُّغَةِ: شِدَّةُ الْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَشْيِ الْإِنْسَانِ مُتَبَخْتِرًا مَشْيَ الْمُتَكَبِّرِينَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ عَادَةً. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ [17 \ 37] أَنَّ مَعْنَاهُ لَنْ تَجْعَلَ فِيهَا خَرْقًا بِدَوْسِكَ لَهَا وَشِدَّةِ وَطْئِكَ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [17 \ 37] أَيْ: أَنْتَ أَيُّهَا الْمُتَكَبِّرُ الْمُخْتَالُ ضَعِيفٌ حَقِيرٌ عَاجِزٌ مَحْصُورٌ بَيْنَ جَمَادَيْنِ، أَنْتَ عَاجِزٌ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيهِمَا، فَالْأَرْضُ الَّتِي تَحْتَكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 تُؤَثِّرَ فِيهَا فَتَخْرِقَهَا بِشِدَّةِ وَطْئِكَ عَلَيْهَا، وَالْجِبَالُ الشَّامِخَةُ فَوْقَكَ لَا يَبْلُغُ طُولُكَ طُولَهَا ; فَاعْرِفْ قَدْرَكَ، وَلَا تَتَكَبَّرْ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مَعْنَى لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ [17 \ 37] لَنْ تَقْطَعَهَا بِمَشْيِكَ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ ... مُشْتَبَهِ الْأَعْلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَقْ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمُخْتَرَقِ: مَكَانُ الِاخْتِرَاقِ. أَيِ الْمَشْيِ وَالْمُرُورِ فِيهِ. وَأَجْوَدُ الْأَعَارِيبِ فِي قَوْلِهِ: طُولًا أَنَّهُ تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَنْ يَبْلُغَ طُولُكَ الْجِبَالَ، خِلَافًا لِمَنْ أَعْرَبَهُ حَالًا وَمَنْ أَعْرَبَهُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمْ مِنْكَ أَرْفَعُ وَإِنْ كُنْتَ فِي عِزٍّ وَحِرْزٍ وَمَنَعَةٍ ... فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمْ مِنْكَ أَمْنَعُ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [17 \ 37] عَلَى مَنْعِ الرَّقْصِ وَتَعَاطِيهِ ; لِأَنَّ فَاعِلَهُ مِمَّنْ يَمْشِي مَرَحًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [17 \ 40] لِلْإِنْكَارِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَفَخَصَّكُمْ رَبُّكُمْ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ وَالصَّفَاءِ بِأَفْضَلِ الْأَوْلَادِ وَهُمُ الْبَنُونَ، لَمْ يَجْعَلْ فِيهِمْ نَصِيبًا لِنَفْسِهِ، وَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَدْوَنَهُمْ وَهِيَ الْبَنَاتُ! وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْعَادَةِ، فَإِنَّ السَّادَةَ لَا يُؤْثِرُونَ عَبِيدَهُمْ بِأَجْوَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَصْفَاهَا مِنَ الشَّوْبِ، وَيَتَّخِذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَرْدَأَهَا وَأَدْوَنَهَا، فَلَوْ كَانَ جَلَّ وَعَلَا مُتَّخِذًا وَلَدًا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - لَاتَّخَذَ أَجْوَدَ النَّصِيبَيْنِ وَلَمْ يَتَّخِذْ أَرْدَأَهُمَا، وَلَمْ يَصْطَفِكُمْ دُونَ نَفْسِهِ بِأَفْضَلِهِمَا. وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَقَدْ جَعَلُوا لَهُ الْأَوْلَادَ! وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ أَضْعَفَهَا وَأَرْدَأَهَا وَهُوَ الْإِنَاثُ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [53 \ 21 - 22] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، وَقَوْلِهِ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [39 \ 4] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِإِيضَاحٍ فِي «سُورَةِ النَّحْلِ» ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ ادِّعَاءَ الْأَوْلَادِ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - أَمْرٌ عَظِيمٌ جِدًّا، وَقَدْ بَيَّنَ شِدَّةَ عِظَمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [19 \ 88 - 95] ، فَالْمُشْرِكُونَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ ; فَاقْتَرَفُوا الْجَرِيمَةَ الْعُظْمَى فِي الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْهَمْزَةُ وَالْفَاءُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ [17 \ 40] قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهَا بِإِيضَاحٍ فِي «سُورَةِ النَّحْلِ» أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ «كَمَا تَقُولُونَ» بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ كَمَا يَقُولُونَ [17 \ 42] بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، كِلَاهُمَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ كِلَاهُمَا حَقٌّ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ كُلُّهُ حَقٌّ. الْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ أُخْرَى كَمَا يَزْعُمُ الْكُفَّارُ لَابْتَغَوْا (أَيِ الْآلِهَةُ الْمَزْعُومَةُ) أَيْ لَطَلَبُوا إِلَى ذِي الْعَرْشِ (أَيْ إِلَى اللَّهِ) سَبِيلًا ; أَيْ إِلَى مُغَالَبَتِهِ وَإِزَالَةِ مُلْكِهِ، لِأَنَّهُمْ إِذًا يَكُونُونَ شُرَكَاءَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا! وَهَذَا الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمِنَ الْآيَاتِ الشَّاهِدَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [23 \ 91، 92] ، وَقَوْلُهُ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [21 \ 22] وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَالنَّقَّاشِ، وَأَبِي مَنْصُورٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 أَيْ: طَرِيقًا وَوَسِيلَةً تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِفَضْلِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ الْآيَةَ [17 \ 57] ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ قَتَادَةَ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الْآيَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ فِي الْآيَةِ فَرْضَ الْمُحَالِ، وَالْمُحَالُ الْمَفْرُوضُ الَّذِي هُوَ وُجُودُ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ مُشَارِكَةٍ لَهُ، لَا يَظْهَرُ مَعَهُ أَنَّهَا تَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، بَلْ تُنَازِعُهُ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَلَكِنَّهَا مَعْدُومَةٌ مُسْتَحِيلَةُ الْوُجُودِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا ; أَيْ حَائِلًا وَسَاتِرًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَفَهُّمِ الْقُرْآنِ وَإِدْرَاكِهِ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ فَيَنْتَفِعُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحِجَابُ الْمَسْتُورُ هُوَ مَا حَجَبَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِكِتَابِهِ، وَالْآيَاتُ الشَّاهِدَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [41 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ [2 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ الْآيَةَ [18 \ 57] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِجَابِ الْمَسْتُورِ أَنَّ اللَّهَ يَسْتُرُهُ عَنْ أَعْيُنِ الْكُفَّارِ فَلَا يَرَوْنَهُ، قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مَعًا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [111 \ 1] أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا. . وَدِينَهُ قَلَيْنَا. . وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 [17 \ 45] ، فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ مَا نَصُّهُ: وَلَقَدِ اتَّفَقَ لِي بِبِلَادِنَا - الْأَنْدَلُسِ - بِحِصْنِ مَنْثُورٍ مِنْ أَعْمَالِ قُرْطُبَةَ مِثْلُ هَذَا، وَذَلِكَ أَنِّي هَرَبْتُ أَمَامَ الْعَدُوِّ وَانْحَزْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ عَنْهُ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِي فَارِسَانِ وَأَنَا فِي فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ قَاعِدٌ لَيْسَ يَسْتُرُنِي عَنْهُمَا شَيْءٌ، وَأَنَا أَقْرَأُ أَوَّلَ سُورَةِ يس وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَبَرَا عَلَيَّ ثُمَّ رَجَعَا مِنْ حَيْثُ جَاءَا، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: هَذَا دُيْبَلَةٌ (يَعْنُونَ شَيْطَانًا) وَأَعْمَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبْصَارَهُمْ فَلَمْ يَرَوْنِي. اهـ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْأَظْهَرُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حِجَابًا مَسْتُورًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ ; أَيْ حِجَابًا سَاتِرًا، وَقَدْ يَقَعُ عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [86 \ 6] أَيْ مَدْفُوقٍ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [69 \ 21] أَيْ مَرْضِيَّةٍ. فَإِطْلَاقُ كُلٍّ مِنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَإِرَادَةُ الْآخَرِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْبَيَانِيُّونَ يُسَمُّونَ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ «مَجَازًا عَقْلِيًّا» وَمِنْ أَمْثِلَةِ إِطْلَاقِ الْمَفْعُولِ وَإِرَادَةِ الْفَاعِلِ كَالْقَوْلِ فِي الْآيَةِ ; قَوْلُهُمْ: مَيْمُونٌ وَمَشْئُومٌ، بِمَعْنَى يَامِنٍ وَشَائِمٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ: مَسْتُورًا عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَفْعُولٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِجَابَ مَسْتُورٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فَلَا يَرَوْنَهُ، أَوْ مَسْتُورًا بِهِ الْقَارِئُ فَلَا يَرَاهُ غَيْرُهُ، وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ أَكِنَّةً (جَمْعُ كِنَانٍ) وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الشَّيْءَ وَيُغَطِّيهِ وَيُكِنُّهُ، لِئَلَّا يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ لِحَيْلُولَةِ تِلْكَ الْأَكِنَّةِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ فِقْهِ الْقُرْآنِ ; أَيْ فَهْمِ مَعَانِيهِ فَهْمًا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَأَنَّهُ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ; أَيْ صَمَمًا وَثِقَلًا لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ سَمَاعَ قَبُولٍ وَانْتِفَاعٍ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ سَبَبَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ كُفْرُهُمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 فَجَازَاهُمُ اللَّهُ عَلَى كُفْرِهِمْ بِطَمْسِ الْبَصَائِرِ وَإِزَاغَةِ الْقُلُوبِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَالْأَكِنَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ الْآيَةَ [61 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] ، وَقَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [6 \ 110] ، وَقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [2 \ 102] ، وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [9 \ 125] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ الْوَاضِحُ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الشَّرَّ لَا يَقَعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بَلْ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ ; سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ لَيْسَ بِمَشِيئَتِهِ؟ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [6 \ 107] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الْآيَةَ [32 \ 13] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [6 \ 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ رَبَّهُ وَحْدَهُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَلَّى الْكَافِرُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، بُغْضًا مِنْهُمْ لِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَحَبَّةً لِلْإِشْرَاكِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، مُبَيِّنًا أَنَّ نُفُورَهُمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا سَبَبُ خُلُودِهِمْ فِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [39 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [40 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [37 \ 35، 36] ، وَقَوْلِهِ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْآيَةَ [42 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [22 \ 72] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [41 \ 72] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نُفُورًا [17 \ 46] جَمْعُ نَافِرٍ ; فَهُوَ حَالٌ. أَيْ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ نَافِرِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَحْدَهُ مِنْ دُونِ إِشْرَاكٍ، وَالْفَاعِلُ يُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ كَسَاجِدٍ وَسُجُودٍ، وَرَاكِعٍ وَرُكُوعٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «نُفُورًا» مَصْدَرٌ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَّوْا ; لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ عَنْ ذِكْرِهِ وَحْدَهُ بِمَعْنَى النُّفُورِ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ; بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الَّذِينَ زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْ عَابِدِيهِمْ ; أَيْ إِزَالَةَ الْمَكْرُوهِ عَنْهُمْ، وَلَا تَحْوِيلًا، أَيْ تَحْوِيلَهُ مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى آخَرَ، أَوْ تَحْوِيلَ الْمَرَضِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَالْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى، وَالْقَحْطِ إِلَى الْجَدْبِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّ الْمَعْبُودِينَ الَّذِينَ عَبَدَهُمُ الْكَفَّارُ مَنْ دُونِ اللَّهِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، أَيِ الطَّرِيقَ إِلَى رِضَاهُ وَنَيْلَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِطَاعَتِهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ خُزَاعَةَ - أَوْ غَيْرِهِمْ - كَانُوا يَعْبُدُونَ رِجَالًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ وَبَقِيَ الْكُفَّارُ يَعْبُدُونَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ الْآيَةَ [17 \ 57] ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ وَأُمَّهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَدَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَعُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَنْفَعُ عَابِدَهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ وَمُحْتَاجٌ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ «فِي سَبَأٍ» : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [34 \ 22 - 23] ، وَقَوْلِهِ «فِي الزُّمَرِ» : أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 [39 \ 38] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا «فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ» أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «وَفِي آيَةِ الْمَائِدَةِ» : هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ ... بَلَى كُلُّ ذِي لُبٍّ إِلَى اللَّهِ وَاسِلُ وَقَدْ قَدَّمْنَا «فِي الْمَائِدَةِ» أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ قَوْلَ عَنْتَرَةَ: إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهَا تُجْمَعُ عَلَى وَسَائِلَ، كَقَوْلِهِ: إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ وَأَصَحُّ الْأَعَارِيبِ فِي قَوْلِهِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [17 \ 57] ، أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا «فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ» بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفُ الصِّفَةِ، أَيْ: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا. وَهَذَا النَّعْتُ الْمَحْذُوفُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [28 \ 59] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [6 \ 131] ، أَيْ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تُنْذِرَهُمُ الرُّسُلُ فَيَكْفُرُوا بِهِمْ وَبِرَبِّهِمْ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [11 \ 117] ، وَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [65 \ 8، 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ حَذْفُ النَّعْتِ مَعَ وُجُودِ أَدِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [18 \ 79] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ ; بِدَلِيلِ أَنَّ خَرْقَ الْخَضِرِ لِلسَّفِينَةِ الَّتِي رَكِبَ فِيهَا هُوَ وَمُوسَى يُرِيدُ بِهِ سَلَامَتَهَا مِنْ أَخْذِ الْمَلِكِ لَهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْمَعِيبَةَ الَّتِي فِيهَا الْخَرْقُ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الصَّحِيحَةَ، وَمِنْ حَذْفِ النَّعْتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [2 \ 71] ; أَيْ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا لَبْسَ مَعَهُ فِي صِفَاتِ الْبَقَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَهُوَ الْمُرَقَّشُ الْأَكْبَرُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وَرُبَّ أَسِيلَةِ الْخَدَّيْنِ بِكْرٍ ... مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وَجِيدُ أَيْ فَرْعٌ فَاحِمٌ وَجِيدٌ طَوِيلٌ. وَقَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ: مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ وَمَنْ فِعْلُهُ ... فِعْلٌ وَمَنْ نَائِلُهُ نَائِلُ أَيْ قَوْلُهُ قَوْلٌ فَصْلٌ، وَفِعْلُهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ، وَنَائِلُهُ نَائِلٌ جَزِيلٌ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ... يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، فَالْقَرْيَةُ الصَّالِحَةُ إِهْلَاكُهَا بِالْمَوْتِ، وَالْقَرْيَةُ الطَّالِحَةُ إِهْلَاكُهَا بِالْعَذَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَالْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: مَنْ شَاءَ بَايَعْتُهُ مَالِي وَخُلْعَتَهُ مَا ... تُكْمِلُ الْتَيْمُ فِي دِيوَانِهَا سَطَرَا وَمَا يَرْوِيهِ مُقَاتِلٌ عَنْ كِتَابِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْ أَنَّ مَكَّةَ تُخَرِّبُهَا الْحَبَشَةُ، وَتَهْلِكُ الْمَدِينَةُ بِالْجُوعِ، وَالْبَصْرَةُ بِالْغَرَقِ، وَالْكُوفَةُ بِالتُّرْكِ، وَالْجِبَالُ بِالصَّوَاعِقِ وَالرَّوَاجِفِ، وَأَمَّا خُرَاسَانُ فَهَلَاكُهَا ضُرُوبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ بَلَدًا بَلَدًا - لَا يَكَادُ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا أَسَاسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ الْجَزِيرَةَ آمِنَةٌ مِنَ الْخَرَابِ حَتَّى تُخَرَّبَ أَرْمِينِيَةُ، وَأَرْمِينِيَةُ آمِنَةٌ حَتَّى تُخَرَّبَ مِصْرُ، وَمِصْرُ آمِنَةٌ حَتَّى تُخَرَّبَ الْكُوفَةُ، وَلَا تَكُونُ الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى حَتَّى تُخَرَّبَ الْكُوفَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى فُتِحَتْ قُسْطَنْطِينَةُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَخَرَابُ الْأَنْدَلُسِ مِنْ قِبَلِ الزِّنْجِ، وَخَرَابُ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأَنْدَلُسِ، وَخَرَابُ مِصْرَ مِنَ انْقِطَاعِ النِّيْلِ وَاخْتِلَافِ الْجُيُوشِ فِيهَا، وَخَرَابُ الْعِرَاقِ مِنَ الْجُوعِ، وَخَرَابُ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ عَدُوٍّ يَحْصُرُهُمْ وَيَمْنَعُهُمُ الشَّرَابَ مِنَ الْفُرَاتِ، وَخَرَابُ الْبَصْرَةِ مِنْ قَبِيلِ الْغَرَقِ، وَخَرَابُ الْأُبُلَّةِ مِنْ عَدُوٍّ يَحْصُرُهُمْ بَرًّا وَبَحْرًا، وَخَرَابُ الرَّيِّ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَخَرَابُ خُرَاسَانَ مِنْ قِبَلِ التِّبِتِ، وَخَرَابُ التِّبِتِ مِنْ قِبَلِ الصِّينِ، وَخَرَابُ الْهِنْدِ وَالْيَمَنِ مِنْ قِبَلِ الْجَرَادِ وَالسُّلْطَانِ، وَخَرَابُ مَكَّةَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَخَرَابُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْجُوعِ. اهـ. كُلُّ ذَلِكَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا الْآيَةَ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ آتَى ثَمُودَ النَّاقَةَ فِي حَالِ كَوْنِهَا آيَةً مُبْصِرَةً، أَيْ بَيِّنَةً تَجْعَلُهُمْ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ وَاضِحًا لَا لَبْسَ فِيهِ فَظَلَمُوا بِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ ظُلْمَهُمْ بِهَا هَاهُنَا، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 كَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [7 \ 77] ، وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا الْآيَةَ [91 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [54 \ 29] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ الْآيَةَ [17 \ 60] ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ; أَيْ فَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ يَفْعَلُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ فَيُسَلِّطُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَحْفَظُهُ مِنْهُمْ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فَصَّلَتْ بَعْضَ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْإِحَاطَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [54 \ 45] ، وَقَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ الْآيَةَ [3 \ 12] ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [5 \ 67] ، وَفِي هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَبَعْضُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَدَنِيٌّ. أَمَّا آيَةُ الْقَمَرِ وَهِيَ قَوْلُهُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [54 \ 45] ، الْآتِيَةُ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْبَيَانِ بِهَا لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ. التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ مَا أَرَاهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ; لِأَنَّ عُقُولَ بَعْضِهِمْ ضَاقَتْ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ، مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، قَالُوا: كَيْفَ يُصَلِّي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَخْتَرِقُ السَّبْعَ الطِّبَاقَ، وَيَرَى مَا رَأَى فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُصْبِحُ فِي مَحِلِّهِ بِمَكَّةَ؟ هَذَا مُحَالٌ، فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِتْنَةً لَهُمْ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ، وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [37 \ 64] ، قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُهُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ، فَكَيْفَ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ النَّارِ؟ فَصَارَ ذَلِكَ فِتْنَةً. وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الشَّجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِتْنَةً لَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [37 \ 62 - 64] وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى الرُّؤْيَا الَّتِي جَعَلَهَا فِتْنَةً لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [53 \ 12 - 18] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا هِيَ رُؤْيَاهُ فِي الْمَنَامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ فِي الْقُرْآنِ بَنُو أُمَيَّةَ - لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; إِذْ لَا أَسَاسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الشَّجَرَةَ بِاللَّعْنِ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ النَّارِ، وَأَصْلُ النَّارِ بَعِيدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ لِخُبْثِ صِفَاتِهَا الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، أَوْ لِلَعْنِ الَّذِينَ يَطْعَمُونَهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لَآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا. قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إِبْلِيسَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [17 \ 61] ، يَدُلُّ فِيهِ إِنْكَارُ إِبْلِيسَ لِلسُّجُودِ بِهَمْزَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى إِبَائِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنِ السُّجُودِ لِمَخْلُوقٍ مِنْ طِينٍ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَصَرَّحَ بِهِمَا مَعًا «فِي الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [2 \ 34] ، وَصَرَّحَ بِإِبَائِهِ «فِي الْحِجْرِ» بِقَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [115 \ 31] ، وَبِاسْتِكْبَارِهِ فِي «ص» بِقَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [38 \ 74] ، وَبَيَّنَ سَبَبَ اسْتِكْبَارِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [12، 18 \ 76] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ «فِي الْبَقَرَةِ» ، وَقَوْلُهُ: طِينًا حَالٌ ; أَيْ لِمَنْ خَلَقْتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِينًا. وَتَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ كَوْنَهُ حَالًا مِنْ نَفْسِ الْمَوْصُولِ، غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ ; أَيْ مِنْ طِينٍ. وَقِيلَ: تَمْيِيزٌ، وَهُوَ أَضْعَفُهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ [17 \ 62] ، أَيْ أَخْبِرْنِي: هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ فَأَمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ لَهُ وَهُوَ آدَمُ ; أَيْ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهَ. وَالْكَافُ فِي أَرَأَيْتَكَ حَرْفُ خِطَابٍ، وَ «هَذَا» مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «أَرَأَيْتَ» . وَالْمَعْنَى: أَخْبِرْنِي. وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَ «هَذَا» مُبْتَدَأٌ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُهُ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [17 \ 62] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَأَحْتَوِيَنَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَأُضِلَّنَّهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. أَيْ لَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَلَأَجْتَاحَنَّهُمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ، أَيْ لَأَقُودَنَّهُمْ إِلَى مَا أَشَاءُ ; مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: احْتَنَكْتُ الْفَرَسَ: إِذَا جَعَلْتَ الرَّسَنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 فِي حَنَكِهِ لِتَقُودَهُ حَيْثُ شِئْتَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: حَنَكْتُ الْفَرَسَ أَحْنُكُهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ) وَاحْتَنَكْتُهُ: إِذَا جَعَلْتَ فِيهِ الرَّسَنَ ; لِأَنَّ الرَّسَنَ يَكُونُ عَلَى حَنَكِهِ. وَقَوْلُ الْعَرَبِ: احْتَنَكَ الْجَرَادُ الْأَرْضَ: أَيْ أَكَلَ مَا عَلَيْهَا. مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ; لِأَنَّهُ يَأْكُلُ بِأَفْوَاهِهِ، وَالْحَنَكُ حَوْلَ الْفَمِ. هَذَا هُوَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الظَّاهِرِ، فَالِاشْتِقَاقُ فِي الْمَادَّةِ مِنَ الْحَنَكِ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِهْلَاكِ مُطْلَقًا وَالِاسْتِئْصَالِ ; كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: أَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ... جَهْدًا إِلَى جَهْدٍ بِنَا وَأَضْعَفَتْ وَاحْتَنَكَتْ أَمْوَالَنَا وَاجْتَلَفَتْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا عَنْ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الْآيَةَ [17 \ 62] ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [7 \ 16، 17] ، وَقَوْلِهِ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 82] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ «فِي سُورَةِ النِّسَاءِ» وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلَّا قَلِيلًا [17 \ 62] بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَلِيلِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [38 \ 82، 83] ، وَقَوْلِهِ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [15 \ 39 - 40] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الْآيَةَ [17 \ 62] ، قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ وَقَدْ تَحَقَّقَ لَهُ هَذَا الظَّنُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [34 \ 20] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ اذْهَبْ [17 \ 63] ، هَذَا أَمْرُ إِهَانَةٍ ; أَيِ اجْهَدْ جَهْدَكَ، فَقَدْ أَنَظَرْنَاكَ فَمَنْ تَبِعَكَ، أَيْ: أَطَاعَكَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [17 \ 63] أَيْ وَافِرًا. عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ: اذْهَبْ لَيْسَ مِنَ الذَّهَابِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمَجِيءِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ. وَعَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا جَرَّهُ سُوءُ اخْتِيَارِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [17 \ 63] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 84 - 85] ، وَقَوْلِهِ: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جَزَاءً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٌ بِالْمَصْدَرِ قَبْلَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: بِمِثْلِهِ أَوْ فِعْلٍ اوْ وَصْفٍ نُصِبْ ... وَكَوْنُهُ أَصْلًا لِهَذَيْنِ انْتُخِبْ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ «مَوْفُورًا» بِمَعْنَى «وَافِرٍ» لَا دَاعِيَ لَهُ. بَلْ «مَوْفُورًا» اسْمُ مَفْعُولٍ عَلَى بَابِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَفَرَ الشَّيْءَ يَفِرُهُ، فَالْفَاعِلُ وَافِرٌ، وَالْمَفْعُولُ مَوْفُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وَعَلَيْهِ: فَالْمَعْنَى: جَزَاءً مُكَمَّلًا مُتَمَّمًا. وَتُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ لَازِمَةً أَيْضًا تَقُولُ: وَفَرَ مَالُهُ فَهُوَ وَافِرٌ ; أَيْ كَثِيرٌ. وَقَوْلُهُ: «مَوْفُورًا» نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَذَا أَمْرٌ قَدَرِيٌّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [19 \ 83] ; أَيْ تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا، وَتَسُوقُهُمْ إِلَيْهَا سَوْقًا. انْتَهَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ صِيَغَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ [17 \ 64] ، وَقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ، وَقَوْلِهِ: وَشَارِكْهُمْ، إِنَّمَا هِيَ لِلتَّهْدِيدِ، أَيِ افْعَلْ ذَلِكَ فَسَتَرَى عَاقِبَتَهُ الْوَخِيمَةَ ; كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [41 \ 40] ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو حَيَّانَ «فِي الْبَحْرِ» ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْزِزْ، أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَفِزَّهُ مِنْهُمْ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِفْزَازُ: الِاسْتِخْفَافُ. وَرَجُلٌ فَزٌّ: أَيْ خَفِيفٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِوَلَدِ الْبَقَرَةِ: فَزٌّ. لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 كَمَا اسْتَغَاثَ بِسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ ... خَافَ الْعُيُونَ وَلَمْ يَنْظُرْ بِهِ الْحَشِكُ «وَالسَّيْءُ» فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ هَمْزٌ: اللَّبَنُ الَّذِي يَكُونُ فِي أَطْرَافِ الْأَخْلَافِ قَبْلَ نُزُولِ الدِّرَّةِ، وَالْحَشَكُ أَصْلُهُ السُّكُونُ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرُ حَشَكَتِ الدِّرَّةُ: إِذَا امْتَلَأَتْ، وَإِنَّمَا حَرَّكَهُ زُهَيْرٌ لِلْوَزْنِ. وَالْغَيْطَلَةُ هُنَا: بَقَرَةُ الْوَحْشِ ذَاتُ اللَّبَنِ. وَقَوْلُهُ ; بِصَوْتِكَ [17 \ 64] ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ ; أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَخِفَّهُ مِنْهُمْ بِاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوْتُهُ يَشْمَلُ كُلَّ دَاعٍ دَعَا إِلَى مَعْصِيَةٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ طَاعَةً لَهُ. وَقِيلَ: بِصَوْتِكَ: أَيْ وَسْوَسَتِكَ. وَقَوْلُهُ: وَأَجْلِبْ أَصْلُ الْإِجْلَابِ: السَّوْقُ بِجَلَبَةٍ مِنَ السَّائِقِ. وَالْجَلَبَةُ: الْأَصْوَاتُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَجْلَبَ عَلَى فَرَسِهِ، وَجَلَبَ عَلَيْهِ: إِذَا صَاحَ بِهِ مِنْ خَلْفٍ وَاسْتَحَثَّهُ لِلسَّبْقِ. وَالْخَيْلُ تُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْأَفْرَاسِ، وَعَلَى الْفَوَارِسِ الرَّاكِبِينَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَالرَّجْلُ: جَمْعُ رَاجِلٍ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ: جَمْعُ «الْفَاعِلِ» وَصْفًا عَلَى «فَعْلٍ» بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَأَوْضَحْنَا أَمْثِلَتَهُ بِكَثْرَةٍ، وَاخْتَرْنَا أَنَّهُ جَمْعٌ مَوْجُودٌ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ ; إِذْ لَيْسَتْ فَعْلٌ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ - عِنْدَهُمْ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَيَقُولُونَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ كَرَاجِلٍ وَرَجْلٍ، وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَشَارِبٍ وَشَرْبٍ: إِنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَجِلِكَ [17 \ 64] بِكَسْرِ الْجِيمِ - لُغَةٌ فِي الرَّجْلِ جَمْعِ رَاجِلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ «فَعِلًا» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» نَحْوَ تَعِبٍ وَتَاعِبٍ وَمَعْنَاهُ: «وَجَمْعِكَ الرَّجِلِ» . اهـ ; أَيْ: الْمَاشِينَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ. وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ [17 \ 64] ، أَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ فَعَلَى أَصْنَافٍ: (مِنْهَا) مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ طَاعَةً لَهُ ; كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنِ اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ بِالطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا كَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَأَنْوَاعِ الْخِيَانَاتِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ طَاعَةً لَهُ. وَأَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَوْلَادِ فَعَلَى أَصْنَافٍ أَيْضًا: مِنْهَا قَتْلُهُمْ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ طَاعَةً لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يُمَجِّسُونَ أَوْلَادَهُمْ وَيُهَوِّدُونَهُمْ وَيُنَصِّرُونَهُمْ طَاعَةً لَهُ وَمُوَالَاةً. وَمِنْهَا تَسْمِيَتُهُمْ أَوْلَادَهُمْ عَبْدَ الْحَارِثِ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ سَمَّوْا أَوْلَادَهُمْ عَبِيدًا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ طَاعَةً لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَوْلَادُ الزِّنَى ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَسَبَّبُوا فِي وُجُودِهِمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ؛ طَاعَةً لَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بَعْضَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، كَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [6 \ 140] فَقَتْلُهُمْ أَوْلَادَهُمُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَوْلَادِهِمْ حَيْثُ قَتَلُوهُمْ فِي طَاعَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ طَاعَةً لَهُ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ أَيْضًا ; وَكَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا الْآيَةَ [6 \ 136] ، وَكَقَوْلِهِ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [6 \ 138] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ بَعْضَ مُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ، مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» ، وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ» انْتَهَى. فَاجْتِيَالُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَتَحْرِيمُهَا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ (فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ) وَضُرُّهَا لَهُمْ لَوْ تَرَكُوا التَّسْمِيَةَ (فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي) كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِمْ. وَقَوْلُهُ: «فَاجْتَالَتْهُمْ» أَصْلُهُ افْتَعَلَ مِنَ الْجَوَلَانِ ; أَيِ اسْتَخَفَّتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الضَّلَالِ. يُقَالُ: جَالَ وَاجْتَالَ: إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ الْجَوَلَانُ فِي الْحَرْبِ، وَاجْتَالَ الشَّيْءَ: إِذَا ذَهَبَ بِهِ وَسَاقَهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَعِدْهُمْ ; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 كَالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ، وَقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ. وَقَوْلُهُ: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [17 \ 64] بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ كُلَّهَا غُرُورٌ وَبَاطِلٌ ; كَوَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتُقَرِّبُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا جَعَلَ لَهُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فِي الدُّنْيَا سَيَجْعَلُ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120] ، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [57 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [14 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ الْآيَةَ [17 \ 65] ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ لَا سُلْطَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَمَا قَدَّرْنَا، وَيَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الْمَحْذُوفَةِ إِضَافَتُهُ الْعِبَادَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ، وَتَدُلُّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ أَيْضًا آيَاتٌ أُخَرُ ; كَقَوْلِهِ: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [15 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ; أَيِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ فَغَشِيَتْهُمْ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ - ضَلَّ عَنْهُمْ ; أَيْ غَابَ عَنْ أَذْهَانِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلُّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَلَا يَدْعُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنْقِذُ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُرُوبِ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 فَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ لَهُ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ الَّذِي أَحَاطَ بِهِمْ فِيهِ هَوْلُ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ وَفَرَّجَ عَنْهُمْ، وَوَصَلُوا الْبَرَّ رَجَعُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [17 \ 67] . وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْضَحَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [10 \ 22 - 23] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [6 \ 63 - 64] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [31 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [39 \ 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ «فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ» وَغَيْرِهَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ سَخَافَةَ عُقُولِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الْبَرِّ وَنَجَوْا مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ رَجَعُوا إِلَى كُفْرِهِمْ آمِنِينَ عَذَابَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى الْبِرِّ، بِأَنْ يَخْسِفَ بِهِمْ جَانِبَ الْبَرِّ الَّذِي يَلِي الْبَحْرَ فَتَبْتَلِعَهُمُ الْأَرْضُ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَتُهْلِكَهُمْ، أَوْ يُعِيدَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْبَحْرِ فَتُغْرِقَهُمْ أَمْوَاجُهُ الْمُتَلَاطِمَةُ، كَمَا قَالَ هُنَا مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَمْنَهُمْ وَكُفْرَهُمْ بَعْدَ وُصُولِ الْبَرِّ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [17 \ 68] وَهُوَ الْمَطَرُ أَوِ الرِّيحُ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْحِجَارَةُ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [17 \ 69] ; أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، فَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْقَاصِفُ: رِيحُ الْبِحَارِ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكْسِرُ الْمَرَاكِبَ وَغَيْرَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَامٍ: إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ... عِيدَانَ نَجْدٍ وَلَا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ يَعْنِي: إِذَا مَا هَبَّتْ بِشِدَّةٍ كَسَرَتْ عِيدَانَ شَجَرِ نَجْدٍ؛ رَتَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ الْبَحْرِ بِخَسْفٍ أَوْ عَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ - أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [34 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الْآيَةَ [6 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [67 \ 16 - 17] ، وَقَوْلِهِ «فِي قَوْمِ لُوطٍ» : إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [54 \ 34] ، وَقَوْلِهِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [51 \ 33] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْحَاصِبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهَا السَّحَابَةُ أَوِ الرِّيحُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ كُلَّ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ تُسَمَّى حَاصِبًا وَحَصْبَةً، وَكُلُّ سَحَابَةٍ تَرْمِي بِالْبَرَدِ تُسَمَّى حَاصِبًا أَيْضًا ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ: مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ يَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ وَقَوْلُ لَبِيدٍ: جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا ... أَذْيَالَهَا كُلُّ عُصُوفٍ حَصِبَهْ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [17 \ 96] ، «فَعِيلٌ» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» . أَيْ تَابِعًا يَتْبَعُنَا بِالْمُطَالَبَةِ بِثَأْرِكُمْ ; كَقَوْلِهِ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [91 \ 14، 15] ، أَيْ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ تَبِعَةٍ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ. وَكُلُّ مُطَالِبٍ بَدِينٍ أَوْ ثَأْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ تَبِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ يَصِفُ عُقَابًا: تَلُوذُ ثَعَالِبُ الشَّرَفَيْنِ مِنْهَا ... كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ أَيْ: كَعِيَاذِ الْمَدِينِ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي يُطَالِبُهُ بِغُرْمِهِ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: غَدَوْا وَغَدَتْ غِزْلَانُهُمْ وَكَأَنَّهَا ... ضَوَامِنُ غُرْمٍ لَهُنَّ تَبِيعُ أَيْ خَصْمُهُنَّ مُطَالَبٌ بَدِينٍ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ الْآيَةَ [2 \ 178] ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: «تَبِيعًا» أَيْ نَصِيرًا، وَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: نَصِيرًا ثَائِرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 تَنْبِيهٌ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْكُفَّارَ وَعَاتَبَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ خَاصَّةً يُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَصْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ لِمَخْلُوقٍ، وَفِي وَقْتِ الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي حُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ وَحْدَهُ، الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ جَهَلَةِ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دَهَمَتْهُمُ الشَّدَائِدُ، وَغَشِيَتْهُمُ الْأَهْوَالُ وَالْكُرُوبُ الْتَجَئُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُخْلِصُ فِيهِ الْكُفَّارُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الْكَرْبِ مِنْ حُقُوقِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى «فِي سُورَةِ النَّمْلِ» : آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ الْآيَاتِ [37 \ 27] 59 - 62، فَتَرَاهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ جَعَلَ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَا وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ ; كَخَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنْبَاتِهِ بِهِ الشَّجَرَ، وَجَعْلِهِ الْأَرْضَ قَرَارًا، وَجَعْلِهِ خِلَالَهَا أَنْهَارًا، وَجَعْلِهِ لَهَا رَوَاسِيَ، وَجَعْلِهِ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا، إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ ; سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: كَانَ سَبَبَ إِسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ; فَإِنَّهُ لِمَا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ، فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، لَئِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهُ لَأَذْهَبَنَّ فَلَأَضَعَنَّ يَدِيَ فِي يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَجِدَنَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا. فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ تَبِيعًا [17 \ 69] رَاجِعٌ إِلَى الْإِهْلَاكِ بِالْإِغْرَاقِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [17 \ 69] ، أَيْ لَا تَجِدُونَ تَبِيعًا يَتْبَعُنَا بِثَأْرِكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِغْرَاقِ. وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: وَضَمِيرُ «بِهِ» قِيلَ لِلْإِرْسَالِ، وَقِيلَ لِلْإِغْرَاقِ، وَقِيلَ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ تَكْرِيمِهِ لِبَنِي آدَمَ خَلْقُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ وَأَحْسَنِهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيَأْكُلُ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَيَأْكُلُ بِفَمِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] ، وَقَوْلُهُ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [40 \ 64] وَفِي الْآيَةِ كَلَامٌ غَيْرُ هَذَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْآيَةَ، أَيْ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ. وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [23 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [43 \ 12] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى بِإِيضَاحٍ «فِي سُورَةِ النَّحْلِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ «بِإِمَامِهِمْ» هُنَا كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [36 \ 12] ، وَقَوْلُهُ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 28] ، وَقَوْلُهُ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ الْآيَةَ [18 \ 49] ، وَقَوْلُهُ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [17 \ 13] ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ كَثِيرٍ ; لِدَلَالَةِ آيَةِ «يس» الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ، وَعَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِـ بِإِمَامِهِمْ نَبِيُّهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [10 \ 47] ، وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا الْآيَةَ [4 \ 41] ، وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَةَ [16 \ 89] ، وَقَوْلُهُ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ الْآيَةَ [39 \ 69] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَفِي هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ إِمَامَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: بِإِمَامِهِمْ ; أَيْ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مِنَ التَّشْرِيعِ ; وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [17 \ 71] ، أَيْ نَدْعُو كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَأْتَمُّونَ بِهِ، فَأَهْلُ الْإِيمَانِ أَئِمَّتُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ أَئِمَّتُهُمْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ الْآيَةَ [28 \ 41] ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ رَأَيْتَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يَشْهَدُ لَهَا مِنْ قُرْآنٍ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [17 \ 71] ، مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْجِيحِ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِتَابُ الْأَعْمَالِ. وَذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كِتَابَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ يَقْرَءُونَهُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [69 \ 19]- إِلَى قَوْلِهِ - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [69 \ 25] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِـ بِإِمَامِهِمْ كَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ «أُمَّهَاتُهُمْ» أَيْ يُقَالُ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةٍ - قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «يُرْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. الْمُرَادُ بِالْعَمَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَمَى الْقَلْبِ لَا عَمَى الْعَيْنِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [22 \ 46] ; لِأَنَّ عَمَى الْعَيْنِ مَعَ إِبْصَارِ الْقَلْبِ لَا يَضُرُّ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ; فَإِنَّ أَعْمَى الْعَيْنِ يَتَذَكَّرُ فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى بِبَصِيرَةِ قَلْبِهِ، قَالَ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [80 \ 1 - 4] . إِذَا بَصُرَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى ... فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا عَمِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنِي نُورَهُمَا ... فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ ... وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [17 \ 72] ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَتِ الصِّيغَةُ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى كَذَلِكَ لَا يَهْتَدِي إِلَى نَفْعٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ لَفْظَةَ «أَعْمَى» الثَّانِيَةَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ ; أَيْ هُوَ أَشَدُّ عَمًى فِي الْآخِرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا ; فَإِنَّهَا صِيغَةُ تَفْضِيلٍ بِلَا نِزَاعٍ. وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ صِيغَتَيِ التَّعَجُّبِ وَصِيغَةَ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِيَانِ مِنْ فِعْلٍ، الْوَصْفُ مِنْهُ عَلَى «أَفْعَلَ» الَّذِي أُنْثَاهُ فَعْلَاءُ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَصُوغًا مِنْ صِيغَةِ تَفْضِيلٍ أَوْ تَعَجُّبٍ غَيْرَ مُسْتَوْفٍ لِلشُّرُوطِ، أَنَّهُ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ ... وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: مَا فِي الْمَعَالِي لَكُمْ ظِلٌّ وَلَا ثَمَرُ ... وَفِي الْمَخَازِي لَكُمْ أَشْبَاحُ أَشْيَاخِ أَمَّا الْمُلُوكُ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْأَمُهُمْ ... لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ «وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ» لَيْسَ صِيغَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنْتَ وَحْدَكَ الْأَبْيَضُ سِرْبَالَ طَبَّاخٍ مِنْ بَيْنِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالُوا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ حَتَّى تُلِمَّ بِآلِهَتِنَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، أَتَوُا النَّبِيَّ فَسَأَلُوهُ شَطَطًا، قَالُوا: مَتِّعْنَا بِآلِهَتِنَا سَنَةً حَتَّى نَأْخُذَ مَا يُهْدَى لَهَا، وَحَرِّمْ وَادِيَنَا كَمَا حَرَّمْتَ مَكَّةَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ، أَيْ قَارَبُوا ذَلِكَ. وَمَعْنَى يَفْتِنُونَكَ: يُزِلُّونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ نُوحِهِ إِلَيْكَ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَارَبُوا ذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لَا فِيمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ خَطَرَ فِي قَلْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَحَبُّوا لِيَجُرَّهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِهِمْ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ; بَلْ يَتَّبِعُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كَادُوا [17 \ 73] ، هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ هُنَا مُهْمَلَةٌ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ ... وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ وَالْغَالِبُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ فِعْلٍ إِلَّا إِنْ كَانَ نَاسِخًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا ... تُلْفِيهِ غَالِبًا بِإِنْ ذِي مُوصَلَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَثْبِيتَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِصْمَتَهُ لَهُ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَوْ رَكَنَ إِلَيْهِمْ لَأَذَاقَهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ; أَيْ: مِثْلَيْ عَذَابِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَمِثْلَيْ عَذَابِ الْمَمَاتِ فِي الْآخِرَةِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِضِعْفِ عَذَابِ الْمَمَاتِ: الْعَذَابُ الْمُضَاعَفُ فِي الْقَبْرِ. وَالْمُرَادُ بِضِعْفِ الْحَيَاةِ: الْعَذَابُ الْمُضَاعَفُ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ حَيَاةِ الْبَعْثِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْآيَةُ تَشْمَلُ الْجَمِيعَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ شِدَّةِ الْجَزَاءِ لِنَبِيِّهِ - لَوْ خَالَفَ - بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ الْآيَةَ [69 \ 44 - 46] . وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى كَانَ الْجَزَاءُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ أَعْظَمَ - بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ; كَقَوْلِهِ: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ الْآيَةَ [33 \ 30] .، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: وَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغَائِرُ ... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ تَنْبِيهٌ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوْضَحَتْ غَايَةَ الْإِيضَاحِ بَرَاءَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُقَارَبَةِ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ، فَضْلًا عَنْ نَفْسِ الرُّكُونِ ; لِأَنَّ لَوْلَا [17 \ 74] حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ ; فَمُقَارَبَةُ الرُّكُونِ مَنَعَتْهَا لَوْلَا الِامْتِنَاعِيَّةُ لِوُجُودِ التَّثْبِيتِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَحَّ يَقِينًا انْتِفَاءُ مُقَارَبَةِ الرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ نَفْسِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ مَا قَبْلَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يُقَارِبِ الرُّكُونَ إِلَيْهِمُ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا [17 \ 74] ، أَيْ قَارَبْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ - هُوَ عَيْنُ الْمَمْنُوعِ بِـ لَوْلَا الِامْتَنَاعِيَّةِ كَمَا تَرَى، وَمَعْنَى تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ: تَمِيلُ إِلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ الْآيَةَ، قَدْ بَيَّنَّا «فِي سُورَةِ النِّسَاءِ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَارَتْ لِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [17 \ 78] أَيْ لِزَوَالِهَا عَلَى التَّحْقِيقِ، فَيَتَنَاوَلُ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ; بِدَلِيلِ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ; أَيْ ظَلَامِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، أَيْ صَلَاةَ الصُّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ وَأَشَرْنَا لِلْآيَاتِ الْمُشِيرَةِ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ; كَقَوْلِهِ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ الْآيَةَ [11 \ 114] ، وَقَوْلِهِ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الْآيَةَ [30 \ 17] . وَأَقَمْنَا بَيَانَ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 مِنَ السُّنَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [4 \ 103] ، فَرَاجِعْهُ هُنَاكَ إِنْ شِئْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، الْحَقُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الثَّابِتُ الَّذِي لَيْسَ بِزَائِلٍ وَلَا مُضْمَحِلٍّ، وَالْبَاطِلُ: هُوَ الذَّاهِبُ الْمُضْمَحِلُّ. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ فِيهَا: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْمَعَاصِي الْمُخَالِفَةُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ ثَابِتًا رَاسِخًا، وَأَنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ زَهَقَ ; أَيْ ذَهَبَ وَاضْمَحَلَّ وَزَالَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: زَهَقَتْ نَفْسُهُ: إِذَا خَرَجَتْ وَزَالَتْ مِنْ جَسَدِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، أَيْ مُضْمَحِلًّا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْحَقَّ يُزِيلُ الْبَاطِلَ وَيُذْهِبُهُ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [34 \ 48، 49] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [17 \ 81] ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [34 \ 49] . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكِبَّتْ لِوَجْهِهَا، وَقَالَ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [17 \ 81] . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَشَدَّ لَهُمْ إِبْلِيسُ أَقْدَامَهَا بِالرَّصَاصِ ; فَجَاءَ وَمَعَهُ قَضِيبٌ فَجَعَلَ يَهْوِي إِلَى كُلِّ صَنَمٍ مِنْهَا فَيَخِرُّ لِوَجْهِهِ فَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [17 \ 81] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلِّهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى كَسْرِ نُصُبِ الْمُشْرِكِينَ وَجَمِيعِ الْأَوْثَانِ إِذَا غُلِبَ عَلَيْهِمْ، وَيَدْخُلُ بِالْمَعْنَى كَسْرُ آلَةِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ كَالطَّنَابِيرِ وَالْعِيدَانِ وَالْمَزَامِيرِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا اللَّهْوُ بِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي مَعْنَى الْأَصْنَامِ: الصُّوَرُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْمَدَرِ وَالْخَشَبِ وَشِبْهِهَا، وَكُلُّ مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ مِمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا اللَّهْوُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا الْأَصْنَامَ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ إِذَا غُيِّرَتْ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ وَصَارَتْ نِقَرًا أَوْ قِطَعًا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَالشِّرَاءُ بِهَا. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَمَا كُسِرَ مِنْ آلَاتِ الْبَاطِلِ وَكَانَ فِي حَبْسِهَا بَعْدَ كَسْرِهَا مَنْفَعَةٌ فَصَاحِبُهَا أَوْلَى بِهَا مَكْسُورَةً، إِلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ حَرْقَهَا بِالنَّارِ عَلَى مَعْنَى التَّشْدِيدِ وَالْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَرْقُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيقِ دُورِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاقَةِ الَّتِي لَعَنَتْهَا صَاحِبَتُهَا «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» ، فَأَزَالَ مِلْكَهَا عَنْهَا تَأْدِيبًا لِصَاحِبَتِهَا، وَعُقُوبَةً لَهَا فِيمَا دَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا دَعَتْ بِهِ، وَقَدْ أَرَاقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ عَلَى صَاحِبِهِ. اهـ الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ» الْحَدِيثَ، مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا. قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ; كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [9 \ 124، 125] ، وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [41 \ 44] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا هُوَ شِفَاءٌ [17 \ 82] يَشْمَلُ كَوْنَهُ شِفَاءً لِلْقَلْبِ مِنْ أَمْرَاضِهِ ; كَالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَوْنَهُ شِفَاءً لِلْأَجْسَامِ إِذَا رُقِيَ عَلَيْهَا بِهِ، كَمَا تَدُلُّ لَهُ قِصَّةُ الَّذِي رَقَى الرَّجُلَ اللَّدِيغَ بِالْفَاتِحَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنُنْزِلُ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ; بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَنَأَى بِجَانِبِهِ، أَيْ تَبَاعَدَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَهْيَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ كَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، مُسْتَبِدٌّ بِنَفْسِهِ وَنَأَى بِجَانِبِهِ [17 \ 83] تَأْكِيدٌ لِلْإِعْرَاضِ ; لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُرْضَ وَجْهِهِ. وَالنَّأْيُ بِالْجَانِبِ: أَنْ يَلْوِيَ عَنْهُ عِطْفَهُ، وَيُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، وَأَرَادَ الِاسْتِكْبَارَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ. وَالْيَئُوسُ: شَدِيدُ الْيَأْسِ، أَيِ الْقَنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ «فِي سُورَةِ هُودٍ» وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [11 \ 9 - 10] وَقَوْلِهِ فِي «آخَرَ فُصِّلَتْ» : لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [41 \ 49 - 51] ، وَقَوْلِهِ: «فِي سُورَةِ الرُّومِ» : وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [30 \ 33] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [30 \ 36] ، وَقَوْلِهِ «فِي سُورَةِ يُونُسَ» : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ الْآيَةَ [10 \ 12] ، وَقَوْلِهِ «فِي سُورَةِ الزُّمَرِ» : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الْآيَةَ [10 \ 12] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [39 \ 49] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدِ اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ «فِي سُورَةِ هُودٍ» : إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [11 \ 11] كَمَا تَقَدَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 إِيضَاحُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ «وَنَاءَ» كَجَاءَ، وَهُوَ بِمَعْنَى نَأَى ; كَقَوْلِهِمْ: رَاءَ، فِي: رَأَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَا أَعْطَى خَلْقَهُ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ جَلَّ وَعَلَا ; لِأَنَّ مَا أُعْطِيَهُ الْخَلْقُ مِنَ الْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْخَالِقِ قَلِيلٌ جِدًّا. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [18 \ 109] ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [31 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبِيرٌ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [4 \ 113] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [48 \ 1 - 3] ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [94 \ 1 - 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ فَضْلَهُ كَبِيرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [33 \ 47] ، وَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْكَبِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [42 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ شِدَّةَ عِنَادِ الْكُفَّارِ وَتَعَنُّتِهِمْ، وَكَثْرَةَ اقْتِرَاحَاتِهِمْ لِأَجْلِ التَّعَنُّتِ لَا لِطَلَبِ الْحَقِّ ; فَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لَهُ - أَيْ: لَنْ يُصَدِّقُوهُ - حَتَّى يَفْجُرَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، وَهُوَ يَفْعُولٌ مِنْ: نَبَعَ، أَيْ: مَاءٌ غَزِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 [39 \ 21] ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ [17 \ 91] أَيْ بُسْتَانٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَيُفَجِّرَ خِلَالَهَا - أَيْ وَسَطَهَا - أَنْهَارًا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ كِسَفًا: أَيْ قِطَعًا كَمَا زَعَمَ، أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [34 \ 9] ، أَوْ يَأْتِيَهِمْ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا: أَيْ مُعَايَنَةً. قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ " كَقَوْلِهِ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [25 \ 21] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَبِيلًا: أَيْ كَفِيلًا ; مِنْ تَقَبَّلَهُ بِكَذَا: إِذَا كَفَلَهُ بِهِ. وَالْقَبِيلُ وَالْكَفِيلُ وَالزَّعِيمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَبِيلًا بِمَا تَقُولُ: شَاهِدًا بِصِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الْقَبِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْكَفِيلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَبِيلًا شَهِيدًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ جَمْعُ قَبِيلَةٍ ; أَيْ تَأْتِي بِأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أَوْ يَكُونَ لَهُ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ: أَيْ مِنْ ذَهَبٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ " فِي الزُّخْرُفِ ": وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ - إِلَى قَوْلِهِ - وَزُخْرُفًا [43 \ 33 - 35] ، أَيْ ذَهَبًا. أَوْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ: أَيْ يَصْعَدَ فِيهِ، وَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لِرُقِيِّهِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ صُعُودِهِ، حَتَّى يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا يَقْرَءُونَهُ. وَهَذَا التَّعَنُّتُ وَالْعِنَادُ الْعَظِيمُ الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنِ الْكُفَّارِ هُنَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلَ اللَّهُ مَا اقْتَرَحُوا مَا آمَنُوا. لِأَنَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ لَا يُؤْمِنُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [6 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [6 \ 111] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [15 \ 14 - 15] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [6 \ 109] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كِتَابًا نَقْرَؤُهُ، أَيْ كِتَابًا مِنَ اللَّهِ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا. وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى " فِي الْمُدَّثِّرِ ": بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 [الْآيَةُ 52] كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ الْآيَةَ [6 \ 124] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 93] ، أَيْ تَنْزِيهًا لِرَبِّي جَلَّ وَعَلَا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَنْزِيهُهُ عَنِ الْعَجْزِ عَنْ فِعْلِ مَا اقْتَرَحْتُمْ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَأَنَا بَشَرٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحِيهِ إِلَيَّ رَبِّي. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [18 \ 110] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ الْآيَةَ [41 \ 6] ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [14 \ 11] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ تَفْجُرَ، الْأُولَى عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ مَكْسُورَةً، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى هَذَا فِي الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ كِسَفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: تُنْزِلَ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَشَدِّ الزَّايِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا. هَذَا الْمَانِعُ الْمَذْكُورُ هُنَا عَادِيٌّ ; لِأَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ جَمِيعِ الْأُمَمِ بِاسْتِغْرَابِهِمْ بَعْثَ اللَّهِ رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ ; كَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الْآيَةَ [14 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا الْآيَةَ [23 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [54 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا الْآيَةَ [64 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 \ 34] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَادِيٌّ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِمَانِعٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا «فِي سُورَةِ الْكَهْفِ» وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [18 \ 55] ، فَهَذَا الْمَانِعُ الْمَذْكُورُ «فِي الْكَهْفِ» مَانِعٌ حَقِيقِيٌّ ; لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ بِهِ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْإِهْلَاكِ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 الْعَذَابُ قُبُلًا فَإِرَادَتُهُ بِهِ ذَلِكَ مَانِعَةٌ مِنْ خِلَافِ الْمُرَادِ ; لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقَعَ خِلَافُ مُرَادِهِ جَلَّ وَعَلَا، بِخِلَافِ الْمَانِعِ «فِي آيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» هَذِهِ، فَهُوَ مَانِعٌ عَادِيٌّ يَصِحُّ تَخَلُّفُهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الرَّسُولَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانَ مُرْسِلًا رَسُولًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا مِثْلَهُمْ، أَيْ وَإِذَا أَرْسَلَ إِلَى الْبَشَرِ أَرْسَلَ لَهُمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [6 \ 8 - 9] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [21 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 20] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مَعَ عِظَمِهِمَا قَادِرٌ عَلَى بَعْثِ الْإِنْسَانِ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ فَهُوَ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ قَادِرٌ بِلَا شَكٍّ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الْآيَةَ [40 \ 57] ، أَيْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى [36 \ 81] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى [46 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 27 - 33] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ بَنِي آدَمَ لَوْ كَانُوا يَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَتِهِ - أَيْ خَزَائِنَ الْأَرْزَاقِ وَالنِّعَمِ - لَبَخِلُوا بِالرِّزْقِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَأَمْسَكُوا عَنِ الْإِعْطَاءِ، خَوْفًا مِنَ الْإِنْفَاقِ لِشِدَّةِ بُخْلِهِمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَتُورٌ، أَيْ بَخِيلٌ مُضَيِّقٌ ; مِنْ قَوْلِهِمْ: قَتَّرَ عَلَى عِيَالِهِ، أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [4 \ 53] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الْآيَةَ [70 \ 19 - 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ «لَوْ» لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْأَفْعَالِ، فَيُقَدَّرُ لَهَا فِي الْآيَةِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بَعْدَ «لَوْ» أَصْلُهُ فَاعِلُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ فُصِلَ الضَّمِيرُ. وَالْأَصْلُ قُلْ لَوْ تَمْلِكُونَ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ فَبَقِيَتِ الْوَاوُ فَجُعِلَتْ ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا، هُوَ: أَنْتُمْ. هَكَذَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعُ، هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسُّنُونَ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [7 \ 107 - 108] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [7 \ 130] ، وَقَوْلِهِ: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [26 \ 63] وَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ [7 \ 133] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْجَبَلَ بَدَلَ «السِّنِينَ» وَعَلَيْهِ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [7 \ 117] ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ الْآيَةَ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ عَالِمٌ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ مَا أَنْزَلَهَا إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ، أَيْ حُجَجًا وَاضِحَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى [20 \ 49] ، وَقَوْلَهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [26 \ 23] كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى مُبَيِّنًا سَبَبَ جُحُودِهِ لِمَا عَلِمَهُ «فِي سُورَةِ النَّمْلِ» بِقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا الْآيَةَ [27 \ 12 - 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ بِالْحَقِّ: أَيْ مُتَلَبِّسًا بِهِ مُتَضَمِّنًا لَهُ ; فَكُلُّ مَا فِيهِ حَقٌّ فَأَخْبَارُهُ صِدْقٌ، وَأَحْكَامُهُ عَدْلٌ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [6 \ 115] وَكَيْفَ لَا وَقَدْ أَنْزَلَهُ جَلَّ وَعَلَا بِعِلْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [4 \ 166] . وَقَوْلُهُ: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [17 \ 105] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ فِي طَرِيقِ إِنْزَالِهِ. لِأَنَّ الرَّسُولَ الْمُؤْتَمَنَ عَلَى إِنْزَالِهِ قَوِيٌّ لَا يُغْلَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يُغَيَّرَ فِيهِ، أَمِينٌ لَا يُغَيِّرُ وَلَا يُبَدِّلُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ الْآيَةَ [26 \ 193، 194] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ الْآيَةَ [81 \ 19 - 21] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَقَوْلُ رَسُولٍ، أَيْ لَتَبْلِيغُهُ عَنْ رَبِّهِ، بِدَلَالَةِ لَفْظِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ «فَرَقْنَاهُ» بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ بَيَّنَّاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَفَصَّلْنَاهُ وَفَرَّقْنَا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَرَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَرَّقْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَمِنْ إِطْلَاقِ فَرَقَ بِمَعْنَى بَيَّنَ وَفَصَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. الْآيَةَ [44 \ 4] وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ بَيَّنَ هَذَا الْقُرْآنَ لِنَبِيِّهِ لِيَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، أَيْ مَهَلٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَثَبُّتٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ إِلَّا كَذَلِكَ، وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [73 \ 4] ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [25 \ 32] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرْآنًا [17 \ 106] مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 فَالسَّابِقَ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا حَتْمًا مُوَافِقٍ لِمَا قَدْ أُظْهِرَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُو فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَدْعُوهُ بِمَا شَاءُوا مِنْ أَسْمَائِهِ، إِنْ شَاءُوا قَالُوا: يَا أَللَّهُ، وَإِنْ شَاءُوا قَالُوا: يَا رَحْمَنُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [7 \ 180] ، وَقَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [59 \ 22، 23] . وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّهُمْ تَجَاهَلُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [25 \ 60] ، وَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْضَ أَفْعَالِ الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [55 \ 1 - 4] ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [25 \ 60] ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ «فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ النَّاسَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِأَنَّ أَمْرَ الْقُدْوَةِ أَمْرٌ لِأَتْبَاعِهِ كَمَا قَدَّمْنَا) أَنْ يَقُولُوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» أَيْ: كُلُّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ لَائِقٍ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، ثَابِتٌ لَهُ، مُبَيِّنًا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْعِزَّةِ بِالْأَوْلِيَاءِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَبَيَّنَ تَنَزُّهَهُ عَنِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [112 \ 1] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا [72 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [6 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 الْآيَةَ [19 \ 88 - 92] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، أَيْ وَلَا فِي عِبَادَتِهِ ; كَقَوْلِهِ: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [34 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [67 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ الْآيَةَ [3 \ 26] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [17 \ 111] ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُذَلُّ فَيَحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ يَعِزُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْقَهَّارُ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ الْآيَةَ [12 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [2 \ 209] وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [6 \ 18] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [17 \ 111] أَيْ عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَيَظْهَرُ تَعْظِيمُ اللَّهِ فِي شِدَّةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى كُلِّ مَا يُرْضِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [2 \ 185] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ مِنْ أَهْلِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا الْآيَةَ [17 \ 111] ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى هَذِهِ الْآيَةَ آيَةَ الْعِزِّ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: إِنَّهَا مَا قُرِئَتْ فِي بَيْتٍ فِي لَيْلَةٍ فَيُصِيبُهُ سَرَقٌ أَوْ آفَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُقْتَضَاهُ: أَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ الْآيَةِ تُذْهِبُ السَّقَمَ وَالضُّرَّ، ثُمَّ قَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا آخِرُ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الرَّابِعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوَّلُهُ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْكَهْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا. عَلَّمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عِبَادَهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ ; وَهِيَ إِنْزَالُهُ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، بَلْ هُوَ فِي كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ، أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَبَيَّنَ لَهُمْ فِيهِ الْعَقَائِدَ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَأَسْبَابَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَحَذَّرَهُمْ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّهُمْ، وَحَضَّهُمْ فِيهِ عَلَى كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ، فَهُوَ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى عَلَى الْخَلْقِ، وَلِذَا عَلَّمَهُمْ رَبُّهُمْ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْآيَةَ [18 \ 1] . وَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا مِنْ عَظِيمِ الْإِنْعَامِ وَالِامْتِنَانِ عَلَى خَلْقِهِ بِإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مُنْذِرًا مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَمُبَشِّرًا مَنْ عَمِلَ بِهِ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [4 \ 174] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [29 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [27 \ 76 - 77] ، وَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [17 \ 82] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ الْآيَةَ [41 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 106 - 107] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [28 \ 86] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [35 \ 32] . وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّ إِيرَاثَ هَذَا الْكِتَابِ فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [18 \ 1] ، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْقُرْآنِ عِوَجًا ; أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، لَا مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي، أَخْبَارُهُ كُلُّهَا صِدْقٌ، وَأَحْكَامُهُ عَدْلٌ، سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، وَأَخْبَارِهِ وَأَحْكَامِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «عِوَجًا» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهِيَ تَعُمُّ نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِوَجِ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّهُ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [39 \ 27 - 28] ، وَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [6 \ 115] . فَقَوْلُهُ «صِدْقًا» أَيْ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: «عَدْلًا» أَيْ فِي الْأَحْكَامِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4 \ 82] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَيِّمًا أَيْ مُسْتَقِيمًا لَا مَيْلَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِهِ قَيِّمًا لَا مَيْلَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [98 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْآيَةَ [17 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [10 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 1 - 2] ، وَقَوْلِهِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [11 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [42 \ 52] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وَهَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَيِّمًا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ فِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [18 \ 1] ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُسْتَقِيمًا فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنَ اعْوِجَاجٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلِذَا جَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ نَفْيِ الْعِوَجِ وَإِثْبَاتِ الِاسْتِقَامَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: «قَيِّمًا» وَجْهَانِ آخَرَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ «قَيِّمًا» أَنَّهُ قَيِّمٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، أَيْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ الْآيَةَ [5 \ 15] . وَلِأَجْلِ هَيْمَنَتِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ الْآيَةَ [27 \ 76] ، وَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [3 \ 93] ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ الْآيَةَ [5 \ 15] . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ «قَيِّمًا» : أَنَّهُ قَيِّمٌ بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَسْتَلْزِمُهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْعَرَبِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: «قَيِّمًا» فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ فِي حَالِ كَوْنِهِ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمَنَعَ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ الْإِعْرَابِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ قَائِلًا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [18 \ 1] ، مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الصِّلَةِ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، فَجَعْلُ «قَيِّمًا» حَالًا مِنَ «الْكِتَابِ» يُؤَدِّي إِلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ «قَيِّمًا» حَالٌ مِنَ «الْكِتَابِ» ، وَأَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُنْتَفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ جُمْلَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى الصِّلَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ «قَيِّمًا» حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ فِي حَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ جَاعِلٍ فِيهِ عِوَجًا، وَفِي حَالِ كَوْنِهِ قَيِّمًا. وَتَعَدُّدُ الْحَالِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ تَعَدُّدِ الْحَالِ مَعَ اتِّحَادِ عَامِلِ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرَ مُفْرَدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعَطْفٍ أَوْ بِدُونِ عَطْفٍ، فَمِثَالُهُ مَعَ الْعَطْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [3 \ 39] ، وَمِثَالُهُ بِدُونِ عَطْفٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا الْآيَةَ [7 \ 150] . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: عَلَيَّ إِذَا مَا جِئْتِ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ ... زِيَارَةُ بَيْتِ اللَّهِ رَجْلَانَ حَافِيَا وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ مَنْعُ تَعَدُّدِ الْحَالِ مَا لَمْ يَكُنِ الْعَامِلُ فِيهِ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: هَذَا بُسْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ رُطَبًا. وَنُقِلَ مَنْعُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْفَارِسِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ تَعَدُّدَ الْحَالِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَالَ الثَّانِيَةَ إِنَّمَا هِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي الْحَالِ الْأُولَى، وَالْأُولَى عِنْدَهُمْ هِيَ الْعَامِلُ فِي الثَّانِيَةِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَحْوَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ، أَوْ يَجْعَلُونَ الثَّانِيَةَ نَعْتًا لِلْأُولَى، وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ جُمْلَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ حَالِيَّةٌ، وَأَنَّ قَيِّمًا حَالٌ بَعْدَ حَالٍ - الْأَصْفَهَانِيُّ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَيِّمًا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِوَجِ عَنْهُ هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَيِّمًا. وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ الرَّازِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ لِصَاحِبِ حَلِّ الْعُقَدِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ بَدَلٌ مُفْرَدٌ مِنْ جُمْلَةٍ. كَمَا قَالُوا فِي: عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ، أَنَّهُ بَدَلُ جُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ قَيِّمًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَيِّمًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وَجَعَلَهُ قَيِّمًا، وَحَذْفُ نَاصِبِ الْفَضْلَةِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيُحْذَفُ النَّاصِبُهَا إِنْ عُلِمَا وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُهُ مُلْتَزَمَا وَأَقْرَبُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: «قَيِّمًا» أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ، أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنَ «الْكِتَابِ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا [18 \ 2] اللَّامُ فِيهِ مُتَعَلِّقَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 بِـ أَنْزَلَ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: قَيِّمًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَخْوِيفٍ وَتَهْدِيدٍ، فَكُلُّ إِنْذَارٍ إِعْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا، وَالْإِنْذَارُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [92 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا الْآيَةَ [38 \ 40] . وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ كَرَّرَ تَعَالَى الْإِنْذَارَ، فَحَذَفَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ مَفْعُولَ الْإِنْذَارِ الْأَوَّلَ، وَحَذَفَ فِي الثَّانِي الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، فَصَارَ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَتَقْدِيرُ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ، وَتَقْدِيرُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي الْمَحْذُوفِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ لِلْكَافِرِينَ، وَبِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ; إِذْ قَالَ فِي تَخْوِيفِ الْكَفَرَةِ بِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [18 \ 2] ، وَقَالَ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الْآيَةَ [18 \ 4] ، وَقَالَ فِي بِشَارَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا الْآيَةَ [18 \ 2] . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِهِ إِنْذَارًا لِهَؤُلَاءِ وَبِشَارَةً لِهَؤُلَاءِ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] ، وَقَوْلِهِ: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 1 - 2] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْإِنْذَارُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْبَأْسُ الشَّدِيدُ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ إِيَّاهُ: هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْبِشَارَةُ: الْخَيْرُ بِمَا يَسُرُّ. وَقَدْ تُطْلِقُ الْعَرَبُ الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [45 \ 8] وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي ... وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي ... فَقُلْتُ لَهُ ثُكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ إِطْلَاقَ الْبِشَارَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ، أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُلَمَاءَ الْبَلَاغَةِ يَجْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ مَجَازًا، وَيُسَمُّونَهُ اسْتِعَارَةً عِنَادِيَّةً، وَيُقَسِّمُونَهَا إِلَى تَهَكُّمِيَّةٍ وَتَلْمِيحِيَّةٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحِلِّهِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [18 \ 2] بَيَّنَتِ الْمُرَادَ بِهِ آيَاتٌ أُخَرُ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا إِلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ عَمَلٍ مُخَالِفٍ لِمَا جَاءَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَالِحٍ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [59 \ 7] ، وَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 10] ، وَقَالَ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [3 \ 31] ، وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الْآيَةَ [42 \ 21] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [98 \ 5] ، وَقَالَ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [39 \ 11 - 15] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ كَالسَّقْفِ، وَالْعَقِيدَةَ كَالْأَسَاسِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [16 \ 97] ، فَجَعَلَ الْإِيمَانَ قَيْدًا فِي ذَلِكَ. وَبَيَّنَ مَفْهُومَ هَذَا الْقَيْدِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ الْآيَةَ [24 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ الْآيَةَ [14 \ 18] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مُفْرَدَ الصَّالِحَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [2 \ 25] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - أَنَّهُ: صَالِحَةٌ، وَأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ لَفْظَةَ الصَّالِحَةِ عَلَى الْفِعْلَةِ الطَّيِّبَةِ ; كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ لِتَنَاسِي الْوَصْفِيَّةِ، كَمَا شَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ فِي الْحَسَنَةِ مُرَادًا بِهَا الْفِعْلَةُ الطَّيِّبَةُ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ لَفْظَ الصَّالِحَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي زَوْجِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِنْتَ الْأَمِينِ جَزَاكِ اللَّهُ صَالِحَةً ... وَكُلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِالَّذِي عَلِمَا وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: كَيْفَ الْهِجَاءُ وَلَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي وَسُئِلَ أَعْرَابِيٌّ عَنِ الْحُبِّ فَقَالَ: الْحُبُّ مَشْغَلَةٌ عَنْ كُلِّ صَالِحَةٍ ... وَسَكْرَةُ الْحُبِّ تَنْفِي سَكْرَةَ الْوَسَنِ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، أَيْ وَلِيُبَشِّرَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. الْأَجْرُ: جَزَاءُ الْعَمَلِ، وَجَزَاءُ عَمَلِهِمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِالْأَجْرِ: هُوَ الْجَنَّةُ. وَلِذَا قَالَ: مَاكِثِينَ فِيهِ [18 \ 3] ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ; لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَجْرِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَجْرِ الْجَنَّةَ. وَوَصَفَ أَجْرَهُمْ هُنَا بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَبَيَّنَ أَوْجُهَ حُسْنِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ - إِلَى قَوْلِهِ - ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [56 \ 13 - 16] ، وَكَقَوْلِهِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ [56 \ 39 - 40] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، أَيْ خَالِدِينَ فِيهِ بِلَا انْقِطَاعٍ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] ، أَيْ مَا لَهُ مِنِ انْقِطَاعٍ وَانْتِهَاءٍ، وَقَوْلِهِ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] ، وَقَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [87 \ 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [18 \ 4] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 أَيْ يُنْذِرَهُمْ بَأْسًا شَدِيدًا، مِنْ لَدُنْهُ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ شَامِلٌ لِلَّذِينِ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي: أَنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إِذَا كَانَ الْخَاصُّ يَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِصِفَاتٍ حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ مِنَ الْإِطْنَابِ الْمَقْبُولِ، تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ. وَمِثَالُهُ فِي الْمُمْتَازِ عَنْ سَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِصِفَاتٍ حَسَنَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ الْآيَةَ [2 \ 98] ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [33 \ 7] . وَمِثَالُهُ فِي الْمُمْتَازِ بِصِفَاتٍ قَبِيحَةٍ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِفِرْيَةٍ شَنْعَاءَ، وَلِذَا سَاغَ عَطْفُهُمْ عَلَى اللَّفْظِ الشَّامِلِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى شِدَّةِ عِظَمِ فِرْيَتِهِمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا. كَقَوْلِهِ هُنَا: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [18 \ 5] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [19 \ 88 - 92] ، وَقَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ نَسَبُوا الْوَلَدَ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ: الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، قَالَ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ الْآيَةَ [9 \ 30] ، وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [16 \ 57] ، وَالْآيَاتُ بِنَحْوِهَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ [18 \ 5] ، يَعْنِي أَنَّ مَا نَسَبُوهُ لَهُ جَلَّ وَعَلَا مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِهِ ; وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [2 \ 57] ; لِأَنَّ ظُلْمَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 لِرَبِّنَا وَحُصُولَ الْعِلْمِ لَهُمْ بِاتِّخَاذِهِ الْوَلَدَ كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا. فَنَفْيُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الْمَنْطِقِيِّينَ: السَّالِبَةُ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمَا نَفَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ آبَائِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِاتِّخَاذِهِ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [6 \ 100] ، وَقَوْلِهِ فِي آبَائِهِمْ: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [18 \ 5] يَعْنِي أَنَّ مَا قَالُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا أَمْرٌ كَبِيرٌ عَظِيمٌ ; كَمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِظَمِهِ آنِفًا، كَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا الْآيَةَ [19 \ 90] ، وَكَفَى بِهَذَا كِبَرًا وَعِظَمًا. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَهُ: كَبُرَتْ كَلِمَةً مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ، فَهُوَ بِمَعْنَى مَا أَكْبَرَهَا كَلِمَةً، أَوْ أَكْبِرْ بِهَا كَلِمَةً. وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: أَنَّ «فَعُلَ» بِالضَّمِّ تُصَاغُ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً الْآيَةَ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجْعَلْ ... فَعُلَا مِنْ ذِي ثَلَاثَةٍ كَنِعْمَ مُسَجَّلَا وَقَوْلُهُ «كَنِعْمَ» أَيِ اجْعَلْهُ مِنْ بَابِ «نِعْمَ» فَيَشْمَلُ بِئْسَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَفَاعِلُ «كَبُرَ» ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ وَكَلِمَةً نَكِرَةٌ مُمَيِّزَةٌ لِلضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ. وَيَرْفَعَانِ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ مُمَيِّزٌ كَنِعْمَ قَوْمًا مَعْشَرُهْ وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَتْ هِيَ كَلِمَةً خَارِجَةً مِنْ أَفْوَاهِهِمْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ الَّتِي فَاهُوا بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَعْرَبَ بَعْضُهُمْ كَلِمَةً بِأَنَّهَا حَالٌ، أَيْ كَبُرَتْ فِرْيَتُهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهَا كَلِمَةً خَارِجَةً مِنْ أَفْوَاهِهِمْ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، أَيْ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ سِوَى قَوْلِهِمْ وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِذَا قَالَ: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [18 \ 5] . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لَهُ شَوَاهِدُ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [3 \ 167] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْكَذِبُ: مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ. لَفْظَةُ «كَبُرَ» إِذَا أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ الْكِبَرِ فِي السِّنِّ فَهِيَ مَضْمُومَةُ الْبَاءِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: كَبُرَتْ كَلِمَةً الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [17 \ 51] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْكِبَرُ فِي السِّنِّ فَهِيَ مَكْسُورَةُ الْبَاءِ فِي الْمَاضِي، مَفْتُوحَتُهَا فِي الْمُضَارِعِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [4 \ 6] . وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ: تَعَشَّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ ذَوَائِبَ ... وَلَمْ يَبْدُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبُهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا ... إِلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ الْبُهْمُ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ: «صَغِيرَيْنِ» شَاهَدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي إِتْيَانِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَبُرَتْ كَلِمَةً يَعْنِي بِالْكَلِمَةِ: الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [18 \ 4] . وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِقُ اسْمَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ، أَوْضَحَتْهُ آيَاتٌ أُخَرُ ; كَقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا الْآيَةَ [23 \ 100] ، وَالْمُرَادُ بِهَا قَوْلُهُ: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [23 \ 99 - 100] ، وَقَوْلُهُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [11 \ 119] ، وَمَا جَاءَ لَفْظُ الْكَلِمَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مُرَادًا بِهِ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عِوَجَا هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَبِفَتْحِهَا فِيمَا كَانَ مُنْتَصِبًا كَالْحَائِطِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَكُلُّ مَا كَانَ يَنْتَصِبُ كَالْحَائِطِ وَالْعُودِ قِيلَ فِيهِ «عَوَجٌ» بِالْفَتْحِ، وَالْعِوَجُ - بِالْكَسْرِ - مَا كَانَ فِي أَرْضٍ أَوْ دِينٍ أَوْ مَعَاشٍ، يُقَالُ: فِي دِينِهِ عِوَجٌ. اهـ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْوَصْلِ عِوَجًا بِالسَّكْتِ عَلَى الْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ التَّنْوِينِ سَكْتَةً يَسِيرَةً مِنْ غَيْرِ تَنَفُّسٍ، إِشْعَارًا بِأَنَّ قَيِّمًا لَيْسَ مُتَّصِلًا بِـ عِوَجًا فِي الْمَعْنَى، بَلْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ جَعَلَهُ قَيِّمًا كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ لَدُنْهُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ مَعَ إِشْمَامِهَا الضَّمَّ، وَكَسْرِ النُّونِ وَالْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِيَاءٍ فِي اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ [18 \ 2] ، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبْشُرَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الشِّينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَةَ «لَعَلَّ» تَكُونُ لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ، وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَحْذُورِ، وَاسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ أَنَّ «لَعَلَّ» فِي قَوْلِهِ هُنَا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ لِلْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ «لَعَلَّ» فِي الْآيَةِ لِلنَّهْيِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْعَسْكَرِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: لَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ فِي الْآيَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ. وَإِتْيَانُ «لَعَلَّ» لِلِاسْتِفْهَامِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى «لَعَلَّ» أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ. وَإِطْلَاقُ «لَعَلَّ» مُضَمَّنَةً مَعْنَى النَّهْيِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ النَّهْيِ صَرِيحًا عَنْ ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [35 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 [16 \ 127] ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [5 \ 68] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَالْبَاخِعُ: الْمُهْلِكُ ; أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ مِنْ شِدَّةِ الْأَسَفِ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: أَلَا أَيُهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: عَلَى آثَارِهِمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «آثَارِهُمْ» جَمْعُ أَثَرٍ، وَيُقَالُ إِثْرٌ. وَالْمَعْنَى: عَلَى أَثَرِ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَمَعْنَى «عَلَى آثَارِهِمْ» : مِنْ بَعْدِهِمْ، أَيْ بَعْدَ يَأْسِكَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، يُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ ; أَيْ بَعْدَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ وَإِيَّاهُمْ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَمَا دَاخَلَهُ مِنَ الْوَجْدِ وَالْأَسَفِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ - بِرَجُلٍ فَارَقَتْهُ أَحِبَّتُهُ وَأَعِزَّتُهُ فَهُوَ يَتَسَاقَطُ حَسَرَاتٍ عَلَى آثَارِهِمْ وَيَبْخَعُ نَفْسَهُ وَجْدًا عَلَيْهِمْ، وَتَلَهُّفًا عَلَى فِرَاقِهِمْ. وَالْأَسَفُ هُنَا: شِدَّةُ الْحُزْنِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْأَسَفُ عَلَى الْغَضَبِ ; كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [43 \ 55] . فَإِذَا حَقَّقْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيهَا جَلَّ وَعَلَا مِنْ شِدَّةِ حُزْنِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ نَهْيِهِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [35 \ 8] ، وَكَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [26 \ 3] ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] ، وَكَقَوْلِهِ: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [5 \ 68] ، وَكَقَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [6 \ 33] ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [15 \ 97] كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَسَفًا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ مِنْ أَجْلِ الْأَسَفِ. وَيَجُوزُ إِعْرَابُهُ حَالًا ; أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكَ آسِفًا عَلَيْهِمْ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حَالًا يَقَعْ بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زِيدٌ طَلَعْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «مَا عَلَيْهَا» يَعْنِي مَا عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَهَا وَلِأَهْلِهَا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَوَجْهُ كُلِّ الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُؤْذِي زِينَةٌ لِلْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَوُجُودُ مَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْعِلْمُ فِي شَيْءٍ زِينَةٌ لَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ عَامٌّ ثُمَّ يُصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [22 \ 32] الْآيَةَ، مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ الْبُدْنَ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [18 \ 36] . وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا [18 \ 7] قَدْ صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [18 \ 46] ، وَقَوْلِهِ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً الْآيَةَ [16 \ 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: صَعِيدًا جُرُزًا [18 \ 8] ، أَيْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ بِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى «الصَّعِيدِ» بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَالْجُرُزُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [32 \ 27] وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: طَوَى النَّحْزُ وَالْأَجْرَازُ مَا فِي غُرُوضِهَا ... وَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ لِأَنَّ مُرَادَهُ «بِالْأَجْرَازِ» الْفَيَافِي الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَالْأَجْرَازُ: جَمْعُ جُرَزَةٍ، وَالْجُرَزَةُ: جَمْعُ جُرْزٍ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ لِلْجُرْزِ، كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا [18 \ 8] مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ صَعِيدًا جُرُزًا، أَيْ مِثْلَ أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَضْرَاءَ مُعْشِبَةً، فِي إِزَالَةِ بَهْجَتِهِ وَإِمَاطَةِ حُسْنِهِ، وَإِبْطَالِ مَا بِهِ كَانَ زِينَةً مِنْ إِمَاتَةِ الْحَيَوَانِ، وَتَجْفِيفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ. اهـ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [10 \ 24] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [18 \ 7] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18 \ 45] أَيْ لِنَخْتَبِرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِنَا. وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا لِجَعْلِ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا (وَهِيَ الِابْتِلَاءُ فِي إِحْسَانِ الْعَمَلِ) بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [67 \ 1 - 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [11 \ 7] . وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْسَانَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الَّذِي أَوْضَحْنَا مِنْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْتَلِيَ خَلْقَهُ، ثُمَّ يُهْلِكَ مَا عَلَيْهَا وَيَجْعَلَهُ صَعِيدًا جُرُزًا - فِيهِ أَكْبَرُ وَاعِظٍ لِلنَّاسِ، وَأَعْظَمُ زَاجِرٍ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَإِيثَارِ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا. أَمْ [18 \ 9] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَمَعْنَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ «بَلْ وَالْهَمْزَةِ» وَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِمَعْنَى «بَلْ» فَقَطْ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى: بَلْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 أَحَسِبْتَ، وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى: بَلْ حَسِبْتَ، فَهِيَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَامِعَةٌ بَيْنَ الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ، وَعَلَى الثَّانِي فَهِيَ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فَقَطْ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَإِنِ اسْتَعْظَمَهَا النَّاسُ وَعَجِبُوا مِنْهَا، فَلَيْسَتْ شَيْئًا عَجَبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِنَا وَعَظِيمِ صُنْعِنَا، فَإِنَّ خَلْقَنَا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَجَعْلَنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا، وَجَعْلَنَا إِيَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَعِيدًا جُرُزًا، أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ مِمَّا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَمِنْ كَوْنِنَا أَنَمْنَاهُمْ هَذَا الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا - إِلَى قَوْلِهِ - صَعِيدًا جُرُزًا [18 \ 7 - 8] ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ الْآيَةَ [18 \ 9] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ قِصَّتَهُمْ لَا عَجَبَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَلَقْنَا مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَنْبِيهُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَمَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأَصْغَرِ بِلَا شَكٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الْآيَةَ [40 \ 57] ، وَكَقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - إِلَى قَوْلِهِ - مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 27 - 33] كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ» . وَمَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعِظَامَ: كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا فَلَا عَجَبَ فِي إِقَامَتِهِ أَهْلَ الْكَهْفِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، ثُمَّ بَعْثِهِ إِيَّاهُمْ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَالْكَهْفُ: النَّقْبُ الْمُتَّسِعُ فِي الْجَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُ وَاسِعًا فَهُوَ غَارٌ. وَقِيلَ: كُلُّ غَارٍ فِي جَبَلٍ: كَهْفٌ. وَمَا يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ الْكَهْفَ نَفْسُ الْجَبَلِ، غَرِيبٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِـ الرَّقِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، قِيلَ: الرَّقِيمُ اسْمُ كَلْبِهِمْ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ حَيْثُ يَقُولُ: وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا الرَّقِيمُ مُجَاوِرًا ... وَصَيْدُهُمْ وَالْقَوْمُ فِي الْكَهْفِ هُمَّدُ وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ الرَّقِيمَ: بَلْدَةٌ بِالرُّومِ، وَقِيلَ: اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ، وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ، وَالْأَقْوَالُ فِيهِ كَثِيرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ؟ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَنَّ الرَّقِيمَ مَعْنَاهُ: الْمَرْقُومُ، فَهُوَ «فَعِيلٌ» بِمَعْنَى «مَفْعُولٍ» مِنْ: رَقَمْتُ الْكِتَابَ: إِذَا كَتَبْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَابٌ مَرْقُومٌ الْآيَةَ [83 \ 9، و83 \ 20] . سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الرَّقِيمَ كِتَابٌ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ شَرْعُهُمُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ، أَوْ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ كُتِبَتْ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ وَسَبَبُ خُرُوجِهِمْ، أَوْ صَخْرَةٌ نُقِشَتْ فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ: طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ أُضِيفَتْ إِلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ طَائِفَةٌ، وَأَصْحَابَ الرَّقِيمِ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَأَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَى نَبِيِّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا عَنْ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ هُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ سَقَطَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَدَعَوُا اللَّهَ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَهُمُ الْبَارُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْعَفِيفُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُ، بَعِيدٌ كَمَا تَرَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَأَسْمَاءَهُمْ، وَفِي أَيِّ مَحِلٍّ مِنَ الْأَرْضِ كَانُوا، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَجَبًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ شَيْئًا عَجَبًا. أَوْ آيَةً عَجَبًا. وَقَوْلُهُ: مِنْ آيَاتِنَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ النَّحْوِ أَنَّ نَعْتَ النَّكِرَةِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا صَارَ حَالًا، وَأَصْلُ الْمَعْنَى: كَانُوا عَجَبًا كَائِنًا مِنْ آيَاتِنَا، فَلَمَّا قُدِّمَ النَّعْتُ صَارَ حَالًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ، وَأَنَّهُمْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ، وَأَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ الْعَظِيمَ الشَّامِلَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَنْهُمْ: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [18 \ 10] . وَبَيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ أُخْرَى مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ ; كَقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى - إِلَى قَوْلِهِ - يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [18 \ 13 - 16] وَإِذْ فِي قَوْلِهِ هُنَا: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ [18 \ 10] مَنْصُوبَةٌ بِـ اذْكُرْ مُقَدَّرًا، وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: عَجَبًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [18 \ 10] ، أَيْ جَعَلُوا الْكَهْفَ مَأْوًى لَهُمْ وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، أَيْ أَعْطِنَا رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَالرَّحْمَةُ هُنَا تَشْمَلُ الرِّزْقَ وَالْهُدَى وَالْحِفْظَ مِمَّا هَرَبُوا خَائِفِينَ مِنْهُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِمْ، وَالْمَغْفِرَةَ. وَالْفِتْيَةُ: جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، وَيَدُلُّ لَفْظُ الْفِتْيَةِ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَبَابٌ لَا شِيبَ، خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ مِنْ: أَنَّ الْفِتْيَةَ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَإِلَى كَوْنِ مِثْلِ الْفِتْيَةِ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: أَفْعِلَةٌ أَفْعُلٌ ثُمَّ فِعْلَهْ ... كَذَاكَ أَفْعَالٌ جُمُوعِ قِلَّةْ وَالتَّهْيِئَةُ: التَّقْرِيبُ وَالتَّيْسِيرُ، أَيْ يَسِّرْ لَنَا وَقَرِّبْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، وَالرَّشَدُ: الِاهْتِدَاءُ وَالدَّيْمُومَةُ عَلَيْهِ. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِنَا فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا هُنَا لِلتَّجْرِيدِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: اجْعَلْ لَنَا أَمْرَنَا رَشَدًا كُلَّهُ، كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ مِنْ زَيْدٍ أَسَدًا. وَمِنْ عَمْرٍو بَحْرًا. وَالثَّانِي أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَاجْعَلْ لَنَا بَعْضَ أَمْرِنَا ; أَيْ وَهُوَ الْبَعْضُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ مُفَارَقَةِ الْكَفَّارِ، رَشَدًا، حَتَّى نَكُونَ بِسَبَبِهِ رَاشِدِينَ مُهْتَدِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى آذَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ هَذَا الْعَدَدِ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [18 \ 25] . وَضَرْبُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ أَنَامَهُمْ، وَمَفْعُولُ «ضَرَبْنَا» مَحْذُوفٌ، أَيْ ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ حِجَابًا مَانِعًا مِنَ السَّمَاعِ فَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يُوقِظُهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَمْنَاهُمْ إِنَامَةً ثَقِيلَةً لَا تُنَبِّهُهُمْ فِيهَا الْأَصْوَاتُ. وَقَوْلُهُ: سِنِينَ عَدَدًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ; أَيْ ذَاتَ عَدَدٍ، أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ سِنِينَ مَعْدُودَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَةَ الْمُبَيِّنَةَ لِقَدْرِ عَدَدِهَا بِالسَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وَالشَّمْسِيَّةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَازْدَادُوا تِسْعًا [18 \ 25] . وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [18 \ 11] عَبَّرَ بِالضَّرْبِ لِيَدُلَّ عَلَى قُوَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَاللُّصُوقِ وَاللُّزُومِ، وَمِنْهُ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [2 \ 61] ، وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ وَضَرَبَ الْبَعْثَ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: ضَرَبَ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ: وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَكَ أَنَّنِي ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ وَقَالَ آخَرُ: إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالسَّمَاحَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ وَذَكَرَ الْجَارِحَةَ الَّتِي هِيَ الْآذَانُ (إِذْ هِيَ يَكُونُ مِنْهَا السَّمْعُ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْكِمُ نَوْمٌ إِلَّا مَعَ تَعَطُّلِ السَّمْعِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» ; أَيِ اسْتَثْقَلَ نَوْمَهُ جِدًّا حَتَّى لَا يَقُومَ بِاللَّيْلِ. اهـ كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ حِكَمِ بَعْثِهِ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ بَعْدَ هَذِهِ النَّوْمَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ أَحْصَى لِذَلِكَ وَأَضْبَطُ لَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا عَنِ الْحِزْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْحِزْبَيْنِ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَالْحِزْبَ الثَّانِي هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الْفِتْيَةُ عَلَى عَهْدِهِمْ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّارِيخُ بِأَمْرِ الْفِتْيَةِ، وَقِيلَ: هُمَا حِزْبَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَقِيلَ: هُمَا حِزْبَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا مُلْكَ الْمَدِينَةِ حِزْبٌ، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ حِزْبٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّ الْحِزْبَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [18 \ 19] ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 قَالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ قَدْ تَطَاوَلَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ عَنْهُمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُحْصُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ رَدَّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الْآيَةَ [8 \ 25] ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا الْآيَةَ [18 \ 26] . وَقَوْلُهُ: بَعَثْنَاهُمْ أَيْ مِنْ نَوْمَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ، وَالْبَعْثُ: التَّحْرِيكُ مِنْ سُكُونٍ، فَيَشْمَلُ بَعْثَ النَّائِمِ وَالْمَيِّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا حِكْمَةً لِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ، وَيَكُونَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ حِكَمٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَإِنَّا نُبَيِّنُهَا، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مِنْهُ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَ مِنْ حِكَمِ بَعْثِهِمْ إِظْهَارَهُ لِلنَّاسِ: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، وَقَدْ بَيَّنَ لِذَلِكَ حِكَمًا أُخَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. مِنْهَا أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ ; كَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [18 \ 19] . وَمِنْهَا إِعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ لِدَلَالَةِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا الْآيَةَ [18 \ 21] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ الْآيَةَ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ قَبْلَ بَعْثِهِمْ، وَإِنَّمَا عَلِمَ بَعْدَ بَعْثِهِمْ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْكَفَرَةِ الْمَلَاحِدَةِ، بَلْ هُوَ جَلَّ وَعَلَا عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ عِلْمًا جَدِيدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [3 \ 154] ، فَقَوْلُهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلِيَبْتَلِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَمَعْنَى لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَيْ نَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا يُظْهِرُ الْحَقِيقَةَ لِلنَّاسِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ دُونَ خَلْقِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَحْصَى فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَ «أَمَدًا» مَفْعُولُهُ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: «لِمَا لَبِثُوا» مَصْدَرِيَّةٌ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ضَبَطَ أَمَدًا لِلُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ. وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ: الْفَارِسِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمْ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَحْصَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَ «أَمَدًا» تَمْيِيزٌ، وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ الْوَجْهَيْنِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ، قَالُوا: لَا يَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، لِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا هِيَ وَلَا صِيغَةُ فِعْلِ التَّعَجُّبِ قِيَاسًا إِلَّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَ «أَحْصَى» رُبَاعِيٌّ فَلَا تُصَاغُ مِنْهُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ وَلَا التَّعَجُّبِ قِيَاسًا، قَالُوا: وَقَوْلُهُمْ: مَا أَعْطَاهُ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ، وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَأَفْلَسَ مِنَ ابْنِ الْمُذَلَّقِ - شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ أَيْضًا لِأَنَّ أَحْصَى لَيْسَتْ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ بِأَنَّ أَمَدًا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ «أَفْعَلَ» فَـ «أَفْعَلُ» لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ لَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَكُونَ سَدِيدًا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَقَالَ: فَإِنْ زَعَمْتَ نَصْبَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْصَى كَمَا أُضْمِرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا أَيْ نَضْرِبُ الْقَوَانِسَ - فَقَدْ أَبْعَدْتَ الْمُتَنَاوَلَ وَهُوَ قَرِيبٌ؛ حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكُونَ أَحْصَى فِعْلًا، ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إِلَى تَقْدِيرِهِ وَإِضْمَارِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَأُجِيبُ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ لَا تُصَاغُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ. وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي كَوْنِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ تُصَاغُ مِنْ «أَفْعَلَ» كَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 هُنَا، أَوْ لَا تُصَاغُ مِنْهُ - ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ لِعُلَمَاءِ النَّحْوِ: الْأَوَّلُ: جَوَازُ بِنَائِهَا مِنْ «أَفْعَلَ» مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَالثَّانِي: لَا يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا، وَمَا سُمِعَ مِنْهُ فَهُوَ شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ ... وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [17 \ 72] . الثَّالِثُ: تُصَاغُ مِنْ «أَفْعَلَ» إِذَا كَانَتْ هَمْزَتُهَا لِغَيْرِ النَّقْلِ خَاصَّةً ; كَـ «أَظْلَمَ اللَّيْلُ» وَ: «أَشْكَلَ الْأَمْرُ» لَا إِنْ كَانَتِ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلَا تُصَاغُ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ، وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ مَذْكُورَةٌ بِأَدِلَّتِهَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَعْمَلُ فِي التَّمْيِيزِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا ... مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا وَأَمَدًا تَمْيِيزٌ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَنَصْبُهُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَذَهَبَ الطَّبَرَيُّ إِلَى أَنَّ: أَمَدًا مَنْصُوبٌ بِـ لَبِثُوا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: قَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَمَدَ هُوَ الْغَايَةُ، وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُدَّةَ غَايَةٌ. وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَأَمَدًا مُنْتَصِبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ ; أَيْ لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ، أَيْ مُدَّةٍ، وَيَصِيرُ «مِنْ أَمَدٍ» تَفْسِيرًا لِمَا انْبَهَمَ فِي لَفْظِ مَا لَبِثُوا كَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [2 \ 106] ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [35 \ 2] ، وَلَمَّا سَقَطَ الْحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِطْلَاقُ الْأَمَدِ عَلَى الْغَايَةِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ ... سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» أَنَّ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشَ الصَّغِيرَ أَجَازَ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ نَصْبُ قَوْلِهِ: أَمَدًا بِقَوْلِهِ: لَبِثُوا غَيْرُ سَدِيدٍ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَكَمَا لَا يَخْفَى. اهـ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وَأَعْرَبُوا قَوْلَ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ: فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْحَيِّ حَيًّا مُصَبِّحًا ... وَلَا مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا أَكَرَّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ... وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا بِأَنَّ «الْقَوَانِسَ» مَفْعُولٌ بِهِ لِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ الَّتِي هِيَ «أَضْرَبَ» قَالُوا: وَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [6 \ 117] ، مَنْصُوبٌ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ قَبْلَهُ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ هَذَا أَجْرَى عِنْدِي عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِيهَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِيهَا، فَلَا مَانِعَ مِنْ عَمَلِهَا عَمَلَهُ ; أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا، مَعْنَاهُ: يَزِيدُ ضَرْبُنَا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسِ عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ أَمَدًا مَنْصُوبٌ بِـ أَحْصَى نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَحْصَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَعْرَبُوا أَمَدًا بِأَنَّهُ تَمْيِيزٌ. تَنْبِيهٌ فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ رَفْعِ أَيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ لِلْعُلَمَاءَ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا، أَنَّ أَيُّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالِاسْتِفْهَامُ يُعَلِّقُ الْفِعْلَ عَنْ مَفْعُولَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُعَلِّقُ الْفِعْلَ الْقَلْبِيَّ عَنْ مَفْعُولَيْهِ: وَإِنْ وَلَا لَامُ ابْتِدَاءٍ أَوْ قَسَمْ ... كَذَا وَالِاسْتِفْهَامُ ذَا لَهُ انْحَتَمْ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْجُمْلَةَ بِمَجْمُوعِهَا مُتَعَلَّقُ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ السَّبَبِ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ فِي لَفْظَةِ أَيُّ بَلْ بَقِيَتْ عَلَى ارْتِفَاعِهَا، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَرَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَوْجُهِ الْأَعَارِيبِ عِنْدِي فِي الْآيَةِ: أَنَّ لَفْظَةَ أَيُّ مَوْصُولَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَأَيُّ مَبْنِيَّةٌ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ، وَصَدْرُ صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: أَيُّ كَمَا وَأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ ... وَصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ وَلِبِنَائِهَا لَمْ يَظْهَرْ نَصْبُهَا، وَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لِنَعْلَمَ الْحِزْبَ الَّذِي هُوَ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا وَنُمَيِّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَحْصَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ كَمَا قَدَّمْنَا تَوْجِيهَهُ ; نَعَمْ، لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِي بِدَلَالَةِ مُطَابَقَتِهَا الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمُفَضَّلِ وَالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَأَحَدُ الْحِزْبَيْنِ لَمْ يُشَارِكِ الْآخَرَ فِي أَصْلِ الْإِحْصَاءِ لِجَهْلِهِ بِالْمُدَّةِ مِنْ أَصْلِهَا، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْصَى فِعْلٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَائِدَةٍ مُهِمَّةٍ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِ لِلْحِزْبِ الْمُحْصِي أَمَدَ اللُّبْثِ مِنْ غَيْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً لِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ الْآيَةَ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ مُهِمَّةٍ فِي مُسَاءَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً لِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ إِعْلَامِ النَّاسِ بِالْحِزْبِ الَّذِي هُوَ أَحْصَى أَمَدًا لِمَا لَبِثُوا، وَمُسَاءَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَظْهَرَ لِلنَّاسِ حَقِيقَةُ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ ثَلَاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، ثُمَّ بَعَثَهُمْ أَحْيَاءَ طَرِيَّةً أَبْدَانُهُمْ، لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهُمْ حَالٌ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ صُنْعِهِ جَلَّ وَعَلَا الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَعَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِاعْتِبَارِ هَذَا اللَّازِمِ جَعَلَ مَا ذَكَرْنَا عِلَّةً غَائِيَّةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [18 \ 13] . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَيْهِ نَبَأَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِالْحَقِّ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ مُؤَكِّدًا لَهُ أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا زَادَهُمْ هُدًى. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ وَأَطَاعَهُ زَادَهُ رَبُّهُ هُدًى ; لِأَنَّ الطَّاعَةَ سَبَبٌ لِلْمَزِيدِ مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [47 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا الْآيَةَ [29 \ 69] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا الْآيَةَ [8 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [9 \ 124] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ الْآيَةَ [48 \ 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ الْآيَةَ [57 \ 28] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ، مَفْهُومٌ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً صَرِيحَةً لَا شَكَّ فِيهَا، فَلَا وَجْهَ مَعَهَا لِلِاخْتِلَافِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا. أَيْ ثَبَّتْنَا قُلُوبَهُمْ وَقَوَّيْنَاهَا عَلَى الصَّبْرِ، حَتَّى لَا يَجْزَعُوا وَلَا يَخَافُوا مِنْ أَنْ يَصْدَعُوا بِالْحَقِّ، وَيَصْبِرُوا عَلَى فِرَاقِ الْأَهْلِ وَالنَّعِيمِ، وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ لَا أَنِيسَ بِهِ، وَلَا مَاءَ وَلَا طَعَامَ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ تَعَالَى يُقَوِّي قَلْبَهُ، وَيُثَبِّتُهُ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ، وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى وَقَائِعَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [8 \ 11 - 12] ، وَكَقَوْلِهِ فِي أُمِّ مُوسَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [28 \ 10] . وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ قَامُوا أَيْ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ بِلَادِهِمْ، وَهُوَ مَلِكٌ جَبَّارٌ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، يَزْعُمُونَ أَنَّ اسْمَهُ: دِقْيَانُوسُ. وَقِصَّتُهُمْ مَذْكُورَةٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِأَنَّهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ. وَفِي قِيَامِهِمُ الْمَذْكُورِ هُنَا أَقْوَالٌ أُخَرُ كَثِيرَةٌ، وَالْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: «إِذْ» هُوَ «رَبَطْنَا» عَلَى قُلُوبِهِمْ حِينَ قَامُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فَزَادَهُمْ رَبُّهُمْ هُدًى، قَالُوا: إِنَّ رَبَّهُمْ هُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا، وَأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ قَالُوا شَطَطًا، أَيْ قَوْلًا ذَا شَطَطٍ، أَوْ هُوَ مِنَ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَأَنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ نَفْسُ الشَّطَطِ، وَالشَّطَطُ: الْبُعْدُ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ. وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ ; كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ «شَطَطًا» : جَوْرًا، تَعَدِّيًا، كَذِبًا، خَطَأً، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَأَصْلُ مَادَّةِ الشَّطَطِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ أَشَطَّ فِي السَّوْمِ: إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُشْطِطْ الْآيَةَ [38 \ 22] ، أَوِ الْبُعْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: تَشِطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا ... وَلَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ الشَّطَطِ فِي الْجَوْرِ وَالتَّعَدِّي، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: أَتَنْتَهُونَ وَإِنْ يَنْهَى ذَوِي الشَّطَطِ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفُتُلُ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعْبُودًا آخَرَ، فَقَدْ جَاءَ بِأَمْرٍ شَطَطٍ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي غَايَةِ الْجَوْرِ وَالتَّعَدِّي ; لِأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ هُوَ الَّذِي يُبْرِزُ الْخَلَائِقَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ; لِأَنَّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ غَيْرِهِ مَخْلُوقٌ يَحْتَاجُ إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ وَيَرْزُقُهُ وَيُدَبِّرُ شُئُونَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [2 \ 21 - 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16] ، أَيِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الْآيَةَ [25 \ 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، أَيْ إِذَا دَعَوْنَا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 دُونِهِ إِلَهًا، فَقَدْ قُلْنَا شَطَطًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ. " لَوْلَا " فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلتَّحْضِيضِ، وَهُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّلَبِ التَّعْجِيزُ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ عَلَى جَوَازِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْبَيِّنِ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَإِبْطَالِ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [6 \ 148] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [46 \ 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [43 \ 21] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [30 \ 35] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [35 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [23 \ 117] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ إِلَّا تَقْلِيدَ آبَائِهِمِ الضَّالِّينَ، كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: " هَؤُلَاءِ " مُبْتَدَأٌ، وَ " قَوْمًا " قِيلَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَالْخَبَرُ جُمْلَةُ " اتَّخَذُوا "، وَقِيلَ " قَوْمُنَا " خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَجُمْلَةُ " اتَّخَذُوا فِي مَحَلِّ حَالٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِادِّعَاءِ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، كَمَا افْتَرَاهُ عَلَيْهِ قَوْمُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، كَمَا قَالَ عَنْهُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الْآيَةَ [18 \ 15] . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِجَعْلِ الشُّرَكَاءِ لَهُ هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ الْآيَةَ [39 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [11 \ 18] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا. «إِذْ» فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ لِلتَّعْلِيلِ، عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَلِأَجْلِ اعْتِزَالِكُمْ قَوْمَكُمُ الْكُفَّارَ وَمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَاتَّخِذُوا الْكَهْفَ مَأْوًى وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِزَالَ الْمُؤْمِنِ قَوْمَهُ الْكُفَّارَ وَمَعْبُودِيهِمْ مِنْ أَسْبَابِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [19 \ 48 - 50] وَاعْتِزَالُهُمْ إِيَّاهُمْ هُوَ مُجَانَبَتُهُمْ لَهُمْ، وَفِرَارُهُمْ مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، اسْمُ مَوْصُولٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، أَيْ وَاعْتَزَلْتُمْ مَعْبُودِيهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقِيلَ: «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَيِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمْ عِبَادَتَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهَ، قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَالْأَصْنَامَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ; بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الْأَصْنَامَ، وَلَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ. وَقَوْلُهُ: مِرفَقًا أَيْ مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ، أَيْ تَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ مَعَ تَفْخِيمِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَرْقِيقِ الرَّاءِ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ وَلُغَتَانِ فِي مَا يُرْتَفَقُ بِهِ، وَفِي عُضْوِ الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْكَرَ الْكِسَائِيُّ فِي «الْمِرْفَقِ» بِمَعْنَى عُضْوِ الْإِنْسَانِ فَتْحَ الْمِيمِ وَكَسْرَ الْفَاءِ، وَقَالَ: هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَزَعَمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ بِمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ، أَيْ يُهَيِّئْ لَكُمْ بَدَلًا مِنْ «أَمْرِكُمْ» الصَّعْبِ مِرْفَقًا: وَعَلَى هَذَا الَّذِي زَعَمَ غَايَةٌ ; كَقَوْلِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [9 \ 38] أَيْ بَدَلًا مِنْهَا وَعِوَضًا عَنْهَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ أَيْ بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمَعْنَى: يَنْشُرْ لَكُمْ: يَبْسُطُ لَكُمْ: كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [42 \ 28] . وَقَوْلُهُ: وَيُهَيِّئْ ; أَيْ يُيَسِّرْ وَيُقَرِّبْ وَيُسَهِّلْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ صِحَّةِ الْآخَرِ. أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْكَهْفِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّمْسِ حَوَاجِزُ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ نَفْسِ الْكَهْفِ، تَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي فَجْوَةٍ مِنَ الْكَهْفِ عَلَى سَمْتٍ تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَتُقَابِلُهُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَرَامَةً لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ طَاعَةً لِرَبِّهِمْ جَلَّ وَعَلَا. وَالْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [18 \ 17] ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَأْلُوفًا، وَلَيْسَ فِيهِ غَرَابَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ ; فَمَعْنَى تَزَاوُرِ الشَّمْسِ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَقَرْضِهَا إِيَّاهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ عِنْدَ غُرُوبِهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ يُقَلِّصُ ضَوْءَهَا عَنْهُمْ، وَيُبْعِدُهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ عِنْدَ الطُّلُوعِ، وَإِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِ الْكَهْفِ، وَجَزَمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَابَ الْكَهْفِ كَانَ مِنْ نَحْوِ الشِّمَالِ، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عَنْهُ ذَاتَ الْيَمِينِ، أَيْ يَتَقَلَّصُ الْفَيْءُ يَمْنَةً. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: تَزَاوَرُ، أَيْ تَمِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ فِي الْأُفُقِ تَقَلَّصَ شُعَاعُهَا بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ [18 \ 17] ، أَيْ تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ لَمَا دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا إِنَّ بَابَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى جَانِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَتْ عَلَى يَمِينِ الْكَهْفِ، وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ عَلَى شِمَالِهِ، فَضَوْءُ الشَّمْسِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْكَهْفِ، وَكَانَ الْهَوَاءُ الطَّيِّبُ وَالنَّسِيمُ الْمُوَافِقُ يَصِلُ إِلَيْهِ، انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَعَ الشَّمْسِ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ، وَحَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الدَّبُورِ وَهُمْ فِي زَاوِيَةٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ بَابُ الْكَهْفِ يَنْظُرُ إِلَى بَنَاتِ نَعْشٍ، وَعَلَى هَذَا كَانَ أَعْلَى الْكَهْفِ مَسْتُورًا مِنَ الْمَطَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ كَهْفُهُمْ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ لَا تَدْخُلُهُ الشَّمْسُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، اخْتَارَ اللَّهُ لَهُمْ مَضْجَعًا مُتَّسِعًا فِي مَقْنَأَةٍ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ فَتُؤْذِيهِمْ، انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ. وَالْمَقْنَأَةُ: الْمَكَانُ الَّذِي لَا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِلْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَمِمَّنِ اعْتَمَدَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ الزَّجَّاجُ، وَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضَ الْمَيْلِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، لِتَوْجِيهِهِمَا قَوْلَ الزَّجَّاجِ الْمَذْكُورَ بِقَرِينَةِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ: وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ صَرْفَ الشَّمْسِ عَنْهُمْ مَعَ تَوَجُّهِ الْفَجْوَةِ إِلَى مَكَانٍ تَصِلُ إِلَيْهِ عَادَةً، أَنْسَبُ بِمَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا إِطْلَاقُ الْفَجْوَةِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهَا بِكَوْنِهَا إِلَى جِهَةِ كَذَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَجْوَةَ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلْبَسْتَ قَوْمَكَ مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حَتَّى أُبِيحُوا وَحَلُّوا فَجْوَةَ الدَّارِ انْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَجْوَةَ: هِيَ الْمُتَّسَعُ. وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَنَحْنُ مَلَأْنَا كُلَّ وَادٍ وَفَجْوَةٍ ... رِجَالًا وَخَيْلًا غَيْرَ مِيلٍ وَلَا عُزْلِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ، أَيْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَمِيلُ عَلَى كَهْفِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَرَأَيْتَهُمْ كَذَلِكَ، لَا أَنَّ الْمُخَاطَبَ رَآهُمْ بِالْفِعْلِ، كَمَا يَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا الْآيَةَ [18 \ 18] ، وَالْخِطَابُ بِمِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَأَصْلُ مَادَّةِ التَّزَاوُرِ: الْمَيْلُ، فَمَعْنَى «تَزَاوَرُ» : تَمِيلُ. وَالزُّورُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ، لِأَنَّهَا مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ. وَمِنْهُ الزِّيَارَةُ ; لِأَنَّ الزَّائِرَ يَمِيلُ إِلَى الْمَزُورِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعَ الْقَنَا بِلَبَانِهِ ... وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: وَخُفِّضَ عَنِّي الصَّوْتُ أَقْبَلْتُ مِشْيَةَ الْ ... حُبَابِ وَشَخْصِي خَشْيَةَ الْحَيِّ أَزْوَرُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ذَاتَ الْيَمِينِ أَيْ جِهَةَ الْيَمِينِ، وَحَقِيقَتُهَا الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَذَاتُ الْيَمِينِ: جِهَةُ يَمِينِ الْكَهْفِ، وَحَقِيقَتُهَا الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ، يَعْنِي يَمِينَ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَهْفِ، أَوْ يَمِينَ الْفِتْيَةِ. اهـ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ، مِنَ الْقَرْضِ بِمَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَالصَّرْمِ ; أَيْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 تَقْطَعُهُمْ وَتَتَجَافَى عَنْهُمْ وَلَا تَقْرَبُهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ: نَظَرْتُ بِجَرْعَاءِ السَّبِيَّةِ نَظْرَةً ... ضُحًى وَسَوَادُ الْعَيْنِ فِي الْمَاءِ شَامِسُ إِلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ فَقَوْلُهُ: «يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ» ، أَيْ يَقْطَعْنَهَا وَيُبْعِدْنَهَا نَاحِيَةَ الشِّمَالِ، وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ أَوْ رِمَالُ الدَّهْنَاءِ، وَالْأَقْوَازُ: جَمْعُ قَوْزٍ - بِالْفَتْحِ - وَهُوَ الْعَالِي مِنَ الرَّمْلِ كَأَنَّهُ جَبَلٌ، وَيُرْوَى «أَجْوَازَ مُشْرِفٍ» جَمْعُ جَوْزٍ، مِنَ الْمَجَازِ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَقْرِضُهُمْ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى تَقْرِضُهُمْ: تُقْطِعُهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا ثُمَّ يَزُولُ سَرِيعًا كَالْقَرْضِ يُسْتَرَدُّ، وَمُرَادُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ عَنْهُمْ بِالْغَدَاةِ، وَتُصِيبُهُمْ بِالْعَشِيِّ إِصَابَةً خَفِيفَةً، بِقَدْرِ مَا يَطِيبُ لَهُمْ هَوَاءُ الْمَكَانِ وَلَا يَتَعَفَّنُ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقَرْضِ الَّذِي يُعْطَى ثُمَّ يُسْتَرَدُّ لَكَانَ الْفِعْلُ رُبَاعِيًّا، فَتَكُونُ التَّاءُ فِي قَوْلِهِ: «تَقْرِضُهُمْ» مَضْمُومَةً، لَكِنْ دَلَّ فَتْحُ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ «تَقْرِضُهُمْ» عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقَرْضِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، أَيْ تَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّوَابَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَجْوَةَ: الْمُتَّسَعُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ، فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ: قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ «تَزْوَرُّ» بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ تَحْمَرُّ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الِازْوِرَارِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ ; كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ الْمُتَقَدِّمِ: فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا. . . ... . . . . . . . . الْبَيْتَ وَقَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُمْ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالزَّايِ الْمُخَفَّفَةِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَأَصْلُهُ «تَتَزَاوَرُ» فَحُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتَدَى قَدْ يُقْتَصَرُ ... فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنَ الْعِبَرُ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ: «تَزَّاوَرُ» بِتَشْدِيدِ الزَّايِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَأَصْلُهُ «تَتَزَاوَرُ» أُدْغِمَتْ فِيهِ التَّاءُ فِي الزَّايِ، وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ (أَعْنِي قِرَاءَةَ حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقِرَاءَةَ إِدْغَامِهَا فِي الزَّايِ) فَهُوَ مِنَ التَّزَاوُرِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ أَيْضًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَقَدْ يَأْتِي التَّفَاعُلُ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ كَمَا هُنَا، وَكَقَوْلِهِمْ: سَافَرَ وَعَاقَبَ وَعَافَى. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْكَهْفِ حَوَاجِزَ طَبِيعِيَّةً تَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الشَّمْسِ بِحَسَبِ وَضْعِ الْكَهْفِ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِهِمْ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ هِدَايَتِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بَيْنِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِيوَائِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْكَهْفِ، وَحِمَايَتِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِلَى آخَرِ حَدِيثِهِمْ - مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَأَصْلُ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ «أَيَيَةٍ» بِثَلَاثِ فَتَحَاتٍ، أُبْدِلَتْ فِيهِ الْيَاءُ الْأُولَى أَلِفًا، وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُوجِبَا إِعْلَالٍ كَانَ الْإِعْلَالُ فِي الْأَخِيرِ ; لِأَنَّ التَّغَيُّرَ عَادَةً أَكْثَرُ فِي الْأَوَاخِرِ، كَمَا فِي طَوَى وَنَوَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهُنَا أُعِلَّ الْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِ الْأَغْلَبِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ لِحَرْفَيْنِ ذَا الِاعْلَالُ اسْتُحِقْ ... صُحِّحَ أَوَّلٌ وَعَكْسٌ قَدْ يَحِقْ وَالْآيَةُ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ، وَتُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقَيْنِ أَيْضًا، أَمَّا إِطْلَاقَاهَا فِي اللُّغَةِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّهَا تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الْآيَةَ [2 \ 248] ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: بِآيَةِ مَا قَالَتْ غَدَاةَ لَقِيتُهَا ... بِمِدْفَعِ أَكْنَانٍ أَهَذَا الْمُشَهَّرُ يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهَا ذَلِكَ هُوَ الْعَلَامَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِهِ إِلَيْهَا الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: أَلِكْنِي إِلَيْهَا بِالسَّلَامِ فَإِنَّهُ ... يُشَهَّرُ إِلْمَامِي بِهَا وَيُنَكَّرُ وَقَدْ جَاءَ فِي شِعْرِ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِالْعَلَامَةِ فِي قَوْلِهِ: تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْآيَاتِ عَلَامَاتُ الدَّارِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، يَقُولُونَ: جَاءَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ، أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ أَوْ غَيْرِهِ: خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلَنَا ... بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا فَقَوْلُهُ: «بِآيَاتِنَا» أَيْ بِجَمَاعَتِنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا فِي الْقُرْآنِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا إِطْلَاقُهَا عَلَى الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3 \ 190] ، أَيْ عَلَامَاتٍ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً، يَعْرِفُ بِهَا أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَالْآيَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ لُغَةً. وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا الثَّانِي فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْآيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ الْآيَةَ [65 \ 11] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَالْآيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ قِيلَ: هِيَ مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ لُغَةً، لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا، أَوْ أَنَّ فِيهَا عَلَامَاتٍ عَلَى ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا. وَقِيلَ: مِنَ الْآيَةِ، بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، لِاشْتِمَالِ الْآيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى طَائِفَةٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ بِيَدِهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، فَمَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا الْآيَةَ [17 \ 97] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [7 \ 178] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [28 \ 56] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [5 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [16 \ 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [6 \ 125] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ: بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَلْ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ، سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ! وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا! وَسَيَأْتِي بَسْطُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَيْضًا فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الشَّمْسِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [91 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [18 \ 17] ، أَيْ لَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ لِلْمُوَالَاةِ يُرْشِدُهُ إِلَى الصَّوَابِ وَالْهُدَى، أَيْ لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: فَهُوَ الْمُهْتَدِ قَرَأَهُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَبَقِيَّةُ السَّبْعَةِ قَرَءُوهُ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْحَالَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ. الْحُسْبَانُ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالْأَيْقَاظُ: جَمْعُ يَقِظٍ - بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا - وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: فَلَمَّا رَأَتْ مَنْ قَدْ تَنَبَّهَ مِنْهُمُ ... وَأَيْقَاظَهُمْ قَالَتْ أَشِرْ كَيْفَ تَأْمُرُ وَالرُّقُودُ: جَمْعُ رَاقِدٍ وَهُوَ النَّائِمُ، أَيْ تَظُنُّهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ لَوْ رَأَيْتَهُمْ أَيْقَاظًا وَالْحَالُ أَنَّهُمْ رُقُودٌ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا الْآيَةَ [18 \ 18] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: سَبَبُ ظَنِّ الرَّائِي أَنَّهُمْ أَيْقَاظٌ هُوَ أَنَّهُمْ نِيَامٌ وَعُيُونُهُمْ مُفَتَّحَةٌ، وَقِيلَ: لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُشِيرُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [18 \ 18] ، وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فِي عَدَدِ تَقَلُّبِهِمْ مِنْ كَثْرَةٍ وَقِلَّةٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلِذَا أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِ الْأَقْوَالِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَتَحْسَبُهُمْ، قَرَأَهُ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْقِيَاسِ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَقَرَأَهُ بِكَسْرِ السِّينِ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، وَلُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَالْفَتْحُ أَقْيَسُ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ، اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِـ «الْوَصِيدِ» ، فَقِيلَ: هُوَ فِنَاءٌ لِلْبَيْتِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقِيلَ الْوَصِيدُ: الْبَابُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْوَصِيدُ الْعَتَبَةُ، وَقِيلَ الصَّعِيدُ، وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ أَنَّ الْوَصِيدَ هُوَ الْبَابُ، وَيُقَالُ لَهُ «أَصِيدٌ» أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [104 \ 8] ، أَيْ مُغْلَقَةٌ مُطَبَّقَةٌ، وَذَلِكَ بِإِغْلَاقِ كُلِّ وَصِيدٍ أَوْ أَصِيدٍ، وَهُوَ الْبَابُ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَنَظِيرُ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي ... وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَةْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وَقَوْلُ ابْنِ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ: إِنَّ فِي الْقَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا ... مُصَفَّقًا مُؤْصَدًا عَلَيْهِ الْحِجَابُ فَالْمُرَادُ بِالْإِيصَادِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: الْإِطْبَاقُ وَالْإِغْلَاقُ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِالْوَصِيدِ وَهُوَ الْبَابُ، وَيُقَالُ فِيهِ أَصِيدٌ، وَعَلَى اللُّغَتَيْنِ الْقِرَاءَتَانِ فِي قَوْلِهِ: «مُؤْصَدَةٌ» مَهْمُوزًا مِنَ الْأَصِيدِ. وَغَيْرَ مَهْمُوزٍ مِنَ الْوَصِيدِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْوَصِيدَ عَلَى الْبَابِ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْعَبْسِيِّ، وَقِيلَ زُهَيْرٌ: بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدَّ وَصَيْدُهَا ... عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ أَيْ لَا يُسَدَّ بَابُهَا عَلَيَّ، يَعْنِي لَيْسَتْ فِيهَا أَبْوَابٌ حَتَّى تُسَدَّ عَلَيَّ ; كَقَوْلِ الْآخَرِ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَصِيدُ هُوَ الْبَابَ فِي الْآيَةِ، وَالْكَهْفُ غَارٌ فِي جَبَلٍ لَا بَابَ لَهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ الَّذِي يُدْخَلُ لِلشَّيْءِ مِنْهُ ; فَلَا مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَدْخَلِ إِلَى الْكَهْفِ بَابًا، وَمَنْ قَالَ: الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ، لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ فِنَاءَ الْكَهْفِ هُوَ بَابُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ: أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَتَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَا كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِبَعْضِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، كَقِرَاءَةِ «وَكَالِبُهُمِ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» ، وَقِرَاءَةِ «وَكَالِئُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ» . وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ قَرِينَةٌ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ; لِأَنَّ بَسْطَ الذِّرَاعَيْنِ مَعْرُوفٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَلْبِ الْحَقِيقِيِّ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ» ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَهُوَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَقِرَاءَةُ «وَكَالِئُهُمْ» بِالْهَمْزَةِ لَا تُنَافِي كَوْنَهُ كَلْبًا ; لِأَنَّ الْكَلْبَ يَحْفَظُ أَهْلَهُ وَيَحْرُسُهُمْ، وَالْكَلَاءَةُ: الْحِفْظُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ عَمَلِ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ «بَاسِطٌ» فِي مَفْعُولِهِ الَّذِي هُوَ «ذِرَاعَيْهِ» وَالْمُقَرَّرُ فِي النَّحْوِ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ صِلَةَ «الْ» لَا يَعْمَلُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَاقِعًا فِي الْحَالِ أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ هُنَا حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [2 \ 30] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [2 \ 72] . وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي كِتَابِهِ هَذَا الْكَلْبَ، وَكَوْنَهُ بَاسِطًا ذِرَاعَيْهِ بِوَصِيدِ كَهْفِهِمْ فِي مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُحْبَةَ الْأَخْيَارِ عَظِيمَةُ الْفَائِدَةِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَهَذَا فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ. اهـ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ صُحْبَةَ الْأَشْرَارِ فِيهَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ، كَمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» فِي قَوْلِهِ: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [37 \ 51]- إِلَى قَوْلِهِ - قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ الْآيَةَ [37 \ 56 \ 57] . وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي اسْمِ كَلْبِهِمْ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ قِطْمِيرٌ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ حُمْرَانُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ. فَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا اللَّهُ لَنَا وَلَا رَسُولُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي بَيَانِهَا شَيْءٌ، وَالْبَحْثُ عَنْهَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُطْنِبُونَ فِي ذِكْرِ الْأَقْوَالِ فِيهَا بِدُونِ عِلْمٍ وَلَا جَدْوَى، وَنَحْنُ نُعْرِضُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ دَائِمًا، كَلَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَاسْمِهِ، وَكَالْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَاسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مُوسَى قَتْلَهُ، وَكَخَشَبِ سَفِينَةِ نُوحٍ مِنْ أَيِّ شَجَرٍ هُوَ، وَكَمْ طُولُ السَّفِينَةِ وَعَرْضُهَا، وَكَمْ فِيهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّحْقِيقِ فِيهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ [6 \ 145] حُكْمَ أَكْلِ لَحْمِ الْكَلْبِ وَبَيْعِهِ، وَأَخْذِ قِيمَتِهِ إِنْ قُتِلَ، وَمَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوزُ، وَأَوْضَحْنَا الْأَدِلَّةَ فِي ذَلِكَ وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ بَعَثَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 أَصْحَابَ الْكَهْفِ مِنْ نَوْمَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، أَيْ لِيَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ لَبِثُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَبَعْضَهُمْ رَدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا قَدْرَ الْمُدَّةِ الَّتِي تَسَاءَلُوا عَنْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ بِحِسَابِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعُ سِنِينَ بِحِسَابِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [18 \ 25] كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ. فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ " أَزْكَى " قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ " أَزْكَى " أَطْيَبُ لِكَوْنِهِ حَلَالًا لَيْسَ مِمَّا فِيهِ حَرَامٌ وَلَا شُبْهَةٌ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ أَزْكَى أَنَّهُ أَكْثَرُ، كَقَوْلِهِمْ: زَكَا الزَّرْعُ: إِذَا كَثُرَ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَبَائِلُنَا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ ... وَلَلسَّبْعُ أَزْكَى مِنْ ثَلَاثٍ وَأَطْيَبُ أَيْ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ لَهُ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّ أَكْلَ الْحَلَالِ وَالْعَمَلَ الصَّالِحِ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا الْآيَةَ [23 \ 51] ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [2 \ 172] ، وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ مَادَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى الطَّهَارَةِ ; كَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى الْآيَةَ [17 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا الْآيَةَ [91 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [24 \ 21] ، وَقَوْلِهِ: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [18 \ 81] ، وَقَوْلِهِ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ [18 \ 74] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَالزَّكَاةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا: يُرَادُ بِهَا الطَّهَارَةُ مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، فَاللَّائِقُ بِحَالِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الْأَخْيَارِ الْمُتَّقِينَ أَنْ يَكُونَ مَطْلَبُهُمْ فِي مَأْكَلِهِمُ الْحَلْبَةَ وَالطَّهَارَةَ، لَا الْكَثْرَةَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ عَهْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فِيهَا مُؤْمِنُونَ يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وَكَافِرُونَ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الشِّرَاءَ مِنْ طَعَامِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِالزَّكَاةِ فِي قَوْلِهِ: أَزْكَى طَعَامًا، وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا أَهْلُ كِتَابٍ وَمَجُوسٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْوَرِقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [18 \ 19] الْفِضَّةُ، وَأَخَذَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَسَائِلَ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَازُ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتُهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى تَوْكِيلِهِمْ لِهَذَا الْمَبْعُوثِ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ مُطْلَقًا بَلْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَالْخَوْفِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا كُلُّهُمْ لِشِرَاءِ حَاجَتِهِمْ لَعَلِمَ بِهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ فِي ظَنِّهِمْ فَهُمْ مَعْذُورُونَ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَوْكِيلِ الْمَعْذُورِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي التَّوْكِيلِ عَلَى الْخِصَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَأَنَّ سَحْنُونًا تَلَقَّاهُ مِنْ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ إِنْصَافًا مِنْهُمْ وَإِذْلَالًا لَهُمْ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ. اهـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ هَذَا حَسَنٌ، فَأَمَّا أَهْلُ الدِّينِ وَالْفَضْلِ فَلَهُمْ أَنْ يُوَكِّلُوا وَإِنْ كَانُوا حَاضِرِينَ أَصِحَّاءَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ جَوَازِ الْوَكَالَةِ لِلشَّاهِدِ الصَّحِيحِ، مَا أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: " أَعْطُوهُ " فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ " أَعْطُوهُ " فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ لَكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً " لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحَّتِهِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ الْحَاضِرِ الصَّحِيحِ الْبَدَنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُعْطُوا عَنْهُ السِّنَّ الَّتِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرِيضًا وَلَا مُسَافِرًا، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٍ فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْحَاضِرِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِرِضَا خَصْمِهِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ خِلَافُ قَوْلِهِمَا. اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ; لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَسَحْنُونًا إِنَّمَا خَالَفَا فِي الْوَكَالَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْخَصْمِ فَقَطْ، وَلَمْ يُخَالِفَا فِي الْوَكَالَةِ فِي دَفْعِ الْحَقِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْأَدِلَّةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَجَوَازِهَا، وَبَعْضَ الْمَسَائِلِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ، تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ كُلَّهَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا الْآيَةَ [9 \ 60] ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ عَلَيْهَا تَوْكِيلٌ لَهُمْ عَلَى أَخْذِهَا. وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي الْآيَةَ [12 \ 93] ، فَإِنَّهُ تَوْكِيلٌ لَهُمْ مِنْ يُوسُفَ عَلَى إِلْقَائِهِمْ قَمِيصَهُ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ لِيَرْتَدَّ بَصِيرًا. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ الْآيَةَ [12 \ 55] ، فَإِنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، الدَّالِّ عَلَى التَّوْكِيلِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ لَهُ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ: فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ التَّوْكِيلُ عَلَى الشِّرَاءِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ. فَقَالَ: " إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ لَهُ وَكِيلًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا "، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي التَّوْكِيلِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَلَّا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 عِنْدِنَا " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ التَّوْكِيلُ عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الْبُدْنِ وَالتَّصَدُّقِ بِلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَعَدَمِ إِعْطَاءِ الْجَازِرِ شَيْئًا مِنْهَا. وَمِنْهَا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ " ضَحِّ أَنْتَ بِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَفِيهِ الْوَكَالَةُ فِي تَقْسِيمِ الضَّحَايَا، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا طَرَفًا كَافِيًا مِنْهَا، ذَكَرْنَا بَعْضَهُ هُنَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ مَا نَصُّهُ: اشْتَمَلَ كِتَابُ الْوَكَالَةِ - يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَتْلِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ، وَحَدِيثِ وَفْدِ هَوَازِنَ مِنْ طَرِيقَيْهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي قِصَّةِ النُّعَيْمَانِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ سِتَّةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَكُلُّ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلَّ أَحَدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إِلَّا فِي شَيْءٍ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، فَلَا تَصِحُّ فِي فِعْلِ مُحَرَّمٍ ; لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مِنَ التَّعَاوُنِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الْآيَةَ [5 \ 2] . وَلَا تَصِحُّ فِي عِبَادَةٍ مَحْضَةٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَنُوبُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الْآيَةَ [51 \ 56] . أَمَّا الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ وَالْمَعْضُوبِ، وَالصَّوْمُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ أُخَرُ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ خَالَفَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ مِنَ الْوَحْيِ لَا بِآرَاءِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ مِنَ الْوَحْيِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحُقُوقِ وَإِثْبَاتِهَا وَالْمُحَاكَمَةِ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ مُحَاكَمَةِ الْوَكِيلِ إِذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا غَيْرَ مَعْذُورٍ ; لِأَنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَمُخَاصَمَتَهُ حَقٌّ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَا خَصْمِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ سَحْنُونٍ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ ; لِأَنَّ الْخُصُومَةَ أَمْرٌ لَا مَانِعَ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ عَلَى الْخِصَامِ وَالْمُحَاكَمَةِ: أَنَّ الصَّوَابَ فِيهَا التَّفْصِيلُ. فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ وَالِادِّعَاءِ بِالْبَاطِلِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْكِيلُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [4 \ 105] . وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَوْكِيلِهِ عَلَى الْخُصُومَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِجُعْلٍ وَبِدُونِ جُعْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ جُعْلٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ أُنَيْسًا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَعُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ مِنْ غَيْرِ جُعْلٍ. وَمِثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِجُعْلٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [9 \ 60] فَإِنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى جِبَايَةِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا بِجُعْلٍ مِنْهَا كَمَا تَرَى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إِذَا عَزَلَ الْمُوَكِّلُ وَكِيَلَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَزْلِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ مَاتَ مُوَكِّلُهُ وَتَصَرَّفَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، فَهَلْ يَمْضِي تَصَرُّفُهُ نَظَرًا لِاعْتِقَادِهِ، أَوْ لَا يَمْضِي نَظَرًا لِلْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهِيَ: هَلْ يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِمُطْلَقِ وُرُودِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الْمُكَلَّفَ، أَوْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ لِلْمُكَلَّفِ. وَيُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الِاخْتِلَافُ فِي خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ صَلَاةً الَّتِي نُسِخَتْ مِنَ الْخَمْسِينَ بَعْدَ فَرْضِهَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 لِوُرُودِهِ، أَوْ لَا يُسَمَّى نَسْخًا فِي حَقِّهِمْ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ بُلُوغِ التَّكْلِيفِ بِالْمَنْسُوخِ لَهُمْ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِالْوُرُودِ ... أَوْ بِبُلُوغِهِ إِلَى الْمَوْجُودِ فَالْعَزْلُ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَزْلُ عَرَضْ ... كَذَا قَضَاءُ جَاهِلٍ لِلْمُفْتَرَضْ وَمَسَائِلُ الْوَكَالَةِ مَعْرُوفَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَقْصُودُنَا ذِكْرُ أَدِلَّةِ ثُبُوتِهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَذِكْرُ أَمْثِلَةٍ مِنْ فُرُوعِهَا تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا بَابٌ كَبِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخَذَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَوَازَ الشَّرِكَةِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْتَرِكِينَ فِي الْوَرِقِ الَّتِي أَرْسَلُوهَا لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا بِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْسَلَ مَعَهُ نَصِيبَهُ مُنْفَرِدًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ طَعَامَهُ مُنْفَرِدًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُتَّجَهٌ كَمَا تَرَى، وَقَدْ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَدِلَّةَ ذَلِكَ، وَبَعْضَ مَسَائِلِهِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ آيَاتٌ فِي الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [4 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [38 \ 24] ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخُلَطَاءَ: الشُّرَكَاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الْآيَةَ [8 \ 41] ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ مِنْ جِهَتَيْنِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ طَرَفًا مِنْهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ مَا عَتَقَ ". وَقَدْ ثَبَتَ نَحْوُهُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الرَّقِيقِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَيْنِ بِقَوْلِهِ: (بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ) ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وَشَرِيكٌ لِي شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَذَرُوهُ ". وَفِيهِ إِقْرَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَرَاءَ وَزَيْدًا الْمَذْكُورَيْنَ عَلَى ذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ، وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ بِقَوْلِهِ: (بَابُ الِاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ) ، وَمِنْ ذَلِكَ إِعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَ خَيْبَرَ لِلْيَهُودِ لِيَعْمَلُوا فِيهَا وَيَزْرَعُوهَا، عَلَى أَنَّ لَهُمْ شَطْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَلَّةِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ بِقَوْلِهِ (بَابُ مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقَسَّمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ بِقَوْلِهِ: (بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا) ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِسَنَدٍ آخَرَ، وَتَرْجَمَ لَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ (بَابُ إِذَا قَسَّمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا، فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلَا شُفْعَةٌ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا " قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالْجَهْلِ بِحَالِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَأَعَلَّهُ أَيْضًا ابْنُ الْقَطَّانِ بِالْإِرْسَالِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَ إِنَّهُ الصَّوَابُ. وَلَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ أَبِي هَمَّامٍ مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ وَسَكَتَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. انْتَهَى مِنْهُ. وَمِنَ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَسْكُتُ عَنِ الْكَلَامِ فِي حَدِيثٍ إِلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ صَلَاحِيَّتَهُ لِلِاحْتِجَاجِ. وَالسَّنَدُ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ أَبُو دَاوُدَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمِصِّيصِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَفَعَهُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ ". إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ هِيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَلَّافُ الْكُوفِيُّ، ثُمَّ الْمِصِّيصِيُّ لَقَبُهُ " لُوَيْنٌ " بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنْهُ: مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ أَبُو هَمَّامٍ الْأَهْوَازِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ، رُبَّمَا وَهِمَ. وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ مِنْهُ هِيَ أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ مِنْهُ هِيَ أَبُوهُ سَعِيدُ بْنُ حَيَّانَ الْمَذْكُورُ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ الشَّوْكَانِيِّ: أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ أَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَرَدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ قَدْ ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي التَّقْرِيبِ) : إِنَّهُ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ أَيْضًا. وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ مِنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ. فَهَذَا إِسْنَادٌ صَالِحٌ كَمَا تَرَى، وَإِعْلَالُ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُهُ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كَلَامِ الشَّوْكَانِيِّ آنِفًا. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ، لَا تُدَارِينِي وَلَا تُمَارِينِي، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: كُنْتَ شَرِيكِي وَنِعْمَ الشَّرِيكُ، كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَلَى كَوْنِهِ كَانَ شَرِيكًا لَهُ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الشَّرِكَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي آخِرِ كِتَابِ الشَّرِكَةِ مَا نَصُّهُ: اشْتَمَلَ كِتَابُ الشَّرِكَةِ (يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ: " مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ "، وَحَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَحَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّتِهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَخِيرِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ أَثَرٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ كَثْرَةَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَاتِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهَا. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الشَّرِكَةَ قِسْمَانِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ. فَشَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ أَنْ يَمْلِكَ عَيْنًا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالشَّرِكَةِ الْأَعَمِّيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ تَنْقَسِمُ إِلَى شَرِكَةِ مُفَاوَضَةٍ، وَشَرِكَةِ عِنَانٍ، وَشَرِكَةِ وُجُوهٍ، وَشَرِكَةِ أَبْدَانٍ، وَشَرِكَةِ مُضَارَبَةٍ، وَقَدْ تَتَدَاخَلُ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ فَيَجْتَمِعُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ. أَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [4 \ 12] ، وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا أَنْوَاعُ شَرِكَةِ الْعُقُودِ فَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُنَا مَعَانِيَهَا وَكَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَأَمْثِلَةً لِلْجَائِزِ مِنْهَا تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ. اعْلَمْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّفْوِيضِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ أَمْرَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ [40 \ 44] . وَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنَ الْمُسَاوَاةِ، لِاسْتِوَاءِ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا فِي التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مِنَ الْفَوْضَى بِمَعْنَى التَّسَاوِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ: لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا إِذَا تَوَلَّى سَرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمُ ... نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ الْقَوْمِ وَازْدَادُوا فَقَوْلُهُ: " لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى " أَيْ لَا تَصْلُحُ أُمُورُهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ فَوْضَى، أَيْ مُتَسَاوِينَ لَا أَشْرَافَ لَهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ وَيَنْهَوْنَهُمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، هَذَا هُوَ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهَا اللُّغَوِيِّ، فَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنْ عَنَّ الْأَمْرُ يَعِنُّ - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ - عَنًّا وَعُنُونًا: إِذَا عَرَضَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ ... عَذَارَى دَوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَيَّلِ قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ: وَشِرْكُ الْعِنَانِ وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ: شَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ دُونَ سَائِرِ أَمْوَالِهِمَا، كَأَنَّهُ عَنَّ لَهُمَا شَيْءٌ فَاشْتَرَيَاهُ وَاشْتَرَكَا فِيهِ، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ: فَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي تُقَاهَا ... وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ بِمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي هِلَالٍ ... وَمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي أَبَانِ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ شَرِكَةَ الْعِنَانِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ يَعْرِفُهَا، وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُمَا لَمْ يُطْلِقَا هَذَا الِاسْمَ عَلَى هَذِهِ الشَّرِكَةِ، وَأَنَّهُمَا قَالَا: هِيَ كَلِمَةٌ تَطَرَّقَ بِهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ لِيُمْكِنَهُمُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ - كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا عَرَفْتَ أَنْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهُمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ النَّابِغَةِ فِي بَيْتَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ: بِمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي هِلَالٍ ابْنُ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ لُبَابَةَ الْكُبْرَى، وَلُبَابَةَ الصُّغْرَى، وَهُمَا أُخْتَانِ، ابْنَتَا الْحَارِثِ بْنِ حَزْنِ بْنِ بُجَيْرِ بْنِ الْهَزْمِ بْنِ رُوَيْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ، وَهُمَا أُخْتَا مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا لُبَابَةُ الْكُبْرَى فَهِيَ زَوْجُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ أُمُّ أَبْنَائِهِ: عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ، وَالْفَضْلِ وَبِهِ كَانَتْ تُكَنَّى، وَفِيهَا يَقُولُ الرَّاجِزُ: مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْلِ ... كَسِتَّةٍ مِنْ بَطْنِ أُمِّ الْفَضْلِ وَأَمَّا لُبَابَةُ الصُّغْرَى فَهِيَ أُمُّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَمَّتُهُمَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حَزْنٍ هِيَ أُمُّ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَهَذَا مُرَادُهُ: بِمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي هِلَالِ وَأَمَّا نِسَاءُ بَنِي أَبَانٍ فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ أَبَا الْعَاصِ، وَالْعَاصَ، وَأَبَا الْعِيصِ، وَالْعِيصَ أَبْنَاءَ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أُمُّهُمْ آمِنَةُ بِنْتُ أَبَانِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَهَذِهِ الْأَرْحَامُ الْمُخْتَلِطَةُ بَيْنَ الْعَامِرِيِّينَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ هِيَ مُرَادُ النَّابِغَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْحَسَبِ وَالتُّقَى شِرْكَ الْعِنَانِ. وَقِيلَ: إِنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ أَصْلُهَا مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ، كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ هِيَ مِنَ الْمُعَانَاةِ بِمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ، يُقَالُ: عَانَنْتُهُ: إِذَا عَارَضْتُهُ بِمِثْلِ مَالِهِ أَوْ فِعَالِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ يُعَارِضُ الْآخَرَ بِمَالِهِ وَفِعَالِهِ. وَهِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ فَتْحَهَا، وَيُرْوَى عَنْ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ أَصْلَهَا مِنْ عَنَانِ السَّمَاءِ بَعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَأَصْلُهَا مِنَ الْوَجَاهَةِ، لِأَنَّ الْوَجِيهَ تُتْبَعُ ذِمَّتُهُ بِالدَّيْنِ، وَإِذَا بَاعَ شَيْئًا بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَبِيعُ بِهِ الْخَامِلُ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ فَأَصْلُهَا اللُّغَوِيُّ وَاضِحٌ ; لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ بِعَمَلِ أَبْدَانِهِمَا، وَلِذَا تُسَمَّى شَرِكَةَ الْعَمَلِ، إِذْ لَيْسَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِعَمَلِ الْبَدَنِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ الْقِرَاضُ فَأَصْلُهَا مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ التَّاجِرَ يُسَافِرُ فِي طَلَبِ الرِّبْحِ، وَالسَّفَرُ يُكَنَّى عَنْهُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْآيَةَ [73 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ الْآيَةَ [4 \ 101] . فَإِذَا عَرَفْتَ مَعَانِيَ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِي اللُّغَةِ، فَسَنَذْكُرُ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا مَعَانِيَهَا الْمُرَادَةَ بِهَا فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، وَأَحْكَامَهَا ; لِأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَا اصْطِلَاحًا، وَفِي بَعْضِ أَحْكَامِهَا. أَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ وَأَحْكَامِهَا فَهَذَا تَفْصِيلُهُ: اعْلَمْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالْمُرَادُ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنْ يُطْلِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ لِصَاحِبِهِ فِي الْمَالِ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ غَيْبَةً وَحُضُورًا، وَبَيْعًا وَشِرَاءً، وَضَمَانًا وَتَوْكِيلًا، وَكَفَالَةً وَقِرَاضًا، فَمَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَ صَاحِبَهُ إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى شَرِكَتِهِمَا. وَلَا يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ إِلَّا فِيمَا يَعْقِدَانِ عَلَيْهِ الشَّرِكَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمَا، دُونَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ اشْتَرَكَا فِي كُلِّ مَا يَمْلِكَانِهِ أَوْ فِي بَعْضِ أَمْوَالِهِمَا، وَتَكُونُ يَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَيَدِ صَاحِبِهِ، وَتَصَرُّفُهُ كَتَصَرُّفِهِ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِشَيْءٍ لَيْسَ فِي مَصْلَحَةِ الشَّرِكَةِ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَتَاجِرِ أَوْ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، كَرَقِيقٍ يَتَفَاوَضَانِ فِي التِّجَارَةِ فِيهِ فَقَطْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ وَيَشْتَرِيَ فِيهِ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ صَاحِبَهُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِخَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ. وَقَدْ أَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ إِلَى جَوَازِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَعَ تَعْرِيفِهَا، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ عَقْدُهَا مِنَ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيكَيْنِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنْ أَطْلَقَا التَّصَرُّفَ وَإِنْ بِنَوْعٍ فَمُفَاوَضَةٌ، وَلَا يُفْسِدُهَا انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ وَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ إِنِ اسْتَأْلَفَ بِهِ أَوْخَفَّ كَإِعَارَةِ آلَةٍ وَدَفْعِ كِسْرَةٍ وَيَبْضِعُ وَيُقَارِدُ وَيُودِعُ لِعُذْرٍ وَإِلَّا ضَمِنَ، وَيُشَارِكُ فِي مُعَيَّنٍ وَيَقْبَلُ وَيُوَلِّي وَيَقْبَلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 الْمَعِيبَ وَإِنْ أَبَى الْآخَرُ، وَيُقِرُّ بِدَيْنٍ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ، وَيَبِيعُ بِالدَّيْنِ لَا الشِّرَاءُ بِهِ، كَكِتَابَةٍ وَعِتْقٍ عَلَى مَالٍ، وَإِذْنٍ لِعَبْدٍ فِي تِجَارَةٍ وَمُفَاوَضَةٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ كَالْبَيْعِ بِهِ، فَلِلشَّرِيكِ فِعْلُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ خِلَافًا لِخَلِيلٍ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ وَالْعِتْقُ عَلَى الْمَالِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ هَذِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ الَّتِي حُرِّمَتْ مِنْ أَجْلِهَا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ ; لِأَنَّ مَا اسْتَفَادَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ، وَاكْتِسَابِ مُبَاحٍ كَاصْطِيَادٍ وَاحْتِطَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ لِشَرِيكِهِ، كَمَا أَنَّ مَا لَزِمَهُ غُرْمُهُ خَارِجًا عَنِ الشَّرِكَةِ كَأَرْشِ جِنَايَةٍ، وَثَمَنِ مَغْصُوبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا شَيْءَ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ كُلُّ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِ الشَّرِكَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَكَفِيلٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الشَّرِكَةِ، وَهَكَذَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، فَلَا مُوجِبَ لِلْمَنْعِ وَلَا غَرَرَ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ شَرِيكَيْنِ فِي كُلِّ مَا اكْتَسَبَا جَمِيعًا حَتَّى يَحْصُلَ الْغَرَرُ بِذَلِكَ، وَلَا مُتَضَامِنَيْنِ فِي كُلِّ مَا جَنَيَا حَتَّى يَحْصُلَ الْغَرَرُ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنِ الْآخَرِ فِي كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَضَامِنٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِكَةِ، وَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا تَرَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ خِلَافٌ فِي حَالٍ، لَا فِي حَقِيقَةٍ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي مَعْنَاهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا هِيَ الشَّرِكَةُ الَّتِي يَشْتَرِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا عَلَى صَاحِبِهِ أَلَّا يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ إِلَّا بِحَضْرَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنِ اشْتَرَطَا نَفْيَ الِاسْتِبْدَادِ فَعِنَانٌ، وَهِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ ; لِأَنَّ عِنَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِيَدِ الْآخَرِ فَلَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِقْلَالَ دُونَهُ بِعَمَلٍ، كَالْفَرَسِ الَّتِي يَأْخُذُ رَاكِبُهَا بِعِنَانِهَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ الذَّهَابَ إِلَى جِهَةٍ بِغَيْرِ رِضَاهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ هِيَ الِاشْتِرَاكُ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ رُشْدٍ وَنَقْلُهُ عَنْدَ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنِ اشْتَرَطَا نَفْيَ الِاسْتِبْدَادِ إِلَخْ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ أَقْرَبُ لِلْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَلَهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَعَانٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 الْأَوَّلُ مِنْهَا هُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْوَجِيهَانِ عِنْدَ النَّاسِ بِلَا مَالٍ وَلَا صَنْعَةٍ، بَلْ لِيَشْتَرِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّتِهِ لَهُمَا مَعًا، فَإِذَا بَاعَا كَانَ الرِّبْحُ الْفَاضِلُ عَنِ الْأَثْمَانِ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرِكَةِ الذِّمَمِ، وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ ظَاهِرٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَخْسَرَ هَذَا وَيَرْبَحَ هَذَا كَالْعَكْسِ، وَإِلَى فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّرِكَةِ أَشَارَ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَالِكِيُّ فِي تُحْفَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَفَسْخُهَا إِنْ وَقَعَتْ عَلَى الذِّمَمْ ... وَيُقَسِّمَانِ الرِّبْحَ حُكْمٌ مُلْتَزَمْ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعَانِيهَا أَنْ يَبِيعَ وَجِيهٌ مَالَ خَامِلٍ بِزِيَادَةِ رِبْحٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْضُ الرِّبْحِ الَّذِي حَصَلَ فِي الْمَبِيعِ بِسَبَبِ وَجَاهَتِهِ ; لِأَنَّ الْخَامِلَ لَوْ كَانَ هُوَ الْبَائِعَ لَمَا حَصَّلَ ذَلِكَ الرِّبْحَ، وَهَذَا النَّوْعُ أَيْضًا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ عِوَضُ جَاهٍ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ أَنْ يَتَّفِقَ وَجِيهٌ وَخَامِلٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَجِيهُ فِي الذِّمَّةِ وَيَبِيعَ الْخَامِلُ وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا النَّوْعُ أَيْضًا فَاسِدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْغَرَرِ سَابِقًا. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِشُرُوطٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ الشَّرِيكَيْنِ مُتَّحِدًا كَخَيَّاطَيْنِ، أَوْ مُتَلَازِمًا كَأَنْ يَغْزِلَ أَحَدُهُمَا وَيَنْسِجَ الْآخَرُ ; لِأَنَّ النَّسْجَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْغَزْلِ، وَأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ جَوْدَةً وَرَدَاءَةً وَبُطْأً وَسُرْعَةً، أَوْ يَتَقَارَبَا فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يَحْصُلَ التَّعَاوُنُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَى جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّرِكَةِ بِشُرُوطِهِ أَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَجَازَتْ بِالْعَمَلِ إِنِ اتَّحَدَ أَوْ تَلَازَمَ وَتَسَاوَيَا فِيهِ، أَوْ تَقَارَبَا وَحَصَلَ التَّعَاوُنُ، وَإِنْ بِمَكَانَيْنِ، وَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِ كُلِّ آلَةٍ وَاسْتِئْجَارِهِ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مِلْكٍ أَوْ كِرَاءٍ - تَأْوِيلَانِ، كَطَبِيبَيْنِ اشْتَرَكَا فِي الدَّوَاءِ، وَصَائِدَيْنِ فِي الْبَازَيْنِ، [وَهَلْ وَإِنِ افْتَرَقَا رُوِيَتْ عَلَيْهِمَا وَحَافِرَيْنِ بِكَرِكَازٍ وَمَعْدِنٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ وَارِثُهُ بَقِيَّتَهُ وَأَقْطَعَهُ الْإِمَامُ، وَقَيَّدَ بِمَا لَمْ يَبْدُ، وَلَزِمَهُ مَا يَقْبَلُهُ صَاحِبُهُ وَإِنْ تَفَاصَلَا وَأُلْغِيَ مَرَضٌ كَيَوْمَيْنِ إِلَخْ] وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ: مِنْ صِنَاعَاتٍ بِأَنْوَاعِهَا، وَطِبٍّ وَاكْتِسَابٍ مُبَاحٍ، كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَاصِمٍ فِي تُحْفَتِهِ: شَرِكَةٌ بِمَالٍ أَوْ بِعَمَلٍ ... أَوْ بِهِمَا تَجُوزُ لَا لِأَجَلٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وَبَقِيَ نَوْعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ بِـ " شَرِكَةِ الْجَبْرِ " وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يُخَالِفُهُمْ فِي هَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ " شَرِكَةُ الْجَبْرِ ". وَشَرِكَةُ الْجَبْرِ: هِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَخْصٌ سِلْعَةً بِسُوقِهَا الْمَعْهُودِ لَهَا، لِيَتَّجِرَ بِهَا بِحَضْرَةِ بَعْضِ تُجَّارِ جِنْسِ تِلْكَ السِّلْعَةِ الَّذِينَ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أُولَئِكَ التُّجَّارُ الْحَاضِرُونَ، فَإِنَّ لَهُمْ إِنْ أَرَادُوا الِاشْتِرَاكَ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ مَعَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُجْبِرُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُونَ شُرَكَاءَهُ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى. وَشَرِكَتُهُمْ هَذِهِ مَعَهُ جَبْرًا عَلَيْهِ هِيَ " شَرِكَةُ الْجَبْرِ " الْمَذْكُورَةُ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا لِيَقْتَنِيَهَا لَا لِيَتَّجِرَ بِهَا، أَوِ اشْتَرَاهَا لِيُسَافِرَ بِهَا إِلَى مَحِلٍّ آخَرَ وَلَوْ لِلتِّجَارَةِ بِهَا فِيهِ - فَلَا جَبْرَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ إِلَى " شَرِكَةِ الْجَبْرِ " بِقَوْلِهِ: وَأُجْبِرَ عَلَيْهَا إِنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِسُوقِهِ لَا لِكُفْرٍ أَوْ قِنْيَةٍ، وَغَيْرُهُ حَاضِرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ مِنْ تُجَّارِهِ، وَهَلْ فِي الزُّقَاقِ لَا كَبَيْتِهِ قَوْلَانِ، وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ فَهِيَ الْقِرَاضُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ إِلَى آخَرَ مَالًا لِيَتَّجِرَ بِهِ عَلَى جُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ إِذَا اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ دَلِيلُهُ. وَأَمَّا أَنْوَاعُ الشَّرِكَةِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا بَاطِلَةٌ فِي مَذْهَبِهِ، وَالرَّابِعُ صَحِيحٌ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاطِلَةُ فَالْأَوَّلُ مِنْهَا " شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ " كَشَرِكَةِ الْحَمَّالِينَ، وَسَائِرِ الْمُحْتَرِفِينَ: كَالْخَيَّاطِينَ، وَالنَّجَّارِينَ، وَالدَّلَّالِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِيَكُونَ بَيْنَهُمَا كَسْبُهُمَا مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاوِتًا مَعَ اتِّفَاقِ الصَّنْعَةِ أَوِ اخْتِلَافِهَا. فَاتِّفَاقُ الصَّنْعَةِ كَشَرِكَةِ خَيَّاطَيْنِ، وَاخْتِلَافُهَا كَشَرِكَةِ خَيَّاطٍ وَنَجَّارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُ الشَّرِكَةُ إِلَّا بِالْمَالِ فَقَطْ لَا بِالْعَمَلِ. وَوَجْهُ بُطْلَانِ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ أَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا مَالَ فِيهَا، وَأَنَّ فِيهَا غَرَرًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَدْرِي أَيَكْتَسِبُ صَاحِبُهُ شَيْئًا أَمْ لَا، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزٌ بِبَدَنِهِ وَمَنَافِعِهِ فَيَخْتَصُّ بِفَوَائِدِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي مَاشِيَتِهِمَا وَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّسْلُ وَالدَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَقِيَامًا عَلَى الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، هَكَذَا تَوْجِيهُ الشَّافِعِيَّةِ لِلْمَنْعِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّرِكَةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ فِيمَا مَرَّ شُرُوطَ جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذْ بِتَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 يَنْتَفِي الْغَرَرُ. وَالثَّانِي مِنَ الْأَنْوَاعِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا جَمِيعُ كَسْبِهِمَا بِأَمْوَالِهِمَا وَأَبْدَانِهِمَا، وَعَلَيْهِمَا جَمِيعُ مَا يَعْرِضُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ غُرْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِغَصْبٍ أَوْ إِتْلَافٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْغَرَرِ فَبُطْلَانُهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا يُجِيزُونَ هَذَا وَلَا يَعْنُونَهُ بِـ " شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ " كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا النَّوْعِ: إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً، فَلَا بَاطِلَ أَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا. يُشِيرُ إِلَى كَثْرَةِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ فِيهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكْسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسْبًا دُونَ الْآخَرِ، وَأَنْ تَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرَامَاتٌ دُونَ الْآخَرِ، فَالْغَرَرُ ظَاهِرٌ فِي هَذَا النَّوْعِ جِدًّا. وَالثَّالِثُ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ " شَرِكَةُ الْوُجُوهِ " وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَجِيهَانِ لِيَبْتَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّتِهِ لَهُمَا مَعًا، فَإِذَا بَاعَا كَانَ الْفَاضِلُ مِنَ الْأَثْمَانِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِـ " شَرِكَةِ الذِّمَمِ "، وَوَجْهُ فَسَادِهِ ظَاهِرٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَشْتَرِي فِي ذِمَّتِهِ وَيَجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ نَصِيبًا مِنْ رِبْحِ مَا اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ، مُقَابِلَ نَصِيبٍ مِنْ رِبْحِ مَا اشْتَرَى الْآخَرُ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْغَرَرُ فِي مِثْلِ هَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، وَبَقِيَّةُ أَنْوَاعِ " شَرِكَةِ الْوُجُوهِ " ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكُلُّهَا مَمْنُوعَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلِذَا اكْتَفَيْنَا بِمَا قَدَّمْنَا عَنِ الْكَلَامِ عَلَى بَقِيَّةِ أَنْوَاعِهَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. أَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الَّذِي هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ " شَرِكَةُ الْعِنَانِ " وَهِيَ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي مَالٍ لَهُمَا لِيَتَّجِرَا فِيهِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا عِنْدَهُمْ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، فَلَوِ اقْتَصَرَا عَلَى لَفْظِ " اشْتَرَكْنَا " لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّرِيكَيْنِ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَتَصِحُّ " شَرِكَةُ الْعِنَانِ " عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ مُطْلَقًا دُونَ الْمُقَوَّمَاتِ وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِالنَّقْدِ الْمَضْرُوبِ. وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ فِيهَا خَلْطُ الْمَالَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَالْحِيلَةُ عِنْدَهُمْ فِي الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ هِيَ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَ عَرَضِهِ بِبَعْضِ عَرَضِ الْآخَرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 وَيَأْذَنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ، وَالرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ أَوْ تَفَاوَتَا، وَإِنْ شَرَطَا خِلَافَ ذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي مَالِهِ. عَقْدُ الشَّرِكَةِ الْمَذْكُورَةِ يُسَلِّطُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بِلَا ضَرَرٍ، فَلَا يَبِيعُ بِنَسِيئَةٍ، وَلَا بِغَبَنٍ فَاحِشٍ، وَلَا يَبْضَعُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ أَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى ضَرْبَيْنِ: شَرِكَةِ مِلْكٍ، وَشَرِكَةِ عَقْدٍ. فَشَرِكَةُ الْمِلْكِ وَاضِحَةٌ، كَأَنْ يَمْلِكَا شَيْئًا بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شَرِكَةٍ بِالْمَالِ، وَشَرِكَةٍ بِالْأَعْمَالِ، وَشَرِكَةٍ بِالْوُجُوهِ، وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، فَالْمَجْمُوعُ سِتَّةُ أَقْسَامٍ. أَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَهُمْ فَهِيَ جَائِزَةٌ إِنْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمُ الشَّرِكَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ وَكَالَةَ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ، وَكَفَالَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَلَابُدَّ فِيهَا مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ وَالتَّصَرُّفِ. فَبِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ. وَبِتَضَمُّنِهَا الْكَفَالَةَ يَطْلُبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا لَزِمَ الْآخَرَ. وَبِمُسَاوَاتِهِمَا فِي الْمَالِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْتَبِدَّ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ، وَلِذَا لَوْ وَرِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ شَيْئًا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ كَالنَّقْدِ بَطَلَتِ الْمُفَاوَضَةُ، وَرَجَعَتِ الشَّرِكَةُ شَرِكَةَ عِنَانٍ. وَبِتَضَمُّنِهَا الْمُسَاوَاةَ فِي الدِّينِ تَمْتَنِعُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. وَبِتَضَمُّنِهَا الْمُسَاوَاةَ فِي التَّصَرُّفِ تَمْتَنِعُ بَيْنَ بَالِغٍ وَصَبِيٍّ، وَبَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَكُلُّ مَا اشْتَرَاهُ وَاحِدٌ مِنْ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، إِلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكُسْوَتَهُمْ، وَكُلُّ دَيْنٍ لَزِمَ أَحَدُهُمَا بِتِجَارَةٍ وَغَصْبٍ وَكَفَالَةٍ لَزِمَ الْآخَرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمْ شَرِكَةُ مُفَاوَضَةٍ أَوْ عِنَانٍ بِغَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالتِّبْرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ، وَالْحِيلَةُ فِي الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ عِنْدَهُمْ هِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهَا عَلَى كُلِّ الْمَعَانِي الَّتِي تُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ الشَّرِكَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَحْدَهَا، وَلَمْ تَتَضَمَّنِ الْكَفَالَةَ، وَهِيَ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي نَوْعِ بَزٍّ أَوْ طَعَامٍ أَوْ فِي عُمُومِ التِّجَارَةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَفَالَةَ. وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا مَا لَزِمَ الْآخَرَ مِنَ الْغَرَامَاتِ، وَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ شَرِكَةُ الْعِنَانِ الْمَذْكُورَةُ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ دُونَ الرِّبْحِ وَعَكْسِهِ، إِذَا كَانَتْ زِيَادَةُ الرِّبْحِ لِأَكْثَرِهِمَا عَمَلًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ زِيَادَةِ الْعَمَلِ وِفَاقًا لِلْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بِحَسَبِ الْمَالِ، وَلَوِ اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ " شَرِكَةَ الْعِنَانِ " بِثَمَنٍ فَلَيْسَ لِمَنْ بَاعَهُ مُطَالَبَةُ شَرِيكِهِ الْآخَرِ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ بَلْ يُطَالِبُ الشَّرِيكَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ فَقَطْ، وَلَكِنَّ الشَّرِيكَ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ عِنْدَهُمْ خَلْطُ الْمَالَيْنِ، فَلَوِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ وَهَلَكَ مَالُ الْآخَرِ كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا، وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ. وَتَبْطُلُ هَذِهِ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ بِهَلَاكِ الْمَالَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَتَفْسُدُ عِنْدَهُمْ بِاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ مِنَ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعِنَانِ أَنْ يَبْضَعَ وَيَسْتَأْجِرَ، وَيُودِعَ وَيُضَارِبَ وَيُوَكِّلَ، وَيَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَالِ الشَّرِكَةِ يَدُ أَمَانَةٍ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَةِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ وَنَحْوِهَا جَازَتْ عِنْدَهُمْ شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الْعَمَلِ أَوْ تَلَازُمَهُ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَشْتَرِكَ خَيَّاطَانِ مَثَلًا، أَوْ خَيَّاطٌ وَصَبَّاغٌ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ، وَيَكُونَ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ عَمَلٍ يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُمَا. وَإِذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَمَا حَصَّلَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ فِيهِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِتَقَبُّلِ صَاحِبِهِ لَهُ، فَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ. وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ غَرَرٍ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ صَنْعَةِ الشَّرِيكَيْنِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُحَصِّلَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا حَصَّلَهُ الْآخَرُ، فَالشُّرُوطُ الَّتِي أَجَازَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ " شَرِكَةَ الْأَعْمَالِ " أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْغَرَرِ كَمَا تَرَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأَعْمَالُ مِنْ جِنْسِ اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ فَلَا تَصِحُّ فِيهَا الشَّرِكَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ، وَالِاصْطِيَادِ وَاجْتِنَاءِ الثِّمَارِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِي، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَوَجْهُ مَنْعِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنِ اكْتَسَبَ مُبَاحًا كَحَطَبٍ أَوْ حَشِيشٍ أَوْ صَيْدٍ مَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَقِلًّا، فَلَا وَجْهَ لِكَوْنِ جُزْءٍ مِنْهُ لِشَرِيكٍ آخَرَ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَمَنْ أَجَازَهُ قَالَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ لِلْآخَرِ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْمُبَاحِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ فِي مُقَابِلِ النَّصِيبِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْآخَرُ، وَالْمَالِكِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ هَذَا يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الْعَمَلِ أَوْ تَقَارُبَهُ، فَلَا غَرَرَ فِي ذَلِكَ، وَلَا مُوجِبَ لِلْمَنْعِ، وَفِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلَافٌ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا " شَرِكَةُ الْوُجُوهِ " الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ " بِشَرِكَةِ الذِّمَمِ " وَقَدَّمْنَا مَنْعَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُفَاوَضَةً أَوْ عِنَانًا، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ عِنْدَهُمْ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَالْكَفَالَةَ. وَأَنَّ الْعِنَانَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ فَقَطْ، وَإِنِ اشْتَرَطَ الشَّرِيكَانِ فِي " شَرِكَةِ الْوُجُوهِ " مُنَاصَفَةَ الْمُشْتَرِي أَوْ مُثَالَثَتَهُ فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَبَطَلَ عِنْدَهُمْ شَرْطُ الْفَضْلِ ; لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَهُمْ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِالْعَمَلِ، كَالْمُضَارِبِ، أَوْ بِالْمَالِ كَرَبِّ الْمَالِ، أَوْ بِالضَّمَانِ كَالْأُسْتَاذِ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنَ النَّاسِ وَيُلْقِيهِ عَلَى التِّلْمِيذِ بِأَقَلَّ مِمَّا أَخَذَ، فَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ بِالضَّمَانِ، هَكَذَا يَقُولُونَهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي " شَرِكَةِ الْوُجُوهِ " مِنَ الْغَرَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّبْحَ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى حَسَبِ الْمَالِ إِنْ كَانَتْ شَرِكَةَ مَالٍ، وَعَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ إِنْ كَانَتْ شَرِكَةَ عَمَلٍ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ. وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَالْأَبْدَانِ، وَالْوُجُوهِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمُفَاوَضَةِ. أَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ أَوِ اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ، أَمَّا مَعَ اتِّحَادِ الْعَمَلِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْعَمَلِ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَجُوزُ وِفَاقًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: تَجُوزُ وِفَاقًا لِلْحَنَفِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 فِي الصِّنَاعَاتِ دُونَ اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ. وَإِنِ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا لِلْعَمَلِ وَيَعْمَلَهُ الثَّانِي وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا صَحَّتِ الشَّرِكَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالرِّبْحُ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِشَرِكَةِ الذِّمَمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَخِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَشْتَرِكَ رَجُلَانِ بِمَالَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهِمَا بِأَبْدَانِهِمَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ إِنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَهُمْ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَلَا تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا جَائِزٌ، وَالْآخَرُ مَمْنُوعٌ. وَأَمَّا الْجَائِزُ مِنْهُمَا فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، كَأَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ شَرِكَةِ الْعِنَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْأَبْدَانِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا يَصِحُّ عَلَى انْفِرَادِهِ فَصَحَّ مَعَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْمَمْنُوعُ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا فِي الشَّرِكَةِ الِاشْتِرَاكَ فِيمَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ يَجِدُهُ مِنْ رِكَازٍ أَوْ لُقَطَةٍ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَزِمَ الْآخَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ وَضَمَانِ غَصْبٍ، وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَغَرَامَةِ ضَمَانٍ، وَكَفَالَةٍ، وَفَسَادُ هَذَا النَّوْعِ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ الْقِرَاضُ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا هِيَ: أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ لِآخَرَ مَالًا يَتَّجِرُ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا، وَكَوْنُ الرِّبْحِ فِي الْمُضَارَبَةِ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ النِّصْفَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَاخْتُلِفَ فِي نِسْبَةِ الرِّبْحِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ بِحَسَبِ الْمَالَيْنِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَلَهُمَا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ مَعَ تُفَاضِلِ الْمَالَيْنِ. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِلْمَالِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِهِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْعَمَلَ مِمَّا يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحَ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَبْصَرَ بِالتِّجَارَةِ وَأَقْوَى عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 الْعَمَلِ مِنَ الْآخَرِ، فَتُزَادُ حِصَّتُهُ لِزِيَادَةِ عَمَلِهِ. هَذَا خُلَاصَةُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شَرِكَةِ الْعِنَانِ، وَشَرِكَةِ الْمُضَارَبَةِ، وَشَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ، وَمَنَعَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ إِلَّا فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ فَقَطْ فَلَمْ يُجِزْهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ مُطْلَقًا. وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ، وَصَوَّرُوهَا بصورة العنان عند الشافعية والحنابلة. وأجاز الحنفية شركة المفاوضة، وصوروها بِغَيْرِ مَا صَوَّرَهَا بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُفَاوَضَةِ وَصَوَّرُوهُ بِصُورَةٍ مُخَالِفَةٍ لِتَصْوِيرِ غَيْرِهِمْ لَهَا، وَمَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُفَاوَضَةَ كَمَا مَنَعُوا شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَالْوُجُوهِ، وَصَوَّرُوا الْمُفَاوَضَةَ بِصُورَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّمَا يُجِيزُونَ الشَّرِكَةَ بِالْمِثْلِيِّ مُطْلَقًا نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ، لَا بِالْمُقَوَّمَاتِ. وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُجِيزُونَهَا إِلَّا بِالنَّقْدَيْنِ وَالتِّبْرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ، وَالْحَنَابِلَةُ لَا يُجِيزُونَهَا إِلَّا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ كَمَا تَقَدَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ الْحِيلَةِ فِي الِاشْتِرَاكِ بِالْعُرُوضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ بِدَنَانِيرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِدَرَاهِمَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِدَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِنَقْدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَعَرَضٍ مِنَ الْآخَرِ، وَبِعَرَضٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ اتَّفَقَا أَوِ اخْتَلَفَا، وَقِيلَ: إِنِ اتَّفَقَا، لَا إِنِ اخْتَلَفَا، إِلَّا أَنَّ الْعُرُوضَ تُقَوَّمُ، وَأَمَّا خَلْطُ الْمَالَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَكْفِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ الْمَالَانِ فِي حَوْزِ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ فِي صُرَّتِهِ لَمْ يَخْتَلِطْ بِالْآخَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ خَلْطُ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ خَلْطُ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ خَلْطَ الْمَالَيْنِ إِلَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ إِنَّمَا يَشْتَرِطُونَ كَوْنَ الْمَالَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، كَحَانُوتٍ أَوْ صُنْدُوقٍ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنِ الْآخَرِ. فَإِذَا عَرَفْتَ مُلَخَّصَ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، فَسَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَدِلَّتِهَا، أَمَّا النَّوْعُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ " مُفَاوَضَةً " وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِشَرِكَةِ الْعِنَانِ، فَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 يُسْتَدَلُّ لَهُ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاشْتِرَاكِ التَّعَاوُنُ عَلَى الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ فَيَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ " أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ. . . " الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ مَعًا فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. . . " الْحَدِيثَ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْمُتَقَدِّمُ فِي أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ اشْتِرَاكٌ فِي التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ فَيُحْتَجُّ لَهَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ الْمَجْدُ فِي " مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ " بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ، وَأُعِلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ يَحْتَجُّونَ بِالْمُرْسَلِ خِلَافًا لِلْمُحَدِّثِينَ. وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا لِشُيُوعِهَا وَانْتِشَارِهَا فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَقَدْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ: كُلُّ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَاشَا الْقِرَاضَ فَمَا وَجَدْنَا لَهُ أَصْلًا فِيهِمَا الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ إِجْمَاعٌ صَحِيحٌ مُجَرَّدٌ، وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ. اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الشَّوْكَانِيِّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَئِمَّةِ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الْمَذْكُورَةِ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذِهِ الصُّورَةُ يُوجَدُ فِيهَا الْغَرَرُ وَهُوَ مَنَاطُ الْمَنْعِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: لَا غَرَرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الْمَنْعَ فَمَنَاطُ الْمَنْعِ لَيْسَ مَوْجُودًا فِيهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخَذَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا أَيْضًا: جَوَازُ خَلْطِ الرُّفَقَاءِ طَعَامَهُمْ وَأَكْلِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ أَكْلًا مِنَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ بَعَثُوا وَرِقَهُمْ لِيُشْتَرَى لَهُمْ بِهَا طَعَامٌ يَأْكُلُونَهُ جَمِيعًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ تَحْتَمِلُ انْفِرَادَ وَرِقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَطَعَامِهِ ; فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى خَلْطِهِمْ طَعَامَهُمْ، كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ لِلِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، وَلَهُ وَجْهٌ كَمَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا مُعَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِاقْتِرَانِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ، وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا مِنْ ذَلِكَ الْقُوتِ وَلَا يَجْمَعُهُمْ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ وَهُوَ خَلْطُ الرُّفْقَةِ طَعَامَهُمْ وَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْأَكْلِ فِيهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِـ " النِّهْدِ " بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا، وَلِجَوَازِهِ أَدِلَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا دَلِيلُ ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [2 \ 220] ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ مَعَ طَعَامِ وَصِيِّهِ وَأَكْلِهِمَا جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا [24 \ 61] ، وَمِنْ صُوَرِ أَكْلِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ بَيْنَهُمْ فَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا إِلَى السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ نَفَرٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةً تَمْرَةً، فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ. . " الْحَدِيثَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَاللَّفْظُ الَّذِي سُقْنَاهُ بِهِ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ " الشَّرِكَةِ " وَفِيهِ جَمْعُ أَبِي عُبَيْدَةَ بَقِيَّةَ أَزْوَادِ الْقَوْمِ وَخَلْطُهَا فِي مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِمْ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ " فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطْعٌ وَجَعَلُوهُ عَلَى النِّطْعِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَاللَّفْظُ الَّذِي سُقْنَاهُ بِهِ لِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا فِي كِتَابِ " الشَّرِكَةِ " وَفِيهِ: خَلَطَ طَعَامَهُمْ بَعْضَهُ مَعَ بَعْضٍ. وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ، فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْإِقْرَانِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ. كُلُّ هَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ " الشَّرِكَةِ "، وَإِذْنُ صَاحِبِهِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّمْرِ كَمَا تَرَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا جَوَازَهُ مِنْ خَلْطِ الرُّفَقَاءِ طَعَامَهُمْ وَأَكْلِهِمْ مِنْهُ جَمِيعًا هُوَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِلَفْظِ النِّهْدِ فِي قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ: الشَّرِكَةُ فِي الطَّعَامِ وَالنِّهْدِ. إِلَى قَوْلِهِ: لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي النِّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا إِلَخْ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الشَّرِكَةِ الْأَوَّلُ: إِنْ دَفَعَ شَخْصٌ دَابَّتَهُ لِآخَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهَا وَمَا يَرْزُقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا أَوْ كَيْفَمَا شَرَطَا - فَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَنُقِلَ نَحْوُهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَمَا حَصَلَ فَهُوَ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الدَّابَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَصِحُّ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الدَّابَّةِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا عِنْدِي فِيهَا مَذْهَبُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدُنَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَطِيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرِّيشُ وَلِلْآخَرِ الْقِدْحُ، هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": إِسْنَادُ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ شَيْبَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْقِتْبَانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ هَذَا الْمَجْهُولِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الرَّجُلِ إِلَى الْآخَرِ رَاحِلَتَهُ فِي الْجِهَادِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَمَلٌ عَلَى الدَّابَّةِ عَلَى أَنَّ مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَمَلِ فِي الْجِهَادِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يَظْهَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 الْفَرْعُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِكَ ثَلَاثَةٌ: مِنْ أَحَدِهِمْ دَابَّةٌ، وَمِنْ آخَرَ رِوَايَةٌ، وَمِنَ الثَّالِثِ الْعَمَلُ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ هَذَا؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ هَذَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": إِنَّهُ صَحِيحٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ أَنْ يَشْتَرِكَ أَرْبَعَةٌ: مِنْ أَحَدِهِمْ دُكَّانٌ، وَمِنْ آخَرَ رَحًى، وَمِنْ آخَرَ بَغْلٌ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْعَمَلُ، عَلَى أَنْ يَطْحَنُوا بِذَلِكَ، فَمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمْ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: يَصِحُّ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَخَالَفَ فِيهِ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ وِفَاقًا لِلْقَائِلِينَ بِمَنْعِ ذَلِكَ كَالْمَالِكِيَّةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَمَنْعُهُ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشَارَكَةً وَلَا مُضَارَبَةَ، فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الرَّحَى وَصَاحِبُ الدَّابَّةِ وَصَاحِبُ الْحَانُوتِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا جَمِيعًا وَكَانَ كِرَاءُ الْحَانُوتِ وَالرَّحَى وَالدَّابَّةِ مُتَسَاوِيًا، وَعَمَلُ أَرْبَابِهَا مُتَسَاوِيًا - فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ: وَذِي رَحًا، وَذِي بَيْتٍ، وَذِي دَابَّةٍ لِيَعْلَمُوا إِنْ لَمْ يَتَسَاوَ الْكِرَاءُ وَتَسَاوَوْا فِي الْغَلَّةِ وَتَرَادُّوا الْأَكْرِيَةَ، وَإِنِ اشْتُرِطَ عَمَلُ رَبِّ الدَّابَّةِ فَالْغَلَّةُ لَهُ وَعَلَيْهِ كِرَاؤُهُمَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ " الشَّرِكَةَ " بَابٌ كَبِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ مَسَائِلَهَا مُبَيَّنَةٌ بِاسْتِقْصَاءٍ فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَصْدُنَا هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَنَذْكُرَ أَقْسَامَهَا وَمَعَانِيَهَا اللُّغَوِيَّةَ وَالِاصْطِلَاحِيَّةَ، وَاخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَبَيَانَ أَقْوَالِهِمْ، وَذِكْرَ بَعْضِ فُرُوعِهَا تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ قَوْمَهُمُ الْكُفَّارَ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ، أَيْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُوا مَكَانَهُمْ، يَرْجُمُوهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَشْنَعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَقِيلَ: يَرْجُمُوهُمْ بِالشَّتْمِ وَالْقَذْفِ، أَوْ يُعِيدُوهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ، أَيْ: يَرُدُّوهُمْ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَذَى أَوِ الرَّدِّ إِلَى الْكُفْرِ ذَكَرَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ فِعْلُ الْكُفَّارِ مَعَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ ; كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [14 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ [7 \ 88 - 89] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [2 \ 217] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. مَسْأَلَةٌ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْعُذْرَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [18 \ 20] ، ظَاهِرٌ فِي إِكْرَاهِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ طَوَاعِيَتِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَالَ عَنْهُمْ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ بِعُذْرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي امْتَنَعَ أَنْ يُقَرِّبَ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ. وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا دَلِيلُ الْخِطَابِ، أَيْ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ; فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» أَنَّ غَيْرَ أُمَّتِهِ مِنَ الْأُمَمِ لَمْ يَتَجَاوَزْ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَدْ تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِالْقَبُولِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ الْآيَةَ [18 \ 20] ; وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، أَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُذْرِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [16 \ 106] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، هَلْ هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكُفَّارِ؟ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ فِيهِمْ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [18 \ 21] ; لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَا مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مِنْ فِعْلِ الْمَلْعُونِينَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا مِنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ مُسْتَوْفًى بِأَدِلَّتِهِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ الْآيَةَ [15 \ 80] . قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ. أَخْبَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ عَلَى أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِرَابِعٍ، وَجَاءَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ الْآيَةَ [18 \ 22] ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ: قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ، كَمَنْ يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ، وَإِنْ أَصَابَ بِلَا قَصْدٍ ; كَقَوْلِهِ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [34 \ 53] . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّجْمُ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، يُقَالُ لِكُلِّ مَا يُخْرَصُ رُجِمَ فِيهِ وَمَرْجُومٌ وَمُرَجَّمٌ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ ثُمَّ حَكَى الْقَوْلَ الثَّالِثَ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَأَقَرَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُهُ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُمْ، كَانُوا سَبْعَةً. وَقَوْلُهُ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فِيهِ تَعْلِيمٌ لِلنَّاسِ أَنْ يَرُدُّوا عِلْمَ الْأَشْيَاءِ إِلَى خَالِقِهَا جَلَّ وَعَلَا وَإِنْ عَلِمُوا بِهَا، كَمَا أَعْلَمَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُدَّةٍ لُبْثِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [18 \ 25] ، ثُمَّ أَمَرَهُ مَعَ ذَلِكَ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [18 \ 26] ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِرَابِعٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. مَعَ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ وَابْنَ جُرَيْجٍ قَالَا: كَانُوا ثَمَانِيَةً، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مُعَلِّقًا ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 اللَّهِ الَّذِي لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي الْعَالَمِ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ [18 \ 23] ، أَيْ: لَا تَقُولَنَّ لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعْزِمُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ الشَّيْءَ غَدًا. وَالْمُرَادُ بِالْغَدِ: مَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ لَا خُصُوصُ الْغَدِ. وَمِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْغَدِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمُ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْغَدِ الْمُعَيَّنِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 24] ، إِلَّا قَائِلًا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَيْ: مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ لَا تَقُولَنَّهُ إِلَّا بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَعْنِي إِلَّا مُتَلَبِّسًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَائِلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِقُرَيْشٍ: سَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ،) يَعْنُونَ ذَا الْقَرْنَيْنِ (، وَعَنْ فِتْيَةٍ لَهُمْ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، يَعْنُونَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ» ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَبِثَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً، قِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَأَحْزَنَهُ تَأَخُّرُ الْوَحْيِ عَنْهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ فِي الرُّوحِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الْآيَةَ [17 \ 85] ، وَقَالَ فِي الْفِتْيَةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَاتِ [18 \ 13] إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِمْ، وَقَالَ فِي الرَّجُلِ الطَّوَّافِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [18 \ 83] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَسَبَبَ نُزُولِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِيهَا عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا» ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى بِضَمِيمَةِ بَيَانِ السُّنَّةِ لَهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِتْنَةُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ كَانَتْ أَشَدَّ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً - وَفِي رِوَايَةٍ تِسْعِينَ امْرَأَةً، وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةِ امْرَأَةٍ - تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَقِيلَ لَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 إِنْسَانٍ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» اهـ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بَيَّنَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا الْآيَةَ [38 \ 34] ، وَأَنَّ فِتْنَةَ سُلَيْمَانَ كَانَتْ بِسَبَبِ تَرْكِهِ قَوْلَهُ «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، وَأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ مِنْ تِلْكَ النِّسَاءِ إِلَّا وَاحِدَةً نِصْفَ إِنْسَانٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْجَسَدَ الَّذِي هُوَ نِصْفُ إِنْسَانٍ هُوَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا الْآيَةَ، فَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ الْآيَةَ، مِنْ قِصَّةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي أَخَذَ الْخَاتَمَ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، وَطَرَدَ سُلَيْمَانَ عَنْ مُلْكِهِ ; حَتَّى وَجَدَ الْخَاتَمَ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ الَّتِي أَعْطَاهَا لَهُ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ عِنْدَهُ بِأَجْرٍ مَطْرُودًا عَنْ مُلْكِهِ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، لَا يَخْفَى أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوَّةِ. فَهِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يَخْفَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. وَالظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَيْهِ فِي الْجُلَّةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ قُلْتَ سَأَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَنَسِيتَ أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَذَكَّرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; أَيِ: اذْكُرْ رَبَّكَ مُعَلِّقًا عَلَى مَشِيئَتِهِ مَا تَقُولُ أَنَّكَ سَتَفْعَلُهُ غَدًا إِذَا تَذَكَّرْتَ بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23، 24] ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا وَقَعَ مِنْكَ النِّسْيَانُ لِشَيْءٍ فَاذْكُرِ اللَّهَ ; لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ فَتَى مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [18 \ 63] ، وَكَقَوْلِهِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [58 \ 19] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [43 \ 36] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الْآيَةَ [114 \ 1 - 4] ; أَيِ: الْوَسْوَاسِ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، الْخَنَّاسِ: الَّذِي يَخْنِسُ وَيَتَأَخَّرُ صَاغِرًا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِذَا ذَهَبَ الشَّيْطَانُ النِّسْيَانَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [18 \ 24] ، أَيْ: صَلِّ الصَّلَاةَ الَّتِي كُنْتَ نَاسِيًا لَهَا عِنْدَ ذِكْرِكَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [20 \ 14] ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِذَا نَسِيتَ، أَيْ: إِذَا غَضِبْتَ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ. مَسْأَلَةٌ اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَنًا طَوِيلًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى شَهْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى سَنَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ: لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ أَبَدًا. وَوَجَّهَ أَخْذَهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ; أَيْ: إِنْ نَسِيتَ تَسْتَثْنِي بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاسْتَثْنِ إِذَا تَذَكَّرْتَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِاتِّصَالٍ وَلَا قُرْبٍ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَأَخِّرَ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا تُحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَأَخِّرُ يَصِحُّ لَمَا عُلِمَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ تَقَرَّرَ عَقْدٌ وَلَا يَمِينٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ طُرُوِّ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى. وَيُحْكَى عَنِ الْمَنْصُورِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ ; فَاسْتَحْضَرَهُ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمَنْصُورِ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكَ! إِنَّك تَأْخُذُ الْبَيْعَةَ بِالْأَيْمَانِ، أَفَتَرْضَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ عِنْدِكَ فَيَسْتَثْنَوْا فَيَخْرُجُوا عَلَيْكَ! ؟ فَاسْتَحْسَنَ كَلَامَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. فَائِدَةٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: سَمِعْتُ فَتَاةً بِبَغْدَادَ تَقُولُ لِجَارَتِهَا: لَوْ كَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [38 \ 44] ، بَلْ يَقُولُ اسْتَثْنِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحٍ، وَقَوْلِهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 بِشَرِكَةٍ وَبِالتَّوَطِّي قَالَا ... بَعْضٌ وَأَوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصَالَا وَفِي الْبَوَاقِي دُونَ مَا اضْطِرَارِ ... وَأَبْطَلَنْ بِالصَّمْتِ لِلتِّذْكَارِ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَأَخِّرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ سَيَفْعَلُ كَذَا غَدًا، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا نَسِيَ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ وَلَوْ بَعْدَ طُولٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَيَكُونَ قَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى مَنْ لَا يَقَعُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَنَتِيجَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ: هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَةِ تَرِكَةِ الْمُوجِبِ لِلْعِتَابِ السَّابِقِ، لَا أَنَّهُ يُحِلُّ الْيَمِينَ لِأَنَّ تَدَارُكَهَا قَدْ فَاتَ بِالِانْفِصَالِ، هَذَا هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ. وَأَجَابَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِجَوَابٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ بِقَلْبِهِ وَنَسِيَ النُّطْقَ بِهِ بِلِسَانِهِ، فَأَظْهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَوَاهُ وَقْتَ الْيَمِينِ، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [27 \ 65] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [13 \ 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الْآيَةَ [3 \ 179] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ الْآيَةَ [11 \ 123] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [6 \ 59] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [34 \ 3] ، وَقَوْلِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ يُطْلِعُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ وَحْيِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [72 \ 26 - 27] ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [3 \ 179] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ. أَيْ: مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اتِّصَافِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [42 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [58 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [22 \ 75] ، وَالْآيَاتُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ مِنْ دُونِهِ جَلَّ وَعَلَا، بَلْ هُوَ وَلِيُّهُمْ جَلَّ وَعَلَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2 \ 257] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [10 \ 62] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاؤُهُ، وَالْوَلِيُّ: هُوَ مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ يُوَالِيكَ وَتُوَالِيهِ بِهِ، فَالْإِيمَانُ سَبَبٌ يُوَالِي بِهِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ بِالطَّاعَةِ، وَيُوَالِيهِمْ بِهِ الثَّوَابَ وَالنَّصْرَ وَالْإِعَانَةَ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [5 \ 55] ، وَقَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَةَ [9 \ 671] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [23 \ 6] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47 \ 11] ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ هِيَ وِلَايَةُ الثَّوَابِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ، فَلَا تُنَافِي أَنَّهُ مَوْلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 الْكَافِرِينَ وِلَايَةَ مُلْكٍ وَقَهْرٍ وَنُفُوذٍ وَمَشِيئَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [10 \ 30] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ رَاجِعٌ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «مَا لَهُمْ» رَاجِعٌ لِمُعَاصِرِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَمِيعِ لِخَالِقِهِمْ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ مِنْهَا وِلَايَةَ ثَوَابٍ وَتَوْفِيقٍ وَإِعَانَةٍ، وَوِلَايَةَ مُلْكٍ وَقَهْرٍ وَنُفُوذٍ وَمَشِيئَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ عَامِرٍ «وَلَا يُشْرِكُ» بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَضَمِّ الْكَافِ عَلَى الْخَبَرِ، وَلَا نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: وَلَا يُشْرِكُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَحَدًا فِي حُكْمِهِ، بَلِ الْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، وَالْقَضَاءُ مَا قَضَاهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ ; «وَلَا تُشْرِكْ» بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْكَافِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، أَيْ: لَا تُشْرِكْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوْ لَا تُشْرِكْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَحَدًا فِي حُكْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، بَلْ أَخْلِصِ الْحُكْمَ لِلَّهِ مِنْ شَوَائِبِ شِرْكِ غَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ، وَحُكْمُهُ جَلَّ وَعَلَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ جَلَّ وَعَلَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّشْرِيعُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْحُكْمِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [12 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [12 \ 67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [42 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [40 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 88] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 70] ، وَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [5 \ 50] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [6 \ 114] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] ، أَنَّ مُتَّبِعِي أَحْكَامِ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِيمَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ بِدَعْوَى أَنَّهَا ذَبِيحَةُ اللَّهِ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [6 \ 121] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِطَاعَتِهِمْ، وَهَذَا الْإِشْرَاكُ فِي الطَّاعَةِ، وَاتِّبَاعِ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُرَادُ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [36 \ 60، 61] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [19 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [4 \ 117] ، أَيْ: مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا، أَيْ: وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ تَشْرِيعِهِ، وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يُطَاعُونَ فِيمَا زَيَّنُوا مِنَ الْمَعَاصِي شُرَكَاءَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ الْآيَةَ [6 \ 137] ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [9 \ 31] ، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي «سُورَةِ النِّسَاءِ» بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ مَعَ إِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ بَالِغَةٌ مِنَ الْكَذِبِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعَجَبُ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [4 \ 60] . وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ غَايَةَ الظُّهُورِ: أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ الَّتِي شَرَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِ مُخَالَفَةً لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وَأَعْمَاهُ عَنْ نُورِ الْوَحْيِ مِثْلَهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 تَنْبِيهٌ اعْلَمْ، أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ النِّظَامِ الْوَضْعِيِّ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْكِيمُهُ الْكُفْرَ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبَيْنَ النِّظَامِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ النِّظَامَ قِسْمَانِ: إِدَارِيٌّ، وَشَرْعِيٌّ، أَمَّا الْإِدَارِيُّ: الَّذِي يُرَادُ بِهِ ضَبْطُ الْأُمُورِ وَإِتْقَانُهَا عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ، فَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَلَا مُخَالِفَ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ عَمِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَا كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَكَتْبِهِ أَسْمَاءَ الْجُنْدِ فِي دِيوَانٍ لِأَجْلِ الضَّبْطِ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ غَابَ وَمَنْ حَضَرَ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِتَخَلُّفِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ تَبُوكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَاشْتِرَائِهِ - أَعْنِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَارَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَجَعْلِهِ إِيَّاهَا سِجْنًا فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَّخِذْ سِجْنًا هُوَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ، فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ لِإِتْقَانِ الْأُمُورِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ لَا بَأْسَ بِهِ، كَتَنْظِيمِ شُئُونِ الْمُوَظَّفِينَ، وَتَنْظِيمِ إِدَارَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَنْظِمَةِ الْوَضْعِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَأَمَّا النِّظَامُ الشَّرْعِيُّ الْمُخَالِفُ لِتَشْرِيعِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَتَحْكِيمُهُ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَدَعْوَى أَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِإِنْصَافٍ، وَأَنَّهُمَا يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْمِيرَاثِ. وَكَدَعْوَى أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ ظُلْمٌ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ ظُلْمٌ لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ وَالْقَطْعَ وَنَحْوَهُمَا أَعْمَالٌ وَحْشِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِعْلُهَا بِالْإِنْسَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَتَحْكِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّظَامِ فِي أَنْفُسِ الْمُجْتَمَعِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَتَمَرُّدٌ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ الَّذِي وَضَعَهُ مَنْ خَلَقَ الْخَلَائِقَ كُلَّهَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُشَرِّعٌ آخَرُ عُلُوًّا كَبِيرًا أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [42 \ 21] ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [16 \ 116] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا جُمْلَةً وَافِيَةً مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْآيَةَ [17 \ 9] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَتْلُوَ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ رَبُّهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ «وَاتْلُ» [18 \ 27] ، شَامِلٌ لِلتِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَالتِّلْوِ: بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَاتِّبَاعِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ الْآيَةَ [29 \ 45] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّمْلِ» : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ الْآيَةَ [27 \ 91، 92] ، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [73 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِتِلَاوَتِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 106] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [43 \ 43] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [46 \ 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَعْضَ النَّتَائِجِ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [35 \ 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [2 \ 121] ، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ; أَيْ: لِأَنَّ أَخْبَارَهَا صِدْقٌ وَأَحْكَامَهَا عَدْلٌ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ صِدْقَهَا كَذِبًا، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَ عَدْلَهَا جَوْرًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [6 \ 115] ، فَقَوْلُهُ: «صِدْقًا» يَعْنِي فِي الْإِخْبَارِ، وَقَوْلُهُ «عَدْلًا» أَيْ: فِي الْأَحْكَامِ. وَكَقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [6 \ 34] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّهُ هُوَ يُبَدِّلُ مَا شَاءَ مِنَ الْآيَاتِ مَكَانَ مَا شَاءَ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ الْآيَةَ [16 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [18 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا. أَصْلُ الْمُلْتَحَدِ: مَكَانُ الِالْتِحَادِ وَهُوَ الِافْتِعَالُ: مِنَ اللَّحْدِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ ; لِأَنَّهُ مَيْلٌ فِي الْحَفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [41 \ 40] ، وَقَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ الْآيَةَ [7 \ 180] ، فَمَعْنَى اللَّحْدِ وَالْإِلْحَادِ فِي ذَلِكَ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، وَالْمُلْحِدُ الْمَائِلُ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ زَادَ مَاضِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَمَصْدَرُهُ الْمِيمِيُّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَاسْمُ زَمَانِهِ كُلُّهَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا هُنَا، فَالْمُلْتَحَدُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِالْتِحَادِ، أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَمِيلُ فِيهِ إِلَى مَلْجَأٍ أَوْ مَنْجًى يُنْجِيهِ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجِدُ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ; أَيْ: مَكَانًا يَمِيلُ إِلَيْهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَيُطِعْهُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ [72 \ 21 - 22] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ الْآيَةَ [69 \ 44 - 47] . وَكَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ مُلْتَحَدٌ، أَيْ: مَكَانٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْمَنَاصِ، وَالْمَحِيصِ، وَالْمَلْجَأِ، وَالْمَوْئِلِ، وَالْمَفَرِّ، وَالْوَزَرِ، كَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [38 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [4 \ 121] ، وَقَوْلِهِ: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [50 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [42 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [18 \ 58] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 وَقَوْلِهِ: يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ [75 \ 10 - 11] ، فَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ انْتِفَاءُ مَكَانٍ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ وَيَعْتَصِمُونَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ، أَيْ: يَحْبِسَهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ، لَا يُرِيدُونَ بِدُعَائِهِمْ إِلَّا رِضَاهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ، لَمَّا أَرَادَ صَنَادِيدُ الْكُفَّارِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَهُمْ عَنْهُ، وَيُجَالِسَهُمْ بِدُونِ حُضُورِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» أَنَّ اللَّهَ كَمَا أَمَرَهُ هُنَا بِأَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ أَمْرَهُ بِأَلَّا يَطْرُدَهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا رَآهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - إِلَى قَوْلِهِ - وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [6 \ 52 - 54] ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا [80 \ 1 - 11] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَا طَلَبَهُ الْكُفَّارُ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرْدِهِ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَاءَهُمْ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ وَازْدِرَاءً بِهِمْ، طَلَبَهُ أَيْضًا قَوْمُ نُوحٍ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَرْدِهِمْ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [26 \ 111] ، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ أَيْضًا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [11 \ 27] ، وَقَالَ عَنْ نُوحٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ طَرْدِهِمْ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [26 \ 114] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [11 \ 29 - 30] . وَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [18 \ 28] ، فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَادَّةَ الصَّبْرِ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا لِلْمَفْعُولِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ أَوْ عَنْتَرَةَ: فَصَبَرَتْ عَارِفَةً بِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ وَالْغَدَاةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ: آخِرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، أَيْ: يُصَلُّونَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ أَعَمَّ مِنْ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفُقَرَائِهِمْ، طُمُوحًا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ وَمَا لَدَيْهِمْ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَعْنَى وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ [18 \ 28] ، أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُهُمْ عَيْنَاكَ وَتَنْبُو عَنْ رَثَاثَةِ زِيِّهِمْ، مُحْتَقِرًا لَهُمْ طَامِحًا إِلَى أَهْلِ الْغِنَى وَالْجَاهِ وَالشَّرَفِ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَعَدَا يَعْدُو: تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى الْمَفْعُولِ وَتَلْزَمُ، وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي مَحَلِّ حَالٍ وَالرَّابِطُ الضَّمِيرُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارِعِ ثَبَتْ ... حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ وَصَاحِبُ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «عَيْنَاكَ» ، وَإِنَّمَا سَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا جُزْءٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهُ أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيفَا أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ طُمُوحِ الْعَيْنِ إِلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ الِاتِّصَافِ بِمَا يُرْضِيهِ جَلَّ وَعَلَا مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، كَمُجَالَسَةِ فَقُرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَشَارَ لَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [20 \ 130 - 131] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ الْآيَةَ [15 \ 87] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا. نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ طَاعَةِ مَنْ أَغْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَا، وَقَدْ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ نَهْيَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّبَاعِ مِثْلِ هَذَا الْغَافِلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْمُتَّبَعِ هَوَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ الْآيَةَ [33 \ 48] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [68 \ 8 - 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَمَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُتَوَلِّينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ [18 \ 28] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَعْرِضُ لِلْعَبْدِ مِنْ غَفْلَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، جَلَّ وَعَلَا، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ [76 \ 30] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [6 \ 107] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [32 \ 13] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [6 \ 35] ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ [2 \ 7] ، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [17 \ 46] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا يَقَعُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَمَا يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَيُحَاوِلُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ دَائِمًا تَأْوِيلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى نَحْوِ مَا يُطَابِقُهُ مِنِ اسْتِقْلَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ فَأَفْعَالُهُ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَمَعْنَى اتِّبَاعِهِ هَوَاهُ: أَنَّهُ يَتْبَعُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَتَهْوَاهُ مِنَ الشَّرِّ، كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، قِيلَ: هُوَ مِنَ التَّفْرِيطِ الَّذِي هُوَ التَّقْصِيرُ، وَتَقْدِيمُ الْعَجْزِ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، أَيْ: كَانَتْ أَعْمَالُهُ سَفَهًا وَضَيَاعًا وَتَفْرِيطًا، وَقِيلَ: مِنَ الْإِفْرَاطِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَقَوْلِ الْكُفَّارِ الْمُحْتَقِرِينَ لِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ أَشْرَافُ مُضَرَ وَسَادَاتُهَا! إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهَذَا مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْقَوْلِ، وَقِيلَ «فُرُطًا» أَيْ: قِدَمًا فِي الشَّرِّ. مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ، أَيْ: سَبَقَ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِنْدِي بِحَسَبَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «فُرُطًا» : أَيْ: مُتَقَدِّمًا لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ، نَابِذًا لَهُ وَرَاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 ظَهْرِهِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فُرُطٌ، أَيْ: مُتَقَدِّمٌ لِلْخَيْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْخَيْلَ تَحْمِلُ شَكَّتِي ... فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامَهَا وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ تَرْجِعُ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ كُلُّهَا، كَقَوْلِ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ «فُرُطًا» أَيْ: ضَيَاعًا. وَكَقَوْلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ «فُرُطًا» أَيْ: سَرَفَا، كَقَوْلِ الْفَرَّاءِ «فُرُطًا» أَيْ: مَتْرُوكًا. وَكَقَوْلِ الْأَخْفَشِ «فُرُطًا» أَيْ: مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَفِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ «الْحَقَّ» مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ، أَيِ: الْحَقُّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الْمُتَضَمِّنُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ كَائِنٌ مَبْدَؤُهُ مِنْ رَبِّكُمْ جَلَّ وَعَلَا، فَلَيْسَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مِنِ افْتِرَاءِ الْكَهَنَةِ، وَلَا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. بَلْ هُوَ مِنْ خَالِقِكُمْ جَلَّ وَعَلَا، الَّذِي تَلْزَمُكُمْ طَاعَتُهُ وَتَوْحِيدُهُ، وَلَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِلَّا الْحَقُّ الشَّامِلُ لِلصِّدْقِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا حَقَّ إِلَّا مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [2 \ 147] ، وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [3 \ 60] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَسَبَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ. وَالتَّهْدِيدُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّخْيِيرُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، وَهَذَا أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ، إِذْ لَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ عَلَى بَابِهِ لَمَا تَوَعَّدَ فَاعِلَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَعْتَدْنَا [18 \ 29] ، أَصْلُهُ مِنَ الِاعْتَادِ، وَالتَّاءُ فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُبْدَلَةً مِنْ دَالٍ عَلَى الْأَصَحِّ ; وَمِنْهُ الْعَتَادُ بِمَعْنَى الْعُدَّةِ لِلشَّيْءِ، وَمَعْنَى «أَعْتَدْنَا» : أَرْصَدْنَا وَأَعْدَدْنَا، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ هُنَا: الْكُفَّارُ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وَقَدْ قَدَّمَنَا كَثْرَةَ إِطْلَاقِ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْقُرْآنِ. كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي مَخْلُوقٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَلَى النَّقْصِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [18 \ 33] ، وَأَصْلُ مَعْنَى مَادَّةِ الظُّلْمِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلِأَجَلِ ذَلِكَ قِيلَ الَّذِي يَضْرِبُ اللَّبَنَ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ: ظَالِمٌ لِوَضْعِهِ ضَرْبَ لَبَنِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ; لِأَنَّ ضَرْبَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ يُضِيعُ زُبْدَهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ... وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكِدِ الظَّلِيمُ فَقَوْلُهُ «ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي» ، أَيْ: ضَرَبْتُهُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ فِي سِقَاءٍ لَهُ ظَلَمَهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ: وَصَاحِبُ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شِكَاتُهُ ... ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ وَفِي لُغْزِ الْحَرِيرِيِّ فِي مَقَامَاتِهِ فِي الَّذِي يَضْرِبُ لَبَنَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ، قَالَ: أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ ظَالِمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَالِمًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لِلْأَرْضِ الَّتِي حُفِرَ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَحَلَّ حَفْرٍ فِي السَّابِقِ: أَرْضٌ مَظْلُومَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: إِلَّا الْأَوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤَيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ «الْمَظْلُومَةَ» فِي الْبَيْتِ هِيَ الَّتِي ظَلَمَهَا الْمَطَرُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْهَا وَقْتَ إِبَّانِهِ الْمُعْتَادَ غَيْرُ صَوَابٍ. وَالصَّوَابُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا قَالُوا لِلتُّرَابِ الْمُخْرَجِ مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ حَفْرِهِ ظَلِيمٌ بِمَعْنَى مَظْلُومٌ ; لِأَنَّهُ حَفْرٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَفْرِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ رَجُلًا مَاتَ وَدُفِنَ: فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ ... عَلَى الْعَيْشِ مِرْوَدٌ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا وَقَوْلُهُ: أَحَاطَ بِهِمْ أَيْ: أَحْدَقَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَوْلُهُ: سُرَادِقُهَا [18 \ 29] ، أَصْلُ السُّرَادِقِ وَاحِدُ السُّرَادِقَاتِ الَّتِي تُمَدُّ فَوْقَ صَحْنِ الدَّارِ، وَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 كُرْسُفٍ فَهُوَ سُرَادِقٌ. وَالْكُرْسُفُ: الْقُطْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ أَوِ الْكَذَّابِ الْحِرْمَازِيِّ: يَا حَكَمُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودِ وَبَيْتٌ مُسَرْدَقٌ: أَيْ مَجْعُولٌ لَهُ سُرَادِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ سَلَامَةَ بْنِ جَنْدَلٍ يَذْكُرُ أبريويز وَقَتْلَهُ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ تَحْتَ أَرْجُلِ الْفِيَلَةِ: هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ ... صُدُورُ الْفُيُولِ بَعْدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقِ هَذَا هُوَ أَصْلُ مَعْنَى السُّرَادِقِ فِي اللُّغَةِ. وَيُطْلِقُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ عَلَى الْحُجْرَةِ الَّتِي حَوْلَ الْفُسْطَاطِ. وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالسُّرَادِقِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إِحْدَاقُ النَّارِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : أَيْ: سُورُهَا، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : سُورٌ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ كَالْحَظِيرَةِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ دُخَانٌ يُحِيطُ بِهِمْ. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْمُرْسَلَاتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [77 \ 30 - 31] ، وَ «الْوَاقِعَةِ» فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [56 \ 43 - 44] . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالدُّنْيَا. وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ ثُمَّ تَلَا» نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا «ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا مَا دُمْتُ حَيًّا وَلَا تُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَةٌ» ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ كِثَفُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَتَبِعَهُ الشَّوْكَانِيُّ. وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورُ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ النَّارَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 جَانِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [7 \ 41] ، وَقَالَ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [39 \ 16] ، وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [21 \ 39] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، يَعْنِي إِنْ يَطْلُبُوا الْغَوْثَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ يُغَاثُوا، يُؤْتَوْا بِغَوْثٍ هُوَ مَاءٌ كَالْمُهْلِ. وَالْمُهْلُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى مَا أُذِيبَ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ، كَذَائِبِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى دُرْدِيِّ الزَّيْتِ وَهُوَ عَكَرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْمُهْلِ فِي الْآيَةِ: مَا أُذِيبُ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: دُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَطِرَانِ. وَقِيلَ السُّمُّ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ إِغَاثَةٍ فِي مَاءٍ كَالْمُهْلِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ [18 \ 29] . فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ: غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تَقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ «أُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ» : أَيْ: أُرْضُوا بِالسَّيْفِ. يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ مِنَّا إِرْضَاءً إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ يَعْنِي لَا تَحِيَّةَ لَهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ الْوَجِيعُ. وَإِذَا كَانُوا لَا يُغَاثُونَ إِلَّا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا إِغَاثَةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ. وَالْيَاءُ فِي قَوْلِهِ «يَسْتَغِيثُوا» وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ «يُغَاثُوا» كِلْتَاهُمَا مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ ; لِأَنَّ مَادَّةَ الِاسْتِغَاثَةِ مِنَ الْأَجْوَفِ الْوَاوِيِّ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ الْعَيْنَ أُعِلَّتْ لِلسَّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهَا، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: لِسَاكِنٍ صَحَّ انْقُلِ التَّحْرِيكَ مِنْ ذِي لِينٍ آتِ عَيْنَ فِعْلٍ كَأَبِنْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ، أَيْ: يَحْرِقُهَا حَتَّى تَسْقُطَ فَرْوَةُ الْوَجْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ: «كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ» ، هُوَ كَعَكَرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرُبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ، قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) الْكَافِي الشَّافِ، فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ (: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَاسْتَغْرَبَهُ وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، وَتُعُقِّبَ قَوْلُهُ بِأَنَّ أَحْمَدَ وَأَبَا يَعْلَى أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ، وَبِأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ وَالْحَاكِمَ أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِئْسَ الشَّرَابُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ فِيهِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الشَّرَابُ ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ «سَاءَتْ» عَائِدٌ إِلَى النَّارِ. وَالْمُرْتَفَقُ: مَكَانُ الِارْتِفَاقِ. وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَّكِئَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى مِرْفَقِهِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْمُرْتَفَقِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. قِيلَ مُرْتَفَقًا. أَيْ: مَنْزِلًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَقِيلَ مَقَرًّا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ. وَقِيلَ مَجْلِسًا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْعُتْبِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُرْتَفَقًا أَيْ: مُجْتَمَعًا. فَهُوَ عِنْدَهُ مَكَانُ الِارْتِفَاقِ بِمَعْنَى مُرَافَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي النَّارِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْأَقْوَالِ أَنَّ النَّارَ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ هِيَ، وَبِئْسَ الْمَقَامُ هِيَ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [25 \ 66] ، وَكَوْنُ أَصْلِ الِارْتِفَاقِ هُوَ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْمِرْفَقِ، مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: نَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقًا ... كَأَنَّ عَيْنِيَ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحُ وَيُرْوَى «وَبِتُّ اللَّيْلَ مُشْتَجِرًا» وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ: قَدْ بِتُّ مُرْتَفِقًا لِلنَّجْمِ أَرْقُبُهُ ... حَيْرَانَ ذَا حَذَرٍ لَوْ يَنْفَعُ الْحَذَرُ وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: قَالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ أَلَا فَتًى ... يَسُوقُ بِالْقَوْمِ غَزَالَاتِ الضُّحَا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الشَّرَابِ، الَّذِي يُسْقَى بِهِ أَهْلُ النَّارِ، جَاءَ نَحْوُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [6 \ 70] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [47 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [88 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [55 \ 44] ، وَالْحَمِيمُ الْآنِي: مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ الْآيَةَ [14 \ 16 - 17] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [37 \ 67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [56 \ 54، 55] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا الْآيَةَ [78 \ 24 - 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [38 \ 57 - 58] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طُرُقًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ «يُونُسَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَأَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ، أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِ: بَلْ يُجَازَى بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [3 \ 195] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [3 \ 171] ، وَقَوْلِهِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [55 \ 60] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ أَيْنَ خَبَرُ «إِنَّ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [8 \ 30] ؟ فَإِذَا قِيلَ: خَبَرُهَا جُمْلَةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [18 \ 30] تُوَجِّهُ السُّؤَالُ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَ رَابِطُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ بِالْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ اسْمُ «إِنَّ» ؟ . اعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ «إِنَّ» فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، قِيلَ: هُوَ جُمْلَةُ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَعَلَى هَذَا فَالرَّابِطُ مَوْجُودٌ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: «إِنَّ» الثَّانِيَةَ وَاسْمَهَا وَخَبَرَهَا، كُلُّ ذَلِكَ خَبَرُ «إِنَّ» الْأُولَى. وَنَظِيرُ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ «إِنَّ» بِـ «إِنَّ» وَخَبَرِهَا وَاسْمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [22 \ 17] ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ أَلْبَسَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ عَلَى أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ فِي خَبَرِ «إِنَّ» الْأُولَى فِي الْبَيْتِ، وَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ الرَّابِطَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ عَمَلًا ; كَقَوْلِهِمْ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ: مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ الْآيَةَ [2 \ 234] ، أَيْ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَإِذَا كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا يُنَظِّمُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الرَّبْطِ بِالضَّمِيرِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّ الرَّبْطَ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ إِلَى قَوْلِهِ: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، فَذَكَرَ أَنَّهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فِيهَا الْأَنْهَارُ، وَيُحَلَّوْنَ فِيهَا أَسَاوِرَ الذَّهَبِ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا الثِّيَابَ الْخُضْرَ مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَالْحِجَالُ: جَمْعُ حَجْلَةٍ وَهُوَ بَيْتٌ يُزَيَّنُ لِلْعَرُوسِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى ثَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [18 \ 31] ، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ هُنَا مِنْ صِفَاتِ جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْإِنْسَانِ» : إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [76 \ 5 - 22] ، وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [56 \ 10 - 12] إِلَى قَوْلِهِ: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الْآيَةَ 38] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ: وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «السَّجْدَةِ» أَنَّ مَا أَخَفَاهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ [32 \ 17] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ أَيْ: إِقَامَةٌ لَا رَحِيلَ بَعْدَهَا وَلَا تَحَوُّلَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [18 \ 108] أَصْلُهُ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» مَعْنَى السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ سِوَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ مُطْلَقًا عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 التَّحْقِيقِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِكُلِّ أَخِي مَدْحٌ ثَوَابٌ عَلِمْتُهُ ... وَلَيْسَ لِمَدْحِ الْبَاهِلِيِّ ثَوَابُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الثَّوَابَ فِي اللُّغَةِ يَخْتَصُّ بِجَزَاءِ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ يُطْلَقُ الثَّوَابُ أَيْضًا عَلَى جَزَاءِ الشَّرِّ بِالشَّرِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [83 \ 36] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [5 \ 60] . وَقَوْلُهُ: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «حَسُنَتْ» رَاجِعٌ إِلَى «جَنَّاتِ عَدْنٍ» . وَالْمُرْتَفَقُ قَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ هُنَا فِي الْجَنَّةِ «وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا» يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [25 \ 75 - 76] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الْكَافِرِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، الَّذِي ضَرَبَهُ مَثَلًا مَعَ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِرُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ عَلَى ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْفُقَرَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ جَنَّتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَا يَظُنُّ أَنْ تَهْلِكَ جَنَّتُهُ وَلَا تَفْنَى: لِمَا رَأَى مِنْ حُسْنِهَا وَنَضَارَتِهَا؟ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وَإِنَّهُ إِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُبْعَثُ وَيُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ لَيَجِدَنَّ عِنْدَهُ خَيْرًا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: مِنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّ الْآخِرَةَ كَالدُّنْيَا يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَيْضًا بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي «فُصِّلَتْ» : وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [41 \ 50] ، وَقَوْلِهِ فِي «مَرْيَمَ» : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [19 \ 77] ، وَقَوْلِهِ فِي «سَبَأٍ» : وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 35] ، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [18 \ 34] . وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا كَذِبَهُمْ وَاغْتِرَارَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ: مِنْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 - 56] ، وَقَوْلِهِ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 44 - 45] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الْآيَةَ [34 \ 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [111 \ 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: مُنْقَلَبًا، أَيْ: مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً، وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقَوْلُهُ: لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ «مِنْهُمَا» بِصِيغَةِ تَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ «مِنْهَا» بِصِيغَةِ إِفْرَادِ هَاءِ الْغَائِبَةِ، فَالضَّمِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ تَثْنِيَتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [18 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ. . الْآيَةَ [18 \ 35] . فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمَا جَنَّتَانِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَالَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَ إِحْدَاهُمَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِيهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانِ فِي الْبَحْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ الْمَضْرُوبَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ أُولُو الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالَ لِصَاحِبِهِ الْآخَرِ الْكَافِرِ الْمَضْرُوبِ مَثَلًا لِذَوِي الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْكُفَّارِ، مُنْكِرًا عَلَيْهِ كُفْرَهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلُقَكَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟ لِأَنَّ خَلْقَهُ إِيَّاهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ تَسْوِيَتَهُ إِيَّاهُ رَجُلًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِيمَانَهُ بِخَالِقِهِ الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَجَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا، وَيَجْعَلُهُ يَسْتَبْعِدُ مِنْهُ كُلَّ الْبُعْدِ الْكُفْرَ بِخَالِقِهِ الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُبَيَّنُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [2 \ 28] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [36 \ 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. . الْآيَةَ [26 \ 76 - 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [43 \ 26] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ ضَابِطَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيُظْهِرُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [18 \ 38] ، مَعْنَى خَلْقُهُ إِيَّاهُ مِنْ تُرَابٍ: أَيْ: خَلْقُ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [3 \ 59] ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [22 \ 5] . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ خَلَقَ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِهِ، وَجَعَلَهَا زَوْجًا لَهُ كَانَتْ طَرِيقُ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ بِالتَّنَاسُلِ، فَبَعْدَ طَوْرِ التُّرَابِ طَوْرُ النُّطْفَةِ، ثُمَّ طَوْرُ الْعَلَقَةِ إِلَى آخِرِ أَطْوَارِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [39 \ 6] ، وَقَدْ أَوْضَحَهَا تَعَالَى إِيضَاحًا تَامًّا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [23 \ 12 - 13] . وَمِمَّا يُبَيِّنُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «السَّجْدَةِ» : ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [32 \ 6 - 9] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [18 \ 38] ، كَقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [36 \ 77] ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً سَارَ إِنْسَانًا خَصِيمًا شَدِيدَ الْخُصُومَةِ فِي تَوْحِيدِ رَبِّهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وَقَوْلُهُ: سَوَّاكَ، أَيْ: خَلَقَكَ مُسْتَوِيَ الْأَجْزَاءِ، مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ وَالْخَلْقِ، صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ فِي أَكْمَلِ صُورَةٍ، وَأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [40 \ 64] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [82 \ 6] ، وَقَوْلِهِ «رَجُلًا» أَيْ: ذَكَرًا بَالِغًا مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَرُبَّمَا قَالَتِ الْعَرَبُ لِلْمَرْأَةِ: رَجُلَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا ... غَيْرَ جِيرَانِ بَنِي جَبَلَهْ مَزَّقُوا ثَوْبَ فَتَاتِهِمْ ... لَمْ يُرَاعُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْ وَانْتِصَابُ «رَجُلًا» عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِسَوَّى عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى جَعَلَكَ أَوْ صَيَّرَكَ رَجُلًا. وَقِيلَ: هُوَ تَمْيِيزٌ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْكَارَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِهَمْزَةِ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [18 \ 37] ، مُضَمَّنٌ مَعْنَى الِاسْتِبْعَادِ ; لِأَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ جِدًّا كُفْرُ الْمَخْلُوقِ بِخَالِقِهِ، الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَيُسْتَبْعَدُ إِنْكَارُ الْبَعْثِ مِمَّنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ رَجُلًا ; كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ. . الْآيَةَ [22 \ 5] ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِبْعَادِ لِوُجُودِ مُوجِبِهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا لِأَنَّ مَنْ عَايَنَ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ اقْتِحَامُهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [18 \ 38] ، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ قَالَ لِصَاحِبِهِ الْكَافِرِ: أَنْتَ كَافِرٌ؟ ! لَكِنْ أَنَا لَسْتُ بِكَافِرٍ! بَلْ مُخْلِصٌ عِبَادَتِيَ لِرَبِّيَ الَّذِي خَلَقَنِي ; أَيْ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنِّي أَنْ أَعْبُدَهُ ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْتَاجٌ مِثْلِي إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ، تَلْزَمُهُ عِبَادَةُ خَالِقِهِ كَمَا تَلْزَمُنِي. وَنَظِيرُ قَوْلِ هَذَا الْمُؤْمِنِ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الْمَذْكُورِ فِي «يس» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [36 \ 22] ، أَيْ: أَبْدَعِنِي وَخَلَقَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَمَا قَدَّمْنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. . الْآيَةَ [26 \ 77 - 78] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي الْآيَةَ [43 \ 26 - 27] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [13 \ 5] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَكِنَّا أَصْلُهُ «لَكِنْ أَنَا» فَحُذِفَتْ هَمْزَةُ «أَنَا» وَأُدْغِمَتْ نُونُ «لَكِنْ» فِي نُونِ «أَنَا» بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى نُونِ «لَكِنْ» فَسَقَطَتِ الْهَمْزَةُ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا، ثُمَّ أُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ! وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ ... وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّا إِيَّاكِ لَمْ أَقِلِ أَيْ لَكِنْ أَنَا إِيَّاكِ لَمْ أَقِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْتِ مَا ذَكَرَ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ لَكِنَّنِي فَحَذَفَ اسْمَ «لَكِنَّ» كَقَوْلِ الْآخَرِ: فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ أَيْ: لَكِنَّكَ زَنْجِيٌّ فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى زَنْجِيٌّ بِالرَّفْعِ، وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ لِنَحْوِ هَذَا الْحَذْفِ مِنْ «لَكِنَّ أَنَا» قَوْلُ الْآخَرِ: لَهِنَّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمَةٌ ... عَلَى هَنَوَاتٍ كَاذِبٍ مَنْ يَقُولُهَا قَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ «لَهِنَّكَ» لِلَّهِ إِنَّكَ، فَحَذَفَ إِحْدَى اللَّامَيْنِ مِنْ «لِلَّهِ» ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ «إِنَّكَ» نَقْلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، قَرَأَهُ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ فِي الْوَصْلِ «لَكِنْ» ، بِغَيْرِ أَلْفٍ بَعْدَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ «لَكِنَّا» بِالْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوَاهُ الْمُسَيَّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ، وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ. وَمَدِّ نُونِ «أَنَا» لُغَةُ تَمِيمٍ إِنْ كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: إِنَّ إِثْبَاتَ أَلِفِ «أَنَا» مُطْلَقًا فِي الْوَصْلِ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَغَيْرُهَا يُثْبِتُونَهَا عَلَى الِاضْطِرَارِ، قَالَ: فَجَاءَتْ قِرَاءَةُ «لَكِنَّا» بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَمِنْ شَوَاهِدِ مَدِّ «أَنَا» قَبْلَ غَيْرِ الْهَمْزَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ... حَمِيدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا وَقَوْلُ الْأَعْشَى: فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالُ الْقَوَافِي ... بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارًا وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ يُحَاوِرُهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمُحَاوَرَةُ: الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [58 \ 1] ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا الْمُحَاوَرَةُ اشْتَكَى ... وَلَكَانَ لَوْ عَلِمَ الْجَوَابَ مُكَلِّمِي وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا فِي قِصَّتِهِمَا كَبَيَانِ أَسْمَائِهِمَا، وَمِنْ أَيِّ النَّاسِ هُمَا أَعْرَضْنَا عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُقْنِعِ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا. مَعْنَى قَوْلِهِ: «غَوْرًا» أَيْ: غَائِرًا ; فَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ ; كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا وَالْغَائِرُ: ضِدُّ النَّابِعِ، وَقَوْلُهُ: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [18 \ 41] ; لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَعْدَمَ مَاءَهَا بَعْدَ وُجُودِهِ، لَا تَجِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَكَ بِهِ غَيْرَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [67 \ 30] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ: لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ; كَمَا قَالَ هُنَا: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [18 \ 41] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَا. اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قِرَاءَاتٌ سَبْعِيَّةٌ، وَأَقْوَالًا لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ فِي الْقُرْآنِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ [18 \ 43] ، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ» بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَوْلَهُ: الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [18 \ 44] ، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ أَيْضًا «الْوَلَايَةُ» بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَقَوْلَهُ «الْحَقِّ» قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا أَبَا عَمْرٍو وَالْكِسَائِيَّ بِالْخَفْضِ نَعْتَا «لِلَّهِ» ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ «الْوَلَايَةُ لِلَّهِ» بِفَتْحِ الْوَاوِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا: الْمُوَالَاةُ وَالصِّلَةُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَتِلْكَ الْحَالِ تَكُونُ الْوَلَايَةُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لِلَّهِ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا رَأَى الْعَذَابَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [40 \ 84] ، وَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 90 - 91] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَلَايَةَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَتِلْكَ الْحَالِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَيُوَالِي فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَلَايَةَ رَحْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [2 \ 257] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47 \ 11] ، وَلَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَلَايَةُ الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [10 \ 30] ، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَالْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ; كَقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [25 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [22 \ 56] ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «الْحَقِّ» بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَّهِ، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ الْآيَةَ [18 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الْآيَةَ [10 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [24 \ 25] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، عَلَى أَنَّ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ هَذَا الْكَافِرِ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ ذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ فِي قَارُونَ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ [28 \ 81] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 وَقَوْلِهِ: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [86 \ 10] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: هُنَالِكَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَالْوَقْفُ تَامٌّ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ «هُنَالِكَ» عَامِلُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيِ: الْوَلَايَةُ كَائِنَةٌ لِلَّهِ هُنَالِكَ. وَعَلَى الثَّانِي فَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ «مُنْتَصِرًا» أَيْ: لَمْ يَكُنِ انْتِصَارُهُ وَاقِعًا هُنَالِكَ. وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا، أَيْ: جَزَاءً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ «عُقْبًا» أَيْ: عَاقِبَةً وَمَآلًا، وَقَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا عَاصِمًا وَحَمْزَةَ «عُقُبًا» بِضَمَّتَيْنِ. وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ «عُقْبًا» بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ «ثَوَابًا» وَقَوْلُهُ «عُقْبًا» كِلَاهُمَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ بَعْدَ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ الَّتِي هِيَ «خَيْرٌ» كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا ... مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًا وَلَفْظَةُ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلْتَاهُمَا تَأْتِي صِيغَةَ تَفْضِيلٍ حُذِفَتْ مِنْهَا الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْكَافِيَةِ: وَغَالِبًا أَغْنَاهُمْ خَيْرٌ وَشَرٌّ ... عَنْ قَوْلِهِمْ أُخَرُ مِنْهُ وَأَشَّرُ تَنْبِيهٌ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِئَةٌ مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ. هَلْ هُوَ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ، وَهَلْ هُوَ الْعَيْنُ أَوِ اللَّامُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، وَأَصْلُهُ يَاءٌ. وَأَصْلُ الْمَادَّةِ ف ي أ، مِنْ فَاءَ يَفِيءُ: إِذَا رَجَعَ ; لِأَنَّ فِئَةَ الرَّجُلِ طَائِفَتُهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي أُمُورِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ الْعَيْنِ الْمَحْذُوفَةِ، وَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فِلَةٌ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ اللَّامِ، وَأَصْلُهُ وَاوٌ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ: إِذَا شَقَقْتَهُ نِصْفَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَالْفِئَةُ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا فَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فِعَةٌ» وَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ اللَّامِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ نَصَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهُ النَّاسِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ ; لِئَلَّا يَشْتَغِلُوا بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ الْآيَةَ [3 \ 14 - 15] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [63 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [64 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا الْآيَةَ [34 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [26 \ 88] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الِاشْتِغَالُ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَمَّا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَعْمَالُ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ، أَوْ أَنَّهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَجَاءَتْ دَالَّةٌ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ «الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» لَفْظٌ عَامٌّ، يَشْمَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى: لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ لِصَاحِبِهَا غَيْرُ زَائِلَةٍ. وَلَا فَانِيَةٍ كَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهَا أَيْضًا صَالِحَةٌ لِوُقُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ ثَوَابًا تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيِ: الَّذِي يُؤَمِّلُ مِنْ عَوَاقِبِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، خَيْرٌ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ زِينَةِ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَأَصْلُ الْأَمَلِ: طَمَعُ الْإِنْسَانِ بِحُصُولِ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «مَرْيَمَ» : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [19 \ 76] ، وَالْمَرَدُّ: الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «مَرَدًّا» مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وَخَيْرٌ رَدًّا لِلثَّوَابِ عَلَى فَاعِلِهَا، فَلَيْسَتْ كَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ الَّتِي لَا تَرُدُّ ثَوَابًا عَلَى صَاحِبِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. قَوْلُهُ: وَيَوْمَ [18 \ 47] ، مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ مُقَدَّرًا. أَوْ بِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى [6 \ 94] ، أَيْ: قُلْنَا لَهُمْ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ «خَيْرٌ» يَعْنِي وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ بَعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْتَلُّ فِيهِ نِظَامُ هَذَا الْعَامِ الدُّنْيَوِيِّ، فَتُسَيَّرُ جِبَالُهُ، وَتَبْقَى أَرْضُهُ بَارِزَةً لَا حَجَرَ فِيهَا وَلَا شَجَرَ، وَلَا بِنَاءَ وَلَا وَادِيَ وَلَا عَلَمَ، ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ مِنْ أَمَاكِنِهِمَا، وَيَدُكُّهُمَا دَكَّةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. . الْآيَةَ [69 \ 13 - 15] . وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [52 \ 9 - 10] ، وَقَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [81 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الْآيَةَ [27 \ 88] . ثُمَّ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يُفَتِّتُهَا حَتَّى تَذْهَبَ صَلَابَتُهَا الْحَجَرِيَّةُ وَتَلِينَ، فَتَكُونَ فِي عَدَمِ صَلَابَتِهَا وَلِينِهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَكَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [70 \ 8 - 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [101 \ 4 - 5] ، وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [73 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [56 \ 5] ، أَيْ: فُتِّتَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْبَسِيسَةِ، وَهِيَ دَقِيقٌ مَلْتُوتٌ بِسَمْنٍ، عَلَى أَشْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ يَجْعَلُهَا هَبَاءً وَسَرَابًا. قَالَ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [56 \ 5، 6] ، وَقَالَ: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ السَّرَابَ عِبَارَةٌ عَنْ لَا شَيْءَ ; وَهُوَ قَوْلُهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ، إِلَى قَوْلِهِ: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] . وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «تُسَيَّرُ الْجِبَالُ» بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةُ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: «تُسَيَّرُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْجِبَالُ بِالرَّفْعِ نَائِبُ فَاعِلِ تُسَيَّرُ وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ «نُسَيِّرُ» بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَ «الْجِبَالَ» مَنْصُوبٌ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالنُّونُ فِي قَوْلِهِ «نُسَيِّرُ» لِلتَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً، الْبُرُوزُ: الظُّهُورُ، أَيْ: تَرَى الْأَرْضَ ظَاهِرَةً مُنْكَشِفَةً لِذَهَابِ الْجِبَالِ وَالظِّرَابِ وَالْآكَامِ، وَالشَّجَرِ وَالْعِمَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [20 \ 105 - 106] ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهَا أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَلَا بِنَاءَ وَلَا ارْتِفَاعَ وَلَا انْحِدَارَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً، أَيْ: بَارِزًا مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْكُنُوزِ بَعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى، وَبُرُوزُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْكُنُوزِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [84 \ 3 - 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [100 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [99 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [82 \ 4] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحَشَرْنَاهُمْ، أَيْ: جَمَعْنَاهُمْ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا الْجَمْعُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَشْرِ هُنَا جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [56 \ 49 - 50] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [4 \ 87] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [64 \ 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [11 \ 103] ، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ [6 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْحَشْرَ الْمَذْكُورَ شَامِلٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [6 \ 38] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [18 \ 47] ، أَيْ: لَمْ نَتْرُكْ، وَالْمُغَادَرَةُ: التَّرْكُ، وَمِنْهُ الْغَدْرُ ; لِأَنَّهُ تَرْكُ الْوَفَاءِ وَالْأَمَانَةِ، وَسُمِّيَ الْغَدِيرُ مِنَ الْمَاءِ غَدِيرًا ; لِأَنَّ السَّيْلَ ذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَمِنَ الْمُغَادَرَةِ بِمَعْنَى التَّرْكِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مَطْلَعِ مُعَلَّقَتِهِ: هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ ... أَمْ هَلْ عَرَفْتِ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ وَقَوْلُهُ أَيْضًا: غَادَرْتُهُ مُتَعَفِّرًا أَوْصَالُهُ ... وَالْقَوْمُ بَيْنَ مُجَرَّحٍ وَمُجَدَّلِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ حَشَرَهُمْ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ [6 \ 22] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ حَشْرَهُمْ جَمِيعًا هُوَ مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ صَفًّا، أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُصْطَفِّينَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَفًّا وَاحِدًا وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ «صَفًّا» أَيْ: جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [20 \ 64] ، عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَخَرَّجَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِنْدَهْ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ غَيْرِ فَظِيعٍ: يَا عِبَادِي، أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، يَا عِبَادِي، لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، أَحْضِرُوا حُجَّتَكُمْ وَيَسِّرُوا جَوَابًا فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ مُحَاسَبُونَ. يَا مَلَائِكَتِي، أَقِيمُوا عِبَادِي صُفُوفًا عَلَى أَطْرَافِ أَنَامِلِ أَقْدَامِهِمْ لِلْحِسَابِ» ، قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ وَمِنْهُ نَقَلْنَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «صَفًّا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ صُفُوفًا، كَقَوْلِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [78 \ 38 - 39] . فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ عَرْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 الْخَلَائِقِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ أَحْوَالِ عَرْضِهِمْ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [69 \ 18] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مَا يُلَاقِيهِ الْكُفَّارُ، وَمَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّهِمْ. كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [11 \ 18 - 19] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: صَفًّا أَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْكَرُ قَدْ يَكُونُ حَالًا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَصْدَرٌ مُنْكَرٌ حَالًا يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زِيدٌ طَلَعْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. هَذَا الْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ مُطَّرِدٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَالْمَعْنَى: يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقَدْ جِئْتُمُونَا، أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، أَيْ: غَيْرَ مَخْتُونِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فَرْدٌ لَا مَالَ مَعَهُ وَلَا وَلَدَ، وَلَا خَدَمَ وَلَا حَشَمَ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [6 \ 94] ، وَقَوْلِهِ: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [19 \ 94 - 95] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا الْآيَةَ [21 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [7 \ 29] تَقَدَّمُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهَا وَمِنْ صِلَتِهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِيضَاحُ تَقْرِيرِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ، أَيْ: مَجِيئًا مِثْلَ مَجِيءِ خَلْقِكُمْ، أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَخَالِينَ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْرَابُهُ أَيْضًا حَالًا، أَيْ: جِئْتُمُونَا فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُشَابِهِينَ لَكُمْ فِي حَالَتِكُمُ الْأُولَى ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ يُؤَوَّلُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي ... مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلَا تَكَلُّف كَبِعْهُ مُدًّا بِكَذَا يَدًا بِيَدْ ... وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَدًا أَيْ كَأَسَدْ فَقَوْلُهُ «وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَدًا: أَيْ: كَأَسَدٍ» مِثَالٌ لِمُبْدِي التَّأَوُّلِ ; لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ كَرَّ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُشَابِهًا لِلْأَسَدِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَاعْلَمْ أَنَّ حَذْفَ الْقَوْلِ وَإِثْبَاتَ مَقُولِهِ مُطَّرِدٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، لَكِنْ عَكْسُهُ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْقَوْلِ وَحَذْفُ مِقْوَلِهِ قَلِيلٌ جِدًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَنَحْنُ الْأُلَى قُلْتُمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ ... بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبًا لِأَنَّ الْمُرَادَ لَنَحْنُ الْأُلَى قُلْتُمْ نُقَاتِلُهُمْ، فَحَذَفَ جُمْلَةَ نُقَاتِلُهُمُ الَّتِي هِيَ مَقُولُ الْقَوْلِ، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا، عَبَّرَ فِيهِ بِالْمَاضِي وَأَرَادَ الْمُسْتَقْبَلَ ; لِأَنَّ تَحْقِيقَ وُقُوعِ ذَلِكَ يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِمَا ذَكَرْنَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: وَحَشَرْنَاهُمْ [18 \ 47] ، وَقَوْلُهُ: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ [18 \ 48] ، وَقَوْلُهُ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [18 \ 99] ، وَقَوْلُهُ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [39 \ 71] ، وَقَوْلُهُ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [39 \ 73] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ لِمَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مَوْعِدًا، وَالْمَوْعِدُ يَشْمَلُ زَمَانَ الْوَعْدِ وَمَكَانَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ وَقْتًا وَلَا مَكَانًا لِإِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الْآيَةَ [64 \ 7] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] ، وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَهُمْ فِي إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [18 \ 58] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ الْآيَةَ [64 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [16 \ 38] ، وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَسُورَةِ «النَّحْلِ» الْبَرَاهِينَ الَّتِي يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ زَعَمْتُمْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ آخَرَ، لَا إِبْطَالِيٌّ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَلَّنْ نَجْعَلَ، مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَجُمْلَةُ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا خَبَرُهَا، وَالِاسْمُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمَحْذُوفُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنْ تُخَفِّفْ أَنْ. . . الْبَيْتَ. وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ مُتَصَرِّفٌ وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ، فَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِالنَّفْيِ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا الْبَيْتَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكِتَابَ يُوضَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: جِنْسُ الْكِتَابِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّحُفِ الَّتِي كُتِبَتْ فِيهَا أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَأَنَّ الْمُجْرِمِينَ يُشْفِقُونَ مِمَّا فِيهِ. أَيْ: يَخَافُونَ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ [18 \ 49] ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي عَمِلْنَا إِلَّا أَحْصَاهَا أَيْ: ضَبَطَهَا وَحَصَرَهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13 - 14] ، وَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. وَبَعْضُهُمْ يُؤْتَاهُ بِشِمَالِهِ. وَبَعْضُهُمْ يُؤْتَاهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [69 \ 25] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [84 \ 3 - 12] وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَضْعِ الْكِتَابِ هُنَا ذَكَرَهُ فِي «الزُّمَرِ» فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [39 \ 69] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ، تَقَدَّمَ مَعْنًى مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 قَوْلِهِ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ الْآيَةَ [18 \ 49] ، وَالْمُجْرِمُونَ: جَمْعُ الْمُجْرِمِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ الْإِجْرَامِ. وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ النَّكَالَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ «مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ» : أَنَّهُمْ خَائِفُونَ مِمَّا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنْ كَشْفِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، وَفَضِيحَتِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَقَوْلُهُمْ يَاوَيْلَتَنَا الْوَيْلَةُ: الْهَلَكَةُ، وَقَدْ نَادَوْا هَلَكَتَهُمُ الَّتِي هَلَكُوهَا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الْهَلَكَاتِ فَقَالُوا: يَا وَيْلَتَنَا! أَيْ: يَا هَلَكَتَنَا احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكِ! وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: الْمُرَادُ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ: كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا مَنْ بِحَضْرَتِنَا انْظُرُوا هَلَكَتَنَا. وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ نِدَاءِ مَا لَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ: يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ [12 \ 84] ، يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [39 \ 56] ، يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [36 \ 52] ، وَقَوْلِهِ: يَا عَجَبًا لِهَذِهِ الْفُلَيْقَةِ، فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا الْمُتَحَمِّلِ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ مَنْ يَعْقِلُ بِالتَّعَجُّبِ مِمَّا حَلَّ بِالْمُنَادَى انْتَهَى كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ: أَنَّ أَدَاةَ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ «يَا وَيْلَتَنَا» يُنَادَى بِهَا مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا مَفْعُولُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ كَمَا ذَكَرَهُ: يَا مَنْ بِحَضْرَتِنَا انْظُرُوا هَلَكَتَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَذْفَ الْمُنَادَى مَعَ إِثْبَاتِ أَدَاةِ النِّدَاءِ، وَدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى الْمُنَادَى الْمَحْذُوفِ مَسْمُوعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: يَا شَاةَ مَا قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَىَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ يَعْنِي: يَا قَوْمُ انْظُرُوا شَاةَ قَنَصٍ، وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيٍّ عَلَى الْبِلَا ... وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ يَعْنِي: يَا هَذِهِ اسْلَمِي. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ [18 \ 49] أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ أَيْ: لَا يَتْرُكُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً أَيْ: مِنَ الْمَعَاصِي، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ الْقُبْلَةُ، وَالْكَبِيرَةُ الزِّنَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، وَلِلْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ مِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْهَا صَغَائِرُ، وَبَيَّنَ أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يَكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ الصَّغَائِرَ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الْآيَةَ [4 \ 31] ، وَيُرْوَى عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 قَالَ: ضَجُّوا مِنَ الصَّغَائِرِ قَبْلَ الْكَبَائِرِ، وَجُمْلَةُ «لَا يُغَادِرُ» حَالٌ مِنْ «الْكِتَابِ» . تَنْبِيهٌ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِمْ صَغَائِرَ ذُنُوبِهِمْ مُحْصَاةً عَلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانُوا غَيْرَ مُخَاطَبِينَ بِهَا لَمَا سُجِّلَتْ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَجِدُونَ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا حَاضِرَةً مُحْصَاةً عَلَيْهِمْ. وَأَوْضَحَ هَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [3 \ 30] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ الْآيَةَ [10 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [75 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [86 \ 9] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، فَلَا يَنْقُصُ مِنْ حَسَنَاتِ مُحْسِنٍ، وَلَا يَزِيدُ مِنْ سَيِّئَاتِ مُسِيءٍ، وَلَا يُعَاقِبُ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [10 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [41 \ 46] وَقَوْلِهِ: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [16 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [16 \ 118] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [2 \ 34] مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ آدَمَ أَمْرًا مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِهِ. وَمُحْتَمِلٌ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ تَنْجِيزًا بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ. وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» وَسُورَةِ «ص» أَنَّ أَصْلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ، قَالَ فِي «الْحِجْرِ» : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [15 \ 28 - 29] وَقَالَ فِي «ص» : إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [38 \ 71 - 72] ، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّهُ بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ جَدَّدَ لَهُمُ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ لَهُ تَنْجِيزًا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَسَجَدُوا مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونُوا سَجَدُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ سَجَدُوا كُلُّهُمْ، كَقَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [15، 73 و38] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [18 \ 50] ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ سَبَبَ فِسْقِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ كَوْنُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي «مَسْلَكِ النَّصِّ» وَفِي «مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ» : أَنَّ الْفَاءَ مِنَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: لِأَجْلِ سَرِقَتِهِ. وَسَهَا فَسَجَدَ، أَيْ: لِأَجْلِ سَهْوِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] أَيْ: لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ [18 \ 50] أَيْ: لِعِلَّةِ كَيْنُونَتِهِ مِنَ الْجِنِّ ; لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَعَصَا هُوَ ; وَلِأَجْلِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُهُمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمْ، كَالْحَلِيفِ فِي الْقَبِيلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا. وَالْخِلَافُ فِي إِبْلِيسَ هَلْ هُوَ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ مَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا، أَوْ لَيْسَ فِي الْأَصْلِ بِمَلَكٍ، وَإِنَّمَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِهِ فِيهِمْ وَتَعَبُّدُهُ مَعَهُمْ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا عَصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ إِبْلِيسُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66 \ 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [21 \ 27] ، وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [15 \ 30 - 31] ، قَالُوا: فَإِخْرَاجُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 بَعْضُهُمْ: وَالظَّوَاهِرُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ لَا الِانْقِطَاعُ، قَالُوا: وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَالَفَنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كَانَ مِنَ الْجِنِّ [18 \ 50] ; لِأَنَّ الْجِنَّ قَبِيلَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، خُلِقُوا مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقَ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى فِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ: وَسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ قَالُوا: وَمِنْ إِطْلَاقِ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [37 \ 158] ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا! وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَصَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ «إِلَّا إِبْلِيسَ» اهـ. وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: مِنْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلُ كُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا. وَأَظْهَرُ الْحُجَجِ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَلَكٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ الْآيَةَ [18 \ 50] ، وَهُوَ أَظْهَرُ شَيْءٍ فِي الْمَوْضُوعِ مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَيْ: خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَالْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ ; وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا وَهَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَلَا حَاجَةَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ «عَنْ» سَبَبِيَّةٌ، كَقَوْلِهِ: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [11 \ 53] ، أَيْ: بِسَبَبِهِ وَأَنَّ الْمَعْنَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَيْ: بِسَبَبِ أَمْرِهِ حَيْثُ لَمْ يَمْتَثِلُهُ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِبْعَادِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مِرَارًا. أَيْ: أَبْعَدُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، وَشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ لَكُمْ وَلِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ تَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ خَالِقِكُمْ جَلَّ وَعَلَا بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ وَقَالَ لِلظَّالِمِينَ ; لِأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا الْبَاطِلَ مِنَ الْحَقِّ، وَجَعَلُوا مَكَانَ وَلَايَتِهِمْ لِلَّهِ وَلَايَتَهُمْ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَشْنَعِ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَتَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الْبَدَلُ مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ. وَفَاعِلُ «بِئْسَ» ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ يُفَسِّرُهُ التَّمْيِيزُ الَّذِي هُوَ «بَدَلًا» عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيَرْفَعَانِ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ ... مُمَيَّزٌ كَنِعْمَ قَوْمًا مَعْشَرُهْ وَالْبَدَلُ: الْعِوَضُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِبَنِي آدَمَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [35 \ 6] ، وَكَذَلِكَ الْأَبَوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [20 \ 117] . وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ بَدَلًا مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقٍّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [7 \ 30] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [4 \ 76] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [7 \ 27] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [2 \ 257] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [3 \ 175] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَذُرِّيَّتَهُ [18 \ 50] ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْطَانِ ذُرِّيَّةً. فَادِّعَاءُ أَنَّهُ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُ مُنَاقِضٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ مُنَاقَضَةً صَرِيحَةً كَمَا تَرَى. وَكُلُّ مَا نَاقَضَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ! وَلَكِنْ طَرِيقَةُ وُجُودِ نَسْلِهِ هَلْ هِيَ عَنْ تَزْوِيجٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ نَصٍّ صَرِيحٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلَنِي الرَّجُلُ: هَلْ لِإِبْلِيسَ زَوْجَةٌ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ عُرْسٌ لَمْ أَشْهَدْهُ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [18 \ 50] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ ذُرِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا فَهِمَهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الذَّرِّيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الزَّوْجَةَ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ كَيْفِيَّةَ وُجُودِ النَّسْلِ مِنْهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِ نَفْسِهِ فَبَاضَ خَمْسَ بَيْضَاتٍ: قَالَ: فَهَذَا أَصْلُ ذُرِّيَّتِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهُ فِي فَخْذِهِ الْيُمْنَى ذَكَرًا، وَفِي الْيُسْرَى فَرْجًا، فَهُوَ يَنْكِحُ هَذَا بِهَذَا فَيَخْرُجُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَ بَيْضَاتٍ، يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ بَيْضَةٍ سَبْعُونَ شَيْطَانًا وَشَيْطَانَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَنَحْوَهَا لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا لِعَدَمِ اعْتِضَادِهَا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةَ. فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ ذُرِّيَّةً. أَمَّا كَيْفِيَّةُ وِلَادَةِ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْتُ: الَّذِي ثَبَتَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ الْحِمْيَرِيُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ: أَنَّهُ خَرَّجَ فِي كِتَابِهِ مُسْنَدًا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظِ، مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْطَانِ ذُرِّيَّةً مِنْ صُلْبِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيضُ وَيُفَرِّخُ، وَلَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ. هَلْ هِيَ مِنْ أُنْثَى هِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو مِنِ احْتِمَالٍ ; لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ بَاضَ وَفَرَّخَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، فَيَحْتَمِلُ مَعْنَى بَاضَ وَفَرَّخَ أَنَّهُ فَعَلَ بِهَا مَا شَاءَ مِنْ إِضْلَالٍ وَإِغْوَاءٍ وَوَسْوَسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ ; لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَا تُغَيَّرُ أَلْفَاظُهَا، وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَاءِ أَوْلَادِهِ وَوَظَائِفِهِمُ الَّتِي قَلَّدَهُمْ إِيَّاهَا ; كَقَوْلِهِ: زَلَنْبُورُ صَاحِبُ الْأَسْوَاقِ، وَتِبْرٌ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يَأْمُرُ بِضَرْبِ الْوُجُوهِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَعْوَرُ صَاحِبُ أَبْوَابِ الزِّنَا. وَمِسْوَطٌ صَاحِبُ الْأَخْبَارِ يُلْقِيهَا فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ فَلَا يَجِدُونَ لَهَا أَصْلًا. وَدَاسِمٌ هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ بَصَرَهُ مَا لَمْ يَرْفَعْ مِنَ الْمَتَاعِ وَمَا لَمْ يُحْسِنْ مَوْضِعَهُ يُثِيرُ شَرَّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ أَكَلَ مَعَهُ. وَالْوَلْهَانُ صَاحِبُ الْمَزَامِيرِ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى إِبْلِيسُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَائِهِمْ وَوَظَائِفِهِمْ كُلُّهُ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ ; إِلَّا مَا ثَبَتَ مِنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِمَّا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْيِينِ وَظِيفَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْمِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ! ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبُ. فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي. وَتَحْرِيشُ الشَّيْطَانِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَوْنُ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا، التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ ; أَيْ: مَا أَحْضَرْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَأَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى خَلْقِهَا وَلَا خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: مَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضِهِمْ فَأَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ، بَلْ تَفَرَّدْتُ بِخَلْقِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ مُعِينٍ وَلَا ظَهِيرٍ! فَكَيْفَ تَصْرِفُونَ لَهُمْ حَقِّي وَتَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَأَنَا خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ لَهُ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [31 \ 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [35 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [46 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أَيْ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ; بَلْ خَلَقْتُهُمْ عَلَى مَا أَرَدْتُ وَكَيْفَ شِئْتُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [18 \ 51] ، فِيهِ الْإِظْهَارُ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الظَّاهِرَ. وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ عَضُدًا، كَقَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ وَالنُّكْتَةُ الْبَلَاغِيَّةُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ هِيَ ذَمُّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِلَفْظِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 الْإِضْلَالِ. وَقَوْلُهُ «عَضُدًا» أَيْ: أَعْوَانًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ لَا تَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ. وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ أُشِيرَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [28 \ 17] ، وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ، وَالْمُضِلُّونَ: الَّذِينَ يُضِلُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الضَّلَالِ وَإِطْلَاقَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا. أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا: نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ مَعِي، فَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ: أَيْ: زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِي كَذِبًا وَافْتِرَاءً. أَيِ: ادْعُوهُمْ وَاسْتَغِيثُوا بِهِمْ لِيَنْصُرُوكُمْ وَيَمْنَعُوكُمْ مِنْ عَذَابِي، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، أَيْ: فَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَلَمْ يُغِيثُوهُمْ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» : وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [28 \ 62 - 64] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [35 \ 13 - 14] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 81] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [6 \ 94] ، وَالْآيَاتُ فِي تَبَرُّئِهِمْ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَخُطْبَةُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ [14 \ 22] ، مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِالظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «بَيْنَ» ، وَالثَّانِيَةُ: فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ. وَالثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْمَوْبِقِ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا أَقْوَالَهُمْ، وَمَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا الْمَوْبِقُ: فَقِيلَ: الْمُهْلِكُ. وَقِيلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقِيلَ الْمَوْعِدُ. قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا يَقُولُ: مُهْلِكًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ «مَوْبِقًا» يَقُولُ: مُهْلِكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ «مَوْبِقًا» قَالَ. وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قَالَ: هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ فِي النَّارِ، فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرٍو الْبِكَالِيِّ قَالَ: الْمَوْبِقُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: وَادٍ فِي النَّارِ، بَعِيدُ الْقَعْرِ، يُفَرِّقُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَوْبِقًا، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ يَسِيلُ نَارًا عَلَى حَافَتَيْهِ حَيَّاتٌ أَمْثَالَ الْبِغَالِ الدَّهْمِ، فَإِذَا ثَارَتْ إِلَيْهِمْ لِتَأْخُذَهُمُ اسْتَغَاثُوا بِالِاقْتِحَامِ فِي النَّارِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ أَرْبَعَةَ أَوْدِيَةٍ يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهَا أَهْلَهَا: غَلِيظٌ، وَمَوْبِقٌ، وَأَثَّامٌ، وَغَيٌّ. انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: أَنَّ الْمَوْبِقَ: الْمَوْعِدُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَجَادَ شَرَوْرَى وَالسِّتَّارُ فَلَمْ يَدَعْ ... تِعَارًا لَهُ وَالْوَادِيَيْنِ بِمَوْبِقٍ يَعْنِي: بِمَوْعِدٍ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَوْبِقَ الْمُهْلِكَ، مِنْ قَوْلِهِمْ وَبَقَ يَبِقُ، كَوَعَدَ يَعِدُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 إِذَا هَلَكَ. وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: وَبَقَ يَوْبَقُ كَوَجِلَ يَوْجَلُ، وَلُغَةٌ ثَالِثَةٌ أَيْضًا وَهِيَ: وَبَقَ يَبِقُ كَوَرِثَ يَرِثُ. وَمَعْنَى كُلِّ ذَلِكَ: الْهَلَاكُ. وَالْمَصْدَرُ مِنْ وَبَقَ بِالْفَتْحِ الْوُبُوقُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْوَبْقُ. وَمِنْ وَبَقَ بِالْكَسْرِ الْوَبَقُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَأَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ: أَهْلَكَتْهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا [42 \ 34] ، أَيْ: يُهْلِكْهُنَّ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ، «فَمُوبِقٌ نَفْسَهُ أَوْ بَائِعُهَا فَمُعْتِقُهَا» وَحَدِيثُ «السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ» أَيِ: الْمُهْلِكَاتِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... يَصُنْ عِرْضَهُ عَنْ كُلِّ شَنْعَاءَ مُوبِقِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ، إِنَّ الْمَوْبِقَ الْعَدَاوَةُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْمَجْلِسُ كِلَاهُمَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ «بَيْنَ» فَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ: أَنَّ الْمَوْبِقَ الْعَدَاوَةُ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ ; أَيْ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً ; كَقَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [43 \ 67] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [29 \ 25] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلَكِنَّ تَفْسِيرَ الْمَوْبِقِ بِالْعَدَاوَةِ بَعِيدٌ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْبَيْنِ فِي الْآيَةِ: الْوَصْلُ ; أَيْ: وَجَعَلْنَا تَوَاصُلَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِلْكًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [2 \ 166] ، أَيِ: الْمُوَاصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَكَمَا قَالَ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 82] ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [29 \ 25] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا: جَعَلْنَا الْهَلَاكَ بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُعِينٌ عَلَى هَلَاكِ الْآخَرِ لِتَعَاوُنِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْعَذَابِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [43 \ 39] ، وَقَوْلُهُ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 38] ، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا: أَيْ: بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مَوْبِقًا، أَيْ: مُهْلِكًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ، فَالدَّاخِلُ فِيهِ، فِي هَلَاكٍ، وَالْخَارِجُ عَنْهُ فِي عَافِيَةٍ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي وَأَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، أَنَّ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ مَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيُشْرِكُونَهُمْ مَعَ اللَّهِ مَوْبِقًا أَيْ: مُهْلِكًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُحِيطُ بِهِمُ الْهَلَاكُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [39 \ 16] ، وَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [7 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْآيَةَ [21 \ 98] ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كُلُّ شَيْءٍ حَاجِزٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُسَمَّى مَوْبِقًا، نَقْلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ «بَيْنَهُمْ» قِيلَ رَاجِعٌ إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ رَاجِعٌ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ مَعًا. وَقِيلَ رَاجِعٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُهَا لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [18 \ 52] ، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [18 \ 52] ، أَيْ: مُهْلِكًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [10 \ 28] ، أَيْ: فَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ يَقُولُ قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا حَمْزَةَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ «نَقُولُ» بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: يَقُولُ هُوَ أَيِ: اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَرَوْنَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا، أَيْ: مُخَالِطُوهَا وَوَاقِعُونَ فِيهَا. وَالظَّنُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ ; لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا الْحَقَائِقَ وَشَاهَدُوا الْوَاقِعَ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْوَاقِعِ ; كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12] ، وَكَقَوْلِهِ: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [50 \ 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [19 \ 38] ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الظَّنِّ عَلَى الْيَقِينِ [قَوْلُهُ] تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [2 \ 45 - 46] ، أَيْ: يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [2 \ 249] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [69 \ 19 - 20] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 فَالظَّنُّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الظَّنَّ عَلَى الْيَقِينِ وَعَلَى الشَّكِّ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْيَقِينِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ وَقَوْلُ عَمِيرَةَ بْنِ طَارِقٍ: بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدُ فِيكُمُ ... وَأَجْعَلُ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَرَوْنَ النَّارَ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا هِيَ تَرَاهُمْ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [25 \ 11 - 12] ، وَمَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الظَّنَّ جُلُّ الِاعْتِقَادِ اصْطِلَاحٌ لِلْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، الْمَصْرِفُ: الْمَعْدِلُ، أَيْ: وَلَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ مَكَانًا يَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِ وَيَعْدِلُونَ إِلَيْهِ، لِيَتَّخِذُوهُ مَلْجَأً وَمُعْتَصَمًا يَنْجُونَ فِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْرِفِ عَلَى الْمَعْدِلِ بِمَعْنَى مَكَانِ الِانْصِرَافِ لِلِاعْتِصَامِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ: أَزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةَ مِنْ مَصْرِفِ ... أَمْ لَا خُلُودَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، مِنْ رَأَى الْبَصَرِيَّةِ، فَهِيَ تَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ نَظَرًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، فَكَانَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا [18 \ 54] ، أَيْ: رَدَّدْنَا وَكَثَّرْنَا تَصْرِيفَ الْأَمْثَالِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَسَالِيبَ مُتَنَوِّعَةٍ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ. لِيَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ، وَيَتَّعِظُوا. فَعَارَضُوا بِالْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ، وَالْمَثَلُ: هُوَ الْقَوْلُ الْغَرِيبُ السَّائِرُ فِي الْآفَاقِ، وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [2 \ 26] ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الْآيَةَ [22 \ 73] ، وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [29 \ 41] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وَقَوْلُهُ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْآيَةَ [7 \ 176 - 177] ، وَكَقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الْآيَةَ [62 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [18 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [16 \ 75] ، وَقَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [16 \ 76] ، وَقَوْلِهِ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [30 \ 28] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ وَأَشْبَاهِهَا فِي الْقُرْآنِ عِبَرٌ وَمَوَاعِظُ وَزَوَاجِرُ عَظِيمَةٌ جِدًّا، لَا لَبْسَ فِي الْحَقِّ مَعَهَا، إِلَّا أَنَّهَا لَا يَعْقِلُ مَعَانِيَهَا إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، وَمِنْ حِكَمِ ضَرْبِ الْمَثَلِ: أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّاسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْأَمْثَالَ مَعَ إِيضَاحِهَا لِلْحَقِّ يَهْدِي بِهَا اللَّهُ قَوْمًا، وَيُضِلُّ بِهَا قَوْمًا آخَرِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [2 \ 26] ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ; لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [13 \ 17] ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [13 \ 18] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ هُمُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ عَقَلُوا مَعْنَى الْأَمْثَالِ، وَانْتَفَعُوا بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا أَوْضَحَتْهُ مِنَ الْحَقَائِقِ، فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [2 \ 26] ، وَالْفَرِيقُ الثَّانِي هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَقَالَ فِيهِمْ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَفْعُولُ «صَرَّفْنَا» مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: الْبَيِّنَاتُ وَالْعِبَرُ، وَعَلَى هَذَا فَـ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ مِنْ أَنْوَاعِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا، فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِالْجِدَالِ وَالْخِصَامِ، وَلِذَا قَالَ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [18 \ 45] ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مِنْ» زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا كُلَّ مَثَلٍ، فَيَكُونُ مَفْعُولُ «صَرَّفْنَا» : «كُلُّ مَثَلٍ» وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ، لَا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» مِنْ كُلِّ مَعْنًى هُوَ كَالْمَثَلِ فِي غَرَابَتِهِ وَحُسْنِهِ اهـ، وَضَابِطُ ضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلُّ مَعَانِيهِ الَّتِي يُفَسَّرُ بِهَا: هُوَ إِيضَاحُ مَعْنَى النَّظِيرِ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ ; لِأَنَّ النَّظِيرَ يُعْرَفُ بِنَظِيرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي «الْإِسْرَاءِ» : وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [17 \ 89] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [17 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [20 \ 113] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [39 \ 27 - 28] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ [30 \ 58] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [18 \ 54] أَيْ: أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الْخُصُومَةُ إِنْ فَصَلْتَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ «جَدَلًا» أَيْ: خُصُومَةً وَمُمَارَاةً بِالْبَاطِلِ لِقَصْدِ إِدْحَاضِ الْحَقِّ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خُصُومَةِ الْإِنْسَانِ بِالْبَاطِلِ لِإِدْحَاضِ الْحَقِّ قَوْلُهُ هُنَا وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [18 \ 56] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [42 \ 16] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [36 \ 77] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ كَثْرَةُ خُصُومَةِ الْكُفَّارِ وَمُمَارَاتِهِمْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ هُوَ السِّيَاقُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [17 \ 89] ، أَيْ: لِيَذَّكَّرُوا وَيَتَّعِظُوا وَيُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [17 \ 41] وَقَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [59 \ 21] ، فَلَمَّا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [18 \ 54] ، عَلِمْنَا مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُوا الْجَدَلَ وَالْخُصُومَةَ وَالْمِرَاءَ لِإِدْحَاضِ الْحَقِّ الَّذِي أَوْضَحَهُ اللَّهُ بِمَا ضَرَبَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَلَكِنْ كَوْنُ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِظَاهِرِ عُمُومِهَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا بَيَّنَاهُ بِأَدِلَّتِهِ فِيمَا مَضَى، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمَّا طَرَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْلَةً فَقَالَ: «أَلَّا تُصَلِّيَانِ» ؟ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا وَهُوَ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِيرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا» دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَشُمُولِهَا لِكُلِّ خِصَامٍ وَجَدَلٍ، لَكِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْجَدَلِ مَا هُوَ مَحْمُودٌ مَأْمُورٌ بِهِ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [29 \ 46] ، وَقَوْلُهُ «جَدَلًا» مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا ... مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًا وَقَوْلُهُ: أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أَيْ: أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجَدَلُ جَدَلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ جُرِّدَتْ مِنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَزِمَ إِفْرَادُهَا وَتَذْكِيرُهَا كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 وَإِنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا ... أَلْزِمْ تَذْكِيرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُبَيِّنًا بَعْضَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ بِجَدَلِ الْإِنْسَانِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ سَنَدَهُ إِلَى ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، قَالَ: الْجَدَلُ الْخُصُومَةُ خُصُومَةُ الْقَوْمِ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَرَدُّهُمْ عَلَيْهِمْ مَا جَاءُوا بِهِ، وَقَرَأَ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [23 \ 33] ، وَقَرَأَ: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [23 \ 24] ، وَقَرَأَ حَتَّى تَوَفَّى الْآيَةَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [6 \ 7] ، وَقَرَأَ: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [15 \ 14] انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِجَدَلِ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا كَذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ وَسَبَبُ النُّزُولِ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكِلَاهُمَا تَدُلُّ عَلَى مُقْتَضَاهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَظْهَرُ عِنْدِي مِنَ الْآخَرِ. الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ، إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِنَا: مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُبُلًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] وَقَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 101] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [16 \ 37] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [5 \ 41] ، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى طَلَبِهِمُ الْهَلَاكَ وَالْعَذَابَ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [26 \ 187] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ هُودٍ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [46 \ 22] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 77] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [29 \ 29] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [11 \ 32] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ جَمِيعَهُمْ بِعَذَابٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَإِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَقَوْمِ صَالِحٍ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَوْمِ هُودٍ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَقَوْمِ لُوطٍ بِجَعْلِ عَالِي قُرَاهُمْ سَافِلَهَا، وَإِرْسَالِ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ كُفَّارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ سَأَلُوا الْعَذَابَ كَمَا سَأَلَهُ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [8 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [38 \ 16] ، وَأَصْلُ الْقِطِّ: كِتَابُ الْمَلِكِ الَّذِي فِيهِ الْجَائِزَةُ، وَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى النَّصِيبِ: فَمَعْنَى عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا أَيْ: نَصِيبَنَا الْمُقَدَّرَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي تَزْعُمُ وُقُوعَهُ بِنَا إِنْ لَمْ نُصَدِّقْكَ وَنُؤْمِنْ بِكَ، كَالنَّصِيبِ الَّذِي يُقَدِّرُهُ الْمَلِكُ فِي الْقِطِّ الَّذِي هُوَ كِتَابُ الْجَائِزَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ ... بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفَقُ وَقَوْلِهِ «يَأْفَقُ» أَيْ: يُفَضِّلُ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطَاءِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ مَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ أَوْلَى مِمَّا فِيهِ تَقْدِيرٌ إِلَّا بِحُجَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 الرُّجُوعِ إِلَيْهَا تُثْبِتُ الْمَحْذُوفَ الْمُقَدَّرَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الْآيَةَ [18 \ 55] ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] ، بِمَا حَاصِلُهُ بِاخْتِصَارٍ: أَنَّ الْمَانِعَ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» مَانِعٌ عَادِيٌّ يَجُوزُ تَخَلُّفُهُ ; لِأَنَّ اسْتِغْرَابَهُمْ بَعْثَ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ مَانِعٌ عَادِيٌّ يَجُوزُ تَخَلُّفُهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَسْتَغْرِبَ الْكَافِرُ بَعْثَ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ ثُمَّ يُؤْمِنَ بِهِ مَعَ ذَلِكَ الِاسْتِغْرَابِ، فَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] ، حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْعَادِيِّ، وَأَمَّا الْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [18 \ 55] ، فَهُوَ حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ ; لِأَنَّ إِرَادَتَهُ جَلَّ وَعَلَا عَدَمُ إِيمَانِهِمْ، وَحُكْمُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَقَضَاءُهُ بِهِ مَانِعٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ وُقُوعِ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا، قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ: وَهُمْ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قُبُلًا» بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، وَقَرَأَهُ الْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: وَهُمْ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ «قِبَلًا» بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ فَقَوْلُهُ «قُبُلًا» بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَبِيلٍ، وَالْفَعِيلُ إِذَا كَانَ اسْمًا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ كَسَرِيرٍ وَسُرُرٍ، وَطَرِيقٍ وَطُرُقٍ، وَحَصِيرٍ وَحُصُرٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَفِعْلٌ لِاسْمٍ رُبَاعِيٍّ بِمَدْ ... قَدْ زِيدَ قَبْلَ لَامِ إِعْلَالًا فَقَدْ مَا لَمْ يُضَاعَفْ فِي الْأَعَمِّ ذُو الْأَلِفْ.، إِلَخْ. وَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا أَيْ: أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَءُوا «قِبَلًا» كَعِنَبٍ، فَمَعْنَاهُ عِيَانًا، أَيْ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ عِيَانًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ «قُبُلًا» أَيْ: فَجْأَةً، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَاهَا عِيَانًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ ; لِأَنَّ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُعَايِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا عِيَانًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَانْتِصَابُ «قُبُلًا» عَلَى الْحَالِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ، وَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي مَعْنَى «قُبُلًا» إِنْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى عِيَانًا، فَهُوَ مَصْدَرُ مُنَكَّرٌ حَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا، وَعَلَى أَنَّهُ جَمْعُ قَبِيلٍ: فَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 مُؤَوَّلٌ بِمُشْتَقٍّ ; لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَنْوَاعًا وَضُرُوبًا مُخْتَلِفَةً، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُؤْمِنُوا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ «مَنَعَ» الثَّانِي، وَالْمُنْسَبِكُ فِي «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ ; لِأَنَّهُ فَاعِلُ «مَنَعَ» لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُفْرَغٌ، وَمَا قَبْلَ «إِلَّا» عَامِلٌ فِيمَا بَعْدَهَا، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: مَنَعَ النَّاسَ الْإِيمَانَ إِتْيَانُ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنْ يُفَرَّغْ سَابِقُ إِلَّا لِمَا ... بَعْدُ يَكُنْ كَمَا لَوْ إِلَّا عُدِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ هُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَاتَ، وَالْعَزْمِ الْمُصَمِّمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَا يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالنَّارِ، وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [6 \ 48] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْبِشَارَةِ وَالْإِنْذَارِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ الْآيَةَ [18 \ 2] ، وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ «مُبَشِّرِينَ» عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَا نُرْسِلُهُمْ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: يُخَاصِمُونَ الرُّسُلَ بِالْبَاطِلِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ: سَاحِرٌ، شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سِحْرٌ، شِعْرٌ، كِهَانَةٌ، وَكَسُؤَالِهِمْ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَسُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، لِيُبْطِلُوا الْحَقَّ بِجِدَالِهِمْ وَخِصَامِهِمْ بِالْبَاطِلِ، فَالْجِدَالُ: الْمُخَاصَمَةُ، وَمَفْعُولُ «يُجَادِلُ» مَحْذُوفٌ دَلَّ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُهُمُ الْكُفَّارُ بِالْبَاطِلِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ الْمَذْكُورُونَ آنِفًا، وَحَذْفُ الْفَضْلَةِ إِذَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهَا جَائِزٌ، وَوَاقِعٌ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَحَذْفُ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضُرْ ... كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 وَالْبَاطِلُ: ضِدُّ الْحَقِّ وَكُلُّ شَيْءٍ زَائِلٌ مُضْمَحِلٌّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ: بَاطِلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ وَيُجْمَعُ الْبَاطِلُ كَثِيرًا عَلَى أَبَاطِيلَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: وَحَائِدٌ عَنِ الْقِيَاسِ كُلُّ مَا خَالَفَ ... فِي الْبَابَيْنِ حُكْمًا رَسْمَا وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ... وَمَا مَوَاعِيدُهُ إِلَّا الْأَبَاطِيلُ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى الْبَوَاطِلِ قِيَاسًا، وَالْحَقُّ: ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ثَابِتٌ غَيْرُ زَائِلٍ وَلَا مُضْمَحِلٍّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ حَقًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [18 \ 56] ، أَيْ: لِيُبْطِلُوهُ وَيُزِيلُوهُ بِهِ وَأَصْلُهُ مِنْ إِدْحَاضِ الْقَدَمِ، وَهُوَ إِزْلَاقُهَا وَإِزَالَتُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ، دَحَضَتْ رِجْلُهُ: إِذَا زَلِقَتْ، وَأَدْحَضَهَا اللَّهُ أَزْلَقَهَا، وَدَحَضَتْ حُجَّتُهُ إِذَا بَطَلَتْ، وَأَدْحَضَهَا اللَّهُ أَبْطَلَهَا، وَالْمَكَانُ الدَّحْضُ: هُوَ الَّذِي تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ؟ وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ: أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ مُجَادَلَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُرْسَلِ بِالْبَاطِلِ أُوَضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [42 \ 16] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [9 \ 32] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [61 \ 8] ، وَإِرَادَتُهُمْ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، إِنَّمَا هِيَ بِخِصَامِهِمْ وَجِدَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّ مَا أَرَادَهُ الْكُفَّارُ مِنْ إِدْحَاضِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ لَا يَكُونُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا أَرَادُوا، بَلِ الَّذِي سَيَكُونُ هُوَ عَكْسُ مَا أَرَادُوهُ فَيُحِقُّ [الْحَقَّ] وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [61 \ 9] ، وَكَقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [9 \ 33] ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [9 \ 32] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [21 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [17 \ 81] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [13 \ 17] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ سَيَظْهَرُ وَيَعْلُو، وَأَنَّ الْبَاطِلَ سَيَضْمَحِلُّ وَيَزْهَقُ وَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَذَلِكَ هُوَ نَقِيضُ مَا كَانَ يُرِيدُهُ الْكُفَّارُ مِنْ إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِدْحَاضِهِ بِالْبَاطِلِ عَنْ طَرِيقِ الْخِصَامِ وَالْجِدَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّخَذُوا آيَاتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ، وَإِنْذَارِهِ لَهُمْ هُزُؤًا، أَيْ: سُخْرِيَةً وَاسْتِخْفَافًا، وَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: اتَّخَذُوهَا مَهْزُوءًا بِهَا مُسْتَخَفًّا بِهَا: كَقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [25 \ 30] . وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا [45 \ 9] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [36 \ 30] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [6 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ الْآيَةَ [9 \ 65 - 66] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ «مَا أُنْذِرُوا» مَصْدَرِيَّةٌ، كَمَا قَرَّرْنَا، وَعَلَيْهِ فَلَا ضَمِيرَ مَحْذُوفٌ، وَقِيلَ هِيَ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدٌ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: «وَمَا أُنْذِرُوا بِهِ هُزُوًا» ، وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَجْرُورِ بِحَرْفٍ إِنَّمَا يَطَّرِدُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ الَّذِي جُرَّ بِمَا الْمَوْصُولِ جَرْ ... كَمَرَّ بِالَّذِي مَرَرْتُ فَهْوَ بَرْ وَفِي قَوْلِهِ «هُزُوًا» ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّةٌ قَرَأَهُ حَمْزَةُ بِإِسْكَانِ الزَّايِ فِي الْوَصْلِ، وَبَقِيَّةُ السَّبْعَةِ بِضَمِّ الزَّايِ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، إِلَّا حَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ فَإِنَّهُ يُبْدِلُ الْهَمْزَةَ وَاوًا، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ حَمْزَةَ فِي الْوَقْفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، ذَكَرَ جَلَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ، أَيْ: أَكْثَرُ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ مِمَّنْ ذُكِّرَ، أَيْ: وُعِظَ بِآيَاتِ رَبِّهِ، وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [18 \ 57] ، أَيْ: تَوَلَّى وَصَدَّ عَنْهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لِقَرِينَةِ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيِ: الْقُرْآنَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْآيَاتِ، وَيُحْتَمَلُ شُمُولُ الْآيَاتِ لِلْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ: مَا ذُكِّرَ مِنَ الْآيَاتِ، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [2 \ 68] ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى: إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلْ أَيْ : كِلَا ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [18 \ 57] ، أَيْ: مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَهُ بَلْ هُوَ مُحْصِيهِ عَلَيْهِ وَمُجَازِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [58 \ 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [19 \ 64] ، وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20 \ 52] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَيْ: تَرَكَهُ عَمْدًا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَبِهِ صَدَّرَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ التَّذْكِرَةِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، قَدْ زَادَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَيَانَ أَشْيَاءَ مِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ، وَالْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِرَةِ، فَمِنْ نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ: مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ صَاحِبَهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ظُلْمًا، وَمِنْ نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ جَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ حَتَّى لَا تَفْقَهَ الْحَقَّ، وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ أَبَدًا كَمَا قَالَ هُنَا مُبَيِّنًا بَعْضَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [18 \ 57] ، وَمِنْهَا انْتِقَامُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنَ الْمُعْرِضِ عَنِ التَّذْكِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [32 \ 22] ، وَمِنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 كَوْنُ الْمُعْرِضِ كَالْحِمَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ الْآيَةَ [74 \ 49 - 50] ، وَمِنْهَا الْإِنْذَارُ بِصَاعِقَةٍ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ الْآيَةَ [41 \ 13] ، وَمِنْهَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ وَالْعَمَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [20 \ 124] ، وَمِنْهَا سَلْكُهُ الْعَذَابَ الصَّعَدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [72 \ 17] ، وَمِنْهَا تَقْيِيضُ الْقُرَنَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [43 \ 36] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ، وَالْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُتَوَلِّي عَنْ ذِكْرِهِ، الْقَاصِرِ نَظَرُهُ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْلَغَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي مَعَادِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [53 \ 29 - 30] ، وَقَدْ نَهَى جَلَّ وَعَلَا عَنْ طَاعَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْمُتَوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ الْغَافِلِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [18 \ 28] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَيْ: مَا قَدَّمَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ، وَنِسْبَةُ التَّقْدِيمِ إِلَى خُصُوصِ الْيَدِ ; لِأَنَّ الْيَدَ أَكْثَرُ مُزَاوَلَةً لِلْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، فَنُسِبَتِ الْأَعْمَالُ إِلَيْهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي قَدَّمَهَا مِنْهَا مَا لَيْسَ بِالْيَدِ كَالْكُفْرِ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تُزَاوَلُ بِالْيَدِ كَالزِّنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الْآيَةَ [18 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [11 \ 18] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَشْهُرُ أَوْجُهِ الْجَمْعِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ فَعَلَ كَذَا، لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِذًا فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الظُّلْمِ لَا يَفُوقُ بَعْضُهُمْ فِيهِ بَعْضًا، فَلَا إِشْكَالَ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ، وَالثَّانِي أَنَّ صِلَةَ الْمَوْصُولِ تُعَيِّنُ كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَحَلِّهِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [18 \ 57] ، لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ فَأَعْرَضَ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [11 \ 18] لَا أَحَدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَهَكَذَا الْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِ الظَّالِمِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَكِنَّةً، أَيْ: أَغْطِيَةً تُغَطِّي قُلُوبَهُمْ فَتَمْنَعُهَا مِنْ إِدْرَاكِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَوَاحِدُ الْأَكِنَّةِ كِنَانٌ، وَهُوَ الْغِطَاءُ، وَأَنَّهُ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، أَيْ: ثِقَلًا يَمْنَعُهَا مِنْ سَمَاعِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [2 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً الْآيَةَ [45 \ 23] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [17 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [47 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [11 \ 20] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَكِنَّةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْفَهْمِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَالْوَقْرَ الَّذِي هُوَ الثِّقَلُ الْمَانِعُ مِنَ السَّمْعِ فِي آذَانِهِمْ فَهُمْ مَجْبُورُونَ، فَمَا وَجْهُ تَعْذِيبِهِمْ عَلَى شَيْءٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعُدُولَ عَنْهُ وَالِانْصِرَافَ إِلَى غَيْرِهِ؟ ! فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: أَنَّ تِلْكَ الْمَوَانِعَ الَّتِي يَجْعَلُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، كَالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ وَالْغِشَاوَةِ وَالْأَكِنَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنَّمَا جَعَلَهَا عَلَيْهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا بَادَرُوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِاخْتِيَارِهِمْ، فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِالطَّبْعِ وَالْأَكِنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] ، أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُفْرَهُمُ السَّابِقَ هُوَ سَبَبُ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 وَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ إِزَاغَةِ اللَّهِ قُلُوبَهُمْ هُوَ زَيْغُهُمُ السَّابِقُ، وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [63 \ 3] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [2 \ 10] ، وَقَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [6 \ 110] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [83 \ 14] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى الْقُلُوبِ وَمَنْعَهَا مِنْ فَهْمِ مَا يَنْفَعُ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ وَجْهُ رَدِّ شُبْهَةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّتِي يَتَمَسَّكُونَ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ سُؤَالٍ يَظْهَرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِيمَا قَرَّرْنَا: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ بَيَّنْتُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ جَعْلَ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ عِنْدَ التَّذْكِيرِ بِهَا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَكْسَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْإِعْرَاضَ الْمَذْكُورَ سَبَبُهُ هُوَ جَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ ; لِأَنَّ «إِنَّ» مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، كَقَوْلِكَ: اقْطَعْهُ إِنَّهُ سَارِقٌ، وَعَاقِبْهُ إِنَّهُ ظَالِمٌ، فَالْمَعْنَى: اقْطَعْهُ لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ، وَعَاقِبْهُ لِعِلَّةِ ظُلْمِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [18 \ 57] ، أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهَا لِعِلَّةِ جَعْلِ الْأَكِنَّةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ ; لِأَنَّ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الطَّبْعَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ تَارَةً بِالطَّبْعِ، وَتَارَةً بِالْخَتْمِ، وَتَارَةً بِالْأَكِنَّةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْأَوَّلُ الْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْكُفْرُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ، الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: مَا مُفَسِّرُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ الْآيَاتُ فِي قَوْلِهِ: ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ [18 \ 57] ، بِتَضْمِينِ الْآيَاتِ مَعْنَى الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيِ: الْقُرْآنُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا. السُّؤَالُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: ذُكِّرَ، وَقَوْلِهِ: أَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَوْلِهِ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، مَعَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، مَعَ أَنَّ مُفَسِّرَ جَمِيعِ الضَّمَائِرِ الْمَذْكُورَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الْآيَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وَالْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ الْإِفْرَادَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ «مَنْ» ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ جَوَازُ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ تَارَةً، وَمُرَاعَاةِ الْمَعْنَى تَارَةً أُخْرَى مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُرَاعَاةَ اللَّفْظِ بَعْدَ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى لَا تَصِحُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [65 \ 11] ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَاعَى لَفْظَ «مَنْ» أَوَّلًا فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنْ، وَقَوْلِهِ «وَيَعْمَلْ» ، وَقَوْلِهِ «يُدْخِلْهُ» وَرَاعَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فَأَتَى فِيهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، ثُمَّ رَاعَى اللَّفْظَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، فِيهِ وَفِي كُلِّ مَا يُشَابِهُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، وَعَلَيْهِ فَلَا النَّافِيَةُ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُنَا اقْتَصَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي كُلِّهَا الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [4 \ 176] ، أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَقَوْلِهِ: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [49 \ 6] ، أَيْ: لِئَلَّا تُصِيبُوا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيْ: يَفْهَمُوهُ، فَالْفِقْهُ: الْفَهْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [4 \ 78] ، أَيْ: يَفْهَمُونَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [11 \ 91] ، أَيْ: مَا نَفْهَمُهُ، وَالْوَقْرُ: الثِّقَلُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْوَقْرُ بِالْفَتْحِ، الثِّقَلُ فِي الْأُذُنِ، وَالْوِقْرُ بِالْكَسْرِ: الْحِمْلُ، يُقَالُ جَاءَ يَحْمِلُ وِقْرَهُ، وَأَوْقَرَ بِعِيرَهُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْوِقْرُ فِي حِمْلِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ اهـ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، قَالَ فِي ثِقَلِ الْأُذُنِ: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [6 \ 25] ، وَقَالَ فِي الْحِمْلِ: فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا [51 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً تَمْنَعُهُمْ أَنْ يَفْقَهُوا مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا لَا يَهْتَدُونَ أَبَدًا، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِمْ دُعَاؤُكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 لَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ مَنْ أَشْقَاهُمُ اللَّهُ لَا يَنْفَعُ فِيهِمُ التَّذْكِيرُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [26 \ 200] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 101] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [10 \ 100] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [16 \ 37] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ فِيهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ مَا دَامُوا مُتَلَبِّسِينَ بِالْكُفْرِ، فَإِنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَأَنَابُوا زَالَ ذَلِكَ الْمَانِعُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ يَهْتَدُوا [18 \ 57] ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي بَعْدَ «لَنْ» لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِـ «إِنْ» وَنَحْوِهَا، وَالْجَزَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِـ «إِنْ» وَنَحْوِهَا لَزِمَ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ، كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَاقْرِنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جُعِلْ ... شَرْطًا لِإِنْ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَنْجَعِلْ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «إِذًا» جَزَاءٌ وَجَوَابٌ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ اهْتِدَائِهِمْ لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلِاهْتِدَاءِ سَبَبًا لِانْتِفَائِهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذَا دَعَوْتَهُمْ، ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ غَلِطَا فِيهِ، وَغَلِطَ فِيهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ هُنَا وَأَبَا حَيَّانَ ظَنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ كَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِ ; وَلِذَا ظَنَّا أَنَّ الْجَزَاءَ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: فَلَنْ يَهْتَدُوا مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى، الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ «إِذًا» فَصَارَ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ سَبَبَ انْتِفَاءِ اهْتِدَائِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْسَتْ شَرْطِيَّةً لُزُومِيَّةً، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَزَائِهَا ارْتِبَاطٌ، بَلْ هِيَ شَرْطِيَّةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَالشَّرْطِيَّةُ الِاتِّفَاقِيَّةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 لَا ارْتِبَاطَ أَصْلًا بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا سَبَبًا فِي الْآخَرِ، وَلَا مَلْزُومًا لَهُ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْفَرَسُ صَاهِلٌ فَلَا رَبْطَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الِاتِّفَاقِيَّةِ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، كَقَوْلِكَ: لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ ; لِأَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ الْعِصْيَانِ لَيْسَ هُوَ عَدَمُ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَهُوَ تَعْظِيمُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَمَحَبَّتُهُ الْمَانِعَةُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا، سَبَبُهُ الْحَقِيقِيُّ غَيْرُ مَذْكُورٍ مَعَهُ فَلَيْسَ هُوَ قَوْلُهُ «وَإِنْ تَدْعُهُمْ» كَمَا ظَنَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا، بَلْ سَبَبُهُ هُوَ إِرَادَةُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا انْتِفَاءَ اهْتِدَائِهِمْ عَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَزَلًا. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي عَدَمِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الشَّرْطِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [3 \ 154] ; لِأَنَّ سَبَبَ بُرُوزِهِمْ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ أَنَّ بُرُوزَهُمْ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ وَاقِعٌ، وَلَيْسَ سَبَبُهُ كَيْنُونَتُهُمْ فِي بُيُوتِهِمُ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ [18 \ 109] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ فِي أُرْجُوزَتِي فِي الْمَنْطِقِ وَشَرْحِي لَهَا فِي قَوْلِي: مُقَدِّمُ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَهْ مَهْمَا تَكُنْ ... صُحْبَةُ ذَاكَ التَّالِ لَهْ لِمُوجَبٍ قَدِ اقْتَضَاهَا كَسَبَبْ ... فَهْيَ اللُّزُومِيَّةُ ثُمَّ إِنْ ذَهَبْ مُوجَبُ الِاصْطِحَابِ ذَا ... بَيْنَهُمَا فَالِاتِّفَاقِيَّةُ عِنْدَ الْعُلَمَا وَمِثَالُ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ اللُّزُومِيَّةِ قَوْلُكَ: كُلَّمَا كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا ، لِظُهُورِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ حُصُولُ مُطْلَقِ اللَّازِمِيَّةِ دُونَ التَّلَازُمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، كَقَوْلِكَ: كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ إِنْسَانًا كَانَ حَيَوَانًا، إِذْ لَا يَصْدُقُ عَكْسُهُ. فَلَوْ قُلْتَ: كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ حَيَوَانًا كَانَ إِنْسَانًا لَمْ يَصْدُقْ ; لِأَنَّ اللُّزُومَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَا يَقْتَضِي الْمُلَازَمَةَ فِي كِلَيْهِمَا، وَمُطْلَقُ اللُّزُومِ تَكُونُ بِهِ الشَّرْطِيَّةُ لُزُومِيَّةً، أَمَّا إِذَا عُدِمَ اللُّزُومُ مِنْ أَصْلِهِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فَهِيَ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَمِثَالُهَا: كَلِمَةُ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا كَانَ الْحِمَارُ نَاهِقًا، وَبِسَبَبِ عَدَمِ التَّنَبُّهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ، وَالشَّرْطِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ ارْتَبَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالْبَلَاغِيِّينَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى «لَوْ» لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الْمَعْنَى بَيْنَ قَوْلِكَ: لَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً لَكَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ سَبَبٌ فِي الْجَزَاءِ فِي الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ لُزُومِيَّةٌ، وَلَا رَبْطَ بَيْنَهُمَا فِي الثَّانِي لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِينَ ارْتَبَكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ غَفُورٌ، أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ، وَأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ يَرْحَمُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَرْحَمُ الْخَلَائِقَ فِي الدُّنْيَا. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَّا الشِّرْكَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4 \ 48] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [5 \ 72] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ رَحْمَتَهُ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّهُ سَيَكْتُبُهَا لِلْمُتَّقِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [7 \ 156] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ سِعَةَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ: كَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [53 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [39 \ 53] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَعَ سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ شَدِيدُ الْعِقَابِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [13 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [40 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [15 \ 49 - 50] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَوْ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ لِشَنَاعَةِ مَا يَرْتَكِبُونَهُ، وَلَكِنَّهُ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ، فَهُوَ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [16 \ 61] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [35 \ 45] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الْحَالِ فَلَيْسَ غَافِلًا عَنْهُمْ وَلَا تَارِكًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 عَذَابَهُمْ، بَلْ هُوَ تَعَالَى جَاعِلٌ لَهُمْ مَوْعِدًا يُعَذِّبُهُمْ فِيهِ، لَا يَتَأَخَّرُ الْعَذَابُ عَنْهُ وَلَا يَتَقَدَّمُ. وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [16 \ 61] ، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ «فَاطِرٍ» : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [35 \ 45] ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [14 \ 42] ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [29 \ 53] . وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ وَلَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [63 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [7 \ 34] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ الْآيَةَ [71 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [13 \ 38] ، وَقَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [6 \ 67] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [18 \ 57] ، أَيْ: مَلْجَأً يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ فَيَعْتَصِمُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمَجْعُولِ لَهُ الْمَوْعِدُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ، مِنْ وَأَلَ يَئِلُ وَأْلًا وَوُءُولًا بِمَعْنَى لَجَأَ، وَمَعْلُومٌ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ وَاوِيَّ الْفَاءِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ يَنْقَاسُ مَصْدَرُهُ الْمِيمِيُّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ عَلَى الْمَفْعِلِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَمَا هُنَا، مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَلَّ اللَّامِ فَالْقِيَاسُ فِيهِ الْفَتْحُ كَالْمَوْلَى، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا وَأَلَتْ نَفْسُهُ، أَيْ: لَا وَجَدَتْ مَنْجًى تَنْجُو بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا وَأَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَهَا ... لِلْعَامِرِيَّيْنِ وَلَمْ تُكْلَمِ وَقَالَ الْأَعْشَى: وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ ... وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثُمَّ مَا يَئِلُ أَيْ مَا يَنْجُو. وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي «الْمَوْئِلِ» رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: مَوْئِلًا مَحِيصًا، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ مَنْجًى، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ مُحْرِزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّهُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْقُرَى الْمَاضِيَةَ لَمَّا ظَلَمَتْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَهَذَا الْإِجْمَالُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْقُرَى وَأَسْبَابِ هَلَاكِهَا، وَأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ الَّتِي وَقَعَتْ بِهَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى، كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُ تَفَاصِيلِهِ، وَالْقُرَى: جَمْعُ قَرْيَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ; لِأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى «فُعَلٍ» بِضَمٍّ فَفَتْحٍ لَا يَنْقَاسُ إِلَّا فِي جَمْعِ «فُعْلَةٍ» بِالضَّمِّ اسْمًا كَغُرْفَةٍ وَقِرْبَةٍ، أَوْ «فُعْلَى» إِذَا كَانَتْ أُنْثَى الْأَفْعَلِ خَاصَّةً، كَالْكُبْرَى وَالْكُبَرِ، كَمَا أَشَارَ لِذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَفُعَلٌ جَمْعًا لِفِعْلَةٍ عُرِفْ وَنَحْوُ كُبْرَى. . . إِلَخْ أَيْ: وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَسَمَاعٌ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي التَّسْهِيلِ نَوْعًا ثَالِثًا يَنْقَاسُ فِيهِ «فُعَلٌ» بِضَمٍّ فَفَتَحَ، وَهُوَ الْفُعُلَةُ بِضَمَّتَيْنِ إِنْ كَانَ اسْمًا كَجُمُعَةٍ وَجُمَعٍ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْقُرَى [18 \ 59] ، إِنَّمَا أُشِيرُ بِهِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137 - 138] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 76] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [15 \ 79] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ «وَتِلْكَ» مُبْتَدَأٌ وَ «الْقُرَى» صِفَةٌ لَهُ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَوْلُهُ: «أَهْلَكْنَاهُمْ» هُوَ الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ «الْقُرَى» وَجُمْلَةُ «أَهْلَكْنَاهُمْ» فِي مَحَلِّ حَالٍ، كَقَوْلِهِ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [27 \ 52] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «وَتِلْكَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الْعَامِلُ الْمُشْتَغِلُ بِالضَّمِيرِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: إِنْ مُضْمَرُ اسْمٍ سَابِقٍ فِعْلًا شَغَلْ ... عَنْهُ بِنَصْبِ لَفْظِهِ أَوِ الْمَحَلْ فَالسَّابِقَ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا ... حَتْمًا مُوَافِقٌ لِمَا قَدْ أُظْهِرَا وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [18 \ 59] ، قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا عَاصِمًا بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، أَيْ: جَعَلْنَا لِإِهْلَاكِهِمْ مَوْعِدًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ، أَيْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وَجَعَلْنَا لِوَقْتِ إِهْلَاكِهِمْ مَوْعِدًا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ زَادَ مَاضِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ مُطْلَقًا فَالْقِيَاسُ فِي مَصْدَرِهِ الْمِيمِيِّ وَاسْمِ مَكَانِهِ وَاسْمِ زَمَانِهِ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُهْلِكُ بِضَمِّ الْمِيمِ مَنْ أَهْلَكَهُ الرُّبَاعِيُّ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «لِمَهْلِكِهِمْ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «لِمَهْلَكِهِمْ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ مَعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ اسْمُ زَمَانٍ، أَيْ: وَجَعَلْنَا لِوَقْتِ هَلَاكِهِمْ مَوْعِدًا ; لِأَنَّهُ مِنْ هَلَكَ يَهْلِكُ بِالْكَسْرِ، وَمَا كَانَ مَاضِيهِ عَلَى «فَعَلَ» بِالْفَتْحِ وَمُضَارِعُهُ «يَفْعِلُ» بِالْكَسْرِ كَهَلَكَ يَهْلِكُ، وَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَنَزَلَ يَنْزِلُ فَالْقِيَاسُ فِي اسْمِ مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ «الْمَفْعِلُ» بِالْكَسْرِ، وَفِي مَصْدَرِهِ الْمِيمِيِّ الْمَفْعَلُ بِالْفَتْحِ، تَقُولُ هَذَا مَنْزِلُهُ بِالْكَسْرِ أَيْ: مَكَانُ نُزُولِهِ أَوْ وَقْتُ نُزُولِهِ، وَهَذَا «مَنْزَلُهُ» بِفَتْحِ الزَّايِ، أَيْ: نُزُولُهُ، وَهَكَذَا، مِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَإِنْ ذَكَّرَتْكَ الدَّارُ مَنْزَلَهَا جُمْلُ ... بَكَيْتَ فَدَمْعُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ سَجْلُ فَقَوْلُهُ: «مَنْزَلَهَا جُمْلُ» بِالْفَتْحِ، أَيْ: نُزُولٌ جُمْلُ إِيَّاهَا وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ شُعْبَةَ «لِمَهْلَكِهِمْ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: وَجَعَلْنَا لِهَلَاكِهِمْ مَوْعِدًا، وَالْمَوْعِدُ: الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِ. تَنْبِيهٌ لَفْظَةُ «لَمَّا» تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: لَمَّا النَّافِيَةُ الْجَازِمَةُ لِلْمُضَارِعِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [2 \ 214] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ الْآيَةَ [3 \ 142] ، وَهَذِهِ حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُضَارِعِ، وَالْفَوَارِقُ الْمَعْنَوِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَمِ النَّافِيَةِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِمَّنْ أَوْضَحَهَا ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَرْفَ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى إِلَّا، فَتَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [86 \ 4] ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ شَدَّدَ «لَمَّا» أَيْ: مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ لَمَّا فَعَلْتَ ; أَيْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: قَالَتْ لَهُ بِاللَّهِ يَا ذَا الْبُرْدَيْنِ ... لَمَّا غَنِثْتَ نَفَسًا أَوْ نَفَسَيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 فَقَوْلُهَا «غَنِثْتَ» بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَنُونٍ مَكْسُورَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مُسْنَدًا لِتَاءِ الْمُخَاطَبِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا «غَنِثْتَ» تَنَفَّسْتَ فِي الشُّرْبِ، كَنَتَ بِذَلِكَ عَنِ الْجِمَاعِ، تُرِيدُ عَدَمَ مُتَابَعَتِهِ لِذَلِكَ، وَأَنْ يَتَنَفَّسَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ حَرْفٌ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّهُ لُغَةُ هُذَيْلٍ. الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ «لَمَّا» هُوَ النَّوْعُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَاضِي الْمُقْتَضِي جُمْلَتَيْنِ، تُوجَدُ ثَانِيَتُهُمَا عِنْدَ وُجُودِ أُولَاهُمَا، كَقَوْلِهِ: لَمَّا ظَلَمُوا، أَيْ: لَمَّا ظَلَمُوا أَهْلَكْنَاهُمْ، فَمَا قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، «وَلَمَّا» هَذِهِ الَّتِي تَقْتَضِي رَبْطَ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ: هَلْ هِيَ حِرَفٌ، أَوِ اسْمٌ، وَخِلَافُهُمْ فِيهَا مَشْهُورٌ، وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِأَنَّهَا حَرْفٌ ابْنُ خَرُوفٍ وَغَيْرُهُ، وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِأَنَّهَا اسْمٌ ابْنُ السَّرَّاجِ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّيٍّ وَغَيْرُهُمْ، وَجَوَابُ «لَمَّا» هَذِهِ يَكُونُ فِعْلًا مَاضِيًا بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ الْآيَةَ [17 \ 67] ، وَيَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مَقْرُونَةً بِـ «إِذَا» الْفُجَائِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65] ، أَوْ مَقْرُونَةً بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الْآيَةَ [31 \ 32] ، وَيَكُونُ جَوَابُهَا فِعْلًا مُضَارِعًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ الْآيَةَ [11 \ 74] ، وَبَعْضُ مَا ذَكَرْنَا لَا يَخْلُو مِنْ مُنَاقَشَةٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ. هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ، هِيَ الَّتِي تَأْتِي لَهَا «لَمَّا» فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَمَّا «لَمَّا» الْمُتَرَكِّبَةُ مِنْ كَلِمَاتٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ فَلَيْسَتْ مِنْ «لَمَّا» الَّتِي كَلَامُنَا فِيهَا ; لِأَنَّهَا غَيْرُهَا، فَالْمُرَكَّبَةُ مِنْ كَلِمَاتٍ كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ [11 \ 111] ، فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَشْدِيدِ نُونِ «إِنَّ» وَمِيمِ «لَمَّا» عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: لَمِنْ مَا بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ، وَمَا بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُوَفِّيهِمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، فَأُبْدِلَتْ نُونُ «مِنْ» مِيمًا وَأُدْغِمَتْ فِي مَا، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْمِيمَاتُ حُذِفَتِ الْأُولَى فَصَارَ لَمًّا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَـ «لَمَّا» مُرَكَّبَةٌ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ: الْأَوْلَى الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ اللَّامُ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ، وَالثَّالِثَةُ مَا، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ وَبُعْدُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَقَصْدُنَا مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ لِـ «لَمَّا» الْمُرَكَّبَةِ مِنْ كَلِمَاتٍ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 قَوْلِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبَةُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَمَّا رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مُقَاتِلًا ... أَدَعُ الْقِتَالَ وَأَشْهَدُ الْهَيْجَاءَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَمَّا» فِي هَذَا الْبَيْتِ، مُرَكَّبَةٌ مِنْ «لَنِ» النَّافِيَةِ النَّاصِبَةِ لِلْمُضَارِعِ وَ «مَا» الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: لَنْ أَدَعَ الْقِتَالَ مَا رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مُقَاتِلًا، أَيْ: مُدَّةَ رُؤْيَتِي لَهُ مُقَاتِلًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى وَفَتَاهُ نَصَبَا حُوتَهُمَا لَمَّا بَلَغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَوْضَحَ أَنَّ النِّسْيَانَ وَاقِعٌ مِنْ فَتَى مُوسَى ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ تَحْتَ يَدِهِ الْحُوتُ، وَهُوَ الَّذِي نَسِيَهُ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ النِّسْيَانَ إِلَيْهِمَا ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّتِهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [2 \ 191] ، مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ لَا مِنَ الْقِتَالِ، أَيْ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ فَتَى مُوسَى دُونَ مُوسَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ الْآيَةَ [18 \ 62] ; لِأَنَّ قَوْلَ مُوسَى: «آتِنَا غَدَاءَنَا» يَعْنِي بِهِ الْحُوتَ فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ فَتَاهُ لَمْ يَنْسَهُ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ صَرَّحَ فَتَاهُ: بِأَنَّهُ نَسِيَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ الْآيَةَ [58 \ 19] . وَفَتَى مُوسَى هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا [18 \ 61] ، عَائِدٌ إِلَى «الْبَحْرَيْنِ» الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. الْآيَةَ [18 \ 60] ، وَالْمَجْمَعُ: اسْمُ مَكَانٍ عَلَى الْقِيَاسِ، أَيْ: مَكَانَ اجْتِمَاعِهِمَا. وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ «الْبَحْرَيْنِ» الْمَذْكُورَيْنِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُمَا بَحْرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 فَارِسَ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَبَحْرُ الرُّومِ مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: «مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» عِنْدَ طَنْجَةَ فِي أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُمَا الْكَرُّ وَالرَّأْسُ حَيْثُ يَصُبَّانِ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» ذِرَاعٌ فِي أَرْضِ فَارِسَ مِنْ جِهَةِ أَذْرَبِيجَانَ، يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ مِنْ شَمَالِهِ إِلَى جَنُوبِهِ، وَطَرَفَيْهِ مِمَّا يَلِي بَرَّ الشَّامِ، وَقِيلَ: هُمَا بَحْرُ الْأُرْدُنِ وَالْقُلْزُمِ، وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ بَحْرُ أَرْمِينِيَّةَ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بِإِفْرِيقِيَّةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَعْيِينَ «الْبَحْرَيْنِ» مِنَ النَّوْعِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَيْسَ فِي مَعْرِفَتِهِ فَائِدَةٌ، فَالْبَحْثُ عَنْهُ تَعَبٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْكَفَرَةِ الْمُعَاصِرِينَ: أَنَّ مُوسَى لَمْ يُسَافِرْ إِلَى مَجْمَعِ بَحْرَيْنِ، بِدَعْوَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ فِي تَارِيخِهِ، زَعْمٌ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالْبُطْلَانِ، وَيَكْفِي فِي الْقَطْعِ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا الْآيَةَ [18 \ 61] ، مَعَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ سَفَرٌ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَتَعَبٌ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي بَعِيدِ السَّفَرِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [18 \ 62] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نَاقَضَ الْقُرْآنَ فَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ نَقِيضَ الْحَقِّ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ لِاسْتِحَالَةِ صِدْقِ النَّقِيضَيْنِ مَعًا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ، قَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ مَا عَدَا حَفْصًا «أَنْسَانِيهِ» بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «أَنْسَانِيهُ» بِضَمِّ الْهَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، هَذَا الْعَبْدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَدَلَالَةُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ اللَّذَانِ ذَكَرَ اللَّهُ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِ بِهِمَا لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هُمَا رَحْمَةُ النُّبُوَّةِ وَعِلْمُهَا، أَوْ رَحْمَةُ الْوَلَايَةِ وَعِلْمُهَا، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْخَضِرِ: هَلْ هُوَ نَبِيٌّ، أَوْ رَسُولٌ، أَوْ وَلِيٌّ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: وَاخْتَلَفَتْ فِي خَضِرٍ أَهْلُ الْعُقُولِ ... قِيلَ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ أَوْ رَسُولُ وَقِيلَ مَلَكٌ، وَلَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا رَحْمَةُ نُبُوَّةٍ، وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ عِلْمُ وَحْيٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مُنَاقَشَاتٍ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الرَّحْمَةَ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُهَا عَلَى النُّبُوَّةِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الْمُؤْتَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 مِنَ اللَّهِ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُهُ فِيهِ عَلَى عِلْمِ الْوَحْيِ، فَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الزُّخْرُفِ» : وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ الْآيَةَ [43 \ 31] ، أَيْ: نُبُوَّتَهُ حَتَّى يَتَحَكَّمُوا فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الدُّخَانِ» : فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [44 \ 4 - 5] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ «الْقَصَصِ» : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [28 \ 86] ، وَمِنْ إِطْلَاقِ إِيتَاءِ الْعِلْمِ عَلَى النُّبُوَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [4 \ 113] ، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ الْآيَةَ [12 \ 68] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَإِيتَاءَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ فِيهِ أَنَّ وُجُودَ الْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَخَصِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ اللَّذَيْنِ امْتَنَّ اللَّهُ بِهِمَا عَلَى عَبْدِهِ الْخَضِرِ عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [18 \ 82] ، أَيْ: وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَمْرُ اللَّهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، إِذْ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَّا الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَلَا سِيَّمَا قَتْلُ الْأَنْفُسِ الْبَرِيئَةِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَتَعْيِيبُ سُفُنِ النَّاسِ بِخَرْقِهَا ; لِأَنَّ الْعُدْوَانَ عَلَى أَنْفُسِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ حَصَرَ تَعَالَى طُرُقَ الْإِنْذَارِ فِي الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [21 \ 45] ، وَ «إِنَّمَا» صِيغَةُ حَصْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْإِلْهَامِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْإِلْهَامَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، بَلْ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْجَبْرِيَّةِ أَيْضًا مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ وَغَيْرِهِ جَاعِلِينَ الْإِلْهَامَ كَالْوَحْيِ الْمَسْمُوعِ مُسْتَدِلِّينَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [6 \ 125] ، وَبِخَبَرِ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ اعْتِضَادِهِ بِدَلِيلٍ، وَغَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ دَسِيسَةَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ ضُمِنَتِ الْهِدَايَةُ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَلَمْ تُضْمَنْ فِي اتِّبَاعِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِلْهَامَاتِ، وَالْإِلْهَامُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِيقَاعُ شَيْءٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 فِي الْقَلْبِ يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِوَحْيٍ وَلَا نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، يَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ، أَمَّا مَا يُلْهَمُهُ الْأَنْبِيَاءُ مِمَّا يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسَ كَإِلْهَامِ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي كِتَابِ الِاسْتِدْلَالِ: وَيُنْبَذُ الْإِلْهَامُ بِالْعَرَاءِ أَعْنِي بِهِ إِلْهَامَ الْأَوْلِيَاءِ وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ مَنْ تَصَوَّفَا وَعِصْمَةُ النَّبِيِّ تُوجِبُ اقْتَفَا وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ عَنِ الرُّسُلِ، وَمَا جَاءُوا بِهِ وَلَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا شَكَّ فِي زَنْدَقَتِهِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا تُحْصَى، قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نُلْقِيَ فِي الْقُلُوبِ إِلْهَامًا، وَقَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] ، وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ الْآيَةَ [20 \ 134] ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْمُدَّعِينَ التَّصَوُّفَ مِنْ أَنَّ لَهُمْ وَلِأَشْيَاخِهِمْ طَرِيقًا بَاطِنَةً تُوَافِقُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، كَمُخَالَفَةِ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرِ لِظَاهِرِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَ مُوسَى، زَنْدَقَةٌ، وَذَرِيعَةٌ إِلَى الِانْحِلَالِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أُمُورٍ بَاطِنَةٍ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ زَنَادِقَةِ الْبَاطِنِيَّةِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا تَلْزَمُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تِلْكَ النُّصُوصِ، بَلْ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْهُمْ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَقَالُوا: وَذَلِكَ لِصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ الْأَكْدَارِ، وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ، فَتَتَجَلَّى لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنَ الْعُلُومِ عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُومِ، وَقَدْ جَاءَ فِيمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 يَنْقُلُونَ «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» ، قَالَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ، يُقْتَلُ قَائِلُهُ وَلَا يُسْتَتَابُ ; لِأَنَّهُ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ، وَأَنْفَذَ حِكْمَتَهُ بِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ السُّفَرَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهُمُ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُ رِسَالَتَهُ وَكَلَامَهُ، الْمُبَيِّنُونَ شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ، اخْتَارَهُمْ لِذَلِكَ وَخَصَّهُمْ بِمَا هُنَالِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [22 \ 75] ، وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [6 \ 124] ، وَقَالَ تَعَالَى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [2 \ 213] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ وَالْيَقِينُ الضَّرُورِيُّ، وَاجْتِمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا أُخْرَى يُعْرَفُ بِهَا أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ غَيْرَ الرُّسُلِ حَيْثُ يَسْتَغْنِي عَنِ الرُّسُلِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، ثُمَّ هُوَ قَوْلٌ بِإِثْبَاتِ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ خَاتَمَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ، وَأَنَّ مَا يَقَعُ فِيهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَأَنَّهُ وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَقَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ هَذَا نَحْوُ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي.» الْحَدِيثَ، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي كَلَامِ شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ الزِّنْدِيقَ لَا يُسْتَتَابُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَأَدِلَّتَهُمْ، وَمَا يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» ، وَمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّصَوُّفَ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِلْهَامِ مِنْ ظَوَاهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ كَحَدِيثِ «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» لَا دَلِيلَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِلْهَامِ: لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ أَنَّ الْمُفْتِيَ الَّذِي تُتَلَقَّى الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ قِبَلِهِ الْقَلْبُ، بَلْ مِنَ الْحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنَ الشُّبَهِ ; لِأَنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَالْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ لَا يَعْلَمُهَا كُلُّ النَّاسِ. فَقَدْ يُفْتِيكَ الْمُفْتِي بِحِلِّيَّةِ شَيْءٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَذَلِكَ بِاسْتِنَادٍ إِلَى الشَّرْعِ، فَإِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَا يَطْمَئِنُّ لِمَا فِيهِ الشُّبْهَةُ، وَالْحَدِيثُ، كَقَوْلِهِ «دَعْ مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ» ؟ قُلْتُ نَعَمْ: قَالَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» قَالَ النَّوَوِيُّ فِي) رِيَاضِ الصَّالِحِينَ (: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ الْحَثُّ عَلَى الْوَرَعِ وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ، فَلَوِ الْتَبَسَتْ مَثَلًا مَيِّتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ، أَوِ امْرَأَةٌ مَحْرَمٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَأَفْتَاكَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ بِحِلِّيَّةِ إِحْدَاهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُذَكَّاةُ فِي الْأَوَّلِ، وَالْأَجْنَبِيَّةُ فِي الثَّانِي، فَإِنَّكَ إِذَا اسْتَفْتَيْتَ قَلْبَكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَيِّتَةُ أَوِ الْأُخْتُ، وَأَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ وَالِاسْتِبْرَاءَ لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَجَنُّبِ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ تَرْكُ الْحَرَامِ إِلَّا بِتَرْكِهِ فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ، فَهَذَا يَحِيكُ فِي النَّفْسِ وَلَا تَنْشَرِحُ لَهُ، لِاحْتِمَالِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فِيهِ كَمَا تَرَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ لِنُصُوصِ الشَّرْعِ لَا لِلْإِلْهَامِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الصُّوفِيَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ الْخَزَّازِ الْقَوَارِيرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) ، نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ تَرْجَمَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ خِلِّكَانَ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَهُ الْمَذْكُورَ هُوَ الْحَقُّ، فَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ إِلَّا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبِهَذَا كُلُّهُ تَعْلَمُ أَنَّ قَتْلَ الْخَضِرِ لِلْغُلَامِ، وَخَرْقَهُ لِلسَّفِينَةِ، وَقَوْلَهُ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَعَزَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْقَوْلَ بِنُبُوَّتِهِ لِلْأَكْثَرِينَ، وَمِمَّا يَسْتَأْنِسُ بِهِ لِلْقَوْلِ بِنُبُوَّتِهِ تَوَاضُعُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ فِي قَوْلِهِ: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [18 \ 66] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [18 \ 69] ، مَعَ قَوْلِ الْخَضِرِ لَهُ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، [18 \ 68] . مَسْأَلَةٌ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْخَضِرِ: هَلْ هُوَ حَيٌّ إِلَى الْآنِ، أَوْ هُوَ غَيْرُ حَيٍّ، بَلْ مِمَّنْ مَاتَ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ؟ فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ حَيٌّ، وَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 عَيْنٍ تُسَمَّى عَيْنَ الْحَيَاةِ، وَمِمَّنْ نَصَرَ الْقَوْلَ بِحَيَاتِهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ، وَالنَّقَّاشُ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَطْنَبَ النَّقَّاشُ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى، يَعْنِي حَيَاةَ الْخَضِرِ وَبَقَاءَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذِكَرَ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكُلُّهَا لَا تَقُومُ عَلَى سَاقٍ انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَحِكَايَاتُ الصَّالِحِينَ عَنِ الْخَضِرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ يَحُجُّ هُوَ وَإِلْيَاسُ كُلَّ سَنَةٍ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمَا بَعْضَ الْأَدْعِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَمُسْتَنَدُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا ; لِأَنَّ غَالِبَهُ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الصَّلَاحُ، وَمَنَامَاتٌ وَأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّهَا ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. وَمِنْ أَقْوَاهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ آثَارُ التَّعْزِيَةِ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوَفِّي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُجِّيَ بِثَوْبٍ هَتَفَ هَاتِفٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ الْآيَةَ [3 \ 185] ، إِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ تَالِفٍ، وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَيَاةِ الْخَضِرِ بِآثَارِ التَّعْزِيَةِ كَهَذَا الْأَثَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ فِي بَقَاءِ الْخَضِرِ إِلَى الْآنِ، ثُمَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلَيْنِ، وَمَالَ هُوَ وَابْنُ الصَّلَاحِ إِلَى بَقَائِهِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٍ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَاءَ ذِكْرُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشْهَرُهَا حَدِيثُ التَّعْزِيَةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ اهـ، مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ أَنَّ حَدِيثَ التَّعْزِيَةِ صَحِيحٌ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عِرْفَانًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعَزِّي هُوَ الْخَضِرُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْخَضِرِ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ ; لِأَنَّ الْجِنَّ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [7 \ 27] ، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعَزِّيَ هُوَ الْخَضِرُ تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَقَوْلُهُمْ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ لَيْسَ حُجَّةً يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخْطِئُوا فِي ظَنِّهِمْ، وَلَا يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 إِجْمَاعٍ شَرْعِيٍّ مَعْصُومٍ، وَلَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ الْخَضِرُ كَمَا تَرَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِحَيٍّ بَلْ تُوُفِّيَ، وَذَلِكَ لِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [21 \ 34] ، فَقَوْلُهُ «لِبَشَرٍ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْخُلْدِ عَنْ كُلِّ بَشَرٍ مِنْ قَبْلِهِ، وَالْخَضِرُ بَشَرٌ مِنْ قَبْلِهِ، فَلَوْ كَانَ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ وَصَارَ حَيًّا خَالِدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لِذَلِكَ الْبَشَرِ الَّذِي هُوَ الْخَضِرُ مِنْ قَبْلِهِ الْخُلْدَ. الثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» فَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ) ح (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ زَمِيلٌ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [8 \ 9] ، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ. .، الْحَدِيثَ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهُوَ بِمَعْنَى: لَا تَقَعُ عِبَادَةٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَنْ مَصْدَرٍ وَنِسْبَةٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ، فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِهِ إِجْمَاعًا، فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ النَّفْيُ فَيُؤَوَّلُ إِلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَإِلَى كَوْنِ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» أَيْ: لَا تَقَعُ عِبَادَةٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ. فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ وُجُودَ الْخَضِرِ حَيًّا فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وَجُودِهِ حَيًّا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ عَلَى فَرْضِ هَلَاكِ تِلْكَ الْعِصَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْخَضِرَ مَا دَامَ حَيًّا فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ! فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [54 \ 45] ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» أَيْ: إِنْ شِئْتَ إِهْلَاكَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ، فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ عَنْ وَفَاةِ الْخَضِرِ. الثَّالِثُ: إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا بِالْحَدِيثِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي الْأَرْضِ لَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ مَعْمَرٍ كَمِثْلِ حَدِيثِهِ، حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: «تَسْأَلُونِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 عَنِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْسَمَ اللَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ» حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ «قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ» . حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ» ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ السِّقَايَةِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: نَقَصُ الْعُمُرِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ) ح (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ دَاوُدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَأْتِي مِائَةٌ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ» حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَبْلُغُ مِائَةَ سَنَةٍ» فَقَالَ سَالِمٌ: تَذَاكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَهُ: إِنَّمَا هِيَ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ يَوْمَئِذٍ اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ فِيهِ تَصْرِيحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا تَبْقَى نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ حَيَّةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَقَوْلُهُ «نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» وَنَحْوُهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ يَشْمَلُ الْخَضِرَ ; لِأَنَّهُ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةٍ سَنَةٍ: وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ» يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُرَادِ قَرِيبًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 الرَّابِعُ: أَنَّ الْخَضِرَ لَوْ كَانَ حَيًّا إِلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَلَنَصَرَهُ وَقَاتَلَ مَعَهُ ; لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] ، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [34 \ 28] ، وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : أَنَّهُ أَخَذَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ الْمِيثَاقَ الْمُؤَكَّدَ أَنَّهُمْ إِنْ جَاءَهُمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [3 \ 81 - 82] . وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ فِيهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ وَغَيْرُهُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَعَلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي زَمَنِهِ لَجَاءَهُ وَنَصَرَهُ وَقَاتَلَ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ نَبِيٌّ إِلَّا اتَّبَعَهُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ فَغَضِبَ وَقَالَ: «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» اهـ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِي مُجَالِدٍ ضَعْفًا، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَارِيخِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ آيَةَ «آلِ عِمْرَانَ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مُسْتَدِلًّا بِهَا عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرَهُ مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنَا إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ، وَأَمَرُهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَشْرَفَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَنْصُرُهُ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالصَّدِيقُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَمُوسَى أَفْضَلُ مِنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعَنِي» ، وَهَذَا الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَيُعْلَمُ مِنَ الدِّينِ عِلْمَ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُكَلَّفُونَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ أَتْبَاعًا لَهُ وَتَحْتَ أَوَامِرِهِ، وَفِي عُمُومِ شَرْعِهِ، كَمَا أَنَّ صَلَوَاتِ اللَّهِ وَسَلَامَهُ عَلَيْهِ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِمُ الْإِسْرَاءُ رُفِعَ فَوْقَهُمْ كُلِّهِمْ، وَلَمَّا هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَحَلِّ وَلَايَتِهِمْ وَدَارِ إِقَامَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَإِذَا عُلِمَ هَذَا، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِمَّنْ يَقْتَدِي بِشَرْعِهِ لَا يَسَعُهُ إِلَّا ذَلِكَ، هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا، وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَنْقُلْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالًا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَهَذَا يَوْمُ بَدْرٍ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِيمَا دَعَا بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَنْصَرَهُ وَاسْتَفْتَحَهُ عَلَى مَنْ كَفَرَهُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ» وَتِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانَ تَحْتَهَا سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَسَادَةُ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي بَيْتٍ يُقَالُ بِأَنَّهُ أَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ: وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ ... جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ أَشْرَفَ مَقَامَاتِهِ، وَأَعْظَمَ غَزَوَاتِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ: سُئِلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْخَضِرِ هَلْ مَاتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَبَلَغَنِي مِثْلُ هَذَا عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْعَبَّادِيِّ قَالَ: وَكَانَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْعُجَالَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمَاتِ، ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِفَاءِ؟ وَظُهُورُهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ، وَأَعْلَى فِي مَرْتَبَتِهِ، وَأَظْهَرُ لِمُعْجِزَتِهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَهُ لَكَانَ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ، وَإِنْكَارَهُ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ، وَالرِّوَايَاتِ الْمَقْلُوبَةِ، وَالْآرَاءِ الْبِدْعِيَّةِ، وَالْأَهْوَاءِ الْعَصَبِيَّةِ، وَقِتَالُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ، وَشُهُودُهُ جَمْعَهُمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ، وَنَفْعُهُ إِيَّاهُمْ، وَدَفْعُهُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ مِمَّا سِوَاهُمْ، وَتَسْدِيدُهُ الْعُلَمَاءَ وَالْحُكَّامَ، وَتَقْرِيرُهُ الْأَدِلَّةَ وَالْأَحْكَامَ أَفْضَلَ مِمَّا يُقَالُ مِنْ كَوْنِهِ فِي الْأَمْصَارِ، وَجَوْبِهِ الْفَيَافِيَ وَالْأَقْطَارَ، وَاجْتِمَاعِهِ بِعِبَادٍ لَا تُعْرَفُ أَحْوَالُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَجَعْلِهِ كَالنَّقِيبِ الْمُتَرْجِمِ عَنْهُمْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَحَدٌ فِيهِ بَعْدَ التَّفَهُّمِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، انْتَهَى مِنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَضِرِ حَيًّا بَاقِيًا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى وَفَاتِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَمِمَّنْ بَيَّنَ ضَعْفَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حَيَاةِ الْخَضِرِ وَبَقَائِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ وَتَفْسِيرِهِ، وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْ أَوْجُهِ ضَعْفِهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ وَالْحِكَايَاتِ الْوَارِدَةَ فِي حَيَاةِ الْخَضِرِ: وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَالْحِكَايَاتُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى حَيَاتِهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، لَا تَقُومُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ. وَالْحِكَايَاتُ لَا يَخْلُو أَكْثَرُهَا مَنْ ضَعْفٍ فِي الْإِسْنَادِ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ (، إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تَصَدَّى الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ) عَجَلَةِ الْمُنْتَظِرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ (لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ فَبَيَّنَ أَنَّهَا مَوْضُوعَاتٌ، وَمِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَبَيَّنَ ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا بِبَيَانِ أَحْوَالِهَا، وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا، وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ اهـ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ نَاقَشُوا الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وَفَاتِهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَشْمَلُهُ عُمُومُ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [21 \ 34] ، وَلَا عُمُومُ حَدِيثِ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ» كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ يَعْنِي الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخَضِرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 حَيٌّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ.» ; لِأَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ كَانَ مُؤَكَّدَ الِاسْتِغْرَاقِ لَيْسَ نَصًّا فِيهِ، بَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ، فَكَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ يُقْتَلْ، بَلْ هُوَ حَيٌّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الدَّجَّالَ مَعَ أَنَّهُ حَيٌّ بِدَلِيلِ حَدِيثٍ الْجَسَّاسَةِ: فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ مُشَاهَدًا لِلنَّاسِ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِطُهُمْ حَتَّى يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ حَالَةَ مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ أَحْيَاءٌ، وَيَحُجُّونَ مَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ فَتَى مُوسَى فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْنَا اهـ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ هَذَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ عُمُومًا مُؤَكَّدًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ «مِنْ» قَبْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَجْعَلُهَا نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ لَا ظَاهِرًا فِيهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّةَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ لَا نَصَّ فِيهِ، وَقَرَّرْنَا أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ فِي كُلِّ عَامٍّ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى وُجُوبِ اسْتِصْحَابِ عُمُومِ الْعَامِّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ سَنَدًا وَمَتْنًا، فَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ عَنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّصَ بِهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ إِجْمَاعًا. وَقَوْلُهُ: «إِنَّ عِيسَى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عُمُومُ الْحَدِيثِ» فِيهِ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْلِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عِيسَى ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ بِهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ» ، فَخَصَّصَ ذَلِكَ بِظَهْرِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَتَنَاوَلِ اللَّفْظُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَعِيسَى قَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 158] ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا تَرَى. وَدَعْوَى حَيَاةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَفَتَى مُوسَى ظَاهِرَةُ السُّقُوطِ وَلَوْ فَرَضْنَا حَيَاتَهُمْ فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِمْ عِنْدَ الْمِائَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ يُعَارِضُهُ. وَقَوْلُهُ «إِنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ مُشَاهَدًا لِلنَّاسِ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِطُهُمْ حَتَّى يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ حَالَةَ مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا» يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الِاعْتِرَاضَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ الْخَضِرِ مَحْجُوبًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَالْأَصْلُ خِلَافُهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَمُشَابِهَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ. الثَّانِيَةُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يَرَاهُ بَنُو آدَمَ، فَاللَّهُ الَّذِي أَعْلَمَ النَّبِيَّ بِالْغَيْبِ الَّذِي هُوَ «هَلَاكُ كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ» عَالِمٌ بِالْخَضِرِ، وَبِأَنَّهُ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا جَدَلِيًّا أَنَّ الْخَضِرَ فَرْدٌ نَادِرٌ لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالشُّمُولِيِّ فِي الْعُمُومِ فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ شُمُولُ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ لِلْفَرْدِ النَّادِرِ وَالْفَرْدِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْفَرْدَ النَّادِرَ وَغَيْرَ الْمَقْصُودِ لَا يَشْمَلُهُمَا الْعَامُّ وَلَا الْمُطْلَقُ. قَالَ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي «مَبْحَثِ الْعَامِّ» مَا نَصُّهُ: وَالصَّحِيحُ دُخُولُ النَّادِرَةِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ تَحْتَهُ، فَقَوْلُهُ: «النَّادِرَةُ وَغَيْرُ الْمَقْصُودَةِ» ، يَعْنِي الصُّورَةَ النَّادِرَةَ وَغَيْرَ الْمَقْصُودَةِ، وَقَوْلُهُ: «تَحْتَهُ» يَعْنِي الْعَامَّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ، وَغَيْرَ الْمَقْصُودَةِ صُورَتَانِ وَاحِدَةٌ، وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَقْصُودَةً وَغَيْرَ مَقْصُودَةٍ، وَالصُّورَةُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ قَدْ تَكُونُ نَادِرَةً وَغَيْرَ نَادِرَةٍ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى دُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِمَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ دَفْعِ السَّبَقِ - بِفَتْحَتَيْنِ - فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْفِيلِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ «أَوْ نَصْلٍ» وَالْفِيلُ ذُو خُفٍّ، وَهُوَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ يَجُوزُ دَفْعُ السَّبَقِ - بِفَتْحَتَيْنِ - فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْفِيَلَةِ، وَالسَّبَقُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمَالُ الْمَجْعُولُ لِلسَّابِقِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ جَعَلَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِثَالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْمُطْلَقِ لَا الْعَامِّ، قَالَ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: «إِلَّا فِي خُفٍّ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ «إِلَّا» مُثْبَتٌ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ إِطْلَاقٌ لَا عُمُومٌ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مِثَالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ. قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا: وَجْهُ عُمُومِهِ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ مَعْنًى، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِلَّا إِذَا كَانَ فِي خُفٍّ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ، وَضَابِطُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ هِيَ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْدُ لَا يَخْطُرُ غَالِبًا بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الصُّورَةِ النَّادِرَةِ: هَلْ تَدْخُلُ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ أَوْ لَا؟ ! اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الْخَارِجِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، كَمَنْ تَلْدَغُهُ عَقْرَبٌ فِي ذَكَرِهِ فَيَنْزِلُ مِنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 الْمَنِيُّ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ كَالَّذِي يَنْزِلُ فِي مَاءٍ حَارٍّ أَوْ تَهُزُّهُ دَابَّةٌ فَيَنْزِلُ مِنْهُ الْمَنِيُّ، فَنُزُولُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، أَوْ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ صُورَةٌ نَادِرَةٌ، وَوُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْهُ يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَدْخُولِ فِي دُخُولِ الصُّوَرِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِمَا، فَعَلَى دُخُولِ تِلْكَ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي عُمُومِ «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» فَالْغُسْلُ وَاجِبٌ، وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْمُطْلَقِ مَا لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ دَفْعُ الْخُنْثَى أَوْ لَا؟ فَعَلَى دُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْمُطْلَقِ يَجُوزُ دَفْعُ الْخُنْثَى، وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي دُخُولِ الصُّورَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْإِطْلَاقِ، مَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ آخَرَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا لِيَخْدِمَهُ، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ عَبْدًا يُعْتَقُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَقْصِدْ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ خَادِمًا يَخْدِمُهُ، فَعَلَى دُخُولِ الصُّورَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْمُطْلَقِ يَمْضِي الْبَيْعُ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ، وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَا، وَإِلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَشَارَ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: هَلْ نَادِرٌ فِي ذِي الْعُمُومِ يَدْخُلْ ... وَمُطْلَقٌ أَوْ لَا خِلَافَ يُنْقَلْ فَمَا لِغَيْرِ لَذَّةٍ وَالْفِيلْ ... وَمُشَبَّهٌ فِيهِ تَنَافِي الْقِيلْ وَمَا مِنَ الْقَصْدِ خَلَا فِيهِ اخْتُلِفْ ... وَقَدْ يَجِيءُ بِالْمَجَازِ مُتَّصِفْ وَمِمَّنْ مَالَ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الصُّوَرِ النَّادِرَةِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ شُمُولُ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ لِلصُّوَرِ النَّادِرَةِ ; لِأَنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِهِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِهِ وَشُمُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَحُكْمُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَعْمَلُونَ بِشُمُولِ الْعُمُومَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ دُخُولَ الْخَضِرِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الْآيَةَ [21 \ 34] ، وَعُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ» هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ إِلَّا بِمُخَصِّصٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخُنْثَى صُورَةٌ نَادِرَةٌ جِدًّا، مَعَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ وَالْقِصَاصِ وَالْعِتْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُمُومَاتِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 خُرُوجِ الدَّجَّالِ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّ الدَّجَّالَ أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ حَدِيثُ تَمِيمٍ الْمَذْكُورُ ; لِأَنَّهُ وَافَقَ مَا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنْ خَبَرِ الدَّجَّالِ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَاللَّفْظُ لِعَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ شَعْبُ هَمْدَانَ، أَنَّهُ سَأَلَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ فَقَالَ: حَدِّثِينِي حَدِيثًا سَمِعْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُسْنِدِيهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ لَئِنْ شِئْتَ لَأَفْعَلَنَّ؟ فَقَالَ لَهَا: أَجَلْ؟ حَدِّثِينِي، فَقَالَتْ:. . . ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ طُولٌ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وَثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ! مَا لَكَ؟ ! الْحَدِيثُ بِطُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي، إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطِيبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَى كِلْتَاهُمَا، الْحَدِيثَ. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدَّجَّالَ حَيٌّ مَوْجُودٌ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْبَحْرِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّهُ بَاقٍ وَهُوَ حَيٌّ حَتَّى يَخْرُجَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَهَذَا نَصٌّ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ يُخْرِجُ الدَّجَّالَ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ مَوْتِ كُلِّ نَفْسٍ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْعُمُومَ يَجِبُ إِبْقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، فَمَا أَخْرَجَهُ نَصٌّ مُخَصِّصٌ خَرَجَ مِنَ الْعُمُومِ وَبَقِيَ الْعَامُّ حُجَّةً فِي بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى إِخْرَاجِهَا دَلِيلٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا وَهُوَ الْحَقُّ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ غَالِبُ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْعُمُومَاتِ يَخْرُجُ مِنْهَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِنَصٍّ مُخَصِّصٍ، وَيَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً فِي الْبَاقِي، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ التَّخْصِيصِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ حُجَّةٌ لَدَى الْأَكْثَرِ إِنْ ... مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيَّنًا يَبِنْ وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى مَوْتِ كُلِّ إِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي ظَرْفِ تِلْكَ الْمِائَةِ، وَنَفْيِ الْخُلْدِ عَنْ كُلِّ بَشَرٍ قَبْلَهُ تَتَنَاوَلُ بِظَوَاهِرِهَا الْخَضِرَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا نَصٌّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا فِي نَسَبِ الْخَضِرِ، فَقِيلَ: هُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: وَهَذَا قَوْلٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَّادٌ ضَعِيفٌ، وَمُقَاتِلٌ مَتْرُوكٌ، وَالضَّحَّاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ، ثُمَّ سَاقَ سَنَدَهُ وَقَالَ: هُوَ مُعْضَلٌ وَحَكَى صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ اسْمُهُ خَضِرُونَ وَهُوَ الْخَضِرُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَامِرٌ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ الْبَغْدَادِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ بِلْيَامُ بْنُ مَلْكَانِ بْنُ فَالِغِ بْنِ شَالَخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ الْمُعَمِّرَ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: خَضْرُونُ بْنُ عَمَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ: وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْضًا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ أَرْمَيَا بُنُ حَلْقِيَا، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَقِيلَ: ابْنُ فِرْعَوْنَ لِصُلْبِهِ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْيَسَعُ، حُكِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّهُ بَعِيدٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ فَارِسٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جَاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْ وَلَدِ بَعْضِ مَنْ كَانَ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَقِيلَ: كَانَ أَبُوهُ فَارِسِيًّا، وَأُمُّهُ رُومِيَّةً، وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ اهـ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ، وَالْفَرْوَةُ الْبَيْضَاءُ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْحَشِيشِ الْأَبْيَضِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْهَشِيمِ، وَقِيلَ، الْفَرْوَةُ: الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ. وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ جِلْدَةِ الرَّأْسِ فَرْوَةً، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 دَنِسُ الثِّيَابِ كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ ... غُرِسَتْ فَأَنْبَتْ جَانِبَاهَا فُلْفُلًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ زَاعِمِينَ أَنَّ إِرَادَةَ الْجِدَارِ الِانْقِضَاضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مَجَازٌ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ إِرَادَةِ الْجِدَارِ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ لِلْجَمَادَاتِ إِرَادَاتٍ وَأَفْعَالًا وَأَقْوَالًا لَا يُدْرِكُهَا الْخَلْقُ كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُهُ خَلْقُهُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [17 \ 44] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّنَا لَا نَفْقَهُ تَسْبِيحَهُمْ، وَتَسْبِيحُهُمْ وَاقِعٌ عَنْ إِرَادَةٍ لَهُمْ يَعْلَمُهَا هُوَ جَلَّ وَعَلَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 74] ، فَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّ بَعْضَ الْحِجَارَةِ يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْخَشْيَةَ بِإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ الْآيَةَ [33 \ 72] ، فَتَصْرِيحُهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أَبَتْ وَأَشْفَقَتْ، أَيْ: خَافَتْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِإِرَادَةٍ وَإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ بِمَكَّةَ " وَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَنِينِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَعًا لِفِرَاقِهِ، فَتَسْلِيمُ ذَلِكَ الْحَجَرِ، وَحَنِينُ ذَلِكَ الْجِذْعِ كِلَاهُمَا بِإِرَادَةٍ وَإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [17 \ 44] ، وَزَعْمُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ ضَرْبُ أَمْثَالٍ، زَعْمٌ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ مَعْنَاهَا الْوَاضِحِ الْمُتَبَادَرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِبْقَاءِ إِرَادَةِ الْجِدَارِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْهُ إِرَادَةَ الِانْقِضَاضِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ خَلْقُهُ تِلْكَ الْإِرَادَةَ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْإِرَادَةِ عَلَى الْمُقَارَبَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 فِي مَهْمَهٍ قَلِقَتْ بِهِ هَامَتُهَا ... قَلَقَ الْفُئُوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُضُولَا فَقَوْلُهُ: إِذَا أَرَدْنَ نُضُولًا، أَيْ قَارَبْنَهُ. وَقَوْلِ الْآخَرِ: يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ ... وَيَعْدِلُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عَقِيلِ أَيْ: يَمِيلُ إِلَى صَدْرِ أَبِي بَرَاءٍ، وَكَقَوْلِ رَاعِي نُمَيْرٍ: إِنَّ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ ... لَزَمَانٌ يَهُمُّ بِالْإِحْسَانِ فَقَوْلُهُ " لَزَمَانٌ يَهُمُّ بِالْإِحْسَانِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةُ) مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ (أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مَجَازٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَبَيَّنَّا أَدِلَّةَ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ، صَحِيحَةً كَانَتْ أَوْ مَعِيبَةً، وَلَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْمَعِيبَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [18 \ 79] ، أَيْ: لِئَلَّا يَأْخُذَهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْحِكْمَةُ فِي خَرْقِهِ لَهَا الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [18 \ 71] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ قَصْدَهُ بِخَرْقِهَا سَلَامَتُهَا لِأَهْلِهَا مِنْ أَخْذَ ذَلِكَ الْمَلِكِ الْغَاصِبِ ; لِأَنَّ عَيْبَهَا يُزَهِّدُهُ فِيهَا ; وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِثَالًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ لِحَذْفِ النَّعْتِ، أَيْ: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ مَعِيبَةٍ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الشَّوَاهِدَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا الْآيَةَ [17 \ 58] ، وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَلِكِ: هُدَدُ بْنُ بَدْرٍ: وَقَوْلُهُ «وَرَاءَهُمْ» أَيْ: أَمَامَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «حَمِئَةٍ» بِلَا أَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ، وَبِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةٍ وَالْكِسَائِيٍّ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «حَامِيَةٍ» بِأَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ، وَيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَمَعْنَى «حَمِئَةٍ» : ذَاتُ حَمْأَةٍ وَهِيَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [15 \ 26] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 وَالْحَمَأُ: الطِّينُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيِّ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ يَمْدَحُ ذَا الْقَرْنَيْنِ: بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدٍ فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خَلَبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ وَالْخَلَبُ - فِي لُغَةِ حِمْيَرَ -: الطِّينُ، وَالثَّأْطُ: الْحَمْأَةُ، وَالْحَرْمَدُ: الْأَسْوَدُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «حَامِيَةٍ» بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حَارَّةٌ، وَذَلِكَ لِمُجَاوَرَتِهَا وَهَجَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَمُلَاقَاتِهَا الشُّعَاعَ بِلَا حَائِلٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَكِلْتَاهُمَا حَقٌّ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [18 \ 86] ، أَيْ: رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ يَرَاهَا كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِيهِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَيْنِ فِي الْآيَةِ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ، وَهُوَ ذُو طِينٍ أَسْوَدَ، وَالْعَيْنُ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى يَنْبُوعِ الْمَاءِ، وَالْيَنْبُوعُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ، فَاسْمُ الْعَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى الْبَحْرِ لُغَةً، وَكَوْنُ مَنْ عَلَى شَاطِئِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ يَرَى الشَّمْسَ فِي نَظَرِ عَيْنِهِ تَسْقُطُ فِي الْبَحْرِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْآيَاتِ بَيَانٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَفِي بِإِيضَاحِ الْمَقْصُودِ وَقَدْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّا نُتَمِّمُ بَيَانَهُ بِذِكْرِ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمَنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَهُمَا بَيَانٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْضَحَتْهُ السُّنَّةُ، فَصَارَ بِضَمِيمَةِ السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ بَيَانًا وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ فِي كِتَابِهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [16 \ 44] ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَآيَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ دَلَّتَا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ السَّدَّ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ دُونَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِنَّمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ دَكًّا عِنْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ بِذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ دَلَّتَا عَلَى أَنَّهُ بِقُرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [18 \ 98 - 99] ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 الَّتِي عَوَّضَ عَنْهَا تَنْوِينُ «يَوْمَئِذٍ» مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، أَنَّهُ يَوْمَ إِذْ جَاءَ وَعْدُ رَبِّي بِخُرُوجِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ لِمُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ سِيَاقٍ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَعْنَى «يَوْمَئِذٍ» يَوْمَ إِذْ جَاءَ الْوَعْدُ بِخُرُوجِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ فَالْمُرَادُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِذًا فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى اقْتِرَانِهِ بِالْخُرُوجِ إِذَا دَكَّ السَّدَّ، وَقَرَّبَهُ مِنْهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى السَّدِّ، أَيْ: هَذَا السَّدُّ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ، أَوْ هَذَا الْإِقْدَارٌ وَالتَّمْكِينٌ مِنْ تَسْوِيَتِهِ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي يَعْنِي فَإِذَا دَنَا مَجِيءُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشَارَفَ أَنْ يَأْتِيَ جَعَلَ السَّدَّ دَكًّا، أَيْ: مَدْكُوكًا مَبْسُوطًا مُسَوًّى بِالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا انْبَسَطَ مِنْ بَعْدِ ارْتِفَاعٍ فَقَدِ انْدَكَّ، وَمِنْهُ الْجَمَلُ الْأَدَكُّ الْمُنْبَسِطُ السَّنَامِ اهـ. وَآيَةُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [21 \ 96 - 97] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَإِتْبَاعَهُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكَهْفِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ رُوسِيَّةٌ، وَأَنَّ السَّدَّ فُتِحَ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّمَا تَدُلُّ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي «الْكَهْفِ» وَ «الْأَنْبِيَاءِ» عَلَى مُطْلَقِ اقْتِرَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ دَكِّ السَّدِّ وَاقْتِرَابِهِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ قَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الْآيَةَ [21 \ 1] ، وَقَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [54 \ 1] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِأُصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا.» الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ اقْتِرَابَ مَا ذَكَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ اقْتِرَانُهُ بِهِ، بَلْ يَصِحُّ اقْتِرَابُهُ مَعَ مُهْلَةٍ، وَإِذًا فَلَا يُنَافِي دَكُّ السَّدِّ الْمَاضِي الْمَزْعُومِ الِاقْتِرَابَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُدَكُّ السَّدُّ إِلَى الْآنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 فَالْجَوَابُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسَ وَافِيًا بِتَمَامِ الْإِيضَاحِ إِلَّا بِضَمِيمَةِ السُّنَّةِ لَهُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرْنَا أَنَّنَا نُتَمِّمُ مِثْلَهُ مِنَ السُّنَّةِ ; لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ قَاضِي حِمْصَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ) ح (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) وَاللَّفْظُ لَهُ (، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَضَ فِيهِ وَرَفَعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ» ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَضْتَ فِيهِ وَرَفَعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ؟ فَقَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفَنِي عَلَيْكُمْ! إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ» الْكَهْفِ «إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا،» يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ:» أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمُ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ:» لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ:» كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ «، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ: فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذَرًّا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتُتْبِعُهُ كُنُوزَهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُونَ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدِّهِ فَيَقْتُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِيَ عِيسَى ابْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيَحْصُرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتَنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يُكَنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزُّلْفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، يُبَارَكُ فِي الرُّسُلِ حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ» انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ قَدْ رَأَيْتَ فِيهِ تَصْرِيحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ، فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُمْ رُوسِيَّةٌ، وَأَنَّ السَّدَّ قَدِ انْدَكَّ مُنْذُ زَمَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً لَا وَجْهَ لَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ نَاقِضٍ خَبَرَ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ نَقِيضَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ كَاذِبٌ ضَرُورَةً كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَأَيْتَ صِحَّةَ سَنَدِهِ، وَوُضُوحَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَالْعُمْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَنِ ادَّعَى أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هُمْ رُوسِيَّةٌ، وَمَنِ ادَّعَى مِنَ الْمُلْحِدِينَ أَنَّهُمْ لَا وُجُودَ لَهُمْ أَصْلًا هِيَ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فِي زَعْمِ صَاحِبِهَا، وَهِيَ بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْجَدَلِ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ شَرْطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ لُزُومِيَّةٍ فِي زَعْمِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ يُسْتَثْنَى فِيهِ نَقِيضُ التَّالِي، فَيَنْتُجُ نَقِيضُ الْمُقَدَّمِ، وَصُورَةُ نَظْمِهِ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَرَاءَ السَّدِّ إِلَى الْآنِ، لَاطَّلَعَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ لِتَطَوُّرِ طُرُقُ الْمُوَاصَلَاتِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 يَطَّلِعْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ يُنْتِجُ فَهُمْ لَيْسُوا وَرَاءَ السَّدِّ إِلَى الْآنِ ; لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَبِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ لِغَيْرِ الْمَنْطِقِيِّ ; لِأَنَّ نَفْيَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَلْزُومِ هَذَا هُوَ عُمْدَةُ حُجَّةِ الْمُنْكِرِينَ وَجُودَهُمْ إِلَى الْآنِ وَرَاءَ السَّدِّ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِيَاسَ الِاسْتِثْنَائِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالشَّرْطِيِّ، إِذَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ شَرْطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ وَاسْتِثْنَائِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْقَدَحُ مِنْ ثَلَاثِ وِجْهَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ شَرْطِيَّتِهِ، لِكَوْنِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي لَيْسَ صَحِيحًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِثْنَائِيَّتِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِمَا مَعًا، وَهَذَا الْقِيَاسُ الْمَزْعُومُ يَقْدَحُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ شَرْطِيَّتِهِ فَيَقُولُ لِلْمُعْتَرِضِ: الرَّبْطُ فِيهِ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَوْلُكُمْ: لَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَرَاءَ السَّدِّ إِلَى الْآنِ لَاطَّلَعَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ وَاللَّهُ يُخْفِي مَكَانَهُمْ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِإِخْرَاجِهِمْ عَلَى النَّاسِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ إِمْكَانَ هَذَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [5 \ 26] ، وَهُمْ فِي فَرَاسِخَ قَلِيلَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، يَمْشُونَ لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِمُ النَّاسُ حَتَّى انْتَهَى أَمَدُ التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا بِالنَّاسِ لَبَيَّنُوا لَهُمُ الطَّرِيقَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَرَبُّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَخْبَارُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةُ عَنْهُ صَادِقَةٌ، وَمَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا وَنَحْوَهُ مِنَ الْقِصَصِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ الصَّحِيحَةِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بَاطِلٌ يَقِينًا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْنَا ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ بِأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَغَيَّرُوا فِي كُتُبِهِمْ، كَقَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [5 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [6 \ 91] ، وَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [2 \ 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [3 \ 78] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ بِخِلَافِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا حِفْظَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ حَتَّى يُغَيِّرَ فِيهِ أَوْ يُبَدِّلَ أَوْ يُحَرِّفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ، وَقَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [75 \ 16 - 17] ، وَقَالَ: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [41 \ 42] ، وَقَالَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَذِنَ لِأُمَّتِهِ أَنْ تُحَدِّثَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، خَوْفَ أَنْ يُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، أَوْ يُكَذِّبُوا بِحَقٍّ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا يُرْوَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَجِبُ تَصْدِيقُهُ، وَهِيَ مَا إِذَا دَلَّ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَفِي وَاحِدَةٍ يَجِبُ تَكْذِيبُهُ، وَهِيَ مَا إِذَا دَلَّ الْقُرْآنُ أَوِ السُّنَّةُ أَيْضًا عَلَى كَذِبِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ لَا يَجُوزُ التَّكْذِيبُ وَلَا التَّصْدِيقُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا: وَهِيَ مَا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ الْقِصَصَ الْمُخَالِفَةَ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُوَجَّهُ بِأَيْدِي بَعْضِهِمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ يَجِبُ تَكْذِيبُهُمْ فِيهَا لِمُخَالَفَتِهَا نُصُوصَ الْوَحْيِ الصَّحِيحِ، الَّتِي لَمْ تُحَرَّفْ وَلَمْ تُبَدَّلْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جَعَلَهُ دَكَّاءَ، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «دَكًّا» بِالتَّنْوِينِ مَصْدَرُ دَكَّهُ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ جَعَلَهُ دَكَّاءَ، بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَمْدُودَةِ تَأْنِيثُ الْأَدَكِّ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا. قَوْلُهُ: وَعَرَضْنَا أَيْ: أَبْرَزْنَا وَأَظْهَرْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ، أَيْ: يَوْمَ إِذْ جَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [18 \ 99] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ «لِلْكَافِرِينَ» بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: عَرَضْنَا جَهَنَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّ الْعَرْضَ فِي الْقُرْآنِ يَتَعَدَّى بِعَلَى لَا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ [46 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [40 \ 46] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا [18 \ 48] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 وَنَظِيرُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ إِتْيَانِ اللَّامِ بِمَعْنَى «عَلَى» الْبَيْتُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، وَقَدَّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِي قَائِلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ أَيْ خَرَّ صَرِيعًا عَلَى الْيَدَيْنِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّ النَّارَ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ وَيُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا تُقَرَّبُ إِلَيْهِمْ وَيُقَرَّبُونَ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عَرْضِهَا عَلَيْهِمْ هُنَا: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [18 \ 100] ، وَقَالَ فِي عَرْضِهِمْ عَلَيْهَا: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ الْآيَةَ [46 \ 34] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ عَرْضِهِمْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا [18 \ 48] ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ الْآيَةَ [18 \ 100] فِيهِ قَلْبٌ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَعَرَضْنَا الْكَافِرِينَ لِجَهَنَّمَ أَيْ: عَلَيْهَا بِعِيدٌ كَمَا أَوْضَحَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا. التَّحْقِيقُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ، أَنَّهُ فِي مَحَلِّ خَفْصٍ نَعْتًا لِلْكَافِرِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تُعْرَضُ لَهُمْ جَهَنَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى، وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي تَغْطِيَةِ أَعْيُنِهِمْ: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ الْآيَةَ [2 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً الْآيَةَ [45 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [13 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ الْآيَةَ [35 \ 19] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَالَ فِي عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِمُ السَّمْعَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [47 \ 23] ، وَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [18 \ 57] ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى كَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [11 \ 20] ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [18 \ 57] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الْغِطَاءَ الْمَذْكُورَ الَّذِي يَعْشُو بِسَبَبِهِ الْبَصَرُ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى يُقَيِّضُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ شَيْطَانًا فَيَجْعَلُهُ لَهُ قَرِينًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ الْآيَةَ [43 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا. الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ هُوَ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ، وَلَا أُعَاقِبُهُمُ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ! كَلَّا! بَلْ سَأُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [18 \ 102] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُهُ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ، كَلَّا لَا يَنْفَعُهُمْ بَلْ يَضُرُّهُمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [39 \ 3] ، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [10 \ 18] ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بُطْلَانَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [10 \ 18] ، وَمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ هُنَا مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» : اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [7 \ 3] ، فَقَدْ نَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ دُونِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَلِيَّ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ الْآيَةَ [18 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ [11 \ 113] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ الْآيَةَ [42 \ 44] ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ الْآيَةَ [6 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَسَيَأْتِي لَهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ إِيضَاحٍ وَأَمْثِلَةٍ. وَالْأَظْهَرُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: «عِبَادِي» أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ نَحْوُ الْمَلَائِكَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ، لَا الشَّيَاطِينُ وَنَحْوُهُمْ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلتَّشْرِيفِ غَالِبًا، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى: أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ الْآيَةَ [34 \ 40 - 41] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا [18 \ 102] ، قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا الْآيَةَ [18 \ 29] ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ: نُزُلًا أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ، أَظْهَرُهَا: أَنْ «النُّزُلَ» هُوَ مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَالْقَادِمُ عِنْدَ قُدُومِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي يُهَيَّأُ لَهُمْ مِنَ الْإِكْرَامِ عِنْدَ قُدُومِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ هُوَ جَهَنَّمُ الْمُعَدَّةُ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [84 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ [18 \ 29] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَوَاهِدَهُ الْعَرَبِيَّةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى، يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي يَشْوِي الْوُجُوهَ لَيْسَ فِيهِ إِغَاثَةٌ، كَمَا أَنَّ جَهَنَّمَ لَيْسَتْ نُزُلَ إِكْرَامِ الضَّيْفِ أَوْ قَادِمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «نُزُلًا» بِمَعْنَى الْمَنْزِلِ، أَيْ: أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ مَنْزِلًا، أَيْ: مَكَانَ نُزُولٍ، لَا مَنْزِلَ لَهُمْ غَيْرُهَا، وَأَضْعَفُ الْأَوْجُهِ مَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ «النُّزُلَ» جَمْعُ نَازِلٍ، كَجَمْعِ الشَّارِفِ عَلَى شُرُفٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي إِعْرَابِ «نُزُلًا» أَنَّهُ حَالٌ مُؤَوَّلَةٌ بِمَعْنَى الْمُشْتَقِّ، أَوْ مَفْعُولٌ لِـ «أَعْتَدْنَا» بِتَضْمِينِهِ مَعْنَى صَيَّرْنَا أَوْ جَعَلْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ، أَيْ: نُخْبِرُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، أَيْ: بِالَّذِينَ هُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا وَأَضْيَعُهَا، فَالْأَخْسَرُ صِيَغَةُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْخُسْرَانِ وَأَصْلُهُ نَقْصُ مَالِ التَّاجِرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ غَبْنُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ فِي حُظُوظِهِمْ مِمَّا عِنْدَ اللَّهِ لَوْ أَطَاعُوهُ، وَقَوْلُهُ: أَعْمَالًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ: فَإِنْ قِيلَ: نَبِّئْنَا بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا مَنْ هُمْ؟ كَانَ الْجَوَابُ: هُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ «الَّذِينَ» مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ [18 \ 104] ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ، وَجَرُّهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْأَخْسَرِينَ، أَوْ نَعْتٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ: ضَلَّ سَعْيُهُمْ، أَيْ: بَطَلَ عَمَلُهُمْ وَحَبِطَ، فَصَارَ كَالْهَبَاءِ وَكَالسَّرَابِ وَكَالرَّمَادِ! كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ الْآيَةَ [24 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [14 \ 18] ، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عَمَلَهُمْ حَسَنٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُفْرَهُمْ صَوَابٌ وَحَقٌّ، وَأَنَّ فِيهِ رِضَا رَبِّهِمْ، كَمَا قَالَ عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [39 \ 3] ، وَقَالَ عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [10 \ 18] ، وَقَالَ عَنِ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِ شَرْعٍ صَحِيحٍ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً الْآيَةَ [88 \ 2 - 4] ، عَلَى الْقَوْلِ فِيهَا بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [7 \ 30] ، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [43 \ 37] ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نُزُولِهَا فِي الْكُفَّارِ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ يَلِيهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ الْآيَةَ [18 \ 105] ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْكُفَّارُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الرُّهْبَانُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْكَافِرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ تَشْمَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهُ ابْنُهُ مُصْعَبٌ عَنِ «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ فَقَالَ لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا لَا طَعَامَ فِيهَا، وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَكَانَ سَعِيدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ، اهـ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ الْمَعْرُوفُونَ بِالْحَرُورِيِّينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُ فِيهِمْ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ بِقَدْرِ مَا فَعَلُوا ; لِأَنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ أُمُورًا شَنِيعَةً مِنَ الضَّلَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا هِيَ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَدْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا قَدْ قَدَّمَنَا إِيضَاحَهُ وَأَدِلَّتَهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ [18 \ 104] ، أَيْ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الضَّلَالَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ: الْأَوَّلُ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الذَّهَابِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى طَرِيقِ الْبَاطِلِ، كَالذَّهَابِ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1 \ 7] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ 5 [5 \ 77] . الثَّانِي: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ وَالْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ إِذَا اسْتَهْلَكَ فِيهِ وَغَابَ فِيهِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [6 \ 24] ، أَيْ: غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَوْلُهُ هُنَا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ [18 \ 104] ، أَيْ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ ... عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا أَيْ: عَنِ الْحَيِّ الَّذِي غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَ الدَّفْنُ إِضْلَالًا ; لِأَنَّ مَآلَ الْمَيِّتِ الْمَدْفُونِ إِلَى أَنْ تَخْتَلِطَ عِظَامُهُ بِالْأَرْضِ، فَيَضِلَّ فِيهَا كَمَا يَضِلُّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الضَّلَالِ عَلَى الدَّفْنِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجَوَلَانِ حَزْمٍ وَنَائِلِ فَقَوْلُهُ «مُضِلُّوهُ» يَعْنِي دَافِنِيهِ فِي قَبْرِهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ الْآيَةَ [32 \ 10] ، فَمَعْنَى ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَنَّهُمُ اخْتَلَطَتْ عِظَامُهُمُ الرَّمِيمُ بِهَا فَغَابَتْ وَاسْتَهْلَكَتْ فِيهَا. الثَّالِثُ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الذَّهَابِ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [93 \ 7] ، أَيْ: ذَاهِبًا عَمَّا تَعْلَمُهُ الْآنَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْوَحْيِ فَهَدَاكَ إِلَى تِلْكَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بِالْوَحْيِ، وَحَدَّدَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [12 \ 95] ، أَيْ: ذَهَابُكَ عَنِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ أَمْرِ يُوسُفَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَطْمَعُ فِي رُجُوعِهِ إِلَيْكَ ; وَذَلِكَ لَا طَمَعَ فِيهِ عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا [2 \ 282] ، أَيْ: تَذْهَبُ عَنْ حَقِيقَةِ عِلْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنِسْيَانٍ أَوْ نَحْوِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20 \ 52] ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلًا أُرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ فَقَوْلُهُ «أُرَاهَا فِي الضَّلَالِ» : أَيْ: الذَّهَابِ عَنْ عَلَمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ حَيْثُ تَظُنُّنِي أَبْغِي بِهَا بَدَلًا، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُمْ يَحْسَبُونَ، أَيْ: يَظُنُّونَ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَبَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَمَفْعُولَا «حَسِبَ» هُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ اللَّذَانِ عَمِلَتْ فِيهِمَا «أَنَّ» وَالْأَصْلُ وَيَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ مُحْسِنِينَ صُنْعَهُمْ، وَقَوْلُهُ «صُنْعًا» أَيْ: عَمَلًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ «يَحْسَبُونَ، وَيُحْسِنُونَ» الْجِنَاسُ الْمُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ «تَجْنِيسَ التَّصْحِيفِ» وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّقْطُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ: وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى ... لِيُعْجِزَ وَالْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طَالِبُهُ فَبَيْنَ «الْمُغْتَرِّ وَالْمُعْتَزِّ» الْجِنَاسُ الْمَذْكُورُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ الْآيَةَ [18 \ 105] ، نَصٌّ فِي أَنَّ الْكُفْرَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْعَنْكَبُوتِ» وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [29 \ 23] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَسَيَأْتِي بَعْضُ أَمْثِلَةٍ لِذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [18 \ 105] ، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ تُوزَنُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، بَلْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا السَّيِّئَاتُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، [23 \ 103 - 104] ، وَقَالَ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [7 \ 8 - 9] ، وَقَالَ: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا نَارٌ حَامِيَةٌ [101 \ 8 - 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا: أَنَّهُمْ لَا قَدْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ لِحَقَارَتِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [40 \ 60] ، أَيْ: صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ حَقِيرِينَ، وَقَوْلِهِ: قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ [37 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [23 \ 108] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَوَانِهِمْ وَصَغَارِهِمْ وَحَقَارَتِهِمْ. وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرُ السَّمِينُ الْعَظِيمُ الْبَدَنِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا» وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِثْلُهُ اهـ، مِنَ الْبُخَارِيِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْكَافِرِ الْعَظِيمِ السَّمِينِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وَزْنِ الْأَشْخَاصِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ ذَمُّ السِّمَنِ لِمَنْ تَكَلَّفَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ الْمَطَاعِمِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا عَنِ الْمَكَارِمِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ، الْمُبْتَغَى بِهِ التَّرَفُّهُ وَالسِّمَنُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحَبْرُ السَّمِينُ» وَمِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ، فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ إِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» وَهَذَا ذَمٌّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ السِّمَنَ الْمُكْتَسَبَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشَّرَهِ وَالدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ وَالْأَمْنِ، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ النَّفْسِ عَلَى شَهَوَاتِهَا، فَهُوَ عَبْدُ نَفْسِهِ لَا عَبْدُ رَبِّهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ فِي الْحَرَامِ، وَكُلُّ لَحْمٍ تَوَلَّدَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [47 \ 12] ، فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، وَيَتَنَعَّمُ تَنَعُّمَهُمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ وَأَزْمَانِهِ، فَأَيْنَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ كَثُرَ نَهَمُهُ وَحِرْصُهُ، وَزَادَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 بِاللَّيْلِ كَسَلُهُ وَنَوْمُهُ، فَكَانَ نَهَارَهُ هَائِمًا، وَلَيْلَهُ نَائِمًا اهـ، مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا، وَقَدْ حَسَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ كَلَامِ كَعْبٍ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ ذَمِّ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسِّمَنِ الْمُكْتَسَبِ ظَاهِرٌ وَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ «وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْإِيمَانَ سَبَبٌ فِي نَيْلِ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ، وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِكَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [18 \ 2 - 3] ، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] ، أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [43 \ 72] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ الْآيَةَ [19 \ 60 - 61] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الِآيَاتُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» ، يَرِدُ بِسَبَبِهِ إِشْكَالٌ عَلَى ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا إِذَا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَبُّلُهُ لَهُ فَضْلٌ مِنْهُ، فَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ هُوَ الَّذِي تَقَبَّلَهُ اللَّهُ بِفَضْلِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْجُهٌ أُخَرُ، هَذَا أَظْهَرُهَا عِنْدِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ «النُّزُلَ» ، هُوَ مَا يُهَيَّأُ مِنَ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ أَوِ الْقَادِمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا. أَيْ: خَالِدِينَ فِي جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، أَيْ: تَحَوُّلًا إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ ; لِأَنَّهَا لَا يُوجَدُ مَنْزِلٌ أَحْسَنُ مِنْهَا يُرْغَبُ فِي التَّحَوُّلِ إِلَيْهِ عَنْهَا، بَلْ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 دَائِمًا مِنْ غَيْرِ تَحَوُّلٍ وَلَا انْتِقَالٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ [35 \ 35] ، أَيِ: الْإِقَامَةِ أَبَدًا، وَقَوْلِهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، [18 \ 2 - 3] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دَوَامِهِمْ فِيهَا، وَدَوَامِ نَعِيمِهَا لَهُمْ، وَالْحِوَلُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا. أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي [18 \ 109] ، أَيْ: لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا لِلْأَقْلَامِ الَّتِي تَكْتُبُ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ «لَنَفِدَ الْبَحْرُ» أَيْ: فَرَغَ وَانْتَهَى قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، أَيْ: بِبَحْرٍ آخَرَ مِثْلِهِ مَدَدًا، أَيْ: زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ «مَدَدًا» مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَصِحُّ إِعْرَابُهُ حَالًا، وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى إِيضَاحًا فِي سُورَةِ «لُقْمَانَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [31 \ 27] ، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى لَا نَفَادَ لَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [18 \ 110] ، أَيْ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا غَيْرُ بِشَرٍ، بَلْ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَيْ: بَشَرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَنِي وَخَصَّنِي بِمَا أَوْحَى إِلَيَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَشَرْعِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [18 \ 110] ، أَيْ: فَوَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ «فُصِّلَتْ» : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [41 \ 7 - 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 93] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ الْآيَةَ [6 \ 50] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ بَشَرٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أَوْحَى إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ جَاءَ مِثْلُهُ عَنِ الرُّسُلِ غَيْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [14 \ 11] ، فَكَوْنُ الرُّسُلِ مِثْلَ الْبَشَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَصْلَ الْجَمِيعِ وَعُنْصُرَهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ تَجْرِي عَلَى جَمِيعِهِمُ الْأَعْرَاضُ الْبَشَرِيَّةُ لَا يُنَافِي تَفْضِيلَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ بِمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَاصْطِفَائِهِ وَتَفْضِيلِهِ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَمَنْ زَعَمَ مِنْكُمْ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنَّنِي لَا أَعْلَمَ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ كَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهَذَا لَهُ اتِّجَاهٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا. قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [18 \ 110] ، يَشْمَلُ كَوْنَهُ يَأْمُلُ ثَوَابَهُ، وَرُؤْيَةَ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَوْنَهُ يَخْشَى عِقَابَهُ، أَيْ: فَمَنْ كَانَ رَاجِيًا مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالسَّلَامَةَ مِنَ الشَّرِّ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَغَيْرِ الصَّالِحِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَيْ: لَا يُرَائِي النَّاسَ فِي عَمَلِهِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَجْلِ رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرِّيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، وَقَدْ سَاقَ طَرَفَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [18 \ 110] ، أَعَمُّ مِنَ الرِّيَاءِ وَغَيْرِهِ، أَيْ: لَا يَعْبُدُ رَبَّهُ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ خَالِقِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ [4 \ 48] ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيَقُولُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [22 \ 31] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِي يُشْرِكُ أَحَدًا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَا يَعْمَلُ صَالِحًا أَنَّهُ لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ، وَالَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ لَا خَيْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا مَضَى قَرِيبًا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ الْآيَةَ [18 \ 105 - 106] ; لِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِلِقَاءِ اللَّهِ لَا يَرْجُو لِقَاءَهُ، وَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [29 \ 23] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [7 \ 147] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [6 \ 31] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «يُونُسَ» : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [10 \ 45] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [25 \ 21] ، وَقَوْلِهِ فِي «الرُّومِ» : وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [30 \ 16] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ الرَّجَاءَ كَقَوْلِهِ هُنَا يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [18 \ 110] ، يُسْتَعْمَلُ فِي رَجَاءِ الْخَيْرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَوْفِ أَيْضًا، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي رَجَاءِ الْخَيْرِ مَشْهُورٌ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الرَّجَاءِ فِي الْخَوْفِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يُرْجَ لَسْعُهَا ... وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَاسِلُ فَقَوْلُهُ «لَمْ يُرْجَ لَسْعُهَا» أَيْ: لَمْ يُخَفْ لَسْعُهَا، وَيُرْوَى حَالَفَهَا بِالْحَاءِ وَالْخَاءِ، وَيُرْوَى عَوَاسِلُ بِالسِّينِ، وَعَوَامِلُ بِالْمِيمِ. فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجَاءَ يُطْلَقُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ يَخَافُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الشَّرِّ كَالْعَكْسِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [18 \ 110] ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيِّ الْغَامِدِيِّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّنِي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى وَأُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَضَعْفُ هَذَا السَّنَدِ مَشْهُورٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَكَانِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَتَصَدَّقُ وَأَصِلُ الرَّحِمَ، وَلَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيُذْكَرُ ذَلِكَ مِنِّي، وَأُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، وَأُعْجَبُ بِهِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [18 \ 110] ، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَعَلَهُ لِلَّهِ وَلَوْ سَرَّهُ اطِّلَاعُ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ سُرُورُهُ بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِيهِ، وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَقِفُ مَوَاقِفَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنَّ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَاتِلُ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى مَكَانُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مِنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ إِذَا صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَذُكِرَ بِخَيْرٍ ارْتَاحَ لَهُ، فَزَادَ فِي ذَلِكَ لِمَقَالَةِ النَّاسِ فَلَامَهُ اللَّهُ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ وَأَلْتَمِسُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِي خَيْرٌ، فَنَزَلَتْ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ اهـ، مِنَ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ مَرْيَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: كهيعص [19 \ 1] ، فِي سُورَةِ «هُودٍ» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [19 \ 2] ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ «كهيعص» ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ لَفْظَةُ «ذِكْرُ» مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَلَفْظَةُ «رَحْمَةٍ» مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ «رَبِّكَ» ، وَقَوْلُهُ: عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ «رَحْمَةِ» الْمُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وَقَوْلُهُ: «زَكَرِيَّا» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «عَبْدَهُ» أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي يُتْلَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا أَيْ: دَعَاهُ فِي سِرٍّ وَخُفْيَةٍ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعَائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً الْآيَةَ [6 \ 63] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [7 \ 55] ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ إِخْفَائِهِ دُعَاءَهُ أَنَّهُ خَوَّفَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَلُومُوهُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ، فِي حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْوَلَدُ عَادَةً لِكِبَرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 سِنِّهِ وَسِنِّ امْرَأَتِهِ، وَكَوْنِهَا عَاقِرًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَخْفَاهُ ; لِأَنَّهُ طَلَبُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَإِنْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِيهِ نَالَ مَا كَانَ يُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَحَدٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْأَظْهَرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّرَّ فِي إِخْفَائِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِعْلَانِ فِي الدُّعَاءِ، وَدُعَاءُ زَكَرِيَّا هَذَا لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكَانَهُ وَلَا وَقْتَهُ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [3 \ 37 - 38] ، فَقَوْلُهُ «هُنَالِكَ» أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ عِنْدَ مَرْيَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «هُنَالِكَ» أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَا رُبَّمَا أُشِيرَ بِهَا إِلَى الزَّمَانِ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [19 \ 4] ، أَيْ: ضَعُفَ، وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَعْفَ الْعَظْمِ ; لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ فَإِذَا وَهَنَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وَهْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَدَنِ. وَقَوْلُهُ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي «الرَّأْسِ» قَامَا مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذِ الْمُرَادُ: وَاشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا، وَالْمُرَادُ بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا: انْتِشَارُ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِيهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشِّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا، وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا، فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ انْتَهَى مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشَارِ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ، بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِي الْأَمَلَا ... وَمَا ارْعَوَيْتُ وَشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلَا وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ. وَاشْتَعَلَ الْمِبْيَضُ فِي مُوَسَّدِهِ ... مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وَقَوْلُهُ «شَيْبًا» تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ فِي أَظْهَرِ الْأَعَارِيبِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ «وَاشْتَعَلَ» لِأَنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنَى شَابَ، فَيَكُونُ «شَيْبًا» مَصْدَرًا مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمَنْ زَعَمَ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ هُنَا: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [19 \ 8] ، وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ الْآيَةَ [3 \ 40] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [19 \ 4] ، أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا، أَيْ: لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [20 \ 117] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. مَعْنَى قَوْلِهِ: خِفْتُ الْمَوَالِيَ [19 \ 5] ، أَيْ: خِفْتُ أَقَارِبِي وَبَنِي عَمِّي وَعُصْبَتِي: أَنْ يُضَيِّعُوا الدِّينَ بَعْدِي، وَلَا يَقُومُوا لِلَّهِ بِدِينِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، فَارْزُقْنِي وَلَدًا يَقُومُ بَعْدِي بِالدِّينِ حَقَّ الْقِيَامِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «يَرِثُنِي» أَنَّهُ إِرْثُ عِلْمٍ وَنُبُوَّةٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ، لَا إِرْثَ مَالٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [19 \ 5] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ يَعْقُوبَ انْقَرَضُوا مِنْ زَمَانٍ، فَلَا يُورَثُ عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ وَالدِّينُ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ، وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، قَالُوا: نَعَمْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوَفِّي أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ يَرِثُكَ إِذَا مِتَّ؟ قَالَ: وَلَدِي وَأَهْلِي، قَالَتْ: فَمَا لَنَا لَا نَرِثُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ» ، وَلَكِنْ أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُولُهُ، وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ بَلِ الْعِلْمُ وَالدِّينُ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ «لَا نُورَثُ» يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ آنِفًا: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «لَا نُورَثُ» نَفْسُهُ، وَصَدَّقَهُ الْجَمَاعَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ كَوْنِ الْمَوْرُوثِ عَنْ زَكَرِيَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا هُوَ الْمَالُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ صِيغَةِ الْجَمْعِ شُمُولُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقَوْلُ عُمَرَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ نَصٍّ مِنَ السُّنَّةِ بِهِ ; لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ «يُرِيدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ» لَا يُنَافِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ يُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ إِنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ غَيْرَهُ، وَكَوْنُهُ يَعْنِي نَفْسَهُ لَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُورَثُ أَيْضًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ صَرِيحًا فِي عُمُومِ عَدَمِ الْإِرْثِ الْمَالِيِّ فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْأُصُولِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وَغَيْرِهِمْ بِلَفْظِ «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» فَقَدْ أَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِخُصُوصِ لَفْظِ «نَحْنُ» لَكِنْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ.» الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مِنْ أَتْقَنِ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ، وَأَوْرَدَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِنَحْوِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ رِوَايَةِ أَمِّ هَانِئٍ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ بِلَفْظِ «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ» انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِيهِ هَذِهِ الطُّرُقَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِعُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ إِنْكَارَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لِخُصُوصِ لَفْظِ «نَحْنُ» وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي أَشَارَ لَهَا يَشُدُّ بَعْضُهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْبَيَانَ يَصِحُّ بِكُلِّ مَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَلَوْ قَرِينَةٌ أَوْ غَيْرُهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَعَلَيْهِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا نُورَثُ» أَنَّهُ يَعْنِي نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَالْبَيَانُ إِرْشَادٌ وَدَلَالَةٌ يَصِحُّ بِكُلِّ شَيْءٍ يُزِيلُ اللَّبْسَ عَنِ النَّصِّ مِنْ نَصٍّ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيَانِ وَمَا بِهِ الْبَيَانُ:. تَصْيِيرُ مُشْكَلٍ مِنَ الْجَلِيِّ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّبِيِّ إِذَا أُرِيدَ فَهْمُهُ وَهْوَ بِمَا مِنَ الدَّلِيلِ مُطْلَقًا يَجْلُو الْعَمَا وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا تَعْلَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، يَعْنِي وِرَاثَةَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا الْمَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ الْآيَةَ [27 \ 16] ، فَتِلْكَ الْوِرَاثَةُ أَيْضًا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، وَالْوِرَاثَةُ قَدْ تُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [35 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [42 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ الْآيَةَ [7 \ 169] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ، قَالَ صَاحِبُ) تَمْيِيزُ الطَّيِّبِ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 الْخَبِيثِ، فِيمَا يَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ مِنَ الْحَدِيثِ (: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا بِزِيَادَةِ «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ» وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ) كَشْفُ الْخَفَاءِ وَمُزِيلُ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَاسِ (: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا بِزِيَادَةِ «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ.» الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا، وَحَسَّنَهُ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُمْ لِاضْطِرَابِ سَنَدِهِ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ: لَهُ طُرُقٌ يُعْرَفُ بِهَا أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ صَلَاحِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِ طُرُقِهِ بِبَعْضٍ، فَإِذَا عَلِمْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ لَا وِرَاثَةَ مَالٍ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا وِرَاثَةُ مَالٍ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا وَبِالنِّسْبَةِ لِآلِ يَعْقُوبَ فِي قَوْلِهِ «وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ قَالَ: إِنَّ وِرَاثَتَهُ لِزَكَرِيَّا وِرَاثَةَ مَالٍ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ» أَيْ: مَا يَضُرُّهُ إِرْثُ وَرَثَتِهِ لِمَالِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَرْجَحُ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ ; لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [19 \ 5] ، وَجْهُ خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا يَكُونُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِهِ ; لِيَسُوسَهُمْ بِنُبُوَّتِهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ ; لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ عَلَى مَالِهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ، وَأَنْ يَأْنَفَ مِنْ وِرَاثَةِ عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِيَحُوزَ مِيرَاثَهُ دُونَهُمْ وَهَذَا وَجْهٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ ; بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجْمَعُ مَالًا، وَلَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» وَعَلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [19 \ 6] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ; كَقَوْلِهِ: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [27 \ 16] ، أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ: أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ» اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ، ثُمَّ سَاقَ بَعْدَ هَذَا طُرُقَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ «يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّا وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مَالِهِ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ فِي أَسَانِيدِهِ: وَهَذِهِ مُرْسَلَاتٌ لَا تُعَارِضُ الصِّحَاحَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» وَلَفْظَ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ «إِنَّ» دَخَلَتْ عَلَى «نَحْنُ» فَأَبْدَلَتْ لَفْظَةَ «نَحْنُ» الَّتِي هِيَ الْمُبْتَدَأُ بِلَفْظَةِ «نَا» الصَّالِحَةِ لِلنَّصْبِ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّهَا فِي أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أُكِّدَتْ بِـ «إِنَّ» كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَعْنِي بِهَذَا الْوَلِيِّ الْوَلَدَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقِصَّةِ نَفْسِهَا هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [3 \ 38] ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ الْوَلَدُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [21 \ 89] ، فَقَوْلُهُ «لَا تَذَرْنِي فَرَدًا» ، أَيْ: وَاحِدًا بِلَا وَلَدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَنْ زَكَرِيَّا: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي، أَيْ: مِنْ بَعْدِي إِذَا مِتُّ أَنْ يُغَيِّرُوا فِي الدِّينِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَوَالِيَ الْأَقَارِبُ وَالْعَصَبَاتُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ [4 \ 33] ، وَالْمَوْلَى فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ يُوَالِيكَ وَتَوَالِيهِ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ ; لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ يُوَالِي ابْنَ عَمِّهِ بِالْقَرَابَةِ الْعَصَبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: وَاعْلَمْ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِّ أَنَّهُ ... إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهُوَ ذَلِيلٌ يَعْنِي إِذَا ذَلَّتْ بَنُو عَمِّهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ، وَقَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: مَهْلًا ابْنَ عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فِي زَمَنِ شَبَابِهَا، وَالْعَاقِرُ: هِيَ الْعَقِيمُ الَّتِي لَا تَلِدُ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 فَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأُنْثَى هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا أَيْضًا: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [3 \ 40] ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الذَّكَرِ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: لَبِئْسَ الْفَتَى إِنْ كَنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا ... جَبَانًا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَنَّهُ أَزَالَ عَنْهَا الْعُقْمَ، وَأَصْلَحَهَا، فَجَعَلَهَا وَلُودًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [21 \ 90] ، فَهَذَا الْإِصْلَاحُ هُوَ كَوْنُهَا صَارَتْ تَلِدُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَقِيمًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِصْلَاحَهَا الْمَذْكُورَ هُوَ جَعْلُهَا حَسَنَةَ الْخُلُقِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ لِجَوَازِ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا، مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْإِصْلَاحِ هُوَ جَعْلُهَا وَلُودًا بَعْدَ الْعُقْمِ هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ زَكَرِيَّا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [19 \ 6] ، أَيْ: مَرْضِيًّا عِنْدَكَ وَعِنْدَ خَلْقِكَ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَدِينِهِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ، وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [19 \ 6] ، قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِإِسْكَانِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، أَعْنِي يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَجْزُومَانِ لِأَجْلِ جَوَابِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ «هَبْ لِي» وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الطَّلَبِ، وَتَقْدِيرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، إِنْ تَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، يَرْفَعُ الْفِعْلَيْنِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ «وَلِيًّا» أَيْ: وَلِيًّا وَارِثًا لِي، وَوَارِثًا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَنَعَتُوا بِجُمْلَةٍ مُنَكَّرًا فَأُعْطِيَتْ مَا أُعْطِيَتْهُ خَبَرًا وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ أَوْضَحُ مَعْنَى، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي، وَالْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا، وَقَرَأَ «زَكَرِيَّا» بِلَا هَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا «زَكَرِيَّاءَ» بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَدَّ فِي قَوْلِهِ: «وَزَكَرِيَّاءُ إِذْ نَادَى» ، مُنْفَصِلٌ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ، وَمُتَّصِلٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الَّتِي هِيَ هَمْزَةُ «إِذَا» مُسَهَّلَةٌ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَمُحَقَّقَةٌ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ، وَقِرَاءَةُ خِفْتُ الْمَوَالِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِمَعْنَى أَنَّ مَوَالِيَهُ خَفُّوا أَيْ: قَلُّوا شَاذَّةٌ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا وَإِنْ رُوِيَتْ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَامْرَأَةُ زَكَرِيَّا الْمَذْكُورَةُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ إِيشَاعُ بِنْتُ فَاقُوذَ بْنِ قَبِيلٍ، وَهِيَ أُخْتُ حِنَّةَ بِنْتِ فَاقُوذَا، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَحِنَّةُ: هِيَ أُمُّ مَرْيَمَ، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: امْرَأَةُ زَكَرِيَّا هِيَ إِيشَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يَحْيَى بْنُ خَالَةِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ابْنَ خَالَةِ أُمِّهِ، وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَلَقِيتُ ابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى» شَاهِدًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ اهـ، مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ شَهَادَةُ الْحَدِيثِ لِلْقَوْلِ الثَّانِي لَا لِلْأَوَّلِ، خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَنُودِيَ: يَازَكَرِيَّا الْآيَةَ [19 \ 7] ، وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذَا الَّذِي أَجْمَلَهُ هُنَا، فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي نَادَاهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّ النِّدَاءَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [3 \ 39] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَطْلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرَادَ جِبْرِيلَ، وَمَثَّلَ بِهِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ قَائِلًا: إِنَّهُ أَرَادَ بِعُمُومِ الْمَلَائِكَةِ خُصُوصَ جِبْرِيلَ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ لِلْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِرَارًا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اسْمُهُ يَحْيَى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ، وَلَمْ يَكِلْ تَسْمِيَتَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِيَحْيَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ السَّمِيَّ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ سَمِيُّ فَلَانٍ أَيْ: مُسَمًّى بِاسْمِهِ، فَمَنْ كَانَ اسْمُهُمَا وَاحِدًا فَكِلَاهُمَا سَمِيُّ الْآخَرِ، أَيْ: مُسَمًّى بِاسْمِهِ. وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ السَّمِيِّ يَعْنِي الْمُسَامِيَّ، أَيِ: الْمُمَاثِلَ فِي السُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وَالشَّرَفِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِنَ السُّمُوِّ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، وَيَكْثُرُ فِي اللُّغَةِ إِتْيَانُ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمُفَاعِلِ، كَالْقَعِيدِ وَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُقَاعِدِ وَالْمُجَالِسِ، وَالْأَكِيلِ وَالشَّرِيبِ بِمَعْنَى الْمُؤَاكِلِ وَالْمُشَارِبِ، وَكَذَلِكَ السَّمِيُّ بِمَعْنَى الْمُسَامِيِّ، أَيِ: الْمُمَاثِلِ فِي السُّمُوِّ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [19 \ 7] ، أَيْ: لَمْ نَجْعَلْ مِنْ قَبْلِهِ أَحَدًا يَتَسَمَّى بِاسْمِهِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَانَ اسْمُهُ يَحْيَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ سَمِيًّا، أَيْ: نَظِيرًا فِي السُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ غَيْرُ صَوَابٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَنُوحٍ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ، وَيُرْوَى الْقَوْلُ الثَّانِي عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، أَيْ: لَمْ نُسَمِّ أَحَدًا بِاسْمِهِ قَبْلَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [19 \ 65] ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مُمَاثِلٌ يُسَامِيهِ فِي الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يُسَمَّى بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَلَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا بُشِّرَ بِيَحْيَى قَالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [19 \ 8] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَهُ هُنَا ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [3 \ 40] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [19 \ 8] ، قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «عِتِيًّا» بِكَسْرِ الْعَيْنِ اتِّبَاعًا لِلْكَسْرَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَمُجَانَسَةً لِلْيَاءِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ «عُتِيًّا» بِضَمِّهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، أَنَّهُ بَلَغَ غَايَةَ الْكِبَرِ فِي السِّنِّ، حَتَّى نُحِلَّ عَظْمُهُ وَيَبِسَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ وَقَدْ عَتَوْتُ مِنَ الْكِبَرِ فَصِرْتُ نَحِيلَ الْعِظَامِ يَابِسَهَا، يُقَالُ مِنْهُ لِلْعُودِ الْيَابِسِ: عُودٌ عَاتٍ وِعَاسٍ، وَقَدْ عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا وَعِتِيًّا، وَعَسَا يَعْسُو عِسِيًّا وَعُسُوًّا، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ إِلَى غَايَةٍ فِي كِبَرٍ أَوْ فَسَادٍ أَوْ كُفْرٍ فَهُوَ عَاتٍ وَعَاسٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 تَنْبِيهٌ فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ اسْتِفْهَامِ زَكَرِيَّا فِي قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ، مَعَ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عِنْدَ آيَاتِ الْكِتَابِ (فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» وَوَاحِدٌ مِنْهَا فِيهِ بُعْدٌ وَإِنْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا. الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْتِفْهَامَ زَكَرِيَّا اسْتِفْهَامُ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلِ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِالْوَلَدِ مِنْ زَوْجَةِ الْعَجُوزِ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِمَا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، أَوْ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ شَابَّةً، أَوْ يَرُدُّهُمَا شَابَّيْنِ؟ فَاسْتَفْهَمَ عَنِ الْحَقِيقَةِ لِيَعْلَمَهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا، وَهُوَ أَظْهَرُهَا. الثَّانِي: أَنَّ اسْتِفْهَامَهُ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ بُعْدًا هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ: مِنْ أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا نَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى، قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: لَيْسَ هَذَا نِدَاءُ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نِدَاءُ الشَّيْطَانِ، فَدَاخَلَ زَكَرِيَّا الشَّكُّ فِي أَنَّ النِّدَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ الشَّكِّ النَّاشِئِ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ قَبْلَ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ [19 \ 8] ، وَلِذَا طَلَبَ الْآيَةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً الْآيَةَ [19 \ 10] ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى زَكَرِيَّا نِدَاءُ الْمَلَائِكَةِ بِنِدَاءِ الشَّيْطَانِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «عِتِيًّا» أَصْلُهُ عُتُوًّا، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعِتِيِّ الْكِبَرِ الْمُتَنَاهِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّمَا يُعْذَرُ الْوَلِيدُ وَلَا يُعْ ... ذَرُ مَنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ عِتِيًّا وَقِرَاءَةُ «عِسِيًّا» بِالسِّينِ شَاذَّةٌ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [3 \ 40] ، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «كَذَلِكَ» لِلْعُلَمَاءِ فِي إِعْرَابِهِ أَوْجُهٌ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ، الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَا مَحَالَةَ أَنْ تَلِدَ الْغُلَامَ الْمَذْكُورَ، وَقِيلَ، الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَنْتَ كَبِيرٌ فِي السِّنِّ، وَامْرَأَتُكَ عَاقِرٌ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: قَالَ رَبُّكَ [19 \ 9] ، ابْتِدَاءُ كَلَامٍ: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «كَذَلِكَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِـ «قَالَ» وَعَلَيْهِ فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ «ذَلِكَ» إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَنَظِيرُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [15 \ 66] ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ مِنْ أَوْجُهِ إِعْرَابِهِ تَرَكْنَاهُ لِعَدَمِ وُضُوحِهِ عِنْدَنَا، وَقَوْلُهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أَيْ: يَسِيرٌ سَهْلٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا أَيْ: وَمَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُرْزُقَكَ الْوَلَدَ الْمَذْكُورَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُنَا لِزَكَرِيَّا: مِنْ أَنَّهُ خَلَقَهُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا أَشَارَ إِلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [19 \ 67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [76 \ 1] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ وُجُودُهُ شَيْءٌ، مُسْتَدِلِّينَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 \ 82] ، قَالُوا: قَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ لَيْسَ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَجِبْتُ مِنْ لَا شَيْءَ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَضَاقَتِ الْأَرْضُ حَتَّى كَانَ هَارِبُهُمْ ... إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا لِأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: غَيْرَ شَيْءٍ، أَيْ: إِذَا رَأَى شَيْئًا تَافِهًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَأَنَّهُ لَا شَيْءَ لِحَقَارَتِهِ ظَنَّهُ رَجُلًا ; لِأَنَّ غَيْرَ شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يَصِحُّ وُقُوعُ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّحْقِيقُ هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ: مِنْ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْدُومَ لَمَّا تَعَلَّقَتِ الْإِرَادَةُ بِإِيجَادِهِ، صَارَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ كَوُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [16 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [18 \ 99] ، وَقَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ الْآيَةَ [39 \ 69] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وَقَوْلِهِ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [39 \ 73] ، وَقَوْلِهِ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، كُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ فِيمَا مَضَى أُطْلِقَتْ مُرَادًا بِهَا الْمُسْتَقْبَلُ ; لِأَنَّ تَحَقُّقَ وُقُوعِ مَا ذُكِرَ صَيَّرَهُ كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ شَيْئًا قَبْلَ وُجُودِهِ لِتَحَقُّقِ وَجُودِهِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ، قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ «خَلَقْتُكَ» بِتَاءِ الْفَاعِلِ الْمَضْمُومَةِ الَّتِي هِيَ تَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «وَقَدْ خَلَقْنَاكَ» بَنُونٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا. الْمُرَادُ بِالْآيَةِ هُنَا الْعَلَامَةُ، أَيِ: اجْعَلْ لِي عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وُقُوعَ مَا بُشِّرْتُ بِهِ مِنَ الْوَلَدِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: طَلَبَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ لِتَتِمَّ طُمَأْنِينَتُهُ بِوُقُوعِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَنَظِيرُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [2 \ 260] ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَلَّامَةِ أَنْ يَعْرِفَ ابْتِدَاءَ حَمْلِ امْرَأَتِهِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي أَوَّلِ زَمَنِهِ يَخْفَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا أَيْ: عَلَامَتُكَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، أَيْ: أَنْ تُمْنَعَ الْكَلَامَ فَلَا تُطِيقُهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهِنَّ فِي حَالِ كَوْنِكَ سَوِيًّا، أَيْ: سَوِيَّ الْخَلْقِ، سَلِيمَ الْجَوَارِحِ، مَا بِكَ خَرَسٌ وَلَا بُكْمٌ وَلَكِنَّكَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» ، أَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [3 \ 41] ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى، ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، أَيْ: ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ مَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ كَوْنِ اعْتِقَالِ لِسَانِهِ عَنْ كَلَامِ قَوْمِهِ لَيْسَ لِعِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ حَدَثَ بِهِ، وَلَكِنْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى هُنَا «ثَلَاثَ لَيَالٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا أَيَّامَهَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْأَيَّامَ فِي «آلِ عِمْرَانَ» ، فِي قَوْلِهِ: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [3 \ 41] ، فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ لَيَالِي بِأَيَّامِهِنَّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، يَعْنِي إِلَّا بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [19 \ 11] ، وَقَوْلُهُ فِي «آلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 عِمْرَانَ» : قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [3 \ 41] ; لِأَنَّ الرَّمْزَ: الْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِبِ، وَالْإِيحَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْإِشَارَةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «إِلَّا رَمْزًا» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَحْيَ فِي الْآيَةِ الْإِشَارَةُ: قَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ مُنَبِّهٍ، وَالْعُتْبِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ «فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ» ، أَيْ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَتَبَ لَهُمْ فِي كِتَابٍ، وَالْوَحْيُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ إِلْقَاءٍ فِي سُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَى الْإِلْهَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الْآيَةَ [16 \ 68] ، وَعَلَى الْإِشَارَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الْآيَةَ [19 \ 11] ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكِتَابَةِ كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَإِطْلَاقُ الْوَحْيِ عَلَى الْكِتَابَةِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيُّ سِلَامُهَا فَقَوْلُهُ «الْوُحِيُّ» بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، جَمْعُ وَحَيٍ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ. وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ... فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِي وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةٌ وُحِيٍّ فِي وَنِّ الصَّحَائِفِ وَقَوْلُ جَرِيرٍ: كَأَنَّ أَخَا الْكِتَابِ يَخُطُّ وَحَيًا ... بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا وَلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ زَكَرِيَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَوْ كَتَبَ لَهُمْ: أَنْ سَبِّحُوا اللَّهَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَالْبُكْرَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ آخِرُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي «آلِ عِمْرَانَ» أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ زَكَرِيَّا قَوْمَهُ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ مِنَ التَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ زَكَرِيَّاءَ بِهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [3 \ 41] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمِحْرَابَ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ هُوَ الْمِحْرَابُ الَّذِي بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [3 \ 39] ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالْمِحْرَابُ: أَرْفَعُ الْمَوَاضِعِ، وَأَشْرَفُ الْمَجَالِسِ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ الْمَحَارِيبَ فِيمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ اهـ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَحَارِيبُ: صُدُورُ الْمَجَالِسِ، وَمِنْهُ سُمِّي مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ، وَالْمِحْرَابُ: الْغُرْفَةُ، قَالَ وَضَّاحُ الْيَمَنِ: رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا ... لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أَرْتَقِي سُلَّمًا وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ الْآيَةَ [3 \ 37] . ؤتَنْبِيهٌ أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَشْرُوعِيَّةَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ الْمِحْرَابَ مَوْضِعُ صَلَاةِ زَكَرِيَّا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [3 \ 39] ، وَالْمِحْرَابُ أَرْفَعُ مِنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذُكِرَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ارْتِفَاعَ إِمَامِهِمْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، مُتَمَسِّكًا بِقِصَّةِ الْمِنْبَرِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي الِارْتِفَاعِ الْكَثِيرِ دُونَ الْيَسِيرِ، وَعَلَّلَ أَصْحَابُهُ الْمَنْعَ بِخَوْفِ الْكِبْرِ عَلَى الْإِمَامِ. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا، أَوْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، ذَكَرْتُ ذَلِكَ حِينَ مَدَدْتَنِي، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَدَيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارُ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّارٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَلَا يَقُمْ فِي مَكَانٍ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ عَمَّارٌ: لِذَلِكَ اتَّبَعْتُكَ حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدَيَّ. قُلْتُ: فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَخْبَرُوا بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِحَدِيثِ الْمِنْبَرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ: أَنَّ فِيهِ عَمَلًا زَائِدًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ النُّزُولُ وَالصُّعُودُ، فَنُسِخَ كَمَا نُسِخَ الْكَلَامُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 اعْتَذَرَ بِهِ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الْكِبْرِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَئِمَّةِ يُوجَدُونَ لَا كِبْرَ عِنْدِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَهُ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمِنْبَرِ كَانَ يَسِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: سَنَتَكَلَّمُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَنُبَيِّنُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَدِلَّتَهُمْ وَمَا يَظْهَرُ رَجَّحْنَاهُ بِالدَّلِيلِ. أَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ فَقَدْ سَاقَهُمَا أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ وَأَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيُّ الْمَعْنَى قَالَ: ثَنَا يَعْلَى، ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو خَالِدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ فِيهِ عَنْ عَمَّارٍ رَجُلٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ كَمَا تَرَى، وَأَمَّا الْأَثَرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا صَرِيحًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) التَّلْخِيصِ (فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَثَرِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ: وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ التَّصْرِيحُ بِرَفْعِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ كَانَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَالَّذِي جَبَذَهُ حُذَيْفَةُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لَكِنَّ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ أَسْفَلَ مِنْهُ، اهـ مِنَ التَّلْخِيصِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ عَلَى الدُّكَّانِ وَجَبْذِ أَبِي مَسْعُودٍ لَهُ الْمَذْكُورِ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ وَمُصَنِّفِيهِمْ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَيُقَالُ جَذَبَ وَجَبَذَ، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ اهـ مِنْهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمِنْبَرِ الَّتِي أَشَارَ لَهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهَا حُجَّةُ مَنْ يُجِيزُ ارْتِفَاعَ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَهِيَ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ وُضِعَ، فَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 الْمَسْأَلَةِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا هُوَ كَرَاهَةَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، كَارْتِفَاعِ الْإِمَامِ لِيُعَلِّمَ الْجَاهِلِينَ الصَّلَاةَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِلَاتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّعْلِيمِ، وَكَارْتِفَاعِ الْمَأْمُومِ لِيُبَلِّغَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ تَكْبِيرَاتِ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا لِنَحْوِ هَذَا الْغَرَضِ اسْتُحِبَّ لَهُ الِارْتِفَاعَ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: هَذَا مَذْهَبُنَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ، أَنَّهُ يَكْرَهُ الِارْتِفَاعَ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ. وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَعَكْسِهِ، فَعُلُوُّ الْمَأْمُومِ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَى كَرَاهَتِهِ، وَبَقِيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلِهِ بِجَوَازِهِ، وَعُلُوُّ الْإِمَامِ لَا يُعْجِبُهُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ كَرِهَهُ، وَأَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَجُوزُ، وَعُلُوُّ مَأْمُومٍ وَلَوْ بِسَطْحٍ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْجِبُنِي، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ أَيْضًا، وَقَوْلِهِ «يُعْجِبُنِي» ظَاهِرٌ فِي الْكَرَاهَةِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ، وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَقْصِدِ الْمُرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ التَّكَبُّرَ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ قَصَدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمْ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعُلُوُّ مَأْمُومٍ وَلَوْ بِسَطْحٍ لَا عَكْسُهُ، وَبِطَلَبٍ بِقَصْدِ إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ بِهِ الْكِبْرَ إِلَّا بِكَشِبْرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ «إِلَّا بِكَشِبْرٍ» يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِارْتِفَاعُ بِكَشِبْرٍ، وَنَحْوُ الشِّبْرِ عَظْمُ الذِّرَاعِ عِنْدَهُمْ، وَمَحَلُّ جَوَازِ الِارْتِفَاعِ الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْكِبْرُ، فَقَوْلُهُ «إِلَّا بِكَشِبْرٍ» مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ «لَا عَكْسُهُ» لَا مِنْ مَسْأَلَةِ قَصْدِهِ الْكِبْرَ فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا: قَالَ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ لِكَلَامِ خَلِيلٍ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ عَلَى شَيْءٍ أَرْفَعَ مِمَّا يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ خَلْفَهُ، مِثْلَ الدُّكَّانِ يَكُونُ فِي الْمِحْرَابِ وَنَحْوِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ فَعَلَ أَعَادُوا أَبَدًا، لِأَنَّهُمْ يَعْبَثُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُكَّانًا يَسِيرَ الِارْتِفَاعِ مِثْلَ مَا كَانَ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فَتُجْزِئُهُمُ الصَّلَاةُ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: مِثْلَ الشِّبْرِ وَعَظْمِ الذِّرَاعِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَانْظُرْ إِذَا صَلَّى الْمُقْتَدِي كَذَلِكَ أَعْنِي عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ قَصْدًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 إِلَى التَّكَبُّرِ عَنْ مُسَاوَاةِ الْإِمَامِ، قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: صَلَاتُهُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ «لِأَنَّهُمْ يَعْبَثُونَ» يَعْنِي بِرَفْعِ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ عَادٍ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [26 \ 128 - 129] ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ مَعَ الْإِمَامِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ سَائِرَ النَّاسِ، أَعْنِي لَيْسَتْ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ وَأَعْيَانِهِمْ، فَفِي نَفْيِ الْكَرَاهَةِ بِذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ يَجُوزُ إِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ طَائِفَةٌ كَغَيْرِهِمْ تُرَدِّدُ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ أَنَّ ارْتِفَاعَ كُلٍّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى الْآخَرِ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يُكْرَهُ عُلُوُّ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الِارْتِفَاعِ غَيْرِ الْيَسِيرِ، وَلَا كَرَاهَةَ عِنْدَهُمْ فِي الْيَسِيرِ: وَقَدْرُ الِارْتِفَاعِ الْمُوجِبِ لِلْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ قَدْرُ قَامَةٍ، وَلَا بَأْسَ بِمَا دُونَهَا، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: وَقِيلَ هُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ: مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ ذِرَاعٍ اعْتِبَارًا بِالسُّتْرَةِ، قَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ جَمَاعَةٌ فِي مَكَانِهِ الْمُرْتَفِعِ، وَبَقِيَّةُ الْمَأْمُومِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمُ انْتَهَى بِمَعْنَاهُ) تَبْيِينُ الْحَقَائِقِ شَرْحُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ (. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَيُكْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَبَيْنَ عُلُوِّ الْمَأْمُومِ الْإِمَامَ فَيَجُوزُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُومِينَ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَعْلِيمَهُمُ الصَّلَاةَ، أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا: فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَبْطُلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ حُجَّةَ مَنْ كَرِهَ عُلُوَّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ أَوْ مَنَعَهُ هِيَ مَا قَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ جَبْذِ أَبِي مَسْعُودٍ لِحُذَيْفَةَ لَمَّا أَمَّ النَّاسَ، وَقَامَ يُصَلِّي عَلَى دُكَّانٍ، الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ لِلتَّعْلِيمِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَوَابُ الْمُخَالِفِينَ عَنْ صِلَاتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، بِأَنَّهُ ارْتِفَاعٌ يَسِيرٌ، وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ عَلَى الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ صَلَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُوَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ «فِي التَّلْخِيصِ» : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يُصَلِّي فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْقَعْنَبِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ صَالِحٍ، وَرَوَاهُ سَعْدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِهِ، فَقَدْ رَأَيْتَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَدِلَّتَهُمْ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وُجُوبُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ عُلُوَّ الْإِمَامِ مَكْرُوهٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِصَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِجَوَازِهِ لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ رَأَوْهُ وَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَرَهُ إِلَّا مَنْ يَلِيهِ، وَجَمْعُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ ارْتِفَاعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ ارْتِفَاعٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مُغْتَفَرٌ، أَمَّا عُلُوُّ الْمَأْمُومِ فَقَدْ تَعَارَضَ فِيهِ الْقِيَاسُ مَعَ فِعْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ارْتِفَاعِ الْمَأْمُومِ قِيَاسًا عَلَى ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْوَطَ تَجَنُّبُ عُلُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا [19 \ 11] ، هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا يُفَسِّرُ الْإِيحَاءَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهَا، فَهَذَا الَّذِي أَشَارَ لَهُمْ بِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ «أَنِ» الْمَصْدَرِيَّةَ تَأْتِي مَعَ الْأَفْعَالِ الطَّلَبِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ سَبِّحُوا، أَيْ: بِالتَّسْبِيحِ أَوْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابَةُ، وَكَوْنُهَا مُفَسِّرَةً هُوَ الصَّوَابُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مَعَ بَعْضِ صِفَاتِهِ وَلَهُ صِفَاتٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّا نُبَيِّنُهَا، وَقَدْ مَرَّ فِيهِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهَا فِي الْمَوْصُوفَاتِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا الْأَعْلَامِ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَعْلَامِ كَمَا هُنَا فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْضَ صِفَاتِ يَحْيَى، وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ مِنْهَا هُنَا، وَالْمَذْكُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. اعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا وَصَفَهُ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [19 \ 12] ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، فَقَوْلُهُ: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، أَيْ: خُذِ التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ، أَيْ: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَذَلِكَ بِتَفَهُّمِ الْمَعْنَى أَوَّلًا حَتَّى يَفْهَمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ يَعْمَلَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا: التَّوْرَاةُ، وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى يَحْيَى، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّمَةَ، وَقِيلَ: هُوَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ التَّوْرَاةُ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ، أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ الْحُكْمَ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْفَهْمَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ: إِدْرَاكَ مَا فِيهِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ صَبِيًّا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، أَيِ: الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا فَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَعْطَيْنَاهُ الْفَهْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَسْنَانَ الرِّجَالِ، وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ أَحَدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الصِّبْيَانَ قَالُوا لِيَحْيَى: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ، أَيِ: الْحِكْمَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ ... إِلَى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ، أَوْ حُكْمُ الْكِتَابِ، أَوِ الْحِكْمَةُ، أَوِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، أَوِ اللُّبُّ وَهُوَ الْعَقْلُ، أَوْ آدَابُ الْخِدْمَةِ، أَوِ الْفِرَاسَةُ الصَّادِقَةُ، أَقْوَالٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ أَنَّ الْحُكْمَ يُعْلَمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَذَلِكَ بِفَهْمِ الْكِتَابِ السَّمَاوِيِّ فَهْمًا صَحِيحًا، وَالْعَمَلِ بِهِ حَقًّا، فَإِنَّ هَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَصْلُ مَعْنَى «الْحِكَمِ» الْمَنْعُ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْعَمَلُ بِهِ يَمْنَعُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ مِنَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالنُّقْصَانِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: صَبِيًّا، أَيْ: لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: صَبِيًّا، أَيْ: شَابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْكُهُولَةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، قِيلَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ ابْنُ سَبْعٍ، وَقِيلَ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَحَنَانًا، مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمَ، أَيْ: وَآتَيْنَاهُ حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا، وَالْحَنَانُ: هُوَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، وَإِطْلَاقُ الْحَنَانِ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَنَانَكَ وَحَنَانَيْكَ يَا رَبِّ، بِمَعْنَى رَحْمَتَكَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَبِنْتَ الْحَارِثِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو ... لَهُ مُلْكُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَانِ وَيَمْنَحُهَا بَنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ ... مَعِيزَهُمُ حَنَانَكَ ذَا الْحَنَانِ يَعْنِي: رَحْمَتَكَ يَا رَحْمَنُ، وَقَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ ... بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ وَقَوْلُ مُنْذِرِ بْنِ دِرْهَمٍ الْكَلْبِيِّ: وَأَحْدَثُ عَهْدٍ مِنْ أَمِينَةَ نَظْرَةٌ ... عَلَى جَانِبِ الْعَلْيَاءِ إِذْ أَنَا وَاقِفُ فَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ هَاهُنَا ... أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بِالْحَيِّ عَارِفُ فَقَوْلُهُ «حَنَانٌ» أَيْ: أَمْرِي حَنَانٌ، أَيْ رَحْمَةٌ لَكَ، وَعَطْفٌ وَشَفَقَةٌ عَلَيْكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ أَوْ غَيْرِهِ: تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ لَدُنَّا، أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا، وَأَصَحُّ التَّفْسِيرَاتِ فِي قَوْلِهِ «وَزَكَاةً» أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: أَوْ أَعْطَيْنَاهُ زَكَاةً، أَيْ: طَهَارَةً مِنْ أَدْرَانِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي بِالطَّاعَةِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُرْضِيهِ: وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ «وَزَكَاةً» الزَّكَاةُ: التَّطْهِيرُ وَالْبَرَكَةُ وَالتَّنْمِيَةُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُبَارَكًا لِلنَّاسِ يَهْدِيهِمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: زَكَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَمَا يُزَكِّي الشُّهُودُ إِنْسَانًا، وَقِيلَ «زَكَاةً» صَدَقَةً عَلَى أَبَوَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَعْطَيْنَاهُ زَكَاةً، أَيْ: طَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي بِتَوْفِيقِنَا إِيَّاهُ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ فِي الْآيَةِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي بِهِ الطَّهَارَةُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَانَ تَقِيًّا، أَيْ: مُمْتَثِلًا لِأَوَامِرِ رَبِّهِ مُجْتَنِبًا كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِذَا لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ، وَلَمْ يُلِمَّ بِهَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، إِمَّا بِانْقِطَاعٍ، وَإِمَّا بِعَنْعَنَةِ مُدَلِّسٍ: وَإِمَّا بِضَعْفِ وَاوٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى «التَّقْوَى» مِرَارًا وَأَصْلُ مَادَّتِهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ [19 \ 14] ، الْبَرُّ بِالْفَتْحِ هُوَ فَاعِلُ الْبِرِّ بِالْكَسْرِ كَثِيرًا أَيْ: وَجَعَلْنَاهُ كَثِيرَ الْبِرِّ بِوَالِدَيْهِ، أَيْ: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، لَطِيفًا بِهِمَا، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمَا، وَقَوْلُهُ «وَبَرًّا» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ «تَقِيًّا» ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَطَاعَةِ وَالِدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ، مُتَوَاضِعًا لِوَالِدَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْجَبَّارُ: هُوَ كَثِيرُ الْجَبْرِ، أَيِ: الْقَهْرِ لِلنَّاسِ، وَالظُّلْمِ لَهُمْ، وَكُلُّ مُتَكَبِّرٍ عَلَى النَّاسِ يَظْلِمُهُمْ: فَهُوَ جَبَّارٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى شَدِيدِ الْبَطْشِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [26 \ 130] ، وَعَلَى مَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْقَتْلُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 قَوْلِهِ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [28 \ 19] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: «عَصِيًّا» فَعُولٌ قُلِبَتْ فِيهِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ: الَّتِي عَقَدَهَا ابْنُ مَالِكِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا ... وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا فَيَاءُ الْوَاوِ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا ... وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرُ مَا قَدْ رُسِمَا فَأَصْلُ «عَصِيًّا» عَلَى هَذَا «عَصُويًا» كَصَبُورٍ، أَيْ: كَثِيرَ الْعِصْيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ فَعِيلًا وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ أَيْضًا، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [19 \ 15] ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ، أَيْ: أَمَانٌ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ، فَهِيَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَمَانِ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ مُتَحَصَّلٌ لَهُ بِنَفْيِ الْعِصْيَانِ عَنْهُ وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمِ الْحَوْلِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَرْجِعُ الْقَوْلَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ مَعْنَى سَلَامٌ، التَّحِيَّةُ، الْأَمَانُ، وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْأَمَانُ، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَمَانَ مِنَ اللَّهِ، وَالتَّحِيَّةُ مِنَ اللَّهِ مَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ، تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِيَحْيَى وَمَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ، وَقَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالسَّلَامِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ وِلَادَتِهِ، وَوَقْتُ مَوْتِهِ، وَوَقْتُ بَعْثِهِ، فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ الْآيَةَ ; لِأَنَّهَا أَوْحَشُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ، قَالَ: فَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِيهَا، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنْ عِيسَى وَيَحْيَى الْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: انْتَزَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّسْلِيمِ فَضْلَ عِيسَى بِأَنْ قَالَ إِدْلَالُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 فِي التَّسْلِيمِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَكَانَتُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي اقْتَضَتْ ذَلِكَ حِينَ قُرِّرَ وَحُكِيَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ أَعْظَمُ فِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلِكُلٍّ وَجْهٌ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَلَامَ اللَّهِ عَلَى يَحْيَى فِي قَوْلِهِ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ الْآيَةَ [19 \ 15] ، أَعْظَمُ مِنْ سَلَامِ عِيسَى عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [19 \ 33] ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. تَنْبِيهٌ الْفَتْحَةُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [19 \ 15] ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي الظُّرُوفِ الثَّلَاثَةِ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لِجَوَازِ الْبِنَاءِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ فَتْحَةُ يَوْمَ وُلِدَ فَتْحَةَ بِنَاءٍ، وَفَتْحَةُ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَتْحَةَ نَصْبٍ ; لِأَنَّ بِنَاءَ مَا قَبْلَ الْفِعْلِ الْمَاضِي أَجْوَدُ مِنْ إِعْرَابِهِ وَإِعْرَابِ مَا قَبْلَ الْمُضَارِعِ وَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَجْوَدُ مِنْ بِنَائِهِ، كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَابْنِ أَوْ أَعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا ... وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا ... أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا وَالْأَحْوَالُ فِي مِثْلِ هَذَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مَبْنِيٌّ بِنَاءً أَصْلِيًّا وَهُوَ الْمَاضِي ; كَقَوْلِ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ فَبِنَاءُ الظَّرْفِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَجْوَدُ، وَإِعْرَابُهُ جَائِزٌ. الثَّانِي: أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مَبْنِيٌّ بِنَاءً عَارِضًا، كَالْمُضَارِعِ الْمَبْنِيِّ لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ النِّسْوَةِ، كَقَوْلِ الْآخَرِ: لَأَجْتَذِبَنَّ مِنْهُنَّ قَلْبِي تَحَلُّمًا ... عَلَى حِينَ يَسْتَصْبِينَ كُلَّ حَلِيمِ وَحُكْمُ هَذَا كَمَا قَبْلَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يُضَافَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مُعْرَبٌ، كَقَوْلِ أَبِي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ: إِذَا قُلْتُ هَذَا حِينَ أَسْلُو يَهِيجُنِي ... نَسِيمُ الصَّبَا مِنْ حَيْثُ يَطَّلِعُ الْفَجْرُ فَإِعْرَابُ مِثْلِ هَذَا أَجْوَدُ، وَبِنَاؤُهُ جَائِزٌ. الرَّابِعُ: أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَمْرَكِ اللَّهَ أَنَّنِي ... كَرِيمٌ عَلَى حِينِ الْكِرَامِ قَلِيلُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: تَذَكَّرَ مَا تَذَكَّرَ مِنْ سُلَيْمَى ... عَلَى حِينِ التَّوَاصُلُ غَيْرُ دَانِ وَحُكْمُ هَذَا كَمَا قَبْلَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهَ إِنَّمَا هِيَ فِي الظَّرْفِ الْمُبْهَمِ الْمَاضِي، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الظَّرْفُ الْمُبْهَمُ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ، فَإِنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ دُونَ الِاسْمِيَّةِ، فَتَكُونُ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ دُونَ الرَّابِعِ، وَأَجَازَ ابْنُ مَالِكٍ إِضَافَتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بِقِلَّةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [51 \ 13] ، وَقَوْلِ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ: وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ... بِمُغْنٍ فَتِيلًا عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ الْمَذْكُورَيْنِ مُسْتَقْبَلٌ لَا مَاضٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [3 \ 169] . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَجْهُ هَذَا الِاسْتِنْبَاطِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا، وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا، وَعَلَيْهِ فَبَعْثُهُ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ حَيًّا، وَتِلْكَ حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ كُلَّ الظُّهُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ يَحْيَى، وَذَكَرَ بَعْضَ صِفَاتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [3 \ 39] ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِعِيسَى، وَإِنَّمَا قِيلَ لِعِيسَى كَلِمَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِكَلِمَةٍ هِيَ قَوْلُهُ «كُنْ» فَكَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْآيَةَ [4 \ 171] ، وَقَالَ: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [3 \ 45] ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَلِمَةٍ: الْكِتَابُ، أَيْ: مُصَدِّقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَالْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُفِيدِ، كَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى [7 \ 137] ، وَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [6 \ 115] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 وَقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [23 \ 100] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَاقِيَ الْأَقْوَالِ تَرَكْنَاهُ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ «وَسَيِّدًا» وَزْنُ السَّيِّدِ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ فَيْعِلٌ وَأَصْلُ مَادَّتِهِ) س ود (سَكَنَتْ يَاءُ الْفَعِيلِ الزَّائِدَةِ قَبْلَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْعَيْنِ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً عَنِ الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا الْبَيْتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ آنِفًا، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّوَادِ وَهُوَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، فَالسَّيِّدُ مَنْ يُطِيعُهُ، وَيَتَّبِعُهُ سَوَادٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَيْنَ الْمَادَّةِ وَاوٌ أَنَّكَ تَقُولُ فِيهِ: سَادَ يَسُودُ بِالْوَاوِ، وَتَقُولُ سَوَّدُوهُ إِذَا جَعَلُوهُ سَيِّدًا، وَالتَّضْعِيفُ يَرُدُّ الْعَيْنَ إِلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيِّ: وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَ سَيِّدِ عَامِرٍ ... وَفَارِسَهَا الْمَشْهُورَ فِي كُلِّ مَوْكِبِ فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسَمْوَ بِأُمٍّ وَلَا أَبِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَإِنَّ بِقَوْمٍ سَوَّدُوكَ لِحَاجَةٍ ... إِلَى سَيِّدٍ لَوْ يَظْفَرُونَ بِسَيِّدِ وَشُهْرَةُ مِثْلِ ذَلِكَ تَكْفِي عَنْ بَيَانِهِ، وَالْآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى مَنْ سَادَ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا جَاءَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْحُكْمِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَحَصُورًا [3 \ 39] ، أَنَّهُ الَّذِي حَصَرَ نَفْسَهُ عَنِ النِّسَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ تَبَتُّلًا مِنْهُ، وَانْقِطَاعًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، وَأَمَّا سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ التَّزْوِيجُ وَعَدَمُ التَّبَتُّلِ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَصُورَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَأَنَّهُ مَحْصُورٌ عَنِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ عِنِّينٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فِي الرِّجَالِ، وَلَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ حَتَّى يُثْنَى عَلَيْهِ بِهَا، فَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَصُورَ هُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي الْمَيْسِرِ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ: وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي ... لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ قَوْلٌ لَيْسَ بِالصَّوَابِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، بَلْ مَعْنَاهَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ الْحَصُورِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 عَلَى ذَلِكَ صَحِيحًا لُغَةً، وَقَوْلُهُ: «وَنَبِيئًا» عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِالْهَمْزَةِ مَعْنَاهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ ; لِأَنَّ الْوَحْيَ خَبَرٌ لَهُ شَأْنٌ يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِهِ، وَعَلَى قِرَاءَةٍ: بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ كَمَعْنَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَةَ أُبْدِلَتْ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا، لِلْيَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَالْقِرَاءَتَيْنِ السَّبْعِيَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [9 \ 37] ، بِالْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنَ النَّبْوَةِ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ لِرِفْعَةِ النَّبِيِّ وَشَرَفِهِ. وَالصَّالِحُونَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَحَتْ عَقَائِدُهُمْ، وَأَعْمَالُهُمْ، وَأَقْوَالُهُمْ، وَنِيَّاتُهُمْ، وَالصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْيَى بِالصَّلَاحِ مَعَ مَنْ وَصَفَ بِذَلِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [6 \ 85] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ «مَرْيَمَ» حِينَ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، وَقَوْلُهُ «انْتَبَذَتْ» أَيْ: تَنَحَّتْ عَنْهُمْ وَاعْتَزَلَتْهُمْ مُنْفَرِدَةً عَنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: مَكَانًا شَرْقِيًّا، أَيْ: مِمَّا يَلِي شَرْقِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «إِذِ» «مَرْيَمَ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ ; لِأَنَّ الْأَحْيَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا اشْتِمَالَ الظَّرْفِ عَلَى مَظْرُوفِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ وَاعْتَرَضَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْبَقَاءِ وَأَبُو حَيَّانَ. وَالظَّاهِرُ سُقُوطُ اعْتِرَاضِهِمَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ مَعَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا شَيْئًا عَنْ نَسَبِ «مَرْيَمَ» وَلَا عَنْ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَأَنَّ أُمَّهَا نَذَرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مُحَرَّرًا، تَعْنِي لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تَظُنُّ أَنَّهَا سَتَلِدُ ذَكَرًا «فَوَلَدَتْ مَرْيَمَ» ، قَالَ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا ابْنَةَ عِمْرَانَ: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا الْآيَةَ [66 \ 12] ، وَذَكَرَ قِصَّةَ وِلَادَتِهَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [3 \ 35 - 36] وَقَوْلُهُ «مَكَانًا» مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا، أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ «رُوحَنَا» جِبْرِيلُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْآيَةَ [26 \ 193] وَقَوْلُهُ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [16 \ 102] ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ. ] قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. تَمَثُّلُهُ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِآدَمِيٍّ، وَهَذَا الْمَدْلُولُ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْآيَةَ [3 \ 45] ، وَهَذَا الَّذِي بَشَّرَهَا بِهِ هُوَ الَّذِي قَالَ لَهَا هُنَا إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [19 \ 19] ، وَقَوْلُهُ: بَشَرًا سَوِيًّا، حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ «تَمَثَّلَ لَهَا» . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الرُّوحَ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ قَالَ لَهَا إِنَّهُ رَسُولُ رَبِّهَا لِيَهَبَ لَهَا، أَيْ: لِيُعْطِيَهَا غُلَامًا، أَيْ: وَلَدًا «زَكِيًّا» أَيْ: طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْغُلَامِ الْمَوْهُوبِ لَهَا، وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [3 \ 45 - 46] ، وَقَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ [3 \ 48 - 49] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَاتِ هَذَا الْغُلَامِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَقَالُونُ عَنْهُ أَيْضًا بِخُلْفٍ عَنْهُ «لِيَهَبَ» بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَ اللَّامِ أَيْ: لِيَهَبَ لَكِ هُوَ، أَيْ رَبُّكِ «غُلَامًا زَكِيًّا» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «لِأَهَبَ» بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: لِأَهَبَ لَكِ أَنَا أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ رَبِّكِ غُلَامًا زَكِيًّا، وَفِي مَعْنَى إِسْنَادِهِ الْهِبَةَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ لَهَا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، أَيْ: لِأَكُونَ سَبَبًا فِي هِبَةِ الْغُلَامِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 بِالنَّفْخِ فِي الدِّرْعِ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْفَرْجِ، فَصَارَ بِسَبَبِهِ حَمْلُهَا عِيسَى، وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» أَنَّ هَذَا النَّفْخَ فِي فَرْجِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا الْآيَةَ [66 \ 12] ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «فِيهِ» رَاجِعٌ إِلَى فَرْجِهَا وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [21 \ 91] ; لِأَنَّ النَّفْخَ وَصَلَ إِلَى الْفَرْجِ فَكَانَ مِنْهُ حَمْلُ عِيسَى، وَبِهَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَوْلُ جِبْرِيلَ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا، حِكَايَةٌ مِنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ، وَقَدْ قَالَ لِي أَرْسَلْتُكَ لِأَهَبَ غُلَامًا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَفِي الثَّانِي بُعْدٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَبِهَذَا صَدَّرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا بَشَّرَهَا جِبْرِيلُ بِالْغُلَامِ الزَّكِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ [19 \ 20] ، أَيْ: كَيْفَ أَلِدُ غُلَامًا وَالْحَالُ أَنِّي لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، تَعْنِي: لَمْ يُجَامِعْنِي زَوْجٌ بِنِكَاحٍ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، أَيْ: لَمْ أَكُ زَانِيَةً، وَإِذَا انْتَفَى عَنْهَا مَسِيسُ الرِّجَالِ حَلَالًا وَحَرَامًا فَكَيْفَ تَحْمِلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِفْهَامَهَا اسْتِخْبَارٌ وَاسْتِعْلَامٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَمْلُ الْغُلَامِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّهَا مَعَ عَدَمِ مَسِيسِ الرِّجَالِ لَمْ تَتَّضِحْ لَهَا الْكَيْفِيَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُهَا تَعَجُّبٌ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْهُ هُنَا ذَكَرَهُ عَنْهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [3 \ 45] ، قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [3 \ 47] وَاقْتِصَارُهَا فِي آيَةِ «آلِ عِمْرَانَ» عَلَى قَوْلِهَا: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ الْمَنْفِيَّ عَنْهَا شَامِلٌ لِلْمَسِيسِ بِنِكَاحٍ وَالْمَسِيسِ بِزِنًى، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» : وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [19 \ 20] ، يَظْهَرُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهَا «وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ ; لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَشْمَلُ الْحَلَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 وَالْحَرَامَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا: جَعَلَ الْمَسَّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [2 \ 273] ، أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [4 \ 43] ، وَالزِّنَى لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ: فَجَرَ بِهَا، وَخَبُثَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِقَمِنٍ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ الْكِنَايَاتُ وَالْآدَابُ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَةَ «بَشَرٌ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ، فَيَنْتَفِي مَسِيسُ كُلِّ بَشَرٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَالْبَغِيُّ: الْمُجَاهِرَةُ الْمُشْتَهِرَةُ بِالزِّنَى، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَاوٌ وَيَاءٌ سُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِأَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كُسِرَتْ فِي عِصِيٍّ وَدِلِيٍّ جَمْعُ عَصًا وَدَلْوٍ، كَمَا قَدَّمْنَا هَذَا مِرَارًا، وَالْقَائِلُ بِأَنَّ أَصْلَ «الْبَغِيِّ» فَعُولٌ، يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَصْلُهُ «فَعِيلًا» لَلَحِقَتْهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ ; لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ فِي «فَعِيلٍ» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِ التَّمَامِ: أَصْلُ الْبَغِيِّ عَلَى وَزْنِ «فَعِيلٍ» وَلَوْ كَانَ «فَعُولًا» لَقِيلَ: بَغُوٌّ، كَمَا قِيلَ: فُلَانٌ نَهُوٌّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ يُجَابُ عَنْ عَدَمِ لُحُوقِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، بِأَنَّ الْبَغِيَّ وَصْفٌ مُخْتَصٌّ بِالْإِنَاثِ، وَالرَّجُلُ يُقَالُ فِيهِ بَاغٍ لَا بَغِيٌّ، كَمَا قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْأَوْصَافُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِنَاثِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَحَائِضٍ، كَمَا عَقَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْكَافِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْأُنْثَى يُخَصّ ... عَنْ تَاءٍ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. قَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [19 \ 21] ، أَيْ: وَسَتَلِدِينَ ذَلِكَ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّكِ بَشَرٌ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [3 \ 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ حِكَمِ خَلْقِهِ عِيسَى مِنِ امْرَأَةٍ بِغَيْرِ زَوْجٍ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلنَّاسِ، أَيْ عَلَامَةً دَالَّةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ كَيْفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 يَشَاءُ: إِنْ شَاءَ خَلَقَهُ مِنْ أُنْثَى بِدُونِ ذَكَرٍ كَمَا فَعَلَ بِعِيسَى، وَإِنْ شَاءَ خَلَقَهُ مِنْ ذَكَرٍ بِدُونِ أُنْثَى كَمَا فَعَلَ بِحَوَّاءَ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [4 \ 1] ، أَيْ: خَلَقَ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ آدَمُ زَوْجَهَا حَوَّاءَ، وَإِنْ شَاءَ خَلَقَهُ بِدُونِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَعًا كَمَا فَعَلَ بِآدَمَ، وَإِنْ شَاءَ خَلَقَهُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَمَا فَعَلَ بِسَائِرِ بَنِي آدَمَ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ جَعَلَ عِيسَى آيَةً حَيْثُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، أَشَارَ لَهُ أَيْضًا فِي «الْأَنْبِيَاءِ» بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 91] ، وَفِي «الْفَلَاحِ» بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا الْآيَةَ [23 ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [19 \ 21] ، فِيهِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ تَعْلِيلٌ مُعَلَّلُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا ذَلِكَ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً، وَنَحْوُهُ: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [45 \ 22] ، وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ [12 \ 21] اهـ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَرَحْمَةً مِنَّا، أَيْ: لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ فَلَمْ يَبْتَغِ الرَّحْمَةَ لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 107] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [19 \ 21] ، أَيْ: وَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغُلَامِ مِنْكِ أَمْرًا مَقْضِيًّا، أَيْ: مُقَدَّرًا فِي الْأَزَلِ، مَسْطُورًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَرْيَمَ حَمَلَتْ عِيسَى، فَقَوْلُهُ: فَحَمَلَتْهُ، أَيْ: عِيسَى فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أَيْ: تَنَحَّتْ بِهِ وَبَعُدَتْ مُعْتَزِلَةً عَنْ قَوْمِهَا مَكَانًا قَصِيًّا، أَيْ: فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ الْمَذْكُورَ بَيْتُ لَحْمٍ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ، أَيْ: أَلْجَأَهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، أَيْ: جِذْعِ نَخْلَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ، وَ: أَجَاءَهُ غَيْرُهُ: إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الْمَجِيءِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَجَارٍ سَارَ مُعْتَمِدًا إِلَيْنَا ... أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ وَالرَّجَاءُ وَقَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذْ شَدَدْنَا شَدَّةً صَادِقَةً فَاجَأْنَاكُمْ ... إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ وَالْمَخَاضُ : الطَّلْقُ، وَهُوَ وَجَعُ الْوِلَادَةِ، وَسُمِّيَ مَخَاضًا مِنَ الْمَخْضِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ لِشِدَّةِ تَحَرُّكِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِهَا إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ. وَقَوْلُهُ: قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [19 \ 23] ، تَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ، فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ حَمْلِهَا بِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ هَذَا الَّذِي تَنَحَّتْ عَنْهُمْ مِنْ أَجْلِهِ، وَتَمَنَّتْ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وَهُوَ خَوْفُهَا مِنْ أَنْ يَتَّهِمُوهَا بِالزِّنَى، وَأَنَّهَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْغُلَامِ مِنْ زِنًى - وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ سَلِمَتْ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ حَمْلِهَا أَنَّهُ نَفَحَ فِيهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى فَرْجِهَا فَوَقَعَ الْحَمْلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [66 \ 12] ، وَقَالَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا الْآيَةَ [21 \ 91] ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ النَّفْخِ نَفْخُ جِبْرِيلَ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ فَحَمَلَتْ، كَمَا تَدُلُّ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [19 \ 18] ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِسْنَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا النَّفْخَ الْمَذْكُورَ لِنَفَسِهِ فِي قَوْلِهِ: فَنَفَخْنَا لِأَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا أَوْقَعَهُ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَ الْحَمْلَ مِنْ ذَلِكَ النَّفْخِ، فَجِبْرِيلُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْحَمْلَ مِنْ ذَلِكَ النَّفْخِ وَمِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمْرِهِ تَعَالَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ النَّفْخُ الْمَذْكُورُ وَلَا وُجُودُ الْحَمْلِ مِنْهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا - أَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَرْجَهَا الَّذِي نَفَخَ فِيهِ الْمَلَكُ هُوَ جَيْبُ دِرْعِهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ، بَلِ النَّفْخُ الْوَاقِعُ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ وَصَلَ إِلَى الْفَرْجِ الْمَعْرُوفِ فَوَقَعَ الْحَمْلُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي خَافَتْ مِنْهُ وَهُوَ قَذْفُهُمْ لَهَا بِالْفَاحِشَةِ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [19 \ 27] ، يَعْنُونَ الْفَاحِشَةَ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [19 \ 28] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 يَعْنُونَ فَكَيْفَ فَجَرْتِ أَنْتِ وَجِئْتِ بِهَذَا الْوَلَدِ؟ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [4 \ 156] . وَقَوْلُهُ: مَكَانًا قَصِيًّا، الْقَصِيُّ: الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ الْقَصِيِّ ... مِنِّيَ ذِي الْقَاذُورَةِ الْمَقْلِيِّ أَوْ تَحْلِفِي بِرَبِّكِ الْعَلِيِّ ... أَنِّي أَبُو ذَيَّالِكَ الصَّبِيِّ وَهَذَا الْمَكَانُ الْقَصِيُّ قَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [23 ] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أَيْ: انْتَبَذَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ «هَذَا» إِلَى الْحَمْلِ وَالْمَخَاضِ الَّذِي أَصَابَهَا لِلْوَضْعِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْهَا: وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، النِّسْيُ وَالنَّسْيُ بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ: هُوَ مَا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُطْرَحَ وَيُنْسَى لِحَقَارَتِهِ، كَخِرَقِ الْحَيْضِ، وَكَالْوَتَدِ وَالْعَصَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا ارْتَحَلُوا عَنِ الدَّارِ قَوْلُهُمْ: انْظُرُوا أَنَسَاءَكُمْ. جَمْعُ نَسْيٍ أَيِ الْأَشْيَاءُ الْحَقِيرَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتْرَكَ وَتُنْسَى كَالْعَصَا وَالْوَتَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهَا «وَكُنْتُ نَسْيًا» أَيْ شَيْئًا تَافِهًا حَقِيرًا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُتْرَكَ وَيُنْسَى عَادَةً، وَقَوْلُهَا «مَنْسِيًّا» تَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُتْرَكَ وَيُنْسَى قَدْ نُسِيَ وَطُرِحَ بِالْفِعْلِ فَوُجِدَ فِيهِ النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ، وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ النَّسْيِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُ الْكُمَيْتِ: أَتَجْعَلُنَا جِسْرًا لِكَلْبِ قُضَاعَةَ ... وَلَسْتُ بِنَسْيٍ فِي مُعَدٍّ وَلَا دَخَلْ فَقَوْلُهُ «بِنَسْيٍ» أَيْ: شَيْءٌ تَافِهٌ مَنْسِيٌّ، وَقَوْلُ الشَّنْفَرَى: كَأَنَّ لَهَا فِي الْأَرْضِ نَسْيًا تَقُصُّهُ ... عَلَى أَمِّهَا وَإِنْ تُحَدِّثْكَ تَبْلَتِ فَقَوْلُهُ «نَسْيًا» أَيْ: شَيْءٌ تَرَكَتْهُ وَنَسِيَتْهُ، وَقَوْلُهُ «تَبْلَتِ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ، أَيْ: تَقْطَعُ كَلَامَهَا مِنَ الْحَيَاءِ، وَالْبَلْتُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «يَالَيْتَنِي مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «مُتُّ» بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ «وَكُنْتُ نَسْيًا» بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 تَنْبِيهٌ قِرَاءَةُ «مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ كَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَجْهُهَا ; لِأَنَّ لُغَةَ «مَاتَ يَمُوتُ» لَا يَصِحُّ مِنْهَا «مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ أَنَّهُ مِنْ مَاتَ يَمَاتُ، كَخَافَ يَخَافُ، لَا مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، كَقَالَ يَقُولُ. فَلَفْظُ «مَاتَ» فِيهَا لُغَتَانِ عَرَبِيَّتَانِ فَصِيحَتَانِ، الْأُولَى مِنْهُمَا مَوَتَ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ أَلِفًا عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: مِنْ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ بِتَحْرِيكٍ أَصِلْ ... أَلِفًا ابْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ إِنْ حُرِّكَ الثَّانِي. . . إِلَخْ،وَمُضَارِعُ هَذِهِ الْمَفْتُوحَةِ «يَمُوتُ» بِالضَّمِّ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي هَذِهِ وَنَحْوِهَا إِنْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى تَاءِ الْفَاعِلِ أَوْ نُونِهِ سَقَطَتِ الْعَيْنُ بِالِاعْتِلَالِ وَحُرِّكَتِ الْفَاءُ بِحَرَكَةٍ تُنَاسِبُ الْعَيْنَ، وَالْحَرَكَةُ الْمُنَاسِبَةُ لِلْوَاوِ هِيَ الضَّمَّةُ، فَتَقُولُ «مُتُّ» بِضَمِّ الْمِيمِ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ أَنَّهَا «مَوِتَ» بِكَسْرِ الْوَاوِ، أُبْدِلَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِلْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمُضَارِعُ هَذِهِ «يَمَاتُ» بِالْفَتْحِ ; لِأَنَّ «فَعِلَ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَنْقَاسُ فِي مُضَارِعِهَا بِـ «فَعَلَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي اللَّامِيَّةِ: وَافْتَحْ مَوْضِعَ الْكَسْرِ فِي الْمَبْنِيِّ مِنْ فَعَلَا وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَلِمَاتٌ مَعْرُوفَةٌ سَمَاعِيَّةٌ تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَالْمُقَرَّرُ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ أَجْوَفَ - أَعْنِي مُعْتَلَّ الْعَيْنِ - إِذَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَوْ فَعُلَ بِضَمِّهَا، فَإِنَّهُ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى تَاءِ الْفَاعِلِ أَوْ نُونِهِ تَسْقُطُ عَيْنُهُ بِالِاعْتِلَالِ وَتُنْقَلُ حَرَكَةُ عَيْنِهِ السَّاقِطَةِ بِالِاعْتِلَالِ إِلَى الْفَاءِ فَتُكْسَرُ فَاؤُهُ إِنْ كَانَ مِنْ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَتُضَمُّ إِنْ كَانَ مِنْ فَعُلَ بِضَمِّهَا، مِثَالُ الْأَوَّلِ «مِتُّ» مِنْ مَاتَ يَمَاتُ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا «مَوِتَ» بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ خَافَ يَخَافُ، وَنَامَ يَنَامُ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِيهَا «مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَ «نِمْتُ» بِكَسْرِ النُّونِ، «وَخِفْتُ» بِكَسْرِ الْخَاءِ ; لِأَنَّ حَرَكَةَ الْعَيْنِ نُقِلَتْ إِلَى الْفَاءِ وَهِيَ الْكَسْرَةُ، وَمِثَالُهُ فِي الضَّمِّ «طَالَ» فَأَصْلُهَا «طَوُلَ» بِضَمِّ الْوَاوِ فَتَقُولُ فِيهَا «طُلْتُ» بِالضَّمِّ لِنَقْلِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ إِلَى الْفَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثُّلَاثِيُّ مِنْ فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَمَاتَ يَمُوتُ، وَقَالَ يَقُولُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ تَسْقُطُ بِالِاعْتِلَالِ وَتُحَرَّكُ الْفَاءُ بِحَرَكَةٍ مُنَاسِبَةٍ لِلْعَيْنِ السَّاقِطَةِ فَتُضَمُّ الْفَاءُ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ السَّاقِطَةُ وَاوًا كَمَاتَ يَمُوتُ، وَقَالَ يَقُولُ، فَتَقُولُ مُتُّ وَقُلْتُ، بِالضَّمِّ. وَتُكْسَرُ الْفَاءُ إِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 كَانَتِ الْعَيْنُ السَّاقِطَةُ يَاءً، كَبَاعَ وَسَارَ، فَتَقُولُ: بِعْتُ وَسِرْتُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي اللَّامِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَانْقُلْ لِفَاءِ الثُّلَاثِيِّ فِي شَكْلِ عَيْنٍ ... إِذَا اعْتَلَّتْ وَكَانَ بِـ «نَا» الْإِضْمَارِ مُتَّصِلَا أَوْ نَوِّنْهُ وَإِذَا فُتِحَا يَكُونُ مِنْهُ ... اعْتَضَّ مُجَانِسَ تِلْكَ الْعَيْنِ مُنْتَقِلَا وَاعْلَمْ أَنَّ مَاتَ يَمَاتُ، مِنْ فَعِلَ بِالْكَسْرِ يَفْعَلُ بِالْفَتْحِ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ، وَمِنْهَا قَوْلُ الرَّاجِزِ: بُنَيَّتِي سَيِّدَةَ الْبَنَاتِ ... عِيشِي وَلَا نَأْمَنُ أَنْ تَمَاتِ وَأَمَّا مَاتَ يَمِيتُ فَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ - الْفَصِيحَتَيْنِ وَالرَّدِيَّةِ - بَعْضُ أُدَبَاءِ قُطْرِ شِنْقِيطَ فِي بَيْتِ رَجَزٍ هُوَ قَوْلُهُ: مَنْ مَنَعَتْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ الْمَبِيتَ ... مَاتَ يَمُوتُ وَيَمَاتُ وَيَمِيتُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي حَمَلَتْ فِيهَا مَرْيَمُ بِعِيسَى قَبْلَ الْوَضْعِ لَمْ نَذْكُرْهَا ; لِعَدَمِ دَلِيلٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ حَمْلٌ كَعَادَةِ حَمْلِ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مَنْشَؤُهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ: قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا [19 \ 24] ، بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ «مِنْ» حَرْفُ جَرٍّ، وَخَفْضِ تَاءِ «تَحْتِهَا» لِأَنَّ الظَّرْفَ مَجْرُورٌ بِـ «مِنْ» وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» بِفَتْحِ مِيمِ «مَنْ» عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ هُوَ فَاعِلُ «نَادَى» أَيْ نَادَاهَا الَّذِي تَحْتَهَا، وَفَتْحِ «تَحْتَهَا» فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَفَاعِلُ النِّدَاءِ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ فَالْفَاعِلُ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ الَّذِي هُوَ «مَنْ» . وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي هَذَا الْمُنَادِي الَّذِي نَادَاهَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالضَّمِيرِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ عِيسَى، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَمِمَّنْ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي نَادَى مَرْيَمَ هُوَ جِبْرِيلُ» ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الَّذِي نَادَاهَا هُوَ عِيسَى عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ أُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَابْنُ زَيْدٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَلَكُ يَقُولُ: فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ مِنْ مَكَانٍ تَحْتَهَا ; لِأَنَّهَا عَلَى رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ، وَقَدْ نَادَاهَا مِنْ مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ عَنْهَا، وَبَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: كَانَ جِبْرِيلُ تَحْتَهَا يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَمَا تَقْبَلُهُ الْقَابِلَةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَاءِ «تَحْتَهَا» عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، فَالْمَعْنَى فَنَادَاهَا الَّذِي هُوَ تَحْتَهَا، أَيْ: فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِهَا، أَوْ تَحْتَهَا يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَمَا تَقْبَلُ الْقَابِلَةُ، مَعَ ضَعْفِ الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ كَمَا قَدَّمْنَا، أَيْ: وَهُوَ جِبْرِيلُ فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ «فَنَادَاهَا» هُوَ، أَيْ: جِبْرِيلُ مِنْ تَحْتِهَا، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ «فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا» أَيْ: الَّذِي تَحْتَهَا وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى، فَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: فَنَادَاهَا هُوَ، أَيْ: الْمَوْلُودُ الَّذِي وَضَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ تَحْتَهَا عِنْدَ الْوَضْعِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» أَيْ: الَّذِي تَحْتَهَا وَهُوَ الْمَوْلُودُ الْمَذْكُورُ الْكَائِنُ تَحْتَهَا عِنْدَ الْوَضْعِ، وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ الَّذِي نَادَاهَا هُوَ عِيسَى: ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَاسْتَظْهَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ جِبْرِيلُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّ الَّذِي نَادَاهَا هُوَ ابْنُهَا عِيسَى، وَتَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَتَانِ: الْأُولَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْ ذَلِكَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ هُوَ عِيسَى لَا جِبْرِيلُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَحَمَلَتْهُ، يَعْنِي عِيسَى فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أَيْ بِعِيسَى. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: «فَنَادَاهَا» فَالَّذِي يَظْهَرُ وَيَتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ عِيسَى. وَالْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا أَشَارَتْ إِلَى عِيسَى لِيُكَلِّمُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهَا: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [19 \ 29] ، وَإِشَارَتُهَا إِلَيْهِ لِيُكَلِّمُوهُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهَا عَرَفَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ لِنِدَائِهِ لَهَا عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ، وَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ الْأَخِيرَةِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ عِيسَى، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ «أَلَّا تَحْزَنِي» هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، فَهِيَ بِمَعْنَى أَيْ، وَضَابِطُ «أَنْ» الْمُفَسِّرَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ كَمَا هُنَا، فَالنِّدَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ وَمَعْنَى كَوْنِهَا مُفَسِّرَةً: أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بَعْدَهَا هُوَ مَعْنَى مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 قَبْلَهَا، فَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا هُوَ: لَا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالسَّرِيِّ هُنَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْجَدْوَلُ وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى لَهَا تَحْتَهَا نَهْرًا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلِي أَيْ: مِنَ الرُّطَبِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [19 \ 25] ، وَاشْرَبِي [19 \ 26] ، أَيْ: مِنَ النَّهْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَإِطْلَاقُ السَّرِيِّ عَلَى الْجَدْوَلِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا ... مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا وَقَوْلُ لَبِيَدٍ أَيْضًا يَصِفُ نَخْلًا نَابِتًا عَلَى مَاءِ النَّهْرِ: سُحُقٌ يُمَتِّعُهَا الصَّفَا وَسَرِيُّهُ ... عُمٌّ نَوَاعِمُ بَيْنَهُنَّ كُرُومُ وَقَوْلُ الْآخَرِ:. سَهْلُ الْخَلِيقَةِ مَاجِدٌ ذُو نَائِلٍ ... مِثْلُ السَّرِيِّ تَمُدُّهُ الْأَنْهَارُ فَقَوْلُهُ «سَرِيًّا» ، وَقَوْلُهُمَا «السَّرِيُّ» بِمَعْنَى الْجَدْوَلِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ: سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَ مِنْهُ أَزْوَرَا ... إِذَا يَعُبُّ فِي السَّرِيِّ هَرْهَرَا وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: السَّرِيُّ هُوَ عِيسَى، وَالسَّرِيُّ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ شَرَفٌ وَمُرُوءَةٌ، يُقَالُ فِي فِعْلِهِ سَرُوَ «بِالضَّمِّ» وَسَرَا «بِالْفَتْحِ» يَسْرُو سَرْوًا، فِيهِمَا، وَسَرِيَ «بِالْكَسْرِ» يَسْرِي سِرًى وَسِرَاءً وَسَرْوًا: إِذَا شَرُفَ، وَيُجْمَعُ السَّرِيُّ هَذَا عَلَى أَسْرِيَاءَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَسُرَوَاءَ وَسَرَاةٍ بِالْفَتْحِ، وَعَنْ سِيبَوَيْهَ أَنَّ السَّرَاةَ بِالْفَتْحِ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ: لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا وَيُجْمَعُ السَّرَاةُ عَلَى سَرَوَاتٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْحَطِيمِ: وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ ... تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّرِيِّ بِمَعْنَى الشَّرِيفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَلْقَى السَّرِيَّ مِنَ الرِّجَالِ بِنَفْسِهِ ... وَابْنُ السَّرِيِّ إِذَا سَرَا أَسْرَاهُمَا وَقَوْلُهُ «أَسْرَاهُمَا» ، أَيْ: أَشْرَفُهُمَا، قَالَهُ فِي اللِّسَانِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّ السَّرِيَّ فِي الْآيَةِ النَّهْرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 الصَّغِيرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَرِينَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلِي وَاشْرَبِي، قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ الِامْتِنَانُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [19 \ 24] ، وَقَوْلُهُ: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [19 \ 25] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [23 \ 25] ; لِأَنَّ الْمَعِينَ الْمَاءُ الْجَارِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْجَدْوَلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسَّرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْأَمْرُ الثَّانِي: حَدِيثٌ جَاءَ بِذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ جَاءَ بِذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِمَرْيَمَ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهَا لِتَشْرَبَ مِنْهُ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ هَذَا هُوَ الْحُبُلِيُّ، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثَ الْكَشَّافْ» فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، قَالَ: «السَّرِيُّ: النَّهْرُ» ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْفَعْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا أَبُو سِنَانٍ، رَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ مَوْقُوفًا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ كَذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْقُوفًا، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَهُ لِمَرْيَمَ نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِتَشْرَبَ مِنْهُ» ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَاوِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، انْتَهَى. فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُهُ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ضَعْفٍ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْ دَعْوَى أَنَّ السَّرِيَّ عِيسَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ السَّرِيَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ النَّهْرُ: ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَبِهِ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وَالضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَغَيْرُهُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ عِيسَى: الْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، لَمْ يُصَرِّحْ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِبَيَانِ الشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ، وَالشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ: «الرُّطَبُ الْجَنِيُّ» الْمَذْكُورُ، وَالَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ هُوَ النَّهْرُ الْمَذْكُورُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ «بِالسَّرِيِّ» كَمَا تَقَدَّمَ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ جِذْعَ النَّخْلَةِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَهُزَّ بِهِ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا ; فَلَمَّا هَزَّتْهُ جَعَلَهُ اللَّهُ نَخْلَةً ذَاتَ رُطَبٍ جَنِيٍّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ الْجِذْعُ جِذْعَ نَخْلَةٍ نَابِتَةٍ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُثْمِرَةٍ، فَلَمَّا هَزَّتْهُ أَنْبَتَ اللَّهُ فِيهِ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ رُطَبًا جَنِيًّا، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتِ النَّخْلَةُ مُثْمِرَةً، وَقَدْ أَمَرَهَا اللَّهُ بِهَزِّهَا لِيَتَسَاقَطَ لَهَا الرُّطَبُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ لَهَا ذَلِكَ الرُّطَبَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَجْرَى لَهَا ذَلِكَ النَّهْرَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يَكُنِ الرُّطَبُ وَالنَّهْرُ مَوْجُودَيْنِ قَبْلَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْجِذْعَ كَانَ يَابِسًا أَوْ نَخْلَةً غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنَبَتَ فِيهِ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ رُطَبًا جَنِيًّا، وَوَجْهُ دَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهَا إِنَّمَا تَقَرُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ بَرَاءَتَهَا مِمَّا اتَّهَمُوهَا بِهِ، فَوُجُودُ هَذِهِ الْخَوَارِقِ مِنْ تَفْجِيرِ النَّهْرِ، وَإِنْبَاتِ الرُّطَبِ، وَكَلَامِ الْمَوْلُودِ - تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُهَا وَتَزُولُ بِهِ عَنْهَا الرِّيبَةُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعَ بَقَاءِ التُّهْمَةِ الَّتِي تَمَنَّتْ بِسَبَبِهَا أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، لَمْ يَكُنْ قُرَّةً لِعَيْنِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَخَرْقُ اللَّهِ لَهَا الْعَادَةَ بِتَفْجِيرِ الْمَاءِ، وَإِنْبَاتِ الرُّطَبِ، وَكَلَامِ الْمَوْلُودِ لَا غَرَابَةَ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» عَلَى خَرْقِهِ لَهَا الْعَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [3 \ 37] ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَإِجْرَاءُ النَّهْرِ وَإِنْبَاتُ الرُّطَبِ لَيْسَ أَغْرَبَ مِنْ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 مَسْأَلَةٌ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ الْآيَةَ، أَنَّ السَّعْيَ وَالتَّسَبُّبَ فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ أَمْرٌ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَهَذَا أَمْرٌ كَالْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فِي الدُّنْيَا أَمْرٌ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِحَالٍ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَتَعَاطَى السَّبَبَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ مَعَ عِلْمِهِ وَيَقِينِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا يَشَاءُ اللَّهُ وُقُوعَهُ، فَهُوَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ، عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَخَلُّفَ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ عَنْ مُسَبَّبَاتِهَا لَتَخَلَّفَ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [21 \ 69] ، فَطَبِيعَةُ الْإِحْرَاقِ فِي النَّارِ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ إِلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَعَ هَذَا أَحْرَقَتِ الْحَطَبَ فَصَارَ رَمَادًا مِنْ حَرِّهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي هِيَ كَائِنَةٌ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ رُبَّمَا جَعَلَ الشَّيْءَ سَبَبًا لِشَيْءٍ آخَرَ مَعَ أَنَّهُ مُنَافٍ لَهُ، كَجَعْلِهِ ضَرْبَ مَيِّتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَعْضٍ مِنْ بَقَرَةٍ مَذْبُوحَةٍ سَبَبًا لِحَيَاتِهِ، وَضَرْبُهُ بِقِطْعَةٍ مَيْتَةٍ مِنْ بَقَرَةٍ مَيْتَةٍ مُنَافٍ لِحَيَاتِهِ؛ إِذْ لَا تُكْسَبُ الْحَيَاةُ مِنْ ضَرْبٍ بِمَيْتٍ، وَذَلِكَ يُوَضِّحُ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يُسَبِّبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَقَعُ تَأْثِيرٌ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ تَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ: وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [12 \ 67] ، أَمَرَهُمْ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِتَعَاطِي السَّبَبِ، وَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِمْ أَنْ تُصِيبَهُمُ النَّاسُ بِالْعَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا أَبْنَاءُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ أَهْلُ جَمَالٍ وَكَمَالٍ وَبَسْطَةٍ فِي الْأَجْسَامِ، فَدُخُولُهُمْ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مَظِنَّةٌ لِأَنْ تُصِيبَهُمُ الْعَيْنُ فَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ وَالدُّخُولِ مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ تَعَاطِيًا لِلسَّبَبِ فِي السَّلَامَةِ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ ; كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَمَعَ هَذَا التَّسَبُّبِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَنْهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [12 \ 67] ، فَانْظُرْ كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ التَّسَبُّبِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ لَهَا الرُّطَبَ مِنْ غَيْرِ هَزِّ الْجِذْعِ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهَا بِالتَّسَبُّبِ فِي إِسْقَاطِهِ بِهَزِّ الْجِذْعِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ ... وَهُزِّي إِلَيْكَ الْجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيَهُ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ ... جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ خَيْرَ مَا تَطْعَمُهُ النُّفَسَاءُ الرُّطَبُ، قَالُوا: لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْسَنَ لِلنُّفَسَاءِ مِنَ الرُّطَبِ لَأَطْعَمَهُ اللَّهُ مَرْيَمَ وَقْتَ نِفَاسِهَا بِعِيسَى، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَغَيْرُهُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [19 \ 25] ، مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ ; لِأَنَّ فِعْلَ الْهَزِّ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَزِيَادَةُ حَرْفِ الْبَاءِ لِلتَّوْكِيدِ قَبْلَ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ هُنَا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ; لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ الْأَصْلَ: وَهَزِّي إِلَيْكِ جِذْعَ النَّخْلَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [2 \ 195] ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ الْآيَةَ [22 \ 25] ، وَقَوْلُهُ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ الْآيَةَ [68 \ 5 - 6] ، وَقَوْلُهُ: «تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ» ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ مُضَارِعُ «أَنْبَتَ» الرُّبَاعِيِّ ; لِأَنَّ الرُّبَاعِيَّ الَّذِي هُوَ «أَنْبَتَ يُنْبِتُ» بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ دُونَ الْحَرْفِ، فَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَمَا رَأَيْتَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ: إِذْ يَسَفُّونَ بِالدَّقِيقِ وَكَانُوا ... قَبْلُ لَا يَأْكُلُونَ خُبْزًا فَطِيرَا لِأَنَّ الْأَصْلَ: يَسَفُّونَ الدَّقِيقَ، فَزِيدَتِ الْبَاءُ لِلتَّوْكِيدِ. وَقَوْلُ الرَّاعِي: هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ فَالْأَصْلُ: لَا يَقْرَأْنَ السُّوَرَ، فَزِيدَتِ الْبَاءُ لِمَا ذُكِرَ. وَقَوْلُ يَعْلَى الْأَحْوَلِ الْيَشْكُرِيِّ أَوْ غَيْرِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرُهُ ... وَأَسْفَلُهُ بِالْمَرْخِ وَالشَّبُهَانِ فَالْأَصْلُ: وَأَسْفَلُهُ الْمَرْخَ ; أَيْ: وَيُنْبِتُ أَسْفَلُهُ الْمَرْخَ، فَزِيدَتِ الْبَاءُ لِمَا ذُكِرَ. وَقَوْلُ الْأَعْشَى: ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيَالِنَا أَرْمَاحُنَا مِلْءَ ... الْمَرَاجِلِ وَالصَّرِيحَ الْأَجْرَدَا فَالْأَصْلُ: ضَمِنَتْ رِزْقَ عِيَالِنَا. وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ أَيْ: نَرْجُو الْفَرَجَ. وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وَأَسْمَحَتْ ... هَصَرْتُ بِغُصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ فَالْأَصْلُ: هَصَرْتُ غُصْنًا ; لِأَنَّ هَصَرَ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «تَسَّاقَطْ» تِسْعُ قِرَاءَاتٍ، ثَلَاثٌ مِنْهَا سَبْعِيَّةٌ، وَسِتٌّ شَاذَّةٌ، أَمَّا الثَّلَاثُ السَّبْعِيَّةُ فَقَدْ قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ «تَسَاقَطْ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَأَصْلُهُ: تَتَسَاقَطْ ; فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَوْلُهُ «رُطَبًا» تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحْدَهُ عَنْ عَاصِمٍ «تُسَاقِطْ» بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، مُضَارِعُ سَاقَطَتْ تُسَاقِطُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَوْلُهُ «رُطَبًا» مَفْعُولٌ بِهِ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ: تُسَاقِطْ هِيَ، أَيِ النَّخْلَةُ، رُطَبًا، وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ السَّبْعَةِ «تَسَّاقَطْ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، أَصْلُهُ: تَتَسَاقَطْ ; فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السِّينِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ «رُطَبًا» تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ كَإِعْرَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ. وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ شَاذٌّ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: رُطَبًا جَنِيًّا الْجَنِيُّ: هُوَ مَا طَابَ وَصَلَحَ لِأَنْ يُجْنَى فَيُؤْكَلَ، وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: أَنَّ الْجَنِيَّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَجِفَّ وَلَمْ يَيْبَسْ، وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْ يَدَيْ مُتَنَاوِلِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، قَائِلُ هَذَا الْكَلَامِ لِمَرْيَمَ: هُوَ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِيهِ ; هَلْ هُوَ عِيسَى أَوْ جِبْرِيلُ، وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ عِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [19 \ 21] ، قِيلَ أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ، وَقِيلَ أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَهُ بِالْإِشَارَةِ، وَكَوْنُهَا أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَهُ بِاللَّفْظِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ; كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ الْآيَةَ، أَنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ بِأَنَّهَا لَوْ قَالَتْهُ بِاللَّفْظِ أَفْسَدَتْ نَذْرَهَا الَّذِي نَذَرَتْهُ أَلَّا تُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، فَإِذَا قَالَتْ لِإِنْسِيٍّ بِلِسَانِهَا: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، فَقَدْ كَلَّمَتْ ذَلِكَ الْإِنْسِيَّ فَأَفْسَدَتْ نَذْرَهَا، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ لِئَلَّا يُنَافِيَ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَعْنَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا بَعْدَ قَوْلِي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَقَدْ رَأَيْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْكَلَامِ لِلْإِنْسِيِّ مُطْلَقًا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَقَوْلُهُ «إِنْسِيًّا» لِأَنَّهَا كَانَتْ تُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَهُ «إِنْسِيًّا» لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، أَيْ: بِخِلَافِ غَيْرِ الْإِنْسِيِّ كَالْمَلَائِكَةِ فَإِنِّي أُكَلِّمُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي الْكَلَامِ إِخْرَاجَ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ شُمُولُ نَفْيِ الْكَلَامِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ. مَسْأَلَةٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، أَيْ: قُولِي ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ ; لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُمِّيَتْ قَوْلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَسُمِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا إِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ ... رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَدُلُّ مِنَ النُّصُوصِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ، وَمَا يَدُلُّ مِنَ النُّصُوصِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْكَلَامِ، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. اعْلَمْ أَنَّهُ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَجَاءَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى يُفْهَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 مِنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ، فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ قِصَّةُ الْأَمَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّهُ» ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَجَعَلَ إِشَارَتَهَا كَنُطْقِهَا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّيَانَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْصَمُ بِهِ الدَّمُ وَالْمَالُ، وَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةُ، وَيُنَجَّى بِهِ مِنَ النَّارِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ، وَالشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِمْ أَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ أَخْبَرَنِي الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً. فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ بِإِصْبَعِهَا فَقَالَ لَهَا:» فَمَنْ أَنَا «؟ فَأَشَارَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى السَّمَاءِ، يَعْنِي أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ:» أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ «، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْإِشَارَةِ، عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ ; لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ» آلِ عِمْرَانَ «فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [3 \ 41] ، مَا نَصُّهُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ، وَآكَدُ الْإِشَارَاتِ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ السَّوْدَاءِ حِينَ قَالَ لَهَا:» أَيْنَ اللَّهُ «؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:» أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ «فَأَجَازَ الْإِسْلَامَ بِالْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي يُحْرَزُ بِهِ الدَّمُ وَالْمَالُ، وَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةُ وَيُنَجَّى بِهِ مِنَ النَّارِ، وَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا كَمَا يَحْكُمُ بِنُطْقِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ عَامِلَةً فِي سَائِرِ الدِّيَانَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَخْرَسَ إِذَا أَشَارَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّجُلِ يَمْرَضُ فَيَخْتَلُّ لِسَانُهُ: فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ فِي الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ تَعْرَفُ، وَإِنْ شُكَّ فِيهَا فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا تُعْقَلُ إِشَارَتُهُ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ:» الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ - فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ «هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَّلَ إِشَارَتَهُ بِأَصَابِعِهِ إِلَى أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ مَنْزِلَةَ نُطْقِهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ اعْتِمَادِ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابٍ) اللِّعَانِ (مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ كَاللَّفْظِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى جَعْلِ الْإِشَارَةِ كَالنُّطْقِ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:) بَابُ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،» لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا «فَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ، وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ، أَيْ: خُذِ النِّصْفَ، وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ وَهِيَ تُصَلِّي، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ، وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ لَا حَرَجَ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ:» أَحَدُكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ «قَالُوا لَا، قَالَ:» فَكُلُوا «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ، وَقَالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» فُتِحَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَهَذِهِ «وَعَقَدَ تِسْعِينَ. حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ «وَقَالَ بِيَدِهِ، وَوَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ، قُلْنَا: يُزَهِّدُهَا. وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا، وَرَضَخَ رَأْسَهَا، فَأَتَى بِهِ أَهْلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَقَدْ أُصْمِتَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَنْ قَتَلَكِ، فُلَانٌ؟ «لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ لَا، فَقَالَ:» فُلَانٌ؟ «لِقَاتِلِهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:» الْفِتْنَةُ مِنْ هُنَا «وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِرَجُلٍ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمْسَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ أَمْسَيْتَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا، ثُمَّ قَالَ:» انْزِلْ فَاجْدَحْ «فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ:» إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ «، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ - أَوْ قَالَ: أَذَانُهُ مِنْ سُحُورِهِ - فَإِنَّمَا يُنَادِي - أَوْ قَالَ: يُؤَذِّنُ - لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ. كَأَنَّهُ يَعْنِي الصُّبْحَ أَوِ الْفَجْرَ. وَأَظْهَرَ يَزِيدُ يَدَيْهِ ثُمَّ مَدَّ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ شَيْئًا إِلَّا مَادَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تَجُنَّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ يُنْفِقُ إِلَّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ» ، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. فَهَذِهِ أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ النُّطْقِ فِي أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي هَذَا الْبَابِ: ذَكَرَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مُعَلَّقَةٍ وَمَوْصُولَةٍ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ. هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْجَنَائِزِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَفِيهَا: «وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ. ثَانِيهَا: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمُلَازَمَةِ. وَفِيهَا وَأَشَارَ إِلَيَ أَنْ خُذِ النِّصْفَ. ثَالِثُهَا: وَقَالَتْ أَسْمَاءُ هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُسُوفِ، الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ: فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَيْ: نَعَمْ، وَفِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِمَعْنَاهُ، وَفِي صَلَاةِ السَّهْوِ بِاخْتِصَارٍ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَوْصُولَةٌ، أَمَّا مَا جَاءَ مِنْهَا مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ فَأَمْرُهُ وَاضِحٌ، وَأَمَّا مَا جَاءَ مِنْهَا مُعَلَّقًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ فَقَدْ جَاءَ مَوْصُولًا فِي مَحِلٍّ آخَرَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 الْبُخَارِيِّ. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ إِشَارَتَهُ إِلَى اللِّسَانِ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِهِ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنْ يُسْقِطَ نِصْفَ دِيَتِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ وَيَأْخُذَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مِنْهُ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ جَعَلَتْ فِيهِ عَائِشَةُ إِشَارَتَهَا لِأُخْتِهَا أَنَّ الْكُسُوفَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ هِيَ السَّبَبُ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَنُطْقِهَا بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الرَّابِعُ: جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ كَنُطْقِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ فِي بَابِ) أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ) . قَالَ أَنَسٌ: لَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَحَ لَنَا، فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَرْخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. اهـ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَقَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ إِشَارَتَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ كَنُطْقِهِ لَهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ الْحِجَابِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَقَامَتِ الْإِشَارَةُ مَقَامَ النُّطْقِ. وَالْحَدِيثُ الْخَامِسُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ كَالْفُتْيَا بِالنُّطْقِ، وَإِيضَاحُهُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ) فِي بَابِ مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: «ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ: وَلَا حَرَجَ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَا حَرَجَ» ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ! فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ. اهـ. فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ بِيَدِهِ كَنُطْقِهِ، بِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 الْمُرَادَ بِالْهَرْجِ الْقَتْلُ. وَالْحَدِيثُ السَّادِسُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةَ الْمُحْرِمِ إِلَى الصَّيْدِ لِيُنَبِّهَ إِلَيْهِ الْمُحِلَّ كَأَمْرِهِ لَهُ بِاصْطِيَادِهِ بِالنُّطْقِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَالْحَدِيثُ السَّابِعُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِشَارَةَ إِلَى الرُّكْنِ فِي طَوَافِهِ كَاسْتِلَامِهِ وَتَقْبِيلِهِ بِالْفِعْلِ. وَالْحَدِيثُ الثَّامِنُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ بِأَصَابِعِهِ كَعَقْدِ التِّسْعِينَ لِبَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي فُتِحَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ كَالنُّطْقِ بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ التَّاسِعُ فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ وَضْعَ أُنْمُلَتِهِ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ، مُشِيرًا بِذَلِكَ لِقِلَّةِ زَمَنِ السَّاعَةِ الَّتِي يُجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ مُشِيرًا بِذَلِكَ لِوَقْتِهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ وَضْعَ الْأُنْمُلَةِ فِي وَسَطِ الْكَفِّ يُرَادُ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي وَسَطِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَوَضْعَهَا عَلَى الْخِنْصَرِ يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ ; لِأَنَّ الْخِنْصَرَ آخِرُ أَصَابِعِ الْكَفِّ كَالنُّطْقِ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ لِسَاعَةِ الْجُمْعَةِ مِنْ فِعْلِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ فَفِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ إِدْرَاجٌ. وَالْحَدِيثُ الْعَاشِرُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةَ الْجَارِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَهُودِيُّ كَنُطْقِهَا بِأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَتَلَهَا، وَأَنَّ مَنْ سُمِّيَ لَهَا غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ جَعَلَ إِشَارَةَ الْجَارِيَةِ كَنُطْقِهَا لَمْ يَقْتُلِ الْيَهُودِيَّ بِإِشَارَةِ الْجَارِيَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ نُطْقِهَا بِمَنْ قَتَلَهَا، وَلَكِنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ قَتَلَهَا فَثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِاعْتِرَافِهِ وَاقْتَصَّ لَهَا مِنْهُ بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفِتْنَةُ مِنْ هُنَا» وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَجَعَلَ إِشَارَتَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» فَجَعَلَ إِشَارَتَهُ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ كَنُطْقِهِ بِلَفْظِ الْمَشْرِقِ. وَالْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ جَعَلَ فِيهِ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَالْفَجْرِ الصَّادِقِ بِذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ» ، وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 حَلْقِهِ، فَجَعَلَ إِشَارَتَهُ إِلَى أَنَّ دِرْعَ الْحَدِيدِ الْمَضْرُوبَ بِهَا الْمَثَلُ لِلْبَخِيلِ ثَابِتَةٌ عَلَى حَلْقِهِ لَا تَنْزِلُ عَنْهُ وَلَا تَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَلَا بَدَنَهُ كَالنُّطْقِ بِذَلِكَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَسُقْنَاهَا هُنَا، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ كَالنُّطْقِ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهَا، مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ بَابِ) اللِّعَانِ (خَمْسَةَ أَحَادِيثَ أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ كَالنُّطْقِ وَلَمْ نَذْكُرْهَا هُنَا لِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةً. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْفَتْحِ (فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ، وَخَالَفَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِشَارَةَ قَائِمَةً مَقَامَ النُّطْقِ، وَإِذَا جَازَتِ الْإِشَارَةُ فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الدِّيَانَةِ فَهِيَ لِمَنْ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ أَجْوَزُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَغَيْرِهِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْأَصْلُ وَالْعَدَدُ نَافِذَةٌ كَاللَّفْظِ. اهـ. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ وَأَحَادِيثَهَا تَوْطِئَةً لِمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْبَحْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، مَعَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ لِعَانِ الْأَخْرَسِ، وَطَلَاقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَاللَّفْظِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [19 \ 26] ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصْرِيحَ بِنَذْرِهَا الْإِمْسَاكَ عَنْ كَلَامِ كُلِّ إِنْسِيٍّ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [19 \ 29] ، أَيْ: أَشَارَتْ لَهُمْ إِلَيْهِ أَنْ كَلِّمُوهُ يُخْبِرْكُمْ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ، وَقَدْ فَهِمَهَا قَوْمُهَا فَأَجَابُوهَا جَوَابًا مُطَابِقًا لِفَهْمِهِمْ مَا أَشَارَتْ بِهِ: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [19 \ 29] ، وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ الْمُفْهِمَةُ لَوْ كَانَتْ كَالنُّطْقِ لَأَفْسَدَتْ نَذْرَ مَرْيَمَ أَلَّا تُكَلِّمَ إِنْسِيًّا، فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ بِاللَّفْظِ يُخِلُّ بِنَذْرِهَا، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ الْفَرْقُ صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [3 \ 41] ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ آيَةً عَلَى مَا بُشِّرَ بِهِ وَهِيَ مَنْعُهُ مِنَ الْكَلَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْإِشَارَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 إِلَّا رَمْزًا، وَقَوْلُهُ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الْآيَةَ [19 \ 11] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَالْكَلَامِ، وَالْآيَةَ الْأُولَى أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَاللَّفْظِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِكَوْنِ الْإِشَارَةِ كَالْكَلَامِ ; لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: إِلَّا رَمْزًا، مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الرَّمْزَ الَّذِي هُوَ الْإِشَارَةُ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَإِذَا عَلِمْتَ أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْإِشَارَةِ، هَلْ هِيَ كَاللَّفْظِ أَوْ لَا؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، هَلْ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ أَوْ لَا، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى جُمَلًا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي آخِرِ بَابِ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ، مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، فَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ فَقَالُوا: تَكْفِي وَلَوْ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ، وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، ثَالِثُهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ نُطْقِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِنِ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ، وَرَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ سَبَقَهُ كَلَامٌ، وَنُقِلَ عَنْ مَكْحُولٍ، إِنْ قَالَ: فُلَانٌ حُرٌّ، ثُمَّ أُصْمِتَ فَقِيلَ لَهُ: وَفُلَانٌ؟ فَأَوْمَأَ صَحَّ، وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ فَلَا تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ نُطْقِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَاخْتُلِفَ هَلْ يَقُومُ مِنْهُ مَقَامَ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ طَلْقَةٌ؟ فَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ اللِّعَانِ، مَا نَصُّهُ: فَإِذَا قَذَفَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَازَ الْإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا رَمْزًا إِشَارَةً، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِكَلَامٍ وَإِلَّا بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ يُلَاعِنُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبَيَّنَ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ، وَقَالَ حَمَّادٌ: الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 وَمَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مُتَقَارِبَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى، يَعْنِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: الْكَلَامُ عَلَى الصِّيغَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الطَّلَاقُ: وَلَزِمَ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ. يَعْنِي أَنَّ الطَّلَاقَ يَلْزَمُ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مُطْلَقًا مِنَ الْأَخْرَسِ وَالنَّاطِقِ وَقَالَ شَارِحُهُ الْمَوَّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: مَا عُلِمَ مِنَ الْأَخْرَسِ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِكِتَابٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ قَذْفٍ - لَزِمَهُ حُكْمُ الْمُتَكَلِّمِ، وَرَوَى الْبَاجِيُّ: إِشَارَةُ السَّلِيمِ بِالطَّلَاقِ بِرَأْسِهِ أَوْ بِيَدِهِ كَلَفْظِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [3 \ 41] انْتَهَى مِنْهُ، وَرِوَايَةُ الْبَاجِيِّ هَذِهِ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ كَلَامِ النَّاطِقِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، كَإِعْتَاقِهِ وَطَلَاقِهِ، وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَّا السَّلِيمُ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ إِشَارَتُهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى النُّطْقِ، وَإِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ فِيهَا حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ تُفْهِمُ مَا لَا يَقْصِدُ الْمُشِيرُ، وَلِأَنَّ أَيْمَانَ اللِّعَانِ لَهَا صِيَغٌ لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا تَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ الْمَقْذُوفَةُ خَرْسَاءَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ عِنْدَهُ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا لَوْ نَطَقَتْ لَصَدَّقَتْهُ، وَلِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْإِتْيَانُ بِأَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ الْمَنْصُوصَةِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ الْقَذْفُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَخْرَسِ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْقِيَاسَ مَنَعَ اعْتِبَارَ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ ; لِأَنَّهَا لَا تُفْهَمُ كَالنُّطْقِ فِي الْجَمِيعِ، وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا الْعَمَلَ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِبَارُ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ فِي اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ إِشَارَةِ السَّلِيمِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا لِعَانَ إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَخْرَسَ، كَمَا قَدَّمْنَا تَوْجِيهَهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ: إِنْ فُهِمَتْ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فَهُوَ كَالنَّاطِقِ فِي قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ، وَأَمَّا طَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَنِكَاحُهُ وَشِبْهُ ذَلِكَ فَالْإِشَارَةُ كَالنُّطْقِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَمَّا السَّلِيمُ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ إِشَارَتُهُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْإِشَارَةَ إِنْ دَلَّتْ عَلَى الْمَعْنَى دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا شَكَّ فِي الْمَقْصُودِ مَعَهَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ مُطْلَقًا، مَا لَمْ تَكُنْ فِي خُصُوصِ اللَّفْظِ أَهَمِّيَّةٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ فَلَا تَقُومُ الْإِشَارَةُ مَقَامَهُ كَأَيْمَانِ اللِّعَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَيْهَا بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَهَا وَكَجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَبَّدِ بِهَا فَلَا تَكْفِي فِيهَا الْإِشَارَةُ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، أَيْ: إِمْسَاكًا عَنِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا فَقَوْلُهُ: «خَيْلٌ صِيَامٌ» أَيْ: مُمْسِكَةٌ عَنِ الْجَرْيِ، وَقِيلَ عَنِ الْعَلَفِ «وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ» أَيْ: غَيْرُ مُمْسِكَةٍ عَمَّا ذُكِرَ. وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامِهَا ... بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ فَقَوْلُهُ: «فِي مَصَامِهَا» أَيْ: مَكَانَ صَوْمِهَا، يَعْنِي إِمْسَاكَهَا عَنِ الْحَرَكَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ) فِي الْفَتْحِ فِي بَابِ اللِّعَانِ (وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أَيْ: صَمْتًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالصَّوْمِ فِي الْآيَةِ: هُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [2 \ 183] ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَامُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الْكَلَامُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ، وَالصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ فَهَذَا النَّذْرُ الَّذِي نَذَرَتْهُ أَلَّا تُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، أَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَنَا بِهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ النَّذْرُ وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بَرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَسْتَظِلُّ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَيَصُومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ «فِي الْفَتْحِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْمُبَاحِ لَيْسَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «وَلَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ» وَتَقَدَّمَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِنَّ هَذَا - يَعْنِي الصَّمْتَ - مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ وَلَوْ مَآلًا مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ، كَالْمَشْيِ حَافِيًا، وَالْجُلُوسِ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا إِسْرَائِيلَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَتَكَلَّمَ وَيَسْتَظِلَّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قِصَّةِ أَبِي إِسْرَائِيلَ: هَذِهِ أَوْضَحُ الْحُجَجِ لِلْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً، أَوْ مَا لَا طَاعَةَ فِيهِ، قَالَ مَالِكٌ لَمَّا ذَكَرَهُ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ) فَتْحِ الْبَارِي (وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ، فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافْ (: لَمْ أَرَهُ هَكَذَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ «لَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ» وَفِيهِ حِزَامُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «النِّسَاءِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ، مَعْنَاهُ فَإِنْ تَرَيْ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا، فَلَفَظَةُ «إِمَّا» مُرَكَّبَةٌ مِنْ «إِنْ» الشَّرْطِيَّةِ وَ «مَا» الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ الشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ تَرْأَيَيْنَ عَلَى وَزْنِ تَفْعَلَيْنَ، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا وَجَبَ قَلْبُهَا أَلِفًا فَصَارَتْ تَرْآيْنَ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةَ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الرَّاءِ ; لِأَنَّ اللُّغَةَ الْفُصْحَى الَّتِي هِيَ الْأَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُ هَمْزَةِ رَأَى فِي الْمُضَارِعِ وَالْأَمْرِ، وَنَقْلُ حَرَكَتِهَا إِلَى الرَّاءِ فَصَارَتْ تَرَايْنَ، فَالْتَقَى السَّاكِنَانِ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْأَلِفُ، فَصَارَ تَرَيْنَ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ نُونُ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةُ فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ مِنْ أَجْلِهَا هِيَ، وَالْجَازِمُ الَّذِي هُوَ «إِنْ» الشَّرْطِيَّةُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يُوجِبُ حَذْفَ نُونِ الرَّفْعِ، فَصَارَ تَرَيْنَ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ هُمَا الْيَاءُ السَّاكِنَةُ وَالنُّونُ الْأُولَى السَّاكِنَةُ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ الْمُثَقَّلَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مُشَدَّدٍ فَهُوَ حَرْفَانِ، فَحُرِّكَتِ الْيَاءُ بِحَرَكَةٍ تُنَاسِبُهَا وَهِيَ الْكَسْرَةُ فَصَارَتْ تَرَيْنَ، كَمَا أَشَارَ إِلَى هَذَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَاحْذِفْهُ مِنْ رَافِعِ هَاتَيْنِ وَفِي ... وَاوٍ وَيَا شَكْلٌ مُجَانِسٌ قُفِي نَحْوِ اخْشَيْنَ يَا هِنْدُ بِالْكَسْرِ وَيَا ... قَوْمِ اخْشَوُنْ وَاضْمُمْ وَقِسْ مُسْوِيَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ هَمْزَةَ «رَأَى» تُحْذَفُ فِي الْمُضَارِعِ وَالْأَمْرِ هُوَ الْقِيَاسُ الْمُطَّرِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَبَقَاؤُهَا عَلَى الْأَصْلِ مَسْمُوعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُرَاقَةَ بْنِ مِرْدَاسٍ الْبَارِقِيِّ الْأَصْغَرِ: أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأَيَاهُ ... كِلَانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ وَقَوْلُ الْأَعْلَمِ بْنِ جَرَادَةَ السَّعْدِيِّ، أَوْ شَاعِرٍ مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ: أَلَمْ تَرْأَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصُرُ ... وَمَنْ يَتَمَلَّ الدَّهْرَ يَرْأَ وَيَسْمَعِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَحِنُّ إِذَا رَأَيْتُ جِبَالَ نَجْدٍ ... وَلَا أَرْأَى إِلَى نَجْدٍ سَبِيلَا وَنُونُ التَّوْكِيدِ فِي الْعَمَلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ «إِمَّا» لَازِمَةٌ عِنْدَ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِلُزُومِهَا بَعْدَ «إِمَّا» كَقَوْلِهِ هُنَا: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا،: الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْفَارِسِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ «إِمَّا» غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَيَدُلُّ لَهُ كَثْرَةُ وُرُودِهِ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِ الْأَعْشَى مَيْمُونِ بْنِ قَيْسٍ: فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَرْدَى بِهَا وَقَوْلِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ: فَإِمَّا تَرَيْنِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِمًا ... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ وَقَوْلِ الشَّنْفَرَى: فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا ... عَلَى رِقَّةٍ أُحْفِي وَلَا أَتَنَعَّلُ وَقَوْلِ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ: إِمَّا تَرَيْ رَأْسِي أَزْرَى بِهِ ... مأس زَمَانٍ ذِي انْتِكَاسٍ مؤس وَقَوْلِ الْآخَرِ: زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ ... يُسَدِّدْ بُنَيُّوهَا الْأَصَاغِرُ خَلَّتِي وَقَوْلِ الْآخَرِ: يَا صَاحِ إِمَّا تَجِدُنِي غَيْرَ ذِي جَدَّةٍ ... فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الْخُلَّانِ مِنْ شِيَمِي وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ. وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ يَقُولَانِ: إِنَّ حَذْفَ النُّونِ فِي الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا إِنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ كَسِيبَوَيْهَ وَالْفَارِسِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 يَمْنَعُونَ كَوْنَهُ لِلضَّرُورَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، لَمَّا اطْمَأَنَّتْ مَرْيَمُ بِسَبَبِ مَا رَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا آنِفًا أَتَتْ بِهِ) أَيْ بِعِيسَى (قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ غَيْرَ مُحْتَشِمَةٍ وَلَا مُكْتَرِثَةٍ بِمَا يَقُولُونَ، فَقَالُوا لَهَا: يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [19 \ 27] ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: «فَرِيًّا» ، أَيْ: عَظِيمًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: «فَرِيًّا» أَيْ: مُخْتَلَقًا مُفْتَعَلًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: «فَرِيًّا» أَيْ: عَجِيبًا نَادِرًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، أَيْ: مُنْكَرًا عَظِيمًا ; لِأَنَّ «الْفَرِيَّ» فَعِيلٌ مِنَ الْفِرْيَةِ، يَعْنُونَ بِهِ الزِّنَى ; لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى الْمُخْتَلَقِ ; لِأَنَّ الزَّانِيَةَ تَدَّعِي إِلْحَاقَهُ بِمَنْ لَيْسَ أَبَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ «فَرِيًّا» الزِّنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [4 \ 156] ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهَا زَنَتْ، وَجَاءَتْ بِعِيسَى مِنْ ذَلِكَ الزِّنَى) حَاشَاهَا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ (هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، وَالْبَغِيُّ الزَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، يَعْنُونَ كَانَ أَبَوَاكِ عَفِيفَيْنِ لَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ، فَمَا لَكِ أَنْتِ تَرْتَكِبِينَهَا! وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ [60 \ 12] ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، أَيْ: وَلَا يَأْتِينَ بِوَلَدِ زِنًى يَقْصِدْنَ إِلْحَاقَهُ بِرَجُلٍ لَيْسَ أَبَاهُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكُلُّ عَمَلٍ أَجَادَهُ عَامِلُهُ فَقَدْ فَرَاهُ لُغَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ وَهُوَ زُرَارَةُ بْنُ صَعْبِ بْنِ دَهْرٍ: وَقَدْ أَطْعَمْتِنِي دَقْلًا حَوْلِيَّا ... مُسَوَّسًا مُدَوَّدًا حَجَرِيَّا قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الْفَرِيَّا يَعْنِي: تَعْمَلِينَ بِهِ الْعَمَلَ الْعَظِيمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْصِدُ أَنَّهَا تُؤَكِّلُهُ أَكْلًا لَمًّا عَظِيمًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَا أُخْتَ هَارُونَ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَارُونَ بْنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 عِمْرَانَ أَخَا مُوسَى، كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ آخَرُ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَمَّى هَارُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هَارُونَ أَخَا مُوسَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنْزِيُّ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ: يَا أُخْتَ هَارُونَ، وَمُوسَى قَبْلُ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» اهـ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَارُونَ أَخَا مُوسَى قَبْلَ مَرْيَمَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافْ (فِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّمَا عَنَوْا هَارُونَ النَّبِيَّ، مَا نَصُّهُ: لَمْ أَجِدْهُ هَكَذَا إِلَّا عِنْدَ الثَّعْلَبِيِّ بِغَيْرِ سَنَدٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا لِي: أَرَأَيْتُمْ شَيْئًا تَقْرَءُونَهُ «يَا أُخْتَ هَارُونَ» وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ السِّنِينَ، فَلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ. فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ: نُبِّئْتُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى يَا أُخْتَ هَارُونَ، لَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَذَبْتَ. فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَهُوَ أَعْلَمُ، وَإِلَّا فَإِنِّي أَجِدُ بَيْنَهُمَا سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أُخْتَ هَارُونَ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ. . .، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَأَيْتَ إِخْرَاجَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ بِلَفْظِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ هَارُونُ أَخُو مُوسَى، بَاطِلٌ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا أُخْتُهُ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ أَنَّهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَالْمُرَادُ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ تَمِيمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ [46 \ 21] ; لِأَنَّ هُودًا إِنَّمَا قِيلَ لَهُ أَخُو عَادٍ لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَهُوَ أَخُو بَنِي عَادٍ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِعَادٍ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 الْمُرَادَ بِهَا الْقَبِيلَةُ لَا الْجِدُّ، وَإِذَا حَقَّقْتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَارُونَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: إِنَّ لَهَا أَخًا اسْمُهُ هَارُونَ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ هَارُونَ الْمَذْكُورَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا مَشْهُورٌ بِالصَّلَاحِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا أُخْتَهُ أَنَّهَا تُشْبِهُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَخِ عَلَى النَّظِيرِ الْمُشَابِهِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا الْآيَةَ [43 \ 48] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ الْآيَةَ [7 \ 27] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [7 \ 202] ، وَمِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ: وَكُلُّ أَخٍ يُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ فَجَعَلَ الْفَرْقَدَيْنِ أَخَوَيْنِ. وَكَثِيرًا مَا تُطْلِقُ الْعَرَبُ اسْمَ الْأَخِ عَلَى الصَّدِيقِ وَالصَّاحِبِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الصَّاحِبِ قَوْلُ الْقُلَاخِ بْنِ حَزْنٍ: أَخَا الْحَرْبِ لَبَّاسًا إِلَيْهَا جِلَالَهَا ... وَلَيْسَ بِوَلَّاجِ الْخَوَالِفِ أَعْقَلَا فَقَوْلُهُ: «أَخَا الْحَرْبِ» يَعْنِي صَاحِبَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي، وَقِيلَ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ: عَشِيَّةَ سُعْدَى لَوْ تَرَاءَتْ لِرَاهِبٍ ... بِدَوْمَةٍ تَجْرٌ دُونَهُ وَحَجِيجُ قَلَى دِينَهُ وَاهْتَاجَ لِلشَّوْقِ إِنَّهَا ... عَلَى النَّأْيِ إِخْوَانُ الْعَزَاءِ هَيُوجُ فَقَوْلُهُ «إِخْوَانُ الْعَزَاءِ» يَعْنِي أَصْحَابَ الصَّبْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ. مَعْنَى إِشَارَتِهَا إِلَيْهِ: أَنَّهُمْ يُكَلِّمُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُهَا بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [19 \ 29] ، فَالْفِعْلُ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ «كَانَ» بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْحَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَوَّلَ كَلِمَةٍ نَطَقَ لَهُمْ بِهَا عِيسَى وَهُوَ صَبِيٌّ فِي مَهْدِهِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ زَجْرٍ لِلنَّصَارَى عَنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ اللَّهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ إِلَهٌ مَعَهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا عِيسَى فِي أَوَّلِ خِطَابِهِ لَهُمْ ذَكَرَهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [5 \ 72] ، وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [3 \ 51] ، وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [43 \ 62 - 64] ، وَقَوْلِهِ هُنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» : وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [19 \ 39] ، وَقَوْلِهِ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، التَّحْقِيقُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَمَّا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [16 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [39 \ 68 - 71] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [39 \ 73] . فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ، وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَاضِيَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آتَانِيَ الْكِتَابَ. . . إِلَخْ، بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نُبِّئَ وَأُوتِيَ الْكِتَابَ فِي حَالِ صِبَاهُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا، أَيْ: كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْخَيْرَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَفَّاعًا حَيْثُ كُنْتُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافِي (: أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ) فِي الْحِلْيَةِ (فِي تَرْجَمَةِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا وَأَتَمَّ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ، وَعَنْهُ شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. اهـ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي قَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا، وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ) فِي الْبَحْرِ (: وَفِيهِ بُعْدٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ «أَوْصَانِي» وَمُتَعَلِّقِهَا، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي، وَلَمَّا قَالَ بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَقُلْ بِوَالِدَيَّ عُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ قَدَّمَنَا مَعْنَى «الْجَبَّارِ وَالشَّقِيِّ» وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «شَقِيًّا» أَيْ: خَائِبًا مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاقًّا، وَقِيلَ عَاصِيًا لِرَبِّهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَجْعَلْنِي تَارِكًا لِأَمْرِهِ فَأَشْقَى كَمَا شَقِيَ إِبْلِيسُ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. تَنْبِيهٌ احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا أَشَدَّهَا عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ! أَخْبَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قُضِيَ مِنْ أَمْرِهِ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ فِيهِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ: قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قَوْلُ الْحَقِّ» [19 \ 34] بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ قَوْلَ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ «ذَلِكَ» رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَوْلُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا، وَقَوْلُهُ «ذَلِكَ» مُبْتَدَأٌ، «وَعِيسَى» خَبَرُهُ، وَ «ابْنُ مَرْيَمَ» نَعْتٌ لِـ «عِيسَى» وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَقَوْلُهُ: قَوْلَ الْحَقِّ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالثَّانِي كَابْنِي أَنْتَ حَقًّا صِرْفَا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ فَـ «قَوْلُ الْحَقِّ» خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ - أَيْ: هُوَ - أَيْ: نِسْبَتُهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَطْ قَوْلُ الْحَقِّ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ «الْحَقِّ» فِي قَوْلِهِ هُنَا «قَوْلَ الْحَقِّ» فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ ضِدُّ الْبَاطِلِ بِمَعْنَى الصِّدْقِ وَالثُّبُوتِ، كَقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِعْرَابُ قَوْلِهِ «قَوْلَ الْحَقِّ» عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [3 \ 60] . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا ; لِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ «الْحَقَّ» كَقَوْلِهِ: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [24 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْآيَةَ [22 \ 62] ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِعْرَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى قَوْلَ الْحَقِّ [19 \ 34] عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ «عِيسَى» أَوْ خَبَرٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَـ «قَوْلَ الْحَقِّ» ، هُوَ «عِيسَى» كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ كَلِمَةً فِي قَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [4 \ 171] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ الْآيَةَ [3 \ 45] ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ «عِيسَى» كَلِمَةً لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِكَلِمَتِهِ الَّتِي هِيَ «كُنْ» فَكَانَ، كَمَا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ [3 \ 59] ، وَالْقَوْلُ وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أَيْ: يَشُكُّونَ، فَالِامْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَهَذَا الشَّكُّ الَّذِي وَقَعَ لِلْكُفَّارِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [3 \ 59 - 60] ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْحَقُّ الَّذِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَاجَّهُ فِي شَأْنِ عِيسَى إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَا قَصَّ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرِ عِيسَى هُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الْآيَةَ [3 \ 61 - 62] ، وَلَمَّا نَزَلَتْ وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ خَافُوا الْهَلَاكَ وَأَدَّوُا [الْجِزْيَةَ] كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَ «مَا كَانَ» يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، فَتَارَةً يَدُلُّ ذَلِكَ النَّفْيُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الْآيَةَ [9 \ 120] ، وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّعْجِيزِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا الْآيَةَ [27 \ 59 - 60] . وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، وَقَدْ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَكُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، فَقَوْلُهُ: مَا كَانَ لِلَّهِ بِمَعْنَى: مَا يَصِحُّ وَلَا يَتَأَتَّى وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [19 \ 92] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ الْبَالِغُ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا الْمُحَالَ فِي قَوْلِهِمْ «عِيسَى ابْنُ اللَّهِ» وَمَا نَزَّهَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ هُنَا مِنَ الْوَلَدِ الْمَزْعُومِ كَذِبًا - كَعِيسَى - نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ الْآيَةَ [4 \ 171] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [19 \ 88 - 91] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذَا قَضَى أَمْرًا [19 \ 35] أَيْ: أَرَادَ قَضَاءَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [16 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 \ 82] ، وَحَذْفُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ الْآيَةَ [5 \ 6] أَيْ: إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [16 \ 98] ، أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ زِيدَتْ فِيهِ لَفْظَةُ «مِنْ» قَبْلَ الْمَفْعُولِ بِهِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 إِذَا زِيدَتْ قَبْلَهَا لَفْظَةُ «مِنْ» لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ كَانَتْ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ، وَتَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا لِلتَّوْكِيدِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَبْلَ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ [28 \ 46] ، وَقَبْلَ الْمَفْعُولِ، كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ الْآيَةَ [21 \ 25] ، وَقَبْلَ الْمُبْتَدَأِ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي «الْأَحْزَابِ» الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ فِرَقُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ زِنًى، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ اللَّهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بِالْوَيْلِ لَهُمْ مِنْ شُهُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ مَنْ كَفَرَ بِالتَّفْرِيطِ فِي عِيسَى كَالَّذِي قَالَ إِنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَمَنْ كَفَرَ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ كَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ اللَّهُ أَوِ ابْنُهُ، وَقَوْلُهُ «وَيْلٌ» كَلِمَةُ عَذَابٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ لَا فِعْلَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ كَوْنُهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَشْهَدَ فِي الْآيَةِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ شُهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمِ - أَيْ حُضُورِهِ - لِمَا سَيُلَاقُونَهُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَشْهَدَ فِي الْآيَةِ اسْمُ مَكَانٍ، أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي يَشْهَدُونَ فِيهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْعَذَابَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [43 \ 63 - 64] ، وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّهُ يُؤَخِّرُ عَذَابَهُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِذَلِكَ - أَشَارَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [14 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [11 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [29 \ 53] . وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمَ إِلَى وَقْتِ عَذَابِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُهْمِلُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11 \ 102] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [22 \ 48] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [19 \ 37] ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي) الْبَحْرِ (: وَمَعْنَى قَوْلِهِ «مِنْ بَيْنِهِمْ» أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ بَلْ كَانُوا هُمُ الْمُخْتَلِفِينَ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَوْلُهُ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ صِيغَتَا تَعَجُّبٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَتْهُمْ بِهَا الرُّسُلُ سَمْعًا وَإِبْصَارًا عَجِيبَيْنِ، وَأَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي ضَلَالٍ وَغَفْلَةٍ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سَمْعِهِمْ وَإِبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [50 \ 22] ، وَكَقَوْلِهِ فِي غَفْلَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَعَدَمِ إِبْصَارِهِمْ وَسَمْعِهِمْ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [21 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [30 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [2 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ الْآيَةَ [11 \ 24] ، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ: الْكُفَّارُ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ صِيغَةَ التَّعَجُّبِ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَزْنِ «أَفْعِلْ بِهِ» فَهِيَ فِعْلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ جَاءَ عَلَى صُورَةِ الْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ لِإِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الصِّيغَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ دُخُولُ نُونِ التَّوْكِيدِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمُسْتَبْدِلٍ مِنْ بَعْدِ غَضْيَا صُرَيْمَةً ... فَأَحْرِ بِهِ لِطُولِ فَقْرٍ وَأَحْرِيَا لِأَنَّ الْأَلِفَ فِي قَوْلِهِ: «وَأَحْرِيَا» مُبْدَلَةٌ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَأَبْدِلْنَهَا بَعْدَ فَتْحٍ أَلِفًا ... وَقْفَا كَمَا تَقُولُ فِي قِفَنْ قِفَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ التَّعَجُّبِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ: «مَا أَفْعَلَهُ» فِعْلٌ مَاضٍ، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا اسْمٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهَا فِي قَوْلِ الْعَرَجِيِّ: يَا مَا أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ... مِنْ هَؤُلَيَّاءِ بَيْنَ الضَّالِ وَالسَّمُرِ قَالُوا: وَالتَّصْغِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ، وَأَجَابَ مَنْ خَالَفَهُمْ بِأَنَّ تَصْغِيرَهَا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، الْحَسْرَةُ: أَشَدُّ النَّدَمِ وَالتَّلَفِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي فَاتَ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارَكُهُ، وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ، أَيْ: أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ لَهُ: يَوْمُ الْحَسْرَةِ؛ لِشِدَّةِ نَدَمِ الْكُفَّارِ فِيهِ عَلَى التَّفْرِيطِ، وَقَدْ يَنْدَمُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ الْآيَةَ [40 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [34 \ 46] . وَأَشَارَ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْحَسْرَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الْآيَةَ [39 \ 56] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا الْآيَةَ [6 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [2 \ 167] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أَيْ: فِي غَفْلَةِ الدُّنْيَا مُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَجُمْلَةُ " وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ " حَالِيَّةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا " أَنْذِرْهُمْ " أَيْ: أَنْذِرْهُمْ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ قَوْلُهُ قَبْلَ هَذَا " فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَا " إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ " أَيْ: ذُبِحَ الْمَوْتُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ:) بَابُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ "، ثُمَّ قَرَأَ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [19 \ 39] ، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَبْحَ الْمَوْتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ " أَيْ: ذُبِحَ الْمَوْتُ، وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ أُخَرَ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَاهَا لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ، مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا: أَنَّهُ يُمِيتُ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ السَّاكِنِينَ بِالْأَرْضِ، وَيَبْقَى هُوَ جَلَّ وَعَلَا لِأَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [55 \ 26 - 27] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [15 \ 23] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ «مُحَمَّدًا» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ «إِبْرَاهِيمَ» عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَتْلُو عَلَى النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ نَبَأَهُ مَعَ قَوْمِهِ وَدَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ هُنَا مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ الْآيَةَ [19 \ 42] ، أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [26 \ 69 - 70] . فَقَوْلُهُ هُنَا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ فِي «الشُّعَرَاءِ» أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ لِأَبِيهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ قَالَهُ أَيْضًا لِسَائِرِ قَوْمِهِ، وَكَرَّرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 تَعَالَى الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِهَذَا النَّهْيِ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [6 \ 74] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [26 \ 70 - 77] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [21 \ 51 - 56] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [43 \ 26 - 27] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [37 \ 83 - 87] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الْآيَةَ [60 \ 40] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ، الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ «إِذْ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ «إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ الْآيَةَ [19 \ 16] ، وَقَدْ قَدَّمَنَا هُنَاكَ إِنْكَارَ بَعْضِهِمْ لِهَذَا الْإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [19 \ 41] ، مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَابِ الْمَذْكُورِ، وَالصِّدِّيقُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الصِّدْقِ، لِشِدَّةِ صِدْقِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ، كَمَا شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [53 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [2 \ 124] . وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: رِضَاهُ بِأَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، وَشُرُوعُهُ بِالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ طَاعَةً لِرَبِّهِ، مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ فِلْذَةٌ مِنَ الْكَبِدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 لَكِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا ... أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا الْآيَةَ [37 \ 103 - 105] . وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ: صَبْرُهُ عَلَى الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [21 \ 68] ، وَقَالَ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ [29 \ 24] . وَذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي قِصَّتِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَمَوْهُ إِلَى النَّارِ لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا إِلَى اللَّهِ فَنَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تَسْأَلُهُ؟ فَقَالَ: عِلْمُهُ بِحَالِي كَافٍ عَنْ سُؤَالِي. وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: صَبْرُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ فِرَارًا بِدِينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [29 \ 26] ، وَقَدْ هَاجَرَ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ إِلَى دِمَشْقَ: وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَسَرَهَا وَجَعَلَهَا جُذَاذًا وَتَرَكَ الْكَبِيرَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَمَّا سَأَلُوهُ هَلْ هُوَ الَّذِي كَسَرَهَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ كَبِيرُ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُؤَالِ الْأَصْنَامِ إِنْ كَانَتْ تَنْطِقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [21 \ 57 - 67] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [37 \ 92] ، فَقَوْلُهُ: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، أَيْ: مَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ يَضْرِبُهَا ضَرْبًا بِيَمِينِهِ حَتَّى جَعَلَهَا جُذَاذًا، أَيْ: قِطَعًا مُتَكَسِّرَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: جَذَّهُ: إِذَا قَطَعَهُ وَكَسَرَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا، أَيْ: كَثِيرُ الصِّدْقِ، يُعْرَفُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 مِنْهُ أَنَّ الْكَذِبَاتِ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ كُلَّهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الصِّدْقِ لَا مِنَ الْكَذِبِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ، التَّاءُ فِيهِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَالْأَصْلُ: يَا أَبِي كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَفِي النِّدَا «أَبَتِ أُمَّتِ» عَرِّضْ ... وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَاءِ التَّا عِوَضْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِمَ تَعْبُدُ أَصْلُهُ «مَا» الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ «اللَّامُ» فَحُذِفَ أَلِفُهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ... أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ لَا تَجُوزُ بِالْقِيَاسِ، وَلِذَا يُوقَفُ عَلَى «لِمَ» بِسُكُونِ الْمِيمِ لَا بِهَاءِ السَّكْتِ كَمَا فِي الْبَيْتِ، وَمَعْنَى عِبَادَتِهِ لِلشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ طَاعَتُهُ لِلشَّيْطَانِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَذَلِكَ الشِّرْكُ شِرْكُ طَاعَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [36 \ 60 - 61] ، كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْمَبْحَثُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» وَغَيْرِهَا. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُعَذَّبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ، لِقَوْلِهِ هُنَا: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [19 \ 45] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [4 \ 76] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْآيَةَ [3 \ 175] ، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [7 \ 30] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ فَيَتَّبِعُهُ فِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَلَا وَلِيَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [16 \ 63] ، وَمَنْ كَانَ لَا وَلِيَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ يَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [19 \ 43] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 يَعْنِي مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ وَمَا أَلْهَمَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [21 \ 51] ، وَمُحَاجَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ كَمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا أَثْنَى اللَّهُ بِهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا حُجَّةُ اللَّهِ آتَاهَا نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ الْآيَةَ [6 \ 83] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي الْآيَةَ [6 \ 80] ، وَكَوْنُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَارِدَةً فِي مُحَاجَّتِهِ لَهُمُ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ أَصْلَ الْمُحَاجَّةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» وَفِي غَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا بَيِّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لِمَّا نَصَحَ أَبَاهُ النَّصِيحَةَ الْمَذْكُورَةَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ، وَإِيضَاحِ الْحَقِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَةِ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَوِلَايَةِ الشَّيْطَانِ - خَاطَبَهُ هَذَا الْخِطَابَ الْعَنِيفَ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ «يَا بُنَيَّ» فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لَهُ «يَا أَبَتِ» وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَاغِبٌ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَيْ: مُعْرِضٌ عَنْهَا لَا يُرِيدُهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا ال لَّهَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَهَدَّدَهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا يَقُولُهُ لَهُ لَيَرْجُمَنَّهُ) قِيَلَ بِالْحِجَارَةِ وَقِيلَ بِاللِّسَانِ شَتْمًا (وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِهَجْرِهِ مَلِيًّا أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَابَلَ أَيْضًا جَوَابَهُ الْعَنِيفَ بِغَايَةِ الرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [19 \ 47] ، وَخِطَابُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ الْجَاهِلِ بِقَوْلِهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ قَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ خِطَابُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْجُهَّالِ إِذَا خَاطَبُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [25 \ 63] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [28 \ 55] ، وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أَقْنَعَ أَبَاهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، قَابَلَهُ أَبُوهُ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ عَادَةُ الْكُفَّارِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِأَصْنَامِهِمْ، كُلَّمَا أُفْحِمُوا بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ لَجَئُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْكُفَّارُ عَنْ أَصْنَامِهِمْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ [21 \ 65] ، قَالَ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [21 \ 67] ، فَلَمَّا أَفْحَمَهُمْ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ لَجَئُوا إِلَى الْقُوَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [21 \ 68] ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ [29 \ 24] ، وَقَوْلُهُ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ لَمَّا أَفْحَمَهُمْ بِالْحُجَّةِ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الْآيَةَ [27 \ 56] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، يَعْنِي: لَا يَنَالُكَ مِنِّي أَذًى وَلَا مَكْرُوهٌ، بَلْ سَتَسْلَمُ مِنِّي فَلَا أُوذِيكَ، وَقَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، وَعْدٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِاسْتِغْفَارِهِ لَهُ، وَقَدْ وَفَّى بِذَلِكَ الْوَعْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [19 \ 47] ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [14 \ 41] . وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [9 \ 114] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [9 \ 114] ، وَالْمَوْعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ هُنَا: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [19 \ 47] ، وَلَمَّا اقْتَدَى الْمُؤْمِنُونَ بِإِبْرَاهِيمَ فَاسْتَغْفَرُوا لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [9 \ 113] ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ الْآيَةَ [9 \ 114] ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْمُمْتَحِنَةِ» أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْمُشْرِكِينَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْأُسْوَةِ بِإِبْرَاهِيمَ، وَالْأُسْوَةُ الِاقْتِدَاءُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [60 \ 4] ، أَيْ: فَلَا أُسْوَةَ لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا نَدِمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالَ فِيهِمْ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [9 \ 113] ، بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَنْعَ ذَلِكَ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [9 \ 115] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي، يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ «رَاغِبٌ» خَبَرًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 مُقَدَّمًا، وَ «أَنْتَ» مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا، وَأَنْ يَكُونَ «أَرَاغِبٌ» مُبْتَدَأً، وَ «أَنْتَ» فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْإِعْرَابُ الْأَخِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ التَّأْخِيرُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، الْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ أَلَّا يَكُونَ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ «أَرَاغِبٌ» ، وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ الَّذِي هُوَ «عَنْ آلِهَتِي» بِمَا لَيْسَ بِمَعْمُولٍ لِلْعَامِلِ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ هُوَ عَامِلًا فِي الْمُبْتَدَأِ، بِخِلَافِ كَوْنِ «أَنْتَ» فَاعِلًا، فَإِنَّهُ مَعْمُولُ «أَرَاغِبٌ» فَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ «أَرَاغِبٌ» وَبَيْنَ «عَنْ آلِهَتِي» بِأَجْنَبِيٍّ، وَإِنَّمَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِمَعْمُولِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ السَّادُّ مَسَدَّ خَبَرِهِ، وَالرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ: تَرْكُهُ عَمْدًا لِلزُّهْدِ فِيهِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ: رَغِبَ عَنْهُ، وَقَوْلِهِمْ: رَغِبَ فِيهِ. فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ الْآيَةَ [4 \ 127] ، وَالتَّحْقِيقُ فِي قَوْلِهِ «مَلِيًّا» أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ: فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرَمَّلَاتُ مَلِيًّا وَأَصْلُهُ وَاوِيُّ اللَّامِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمِلَاوَةِ وَهِيَ مُدَّةُ الْعَيْشِ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْمَلَوَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ: أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَالِ الْمَرْءِ يَخْتَلِفَانِ وَقِيلَ: الْمَلَوَانِ فِي بَيْتِ ابْنِ مُقْبِلٍ: طَرَفَا النَّهَارِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، أَيْ: لَطِيفًا بِي، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيَّ، وَجُمْلَةُ: وَاهْجُرْنِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا ... فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ فَجُمْلَةُ «وَإِنَّ شِفَائِي» خَبَرِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ «وَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ» . . . إِلَخْ إِنْشَائِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا. وَقَوْلُ الْآخَرِ أَيْضًا: تُنَاغِي غَزَالًا عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ ... وَكَحِّلْ مَآقِيَكَ الْحِسَانَ بِإِثْمِدِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 قُلْتَ: عَلَامَ عَطَفَ وَاهْجُرْنِي؟ قُلْتُ عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ «لَأَرْجُمَنَّكَ» أَيْ: فَاحْذَرْنِي وَاهْجُرْنِي ; لِأَنَّ لَأَرْجُمَنَّكَ تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ. اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ «مُخْلَصًا» قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ: قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَصَهُ وَاصْطَفَاهُ: وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي الْآيَةَ [7 \ 144] ، وَمِمَّا يُمَاثِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [38 \ 46] ، فَالَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ هُمُ الْمُخْلَصُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ «مُخْلِصًا» بِكَسْرِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [98 \ 5] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي الْآيَةَ [39 \ 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَادَيْنَا مُوسَى مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، وَيَعْنِي بِالْأَيْمَنِ يَمِينَ مُوسَى ; لِأَنَّ الْجَبَلَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: قَامَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَعَنْ شِمَالِهَا، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَضَى الْأَجَلَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِهْرِهِ، وَسَارَ بِأَهْلِهِ رَاجِعًا مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ آنَسَ مِنْ جَانِبٍ الطُّورِ نَارًا، فَذَهَبَ إِلَى تِلْكَ النَّارِ لِيَجِدَ عِنْدَهَا مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلِيَأْتِيَ بِجَذْوَةٍ مِنْهَا لِيُوقِدَ بِهَا النَّارَ لِأَهْلِهِ لِيَصْطَلُوا بِهَا، فَنَادَاهُ اللَّهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَشَفَّعَهُ فِي أَخِيهِ هَارُونَ فَأَرْسَلَهُ مَعَهُ، وَأَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعْجِزَةَ الْعَصَا وَالْيَدِ لِيَسْتَأْنِسَ بِذَلِكَ قَبْلَ حُضُورِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ ; لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْعَصَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى صَارَتْ ثُعْبَانًا وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَمَا انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا لَمَّا طَالَبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِآيَةٍ، لَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ لَائِقٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا مُرِّنَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِيَكُونَ مُسْتَأْنِسًا غَيْرَ خَائِفٍ مِنْهَا حِينَ تَصِيرُ ثُعْبَانًا مُبِينًا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه ": وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [20 \ 8 - 13] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 وَقَوْلُهُ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [19 \ 52] ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " طه ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ. وَقَوْلُهُ: بِقَبَسٍ، أَيْ: شِهَابٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي " النَّمْلِ ": أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [20 \ 7] ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْجَذْوَةِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [28 \ 29] ، وَقَوْلُهُ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [20 \ 10] ، أَيْ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلُّنِي عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَالزَّمَنُ زَمَنُ بَرْدٍ، وَقَوْلُهُ: آنَسْتُ نَارًا [20 \ 10] ، أَيْ: أَبْصَرْتُهَا، وَقَوْلُهُ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [20 \ 12] ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي أَيُّوبَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَا يَصِحُّ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ لِلْعُلَمَاءِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ - أَيْ نَزْعِهِمَا مِنْ قَدَمَيْهِ - لِيُعَلِّمَهُ التَّوَاضُعَ لِرَبِّهِ حِينَ نَادَاهُ، فَإِنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، يَسْتَوْجِبُ مِنَ الْعَبْدِ كَمَالَ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا احْتِرَامًا لِلْبُقْعَةِ، يَدُلُّ لَهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ أَمْرَهُ بِخَلْعِهِمَا بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [20 \ 12] ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي) مِسْكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ (: أَنَّ " إِنَّ " مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ " طُوًى ": أَنَّهُ اسْمٌ لِلْوَادِي، فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْوَادِي أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، أَيْ: اصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَتِي، كَقَوْلِهِ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [7 \ 144] ، وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى النَّارِ، أَنَّ الْمُصْطَلِينَ بِالنَّارِ يَسْتَعْلُونَ الْمَكَانَ الْقَرِيبَ مِنْهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الْأَعْشَى: تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلَّقُ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27 \ 6 - 9] ، فَقَوْلُهُ فِي " النَّمْلِ ": فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ [27 \ 8] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " مَرْيَمَ ": وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [19 \ 52] ، وَقَوْلِهِ فِي " طه ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى [20 \ 11] ، وَقَوْلُهُ: سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ [27 \ 7] ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " طه ": أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [20 \ 10] ، أَيْ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ فَيُخْبِرُنِي عَنْهَا فَآتِيكُمْ بِخَبَرِهِ عَنْهَا، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْقَصَصِ ": فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ الْآيَةَ [28 \ 29 - 30] . فَالنِّدَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي " مَرْيَمَ "، وَطه، وَالنَّمْلِ " وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَدَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي رَأَى فِيهَا النَّارَ عَنْ يَمِينِ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ الطُّورُ، وَفِي يَمِينِ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي هُوَ طُوًى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ طُوًى اسْمٌ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ يَمِينُ مُوسَى ; لِأَنَّ الْجَبَلَ وَمِثْلَهُ الْوَادِيَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ [28 \ 30] ، أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [28 \ 44] ، فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ. انْتَهَى مِنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الْآيَةَ [19 \ 52] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا الْآيَةَ [28 \ 46] . وَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ نِدَاءُ اللَّهِ لَهُ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَسْمَعَهُ نَبِيَّهُ مُوسَى، وَلَا يُعْقَلُ أَنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَلَا كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَخْلُوقٍ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ الْمَلَاحِدَةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ غَيْرُ اللَّهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27 \ 9] ، وَلَا أَنْ يَقُولَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [20 \ 14] ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ قَالَهُ مَخْلُوقٌ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 24] ، عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ فِي مَعْرِضِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ. فَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [20 \ 14] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27 \ 9] ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ صَرَاحَةً لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِدِينِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [28 \ 30] ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: " مِنْ " الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: أَتَاهُ النِّدَاءُ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الشَّجَرَةِ، وَمِنَ الشَّجَرَةِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ ; لِأَنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ نَابِتَةً عَلَى الشَّاطِئِ، كَقَوْلِهِ: لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ [43 \ 33] . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ الْآيَةَ،: قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وَأَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ عَلَى مَا شَاءَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَشَاطِئُ الْوَادِي جَانِبُهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى " الْأَيْمَنِ " فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ، وَقَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [19 \ 52] ، مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى " نُورٌ " وَهُوَ يَظُنُّهَا نَارًا، وَفِي قِصَّتِهِ أَنَّهُ رَأَى النَّارَ تَشْتَعِلُ فِيهَا وَهِيَ لَا تَزْدَادُ إِلَّا خُضْرَةً وَحُسْنًا، قِيلَ هِيَ شَجَرَةُ عَوْسَجٍ، وَقِيلَ شَجَرَةُ عَلِيقٍ، وَقِيلَ شَجَرَةُ عُنَّابٍ، وَقِيلَ سَمُرَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا [27 \ 8] ، اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِـ مَنْ فِي النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ قَالُوا: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَيْ: تَقَدَّسَ اللَّهُ وَتَعَالَى، وَقَالُوا: كَانَ نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - أَوِ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ". قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ فِي النَّارِ الَّتِي فِي الشَّجَرَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهَا نَارٌ أَوْ نُورٌ، سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ بِـ مَنْ فِي النَّارِ سُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ صَرْفَ كِتَابِ اللَّهِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ الْمُحِيطِ ": قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: أَرَادَ بِمَنْ فِي النَّارِ: ذَاتَهُ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِعِبَارَاتٍ شَنِيعَةٍ مَرْدُودَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذُكِرَ أُوِّلَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ: بُورِكَ مَنْ قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي النَّارِ. انْتَهَى، أَنَّهُ أَصَابَ فِي تَنْزِيهِهِ لِلَّهِ عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ، وَلَمْ يُصِبْ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، أَيْ: بُورِكَتِ النَّارُ لِأَنَّهَا نُورٌ، وَبُعْدُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَيْ: بُورِكَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَتَّقِدُ فِيهَا النَّارُ، وَبُعْدُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَإِطْلَاقُ لَفْظَةِ " مَنْ " عَلَى الشَّجَرَةِ وَعَلَى مَا فِي النَّارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَمَا تَرَى. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ الَّتِي هِيَ نُورٌ مَلَائِكَةً وَحَوْلَهَا مَلَائِكَةٌ وَمُوسَى، وَأَنَّ مَعْنَى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، أَيْ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ فِي ذَلِكَ النُّورِ، وَمَنْ حَوْلَهَا، أَيْ: وَبُورِكَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَهَا، وَبُورِكَ مُوسَى لِأَنَّهُ حَوْلَهَا مَعَهُمْ، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا: السُّدِّيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ) فِي الْكَشَّافِ (: وَمَعْنَى أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، بُورِكَ مَنْ فِي مَكَانِ النَّارِ وَمَنْ حَوْلَ مَكَانِهَا، وَمَكَانُهَا الْبُقْعَةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهَا، وَهِيَ الْبُقْعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ [28 \ 30] ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ " أَنْ تَبَارَكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا "، وَعَنْهُ " بُورِكَتِ النَّارُ ". وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وَهَذَا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى، وَتَكْرِمَةٌ لَهُ كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا إِلَيْهِ قَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَوْلُهُ: مَنْ فِي النَّارِ نَائِبُ فَاعِلِ " بُورِكَ " وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَبَارَكَ لَكَ، فَهِيَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وَبُورِكْتَ نَاشِئًا ... وَبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيْبِ إِذْ أَنْتَ أَشْيَبُ وَقَالَ أَبُو طَالِبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَرْثِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْ ... رٍو وَلَيْتَ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا ... بُو رِكَ نَضْرُ الرَّيْحَانِ وَالزَّيْتُونُ وَقَالَ آخَرُ: فَبُورِكَ فِي بَنِيكَ وَفِي بَنِيهِمْ ... إِذَا ذُكِرُوا وَنَحْنُ لَكَ الْفِدَاءُ وَالْآيَاتُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ أَرَاهُ آيَةَ الْيَدِ وَالْعَصَا لِيَتَمَرَّنَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ حُضُورِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَأَنَّهُ وَلَّى مُدْبِرًا خَوْفًا مِنْهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمَّا صَارَتْ ثُعْبَانًا جَاءَتْ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه ": قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى [20 \ 19 - 22] ، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَخَفْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَزِعَ مِنْهَا لَمَّا صَارَتْ ثُعْبَانًا مُبِينًا، كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي " النَّمْلِ وَالْقَصَصِ ". وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ " طه " هَذِهِ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [20 \ 22] ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، وَفِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ احْتِرَاسًا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [27 \ 9 - 12] ، وَقَوْلِهِ فِي " الْقَصَصِ ": وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [28 \ 31 - 32] ، وَالْبُرْهَانَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ، هُمَا الْيَدُ وَالْعَصَا، فَلَمَّا تَمَرَّنَ مُوسَى عَلَى الْبُرْهَانَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ طَالَبُوهُ بِآيَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَجَاءَهُمْ بِالْبُرْهَانَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَمْ يَخَفْ مِنَ الثُّعْبَانِ الَّذِي صَارَتِ الْعَصَا إِيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [26 \ 30 - 33] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي " النَّمْلِ، وَالْقَصَصِ ": وَلَمْ يُعَقِّبْ، أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ مِنْ فِرَارِهِ مِنْهَا، يُقَالُ: عَقَّبَ الْفَارِسُ إِذَا كَرَّ بَعْدَ الْفِرَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 فَمَا عَقَّبُوا إِذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ ... وَلَا نَزَلُوا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ مَنْزِلَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [19 \ 52] ، أَيْ: قَرَّبَ اللَّهُ مُوسَى فِي حَالِ كَوْنِهِ نَجِيًّا، أَيْ: مُنَاجِيًا لِرَبِّهِ، وَإِتْيَانُ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَثِيرٌ كَالْقَعِيدِ وَالْجَلِيسِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ: أُدْنِيَ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ، يَعْنُونَ صَرِيفَ الْقَلَمِ بِكِتَابَةِ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ: أُدْخِلَ فِي السَّمَاءِ فَكُلِّمَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ نَجِيًّا بِصِدْقِهِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي طه: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [20 \ 31] ، أَيْ: قَوِّنِي بِهِ، وَالْأَزْرُ: الْقُوَّةُ، وَآزَرَهُ، أَيْ: قَوَّاهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْقَصَصِ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [28 \ 35] ، أَيْ: سَنُقَوِّيكَ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَضُدَ هُوَ قِوَامُ الْيَدِ، وَبِشِدَّتِهَا تَشْتَدُّ الْيَدُ، قَالَ طَرْفَةُ: أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ إِلَّا يَدًا لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ وَقَوْلُهُ: رِدْءًا، أَيْ: مُعِينًا ; لِأَنَّ الرِّدْءَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُعَانُ بِهِ، وَيُقَالُ رَدَأْتُهُ، أَيْ: أَعَنْتُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا، مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ وَهَبَ لِمُوسَى نُبُوَّةَ هَارُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَأَلَهُ ذَلِكَ فَآتَاهُ سُؤْلَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «طه» عَنْهُ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي إِلَى قَوْلِهِ: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى [20 \ 29 - 36] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [28 \ 33 - 35] ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [26 \ 10 - 16] ، فَهَذِهِ الْآيَاتِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ أَخَاهُ، فَأَجَابَ رَبُّهُ جَلَّ وَعَلَا سُؤَالَهُ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهِبَةَ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنَا، هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاقِعَةٌ عَلَى رِسَالَتِهِ لَا عَلَى نَفْسِ هَارُونَ ; لِأَنَّ هَارُونَ أَكْبَرُ مِنْ مُوسَى، كَمَا قَالَهُ أَهْلُ التَّارِيخِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) جَدَّهُ إِسْمَاعِيلَ (، وَأَثْنَى عَلَيْهِ - أَعْنِي إِسْمَاعِيلَ - بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَمِمَّا يُبَيِّنُ مِنَ الْقُرْآنِ شِدَّةَ صِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ: أَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ بِصَبْرِهِ لَهُ عَلَى ذَبْحِهِ ثُمَّ وَفَّى بِهَذَا الْوَعْدِ، وَمَنْ وَفَّى بِوَعْدِهِ فِي تَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى عَظِيمِ صِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَهَذَا وَعْدُهُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى وَفَاءَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ الْآيَةَ [37 \ 103] ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهِ أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ مَذْمُومٌ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ قَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [9 \ 77] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 2 - 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [19 \ 55] ، قَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى جَدِّهِ إِسْمَاعِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا الْآيَةَ [20 \ 132] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ امْتَثَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 هَذَا الْأَمْرَ، وَكَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا الْآيَةَ [66 \ 6] ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ أَهْلِيهِمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَدْخَلَهُ بِالْوَعْدِ فِي وَرْطَةٍ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: تَزَوَّجْ، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أَصْدُقُ بِهِ الزَّوْجَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجْ وَالْتَزِمْ لَهَا الصَّدَاقَ وَأَنَا أَدْفَعُهُ عَنْكَ، فَتَزَوَّجَ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَدْخَلَهُ بِوَعْدِهِ فِي وَرْطَةِ الْتِزَامِ الصَّدَاقِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ يَلْزَمُهُ، بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ دَلَّتْ بِظَوَاهِرِ عُمُومِهَا عَلَى ذَلِكَ وَبِأَحَادِيثَ، فَالْآيَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [17 \ 34] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الْآيَةَ [5 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا الْآيَةَ [16 \ 91] ، وَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ الْآيَةَ [19 \ 54] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْأَحَادِيثُ كَحَدِيثِ «الْعِدَةُ دَيْنٌ» فَجَعْلُهَا دَيْنًا دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهَا، قَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: «الْعِدَةُ دَيْنٌ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْقُضَاعِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظٍ: قَالَ: لَا يَعِدْ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يُنْجِزْ لَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:» الْعِدَةُ دَيْنٌ «وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ فَلْيُنْجِزْ لَهُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ» عَطِيَّةً «وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الْعِدَةُ دَيْنٌ، وَيْلٌ لِمَنْ وَعَدَ ثُمَّ أَخْلَفَ، وَيْلٌ لَهُ.» ثَلَاثًا، وَرَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ فَقَطْ، وَالدَّيْلَمِيُّ أَيْضًا بِلَفْظِ: «الْوَاعِدُ بِالْعِدَةِ مِثْلُ الدَّيْنِ أَوْ أَشَدُّ» أَيْ: وَعْدُ الْوَاعِدِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ «عِدَةُ الْمُؤْمِنِ دَيْنٌ، وَعِدَةُ الْمُؤْمِنِ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ» ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ قُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ اللَّيْثِيِّ مَرْفُوعًا: «الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ» . وَلِلْخَرَائِطِيِّ فِي الْمَكَارِمِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: عِدْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعِدَةَ عَطِيَّةٌ» ، وَهُوَ فِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا فِي الصَّمْتِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ: «مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ» قَالَ: فِي الْمَقَاصِدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ: وَقَدْ أَفْرَدْتُهُ مَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 مَا يُلَائِمُهُ بِجُزْءٍ. انْتَهَى مِنْهُ، وَقَدْ عَلَّمَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ بِالضَّعْفِ. وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: وَفِيهِ دَارِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَا يُعْرَفُ. اهـ. وَلَكِنْ قَدْ مَرَّ لَكَ أَنَّ طُرُقَهُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ الْكِنَانِيِّ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، دَالَّةٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَعْدَ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ رَجُلًا بِمَالٍ إِذَا أَفْلَسَ الْوَاعِدُ لَا يُضْرَبُ لِلْمَوْعُودِ بِالْوَعْدِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ دُيُونِهِمُ اللَّازِمَةِ بِغَيْرِ الْوَعْدِ، حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ، وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ إِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِي وَرْطَةٍ بِالْوَعْدِ فَيَلْزَمُ، وَبَيْنَ عَدَمِ إِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ، أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَهُ فِي وَرْطَةٍ بِالْوَعْدِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْوَعْدِ وَتَرَكَهُ فِي الْوَرْطَةِ الَّتِي أَدْخَلَهُ فِيهَا، فَقَدْ أَضَرَّ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَضُرَّ بِأَخِيهِ، لِلْحَدِيثِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ مَالِكٌ: إِذَا سَأَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَهَبَ لَهُ الْهِبَةَ، فَيَقُولُ لَهُ نَعَمْ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَلَّا يَفْعَلَ، فَمَا أَرَى يَلْزَمُهُ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ فَقَالَ نَعَمْ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ فَمَا أَحَرَاهُ أَنْ يَلْزَمَهُ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْعِدَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا شَيْءٌ ; لِأَنَّهَا مَنَافِعُ لَمْ يَقْبِضْهَا فِي الْعَارِيَةِ لِأَنَّهَا طَارِئَةٌ، وَفِي غَيْرِ الْعَارِيَةِ هِيَ أَشْخَاصٌ وَأَعْيَانٌ مَوْهُوبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلِصَاحِبِهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [19 \ 54] ، وَقَضَى ابْنُ أَشْوَعَ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَكَلَامُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْضَهُ، هُوَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ «الشَّهَادَاتِ» : بَابُ مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، وَقَضَى ابْنُ أَشْوَعَ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سُمْرَةَ وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، قَالَ وَعَدَنِي فَوَفَّى لِي، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ. حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَقَلْتُ وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُهُ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ «وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ» يَعْنِي الْأَمْرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِآيَةِ: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِصِدْقِ الْوَعْدِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ إِخْلَافَهُ مَذْمُومٌ فَاعِلُهُ، فَلَا يَجُوزُ، وَابْنُ الْأَشْوَعِ الْمَذْكُورُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَشَوْعَ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، كَانَ قَاضِيَ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِ إِمَارَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ عَلَى الْعِرَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي تَفْسِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ رَآهُ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ فِي الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَصِهْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَثْنَى عَلَيْهِ بِوَفَائِهِ لَهُ بِالْوَعْدِ هُوَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، وَقَدْ وَعَدَهُ بِرَدِّ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ إِلَيْهِ، وَرَدَّهَا إِلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الصِّهْرَ الْمَذْكُورَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ. الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 مَشْهُورٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: «فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ» فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّدْقُ وَالْعَفَافُ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ صِفَةُ نَبِيٍّ وَالِاقْتِدَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاجِبٌ. الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آيَةِ الْمُنَافِقِ، وَمَحِلُّ الدَّلِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» فَكَوْنُ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّسِمَ بِسِمَاتِ الْمُنَافِقِينَ. الثَّالِثُ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ. . . الْحَدِيثَ، فَجَعَلَ الْعِدَةَ كَالدَّيْنِ، وَأَنْجَزَ لِجَابِرٍ مَا وَعَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَالِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ. الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَيِّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ قَضَى أَطْيَبَهُمَا وَأَكْثَرَهُمَا، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ فَعَلَ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الِاقْتِدَاءُ بِالرُّسُلِ، وَأَنْ يَفْعَلُوا إِذَا قَالُوا، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُنَاقَشَاتٌ مِنَ الْمُخَالِفِينَ. وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 3] ; لِأَنَّ الْمَقْتَ الْكَبِيرَ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنْجَازُ الْوَعْدِ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَوْعُودَ لَا يُضَارَبُ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ. اهـ. وَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مَشْهُورٌ لَكِنَّ الْقَائِلَ بِهِ قَلِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجَلُّ مَنْ قَالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْعَزِيزِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ فِي الْفَتْحِ، وَقَالَ أَيْضًا: وَخَرَّجَ بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْهِبَةِ، هَلْ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ. فَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يَجُوزُ، لِكَوْنِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَظَاهِرُ عُمُومِهِ يَشْمَلُ إِخْلَافَ الْوَعْدِ، وَلَكِنَّ الْوَاعِدَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ إِنْجَازِ الْوَعْدِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ وَلَا يُلْزَمُ بِهِ جَبْرًا، بَلْ يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ; لِأَنَّهُ وَعْدٌ بِمَعْرُوفٍ مَحْضٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ هُنَا أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَهَدَاهُمْ، وَزَادَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» بَيَانَ جَمِيعِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [4 \ 69] ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: أَنَّ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1 \ 6 - 7] ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ: «إِدْرِيسُ» ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ: «إِبْرَاهِيمُ» ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ: «إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَإِسْمَاعِيلُ» ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ: «مُوسَى وَهَارُونُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ ; لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَهُوَ إِدْرِيسُ فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ، بَلْ جِنْسَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ إِلَى الْجِنْسِ، إِلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 83 - 90] ، اهـ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي «الْأَنْعَامِ» : وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [6 \ 87] ، كَمَا قَالَ فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» : وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا [19 \ 58] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ رَبِّهِمْ بَكَوْا وَسَجَدُوا، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لَا خُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [17 \ 107 - 109] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [5 \ 83] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [8 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [39 \ 23] ، فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ رَبِّهِمْ تُتْلَى تَأَثَّرُوا تَأَثُّرًا عَظِيمًا، يَحْصُلُ مِنْهُ لِبَعْضِهِمُ الْبُكَاءُ وَالسُّجُودُ، وَلِبَعْضِهِمْ قُشَعْرِيرَةُ الْجِلْدِ وَلِينُ الْقُلُوبِ وَالْجُلُودِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَبُكِيًّا، جَمْعُ بَاكٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ «مَرْيَمَ» فَسَجَدَ وَقَالَ: هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ عَزَائِمَ السُّجُودِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «مِنْ بَعْدِهِمْ» رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ الْآيَةَ [19 \ 58] ، أَيْ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ خَلْفٌ، أَيْ: أَوْلَادُ سُوءٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَلْفُ بِسُكُونِ اللَّامِ: الْأَوْلَادُ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الْبَدَلُ، وَلَدًا كَانَ أَوْ غَرِيبًا، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَلَفُ بِالْفَتْحِ: الصَّالِحُ، وَبِالسُّكُونِ: الطَّالِحُ، قَالَ لَبِيدٌ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْكَلَامِ: خَلْفٌ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ «سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا» ، فَخَلْفٌ فِي الذَّمِّ بِالْإِسْكَانِ، وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ فِي الْمَدْحِ، هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَشْهُورُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفِ عُدُولُهُ» وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ وَقَالَ آخَرُ: إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ لَا يُدْخِلُ الْبَوَّابُ إِلَّا مَنْ عَرَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ وَيُرْوَى: خَضَفْ، أَيْ: رَدَمَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَالرُّدَامُ: الضُّرَاطُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْخَلْفَ السَّيِّئَ الَّذِي خَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الْكِرَامِ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ: أَنَّهُمْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِإِضَاعَتِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِضَاعَتُهَا الْإِخْلَالُ بِشُرُوطِهَا، وَمِمَّنِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا جَحْدُ وُجُوبِهَا، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ وَمَا قَبْلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: إِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ الْجَمَاعَاتِ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالُ بِالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَدْخُلُ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَعَدَمَ إِقَامَتِهَا فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْإِخْلَالَ بِشُرُوطِهَا، وَجَحْدَ وُجُوبِهَا، وَتَعْطِيلَ الْمَسَاجِدِ مِنْهَا كُلُّ ذَلِكَ إِضَاعَةٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعُ الْإِضَاعَةِ تَتَفَاوَتُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْخَلْفِ الْمَذْكُورِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَيُرْوَى عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتُونَ عِنْدَ ذَهَابِ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَزِقَّةِ زِنًى، وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ، وَفِيهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 أَقْوَالٌ أُخَرُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَكَوْنُهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ [19 \ 59] ، صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَمَا تَرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ خَلَفُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَصَالِحِيهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَأَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ خَلْفٍ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ يَدْخُلُونَ فِي الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ مُشْتَهًى يَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ بَنَى الْمُشَيَّدَ، وَرَكِبَ الْمَنْظُورَ، وَلَبِسَ الْمَشْهُورَ فَهُوَ مِمَّنِ اتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْغَيَّ عَلَى كُلِّ شَرٍّ، وَالرَّشَادَ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، قَالَ الْمُرَقَّشُ الْأَصْغَرُ: فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا فَقَوْلُهُ: «وَمَنْ يَغْوِ» يَعْنِي وَمَنْ يَقَعْ فِي شَرٍّ، وَالْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ هُوَ أَنَّ الْغَيَّ الضَّلَالُ، وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ «غَيًّا» فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، مِنْهَا أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ جَزَاءَ غَيٍّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ ضَلَالِهِمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: الزَّجَّاجُ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَلْقَ أَثَامًا [25 \ 68] ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهُ يَلْقَ مُجَازَاةَ آثَامِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [4 \ 10] ، وَقَوْلُهُ: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [2 \ 174] ، فَأَطْلَقَ النَّارَ عَلَى مَا أَكَلُوا فِي بُطُونِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ لِأَنَّهَا جَزَاؤُهُ، كَمَا أَطْلَقَ الْغَيَّ وَالْأَثَامَ عَلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ جَزَاؤُهُمَا، وَمِنْهَا أَنَّ الْغَيَّ فِي الْآيَةِ الْخُسْرَانُ وَالْحُصُولُ فِي الْوَرَطَاتِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا «غَيًّا» أَيْ: شَرًّا أَوْ ضَلَالًا أَوْ خَيْبَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ «غَيًّا» فِي الْآيَةِ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ ; لِأَنَّهُ يَسِيلُ فِيهِ قَيْحُ أَهْلِ النَّارِ وَصَدِيدُهُمْ، وَهُوَ بَعِيدُ الْقَعْرِ خَبِيثُ الطَّعْمِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَشَفِيِّ بْنِ مَاتِعٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 وَجَاءَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ بِمُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ غَيًّا وَادٍ فِي جِنِّهِمْ» كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ غَيًّا، وَأَثَامًا: نَهْرَانِ فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ، يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ الْبَاهِلِيِّ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، أَيْ: ضَلَالًا فِي الْآخِرَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَمَدَارُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: أَنَّ أُولَئِكَ الْخَلْفُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا عَظِيمًا. فَإِذَا عَرَفْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَ فِيهَا مَنْ أَضَاعَ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ بِالْغَيِّ الَّذِي هُوَ الشَّرُّ الْعَظِيمُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي ذَمِّ الَّذِينَ يُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ وَلَا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا وَتَهْدِيدِهِمْ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [107 \ 4 - 7] ، وَقَوْلِهِ فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [4 \ 142] ، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [9 \ 54] ، وَأَشَارَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ إِلَى ذَمِّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَتَهْدِيدِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [47 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [15 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 46 - 47] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْخَلَفَ الطَّيِّبِينَ لَا يُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ، وَلَا يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [23 \ 1 - 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [79 \ 40 - 41] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ الْجَاحِدَ لِوُجُوبِهَا، كَافِرٌ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا مَا لَمْ يَتُبْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَرْكَ مَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ كَالْوُضُوءِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ كَتَرْكِهَا، وَجَحْدَ وَجُوبِهِ كَجَحْدِ وَجُوبِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ صَلَاةٍ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوُجُوبِهَا، هَلْ هُوَ كَافِرٌ أَوْ مُسْلِمٌ، وَهَلْ يُقْتَلُ كُفْرًا أَوْ حَدًّا أَوْ لَا يُقْتَلُ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ كُفْرًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمَنْصُورٌ الْفَقِيهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ الْآيَةَ [9 \ 11] ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ إِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ أُخُوَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الْآيَةَ [49 \ 10] ، وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، لَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ» ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُخْرَى: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ ; لِأَنَّ عَطْفَ الشِّرْكِ عَلَى الْكُفْرِ فِيهِ تَأْكِيدٌ قَوِيٌّ لِكَوْنِهِ كَافِرًا، وَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْآتِيَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى قِتَالِ الْأُمَرَاءِ إِذَا لَمْ يُصَلُّوا، وَهُمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَعَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ» ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ بِوَاحٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْعَهْدُ الَّذِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ: صَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْعِرَاقِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ) الْمُهَذَّبِ (: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، لَا تُعْرَفُ لَهُ عِلَّةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَقَدِ احْتَجَّا جَمِيعًا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِالْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أُنَيْفٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ فِي أَثَرِ ابْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ: لَمْ يُتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَإِسْنَادُهُ صَالِحٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ «لَمْ يُتَكَلَّمْ عَلَيْهِ» سَهْوٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا، حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا، يَعْنِي أَثَرَ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ التَّابِعِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَلَالَتِهِ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. انْتَهَى مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ هَذَا الِاتِّفَاقَ عَلَى جَلَالَةِ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّ فِيهِ نَصْبًا، وَقَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. اهـ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَاكِمِ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَرِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ، وَأَثَرُ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورَانِ فِيهِمَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا كُفْرٌ، وَلَوْ أَقَرَّ تَارِكُهَا بِوُجُوبِهَا، وَبِذَلِكَ يَعْتَضِدُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 خَلَفٍ» اهـ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ وَالنَّجَاةِ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا تَرَى، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي) مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ. اهـ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، مِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهَا الْهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِهَا غَيْرُ كَافِرٍ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا - كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ - لَا كُفْرًا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِلْأَكْثَرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ بَلْ يُفَسَّقُ وَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ حَدًّا كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. اهـ. وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُمَا عَدَمُ كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ، وَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا، أَمَّا أَدِلَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ: فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [9 \ 5] ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ اشْتَرَطَ فِي تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إِقَامَتَهُمُ الصَّلَاةَ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا لَمْ يُخَلَّ سَبِيلُهُمْ وَهُوَ كَذَلِكَ. ) وِمِنْهَا (مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَلَا أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ كَمَا تَرَى. وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَهَبِيَّةٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ» ؟ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 يَكُونَ يُصَلِّي» فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَا» يَعْنِي لَا تَقْتُلْهُ، وَتَعْلِيلُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُصَلِّ يُقْتَلْ، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا صَلَّوْا» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ «مَا صَلَّوْا» مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُصَلُّوا قُوتِلُوا، وَهُوَ كَذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» ، فَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا وَنَحْوُ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ، وَبِضَمِيمَةِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ إِلَى ذَلِكَ يَظْهَرُ الدَّلِيلُ عَلَى الْكُفْرِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا.» الْحَدِيثَ، وَأَشَارَ فِي حَدِيثٍ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ قُوتِلُوا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا مِنَ الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ: قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ.» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ كَمَا تَرَى. وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا صَلَاةَ لَهُ، قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْهُمْ. هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ مَنْ قَالَ بِقَتْلِهِ يَقُولُونَ إِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُنْخَسُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ يُضْرَبُ بِخَشَبَةٍ، وَيُقَالُ لَهُ: صَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، وَلَا يَزَالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ يَمُوتَ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَتَابُ ; لِأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا وَالْحُدُودُ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرُورِيِّ إِلَّا قَدْرُ رَكْعَةٍ وَلَمْ يُصَلِّ قُتِلَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ، وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ الْمَتْرُوكَةِ مَعَ الْأُولَى، وَالْأُخْرَى: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا أَدِلَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4 \ 116] ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخَدَّجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، فَقَالَ الْمُخَدَّجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ، وَالْمَتْنُ كَلَفْظِ الْمُوَطَّأِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنُ كَاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنِ الْمُخَدَّجِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ. . .» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِمَعْنَاهُ قَرِيبًا مِنْ لَفْظِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِجَالَ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ إِلَّا الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَبِتَوْثِيقِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ يَعْتَضِدُ بِهَا أَيْضًا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: زَعَمَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ.» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ الْمَذْكُورُ قِيلَ إِنَّهُ صَحَابِيٌّ مَدَنِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الْمُرَادِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَرِوَايَةُ الصُّنَابِحِيِّ الْمَذْكُورِ إِمَّا رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ ثِقَةٍ، وَبِهَا تَعْتَضِدُ رِوَايَةُ الْمُخَدَّجِيِّ الْمَذْكُورِ، وَرِجَالُ سَنَدِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ ثِقَاتٌ، مَعْرُوفُونَ لَا مَطْعَنَ فِيهِمْ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ صِحَّةَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ (: وَفِيهِ يَعْنِي حَدِيثَ عُبَادَةَ الْمَذْكُورَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَتَحَتَّمُ عَذَابُهُ، بَلْ هُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بِنَحْوِهِ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الْعَلَامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَمِنْ حَدِيثٍ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتَ الْمَذْكُورَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 صِحَّتَهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنَّهَا تُصَيِّرُهُ صَحِيحًا، وَالثَّانِيَةُ هِيَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَوْثِيقِ ابْنِ حِبَّانَ الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكُفْرٍ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4 \ 116] . وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ الْمُقِرَّ بِوُجُوبِهَا غَيْرُ كَافِرٍ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ مِثْلُ ذَلِكَ» اهـ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ: طَرِيقَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ مُتَّصِلَةٌ بِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَكُلُّهَا لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ هُوَ وَلَا الْمُنْذِرِيُّ بِمَا يُوجِبُ ضَعْفَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ إِسْنَادُهَا جَيِّدٌ وَرِجَالُهَا رِجَالُ الصَّحِيحِ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَصَحَّحَهَا ابْنُ الْقَطَّانِ، وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ (وَقَالَ: هَذَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَفِي الْبَابِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ (وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ أَنَّ نُقْصَانَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَإِتْمَامَهَا مِنَ النَّوَافِلِ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ تَرْكَ بَعْضِهَا عَمْدًا، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ عُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ الْمَجْدُ) فِي الْمُنْتَقَى (بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى عَدَمِ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ الْمُقِرِّ بِوُجُوبِهَا، مَا نَصُّهُ: وَيُعَضِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ عُمُومَاتٌ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ: «يَا مُعَاذُ» ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا» فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا، أَيْ: خَوْفًا مِنَ الْإِثْمِ بِتَرْكِ الْخَبَرِ بِهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَكَاسُلًا وَتَهَاوُنًا مَعَ إِقْرَارِهِ بِوُجُوبِهَا لَا يُقْتَلُ وَلَا يُكَفَّرُ، بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا لِأَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَاحْتَجُّوا لِعَدَمِ قَتْلِهِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» وَغَيْرِهَا: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» ، قَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا تَرْكَ الصَّلَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَتْلِ، قَالُوا: وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ عَلَى قَتْلِهِ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفَاهِيمِهَا أَعْنِي مَفَاهِيمَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِمَنْطُوقِهِ وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ الْمَعْرُوفَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَتْلِهِ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِ، وَمِنْهَا قِيَاسُهُمْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى تَرْكِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَثَلًا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُقْتَلْ تَارِكُهَا، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ يُقْتَلُ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ قِيَاسِهِ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ بِأَنَّهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِهِ، وَعَنِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ بِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 عَلَى كُفْرِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهَا أَصَحُّ مِنْهُ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِكُفْرِهِ وَشِرْكِهِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، مَعَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَرَدَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ أَدِلَّةَ مُخَالِفِيهِمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذَا بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ يُصَرِّحُ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكُفْرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الْخُرُوجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْمَجْدُ) فِي الْمُنْتَقَى (: وَقَدْ حَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، أَوْ عَلَى مَعْنًى قَدْ قَارَبَ الْكُفْرَ وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أُرِيدَ بِهَا ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ: «وَأَبِي» فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَأَمْثَالُهُ فِي السُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ الرِّيَاءِ شِرْكًا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ» قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَخْرَجَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ أَطْلَقَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الْكُفْرِ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا اسْتَفْسَرُوهُ عَنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَدِلَّةً عِنْدِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَجْرَى الْأَقْوَالَ عَلَى مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ كُفْرٌ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ لِوُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِذَا حُمِلَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ حَصَلَ بِذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ ; لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَدِلَّةَ مَنْ قَالُوا إِنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ، مَا نَصُّهُ: وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يُوَرِّثُونَ تَارِكَ الصَّلَاةِ وَيُوَرَّثُونَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ وَلَمْ يَرِثْ وَلَمْ يُورَثْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ كَفَّرَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَبُرَيْدَةَ، وَرِوَايَةِ ابْنِ شَقِيقٍ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ شَارَكَ الْكَافِرَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ أَوْ نَامَ عَنْهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ: ) مِنْهَا (مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» . ) وِمِنْهَا (مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [20 \ 14] . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:» مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [20 \ 14] . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْمَهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرَ، قَالَ: ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَرَيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَرَّسْنَا فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجَعَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 الرَّجُلُ مِنَّا يَقُومُ دَهِشًا إِلَى طَهُورِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَقَالَ: «أَيَنْهَاكُمْ رَبُّكُمْ تَعَالَى عَنِ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ» ؟ اهـ، وَأَصْلُ حَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَلَا قَوْلُهُ: فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُعِيدُهَا إِلَى آخِرِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَضَاءَ النَّائِمِ وَالنَّاسِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالُهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ عَلَى الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا» فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ قَضَاءً بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدَّمَهَا عَلَى الْمَغْرِبِ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ قَرِينَةِ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِالتَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ. وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَعَ نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ أَصْحَابُهُ نِعَالَهُمْ تَأَسِّيًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ بِبَاطِنِهَا أَذًى، وَسَأَلَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ؟ وَأَجَابُوا بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ خَلَعَ نَعْلَهُ - وَهُوَ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ قَرَائِنِ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ - أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ التَّأَسِّي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ الْمُجَرَّدَةِ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِرْسَالِ فَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَصْلَهُ. وَالْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ شَاهِدَةٌ لَهُ، وَإِلَى كَوْنِ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةِ مِنَ الْقَرَائِنِ تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي كِتَابِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: وَكُلُّ مَا الصِّفَةُ فِيهِ تُجْهَلْ ... فَلِلْوُجُوبِ فِي الْأَصَحِّ يُجْعَلْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مُنَاقَشَاتٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، انْظُرْهَا فِي) نَشْرِ الْبُنُودِ (وَغَيْرِهِ. وَيُعْتَضَدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدَ الَّذِي هُوَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْمَغْرِبِ الْحَاضِرَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي اسْتِدْلَالِ الْبُخَارِيِّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأُولَى مِنَ الْفَوَائِتِ فَالْأُولَى بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَلَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ بِتَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةَ لِلْوُجُوبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَقَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذَا. انْتَهَى مِنْهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُجَرَّدَةَ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمَرَاقِي فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ عُمُومُ حَدِيثِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» يَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً فِي وَقْتِ حَاضِرَةٍ ضَيِّقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُقَدِّمُ الْفَائِتَةَ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ أَوْ لَا؟ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْفَائِتَةَ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُلِّ أَصْحَابِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَاضِرَةِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي تَقْدِيمِ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَمَحِلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَكْثُرِ الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ، فَأَمَّا إِذَا كَثُرَتْ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَاضِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ صَلَاةُ يَوْمٍ، وَقِيلَ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ أَمَّا تَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِهِ مَعَ الذِّكْرِ لَا مَعَ النِّسْيَانِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا بَلْ يُنْدَبُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، قَلَّتِ الْفَوَائِتُ أَمْ كَثُرَتْ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَزُفَرُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ نَسِيَ الْفَوَائِتَ صَحَّتِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي صَلَّى بَعْدَهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 ذَكَرَ فَائِتَةً وَهُوَ فِي حَاضِرَةٍ تَمَّمَ الَّتِي هُوَ فِيهَا ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ، ثُمَّ يَجِبُ إِعَادَةُ الْحَاضِرَةِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي) شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَمَّالُ) بِالْحَاءِ (الْحَافِظُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي وُجُوبُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا الْأُولَى فَالْأُولَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْقِتَالِ مَا نَزَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [33 \ 25] ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا لِوَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَذَّنَ لِلْمَغْرِبِ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا. اهـ. فَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، فَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ هُوَ أَبُو حَفْصٍ الْفَلَّاسُ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَيَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ وَجَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ جَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَسَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ثِقَةٌ، فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْفَوَائِتَ فِي الْقَضَاءِ: الْأُولَى فَالْأُولَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَفْعَالَهُ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيَرْثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ الْيَعْمُرِيِّ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ جَلِيلٌ. اهـ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 الْخَنْدَقِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. اهـ. أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ الْمَكِّيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا فِي غَزْوَةٍ فَحَبَسَنَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ طَافَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «مَا عَلَى الْأَرْضِ عِصَابَةٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُكُمْ» اهـ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: إِنَّ إِسْنَادَهُ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِسْنَادَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ ; لِأَنَّ رَاوِيَهِ عَنْهُ ابْنُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ مُرْسَلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْسَلَ يَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ يَحْتَجُّ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَضِدْ بِغَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يُعَارِضُهُمَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ كَوْنِهِمْ شَغَلُوهُمْ عَنِ الْعَصْرِ وَحْدَهَا ; لِأَنَّ مَا فِيهِمَا زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ) وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ (وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَأَصْحَابَهُمْ وَجَمَاهِيرَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا قَضَاهَا وَحْدَهَا وَلَا تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ صَلَاةٍ أُخْرَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ:) بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا وَلَا يُعِيدُ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [20 \ 14] ، قَالَ مُوسَى: قَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [20 \ 14] ، وَقَالَ هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ اهـ. وَقَالَ فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَتَرْجَمَتِهِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنَيِّرِ: صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِإِثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْوَاجِبُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ لَا أَكْثَرُ، فَمَنْ قَضَى الْفَائِتَةَ كَمَّلَ الْعَدَدَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْخِطَابِ، لِقَوْلِ الشَّارِعِ «فَلْيُصَلِّهَا» وَلَمْ يَذْكُرْ زِيَادَةً، وَقَالَ أَيْضًا: «لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ أَنْ لَا يَجِبَ غَيْرُ إِعَادَتِهَا، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى صَلَاةً أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي الَّتِي ذَكَرَ، ثُمَّ يُصَلِّي الَّتِي كَانَ صَلَّاهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ. انْتَهَى مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ نَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ قَالَ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» اهـ. فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِذَا كَانَ الْغَدُ. . . إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَالثَّانِيَةَ: عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فَقَضَاهَا لَا يَتَغَيَّرُ وَقْتُهَا وَيَتَحَوَّلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ صَلَّى صَلَاةَ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ وَلَا يَتَحَوَّلُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْحَالِ، وَمَرَّةً فِي الْغَدِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ النُّوَّمِ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ مَا نَصُّهُ: «فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ صَلَاةَ الْغَدِ مِنْ غَدٍ صَالِحًا فَلْيَقْضِ مَعَهَا مِثْلَهَا» اهـ، وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ لَفْظَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَجْوِبَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمَ أَحَدًا قَالَ بِظَاهِرِهِ وُجُوبًا، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ فِي الْقَضَاءِ. انْتَهَى، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ عَدُّوا الْحَدِيثَ غَلَطًا مِنْ رَاوِيهِ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَقْضِيهَا لِوَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الرِّبَا وَيَأْخُذُهُ مِنْكُمْ» . انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْفَتْحِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ الْمَذْكُورُ قَدْ قَدَّمْنَاهُ وَذَكَرْنَا مَنْ أَخْرَجَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا تَكَاسُلًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِوُجُوبِهَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي كُفْرِهِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُرْتَدِّ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْكَافِرَ تَارَةً يَكُونُ كَافِرًا أَصْلِيًّا لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ إِسْلَامٌ، وَتَارَةً يَكُونُ كَافِرًا بِالرِّدَّةِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا. أَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [8 \ 38] ، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ شَيْءٍ فَائِتٍ فِي كُفْرِهِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ مَعْرُوفٌ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ، وَلَا فِي زَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ وَتَجْعَلُهُ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلَتْهَا رِدَّتُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الْآيَةَ [39 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [5 \ 5] ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ وَزَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تُبْطِلْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْآيَةَ [2 \ 217] ، فَجَعَلَ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ شَرْطًا فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ، لِوُجُوبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، هَلْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ بِالْقَضَاءِ أَوْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَا بُدَّ لِلْقَضَاءِ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وِفَاقًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ هِيَ قَوْلُهُمْ: الْأَمْرُ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ لَزِمَ فِعْلُ بَعْضِهَا الَّذِي لَمْ يَتَعَذَّرْ، فَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَمْرٌ بِمُرَكَّبٍ مِنْ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: فِعْلُ الْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي: كَوْنُهَا مُقْتَرِنَةً بِالْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الِاقْتِرَانُ بِالْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ غَيْرَ مُتَعَذِّرٍ وَهُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فِعْلُ الْجُزْءِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَّرَ بِهِ ابْنُ قَدَامَةَ فِي) رَوْضَةِ النَّاظِرِ (وَعَزَاهُ هُوَ وَالْغَزَالِيُّ فِي) الْمُسْتَصْفَى (إِلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ، وَهِيَ) أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ دُونَهَا فَائِدَةٌ (، قَالُوا: فَتَخْصِيصُهُ الصَّلَوَاتِ بِأَوْقَاتِهَا الْمُعَيَّنَةِ، وَالصَّوْمَ بِرَمَضَانَ مَثَلُهُ كَتَخْصِيصِ الْحَجِّ بِعَرَفَاتٍ، وَالزَّكَاةِ بِالْمَسَاكِينِ وَالصَّلَاةِ بِالْقِبْلَةِ، وَالْقَتْلِ بِالْكَافِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - اخْتَلَفُوا فِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ عَمْدًا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ تَارِكَهَا غَيْرُ كَافِرٍ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِ إِعَادَتِهَا، قَالُوا: نَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْقَضَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ الْمَتْرُوكَةَ عَمْدًا جَاءَتْ عَلَى قَضَائِهَا أَدِلَّةٌ، مِنْهَا: قِيَاسُ الْعَامِدِ عَلَى النَّاسِي وَالنَّائِمِ الْمَنْصُوصِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا، قَالُوا: فَإِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِدِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُجَامِعَ فِي نَهَارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَعَ الْكَفَّارَةِ، أَيْ: بَدَلَ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّارِكِ عَمْدًا عُمُومُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» ، فَقَوْلُهُ: «دَيْنُ اللَّهِ» اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الْآيَةَ [14 \ 34] ، فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَتْرُوكَةَ عَمْدًا دَيْنُ اللَّهِ فِي ذِمَّةِ تَارِكِهَا، فَدَلَّ عُمُومُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُقْضَى، وَلَا مُعَارِضَ لِهَذَا الْعُمُومِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَى التَّارِكِ لِلصَّلَاةِ عَمْدًا قَضَاءٌ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يَأْتِ أَمْرٌ جَدِيدٌ بِقَضَاءِ التَّارِكِ عَمْدًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ حَزْمٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءْ بَلْ هُوَ بِالْأَمْرِ الْجَدِيدِ جَاءْ لِأَنَّهُ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنِ يَجِي لِمَا عَلَيْهِ مِنْ نَفْعٍ بُنِي وَخَالَفَ الرَّازِيُّ إِذِ الْمُرَكَّبْ لِكُلِّ جُزْءٍ حُكْمُهُ يَنْسَحِبْ تَنْبِيهٌ سَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَنَظَرَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ، وَإِلَيْهِ نَظَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَالثَّانِي: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، وَإِلَيْهِ نَظَرَ الْجُمْهُورُ، وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا أَشَارَ لَهُ الشَّيْخُ مَيَّارَةُ فِي التَّكْمِيلِ، بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ فِي الْفَرْعِ تَقْرِيرَانِ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ فَالْقَوْلَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ جَنَّاتِ عَدْنٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَعْدَهُ مَأْتِيٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ وَيَنَالُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُخْلِفُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 الْمِيعَادَ، وَأَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ الْآيَةَ [30 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [13 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ الْآيَةَ [3 \ 193 - 194] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [17 \ 107 - 108] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [73 \ 17 - 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا [25 \ 15 - 16] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: مَأْتِيًّا، اسْمُ مَفْعُولِ «أَتَاهُ» : إِذَا جَاءَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَأْتِيًّا، صِيغَةُ مَفْعُولٍ أُرِيدَ بِهَا الْفَاعِلُ، أَيْ: كَانَ وَعْدُهُ آتِيًا، إِذْ لَا دَاعِيَ لِهَذَا مَعَ وُضُوحِ ظَاهِرِ الْآيَةِ. تَنْبِيهٌ مَثَّلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدَلِ، وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، قَالُوا: جَنَّاتِ عَدْنٍ [19 \ 61] ، بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [19 \ 60] ، بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ. قَالُوا: وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَدَلِ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ قَوْلُهُ: رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ فَـ «طَلْحَةُ» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «أَعْظُمًا» بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، وَعَلَيْهِ فَأَقْسَامُ الْبَدَلِ سِتَّةٌ: بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَبَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَبَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَبَدَلُ الِاشْتِمَالِ، وَبَدَلُ الْبَدَاءِ، وَبَدَلُ الْغَلَطِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ كَوْنُ الْبَدَلِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لِلْجِنْسِ، وَإِذَا كَانَ لِلْجِنْسِ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الْجَنَّاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ، بَدَلًا مِنَ الْجَنَّةَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 بِالْأَوَّلِ الْجَمْعُ كَمَا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وَالْأَعْظُمُ فِي الْبَيْتِ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّخْصِ، «فَطَلْحَةُ» بَدَلٌ مِنْهُ، بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْفِنُوا الْأَعْظُمَ وَحْدَهَا، بَلْ دَفَنُوا الشَّخْصَ الْمَذْكُورَ جَمِيعَهُ، أَعْظُمَهُ وَغَيْرَهَا مِنْ بَدَنِهِ، وَعَبَّرَ هُوَ عَنْهُ بِالْأَعْظُمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَدْخَلَهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا [19 \ 62] ، أَيْ: فِي الْجَنَّاتِ الْمَذْكُورَةِ لَغْوًا، أَيْ: كَلَامًا تَافِهًا سَاقِطًا كَمَا يُسْمَعُ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّغْوُ: هُوَ فُضُولُ الْكَلَامِ، وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ فُحْشُ الْكَلَامِ وَبَاطِلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ، وَقِيلَ الْعَجَّاجِ: وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا سَلَامًا، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ يَسْمَعُونَ فِيهَا سَلَامًا، لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ الْآيَةَ [14 \ 23] ، وَقَوْلُهُ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ الْآيَةَ [13 \ 23 - 24] ، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ فِي «الْوَاقِعَةِ» : لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [56 \ 25 - 26] ، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ الْآيَةَ [4 \ 157] : وَقَوْلِهِ: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [92 \ 19 - 20] ، وَقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [44 \ 56] ، وَكَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ الْآيَةَ [4 \ 29] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ الِاسْتِثْنَاءَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُنْقَطِعَةٌ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ فَالْأَوَارِيُّ الَّتِي هِيَ مَرَابِطُ الْخَيْلِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ «الْأَحَدِ» . وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 وَبِنْتِ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ ... لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانَ وَعَامِلَهْ وَقَوْلُ جِرَانِ الْعَوْدِ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ «فَالسِّنَانُ» لَيْسَ مِنْ جِنْسِ «الْخَاطِبِ» وَ «الْيَعَافِيرُ وَالْعِيسُ» لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ «الْأَنِيسِ» . وَقَوْلُ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ: أُجَاهِدُ إِذْ كَانَ الْجِهَادُ غَنِيمَةً ... وَلَلَّهُ بِالْعَبْدِ الْمُجَاهِدِ أَعْلَمْ عَشِيَّةً لَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرِقِيَّ الْمُصَمِّمْ وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَعَلْمُ صِحَّةَ وُقُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ، وَغَيْرُ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ أَصْلًا حَتَّى يَخْرُجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ يَحْصُلُ بِأَمْرَيْنِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِهِمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَإِنِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَقِيضَ الْإِثْبَاتِ النَّفْيُ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى لَيْسَ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [44 \ 56] ، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [4 \ 29] ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْآيَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَنَقِيضُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا، هُوَ: يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ، وَهَذَا النَّقِيضُ الَّذِي هُوَ ذَوْقُ الْمَوْتِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بَلْ حُكِمَ بِالذَّوْقِ فِي الدُّنْيَا، وَنَقِيضُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ كُلُوهَا بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى. فَتَحَصَّلَ أَنَّ انْقِطَاعَ الِاسْتِثْنَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا بِالْحُكْمِ عَلَى غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا ثَوْبًا، الثَّانِي: بِالْحُكْمِ بِغَيْرِ النَّقِيضِ، نَحْوُ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا زَيْدًا لَمْ يُسَافِرْ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي اعْلَمْ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بَعْضُ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ، فَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِآخَرَ فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا، فَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَكُونُ قَوْلُهُ «إِلَّا ثَوْبًا» لَغْوًا وَتَلْزَمُهُ الْأَلْفُ كَامِلَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ لَا يُلْغَى قَوْلُهُ «إِلَّا ثَوْبًا» وَتَسْقُطُ قِيمَةُ الثَّوْبِ مِنَ الْأَلْفِ، وَالَّذِينَ قَالُوا تَسْقُطُ قِيمَتُهُ اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ قِيمَتَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا، أَيْ: حَذْفَ مُضَافٍ، يَعْنِي: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، فَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ عَلَى الْإِضْمَارِ قَالَ «إِلَّا ثَوْبًا» مَجَازٌ، أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ الْقِيمَةَ، كَإِطْلَاقِ الدَّمِ عَلَى الدِّيَةِ، وَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْإِضْمَارُ عَلَى الْمَجَازِ قَالَ «إِلَّا ثَوْبًا» ، أَيْ: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، وَاعْتَمَدَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ تَقْدِيمَ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَبَعْدَ تَخْصِيصٍ مَجَازٌ يَلِي ... الْإِضْمَارُ فَالنَّقْلُ عَلَى الْمُعَوَّلِ وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَّ الْمُقَدَّمَ عِنْدَهُمُ التَّخْصِيصُ، ثُمَّ الْمَجَازُ، ثُمَّ الْإِضْمَارُ، ثُمَّ النَّقْلُ، مِثَالُ تَقْدِيمِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَجَازِ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [9 \ 5] ، يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَالذِّمِّيِّينَ وَالْمُعَاهِدِينَ أَخْرَجَهُمْ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، أَطْلَقَ فِيهِ الْكُلَّ وَأَرَادَ الْبَعْضَ، فَيُقَدَّمُ التَّخْصِيصُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ يَبْقَى حَقِيقَةً فِي مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمُخَصِّصُ، وَالْحَقِيقَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ. الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ يَبْقَى مُسْتَصْحَبًا فِي الْأَفْرَادِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قَرِينَةٍ، وَمِثَالُ تَقْدِيمِ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا: أَنْتَ أَبِي، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ، أَيْ: أَنْتَ عَتِيقٌ ; لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ يَلْزَمُهَا الْعِتْقُ، وَيَحْتَمِلُ الْإِضْمَارَ، أَيْ: أَنْتَ مِثْلُ أَبِي فِي الشَّفَقَةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُعْتَقُ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُعْتَقُ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَمِثَالُ تَقْدِيمِ الْإِضْمَارِ عَلَى النَّقْلِ عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرَّمَ الرِّبَا [2 \ 275] ، يَحْتَمِلُ الْإِضْمَارَ، أَيْ: أَخْذُ الرِّبَا وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ مَثَلًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ حُذِفَ الدِّرْهَمُ الزَّائِدُ لَصَحَّ الْبَيْعُ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ، وَيَحْتَمِلُ نَقْلَ الرِّبَا إِلَى مَعْنَى الْعَقْدِ، فَيَمْتَنِعُ عَقْدُ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَوْ حُذِفَ الزَّائِدُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ جَدِيدٍ مُطْلَقًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرُوهُمَا فِي: «لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا» ، وَهُمَا الْإِضْمَارُ وَالنَّقْلُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّصِلًا ; لِأَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ مِنْ جِنْسِ الْأَلْفِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْقِيمَةَ مُضْمَرَةٌ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهَا مُعَبَّرٌ عَنْهَا بِلَفْظِ الثَّوْبِ. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ ; لِأَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوهُ لَمْ يَمْنَعُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ ; لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِمَعْنَى «لَكِنْ» فَهُوَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَبَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَقُولُ: إِنَّ الثَّوْبَ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ لَغْوٌ، وَيُعَدُّ نَدَمًا مِنَ الْمُقِرِّ بِالْأَلْفِ، وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، قِيلَ إِنَّهَا نِسْبَةُ تَوَاطُؤٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، وَإِلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَّصِلِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ، بِقَوْلِهِ: وَالْحُكْمُ بِالنَّقِيضِ لِلْحُكْمِ حَصَلْ ... لِمَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ قَبْلُ مُتَّصِلْ وَغَيْرُهُ مُنْقَطِعٌ وَرَجَّحَا ... جَوَازَهُ وَهُوَ مَجَازٌ أَوْضَحَا فَلْتُنْمِ ثَوَابًا بَعْدَ أَلْفِ دِرْهَمِ ... لِلْحَذْفِ وَالْمَجَازِ أَوْ لِلنَّدَمِ وَقِيلَ بِالْحَذْفِ لَدَى الْإِقْرَارِ ... وَالْعَقْدُ مَعْنَى الْوَاوِ فِيهِ جَارِ بِشَرِكَةٍ وَبِالتَّوَاطِي قَالَ ... بَعْضٌ وَأَوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصَالَا وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [19 \ 62] ، مُنْقَطِعٌ، هُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، كَقَوْلِ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وَقَوْلِ الْآخَرِ: فَمًا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإِنِّي ... جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا الْآيَةَ [7 \ 126] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [9 \ 74] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «بَرَاءَةَ» . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فِيهِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ ذِكْرِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ ضِيَاءٌ دَائِمٌ وَلَا لَيْلَ فِيهَا، وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ قَدْرُ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَنِ، كَقَوْلِهِ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [34 \ 12] ، أَيْ: قَدْرُ شَهْرٍ، وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي زَمَنِهَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَعَشَاءً فَذَلِكَ النَّاعِمُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُرَغِّبَةً لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الدَّوَامِ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، وَالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا، يُرِيدُ الدَّيْمُومَةَ وَلَا يَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْبُكْرَةُ هِيَ الْوَقْتَ الَّذِي قَبْلَ اشْتِغَالِهِمْ بِلَذَّاتِهِمْ، وَالْعَشِيُّ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ لَذَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُهَا فَتَرَاتُ انْتِقَالٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ. الْجَوَابُ الْخَامِسُ: هُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي) نَوَادِرِ الْأُصُولِ (مِنْ حَدِيثِ أَبَانٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ، قَالَا: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَيْلٍ؟ قَالَ: «وَمَا يُهَيِّجُكَ عَلَى هَذَا» ؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَقُلْتُ: اللَّيْلُ بَيْنَ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ، إِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ، يَرِدُ الْغُدُوُّ عَلَى الرَّوَاحِ وَالرَّوَاحُ عَلَى الْغُدُوِّ، تَأْتِيهِمْ طُرَفُ الْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ» . انْتَهَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَالْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ) التَّذْكِرَةِ (، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي نُورٍ أَبَدًا، إِنَّمَا يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ مِنَ النَّهَارِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ، وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ، وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ، وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ الْأَخِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. \ 50 قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا، الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ [19 \ 63] ، إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ جَنَّتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ - إِلَى قَوْلِهِ - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [23 \ 1 - 11] ، وَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الْآيَاتِ [3 \ 133] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا الْآيَةَ [39 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ: الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ فِيهَا فِي أَكْمَلِ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي) الْكَشَّافِ (: نُورِثُ أَيْ: نُبْقِي عَلَيْهِ الْجَنَّةَ كَمَا نُبْقِي عَلَى الْوَارِثِ مَالَ الْمَوْرُوثِ، وَلِأَنَّ الْأَتْقِيَاءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَثَمَرَتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَإِذَا أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كَمَا يُورِثُ الْوَارِثُ الْمَالَ مِنَ الْمُتَوَفَّى، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِكُلِّ نَفْسٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ; أَرَاهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِي النَّارِ لَوْ كَفَرُوا وَعَصَوُا اللَّهَ لِيَزْدَادَ سُرُورُهُمْ وَغِبْطَتُهُمْ ; وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ الْآيَةَ [7 \ 43] ، وَكَذَلِكَ يَرَى أَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ آمَنُوا وَاتَّقَوُا اللَّهَ لِتَزْدَادَ نَدَامَتُهُمْ وَحَسْرَتُهُمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ لِأَهْلِ النَّارِ، وَمَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِيرَاثِ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ يَدُلُّ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَوَابٍ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرِثُونَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمُ الْمُعَدَّةَ لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، كَمَا قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا مَا أُورِثُوا مِنْ مَنَازِلِ أَهْلِ النَّارِ وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَرَى، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ، هَدَانِي فَيَكُونُ لَهُ أَشْكْرَ، وَكُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي، فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَسْرَةً» اهـ، وَعَلَّمَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ. اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَجَدَ عِظَامًا بَالِيَةً فَفَتَّتَهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَدْ أَسْنَدَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ صَادِرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ ; لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْمُوعِ، مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ بَعْضُهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [2 \ 191] ، مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ، أَيْ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَمِنْ أَظْهَرِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ نَبَا ... بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 فَقَدْ أَسْنَدَ الضَّرْبَ إِلَى بَنِي عَبْسٍ، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الضَّارِبَ الَّذِي بِيَدِهِ السَّيْفُ هُوَ وَرْقَاءُ وَهُوَ ابْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيُّ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيُّ، وَقِصَّةُ قَتْلِهِ لِزُهَيْرٍ الْمَذْكُورِ مَشْهُورَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ يَقُولُ مُنْكِرًا الْبَعْثَ: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، يَعْنِي: أَيَقُولُ الْإِنْسَانُ مَقَالَتَهُ هَذِهِ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّا أَوْجَدْنَاهُ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ عَدَمًا فَأَوْجَدْنَاهُ، وَإِيجَادُنَا لَهُ الْمَرَّةَ الْأُولَى دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى إِيجَادِهِ بِالْبَعْثِ مَرَّةً أُخْرَى. وَهَذَا الْبُرْهَانُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 78 - 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [50 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [56 \ 62] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [17 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [22 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ; وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» ، فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ إِذَا، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَزَاءُ الشَّرْطِ ; وَتَقْدِيرُهُ: أَأُخْرَجُ حَيًّا إِذَا مَا مِتُّ؟ أَيْ: حِينَ يَتَمَكَّنُ فِيَّ الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ أُخْرَجُ حَيًّا، يَعْنِي لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا تَقُولُ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِـ أُخْرَجُ، الْمَذْكُورِ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 قَوْلِهِ: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ، مِنْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي «إِذَا» هُوَ جَزَاؤُهَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، مَانِعَةٌ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: الْيَوْمَ لَزَيْدٌ قَائِمٌ ; تَعْنِي لَزَيْدٌ قَائِمٌ الْيَوْمَ، وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ الَّذِي هُوَ سَوْفَ مَانِعٌ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ: «أَئِذَا مَا مِتُّ سَأُخْرَجُ حَيًّا» بِدُونِ اللَّامِ يَمْتَنِعُ نَصْبُ «إِذَا» بِـ «أُخْرَجُ» الْمَذْكُورَةِ ; فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَدَلِيلُهُ وُجُودُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَلَمَّا رَأَتْهُ أُمُّنَا هَانَ وَجْدُهَا ... وَقَالَتْ أَبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ فَقَوْلُهُ «هَكَذَا» مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ «يَفْعَلُ» كَمَا أَوْضَحَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيْهِ فَعَلَى قِرَاءَةِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ فَقَوْلُهُ: «إِذَا» مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: «أُخْرَجُ» لِعَدَمِ وُجُودِ اللَّامِ فِيهَا وَعَدَمِ مَنْعِ حَرْفِ التَّنْفِيسِ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ. تَنْبِيهٌ فَإِنْ قُلْتَ: لَامُ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضَارِعِ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، فَكَيْفَ جَامَعَتْ حَرْفَ التَّنْفِيسِ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّامَ هُنَا جُرِّدَتْ مِنْ مَعْنَى الْحَالِ، وَأُخْلِصَتْ لِمَعْنَى التَّوْكِيدِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ جَامَعَتْ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا بَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بِأَنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَمْنَعُ أَنَّ اللَّامَ الْمَذْكُورَةَ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، وَعَلَى قَوْلِهِ يَسْقُطُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْبُرْهَانَ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [19 \ 67] ، أَقْسَمَ جَلَّ وَعَلَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ - أَيِ: الْكَافِرِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ - وَغَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَيَحْشُرُ مَعَهُمُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُضِلُّونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُحْضِرُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، أَمَّا حَشْرُهُ لَهُمْ وَلِشَيَاطِينِهِمْ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [37 \ 22 - 23] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [43 \ 38] . وَأَمَّا إِحْضَارُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، فَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 28] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جِثِيًّا، جَمْعُ جَاثٍ، وَالْجَاثِي: اسْمُ فَاعِلِ: جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وَجَثَى يَجْثِي جِثِيًّا: إِذَا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ أَوْ قَامَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَالْعَادَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي مَوْقِفِ ضَنْكٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، جَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فَمَنْ لِلْحُمَاةِ وَمَنْ لِلْكُمَاةِ إِذَا مَا الْكُمَاةُ جَثَوْا لِلرُّكَبْ إِذَا قِيلَ مَاتَ أَبُو مَالِكٍ فَتَى الْمُكْرَمَاتِ قَرِيعُ الْعَرَبْ وَكَوْنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: جِثِيًّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً الْآيَةَ [45 \ 28] ، أَنَّهُ جِثِيُّهُمْ عَلَى رُكَبِهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: هُمْ تَرَكُوا سَرَاتَهُمْ جِثِيًّا ... وَهُمْ دُونَ السَّرَاةِ مُقَرَّنِينَا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جِثِيًّا، أَنَّ مَعْنَاهُ: جَمَاعَاتٍ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ جِثِيًّا، أَيْ: جَمْعًا جَمْعًا، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمْعُ «جُثْوَةٍ» مُثَلَّثَةُ الْجِيمِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَجْمُوعَةُ وَالتُّرَابُ الْمَجْمُوعُ، فَأَهْلُ الْخَمْرِ يَحْضُرُونَ حَوْلَ جَهَنَّمَ عَلَى حِدَةٍ، وَأَهْلُ الزِّنَى عَلَى حِدَةٍ ; وَأَهْلُ السَّرِقَةِ عَلَى حِدَةٍ. ; وَهَكَذَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ «فُعْلَةً» كَجُثْوَةٍ، لَمْ يُعْهَدْ جَمْعُهَا عَلَى فُعُولٍ كَجُثِيٍّ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ جِثِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ إِتْبَاعًا لِلْكَسْرَةِ بَعْدَهُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: «جُثِيًّا» بِضَمِّ الْجِيمِ عَلَى الْأَصْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا. قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَنَنْزِعَنَّ [19 \ 69] ، أَيْ: لَنَسْتَخْرِجَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ، أَيْ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَصْلُ الشِّيعَةِ فِعْلَةٌ كَفِرْقَةٍ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي شَاعَتْ غَيْرَهَا، أَيْ: تَبِعَتْهُ فِي هُدًى أَوْ ضَلَالٍ ; تَقُولُ الْعَرَبُ: شَاعَهُ شِيَاعًا: إِذَا تَبِعَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا، أَيْ: لَنَسْتَخْرِجَنَّ وَلَنُمَيِّزَنَّ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ أَعَصَاهُمْ فَأَعْصَاهُمْ، وَأَعْتَاهُمْ فَأَعْتَاهُمْ، فَيُبْدَأُ بِتَعْذِيبِهِ وَإِدْخَالِهِ النَّارَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَالْإِضْلَالِ وَالضَّلَالِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الرُّؤَسَاءَ الْقَادَةَ فِي الْكُفْرِ يُعَذَّبُونَ قَبْلَ غَيْرِهِمْ وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى هَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [16 \ 88] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [29 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [16 \ 25] ، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ فِي أُمَمِ النَّارِ أُولَى وَأُخْرَى، فَالْأُولَى: الَّتِي يُبْدَأُ بِعَذَابِهَا وَبِدُخُولِهَا النَّارَ، وَالْأُخْرَى الَّتِي تَدْخُلُ بَعْدَهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [7 \ 38 - 39] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [19 \ 70] ، يَعْنِي: أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْلَى النَّارَ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الرُّؤَسَاءَ وَالْمَرْءُوسِينَ كُلَّهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ، وَالصِّلِيُّ: مَصْدَرُ صَلِيَ النَّارَ - كَرَضِيَ - يَصْلَاهَا صِلِيًّا) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (إِذَا قَاسَى أَلَمَهَا، وَبَاشَرَ حَرَّهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ رَفْعِ «أَيُّ» مَعَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ لَنَنْزِعَنَّ، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ لَفْظَةَ «أَيُّ» مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ إِذَا كَانَتْ مُضَافَةً وَصَدْرُ صِلَتِهَا ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ كَمَا هُنَا، وَعَقَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 أَيٌّ كَمَا وَأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ ... وَصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَ مُطْلَقًا. . . . . . . . . .إِلَخْ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ سِيبَوَيْهَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ غَسَّانَ بْنِ وَعْلَةَ: إِذَا مَا لَقِيتَ بَنِي مَالِكٍ ... فَسَلِّمْ عَلَى أَيُّهُمْ أَفْضَلُ وَالرِّوَايَةِ بِضَمِّ «أَيُّهُمْ» ، وَخَالَفَ الْخَلِيلُ وَيُونُسُ وَغَيْرُهُمَا سِيبَوَيْهِ فِي «أَيُّ» الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّهَا فِي الْآيَةِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ أَيُّهُمْ أَشَدُّ ; وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ ... فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ أَيْ: فَأَبِيتُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: لَا هُوَ حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ. وَأَمَّا يُونُسُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْضًا ; لَكِنَّهُ حَكَمَ بِتَعْلِيقِ الْفِعْلِ قَبْلَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ لَا يَخْتَصُّ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَاحْتَجَّ لِسِيبَوَيْهَ عَلَى الْخَلِيلِ وَيُونُسَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا بِبَيْتِ غَسَّانَ بْنِ وَعْلَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ بِضَمِّ «أَيُّهُمْ» ، مَعَ أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ، لَا يُضْمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا قَوْلٌ وَلَا تَعَلُّقٌ عَلَى الْأَصْوَبِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ النَّحْوِيِّينَ غَلَّطُوا سِيبَوَيْهَ فِي قَوْلِهِ هَذَا فِي «أَيُّ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عِتِيًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَصِلِيًّا بِكَسْرِ الصَّادِ لِلْإِتْبَاعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ فِيهِمَا عَلَى الْأَصْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُرُودِ الدُّخُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُ أَذَاهَا عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ ذَلِكَ الدُّخُولِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِوُرُودِ النَّارِ الْمَذْكُورِ: الْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ ; لِأَنَّهُ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 الثَّالِثُ: أَنَّ الْوُرُودَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَيْهَا وَالْقُرْبُ مِنْهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ الْوُرُودِ هُوَ حُرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي الدَّاخِلَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَلَبَتُهُ فِيهِ دَلِيلٌ اسْتِقْرَائِيٌّ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَإِيضَاحُهُ أَنَّ وُرُودَ النَّارِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْمُرَادُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا الدُّخُولُ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ «الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ هُوَ الدُّخُولُ» ؛ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [11 \ 98] ، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ دُخُولٍ، وَكَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [21 \ 99] ، فَهُوَ وُرُودُ دُخُولٍ أَيْضًا، وَكَقَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [19 \ 86] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [21 \ 68] ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ فِي «أَنَّ الْوُرُودَ الدُّخُولُ» . وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ: الْإِشْرَافُ وَالْمُقَارَبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ الْآيَةَ [28 \ 23] ، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ مُقَارَبَةٍ وَإِشْرَافٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ الْآيَةَ [12 \ 11] ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ قَالُوا: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَرَدَتِ الْقَافِلَةُ الْبَلَدَ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْهُ وَلَكِنْ قَرُبَتْ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَيْسَ نَفْسَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [21 \ 101 - 102] ، قَالُوا: إِبْعَادُهُمْ عَنْهَا الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِمْ فِيهَا ; فَالْوُرُودُ غَيْرُ الدُّخُولِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ وُرُودَ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: حَرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 الدُّنْيَا بِحَدِيثِ «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ الدُّخُولُ أَدِلَّةٌ، الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُرُودِ النَّارِ مَعْنَاهُ دُخُولُهَا غَيْرَ مَحِلِّ النِّزَاعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَحِلَّ النِّزَاعِ كَذَلِكَ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. الدَّلِيلُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ جَمِيعَ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ سَيَرِدُونَ النَّارَ بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [19 \ 70 - 71] ، بَيَّنَ مَصِيرَهُمْ وَمَآلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا [19 \ 72] ، أَيْ: نَتْرُكُ الظَّالِمِينَ فِيهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُرُودَهُمْ لَهَا دُخُولُهُمْ فِيهَا، إِذْ لَوْ لَمْ يَدْخُلُوهَا لَمْ يَقُلْ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا بَلْ يَقُولُ: وَنُدْخِلُ الظَّالِمِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ هَلَكَةٌ، وَلِذَا عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قَوْلَهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ وَأَهْوَى بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا» اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافْ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ فِي بَابِ النَّارِ، وَالْحَكِيمُ فِي النَّوَادِرِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَسَأَلْنَا جَابِرًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَتَمَّ مِنَ اللَّفْظِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَخَالَفَهُمْ كُلَّهُمُ الْحَاكِمُ فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: عَنْ سُمَيَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَيْبَةَ. بَدَلَ أَبِي سُمَيَّةَ عَنْ جَابِرٍ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ الْبُرْسَانِيِّ، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ، قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: غَرِيبٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى: سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ إِمَامٌ حَافِظٌ مَشْهُورٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّانِيَةَ: أَبُو صَالِحٍ أَوْ أَبُو سَلَمَةَ غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْعَتَكِيُّ الْجَهْضَمِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّالِثَةَ: كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو سَهْلٍ الْبُرْسَانِيُّ بَصْرِيٌّ نَزَلَ بَلْخَ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الرَّابِعَةَ: أَبُو سُمَيَّةَ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. وَبِتَوْثِيقِ أَبِي سُمَيَّةَ الْمَذْكُورِ تَتَّضِحُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ رِجَالِ هَذَا الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ يَعْتَضِدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَبِالْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَآثَارٍ جَاءَتْ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ وُرُودُ دُخُولٍ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الدُّخُولُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [21 \ 101] ، بِأَنَّهُمْ مُبْعَدُونَ عَنْ عَذَابِهَا وَأَلَمِهَا، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وَرُودَهُمْ إِيَّاهَا مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِمْ بِأَلَمٍ وَلَا حَرٍّ مِنْهَا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَأَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ، بِالْقَوْلِ بِمُوجِبِهِ، قَالُوا: الْحَدِيثُ حَقٌّ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَحِلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ فِي النَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي حَرَارَةٍ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا إِلَى أَنْ قَالَ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [19 \ 68 - 70] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا كَمَا تَرَى. وَالْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: جِثِيًّا، كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي، قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ بِإِسْكَانِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ وُرُودَ النَّارِ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمُرُورُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ النَّاسَ تَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَقَتَادَةَ رُوِيَ عَنْهُمَا نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «أَنَّهُمْ يَرِدُونَهَا جَمِيعًا وَيَصْدُرُونَ عَنْهَا بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْوُرُودِ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، يَعْنِي أَنَّ وُرُودَهُمُ النَّارَ الْمَذْكُورَ كَانَ حَتْمًا عَلَى رَبِّكَ مَقْضِيًّا، أَيْ: أَمْرًا وَاجِبًا مَفْعُولًا لَا مَحَالَةَ، وَالْحَتْمُ: الْوَاجِبُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ: عِبَادُكَ يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ ... بِكَفَّيْكَ الْمَنَايَا وَالْحُتُومُ فَقَوْلُهُ: «وَالْحُتُومُ» : جَمْعُ حَتْمٍ، يَعْنِي الْأُمُورَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَتْمًا مَقْضِيًّا قَسَمًا وَاجِبًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ - لَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ قَسَمًا، بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) ح (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ مَالِكٍ، وَبِمَعْنَى حَدِيثِهِ إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ «فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» اهـ. قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْقَسَمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 وَالَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَسَمٌ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ مِنَ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، أَيْ: وَاللَّهِ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقَسَمِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْقَسَمِ قَسَمٌ، وَالْمَعْنَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ وَرَبِّكَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَسَمُ الْمَذْكُورُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا أَيْ: قَسَمًا وَاجِبًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ مِنَ السِّيَاقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، تَذْيِيلٌ وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ فِي تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ لِلْحَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا قَسَمٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الْقَسَمِ، وَلَا قَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْقَسَمِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَطْفُهَا عَلَى الْقَسَمِ، وَالْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ قَسَمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ دُونَ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ فِيهِ، زِيَادَةٌ عَلَى مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْهُ أَنَّ فِي الْآيَةَ قَسَمًا ; لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ التَّعْبِيرَ بِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ عَنِ الْقِلَّةِ الشَّدِيدَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَسَمٌ أَصْلًا، يَقُولُونَ: مَا فَعَلْتُ كَذَا إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، يَعْنُونَ إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا جِدًّا قَدْرَ مَا يُحَلِّلُ بِهِ الْحَالِفُ قَسَمَهُ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فِي وَصْفِ نَاقَتِهِ: تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاصِقَةٌ ... ذَوَابِلٌ مَسُّهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ يَعْنِي: أَنَّ قَوَائِمَ نَاقَتِهِ لَا تَمَسُّ الْأَرْضَ لِشِدَّةِ خِفَّتِهَا إِلَّا قَدْرَ تَحْلِيلِ الْقَسَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَمِينَ مِنْ نَاقَتِهِ أَنَّهَا تَمَسُّ الْأَرْضَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْمَسُّ تَحْلِيلًا لَهَا كَمَا تَرَى، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِلَّا تَحِلَّةَ» ، أَيْ: لَا يَلِجُ النَّارَ إِلَّا وُلُوجًا قَلِيلًا جِدًّا لَا أَلَمَ فِيهِ وَلَا حَرَّ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَرْفُوعِ، وَأَقْرَبُ أَقْوَالِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ قَسَمًا، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ لِدَلَالَةِ قَرِينَةِ لَامِ الْقَسَمِ فِي الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْعَطْفِ أَيْضًا، وَمُحْتَمِلٌ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: خَيْرٌ مَقَامًا [19 \ 73] ، قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَوْلُهُ: وَرِئْيًا، قَرَأَهُ قَالُونُ وَابْنُ ذَكْوَانَ «وَرِيًّا» بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُخَفَّفَةٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا إِذَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي حَالِ كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ، أَيْ مُرَتَّلَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَاضِحَاتِ الْمَعَانِي بَيِّنَاتِ الْمَقَاصِدِ، إِمَّا مُحْكَمَاتٌ جَاءَتْ وَاضِحَةً، أَوْ مُتَشَابِهَاتٌ قَدْ تَبِعَهَا الْبَيَانُ بِالْمُحْكَمَاتِ، أَوْ تَبْيِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، أَوْ ظَاهِرَاتُ الْإِعْجَازِ تُحُدِّيَ بِهَا فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، أَوْ حُجَجًا وَبَرَاهِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بَيِّنَاتٍ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ ; لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا [35 \ 31] ، أَيْ: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُتَّصِفَةً بِمَا ذَكَرْنَا عَارَضُوهَا وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِهَا، وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ لَا مَعَ مَنْ يَتْلُوهَا بِشُبْهَةٍ سَاقِطَةٍ لَا يَحْتَجُّ بِهَا إِلَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَمَضْمُونُ شُبْهَتِهِمُ الْمَذْكُورَةِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ أَوْفَرُ مِنْكُمْ حَظًّا فِي الدُّنْيَا، فَنَحْنُ أَحْسَنُ مِنْكُمْ مَنَازِلَ، وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ مَتَاعًا، وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ مَنْظَرًا، فَلَوْلَا أَنَّنَا أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْكُمْ لَمَا آثَرَنَا عَلَيْكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَعْطَانَا مِنْ نَعِيمِهَا وَزِينَتِهَا مَا لَمْ يُعْطِكُمْ. فَقَوْلُهُ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا [19 \ 73] ، أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ أَيُّنَا خَيْرٌ مَقَامًا، وَالْمُقَامُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ الْمَنَازِلُ وَالْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَقَامُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - مَكَانُ الْقِيَامِ وَهُوَ مَوْضِعُ قِيَامِهِمْ وَهُوَ مَسَاكِنُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعُ الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ. وَقَوْلُهُ: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، أَيْ: مَجْلِسًا وَمُجْتَمَعًا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، لِيَحْمِلُوا بِهِ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي تَقَشُّفٍ وَرَثَاثَةِ هَيْئَةٍ عَلَى أَنْ يَقُولُوا أَنْتُمْ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مِنَّا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 مَقْصُودَهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمْ - أَيْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ - خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دَلِيلُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا فِي التَّلْخِيصِ وَشُرُوحِهِ مِنْ أَنَّ السُّؤَالَ بِـ «أَيُّ» فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا سُؤَالٌ بِهَا عَمَّا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي أَمْرٍ يَعُمُّهُمَا كَالْعَادَةِ فِي أَيِّ غَلَطٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِغَيْرِ مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتِدْلَالُهُمْ هَذَا بِحَظِّهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حَظِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ مَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَهُ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ - لِسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ، ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [46 \ 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [6 \ 53] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 35] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 - 56] ، وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [19 \ 77] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 35 - 36] ، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [41 \ 50] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعْطِهِمْ نَصِيبًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا لِرِضَاهُ عَنْهُمْ، وَمَكَانَتِهِمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآخِرَةِ سَيَكُونُ كَذَلِكَ. وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [19 \ 74] ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرَةً، أَيْ أُمَمًا كَانَتْ قَبْلَهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ نَصِيبًا فِي الدُّنْيَا مِنْهُمْ، فَمَا مَنَعَهُمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا مِنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَمَّا عَصَوْا وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَلَوْ كَانَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ فِي الدُّنْيَا يَدُلُّ عَلَى رِضَا اللَّهِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَهُ لَمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، الَّذِينَ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا مِنْكُمْ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَمَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِـ «أَهْلَكْنَا» أَيْ: أَهْلَكْنَا كَثِيرًا، وَمِنْ مُبَيِّنَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 لِـ وَكَمْ وَكُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ قَرْنٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَهُمْ، قِيلَ: سُمُّوا قَرْنًا لِاقْتِرَانِهِمْ فِي الْوُجُودِ، وَالْأَثَاثُ: مَتَاعُ الْبَيْتِ، وَقِيلَ هُوَ الْجَدِيدُ مِنَ الْفُرُشِ، وَغَيْرُ الْجَدِيدِ مِنْهَا يُسَمَّى «الْخُرْثِيَّ» بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ، وَأَنْشَدَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ قَوْلَ الشَّاعِرِ: تَقَادَمَ الْعَهْدُ مِنْ أُمِّ الْوَلِيدِ بِنَا ... دَهْرًا وَصَارَ أَثَاثُ الْبَيْتِ خُرْثِيًّا وَالْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي الْعَرَبِيَّةِ هُوَ إِطْلَاقُ الْأَثَاثِ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ، وَيُطْلَقُ الْأَثَاثُ عَلَى الْمَالِ أَجْمَعَ: الْإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْمَتَاعِ، وَالْوَاحِدُ أَثَاثَةٌ، وَتَأَثَّثَ فُلَانٌ: إِذَا أَصَابَ رِيَاشًا، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَقَوْلُهُ: وَرِئْيًا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَهْمُوزًا، أَيْ: أَحْسَنُ مَنْظَرًا وَهَيْئَةً، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ: رَأَى، الْبَصَرِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ هَيْئَتِهِمُ الْحَسَنَةِ وَمَتَاعِهِمُ الْحَسَنِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ: أَشَاقَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا ... بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ وَعَلَى قِرَاءَةِ قَالُونَ وَابْنِ ذَكْوَانَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَةَ أُبْدِلَتْ يَاءً فَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا هَمْزَ عَلَى قِرَاءَتِهِمَا أَصْلًا، بَلْ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنَ الرِّيِّ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ وَالتَّرَفُّهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ رَيَّانٌ مِنَ النَّعِيمِ، وَهِيَ رَيًّا مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: أَحْسَنُ نِعْمَةً وَتَرَفُّهًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْآيَاتُ الَّتِي أَبْطَلَ اللَّهُ بِهَا دَعْوَاهُمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [34 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [6 \ 44] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُ الْكُفَّارِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ وَجْهَ ذِكْرِهِمْ لِلْمَقَامِ وَالنَّدِيِّ: أَنَّ الْمَقَامَ هُوَ مَحِلُّ السُّكْنَى الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالنَّدِيَّ مَحِلُّ اجْتِمَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْكُفَّارِ أَحْسَنَ مِنْ نَظِيرِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْفَرُ مِنْ نَصِيبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَوْمَانِ يَوْمُ مُقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ وَالْمَقَامَاتُ: جَمْعُ مَقَامَةٍ بِمَعْنَى الْمَقَامِ، وَالْأَنْدِيَةُ: جَمْعُ نَادٍ بِمَعْنَى النَّدِيِّ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [29 \ 29] ، فَالنَّادِي وَالنَّدِيُّ يُطْلَقَانِ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَعَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْلِسُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ النَّدِيِّ عَلَى الْمَكَانِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: وَمَا قَامَ مِنَّا قَائِمٌ فِي نَدِيِّنَا ... فَيَنْطِقَ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَعْرَفُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْقَوْمِ قَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [96 \ 17 - 18] ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ فِيهِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ ... أَذِلَّةٌ سَوَاسِيَةٌ أَحْرَارُهَا وَعَبِيدُهَا وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبِ صِفَةٍ لِقَوْلِهِ: «كَمْ» أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ تَرَكْتَ لَفْظَةَ «هُمْ» لَمْ يَكُنْ لَكَ بُدٌّ مِنْ نَصْبِ أَحْسَنُ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ. اهـ. وَتَابَعَ الزَّمَخْشَرِيَّ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءَ النَّحْوِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ «كَمْ» سَوَاءٌ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً أَوْ خَبَرِيَّةً لَا تُوصَفُ وَلَا يُوصَفُ بِهَا، قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ أَحْسَنُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ قَرْنٍ وَجُمِعَ نَعْتُ الْقَرْنِ اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْقَرْنِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي لَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، تَلْزَمُهَا «مِنْ» لِتَجَرُّدِهَا مِنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْرِيفِ، إِلَّا أَنَّهَا مَحْذُوفَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرَئْيًا مِنْهُمْ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ صِلْهُ أَبَدَا تَقْدِيرًا أَوْ لَفْظًا بِمَنْ إِنْ جُرِّدَا فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ الْآيَةُ [19 \ 73] ، فَالْجَوَابٌ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ الْآيَةَ [19 \ 66] ، وَقَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا. فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَدُعَاءِ الْمُبَاهَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِيضَاحُ مَعْنَاهُ: قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ مَقَامًا وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ نَدِيًّا: مَنْ كَانَ مِنَّا وَمِنْكُمْ فِي الضَّلَالَةِ - أَيِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ - فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، أَيْ: فَأَمْهَلَهُ الرَّحْمَنُ إِمْهَالًا فِيمَا هُوَ فِيهِ حَتَّى يَسْتَدْرِجَهُ بِالْإِمْهَالِ وَيَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَرْجِعَ عَنْهُ، بَلْ يَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ اللَّهُ، وَهُوَ: إِمَّا عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [9 \ 14] ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ إِنْ مَاتُوا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَصِيغَةُ الطَّلَبِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ عَلَى بَابِهَا، وَعَلَيْهِ فَهِيَ لَامُ الدُّعَاءِ بِالْإِمْهَالِ فِي الضَّلَالِ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ مِنَ الشَّرِّ وَهُوَ عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [3 \ 61] ; لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ دُعَاءً بِالشَّرِّ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [2 \ 94] ، فِي «الْبَقَرَةِ وَالْجُمُعَةِ» عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَنِّي الدُّعَاءُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ، يُرَادُ بِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ فِي الضَّالِّينَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّهُ يُمْهِلُ الضَّالَّ وَيُمْلِي لَهُ فَيَسْتَدْرِجُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 بِذَلِكَ حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ، وَهُوَ فِي غَفْلَةٍ وَكُفْرٍ وَضَلَالٍ. وَتَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا الْآيَةَ [3 \ 178] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً الْآيَةَ [6 \ 44] ، كَمَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: فِي حَرْفِ أُبَيٍّ: «قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ اللَّهُ ضَلَالَةً» اهـ. قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ جِنْسِ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: مَا النُّكْتَةُ فِي إِطْلَاقِ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَجَابَ فِي كَشَّافِهِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، أَيْ: مَدَّ لَهُ الرَّحْمَنُ، يَعْنِي أَمْهَلَهُ وَأَمْلَى لَهُ فِي الْعُمْرِ، فَأُخْرِجَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ إِيذَانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَا مَحَالَةَ، كَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُمْتَثَلِ لِتَنْقَطِعَ مَعَاذِيرُ الضَّالِّ، وَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [35 \ 37] . انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ، أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا يَلِيهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَى مَا يُوعَدُ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ يَظُنُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ حَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الَّتِي تُحْكَى بَعْدَهَا الْجُمَلُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَجِيءِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: مَا يُوعَدُونَ لَفْظَةُ مَا، مَفْعُولٌ بِهِ لِـ مَا، وَقَوْلُهُ: إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ، بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي هُوَ «مَا» وَلَفْظَةُ مَنْ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَوْصُولَةٌ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِـ «يَعْلَمُونَ» وَعَلَيْهِ فَعَلِمَ هُنَا عِرْفَانِيَّةٌ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْفِعْلُ الْقَلْبِيُّ الَّذِي هُوَ يَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي. وَقَوْلُهُ: شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا، فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ; لِأَنَّ مَقَامَهُمْ هُوَ مَكَانُهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ الْجَامِعُ لِوُجُوهِ قَوْمِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، وَالْجُنْدُ هُمُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ، فَالْمُقَابَلَةُ الْمَذْكُورَةُ ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إِطْلَاقِ شَرٌّ مَكَانًا، وَالْمُرَادُ اتِّصَافُ الشَّخْصِ بِالشَّرِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 لَا الْمَكَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [12 \ 72] ، فَتَفْضِيلُ الْمَكَانِ فِي الشَّرِّ هَاهُنَا الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَفْضِيلُهُ إِخْوَتَهُ فِي الشَّرِّ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنْ شَرِّ السَّرِقَةِ لَا نَفْسَ الْمَكَانِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ الْمَكَانُ الْمَعْنَوِيُّ، أَيْ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَقَامًا، وَنَدِيًّا، وَأَثَاثًا، وَمَكَانًا، وَجُنْدًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْفَاعِلُ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا مُفَضِّلًا كَـ «أَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا» قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا. قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [19 \ 76] ، دَلِيلٌ عَلَى رُجْحَانِ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ زَادَهُ اللَّهُ ضَلَالَةً، وَمَنِ اهْتَدَى زَادَهُ اللَّهُ هُدًى، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ فِي الضَّلَالِ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [63 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [6 \ 110] ، كَمَا قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ فِي الْهُدَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [47 \ 17] ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [48 \ 4] ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا الْآيَةَ [29 \ 69] ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [17 \ 82] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى الْآيَةَ [41 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [9 \ 124 - 125] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُهُ: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [19 \ 76] ، تَقَدَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» . فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لَفْظَةَ خَيْرٌ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا، صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا، يَعْنِي: خَيْرٌ جَزَاءً مِنْ جَزَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَخَيْرٌ مَرَدًّا، يَعْنِي مَرْجِعًا مِنْ مَرْجِعِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَالْخَيْرِيَّةُ مَنْفِيَّةٌ بَتَاتًا عَنْ جَزَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَعَنْ مَرَدِّهِمْ، فَلَمْ يُشَارِكُوا فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي كَشَّافِهِ حَاوَلَ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَأَنَّهُ قِيلَ ثَوَابُهُمُ النَّارُ، وَالْجَنَّةُ خَيْرٌ مِنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ: غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسَارِ، فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ فَقَوْلُهُ: «أُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ» يَعْنِي أُرْضُوا بِالسَّيْفِ، أَيْ: لَا رِضًا لَهُمْ عِنْدَنَا إِلَّا السَّيْفُ لِقَتْلِهِمْ بِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ أَيْ لَا تَحِيَّةَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ الْوَجِيعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: شَجعاءَ جِرَّتُها الذَميلُ تَلوكُهُ ... أُصُلًا إِذا راحَ المَطِيُّ غِراثَا يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ لَا جِرَّةَ لَهَا تُخْرِجُهَا مِنْ كَرِشِهَا فَتَمْضُغُهَا إِلَّا السَّيْرُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْمُرَادُ: لَا ثَوَابَ لَهُمْ إِلَّا النَّارُ، وَبِاعْتِبَارِ جَعْلِهَا ثَوَابًا بِهَذَا الْمَعْنَى فُضِّلَ عَلَيْهَا ثَوَابُ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ جَوَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَعَ إِيضَاحِنَا لَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَيَظْهَرُ لِي فِي الْآيَةِ جَوَابٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُجَازًى بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا بَرَّ وَالِدَيْهِ وَنَفَّسَ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَوَصَلَ الرَّحِمَ مَثَلًا يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثَ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَثَوَابُهُ هَذَا الرَّاجِعُ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: لَا، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ لِي هُنَاكَ مَالًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا» ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا الِاسْتِهْزَاءُ بِالدِّينِ وَبِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا قِيَاسًا مِنْهُ لِلْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، كَمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [41 \ 50] ، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ الْآيَةَ [23 \ 55 - 56] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «وَوُلْدًا» بِضَمِّ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ مَعًا، وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَالْعُرْبِ وَالْعَرَبِ، وَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْوُلْدَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا ... قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدَا وَقَوْلُ رُؤْبَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ فَرْدَا ... لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ وُلْدِ شَيْءٍ وُلْدَا وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ الْوَلَدَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ مُفْرَدٌ، وَأَنَّ الْوُلْدَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ جَمْعٌ لَهُ، كَأَسَدٍ بِالْفَتْحِ يُجْمَعُ عَلَى أُسْدٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ هَذَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «الْوُلْدَ» بِالضَّمِّ لَيْسَ بِجَمْعٍ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ لِأَنَّ «الْوُلْدَ» فِي هَذَا الْبَيْتِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ قَطْعًا كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا. اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَدَّ عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 قَوْلَهُ: إِنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالًا وَوَلَدًا، بِالدَّلِيلِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ بِالتَّقْسِيمِ وَالتَّرْدِيدِ، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ بِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ. وَضَابِطُ هَذَا الدَّلِيلِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقْسِيمِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ، وَبِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ. وَالثَّانِي: هُوَ اخْتِيَارُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَحْصُورَةِ، وَإِبْطَالُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْهَا وَإِبْقَاءُ مَا هُوَ صَحِيحٌ مِنْهَا كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ «بِالسَّبْرِ» ، وَعِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ «بِالتَّرْدِيدِ» ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ، بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ، وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ، وَالسَّبْرُ الصَّحِيحُ يُبْطِلُ اثْنَيْنِ مِنْهَا وَيُصَحِّحُ الثَّالِثَ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ إِلْقَامُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الْحَجَرَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالًا وَوَلَدًا. أَمَّا وَجْهُ حَصْرِ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: قَوْلُكَ أَنَّكَ تُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخْلُو مُسْتَنَدُكَ فِيهِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ اطَّلَعْتَ عَلَى الْغَيْبِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ إِيتَاءَكَ الْمَالَ وَالْوَلَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أُعْطَاكَ عَهْدًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَاكَ عَهْدًا لَنْ يُخْلِفَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قُلْتَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ وَلَا اطِّلَاعِ غَيْبٍ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ فِي قَوْلِهِ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 78] ، مُبْطِلًا لَهُمَا بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِلَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْعَاصَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِعُ بِحَرْفِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَلَّا، أَيْ: لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، بَلْ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَاصِلًا لَمْ يَسْتَوْجِبِ الرَّدْعَ عَنْ مَقَالَتِهِ كَمَا تَرَى، وَهَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ دَعْوَى ابْنِ وَائِلٍ هَذِهِ هُوَ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ بِعَيْنِهِ دَعْوَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَصَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِالْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ كَذِبًا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 وَحُذِفَ فِي «الْبَقَرَةِ» قِسْمُ اطِّلَاعِ الْغَيْبِ الْمَذْكُورُ فِي «مَرْيَمَ» لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي «مَرْيَمَ» عَلَى قَصْدِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» كَمَا أَنَّ كَذِبَهُمُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي «مَرْيَمَ» لِأَنَّ مَا فِي «الْبَقَرَةِ» يُبَيِّنُ مَا فِي «مَرْيَمَ» لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [2 \ 80] ، فَالْأَوْصَافُ هُنَا هِيَ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي «مَرْيَمَ» كَمَا أَوْضَحْنَا، وَمَا حُذِفَ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي «مَرْيَمَ» فَاتِّخَاذُ الْعَهْدِ ذَكَرَهُ فِي «الْبَقَرَةِ وَمَرْيَمَ» مَعًا وَالْكَذِبُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ صَرَّحَ بِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» بِقَوْلِهِ: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [2 \ 80] ، وَأَشَارَ لَهُ فِي «مَرْيَمَ» بِحَرْفِ الزَّجْرِ الَّذِي هُوَ كَلَّا، وَاطِّلَاعُ الْغَيْبِ صَرَّحَ بِهِ فِي «مَرْيَمَ» وَحَذَفَهُ فِي «الْبَقَرَةِ» لِدَلَالَةِ مَا فِي «مَرْيَمَ» عَلَى الْمَقْصُودِ فِي «الْبَقَرَةِ» كَمَا أَوْضَحْنَا. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ تَكَرَّرَ وُرُودُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآنَ مِثَالَيْنِ لِذَلِكَ أَحَدُهُمَا فِي «الْبَقَرَةِ» وَالثَّانِي فِي «مَرْيَمَ» كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ فِي كَلَامِهِ عَلَى جَدَلِ الْقُرْآنِ مِثَالًا وَاحِدًا لِلسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَمَضْمُونُ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِاخْتِصَارٍ، هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ الْآيَتَيْنِ [6 \ 143] ، فَكَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلَّذِينِ حَرَّمُوا بَعْضَ الْإِنَاثِ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ دُونَ بَعْضِهَا، وَحَرَّمُوا بَعْضَ الذُّكُورِ كَالْحَامِي دُونَ بَعْضِهَا: لَا يَخْلُو تَحْرِيمُكُمْ لِبَعْضِ مَا ذُكِرَ دُونَ بَعْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ مَعْقُولَةٍ أَوْ تَعَبُّدِيًّا، وَعَلَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنَ الْإِنَاثِ الْأُنُوثَةَ، وَمِنَ الذُّكُورِ الذُّكُورَةَ، أَوْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِمَا مَعًا التَّخَلُّقَ فِي الرَّحِمِ، وَاشْتِمَالَهَا عَلَيْهِمَا، هَذِهِ هِيَ الْأَقْسَامُ الَّتِي يُمْكِنُ ادِّعَاءُ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهَا، ثُمَّ بَعْدَ حَصْرِ الْأَوْصَافِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ نَرْجِعُ إِلَى سَبْرِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: اخْتِبَارُهَا لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ مِنَ الْبَاطِلِ فَنَجِدُهَا كُلَّهَا بَاطِلَةً بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْعِلَّةِ الذُّكُورَةَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ ذَكَرٍ وَأَنْتُمْ تُحِلُّونَ بَعْضَ الذُّكُورِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ التَّعْلِيلِ بِالذُّكُورَةِ لِقَادِحِ النَّقْضِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ، وَكَوْنُ الْعِلَّةِ الْأُنُوثَةَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ أُنْثَى كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَكَوْنُ الْعِلَّةِ اشْتِمَالَ الرَّحِمِ عَلَيْهِمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 الْجَمِيعِ، وَإِلَى هَذَا الْإِبْطَالِ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ [6 \ 144] ، أَيْ: فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الذُّكُورَةَ لَحَرُمَ كُلُّ ذَكَرٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْأُنُوثَةَ لَحَرُمَتْ كُلُّ أُنْثَى، وَلَوْ كَانَتِ اشْتِمَالَ الرَّحِمِ عَلَيْهِمَا لَحَرُمَ الْجَمِيعُ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَعَبُّدِيًّا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكُمْ بِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، إِذْ لَمْ يَأْتِكُمْ مِنْهُ رَسُولٌ بِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [6 \ 144] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ أَشْنَعِ الظُّلْمِ، وَأَنَّهُ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَإِضْلَالٌ، بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [6 \ 144] ، ثُمَّ أَكَّدَ عَدَمَ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [6 \ 145] . وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِبْطَالَ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [52 \ 35] ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ، الْأُولَى: أَنْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيْ: بِدُونِ خَالِقٍ أَصْلًا، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونُوا خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ خَالِقٌ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَاطِلَانِ، وَبُطْلَانُهُمَا ضَرُورِيٌّ كَمَا تَرَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لِوُضُوحِهِ، وَالثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا خَالِقُهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الدَّلِيلَ فِي غَرَضٍ لَيْسَ هُوَ غَرَضَ الْآخَرِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ أَعَمُّ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَوْصَافِ مَحِلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ الْبَاطِلِ مِنْهَا وَتَصْحِيحُ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً كُلُّهَا فَيَتَحَقَّقُ بُطْلَانُ الْحُكْمِ الْمُسْتَنِدِ إِلَيْهَا، كَآيَةِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ [6 \ 144] الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا بَاطِلًا وَبَعْضُهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 صَحِيحًا، كَآيَةِ «مَرْيَمَ وَالْبَقَرَةِ وَالطُّورِ» الَّتِي قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا الدَّلِيلِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَهَذَا الدَّلِيلُ أَعَمُّ نَفْعًا، وَأَكْثَرُ فَائِدَةً عَلَى طَرِيقِ الْجَدَلِيِّينَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اعْلَمْ: أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ عِلَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَضَابِطُ هَذَا الْمَسْلَكِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَمْرَانِ، الْأَوَّلُ: هُوَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ الَّتِي سَنَذْكُرُ بَعْضَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ مَا لَيْسَ صَالِحًا لِلْعِلَّةِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ الَّتِي سَنَذْكُرُ أَيْضًا بَعْضَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَمْرًا ثَالِثًا وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ لَا تَعَبُّدِيٌّ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَشْتَرِطُونَ هَذَا الْأَخِيرَ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ يَتَرَكَّبُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ مَا لَيْسَ صَالِحًا لِلْعِلَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ مَعًا قَطْعِيَّيْنِ فَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَا ظَنِّيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَهُوَ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وَمِثَالُ مَا كَانَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ فِيهِ قَطْعِيَّيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [52 \ 35] ; لِأَنَّ حَصْرَ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يُخْلَقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ يَخْلُقُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ يَخْلُقْهُمْ خَالِقٌ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا رَابِعَ أَلْبَتَّةَ، وَإِبْطَالُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ: فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الثَّالِثَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ حُذِفَ فِي الْآيَةِ لِظُهُورِهِ، فَدَلَالَةُ هَذَا السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ قَطْعِيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْمِثَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْقَطْعِيِّ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ دُونَ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّمْثِيلُ لِلْقَطْعِيِّ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ وَلَوْ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ، وَالْقَطْعِيُّ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ ظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ نَظَرِهِمْ فِي الْمَسَائِلِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الرِّبَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، وَالنَّوْرَةِ وَنَحْوِهَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي إِبْطَالِ مَا لَيْسَ بِصَالِحٍ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هَذَا وَصْفٌ يَصِحُّ إِبْطَالُهُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ فَيَلْزَمُ إِبْطَالُهُ كَقَوْلِهِمْ مَثَلًا فِي حَصْرِ أَوْصَافِ الْبُرِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مَثَلًا الْمُحَرَّمُ فِيهِ الرِّبَا إِذَا أُرِيدَ قِيَاسُ الذُّرَةِ عَلَيْهِ مَثَلًا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْكَيْلُ أَوِ الطَّعْمُ أَوْ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ أَوْ هُمَا وَغَلَبَةُ الْعَيْشِ بِهِ أَوِ الْمَالِيَّةُ وَالْمِلْكِيَّةُ. فَيَقُولُ الْمَالِكِيُّ: غَيْرُ الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ بَاطِلٌ، وَيَدَّعِي أَنَّ دَلِيلَ بُطْلَانِهِ عَدَمُ الِاطِّرَادِ الَّذِي هُوَ النَّقْضُ، وَيَقُولُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 الْحَنَفِيُّ وَالْحَنْبَلِيُّ: غَيْرُ الْكَيْلِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ بَاطِلٌ، وَالْكَيْلُ: هُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ كَحَدِيثِ حَيَّانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَفِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ السِّتَّةِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا الرِّبَا: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، وَبِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الرِّبَا. وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: غَيْرُ الطَّعْمِ بَاطِلٌ، وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الطَّعْمُ، وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ أَيْضًا فِي الْبَقَرَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْعِلَّةِ فِيهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِمُرَكَّبِ الْأَصْلِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ لِعِلَّتَيْنِ اخْتَلَفَا ... تَرَكَّبَ الْأَصْلُ لَدَى مَنْ سَلَفَا وَأَشَارَ إِلَى مُرَكَّبِ الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: مُرَكَّبُ الْوَصْفِ إِذَا الْخَصْمُ مَنَعْ وُجُودُ ذَا الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَّبَعْ وَالْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بِنَوْعَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ، وَإِلَى كَوْنِ رَدِّهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَصْمِ الْمُخَالِفِ هُوَ الْمُخْتَارُ، أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَرَدُّهُ انْتَفَى وَقِيلَ يُقْبَلْ ... وَفِي التَّقَدُّمِ خِلَافٌ يُنْقَلْ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «وَرَدُّهُ» رَاجِعٌ إِلَى الْمُرَكَّبِ بِنَوْعَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَلَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الطَّعْمُ، عَلَى الْحَنَفِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ الْقَائِلَيْنِ إِنَّهَا الْكَيْلُ كَالْعَكْسِ، وَهَكَذَا، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَمُقَلِّدِيهِ فَظَنُّهُ الْمَذْكُورُ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ لَهُ وَلِمُقَلِّدِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِحَصْرِ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ طُرُقًا، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْحَصْرُ عَقْلِيًّا كَمَا قَدَّمْنَا فِي آيَةِ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [52 \ 35] ، وَكَقَوْلِكَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ: كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ، فَأَوْصَافُ الْمَحِلِّ مَحْصُورَةٌ فِي الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ - إِذْ لَا ثَالِثَ أَلْبَتَّةَ - أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ إِجْمَاعٌ، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ بِإِجْبَارِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْإِجْبَارِ إِمَّا الْجَهْلُ بِالْمَصَالِحِ، وَإِمَّا الْبَكَارَةُ. فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَيْنَ دَلِيلُ حَصْرِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَمْرَيْنِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ التَّعْلِيلِ بِغَيْرِهِمَا، فَلَوِ ادَّعَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 الْمُسْتَدِلُّ حَصْرَ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَيْنَ دَلِيلُ الْحَصْرِ؟ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: بَحَثْتُ بَحْثًا تَامًّا عَنْ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُ، أَوْ قَالَ: الْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِ مَا ذَكَرْتَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يَكْفِيهِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ، فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا أَعْلَمُ وَصْفًا زَائِدًا لَمْ تَذْكُرْهُ، قِيلَ لَهُ: بَيِّنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ سَقَطَ اعْتِرَاضُهُ، وَإِنَ بَيَّنَ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ بَطَلَ حَصْرُ الْمُسْتَدِلِّ بِمُجَرَّدِ إِبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ الْوَصْفَ الزَّائِدَ، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعَلِيَّةِ فَيَكُونُ إِذًا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ قَوْلُهُ: بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذَا - خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى هَذَا الْمَسْلَكِ مِنْ مَسَالِكَ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ قِسْمٌ رَابِعْ ... أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ فِيهِ جَامِعْ وَيَبْطُلُ الَّذِي لَهَا لَا يَصْلُحْ ... فَمَا بَقِي تَعْيِينُهُ مُتَّضِحْ مُعْتَرِضُ الْحَصْرِ فِي دَفْعِهِ يَرِدْ ... بَحَثْتُ ثُمَّ بَعْدَ بَحْثِي لَمْ أَجِدْ أَوِ انْفِقَادُ مَا سِوَاهَا الْأَصْلُ ... وَلَيْسَ فِي الْحَصْرِ لِظَنٍّ حَظْلُ وَهُوَ قَطْعِيٌّ إِذَا مَا نُمِّيَا ... لِلْقِطْعِ وَالظَّنِّيِّ سِوَاهُ وُعِّيَا حُجِّيَّةُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ... فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ إِنْ يُبْدِ وَصْفًا زَائِدًا مُعْتَرِضْ ... وَفَّى بِهِ دُونَ الْبَيَانِ الْغَرَضْ وَقَطْعُ ذِي السَّبْرِ إِذَا مُنْحَتِمْ ... وَالْأَمْرُ فِي إِبْطَالِهِ مُنْبَهِمْ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ «فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ» مَحِلُّهُ مَا لَمْ يَدَّعِ الْمُنَاظِرُ عِلَّةً غَيْرَ عِلَّتِهِ، وَإِنِ ادَّعَاهَا فَلَا تَكُونُ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَكَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا «وَرَدُّهُ انْتَفَى. . .» إِلَخْ. وَإِذَا حَصَلَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَإِبْطَالُ غَيْرِ الصَّالِحِ مِنْهَا لَهُ طُرُقٌ مَعْرُوفَةٌ: مِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الْوَصْفَ طَرْدِيٌّ مَحْضٌ، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِي ثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَابِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْإِرْثِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الذَّكَرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ كَالْأُنْثَى، وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا - أَيْ: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّعْلِيلِ أَصْلًا - بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ دُونَ بَعْضِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 وَمِثَالُ إِبْطَالِ الطَّرْدِيِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ جَاءَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَضْرِبُ صَدْرَهُ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْمِثَالَ لَا يُعْتَرَضُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ الْقَاعِدَةِ، وَيَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَمُطْلَقُ الِاحْتِمَالِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَالشَّأْنُ لَا يَعْتَرِضُ الْمِثَالَ ... إِذْ قَدْ كَفَى الْغَرَضَ وَالِاحْتِمَالَ فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا، وَكَوْنَهُ جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهِيَ أَوْصَافٌ يَجِبُ إِبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَعْلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِهَا ; لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ طَرْدِيَّةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا، فَالْأَعْرَابِيُّ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَمَنْ جَاءَ فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَمَنْ جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ أَيْضًا، وَمِثَالُ الْإِبْطَالِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ دُونَ غَيْرِهِ، حَدِيثُ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ. . .» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ وَالْكَهْفِ» فَلَفْظُ الْعَبْدِ الذَّكَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، فَمَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي أَمَةٍ فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ أَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِتْقِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ لَا تُنَاطُ بِهِمَا أَحْكَامُ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَتِ الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْوَصْفُ الطَّرْدِيُّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ: هُوَ مَا عُلِمَ مِنَ الشَّرْعِ إِلْغَاؤُهُ وَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَصْلًا فَهُوَ خَالٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ أَلَّا تَظْهَرَ لِلْوَصْفِ مُنَاسَبَةٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ: هِيَ كَوْنُ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَصْلَحَةٌ فَعَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ طُرُقِ إِبْطَالِهِ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ ظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ لَا يُبْطِلُهُ فِي بَعْضِ الْمَسَالِكِ - غَيْرِ السَّبْرِ - كَالْإِيمَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالدَّوَرَانِ، فَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ، وَظُهُورُهَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ وَمَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِخَالَةِ. الثَّانِي: أَلَّا تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ وَلَا عَدَمُهَا، وَهَذَا يَكْفِي فِي الدَّوَرَانِ وَالْإِيمَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ، فَيَكُونَ الْوَصْفُ طَرْدِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ مُلْغًى وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْإِلْغَاءُ بِاسْتِقْلَالِ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقَى بِالْحُكْمِ دُونَهُ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا، حَكَاهُ الْفِهْرَيُّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْكَيْلَ وَالِاقْتِيَاتَ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْصَافٌ مُلْغَاةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مِلْءِ كَفٍّ مِنَ الْبُرِّ ; لِأَنَّهُ لَا يُكَالُ وَلَا يُقَاتُ لِقِلَّتِهِ، فَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهِ الطَّعْمُ لِاسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الطَّعْمِ بِالْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَوْصَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْقَصْدُ مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ، لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ. وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْقَاهُ الْمُسْتَدِلُّ مُتَعَدِّيًا مِنْ مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْوَصْفُ الَّذِي يُرِيدُ الْمُعْتَرِضُ إِبْقَاءَهُ قَاصِرٌ عَلَى مَحِلِّ الْحُكْمِ، قَالَ صَاحِبُ) الضِّيَاءِ اللَّامِعِ (: وَذَلِكَ يُشْبِهُ تَعَارُضَ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمِثَالُهُ: اخْتِلَافُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي عِلَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خُصُوصُ الْجِمَاعِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، فَكَوْنُ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْجِمَاعَ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّعَدِّي عَنْ مَحِلِّ الْحُكْمَ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ كَفَّارَةٌ إِلَّا فِي الْجِمَاعِ خَاصَّةً، وَكَوْنُهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ رَمَضَانَ يَقْضِي التَّعَدِّي فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجَامِعِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ فِي الْجَمِيعِ مِنْ جِمَاعٍ وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْوَصْفُ بِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا عَلَى الْآخَرِ لِقُصُورِهِ عَلَى حَمْلِ الْحُكْمِ وَقَصْدُنَا التَّمْثِيلُ لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ، وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الْجِمَاعُ، بِمُرَجِّحَاتٍ أُخَرَ لِعِلَّتِهِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى طُرُقِ الْإِبْطَالِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: أَبْطِلْ لِمَا طَرْدًا يُرَى ... وَيُبْطَلُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لَهُ الْمُنْخَزِلُ كَذَلِكَ بِالْإِلْغَا وَإِنْ قَدْ نَاسَبَا ... وَيَتَعَدَّى وَصْفُهُ الَّذِي اجْتَبَى هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الْمَقْصُودِ عِنْدَهُمْ بِهَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اعْلَمْ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ، فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي بَيْنَهَا تَنَافٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 وَتَنَافُرٌ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ، وَمَقْصُودُهُمْ مِنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُتَنَافِيَةِ هُوَ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِوُجُودِ بَعْضِهَا عَلَى عَدَمِ بَعْضِهَا، وَبِعَدَمِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ) بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ (وَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُمْ هُوَ «لَكِنَّ» وَالتَّنَافِي الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُرُهُ الْعَقْلُ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، أَوِ الْوُجُودِ فَقَطْ، أَوِ الْعَدَمِ فَقَطْ، وَلَا رَابِعَ أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ كَانَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، فَهِيَ عِنْدَهُمُ الشَّرْطِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْحَقِيقِيَّةِ، وَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمِيعِ وَالْخُلُوِّ مَعًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنَ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ مِنَ الشَّيْءِ وَمُسَاوِي نَقِيضَيْهِ، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا وَلَا يَرْتَفِعَانِ مَعًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ الْآخَرِ، وَعَدَمُ اجْتِمَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَعَدَمُ ارْتِفَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَضُرُوبُهَا الْأَرْبَعَةُ مُنْتِجَةٌ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ، فَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ زَوْجٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ فَرْدٍ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ فَرْدٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ زَوْجٍ، وَلَوْ قُلْتَ: وَلَكِنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ أَنْتَجَ فَهُوَ فَرْدٌ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ فَرْدٍ أَنْتَجَ فَهُوَ زَوْجٌ، وَضَابِطُ قِيَاسِهَا أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ النَّقِيضِ أَوْ مُسَاوِيهِ عَلَى وُجُودِ النَّقِيضِ، أَوْ مُسَاوِيهِ كَعَكْسِهِ. وَإِنْ كَانَ التَّنَافُرُ وَالْعِنَادُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْوُجُودِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمُجَوِّزَةُ لِلْخُلُوِّ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهَا حَصْرُ الْأَوْصَافِ، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَخَصُّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا: أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ ارْتِفَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْعِنَادِ وَالْمُنَافَرَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَمِ، وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورَةُ يَنْتُجُ مِنْ قِيَاسِهَا ضَرْبَانِ، وَيَعْقُمُ مِنْهُ ضَرْبَانِ، وَمِثَالُهَا قَوْلُكَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ، وَإِمَّا أَسْوَدُ، فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا فَلَا يُنْتِجُ شَيْئًا، فَلَوْ قُلْتَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ وَإِمَّا أَسْوَدُ لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ: فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَإِنْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ صَادِقٌ بِالْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَبْيَضَ لِصِدْقِ غَيْرِ الْأَسْوَدِ بِالْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنِ انْتِفَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَكَوْنِ جِسْمٍ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ مَانِعَةَ الْجَمِيعِ تُجَوِّزُ الْخُلُوَّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِأَنْ يَكُونَا مَعْدُومَيْنِ مَعًا، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهَا الْخُلُوُّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لِوَاحِدٍ مِنْ سَبَبَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 الْأَوَّلُ: وُجُودُ وَاسِطَةٍ أُخْرَى غَيْرَ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَوْلُنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ، وَإِمَّا أَسْوَدُ يَجُوزُ فِيهِ الْخُلُوُّ عَنِ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ لِوُجُودِ وَاسِطَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَلْوَانِ غَيْرِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ مَثَلًا، فَالْجِسْمُ الْأَحْمَرُ مَثَلًا غَيْرُ أَبْيَضَ وَلَا أَسْوَدَ. السَّبَبُ الثَّانِي: ارْتِفَاعُ الْمَحِلِّ، كَقَوْلِكَ: الْجِسْمُ إِمَّا مُتَحَرِّكٌ، وَإِمَّا سَاكِنٌ، فَإِنَّهُ إِنِ انْعَدَمَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً وَرَجَعَ إِلَى الْعَدَمِ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَعْدُومِ: هُوَ سَاكِنٌ وَلَا مُتَحَرِّكٌ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [19 \ 9] ، وَقَوْلُهُ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [19 \ 67] . وَإِنْ كَانَ الْعِنَادُ وَالْمُنَافَرَةُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْعَدَمِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْخُلُوِّ الْمُجَوِّزَةُ لِلْجَمْعِ، وَهِيَ عَكْسُ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا تَصَوُّرًا وَإِنْتَاجًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَعَمَّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَرْتَفِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُودِ، وَمِثَالُهَا: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ، وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، فَإِنَّ هَذَا الْمِثَالَ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الطَّرَفَانِ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِ جِسْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، كَالْأَحْمَرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ وُجُودُ جِسْمٍ خَالٍ مِنْ طَرَفَيْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي مَثَّلْنَا بِهَا، فَيَكُونُ خَالِيًا مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ ; لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَبْيَضَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ ; لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ اسْتَحَالَ ارْتِفَاعُ الطَّرَفِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ الْأَبْيَضَ مَوْصُوفٌ ضَرُورَةً بِأَنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَهَكَذَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَسْوَدَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، وَهُوَ عَيْنُ الْآخَرِ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيَاسُ هَذِهِ يَنْتُجُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْعَقِيمَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَعْقُمُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْمُنْتِجَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي قِيَاسِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ يُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ، وَأَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا لَا يُنْتِجُ شَيْئًا. فَقَوْلُنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، لَوْ قُلْتَ فِيهِ: لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ، فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، فَلَا يُنْتِجُ نَفْيَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا وُجُودَهُ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَسْوَدَ بَلْ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 أَسْوَدَ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَفْيُ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا إِثْبَاتُهُ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَسْوَدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَبْيَضَ لِكَوْنِهِ أَحْمَرَ مَثَلًا. هَذِهِ خُلَاصَةٌ مُوجَزَةٌ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي نَظَرِ الْمَنْطِقِيِّينَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا الدَّلِيلِ آثَارًا تَارِيخِيَّةً، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الْعَظِيمَ جَاءَ فِي التَّارِيخِ أَنَّهُ أَوَّلُ سَبَبٍ لِضَعْفِ الْمِحْنَةِ الْعُظْمَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِحْنَةَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ نَشَأَتْ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ، وَاسْتَفْحَلَتْ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ، وَهِيَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ التَّارِيخِ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ وَقَدَمٍ. وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَتْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَفَاضِلِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَاضْطِرَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ بِالْقَوْلِ خَوْفًا. وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا لِسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ «الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ» - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرًا - مِنَ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَيَّامَ الْمُعْتَصِمِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضِعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَكَبْحِ جِمَاحِهَا هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ. قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ «أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ» : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاسِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِرَ بْنَ خَلَفٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَاثِقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا أَحْضَرَنَا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، فَأُتِيَ بِشَيْخٍ مَخْضُوبٍ مُقَيَّدٍ فَقَالَ أَبِي: ائْذَنُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ) يَعْنِي ابْنَ أَبِي دُؤَادَ (قَالَ: فَأُدْخِلَ الشَّيْخُ وَالْوَاثِقُ فِي مُصَلَّاهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُؤَدِّبُكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [4 \ 86] ، وَاللَّهِ مَا حَيَّيْتَنِي بِهَا وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ، فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْهُ، فَقَالَ: يَا شَيْخُ، مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تَنْصِفْنِي - يَعْنِي وَلِيَ السُّؤَالُ - فَقَالَ لَهُ: سَلْ: فَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 لَهُ الشَّيْخُ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، أَمْ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ: شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عُثْمَانُ، وَلَا عَلِيٌّ، وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، عَلِمْتَهُ أَنْتَ؟ ! قَالَ: فَخَجِلَ، فَقَالَ: أَقِلْنِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ: عَلِمُوهُ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، قَالَ: أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟ ! قَالَ: ثُمَّ قَامَ أَبِي فَدَخَلَ مَجْلِسَ الْخَلْوَةِ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبِيُّ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، عَلِمْتَهُ أَنْتَ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ، شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟ ثُمَّ دَعَا عَمَّارًا الْحَاجِبَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الْقُيُودَ وَيُعْطِيَهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَأْذَنَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا. انْتَهَى مِنْهُ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَلِمَا انْتَهَى مِنْ سِيَاقِهَا قَالَ: ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْرَفُ. اهـ. وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْوَاثِقَ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ: قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْمُهْتَدِي: أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ وَقَدْ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ تَزَلْ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ صَحِيحَةَ الِاحْتِجَاجِ، فِيهَا إِلْقَامُ الْخَصْمِ الْحَجَرَ. وَحَاصِلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي أَلْقَمَ بِهَا هَذَا الشَّيْخُ - الَّذِي كَانَ مُكَبَّلًا بِالْقُيُودِ يُرَادُ قَتْلُهُ - أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ حَجَرًا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. فَكَانَ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ يَقُولُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا لَا تَخْلُو بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَالِمِينَ بِهَا أَوْ غَيْرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 عَالَمِينَ بِهَا وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، فَلَا قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ السَّبْرَ الصَّحِيحَ يُظْهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ لَيْسَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ. أَمَّا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرَكُوا النَّاسَ وَلَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، فَدَعْوَةُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ إِلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَةِ لَهَا، وَكَانَ يَسَعُهُ مَا وَسِعَهُمْ. وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِهَا، فَلَا يُمْكِنُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَا، فَظَهَرَ ضَلَالُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ الْوَاثِقِ، وَتَرَكَ الْوَاثِقُ لِذَلِكَ امْتِحَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضَعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَزَالَهَا اللَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى يَدِ الْمُتَوَكِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ. وَمِنْ آثَارِ هَذَا الدَّلِيلِ التَّارِيخِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَشَى بِهِ وَاشٍ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَدْخَلَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ فِي مَحِلٍّ قَرِيبٍ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ نَادَى ابْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ ! فَقَالَ السَّلُولِيُّ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَاللَّهِ مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ، وَقَالَ: هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ قُلْتَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ ابْنُ هَمَّامٍ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِلْوَاشِي: وَأَنْتَ امْرُؤٌ إِمَّا ائْتَمَنْتُكَ خَالِيًا ... فَخُنْتَ وَإِمَّا قُلْتَ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ فَأَنْتَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا ... بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: صَدَقْتَ. وَطَرَدَ الْوَاشِيَ. وَحَاصِلُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الَّذَيْنِ طَرَدَ بِهِمَا ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسَّلُولِيِّ بِسُوءٍ بِسَبَبِهِمَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُكَ هَذَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ أَكُونَ ائْتَمَنْتُكَ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَيْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُلْتَهُ عَلَيَّ كَذِبًا، ثُمَّ رَجَعَ بِالسَّبْرِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاشِيَ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ائْتَمَنَهُ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَاهُ فَهُوَ خَائِنٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ التَّارِيخِيَّ الْعَظِيمَ يُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ مَوْقِفَ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 الطَّبِيعِيَّ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَبِذَلِكَ الْإِيضَاحِ التَّامِّ يَتَمَيَّزُ النَّافِعُ مِنَ الضَّارِّ، وَالْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ الْقَطْعِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَضَارَةَ الْغَرْبِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى نَافِعٍ وَضَارٍّ: أَمَّا النَّافِعُ مِنْهَا فَهُوَ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَتَقَدُّمُهَا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ الْمَادِّيَّةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ أُبَيِّنَهُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ يَدْخُلُ تَحْتَ التَّصَوُّرِ، فَقَدْ خَدَمَتِ الْإِنْسَانَ خِدْمَاتٍ هَائِلَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَسَدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَأَمَّا الضَّارُّ مِنْهَا فَهُوَ إِهْمَالُهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِلنَّاحِيَةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَا خَيْرَ أَلْبَتَّةَ فِي الدُّنْيَا بِدُونِهَا، وَهِيَ التَّرْبِيَةُ الرُّوحِيَّةُ لِلْإِنْسَانِ وَتَهْذِيبُ أَخْلَاقِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنُورِ الْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي يُوَضِّحُ لِلْإِنْسَانِ طَرِيقَ السَّعَادَةِ، وَيَرْسُمُ لَهُ الْخُطَطَ الْحَكِيمَةَ فِي كُلِّ مَيَادِينِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى صِلَةٍ بِرَبِّهِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ. فَالْحَضَارَةُ الْغَرْبِيَّةُ غَنِيَّةٌ بِأَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُولَى، مُفْلِسَةٌ إِفْلَاسًا كُلِّيًّا مِنَ النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُغْيَانَ الْمَادَّةِ عَلَى الرُّوحِ يُهَدِّدُ الْعَالَمَ أَجْمَعَ بِخَطَرٍ دَاهِمٍ، وَهَلَاكٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ الْآنَ، وَحَلُّ مُشْكِلَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِ الْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي هُوَ تَشْرِيعُ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّ مَنْ أَطْغَتْهُ الْمَادَّةُ حَتَّى تَمَرَّدَ عَلَى خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا. وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْقِفُ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا، حَصْرًا عَقْلِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ: الْأَوَّلُ: تَرْكُ الْحَضَارَةِ الْمَذْكُورَةِ نَافِعِهَا وَضَارِّهَا. الثَّانِي: أَخْذُهَا كُلِّهَا ضَارِّهَا وَنَافِعِهَا. الثَّالِثُ: أَخْذُ ضَارِّهَا وَتَرْكُ نَافِعِهَا. الرَّابِعُ: أَخْذُ نَافِعِهَا وَتَرْكُ ضَارِّهَا. فَنَرْجِعُ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَنَجِدُ ثَلَاثَةً مِنْهَا بَاطِلَةً بِلَا شَكٍّ، وَوَاحِدًا صَحِيحًا بِلَا شَكٍّ. أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاطِلَةُ: فَالْأَوَّلُ مِنْهَا تَرْكُهَا كُلِّهَا، وَوَجْهُ بُطْلَانِهِ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ عَدَمَ الِاشْتِغَالِ بِالتَّقَدُّمِ الْمَادِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى الضَّعْفِ الدَّائِمِ، وَالتَّوَاكُلِ وَالتَّكَاسُلِ، وَيُخَالِفُ الْأَمْرَ السَّمَاوِيَّ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الْآيَةَ [18 \ 60] . لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى ... حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ أَخْذُهَا ; لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الِانْحِطَاطِ الْخُلُقِيِّ وَضَيَاعِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا لِلْإِنْسَانِيَّةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ أُبَيِّنَهُ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ، وَعَدَمِ طَاعَةِ خَالِقِ هَذَا الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [42 \ 21] ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ هُوَ أَخْذُ الضَّارِّ وَتَرْكُ النَّافِعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَهُ أَقَلُّ تَمْيِيزٍ، فَتَعَيَّنَتْ صِحَّةُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ بِالتَّقْسِيمِ وَالسَّبْرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَخْذُ النَّافِعِ وَتَرْكُ الضَّارِّ. وَهَكَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، فَقَدِ انْتَفَعَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خُطَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ كَانَتْ لِلْفُرْسِ، أَخْبَرَهُ بِهَا سَلْمَانُ فَأَخَذَ بِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ هَمَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْنَعَ وَطْءَ النِّسَاءِ الْمَرَاضِعِ خَوْفًا عَلَى أَوْلَادِهِنَّ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِيلَةَ - وَهِيَ وَطْءُ الْمُرْضِعِ - تُضْعِفُ وَلَدَهَا وَتَضُرُّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ ... فَتَنْبُو فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ فَأَخْبَرَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسُ وَالرُّومُ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ، فَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْخُطَّةَ الطِّبِّيَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْكُفَّارِ. وَقَدِ انْتَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ ابْنِ الْأُرَيْقِطِ الدُّؤَلِيِّ لَهُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ عَلَى الطَّرِيقِ، مَعَ أَنَّهُ كَافِرٌ. فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَوْقِفَ الطَّبِيعِيَّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ هُوَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ مَا أَنْتَجَتْهُ مِنَ النَّوَاحِي الْمَادِّيَّةِ، وَيَحْذَرُوا مِمَّا جَنَتْهُ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِ الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا فَتَصْلُحَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَالْمُؤْسِفُ أَنَّ أَغْلَبَهُمْ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا الِانْحِطَاطَ الْخُلُقِيَّ، وَالِانْسِلَاخَ مِنَ الدِّينِ، وَالتَّبَاعُدَ مِنْ طَاعَةِ خَالِقِ الْكَوْنِ، وَلَا يَحْصُلُونَ عَلَى نَتِيجَةٍ مِمَّا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ الْمَادِّيِّ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَمَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا نَافِعًا فِي كَوْنِ الدِّينِ لَا يُنَافِي التَّقَدُّمَ الْمَادِّيَّ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] ، فَأَغْنَى ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَدْ عُرِفَ فِي تَارِيخِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْعَوْنَ فِي التَّقَدُّمِ فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى طَاعَةِ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 78] ، أَنَّ الْمَعْنَى: أَمْ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَهْدًا أَنَّهُ سَيَفْعَلُ لَهُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [2 \ 80] ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَيَكْتُبُ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْكَافِرُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، مِنْ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا مَعَ كُفْرِهِ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ يَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [19 \ 79] أَيْ: نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا أَيْ: نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَأْهِلُهُ، وَنُعَذِّبُهُ بِالنَّوْعِ الَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ الْمُسْتَهْزِئُونَ، أَوْ نَزِيدُهُ مِنَ الْعَذَابِ وَنُضَاعِفُ لَهُ مِنَ الْمَدَدِ، يُقَالُ: مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، بِمَعْنًى، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَنُمِدُّ لَهُ» ، بِالضَّمِّ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ غَضَبِ اللَّهِ، نَعُوذُ بِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا يَسْتَوْجِبُ غَضَبَهُ. اهـ. وَأَصْلُ الْمَدَدِ لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَكَابِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [16 \ 88] ، وَقَوْلُهُ فِي الْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 38] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [19 \ 80] ، أَيْ: مَا يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، أَيْ: نَسْلُبُهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا مَا أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: نَحْرِمُهُ مَا تَمَنَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَجْعَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَدُلُّ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [19 \ 40] ، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [15 \ 23] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَوْلُهُ: وَيَأْتِينَا فَرْدًا، أَيْ: مُنْفَرِدًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا خَدَمَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [6 \ 94] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [19 \ 95] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَبَّرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ مَعَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْكَافِرُ يُكْتَبُ بِلَا تَأْخِيرٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18] . فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي كَشَّافِهِ تَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا نَصُّهُ:. قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: سَنُظْهِرُ لَهُ وَنُعْلِمُهُ أَنَا كَتَبْنَا قَوْلَهُ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ زَائِدِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْفَقْعَسِيِّ: إِذْ مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ... وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهَا بُدًّا أَيْ: تَبَيَّنَ وَعُلِمَ بِالِانْتِسَابِ أَنِّي لَسْتُ بِابْنِ لَئِيمَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجَانِي: سَوْفَ أَنْتَقِمُ مِنْكَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالِانْتِصَارِ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ وَاسْتَأْخَرَ، فَجَرَّدَهَا هُنَا لِمَعْنَى الْوَعِيدِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، إِلَّا أَنَّا زِدْنَا اسْمَ قَائِلِ الْبَيْتِ وَتَكْمِلَتَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ يَكْتُبُ مَا يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ، ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [10 \ 21] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [43 \ 80] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 29] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [43 \ 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [3 \ 181] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 9 - 11] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [18 \ 49] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [19 \ 72] ، اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودَاتٍ مِنْ أَصْنَامٍ وَغَيْرِهَا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَيْ: أَنْصَارًا وَشُفَعَاءَ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى مُرَادَهُمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [39 \ 3] ، فَتَقْرِيبُهُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فِي زَعْمِهِمْ هُوَ عِزُّهُمُ الَّذِي أَمَّلُوهُ بِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ الْآيَةَ [10 \ 18] ، فَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللَّهِ عِزٌّ لَهُمْ بِهِمْ يَزْعُمُونَهُ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [10 \ 18] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَلَّا، زَجْرٌ وَرَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الظَّنِّ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا تَكُونُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِزًّا لَكُمْ، بَلْ تَكُونُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ عَلَيْكُمْ ضِدًّا، أَيْ: أَعْوَانًا عَلَيْكُمْ فِي خُصُومَتِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْكُمْ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ تَدُورُ حَوْلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ضِدًّا أَيْ: أَعْوَانًا، وَقَوْلِ الضَّحَّاكِ: ضِدًّا، أَيْ: أَعْدَاءً، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: ضِدًّا، أَيْ: قُرَنَاءُ فِي النَّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ: ضِدًّا يَجِيئُهُمْ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا أَمَّلُوهُ فَيَئُولُ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، ضِدِّ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْعِزِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 \ 5 - 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [35 \ 13 - 14] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، إِلَّا أَنَّ لِأَحَدِهِمَا قَرِينَةً تُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاوَ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ، رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَمَّا الْعَاقِلُ مِنْهَا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَاقِلِ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُ إِدْرَاكًا يُخَاطِبُ بِهِ مَنْ عَبَدَهُ وَيَكْفُرُ بِهِ بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [28 \ 63] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [16 \ 86] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ [10 \ 28 - 29] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ الْعَابِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ شُرَكَاءَهُمْ وَيُنْكِرُونَهَا وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا الْآيَةَ [40 \ 74] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْقَرِينَةُ الْمُرَجِّحَةُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ، رَاجِعٌ لِلْمَعْبُودَاتِ، وَعَلَيْهِ فَرُجُوعُ الضَّمِيرِ فِي يَكْفُرُونَ لِلْمَعْبُودَاتِ أَظْهَرُ ; لِانْسِجَامِ الضَّمَائِرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَمِيرُ يَكْفُرُونَ لِلْعَابِدِينَ، وَضَمِيرُ يَكُونُونَ لِلْمَعْبُودِينَ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ كَلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا لَا بِمَا قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْمَعْنَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ، أَيْ: حَقًّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ - مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَرْجَحُ، وَقَائِلُهُ أَكْثَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا لِشُذُوذِهَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَفْرَدَ فِيهِ الْعِزَّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرْ فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرْ وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النَّعْتِ بِهِ، وَقَوْلُهُ: ضِدًّا مُفْرَدًا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 الزَّمَخْشَرِيُّ: الضِّدُّ: الْعَوْنُ، وُحِّدَ تَوْحِيدَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، «هُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لِفَرْطِ تَضَامُنِهِمْ وَتَوَافُقِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا. قَوْلُهُ: أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ الْآيَةَ [19 \ 83] ، أَيْ: سَلَّطْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ وَقَيَّضْنَاهُمْ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ الْآيَةَ، أَيْ: خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ نَعْصِمْهُمْ مِنْ شَرِّهِمْ، يُقَالُ: أَرْسَلْتُ الْبَعِيرَ، أَيْ: خَلَّيْتُهُ. وَقَوْلُهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا: الْأَزُّ وَالْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ بِمَعْنًى، وَمَعْنَاهَا التَّهْيِيجُ وَشِدَّةُ الْإِزْعَاجِ، فَقَوْلُهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُهَيِّجُهُمْ وَتُزْعِجُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا: كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً "، وَكَقَوْلِ مُجَاهِدٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وَكَقَوْلِ قَتَادَةَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أَيْ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَقَيَّضَهُمْ لَهُمْ يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْحَقِّ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ الْآيَةَ [41 \ 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [43 \ 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الْآيَةَ [6 \ 128] وَقَوْلِهِ: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [7 \ 202] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا. قَوْلُهُ: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ [19 \ 84] ، أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلْ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَدَّدَ لَهُ أَجَلًا مُعَيَّنًا مَعْدُودًا، فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ الْأَجَلُ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، أَيْ: نَعُدُّ الْأَعْوَامَ وَالشُّهُورَ وَالْأَيَّامَ الَّتِي دُونَ وَقْتِ هَلَاكِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا: إِذَا اسْتَعْجَلْتُهُ مِنْهُ. وَمِمَّا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ هَلَاكَ الْكُفَّارِ حُدِّدَ لَهُ أَجْلٌ مَعْدُودٌ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [46 \ 35] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ الْآيَةَ [29 \ 53] وَقَوْلِهِ: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [11 \ 104] وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [11 \ 8] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [14 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ الْآيَةَ [2 \ 126] ، وَقَوْلِهِ: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [86 \ 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَأَشَارَ إِلَى ابْنِ السَّمَّاكِ أَنْ يَعِظَهُ، فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْأَنْفَاسُ بِالْعَدَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَدَدْ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدْ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَدَّ الْمَذْكُورَ عَدُّ الْأَعْوَامِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ مِنَ الْأَجَلِ الْمُحَدَّدِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ عَدُّ أَنْفَاسِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمَّاكِ فِي مَوْعِظَتِهِ لِلْمَأْمُونِ الَّتِي ذَكَرْنَا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا بَكَى، وَقَالَ: آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: دُخُولُ قَبْرِكَ» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أَيْ: نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ لِنُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّقُونَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ يُحْشَرُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ وَفْدًا، وَالْوَفْدُ عَلَى التَّحْقِيقِ: جَمْعُ وَافِدٍ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَقَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْفِعْلَ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مِنْ صِيَغِ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ لِلْفَاعِلِ وَصْفًا، وَبَيَّنَّا شَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ، وَالْوَافِدُ: مَنْ يَأْتِي إِلَى الْمَلِكِ مَثَلًا إِلَى أَمْرٍ لَهُ شَأْنٌ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَفْدًا [19 \ 85] ، أَيْ: رُكْبَانًا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هُمْ رُكْبَانٌ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 يُحْشَرُونَ رُكْبَانًا عَلَى صُوَرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ خَالِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ، وَحَسَّنَ وَجْهَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: رُكْبَانًا «، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَى النَّجَائِبِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشُرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ! ! وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ بِهِ، وَزَادَ «عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ.» وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا مَرْفُوعًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ الْوَفْدَ إِلَّا الرَّكْبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يُسْتَقْبَلُونَ - أَوْ: يُؤْتَوْنَ - بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ وَعَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ، شِراكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَيَنْتَهُونَ - أَوْ: فَيَأْتُونَ - بَابَ الْجَنَّةِ فَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 حَمْرَاءَ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ، فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلْقَةِ عَلَى الصَّفْحَةِ فَيُسْمَعُ لَهَا طَنِينٌ يَا عَلِيُّ، فَيَبْلُغُ كُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ فَتَبْعَثُ قَيِّمَهَا لِيَفْتَحَ لَهُ فَإِذَا رَآهُ خَرَّ لَهُ) قَالَ سَلَمَةُ: أَرَاهُ قَالَ سَاجِدًا (فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَإِنَّمَا أَنَا قَيِّمُكَ وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ، فَيَتْبَعُهُ وَيَقْفُو أَثَرَهُ فَتَسْتَخِفُّ الْحَوْرَاءَ الْعَجَلَةُ فَتَخْرُجُ مِنْ خِيَامِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى تَعْتَنِقَهُ.» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِ السِّيَاقِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. وَرُكُوبُهُمُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَحْشَرِ إِلَى الْجَنَّةِ، أَمَّا مِنَ الْقَبْرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مُشَاةً، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [19 \ 86] ، السَّوْقُ مَعْرُوفٌ، وَالْمُجْرِمُونَ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِلْمُجْرِمِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ الْإِجْرَامِ، وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ النَّكَالَ وَالْعَذَابَ، وَلَمْ يَأْتِ الْإِجْرَامُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مِنْ «أَجْرَمَ» الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَيَجُوزُ إِتْيَانُهُ فِي اللُّغَةِ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ فَتَقُولُ: جَرَمَ يَجْرِمُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْفَاعِلُ مِنْهُ جَارِمٌ، وَالْمَفْعُولُ مَجْرُومٌ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَّاقَةِ النَّهْمِيِّ: وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا النَّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وِرْدًا، أَيْ: عِطَاشًا، وَأَصْلُ الْوِرْدِ: الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَطَشِ أُطْلِقَ هُنَا اسْمُ الْوِرْدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْعِطَاشِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَطَشِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوِرْدِ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَاءِ قَوْلُ الرَّاجِزِ يُخَاطِبُ نَاقَتَهُ: رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا ... كُدْرِيَّةٍ أَعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَامِلِ النَّاصِبِ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ، فَقِيلَ مَنْصُوبٌ بِـ يَمْلِكُونَ بَعْدَهُ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِـ «اذْكُرْ» أَوِ احْذَرْ، مُقَدَّرًا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [39 \ 71 - 73] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 87] . قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ أَوْ أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَإِنَّا نَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُجْرِمِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَيْ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ شَافِعٌ يُخَلِّصُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْعَذَابِ. وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [74 \ 48] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [26 \ 100 - 101] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ الْآيَةَ [40 \ 18] وَقَوْلِهِ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [21 \ 28] مَعَ قَوْلِهِ: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [39 \ 7] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذَا الْوَجْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْأَحْرَى أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَشْفَعُونَ فِي غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ لِكُفْرِهِمْ فَشَفَاعَتُهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مَمْنُوعَةٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَعَلَى كَوْنِ الْوَاوِ فِي لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْمُجْرِمِينَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَ «مَنِ» فِي مَحِلِّ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَإِذْنِهِ لَهُمْ فَيَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ بِمَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِهِ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [2 \ 255] وَقَالَ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [21 \ 28] وَقَالَ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [53 \ 26] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى «الْمُتَّقِينَ» ، «وَالْمُجْرِمِينَ» جَمِيعًا الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا، وَعَلَيْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 87] مُتَّصِلٌ، وَمَنِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي «لَا يَمْلِكُونَ» ، أَيْ: لَا يَمْلِكُ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَحَدٌ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْعَهْدُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، أَيْ: إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [20 \ 109] ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا تَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ، وَأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَمْلِكُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [43 \ 86] ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَشْفَعُ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ الْآيَةَ [30 \ 12 - 13] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ الْآيَةَ [10 \ 18] ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الشَّفَاعَةِ وَأَنْوَاعِهَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي إِعْرَابِ جُمْلَةِ لَا يَمْلِكُونَ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، أَيْ: نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ: نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَالثَّانِي أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْإِخْبَارِ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَهْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الْآيَةَ [19 \ 59] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَتُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا طَابَعًا وَوَضَعَهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ؟ فَيَقُومُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ. انْتَهَى، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ. . . إِلَخْ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَيْضًا: أَنَّ الْحَكِيمَ التِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْفُوعَ لَا يَصِحُّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْعَهْدَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَامْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَهْدَ فِي الْآيَةِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عَهِدَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ: أَمَرَهُ بِهِ، أَيْ: لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالشَّفَاعَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ صَحِيحًا فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [2 \ 255] ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [53 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [34 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [20 \ 109] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الْآيَاتِ [2 \ 116] ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا وَعَلَى الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يُذْكَرَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ عَامٌّ ثُمَّ يُصَرَّحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وُدًّا، أَيْ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِدُخُولِ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي الْآيَةَ [20 \ 39] ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبَغضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَسَّرَ هَذَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ، لِيُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرَ بِهِ الْخُصُومَ الْأَلِدَّاءَ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ تَيْسِيرِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْقَمَرِ» مُكَرِّرًا لِذَلِكَ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [54 \ 32] ، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الدُّخَانِ» : فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [44 \ 58] ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ كَوْنِهِ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 192 - 195] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [12 \ 1 - 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [43 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الْآيَةَ، قَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَغَيْرِهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: لُدًّا أَنَّهُ جَمْعُ الْأَلَدِّ، وَهُوَ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [2 \ 204] ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أَبِيتُ نَجِيًّا لِلْهُمُومِ كَأَنَّنِي أُخَاصِمُ أَقْوَامًا ذَوِي جَدَلٍ لُدَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [الْآيَةَ 98] . «وَكَمْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَهِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ ; لِأَنَّهَا مَفْعُولُ أَهْلَكْنَا، وَمِنْ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِـ «كَمْ» كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُهُ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، أَيْ: هَلْ تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ، أَوْ تَشْعُرُ بِهِ، أَوْ تَجِدُهُ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا، أَيْ: صَوْتًا، وَأَصْلُ الرِّكْزِ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَّزَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 الرُّمْحَ: إِذَا غَيَّبَ طَرَفَهُ وَأَخْفَاهُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الرِّكَازُ: وَهُوَ دَفْنٌ جَاهِلِيٌّ مُغَيَّبٌ بِالدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرِّكْزِ عَلَى الصَّوْتِ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا ... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سَقَامُهَا وَقَوْلُ طَرَفَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسِ لِلسُّرَى ... لِرِكْزٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَمَا تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تَسْمَعُ لَهُمْ صَوْتًا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ أَشْخَاصِهِمْ، وَعَدَمِ سَمَاعِ أَصْوَاتِهِمْ ذَكَرَ بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي عَادٍ: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [69 \ 8] ، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [46 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [22 \ 45] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ طه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 قَوْلُهُ تَعَالَى: طه . أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الطَّاءَ وَالْهَاءَ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، جَاءَتَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا نِزَاعَ فِيهَا فِي أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، أَمَّا الطَّاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «الشُّعَرَاءِ» طسم [26 1] وَفَاتِحَةِ «النَّمْلِ» طس [27 1] . وَفَاتِحَةِ «الْقَصَصِ» وَأَمَّا الْهَاءُ فَفِي فَاتِحَةِ «مَرْيَمَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كهيعص [19 1] وَقَدْ قَدَّمَّنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ طه: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ. قَالُوا: وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَبَنِي طَيِّئٍ، وَبَنِي عُكْلٍ، قَالُوا: لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَكِّ: يَا رَجُلُ، لَمْ يَفْهَمْ أَنَّكَ تُنَادِيهِ حَتَّى تَقُولَ طه، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ: دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا وَيُرْوَى مُزَايِلًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَعْنَى (طه) بِلُغَةِ عَكٍّ يَا حَبِيبِي، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ، وَأَنْشَدَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلْهِلِ: إِنَّ السَّفَاهَةَ طه فِي شَمَائِلِكُمْ ... لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ وَيُرْوَى: إِنَّ السَّفَاهَةَ طه مِنْ خَلَائِقِكُمْ ... لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى «طه» : يَا رَجُلُ، ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبْزَى، وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ «طه» يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْهَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَالْهَمْزَةُ خُفِّفَتْ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا كَقَوْلٍ فِي الْفَرَزْدَقِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 رَاحَتْ بِمُسْلِمَةِ الْبِغَالِ عَشِيَّةً ... فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّعَسُّفِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الظَّاهِرِ. وَفِي قَوْلِهِ طه أَقْوَالٌ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ، كَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّاءَ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهِدَايَةِ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ، يَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ. وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَّرْنَا بِهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. أَيْ لِتَتْعَبَ التَّعَبَ الشَّدِيدَ بِفَرْطِ تَأَسُّفِكِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ جَاءَتْ بِنَحْوِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [35 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 6] وَقَوْلِهِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [26 6] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِاللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى أَيْ تُنْهِكَ نَفْسَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَتُذِيقَهَا الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ. وَمَا بَعَثْنَاكَ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ تَدُلُّ لَهُ ظَوَاهِرُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 78] ، وَقَوْلِهِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [2 185] . وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتَشْقَى أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لِيَسْعَدَ. كَمَا يَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ جَيِّدٌ، وَيُشْبِهُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الْآيَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 [73 20] . وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْعَنَاءُ، وَالتَّعَبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ: ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ ... وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [20 117] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً، أَيْ إِلَّا لِأَجْلِ التَّذْكِرَةِ لِمَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافُ عَذَابَهُ. وَالتَّذْكِرَةُ: الْمَوْعِظَةُ الَّتِي تَلِينُ لَهَا الْقُلُوبُ. فَتَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ، وَتَجْتَنِبُ نَهْيَهُ. وَخَصَّ بِالتَّذْكِرَةِ مَنْ يَخْشَى دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [50 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [36 11] وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [79 45] . فَالتَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ بِمَنْ تَنْفَعُ فِيهِمُ الذِّكرَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِلتَّذْكِرَةِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [81 27 - 28] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [6 90] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِعْرَابُ إِلَّا تَذْكِرَةً بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ لِتَشْقَى لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ لَيْسَتْ بِشَقَاءٍ. وَإِعْرَابُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَيْضًا غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا التَّعَبَ الشَّاقَّ إِلَّا لِيَكُونَ تَذْكِرَةً. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً حَالًا وَمَفْعُولًا لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا. فِي قَوْلِهِ تَنْزِيلًا أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْإِعْرَابِ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، مَنْصُوبٌ بِنَزَّلَ مُضْمَرَةً دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى أَيْ نَزَّلَهُ اللَّهُ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ أَيْ فَلَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَا كِهَانَةٍ، وَلَا سِحْرٍ، وَلَا أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، كَمَا دَلَّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [69 41] ، وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 كَقَوْلِهِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [26 192] ، وَقَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [39 1] وَقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [41 2] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفًى فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى . خَاطَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ: إِنْ يَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أَيْ يَقُولُهُ جَهْرَةً فِي غَيْرِ خَفَاءٍ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا ذَكَرُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [67 13] ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [16 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [47 26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [25 6] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَخْفَى أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ كُلُّهَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهَا قُرْآنٌ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ سِرًّا وَأَخْفَى أَيْ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَهُوَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [50 \ 16] . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ: أَيْ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ سَيَفْعَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [23 63] ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [53 32] فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّهُ الْإِنْسَانُ الْيَوْمَ. وَمَا سَيُسِرُّهُ غَدًا. وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَخْفَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ كَمَا بَيَّنَّا، أَيْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ «أَخْفَى» فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّ الْخَلْقِ، وَأَخْفَى عَنْهُمْ مَا يَعْلَمُهُ هُوَ. كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [20 110] ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أَيْ فَلَا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [7 55] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [7 205] . وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَمِعَ أَصْحَابَهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى. وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي آيَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [2 255] ، وَقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [47 19] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، وَزَادَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْأَمْرَ بِدُعَائِهِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [7 180] ، وَقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [17 110] وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَهْدِيدَ مَنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [7 180] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْ إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ أَنَّهُمُ اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ، وَاللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ خَلْقَهُ، كَحَدِيثِ: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: الْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ أَسْمَاءَهُ جَلَّ وَعَلَا بِلَفْظِ الْمُؤَنَّثِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مُطْلَقًا وَجَمْعَ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْمُؤَنَّثَةِ الْوَاحِدَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الْمَجَازِيَّةِ التَّأْنِيثِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعِ سِوَى السَّالِمِ مِنْ ... مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مِنْ إِحْدَى اللَّبِنْ وَنَظِيرُ قَوْلِهِ هُنَا الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى مِنْ وَصْفِ الْجَمْعِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ قَوْلُهُ: مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [20 23] ، وَقَوْلُهُ: مَآرِبُ أُخْرَى [20 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى الْآيَاتِ [20 9] . قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [الْآيَةِ 52] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: دَلَّ قَوْلُهُ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي بِالتَّنْكِيرِ، وَالْإِفْرَادِ، وَإِتْبَاعُهُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ يَفْقَهُوا قَوْلِي عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ إِزَالَةَ جَمِيعِ مَا بِلِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ، بَلْ سَأَلَ إِزَالَةَ بَعْضِهَا الَّذِي يَحْصُلُ بِإِزَالَتِهِ فَهْمُ كَلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهَا. وَهَذَا الْمَفْهُومُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا الْآيَةَ [28 34] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [43 52] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِ فِرْعَوْنٍ عَنْ مُوسَى، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، وَالْبُهْتَانِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. أَنَّهُ مَنَّ عَلَى مُوسَى مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ مَنِّهِ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ وَرِسَالَةِ أَخِيهِ مَعَهُ، وَذَلِكَ بِإِنْجَائِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهُوَ صَغِيرٌ، إِذْ أَوْحَى إِلَى أُمِّهِ أَيْ أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ فِي قَلْبِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رُؤْيَا مَنَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْحَى إِلَيْهَا ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ كَلَّمَهَا بِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِيحَاءِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ أَنْ يَكُونَ الْمُوحَى إِلَيْهِ نَبِيًّا، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ مَا يُوحَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ. كَقَوْلِهِ: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [20 78] ، وَقَوْلِهِ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [53 10] ، وَالتَّابُوتُ: الصُّنْدُوقُ. وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَالسَّاحِلُ: شَاطِئُ الْبَحْرِ. وَالْبَحْرُ الْمَذْكُورُ: نِيلُ مِصْرَ. وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ، وَالْوَضْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [33 26] وَمَعْنَى اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أَيْ ضَعِيهِ فِي الصُّنْدُوقِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مُوسَى بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وَقَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ فَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى التَّابُوتِ. وَالصَّوَابُ رُجُوعُهُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، لِأَنَّ تَفْرِيقَ الضَّمَائِرِ غَيْرُ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [20 39] هُوَ فِرْعَوْنُ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ فِيهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: فَلْيُلْقِهِ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مُبَالَغَةً، إِذِ الْأَمْرُ أَقْطَعُ الْأَفْعَالِ وَأَوْجَبُهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ أُرِيدَ بِهَا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، كَقَوْلِهِ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 82] فَالْبَحْرُ لَا بُدَّ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَوْنًا وَقَدَرًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُشْبِهُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [19 75] . وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [28 7 - 8] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ جَزَعِ أُمِّهِ عَلَيْهِ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَأَخَذَهُ عَدُوُّهُ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [28 10] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَأْخُذْهُ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَالْجَزْمُ مُرَاعَاةٌ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا صَنَعَتْ لَهُ التَّابُوتَ وَطَلَتْهُ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ لِئَلَّا يَتَسَرَّبَ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، وَحَشَتْهُ قُطْنًا مَحْلُوجًا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّابُوتَ الْمَذْكُورَ مِنْ شَجَرِ الْجُمَّيْزِ، وَأَنَّ الَّذِي نَجَرَهُ لَهَا هُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، قِيلَ: وَاسْمُهُ حِزْقِيلَ. وَكَانَتْ عَقَدَتْ فِي التَّابُوتِ حَبْلًا فَإِذَا خَافَتْ عَلَى مُوسَى مِنْ عُيُونِ فِرْعَوْنَ أَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَإِذَا أَمِنَتْ جَذَبَتْهُ إِلَيْهَا بِالْحَبْلِ. فَذَهَبَتْ مَرَّةً لِتَشُدَّ الْحَبْلَ فِي مَنْزِلِهَا فَانْفَلَتَ مِنْهَا وَذَهَبَ الْبَحْرُ بِالتَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ مُوسَى فَحَصَلَ لَهَا بِذَلِكَ مِنَ الْغَمِّ، وَالْهَمِّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا الْآيَةَ [28 10] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ عَلَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [20 37] أَشَارَ إِلَى مَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ الْآيَةَ [37 114] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَلْقَاهَا اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «الْقَصَصِ» فِي قَوْلِهِ: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [28 9] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي: أَيْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَةً مِنْ جَمَالٍ لَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى مَلَاحَةٌ، مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ وَعَشِقَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ. اخْتُلِفَ فِي الْعَامِلِ النَّاصِبِ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «إِذْ» مِنْ قَوْلِهِ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَقِيلَ: هُوَ «أَلْقَيْتُ» أَيَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ «تُصْنَعَ» أَيْ «تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ «إِذْ» فِي قَوْلِهِ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ [20 38] . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْبَدَلُ، وَالْوَقْتَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَاعِدَانِ؟ قُلْتُ: كَمَا يَصِحُّ وَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَتَبَاعَدَ طَرَفَاهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّجُلُ: لَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا. فَتَقُولُ: وَأَنَا لَقِيتُهُ إِذْ ذَاكَ. وَرُبَّمَا لَقِيَهُ هُوَ فِي أَوَّلِهَا وَأَنْتَ فِي آخِرِهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِ أُخْتِهِ مَشَتْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» فَبَيَّنَ أَنَّ أُخْتَهُ الْمَذْكُورَةَ مُرْسَلَةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا لِتَتَعَرَّفَ خَبَرَهُ بَعْدَ ذَهَابِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّهَا أَبْصَرَتْهُ مِنْ بَعْدُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ. وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا. فَقَالَتْ لَهُمْ أُخْتُهُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أَيْ عَلَى مُرْضِعٍ يَقْبَلُ هُوَ ثَدْيَهَا وَتَكْفُلُهُ لَكُمْ بِنُصْحٍ وَأَمَانَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [28 11 - 13] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» هَذِهِ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ أَيْ قَالَتْ أُمُّ مُوسَى لِأُخْتِهِ وَهِيَ ابْنَتُهَا قُصِّيهِ أَيِ اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَتَطَلَّبِي خَبَرَهُ حَتَّى تَطَّلِعِي عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ. وَقَوْلُهُ: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أَيْ رَأَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ كَالْمُعْرِضَةِ عَنْهُ، تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ جَاءَتْ لِتَعْرِفَ خَبَرَهُ فَوَجَدَتْهُ مُمْتَنِعًا مِنْ أَنْ يَقْبَلَ ثَدْيَ مُرْضِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ أَيْ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا لِيَتَيَسَّرَ بِذَلِكَ رُجُوعُهُ إِلَى أُمِّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ غَيْرَهَا أَعْطَوْهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي قَبِلَهُ لِيُرْضِعَهُ وَيَكْفُلَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أُمِّهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا وَقَالُوا لَهَا: مَا يُدْرِيكِ بِنُصْحِهِمْ لَهُ وَشَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ لَهُمْ: نُصْحُهُمْ لَهُ، وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَةً فِي سُرُورِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا. فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وَخَلَصَتْ مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ فَدَخَلُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ قَبِلَ ثَدْيَهَا. ثُمَّ سَأَلَتْهَا «آسِيَةُ» أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ، وَالصِّلَاتِ، وَالْكَسَاوَى، وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ. فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ خَوْفِهَا أَمْنًا فِي عِزٍّ وَجَاهٍ، وَرِزْقِ دَارٍ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» : وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [28 13] وَعْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [28 7] ، وَالْمُؤَرِّخُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أُخْتَ مُوسَى الْمَذْكُورَةَ اسْمُهَا «مَرْيَمُ» وَقَوْلُهُ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا إِنْ قُلْنَا فِيهِ: إِنَّ «كَيْ» حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ فَاللَّامُ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ لِكَيْ تَقَرَّ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَعْلِيلِيَّةٌ، فَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ. وَقَوْلُهُ تَقَرَّ عَيْنُهَا قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْقَرَارِ. لِأَنَّ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ تَسْكُنُ عَيْنُهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ: كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَخَصْرٌ تَثْبُتُ الْأَبْصَارُ فِيهِ ... كَأَنَّ عَلَيْهِ مَنْ حَدَقٍ نِطَاقًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْقُرِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ الْبَرْدُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: يَوْمٌ قَرٌّ بِالْفَتْحِ أَيْ بَارِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ وَأَشْيَاعُهَا ... وَكِنْدَةُ حَوْلِي جَمِيعًا صُبُرْ إِذَا رَكِبُوا الْخَيْلَ وَاسْتَلْأَمُوا ... تَحَرَّقَتِ الْأَرْضُ وَالْيَوْمُ قَرْ وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ الْجَوَادِ: أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَرُّ ... وَالرِّيحُ يَا وَاقِدُ رِيحٌ صَرُّ عَلَّ يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُرُّ ... إِنْ جَلَبَتْ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُرُّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَقُرَّةُ الْعَيْنِ مِنْ بَرْدِهَا. لِأَنَّ عَيْنَ الْمَسْرُورِ بَارِدَةٌ، وَدَمْعُ الْبُكَاءِ مِنَ السُّرُورِ بَارِدٌ جِدًّا، بِخِلَافِ عَيْنِ الْمَحْزُونِ فَإِنَّهَا حَارَّةٌ، وَدَمْعُ الْبُكَاءِ مِنَ الْحُزْنِ حَارٌّ جِدًّا. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: أَحَرُّ مِنْ دَمْعِ الْمُقِلَّاتِ. وَهِيَ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَيَشْتَدُّ حُزْنُهَا لِمَوْتِ أَوْلَادِهَا فَتَشْتَدُّ حَرَارَةُ دَمْعِهَا لِذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَبَبَ قَتْلِهِ لِهَذِهِ النَّفْسِ، وَلَا مِمَّنْ هِيَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ الَّذِي نَجَّاهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ، وَلَا الْفُتُونِ الَّذِي فَتَنَهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» خَبَرَ الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [28 15 - 16] وَأَشَارَ إِلَى الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [28 33] وَهُوَ الْمُرَادُ بِالذَّنْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [26 13 - 14] وَهُوَ مُرَادُ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ لِمُوسَى فِيمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ الْآيَةَ [26 19] . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي «الْقَصَصِ» أَيْضًا إِلَى غَمِّ مُوسَى، وَإِلَى السَّبَبِ الَّذِي أَنْجَاهُ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 إِلَى قَوْلِهِ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [28 20 - 25] . وَقَوْلِهِ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْفُتُونُ مَصْدَرٌ، وَرُبَّمَا جَاءَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيُّ الْمُتَعَدِّي عَلَى فُعُولٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَمْعُ فِتْنَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فُتُونًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى فُعُولٍ فِي الْمُتَعَدِّي كَالثُّبُورِ، وَالشُّكُورِ، وَالْكُفُورِ. وَجَمَعَ فِتَنَ أَوْ فِتْنَةً عَلَى تَرْكِ الِاعْتِدَاءِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُوزٍ وَبُدُورٍ فِي حُجْزَةٍ وَبُدْرَةٍ أَيْ فَتَنَّاكَ ضُرُوبًا مِنَ الْفِتَنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْفُتُونِ الْمَذْكُورِ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِ «الْفُتُونِ» ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَاقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ النَّسَائِيِّ بِسَنَدِهِ. وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْفُتُونَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا جَرَى عَلَى مُوسَى مِنَ الْمِحَنِ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، كَالْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبْحِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُلْقِيَ فِي التَّابُوتِ وَقُذِفَ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ. وَكَخَوْفِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ فِرْعَوْنُ بِالْقِبْطِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْآيَاتُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا تِلْكَ الْمِحَنُ مُبَيِّنَةٌ لِلْفُتُونِ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْفُتُونِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ الْفُتُونِ بِطُولِهِ: هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى. وَأَخْرَجَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا كُلِّهِمْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِهِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ مَرْفُوعٌ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا أُبِيحَ نَقْلُهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ . السِّنِينُ الَّتِي لَبِثَهَا فِي مَدْيَنَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [28 27] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» أَنَّهُ أَتَمَّ الْعَشْرَ، وَبَيَّنَّا دَلِيلَ ذَلِكَ مِنَ السُّنَةِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَجَلَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ [28 29] أَنَّهُ عَشْرُ سِنِينَ لَا ثَمَانٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَبِثَ مُوسَى فِي مَدْيَنَ ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ سَنَةً، عَشْرٌ مِنْهَا مَهْرُ ابْنَةِ صِهْرِهِ، وَثَمَانِ عَشْرَةَ أَقَامَهَا هُوَ اخْتِيَارًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى [20 40] أَيْ جِئْتَ عَلَى الْقَدَرِ الَّذِي قَدَرْتُهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِي أَنَّكَ تَجِيءُ فِيهِ فَلَمْ تَتَأَخَّرْ عَنْهُ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 49] وَقَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 8] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وَقَالَ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [33 38] . وَقَالَ جَرِيرٌ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ: نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْآيَةَ [17 101] ، وَقَوْلُهُ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ الْآيَةَ [27 12] . وَالْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ. . . إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ طَغَى. أَصْلُ الطُّغْيَانِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [69 11] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ طُغْيَانِ فِرْعَوْنَ وَمُجَاوَزَتَهُ الْحَدَّ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 24] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 38] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُ أَيْضًا: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 29] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا تَنِيَا مُضَارِعُ وَنَى يَنِي، عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: فَا أَمْرٍ وَمُضَارِعٍ مِنْ كَوَعَدْ ... احْذِفْ وَفِي كَعِدَةٍ ذَاكَ اطَّرَدْ وَالْوَنَى فِي اللُّغَةِ: الضَّعْفُ، وَالْفُتُورُ، وَالْكَلَالُ، وَالْإِعْيَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: مِسَحٌّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى ... أَثَرْنَ غُبَارًا بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّلِ وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ: فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ ... لَهُ الْإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرْ فَقَوْلُهُ: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي أَيْ لَا تَضْعُفَا، وَلَا تَفْتُرَا فِي ذِكْرِي. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى مَنْ يَذْكُرُهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [3 191] ، وَأَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [8 45] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالِ مُوَاجِهَةِ فِرْعَوْنَ. لِيَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُنَاجِزٌ قِرْنَهُ» اه مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي لَا تَزَالَا فِي ذِكْرِي. وَاسْتُشْهِدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ طَرَفَةَ: كَأَنَّ الْقُدُورَ الرَّاسِيَاتِ أَمَامَهُمْ ... قِبَابٌ بَنَوْهَا لَا تَنِي أَبَدًا تَغْلِي أَيْ لَا تَزَالُ تَغْلِي. وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ: أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ فِي حَالِ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللَّهِ إِلَيْهِ «قَوْلًا لَيِّنًا» أَيْ كَلَامًا لَطِيفًا سَهْلًا رَقِيقًا، لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْضِبُ وَيُنَفِّرُ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [79 17 - 18] وَهَذَا، وَاللَّهِ غَايَةُ لِينِ الْكَلَامِ وَلَطَافَتِهِ وَرِقَّتِهِ كَمَا تَرَى. وَمَا أُمِرَ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَشَارَ لَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 125] . مَسْأَلَةٌ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالرِّفْقِ، وَاللِّينِ. لَا بِالْقَسْوَةِ، وَالشِّدَّةِ، وَالْعُنْفِ. كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الْآيَةَ 105] . وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [20 44] : يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَكَشَفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟ اه وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: وَلَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَغَى ... وَقَالَ عَلَى اللَّهِ إِفْكًا وَزُورًا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَغْفِرًا ... لَمَا وَجَدَ اللَّهَ إِلَّا غَفُورًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ «لَعَلَّ» فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ، إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [129] فَهِيَ بِمَعْنَى كَأَنَّكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ «لَعَلَّ» تَأْتِي فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلتَّعْلِيلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلَا مُتَأَلِّقِ فَقَوْلُهُ: «لَعَلَّنَا نَكُفُّ» أَيْ لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى مَعْنَاهُ عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا، فَالتَّرَجِّي، وَالتَّوَقُّعُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِلَعَلَّ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْبَشَرِ. وَعَزَا الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ لِكُبَرَاءِ النَّحْوِيِّينَ كَسِيبَوَيْهِ، وَغَيْرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَلِفُ الِاثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ «فَأْتِيَاهُ» رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ. وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ. أَيْ فَأْتَيَا فِرْعَوْنَ «فَقُولَا» لَهُ: «إِنَّا رَسُولَانِ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَيْ خَلِّ عَنْهُمْ وَأَطْلِقْهُمْ لَنَا يَذْهَبُونَ مَعَنَا حَيْثُ شَاءُوا، وَلَا تُعَذِّبْهُمْ. الْعَذَابُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ: هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [2 49] ، وَفِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [14 6] ، وَفِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [7 141] . وَفِي سُورَةِ «الدُّخَانِ» فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [44 20] وَفِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 22] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وَمَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ مِنْ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لِفِرْعَوْنَ إِنَّهُمَا رَسُولَا رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يُعَذِّبُهُمْ أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 16 - 17] . تَنْبيهٌ فَإِنْ قِيلَ، مَا وَجْهُ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي «الشُّعَرَاءِ» ؟ مَعَ أَنَّهُمَا رَسُولَانِ؟ كَمَا جَاءَ الرَّسُولُ مُثَنَّى فِي «طه» فَمَا وَجْهُ التَّثْنِيَةِ فِي «طه» ، وَالْإِفْرَادِ فِي «الشُّعَرَاءِ» ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ: الْمُثَنَّى، وَالْمُفْرَدُ يُرَادُ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ؟ فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ أَصْلُهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَالْمَصْدَرُ إِذَا وُصِفَ بِهِ ذُكِرَ وَأُفْرِدَ كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا. فَالْإِفْرَادُ فِي «الشُّعَرَاءِ» نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ الرَّسُولِ مَصْدَرٌ. وَالتَّثْنِيَةُ فِي «طه» اعْتِدَادًا بِالْوَصْفِيَّةِ الْعَارِضَةِ وَإِعْرَاضًا عَنِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يُجْمَعُ الرَّسُولُ اعْتِدَادًا بِوَصْفِيَّتِهِ الْعَارِضَةِ، وَيُفْرَدُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ. وَمِثَالُ جَمْعِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ الْآيَةَ [2 253] ، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ. وَمِثَالُ إِفْرَادِهِ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُولِ ... أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّسُولِ مُرَادًا بِهِ الْمَصْدَرُ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلُهُ: لَقَدْ كَذَّبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِقَوْلٍ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أَيْ بِرِسَالَةٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا بَلِّغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولًا ... بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ يَعْنِي أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْآيَةِ الصَّادِقُ بِالْعَصَا، وَالْيَدِ، وَغَيْرِهِمَا. لِدَلَالَةِ آيَاتٍ أُخَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى يَدْخُلُ فِيهِ السَّلَامُ عَلَى فِرْعَوْنَ إِنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى لَا سَلَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَلِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ. . .» إِلَى آخَرِ كِتَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ. أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِمَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أُشِيرَ إِلَى نَحْوِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [79 37 - 39] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [92 14 - 16] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [75 31 - 35] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا بَلَّغَا فِرْعَوْنَ مَا أُمِرَا بِتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ قَالَ لَهُمَا: مَنْ رَبُّكُمَا الَّذِي تَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَرْسَلَكُمَا إِلَيَّ؟ زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ. وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُمَا إِلَهًا غَيْرَ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 38] ، وَقَالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 29] . وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ رَبُّكُمَا تَجَاهُلُ عَارِفٍ بِأَنَّهُ عَبَدٌ مَرْبُوبٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ الْآيَةَ [17 102] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [27 13 - 14] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَسُؤَالُ فِرْعَوْنَ عَنْ رَبِّ مُوسَى، وَجَوَابُ مُوسَى لَهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» بِأَبْسَطِ مِمَّا هُنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [26 23 - 33] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [20 \ 50] فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكُلُّهَا حَقٌّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِهَا. مِنْهَا أَنَّ مَعْنَى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ نَظِيرَ خَلْقِهِ فِي الصُّورَةِ، وَالْهَيْئَةِ، كَالذُّكُورِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَعْطَاهُمْ نَظِيرَ خَلْقِهِمْ مِنَ الْإِنَاثِ أَزْوَاجًا. وَكَالذُّكُورِ مِنَ الْبَهَائِمِ أَعْطَاهَا نَظِيرَ خَلْقِهَا فِي صُورَتِهَا وَهَيْئَتِهَا مِنَ الْإِنَاثِ أَزْوَاجًا. فَلَمْ يُعْطِ الْإِنْسَانَ خِلَافَ خَلْقِهِ فَيُزَوِّجُهُ بِالْإِنَاثِ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَلَا الْبَهَائِمَ بِالْإِنَاثِ مِنَ الْإِنْسِ، ثُمَّ هَدَى الْجَمِيعَ لِطَرِيقِ الْمَنْكَحِ الَّذِي مِنْهُ النَّسْلُ، وَالنَّمَاءُ، كَيْفَ يَأْتِيهِ، وَهَدَى الْجَمِيعَ لِسَائِرِ مَنَافِعِهِمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَشَارِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَعَنِ السُّدِّيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: ثُمَّ هَدَى أَيْ هَدَاهُ إِلَى الْأُلْفَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ، وَالْمُنَاكَحَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أَيْ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَا يُصْلِحُهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى: أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ الْمُنَاسِبَةَ لَهُ. فَلَمْ يَجْعَلِ الْإِنْسَانَ فِي صُورَةِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا الْبَهِيمَةَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الشَّكْلِ الْمُنَاسِبِ لَهُ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خِلْقَةٌ ... وَكَذَاكَ اللَّهُ مَا شَاءَ فَعَلْ يَعْنِي بِالْخِلْقَةِ: الصُّورَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ، وَعَطِيَّةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ هَدَى كُلَّ صِنْفٍ إِلَى رِزْقِهِ وَإِلَى زَوْجِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ: أَيِ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ وَشَكْلَهُ الَّذِي يُطَابِقُ الْمَنْفَعَةَ الْمَنُوطَةَ بِهِ، كَمَا أَعْطَى الْعَيْنَ الْهَيْئَةَ الَّتِي تُطَابِقُ الْإِبْصَارَ، وَالْأُذُنَ الشَّكْلَ الَّذِي يُوَافِقُ الِاسْتِمَاعَ. وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ، وَالرِّجْلُ، وَاللِّسَانُ، وَغَيْرُهَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُطَابِقٌ لِمَا عُلِّقَ بِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ غَيْرَ نَابٍ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِـ «أَعْطَى» ، وَ «خَلْقَهُ» هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ «خَلْقَهُ» هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَ «كُلَّ شَيْءٍ» هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ اسْتِعْمَالِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَفْعُولَ مِنْ مَفْعُولَيْ بَابِ كَسَا وَمِنْهُ «أَعْطَى» فِي الْآيَةِ لَا مَانِعَ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الْأَخِيرِ إِنْ أَمِنَ اللَّبْسُ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ الْجَرْيَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَيُلْزَمُ الْأَصْلُ لِمُوجِبٍ عَرَا ... وَتَرْكُ ذَاكَ الْأَصْلِ حَتْمًا قَدْ يُرَى قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ صِنْفٍ شَكْلَهُ وَصُورَتَهُ الْمُنَاسِبَةُ لَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى الشَّكْلَ الْمُنَاسِبَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمُنَاكَحَةِ، وَالْأُلْفَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ. وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ الْمُلَائِمَ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَنُوطَةِ بِهِ فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا! مَا أَعْظَمَ شَأْنِهِ وَأَكْمَلَ قُدْرَتِهِ! ! وَفِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَرَاهِينُ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 88] . وَقَدْ حَرَّرَ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنِ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْآيَاتِ لَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا مُتَضَادًا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ تَنَوُّعِيٍّ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالْآيَاتُ تَشْمَلُ جَمِيعَهُ، فَيَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى شُمُولِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَوْضَحَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَارِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «مَهْدًا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ. وَالْمَهْدُ بِمَعْنَاهُ. وَكَوْنُ أَصْلِهِ مَصْدَرًا لَا يُنَافِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ اسْمًا لِلْفِرَاشِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِي مَحَلِّ رَفْعِ نَعْتٍ لِـ «رَبِّي» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20 52] أَيْ لَا يَضِلُّ رَبِّي الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَدْحِ، وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ أَنْ يُقَدَّرَ عَامِلُ النَّصْبِ لَفَظَةَ أَعْنِي، كَمَا أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ مِنَ الْإِعْرَابِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَارْفَعْ أَوِ انْصِبْ إِنْ قَطَعْتَ مُضْمِرًا ... مُبْتَدَأً أَوْ نَاصِبًا لَنْ يَظْهَرَا هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِ مُوسَى لَا يَضِلُّ رَبِّي لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَخْرَجْنَا يُعَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. وَمَعَ كَوْنِهَا مِنْ آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَهِيَ مِنَ النِّعَمِ الْعُظْمَى عَلَى بَنِي آدَمَ. الْأُولَى: فَرْشُهُ الْأَرْضَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ. الثَّانِيَةُ: جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا يَمُرُّ مَعَهَا بَنُو آدَمَ وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُهُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ. الرَّابِعَةُ: إِخْرَاجُهُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. أَمَّا الْأُولَى الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ الْأَرْضَ مَهْدًا فَقَدْ ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِهَا مَعَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا الْآيَةَ [43 9 - 10] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [78 6 - 7] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [51 48] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا [13 3] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا فَقَدْ جَاءَ الِامْتِنَانُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [43 9] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [21 31] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [16 15] . وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، وَالرَّابِعَةُ وَهُمَا إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَالِاسْتِدْلَالِ مَعًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ الْآيَةَ [16 10] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا [6 99] ، وَقَوْلُهُ فِي «فَاطِرٍ» : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [35 27] ، وَقَوْلُهُ فِي «النَّمْلِ» : أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [27 60] . وَهَذَا الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِي إِنْبَاتِ النَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ إِنْبَاتِ النَّبَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلِ الْمَاءُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَيْءٌ لَهَلَكَ النَّاسُ جُوعًا وَعَطَشًا. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَشِدَّةِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَلُزُومِ طَاعَتِهِمْ لَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى أَيْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ. فَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ هُنَا الصِّنْفُ مِنَ النَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» : وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [22 5] أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «لُقْمَانَ» : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [31 10] أَيْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ حَسَنٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يس» : الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [36 36] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ شَتَّى نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: أَزْوَاجًا [20 53] . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى أَيْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةَ الْأَشْكَالِ، وَالْمَقَادِيرِ، وَالْمَنَافِعِ، وَالْأَلْوَانِ، وَالرَّوَائِحِ، وَالطُّعُومِ. وَقِيلَ شَتَّى جَمْعٌ لِـ «نَبَاتٍ» أَيْ نَبَاتٌ مُخْتَلِفٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ شَتَّى جَمْعُ شَتِيتٍ. كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى. وَالشَّتِيتُ: الْمُتَفَرِّقُ. وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ يَصِفُ إِبِلًا جَاءَتْ مُجْتَمِعَةً ثُمَّ تَفَرَّقَتْ، وَهِيَ تُثِيرُ غُبَارًا مُرْتَفِعًا: جَاءَتْ مَعًا وَأَطْرَقَتْ شَتِيتًا ... وَهِيَ تُثِيرُ السَّاطِعَ السَّخْتِيتَا وَثَغْرٌ شَتِيتٌ: أَيْ مُتَفَلِّجٌ لِأَنَّهُ مُتَفَرِّقُ الْأَسْنَانِ. أَيْ لَيْسَ بَعْضُهَا لَاصِقًا بِبَعْضٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى السَّلْكُ: الْإِدْخَالُ. وَقَوْلُهُ سَلَكَ هُنَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ بَيْنَ أَوْدِيَتِهَا وَجِبَالِهَا سُبُلًا فِجَاجًا يَمُرُّ الْخَلْقُ مَعَهَا. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا [20 53] وَعَبَّرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَعْلِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [21 31] وَقَوْلُهُ فِي «الزُّخْرُفِ» : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [43 10] وَعَبَّرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِلْقَاءِ كَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [31 15] لِأَنَّ عَطْفَ السُّبُلِ عَلَى الرَّوَاسِي ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ أَيْ كُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الثِّمَارِ، وَالْحُبُوبِ الَّتِي أَخْرَجْنَاهَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَا مِنْ جَمِيعِ مَا هُوَ غِذَاءٌ لَكُمْ مِنَ الْحُبُوبِ، وَالْفَوَاكِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ. أَيْ أَسِيمُوهَا وَسَرِّحُوهَا فِي الْمَرْعَى الَّذِي يَصْلُحُ لِأَكْلِهَا. تَقُولُ: رَعَتَ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ، وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا: أَيْ أَسَامَهَا وَسَرَّحَهَا. يَلْزَمُ وَيَتَعَدَّى. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ كُلُوا وَارْعَوْا لِلْإِبَاحَةِ. وَلَا يَخْفَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِامْتِنَانِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُنْعِمِ بِذَلِكَ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ أَنْعَامِهِمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «السَّجْدَةِ» : فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [32 27] ، وَقَوْلِهِ فِي «النَّازِعَاتِ» : أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 31 - 33]] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وَقَوْلِهِ فِي «عَبَسَ» : ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 25 - 32] وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [31 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأُولِي النُّهَى أَيْ لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ. فَالنُّهَى: جَمَعُ نُهْيَةٍ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ الْعَقْلُ. لِأَنَّهُ يَنْهَى صَاحِبَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهُوَ الرَّجُلُ بِصِيغَةِ فَعُلَ بِالضَّمِّ: إِذَا كَمُلَتْ نُهْيَتُهُ أَيْ عَقْلُهُ. وَأَصْلُهُ نَهُيَ بِالْيَاءِ فَأُبْدِلَتِ الْيَاءُ وَاوًا لِأَنَّهَا لَامُ فِعْلٍ بَعْدَ ضَمٍّ. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَوَاوًا إِثْرَ الضَّمِّ رُدَّ الْيَا مَتَى ... أُلْفِيَ لَامُ فِعْلٍ أَوْ مِنْ قَبْلِ تَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «مِنْهَا» مَعًا، وَقَوْلِهِ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى «الْأَرْضَ» الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّهُ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُعِيدُهُمْ فِيهَا. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا مَرَّةً أُخْرَى. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا خَلْقُهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [22 5] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [30 20] ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [40 67] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِ النَّاسَ مِنْ تُرَابٍ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [3 59] . وَلَمَّا خَلَقَ أَبَاهُمْ مِنْ تُرَابٍ وَكَانُوا تَبَعًا لَهُ فِي الْخَلْقِ صَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ. وَمَا يَزْعُمُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِمْ مِنْ تُرَابٍ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ انْطَلَقَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرَّحِمِ فَأَخَذَ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ فَيَذْرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ النَّسَمَةَ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالتُّرَابِ مَعًا فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْحَلَةَ النُّطْفَةِ بَعْدَ مَرْحَلَةِ التُّرَابِ بِمُهْلَةٍ. فَهِيَ غَيْرُ مُقَارِنَةٌ لَهَا بِدَلِيلِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا بِـ «ثُمَّ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [22 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [40 67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [23 12 - 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [32 6 - 8] وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِمْ مِنْ تُرَابٍ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرَهَا تَعَالَى أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [77 25 - 26] فَقَوْلُهُ كِفَاتًا [77 26] أَيْ مَوْضِعُهُمُ الَّذِي يَكْفِتُونَ فِيهِ أَيْ يُضَمُّونَ فِيهِ: أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [30 19] أَيْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [50 \ 11] أَيْ مِنَ الْقُبُورِ بِالْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [30 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 57] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [70 43] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [50 \ 42] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ الْآيَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [7 25] . وَالتَّارَةُ فِي قَوْلِهِ تَارَةً أُخْرَى بِمَعْنَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 الْمَرَّةِ. وَفِي حَدِيثِ السُّنَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ جِنَازَةً، فَلَمَّا أَرَادُوا دَفْنَ الْمَيِّتِ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ وَقَالَ «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ» ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى وَقَالَ «وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ» ثُمَّ أُخْرَى وَقَالَ «وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِهِ آيَاتِنَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْعَهْدِ كَالْأَلِفِ، وَاللَّامِ. وَالْمُرَادُ بِآيَاتِنَا الْمَعْهُودَةِ لِمُوسَى كُلُّهَا وَهِيَ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْآيَةَ [17 101] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْآيَةَ [27 12] . وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْآيَاتُ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ، وَالْحَجَرُ الَّذِي انْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَنَتْقُ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْآيَاتِ التِّسْعِ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْعُمُومُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَى فِرْعَوْنَ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، وَالَّتِي جَاءَ بِهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَرَّفَهُ مُوسَى جَمِيعَ مُعْجِزَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بَعْضُهَا أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» : وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا [48] ، وَقَوْلُهُ: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [20 23] ، وَقَوْلُهُ: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى [79 20] لِأَنَّ الْكُبْرَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَأَنِيثُ الْأَكْبَرِ، وَهِيَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَذَّبَ وَأَبَى يَعْنِي أَنَّهُ مَعَ مَا أَرَاهُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ مُوسَى، كَذَّبَ رَسُولَ رَبِّهِ مُوسَى، وَأَبَى عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ شِدَّةَ إِبَائِهِ وَعِنَادِهِ وَتَكَبُّرِهِ عَلَى مُوسَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [7 132] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [43 47] وَقَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [43 51 - 53] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وَمَقْصُودُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْظِيمُ أَمْرِ نَفْسِهِ وَتَحْقِيرُ أَمْرِ مُوسَى، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتْبَعَ الْفَاضِلُ الْمَفْضُولَ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ وَأَبَى، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى حَقٌّ. وَأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي كَذَّبَ بِهَا وَأَبَى عَنْ قَبُولِهَا مَا أَنْزَلَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [27 14] . وَقَوْلُهُ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [17 102] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ أَرَيْنَاهُ أَصْلُهُ مِنْ رَأَى الْبَصْرِيَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَى فِرْعَوْنَ آيَاتِهِ عَلَى يَدِ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى سِحْرٌ، وَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهَا إِخْرَاجَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ أَرْضِهِمْ. أَمَّا دَعْوَاهُ هُوَ وَقَوْمُهُ أَنَّ مُوسَى سَاحِرٌ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [27 13] ، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [10 76] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [20 71] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ الْآيَةَ [43 49] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ بِالسِّحْرِ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى [20 57] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [7 109 - 110] ، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [26 34] ، وَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [10 78] ، وَقَالَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [20 63] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ، لَمَّا رَأَى آيَاتِ اللَّهِ وَمُعْجِزَاتِهِ الْبَاهِرَةَ، وَادَّعَى أَنَّهَا سِحْرٌ أَقْسَمَ لِيَأَتِيَنَّ مُوسَى بِسِحْرٍ مِثْلِ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي يَزْعُمُ هُوَ أَنَّهَا سِحْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بِالسِّحْرِ وَجَمْعَهُمُ السَّحَرَةَ كَانَ عَنِ اتِّفَاقِ مَلَئِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [7 109 - 110] . وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الْآيَاتِ 34 - 37] ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ وَقَعَ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ وَاتِّفَاقِ الْمَلَأِ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَعَدَ مُوسَى بِأَنَّهُ يَأَتِي بِسِحْرٍ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فِي زَعْمِهِ قَالَ لِمُوسَى فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ وَالْإِخْلَافُ: عَدَمُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ. وَقَرَّرَ أَنْ يَكُونَ مَكَانُ الِاجْتِمَاعِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ فِي السِّحْرِ فِي زَعْمِهِ مَكَانًا سُوًى. وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ سُوًى عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ وَالضَّمِّ: أَنَّهُ مَكَانٌ وَسَطٌ تَسْتَوِي أَطْرَافُ الْبَلَدِ فِيهِ. لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَهَا، فَلَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ لِلشَّرْقِ مِنَ الْغَرْبِ، وَلَا لِلْجَنُوبِ مِنَ الشَّمَالِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ مَكَانًا سُوًى أَيْ نِصْفًا وَعَدْلًا لِيَتَمَكَّنَ جَمِيعُ النَّاسِ أَنْ يَحْضُرُوا. وَقَوْلُهُ: سُوًى أَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ. لِأَنَّ الْمَسَافَةَ مِنَ الْوَسَطِ إِلَى الطَّرَفَيْنِ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا بَلْ هِيَ مُسْتَوِيَةٌ. وَقَوْلُهُ سُوًى فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: الضَّمُّ، وَالْكَسْرُ مَعَ الْقَصْرِ، وَفَتْحُ السِّينِ مَعَ الْمَدِّ. وَالْقِرَاءَةُ بِالْأُولَيَيْنِ دُونَ الثَّالِثَةِ هُنَا وَمِنَ الْقِرَاءَةِ بِالثَّالِثَةِ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [3 64] وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ مَكَانًا سُوًى عَلَى الْمَكَانِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُ مُوسَى بْنُ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ شَاهِدًا لِذَلِكَ: وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ سُوًى ... بَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ وَالْفِزْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وَالْفِزْرُ: سَعْدُ بْنُ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ. يَعْنِي: حَلَّ بِبَلْدَةٍ مُسْتَوِيَةٍ مَسَافَتُهَا بَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَالْفِزْرِ. وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَابَ فِرْعَوْنَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ مِنَ الْمَوْعِدِ، وَقَرَّرَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ ذَلِكَ يَوْمَ الزِّينَةِ. وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَوْمٌ مَعْرُوفٌ لَهُمْ، يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَيَتَزَيَّنُونَ. سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ، أَوْ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، أَوْ يَوْمُ النَّيْرُوزِ، أَوْ يَوْمٌ كَانُوا يَتَّخِذُونَ فِيهِ سُوقًا وَيَتَزَيَّنُونَ فِيهِ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا وَاعَدَهُمْ مُوسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ لِيَكُونَ عُلُوُّ كَلِمَةِ اللَّهِ وَظُهُورُ دِينِهِ، وَكَبْتُ الْكَافِرِ وَزَهُوقُ الْبَاطِلِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْمَجْمَعِ الْغَاصِّ لِتَقْوَى رَغْبَةُ مَنْ رَغِبَ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيَكِلَّ حَدُّ الْمُبْطِلِينَ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَيَكْثُرُ الْمُحَدِّثُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ. لِيُعْلَمَ فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، وَيَشِيعَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالْحَضَرِ. اه مِنْهُ. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الزِّينَةِ أَيْ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَحَشْرُ النَّاسِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ يَوْمُ الزِّينَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ. وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ، وَالضُّحَى: مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ. وَالضُّحَى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. فَمَنْ أَنَّثَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ ضَحْوَةٍ. وَمَنْ ذَكَّرَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ جَاءَ عَلَى فِعْلٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ كَصُرَدٍ وَزُفَرَ. وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إِذَا لَمَّ تُرِدْ ضُحَى يَوْمٍ مُعَيَّنٍ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ أَرَدْتَ ضُحَى يَوْمِكَ الْمُعَيَّنِ فَقِيلَ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ كَسَحَرَ. وَقِيلَ لَا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ مُوسَى، وَالسَّحَرَةِ عُيِّنَ لِوَقْتِهَا يَوْمٌ مَعْلُومٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ. لِيَعْرِفُوا الْغَالِبَ مِنَ الْمَغْلُوبِ أُشِيرَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [26 38 - 40] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. الْيَوْمُ الْمَعْلُومُ: هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ الْمَذْكُورِ هُنَا. وَمِيقَاتُهُ وَقْتُ الضُّحَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْإِشْكَالِ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْجُهَ الْإِشْكَالِ فِيهَا، وَنُبَيِّنُ إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ عَنْهَا. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْفِعْلَ الثُّلَاثِيَّ إِنْ كَانَ مِثَالًا أَعْنِي وَاوِيَّ الْفَاءِ كَوَعَدَ وَوَصَلَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 فَالْقِيَاسُ فِي مَصْدَرِهِ الْمِيمِيِّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ كُلُّهَا الْمَفْعِلُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ) مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَلَّ اللَّامِ. فَإِنْ كَانَ مُعْتَلَّهَا فَالْقِيَاسُ فِيهِ الْمَفْعَلُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ) كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فَنِّ الصَّرْفِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا صَالِحٌ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصَّرْفِيِّ لِأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ يُرَادُ بِهِ وَقْتُ الْوَعْدِ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ الْوَعْدِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَوْعِدِ فِي الْقُرْآنِ اسْمَ زَمَانٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [11 81] أَيْ وَقْتُ وَعْدِهِمْ بِالْإِهْلَاكِ الصُّبْحُ. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ اسْمُ مَكَانٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [15 43] أَيْ مَكَانُ وَعْدِهِمْ بِالْعَذَابِ. وَأَوْجُهُ الْإِشْكَالِ فِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْعِدَ مَصْدَرٌ. لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِخْلَافُ هُوَ الْوَعْدُ لَا زَمَانُهُ، وَلَا مَكَانُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَكَانًا سُوًى. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ اسْمُ مَكَانٍ. وَقَوْلُهُ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ اسْمُ زَمَانٍ. فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ مَصْدَرٌ أُشْكِلَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الْمَكَانِ فِي قَوْلِهِ: مَكَانًا سُوًى وَالزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمُ الزِّينَةِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَوْعِدَ اسْمُ مَكَانٍ أُشْكِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَا نُخْلِفُهُ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَكَانِ لَا يُخْلَفُ وَإِنَّمَا يُخْلَفُ الْوَعْدُ، وَأُشْكِلَ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَوْعِدَ اسْمُ زَمَانٍ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: لَا نُخْلِفُهُ وَقَوْلُهُ مَكَانًا سُوًى هَذِهِ هِيَ أَوْجُهُ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ قَالَ: لَا يَخْلُو الْمَوْعِدُ فِي قَوْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ مَصْدَرًا. فَإِنْ جَعَلْتَهُ زَمَانًا نَظَرًا فِي أَنَّ قَوْلَهُ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مُطَابِقٌ لَهُ لَزِمَكَ شَيْئَانِ: أَنْ تَجْعَلَ الزَّمَانَ مُخَلَّفًا وَأَنْ يَعْضُلَ عَلَيْكَ نَاصِبٌ مَكَانًا وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَكَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى مَكَانًا سُوًى لَزِمَكَ أَيْضًا أَنْ تُوقِعَ الْإِخْلَافَ عَلَى الْمَكَانِ، وَلَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَبَقِيَ أَنْ يُجْعَلَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْوَعْدِ وَيُقَدَّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَكَانِ الْوَعْدِ، وَيُجْعَلَ الضَّمِيرُ فِي نُخْلِفُهُ لِلْمَوْعِدِ وَمَكَانًا بَدَلٌ مِنَ الْمَكَانِ الْمَحْذُوفِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَهُ قَوْلُهُ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَجْعَلَهُ زَمَانًا، وَالسُّؤَالُ وَاقِعٌ عَنِ الْمَكَانِ لَا عَنِ الزَّمَانِ؟ قُلْتُ: هُوَ مُطَابِقٌ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لَفْظًا. لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمَ الزِّينَةِ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ مُشْتَهِرٍ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَبِذِكْرِ الزَّمَانِ عُلِمَ الْمَكَانُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي جَوَابِهِ هَذَا مِنَ التَّعَسُّفِ، وَالْحَذْفِ، وَالْإِبْدَالِ مِنَ الْمَحْذُوفِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ مَا أُجِيبُ بِهِ عَمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِشْكَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْ مُوسَى تَعْيِينَ مَكَانِ الْمَوْعِدِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَكَانًا سُوًى. أَيْ وَسَطًا بَيْنَ أَطْرَافِ الْبَلَدِ كَمَا بَيَّنَّا. وَأَنَّ مُوسَى وَافَقَ عَلَى ذَلِكَ وَعَيَّنَ زَمَانَ الْوَعْدِ وَأَنَّهُ يَوْمُ الزِّينَةِ ضُحَى. لِأَنَّ الْوَعْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا إِنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ أَيْ مَكَانُ الْوَعْدِ، وَقَوْلُهُ مَكَانًا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَوْعِدًا. لِأَنَّ الْمَوْعِدَ إِذَا كَانَ اسْمَ مَكَانٍ صَارَ هُوَ نَفْسُ الْمَكَانِ فَاتَّضَحَ كَوْنُ مَكَانًا بَدَلًا. وَلَا إِشْكَالَ فِي ضَمِيِرِ نُخْلِفُهُ عَلَى هَذَا. وَوَجْهُ إِزَالَةِ الْإِشْكَالِ عَنْهُ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ: أَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْدَرِ كَاشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنْهُ، فَاسْمُ الْمَكَانِ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَمَكَانٍ. فَالْمَنْزِلُ مَثَلًا مَكَانُ النُّزُولِ، وَالْمَجْلِسُ مَكَانُ الْجُلُوسِ، وَالْمَوْعِدُ مَكَانُ الْوَعْدِ. فَإِذَا اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ الْمَصْدَرَ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْمَكَانِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَا نُخْلِفُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْمَكَانِ، كَرُجُوعِهِ لِلْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [5 8] : فَقَوْلُهُ هُوَ أَيِ الْعَدْلُ الْمَفْهُومُ مِنِ اعْدِلُوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا نُخْلِفُهُ أَيِ: الْوَعْدُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ الْمَوْعِدُ. لِأَنَّهُ مَكَانُ الْوَعْدِ، فَمَعْنَاهُ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ وَآخِرُ جُزْأَيْهِ لَفْظُ الْوَعْدِ وَهُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي لَا نُخْلِفُهُ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَهُ لِمُوسَى فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ عَنْ مُوسَى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَافَقَ عَلَى طَلَبِ فِرْعَوْنَ ضِمْنًا، وَزَادَ تَعْيِينَ زَمَانِ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. هَذَا هُوَ الَّذِي ظَهَرَ لَنَا صَوَابُهُ. وَأَقْرَبُ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ بَعْدَ هَذَا عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 الْمَوْعِدَ فِي الْآيَةِ مَصْدَرٌ وَعَلَيْهِ فَـ لَا نُخْلِفُهُ رَاجِعٌ لِلْمَصْدَرِ، وَمَكَانًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَوْعِدُ. أَيْ: عُدْنَا مَكَانًا سُوًى. وَنَصْبُ الْمَكَانِ بِأَنَّهُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مَوْعِدًا أَوْ أَحَدُ مَفْعُولَيْ فاجَعَلْ غَيْرُ صَوَابٍ فِيمَا يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَكَانًا سُوًى قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمُ وَحَمْزَةُ «سُوًى» بِضَمِّ السِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى. قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، انْصَرَفَ مُدْبِرًا مِنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ لِيُهَيِّئَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَوَاعَدَ عَلَيْهِ هُوَ وَمُوسَى. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النَّازِعَاتِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى [79 22 - 23] وَقَوْلُهُ فَحَشَرَ أَيْ: جَمَعَ السَّحَرَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أَيْ: أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. وَمِنْ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [20 48] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَمَعَ كَيْدَهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِـ كَيْدَهُ مَا جَمَعَهُ مِنَ السِّحْرِ لِيَغْلِبَ بِهِ مُوسَى فِي زَعْمِهِ. وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَجَمَعَ كَيْدَهُ هُوَ جَمْعُهُ لِلسَّحَرَةِ مِنْ أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا تَسْمِيَةُ السِّحْرِ فِي الْقُرْآنِ كَيْدًا. كَقَوْلِهِ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ الْآيَةَ [20 69] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ السَّحَرَةِ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ [20 64] وَكَيْدُهُمْ سِحْرُهُمْ. الثَّانِي أَنَّ الَّذِي جَمَعَهُ فِرْعَوْنُ هُوَ السَّحَرَةُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [7 111 - 112] . وَقَوْلُهُ حَاشِرِينَ أَيْ: جَامِعِينَ يَجْمَعُونَ السَّحَرَةَ مِنْ أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَقَوْلُهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [26 36] ، وَقَوْلُهُ فِي «يُونُسَ» : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [10 79] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ أَتَى أَيْ: جَاءَ فِرْعَوْنُ بِسَحَرَتِهِ لِلْمِيعَادِ لِيَغْلِبَ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى بِسِحْرِهِ فِي زَعْمِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ السَّحَرَةَ لَمَّا جَمَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَاجْتَمَعُوا مَعَ مُوسَى لِلْمُغَالَبَةِ قَالُوا لَهُ مُتَأَدِّبِينَ مَعَهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَقَالَتَهُمْ هَذِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [7 115] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يُحْذَفَ مَفْعُولُ فِعْلٍ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَقَدْ حُذِفَ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَفْعُولُ تُلْقِيَ وَمَفْعُولٌ أَوَّلُ مِنْ أَلْقَى وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مَفْعُولَ إِلْقَاءِ مُوسَى هُوَ عَصَاهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [7 117] ، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [26 45] ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا الْآيَةَ [20 69] . وَمَا فِي يَمِينِهِ هُوَ عَصَاهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ الْآيَةَ [20 17] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَفْعُولَ إِلْقَائِهِمْ هُوَ حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [26 44] . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ هُنَا قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [20 66] ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ أَنْ تُلْقِيَ وَفِي قَوْلِهِ أَنْ نَكُونَ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِمَّا أَنْ تَخْتَارَ أَنْ تُلْقِيَ أَيْ: تَخْتَارُ إِلْقَاءَكَ أَوَّلًا، أَوْ تَخْتَارُ إِلْقَاءَنَا أَوَّلًا. وَتَقْدِيرُ الْمَصْدَرِ الثَّانِي: وَإِمَّا أَنْ تَخْتَارَ أَنْ نَكُونَ أَيْ: كَوْنَنَا أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، وَالثَّانِي أَنَّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالتَّقْدِيرُ إِمَّا إِلْقَاؤُكَ أَوَّلًا، أَوْ إِلْقَاؤُنَا أَوَّلًا. وَقِيلَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِمَّا الْأَمْرُ إِلْقَاؤُنَا أَوْ إِلْقَاؤُكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَيَّرَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يُلْقِيَ قَبْلَهُمْ أَوْ يُلْقُوا قَبْلَهُ قَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا يَعْنِي أَلْقُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ [26 43] وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [7 116] . تَنْبيهٌ قَوْلُ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: أَلْقُوا الْمَذْكُورُ فِي «الْأَعْرَافِ، وَطه، وَالشُّعَرَاءِ» فِيهِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ قَالَ هَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ لِلسَّحَرَةِ أَلْقُوا. أَيْ: أَلْقُوا حِبَالَكُمْ وَعِصِيَّكُمْ، يَعْنِي اعْمَلُوا السِّحْرَ وَعَارِضُوا بِهِ مُعْجِزَةَ اللَّهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا رَسُولَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ بِمُنْكَرٍ؟ ، وَالْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ قَصْدَ مُوسَى بِذَلِكَ قَصْدٌ حَسَنٌ يَسْتَوْجِبُهُ الْمَقَامُ، لِأَنَّ إِلْقَاءَهُمْ قَبْلَهُ يَسْتَلْزِمُ إِبْرَازَ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَكَائِدِ السِّحْرِ، وَاسْتِنْفَادِ أَقْصَى طُرُقِهِمْ وَمَجْهُودِهِمْ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ فِي إِلْقَائِهِ عَصَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَابْتِلَاعِهَا لِجَمِيعِ مَا أَلْقَوْا مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ مَا لَا جِدَالَ بَعْدَهُ فِي الْحَقِّ لِأَدْنَى عَاقِلٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا، فَلَوَ أَلْقَى قَبْلَهُمْ وَأَلْقَوْا بَعْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ «تُخَيَّلُ» بِالتَّاءِ، أَيْ: تُخَيَّلُ هِيَ أَيِ: الْحِبَالُ، وَالْعِصِيُّ أَنَّهَا تَسْعَى. وَالْمَصْدَرُ فِي «أَنَّهَا تَسْعَى» بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيُّ الَّذِي هُوَ نَائِبُ فَاعِلٍ لِـ «تُخَيَّلُ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَالْمَصْدَرُ فِي سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى نَائِبُ فَاعِلٍ لِـ «تُخَيَّلُ» . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا حِبَالُهُمْ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَمَا أَشَارَ لِنَحْوِ ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ وَ «إِذَا» هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَالْحِبَالُ: جَمْعُ حَبْلٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَ «الْعِصِيُّ» جَمْعُ عَصَا، وَأَلِفُ الْعَصَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَلِذَا تُرَدُّ إِلَى أَصْلِهَا فِي التَّثْنِيَةِ: وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 فَجَاءَتْ بِنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ كَأَنَّهُ ... عَلَى عَصَوَيْهَا سَابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ وَأَصْلُ الْعِصِيِّ عُصُوو عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ جَمْعُ عَصَا. فَأُعِلَّ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ الَّتِي فِي مَوْضِعِ الَّلَامِ يَاءً فَصَارَ عُصُويًا، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، فَالْيَاءَانِ أَصْلُهُمَا وَاوَانِ. وَإِلَى جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْلَالِ فِي وَاوَيِ اللَّامِ مِمَّا جَاءَ عَلَى فَعَوْلٍ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: كَذَاكَ ذَا وَجْهَينِ جَا الْفُعُولُ مِنْ ... ذِي الْوَاوِ لَامُ جَمْعٍ أَوْ فَرْدٍ يَعِنْ وَضَمَّةُ الصَّادِ فِي وَعِصِيُّهُمْ أُبْدِلَتْ كَسْرَةً لِمُجَانَسَةِ الْيَاءِ، وَضَمَّةُ عَيْنِ «عِصِيِّهِمْ» أُبْدِلَتْ كَسْرَةً لِاتِّبَاعِ كَسْرَةِ الصَّادِ. وَالتَّخَيُّلُ فِي قَوْلِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى هُوَ إِبْدَاءُ أَمْرٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِنْهُ الْخَيَالُ. وَهُوَ الطَّيْفُ الطَّارِقُ فِي النَّوْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلْخَيَالِ الْمُشَوِّقِ ... وَلِلدَّارِ تَنْأَى بِالْحَبِيبِ وَنَلْتَقِي وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «طه» هَذِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [7 116] ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَيَّلُوا لِأَعْيُنِ النَّاظِرِينَ أَمْرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا مُطْلَقَ تَخْيِيلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [2 102] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ لَهُ حَقِيقَةٌ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَبَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا الْمَوْصُولَةِ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ لَهُ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [113 4] يَعْنِي السَّوَاحِرَ اللَّاتِي يَعْقِدْنَ فِي سِحْرِهِنَّ وَيَنْفُثْنَ فِي عُقَدِهِنَّ. فَلَوْلَا أَنَّ السِّحْرَ حَقِيقَةٌ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ السِّحْرَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ عَدَمُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ خَيَالٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ فِي «طه» : يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ [20 66] ، وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [7 116] الدَّالَّانِ عَلَى أَنَّ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، يُعَارِضُهُمَا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [7 116] لِأَنَّ وَصْفَ سِحْرِهِمْ بِالْعِظَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَيَالٍ. فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا كَثِيرًا مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ، وَخَيَّلُوا بِسِحْرِهِمْ لِأَعْيُنِ النَّاسِ أَنَّ الْحِبَالَ، وَالْعِصِيَّ تَسْعَى وَهِيَ كَثِيرَةٌ. فَظَنَّ النَّاظِرُونَ أَنَّ الْأَرْضَ مُلِئَتْ حَيَّاتٍ تَسْعَى، لِكَثْرَةِ مَا أَلْقَوْا مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ فَخَافُوا مِنْ كَثْرَتِهَا، وَبِتَخْيِيلِ سَعْيِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَصَفَ سِحْرَهُمْ بِالْعِظَمِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهُمْ جَعَلُوا الزِّئْبَقَ عَلَى الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ، فَلَمَّا أَصَابَهَا حُرُّ الشَّمْسِ تَحَرَّكَ الزِّئْبَقُ فَحَرَّكَ الْحِبَالَ، وَالْعِصِيَّ، فَخُيِّلَ لِلنَّاظِرِينَ أَنَّهَا تَسْعَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا، مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ مِنْهُمْ حِبَالٌ وَعِصِيٌّ. وَقِيلَ: كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ. وَقِيلَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى رَئِيسٍ يُقَالُ لَهُ شَمْعُونُ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ يُوحَنَّا مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ عِشْرُونَ عَرِيفًا، مَعَ كُلِّ عَرِيفٍ أَلْفُ سَاحِرٍ. وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الْفَيُّومِ، وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الصَّعِيدِ وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الرِّيفِ فَصَارُوا تِسْعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ رَئِيسُهُمْ أَعْمَى اهـ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَنَحْنُ نَتَجَنَّبُهَا دَائِمًا، وَنُقَلِّلُ مِنْ ذِكْرِهَا، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا قَلِيلًا مِنْهَا مُنَبِّهِينَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهِشَامُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُخَفَّفَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ قَافٌ مَفْتُوحَةٌ مُشَدَّدَةٌ بَعْدَهَا فَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ مُضَارِعُ تَلْقَفُ وَأَصْلُهُ تَتَلَقَّفُ بِتَاءَيْنِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيُّنِ الْعِبَرْ وَالْمُضَارِعَ مَجْزُومٌ، لِأَنَّهُ جَزَاءُ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ وَأَلْقِ وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْجَزْمَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الطَّلَبِ، وَتَقْدِيرُهُ هُنَا: إِنْ تُلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا. وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ كَالْقِرَاءَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، إِلَّا أَنَّهُ يُشَدِّدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 تَاءَ تَلْقَفُ وَصْلًا. وَوَجْهُ تَشْدِيدِ التَّاءِ هُوَ إِدْغَامُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ فِعْلٍ بُدِئَ بِتَاءَيْنِ كَمَا هُنَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَحَيِيَ افْكُكْ وَادَّغِمْ دُونَ حَذَرَ ... كَذَاكَ نَحْوُ تَتَجَلَّى وَاسْتَتِرْ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَوَّلُهُ نَحْوَ «تَتَجَلَّى» وَمِثَالُهُ فِي الْمَاضِي قَوْلُهُ: تُولِي الضَّجِيجَ إِذَا مَا الْتَذَّهَا خَصْرًا ... عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلَ أَصْلُهُ تَتَابَعَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ كَالْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ يَضُمُّ الْفَاءَ، فَالْمُضَارِعُ عَلَى قِرَاءَتِهِ مَرْفُوعٌ، وَوَجْهُ رَفْعِهِ أَنَّ جُمْلَةَ الْفِعْلِ حَالٌ، أَيْ: أَلْقِ بِمَا فِي يَمِينِكَ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُتَلَقِّفَةً مَا صَنَعُوا. أَوْ مُسْتَأْنِفَةً، وَعَلَيْهِ فَهِيَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهِيَ تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ تَلْقَفْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ مُخَفَّفَةً مَعَ الْجَزْمِ، مُضَارِعُ لَقِفَهُ بِالْكَسْرِ يَلْقَفُهُ بِالْفَتْحِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ مَعْنَى تَلَقَّفَهُ وَلَقِفَهُ إِذَا تَنَاوَلَهُ بِسُرْعَةٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهَا تَبْتَلِعُ كُلَّ مَا زَوَّرُوهُ وَافْتَعَلُوهُ مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ الَّتِي خَيَّلُوا لِلنَّاسِ أَنَّهَا تَسْعَى وَصُنْعُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا صَنَعُوا وَاقِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى تَخْيِيلِهِمْ إِلَى النَّاسِ بِسِحْرِهِمْ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ تَسْعَى، لَا عَلَى نَفْسِ الْحِبَالِ، وَالْعَصِيِّ لِأَنَّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِهِ أَمَرَ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَمِينِهِ أَيْ: يَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَبْتَلِعُ مَا يَأْفِكُونَ مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ الَّتِي خَيَّلُوا إِلَيْهِ أَنَّهَا تَسْعَى أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [7 117 - 119] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [26 45] فَذِكْرُ الْعَصَا فِي «الْأَعْرَافِ، وَالشُّعَرَاءِ» يُوَضِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي يَمِينِهِ فِي «طه» أَنَّهُ عَصَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا يَأْفِكُونَ أَيْ: يَخْتَلِقُونَهُ وَيَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْحِبَالَ، وَالْعِصِيَّ تَسْعَى حَقِيقَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَفَكَهُ عَنْ شَيْءٍ يَأْفِكُهُ عَنْهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) : إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ وَقَلَبَهُ. فَأَصْلُ الْأَفْكِ بِالْفَتْحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 الْقَلْبُ وَالصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِقُرَى قَوْمِ لُوطٍ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ. لِأَنَّ اللَّهَ أَفَكَهَا أَيْ: قَلَبَهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا [15 74] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [51 9] أَيْ: يُصْرَفُ عَنْهُ مَنْ صُرِفَ، وَقَوْلُهُ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا [46 22] أَيْ: لِتَصْرِفَنَا عَنْ عِبَادَتِهَا، وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ: إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الْمُرُوءَةِ ... مَأْفُوكًا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي الْكَذِبِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَقَلْبٌ لِلْأَمْرِ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [45 7] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [46 28] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ «مَا» مَوْصُولَةٌ وَهِيَ اسْمُ «إِنَّ» ، وَ «كَيْدُ» خَبَرُهَا، وَالْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:. . . . . . . . . . . . . وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَيْدُ سَاحِرٍ بِالنَّصْبِ فَـ «مَا» كَافَّةٌ وَ «كَيْدُ» مَفْعُولُ «صَنَعُوا» وَلَيْسَتْ سَبْعِيَّةً، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ «كَيْدُ سِحْرٍ» بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ. لِأَنَّ الْكَيْدَ الْمُضَافَ إِلَى السِّحْرِ هُوَ الْمُرَادُ بِالسِّحْرِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْكَيْدُ: هُوَ الْمَكْرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. لِأَنَّهُ يَنْحَلُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَانٍ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَانٍ وَنِسْبَةٍ. فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِهِ إِجْمَاعًا، وَهَذَا الْمَصْدَرُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهِيَ صِيغَةُ عُمُومٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ. لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ أَيْضًا صِيغَةُ عُمُومٍ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ فِيمَا إِذَا لَمْ يُؤَكَّدِ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ بِمَصْدَرٍ. فَإِنْ أُكِّدَ بِهِ فَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 صِيغَةُ عُمُومٍ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغَ الْعُمُومِ: وَنَحْوَ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرًا قَدْ جَلَبَا وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي دُونَ اللَّازِمِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّأْكِيدِ بِالْمَصْدَرِ وَعَدَمِهِ. لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْمُصْدَرِ بَعْدَ الْفِعْلِ تَأْكِيدٌ لِلْفِعْلِ، وَالتَّأْكِيدُ لَا يَنْشَأُ بِهِ حُكْمٌ، بَلْ هُوَ مُطْلَقُ تَقْوِيَةً لِشَيْءٍ ثَابِتٍ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي عُمُومِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ هَلْ هُوَ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ الِالْتِزَامِ مَعْرُوفٌ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ الْآيَةَ. يَعُمُّ نَفْيُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفَلَاحِ عَنِ السَّاحِرِ، وَأَكَدَّ ذَلِكَ بِالتَّعْمِيمِ فِي الْأَمْكِنَةِ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ أَتَى وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِهِ. لِأَنَّ الْفَلَّاحَ لَا يُنْفَى بِالْكُلِّيَّةِ نَفْيًا عَامًّا إِلَّا عَمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَهُوَ الْكَافِرُ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ هُوَ مَا جَاءَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الْآيَةَ [2 102] . فَقَوْلُهُ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَاحِرًا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ كَافِرًا. وَقَوْلُهُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ صَرِيحٌ فِي كُفْرِ مُعَلِّمِ السِّحْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مُقَرِّرًا لَهُ: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [2 102] ، وَقَوْلُهُ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [2 102] أَيْ: مِنْ نَصِيبٍ، وَنَفِيُ النَّصِيبِ فِي الْآخِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْكَافِرِ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ مِنَ السِّحْرِ مَا هُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّهُ عَرَفَ بِاسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّ لَفْظَةَ لَا يُفْلِحُ يُرَادُ بِهَا الْكَافِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 68 - 70] ، وَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» أَيْضًا: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [10 17] ، وَقَوْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 فِي «الْأَنْعَامِ» : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [6 21] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: أَنَّ مِنْ جَانِبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي اسْتَوْجَبَتْ نَفْيَ الْفَلَاحِ عَنِ السَّحَرَةِ، وَالْكَفَرَةِ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ يَنَالُ الْفَلَاحَ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [2 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [23 1] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ مُضَارِعُ أَفْلَحَ بِمَعْنَى نَالَ الْفَلَاحَ. وَالْفَلَاحُ يُطْلَقُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ فَقَوْلُهُ «وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلَ» يَعْنِي أَنَّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْعَقْلَ فَازَ بِأَكْبَرِ مَطْلُوبٍ. وَيُطْلَقُ الْفَلَاحُ أَيْضًا عَلَى الْبَقَاءِ، وَالدَّوَامِ فِي النَّعِيمِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ ... لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ فَقَوْلُهُ «مُدْرِكُ الْفَلَاحِ» يَعْنِي الْبَقَاءَ. وَقَوْلُ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ السَّعْدِيِّ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... وَالْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ بَقَاءٌ. وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ» فِي الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَيْثُ أَتَى حَيْثُ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ، كَمَا تَدُلُّ حِينًا عَلَى الزَّمَانِ، رُبَّمَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ. فَقَوْلُهُ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أَيْ: حَيْثُ تَوَجَّهَ وَسَلَكَ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْمِيمُ. كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُتَّصِفٌ بِكَذَا حَيْثُ سَارَ، وَأَيَّةُ سَلَكَ، وَأَيْنَمَا كَانَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: بَانَ الْخَلِيطُ وَلَمْ يَأْوُوا لِمَنْ تَرَكُوا ... وَزَوَّدُوكَ اشْتِيَاقًا أَيْةَ سَلَكُوا وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أَيْ: لَا يَفُوزُ، وَلَا يَنْجُو حَيْثُ أَتَى مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: حَيْثُ احْتَالَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 مَا بَيَّنَّا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَفِيَ سَبَبُهُ وَلَطُفَ وَدَقَّ. وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الشَّيْءِ الشَّدِيدِ الْخَفَاءِ: أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيِّ: جَعَلْتِ عَلَامَاتِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَنَا مَصَائِدَ ... لَحْظٍ هُنَّ أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ فَأَعْرِفُ مِنْهَا الْوَصْلَ فِي لِينِ طَرْفِهَا ... وَأَعْرِفُ مِنْهَا الْهَجْرَ فِي النَّظَرِ الشَّزْرِ وَلِهَذَا قِيلَ لِمَلَاحَةِ الْعَيْنَيْنِ: سِحْرٌ. لِأَنَّهَا تُصِيبُ الْقُلُوبَ بِسِهَامِهَا فِي خَفَاءٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَبَّبَتْ بِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ السُّلَمِيِّ: وَانْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي فِي لَوَاحِظِهِ ... وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يُمْكِنُ حَدُّهُ بِحَدٍّ جَامِعٍ مَانِعٍ. لِكَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا يَكُونُ جَامِعًا لَهَا مَانِعًا لِغَيْرِهَا. وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّهِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ فِي تَفْسِيرِهِ قَسَّمَ السِّحْرَ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: سِحْرُ الْكِلْدَانِيِّينَ، وَالْكَسْدَائِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، وَمِنْهَا تَصْدُرُ الْخَيْرَاتُ، وَالشُّرُورُ، وَالسَّعَادَةُ، وَالنُّحُوسَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ كُفْرٌ بِلَا خِلَافٍ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ لِلْكَوَاكِبِ كَمَا يَتَقَرَّبُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَرْجُونَ الْخَيْرَ مِنْ قِبَلِ الْكَوَاكِبِ وَيَخَافُونَ الشَّرَّ مِنْ قِبَلِهَا كَمَا يَرْجُو الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَهُ. فَهُمْ كَفَرَةٌ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْكَوَاكِبِ فِي سِحْرِهِمْ بِالْكُفْرِ الْبَوَاحِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ السِّحْرِ: سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ، وَالنُّفُوسِ الْقَوِيَّةِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَهْمِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى الْجِسْرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَمْدُودًا عَلَى نَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ تَخَيُّلَ السُّقُوطِ مَتَى قَوِيَ أَوْجَبَهُ. وَقَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأَطِبَّاءُ عَلَى نَهْيِ الْمَرْعُوفِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ، وَالْمَصْرُوعِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ، وَالدَّوَرَانِ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ. قَالَ: وَحَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ عَنْ أَرِسْطُو فِي طَبَائِعِ الْحَيَوَانِ: أَنَّ الدَّجَاجَةَ إِذَا تَشَبَّهَتْ كَثِيرًا بِالدِّيَكَةِ فِي الصَّوْتِ وَفِي الْحِرَابِ مَعَ الدِّيَكَةِ نَبَتَ عَلَى سَاقِهَا مِثْلُ الشَّيْءِ النَّابِتِ عَلَى سَاقِ الدِّيكِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الشِّفَاءِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْوَالَ الْجُسْمَانِيَّةَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ. قَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ اللِّسَانِيَّ الْخَالِيَ عَنِ الطَّلَبِ النَّفْسَانِيِّ قَلِيلُ الْعَمَلِ عَدِيمُ الْأَثَرِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْهِمَمِ وَالنُّفُوسِ آثَارًا. . . إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَقَدْ أَطَالَ فِيهِ الْكَلَامَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ لَهَا آثَارٌ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقٌ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هِمَّةَ الْعَائِنِ وَقُوَّةَ نَفْسِهِ فِي الشَّرِّ جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا لِلتَّأْثِيرِ فِي الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّفُوسُ الَّتِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَدْ تَكُونُ قَوِيَّةً جِدًّا فَتَسْتَغْنِي فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْآلَاتِ، وَالْأَدَوَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهَذِهِ الْآلَاتِ. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْلِيَةً عَلَى الْبَدَنِ شَدِيدَةَ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ السَّمَاءِ كَانَتْ كَأَنَّهَا رُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، فَكَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَوَادِّ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً شَدِيدَةَ التَّعَلُّقِ بِهَذِهِ الذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَهَا تَصَرُّفٌ الْبَتَّةَ إِلَّا فِي هَذَا الْبَدَنِ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى مَنْ نَظَرَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ كَلَامَ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مَا نَصُّهُ: ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى مُدَاوَاةِ هَذَا الدَّاءِ بِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ هُوَ التَّصَرُّفُ بِالْحَالِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ حَالًا صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً، يَتَصَرَّفُ بِهَا فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَتْرُكُ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرَامَاتٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ هَذِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 الْأُمَّةِ، وَلَا يُسَمَّى هَذَا سِحْرًا فِي الشَّرْعِ. وَتَارَةً تَكُونُ الْحَالُ فَاسِدَةً لَا يَمْتَثِلُ صَاحِبُهَا مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ حَالُ الْأَشْقِيَاءِ الْمُخَالِفِينَ لِلشَّرِيعَةِ، وَلَا يَدُلُّ إِعْطَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُمْ. كَمَا أَنَّ الدَّجَّالَ لَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ، مَعَ أَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا لَعَنَهُ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ شَابَهَهُ مِنْ مُخَالِفِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ الْمَذْكُورَةِ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ، يَعْنِي تَسْخِيرَ الْجِنِّ وَاسْتِخْدَامَهُمْ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجِنِّ مِمَّا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوا الْقَوْلَ بِهَا. إِلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ. وَالْجِنُّ الْمَذْكُورُونَ قِسْمَانِ: مُؤْمِنُونَ، وَكَافِرُونَ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ: وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنِ اتِّصَالِهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَالْقُرْبِ. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَصْحَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا بِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ مِنَ الرُّقَى، وَالدَّخْنِ، وَالتَّجْرِيدِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ، وَعَمَلِ تَسْخِيرِ الْجِنِّ. وَقَدْ أَطَالَ الرَّازِيُّ أَيْضًا الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: هُوَ التَّخَيُّلَاتُ، وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ. وَمَبْنَى هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ قَدْ تَرَى الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ أَغْلَاطُ الْبَصَرِ كَثِيرَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّطِّ رَأَى السَّفِينَةَ وَاقِفَةً، وَالشَّطَّ مُتَحَرِّكًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاكِنَ يُرَى مُتَحَرِّكًا. وَالْمُتَحَرِّكُ سَاكِنًا. وَالْقَطْرَةُ النَّازِلَةُ تُرَى خَطًّا مُسْتَقِيمًا. إِلَى آخِرِ كَلَامِ الرَّازِيِّ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ أَيْضًا فِي هَذَا النَّوْعِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مُخْتَصِرًا كَلَامَ الرَّازِيِّ الْمَذْكُورَ: وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يُخْطِئُ وَيَشْتَغِلُ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى ذَا الشَّعْبَذَةِ الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يُذْهِلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ، وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَغْرَقَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ بِالتَّحْدِيقِ وَنَحْوِهِ عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، وَحِينَئِذٍ، يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ غَيْرُ مَا انْتَظَرُوهُ فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ. قَالَ: وَكُلَّمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ تُفِيدُ حِسَّ الْبَصَرِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلَلِ أَشَدَّ، كَانَ الْعَمَلُ أَحْسَنَ. مِثْلَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَعْبِذُ فِي مَوْضِعٍ مُضِيءٍ جِدًّا أَوْ مُظْلِمٍ، فَلَا تَقِفُ الْقُوَّةُ النَّاظِرَةُ عَلَى أَحْوَالِهَا، وَالْحَالَةُ هَذِهِ. اهـ مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنْ يَكُونَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَهُوَ تَخْيِيلٌ وَأَخْذٌ بِالْعُيُونِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [20 66] فَإِطْلَاقُ التَّخْيِيلِ فِي الْآيَةِ عَلَى سِحْرِهِمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [7 116] . لِأَنَّ إِيقَاعَ السِّحْرِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْيُنَهُمْ تَخَيَّلَتْ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ، كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا الرُّومُ، وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، حَتَّى يُفَرِّقَ فِيهَا بَيْنَ ضَحِكِ السُّرُورِ، وَبَيْنَ ضَحِكِ الْخَجَلِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِلِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ. وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ، وَهُوَ أَنْ يَجُرَّ ثَقِيلًا عَظِيمًا بِآلَةٍ خَفِيفَةٍ سَهْلَةٍ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا مَعْلُومَةً نَفِيسَةً، مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا قَدِرَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَ عَسِيرًا عَدَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِخَفَاءِ مَأْخَذِهِ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّازِيَّ يَرَى أَنَّ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ السَّحَرَةَ جَعَلُوا الزِّئْبَقَ عَلَى الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ فَحَرَّكَتْهُ حَرَارَةُ الشَّمْسِ فَتَحَرَّكَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ فَظَنُّوا أَنَّهَا حَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَتَوَارَدَ نَوْعَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِيَلُ النَّصَارَى عَلَى عَامَّتِهِمْ بِمَا يُرُونَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْأَنْوَارِ، كَقَضِيَّةِ قُمَامَةِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي لَهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا يَحْتَالُونَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ خُفْيَةً إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 الْكَنِيسَةِ، وَإِشْعَالِ ذَلِكَ الْقِنْدِيلِ بِصَنْعَةٍ لَطِيفَةٍ تُرَوَّجُ عَلَى الطَّغَامِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْخَوَاصُّ مِنْهُمْ فَمُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُونَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ شَمْلَ أَصْحَابِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَيَرَوْنَ ذَلِكَ سَائِغًا لَهُمْ، وَفِيهِمْ شُبَهٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ مُتَعَبِّدِي الْكَرَّامِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ جَوَازَ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ، وَالتَّرْهِيبِ، فَيَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ مَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، وَقَوْلُهُ: «حَدِّثُوا عَنِّي، وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيَّ يَلِجُ النَّارَ» . ثُمَّ ذَكَرَهَا هُنَا - يَعْنِي الرَّازِيَّ - حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَائِرٍ حَزِينِ الصَّوْتِ، ضَعِيفِ الْحَرَكَةِ، فَإِذَا سَمِعَتْهُ الطُّيُورُ تَرِقُّ لَهُ فَتُذْهِبُ فِي وَكْرِهِ مِنْ ثَمَرِ الزَّيْتُونِ لِيَتَبَلَّغَ بِهِ، فَعَمَدَ هَذَا الرَّاهِبُ إِلَى صَنْعَةِ طَائِرٍ عَلَى شَكْلِهِ وَتَوَصَّلَ إِلَى أَنْ جَعَلَهُ أَجْوَفًا، فَإِذَا دَخَلَتْهُ الرِّيحُ سُمِعَ مِنْهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ ذَلِكَ الطَّائِرِ. وَانْقَطَعَ فِي صَوْمَعَةٍ ابْتَنَاهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا عَلَى قَبْرِ بَعْضِ صَالِحِيهِمْ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ الطَّائِرَ فِي مَكَانٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ زَمَانُ الزَّيْتُونِ فَتَحَ بَابًا مِنْ نَاحِيَتِهِ فَتَدْخُلُ الرِّيحُ إِلَى دَاخِلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَيَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ طَائِرٍ فِي شَكْلِهِ أَيْضًا، فَتَأْتِي الطُّيُورُ فَتَحْمِلُ مِنَ الزَّيْتُونِ شَيْئًا كَثِيرًا فَلَا تَرَى النَّصَارَى إِلَّا ذَلِكَ الزَّيْتُونَ فِي هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا سَبَبُهُ. فَفَتَنَهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ صَاحِبِ ذَلِكَ الْقَبْرِ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ ذَلِكَ الطَّائِرَ الْمَذْكُورَ يُسَمَّى الْبَرَاصِلَ، وَأَنَّ الَّذِي عَمِلَ صُورَتَهُ يُسَمَّى أَرْجِعْيَانُوسَ الْمُوسِيقَارَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى هَيْكَلِ أُورَشْلِيمَ الْعَتِيقِ عِنْدَ تَجْدِيدِهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّ الَّذِي قَامَ بِعِمَارَةِ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ أَوَّلًا أُسْطَرْخَسُ النَّاسِكُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا النَّوْعُ الْخَامِسُ الَّذِي عَدَّهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، الَّذِي هُوَ الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ. . . إِلَخْ لَا يَنْبَغِي عَدُّهُ الْيَوْمَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ. لِأَنَّ أَسْبَابَهُ صَارَتْ وَاضِحَةً مُتَعَارَفَةً عِنْدَ النَّاسِ، بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ. وَالْوَاضِحُ الَّذِي صَارَ عَادِيًّا لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ السِّحْرِ، وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ خَفِيَّةَ الْأَسْبَابِ فَصَارَتِ الْيَوْمَ ظَاهِرَتَهَا جِدًّا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. النَّوْعُ السَّادِسُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ فِي طَعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ، وَالدَّخَنَ الْمُسْكِرَةَ نَحْوَ دِمَاغِ الْحِمَارِ إِذَا تَنَاوَلَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 الْإِنْسَانُ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ، وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ، قَالَهُ الرَّازِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ: فَإِنَّ أَثَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ وَخَلَطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، وَالْبَاطِلَ بِالْحَقِّ. اهـ كَلَامُ الرَّازِيِّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ نَقْلًا عَنِ الرَّازِيِّ: قُلْتُ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ، وَيَتَحَيَّلُ عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَاوَلَاتِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ. النَّوْعُ السَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ الْمَذْكُورِ: تَعْلِيقُ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ: فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ: وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ: حَصَلَ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ مِنَ الرُّعْبِ، وَالْمَخَافَةِ: وَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ: فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَإِنَّ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَعَرَفَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمَ أَنَّ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي تَنْفِيذِ الْأَعْمَالِ وَإِخْفَاءِ الْأَسْرَارِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ عَنِ الرَّازِيِّ: هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ التَّنْبَلَةُ، وَإِنَّمَا يُرَوَّجُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَفِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَامِلِ الْعَقْلِ مِنْ نَاقِصِهِ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيلُ حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ لَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ. النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ، وَالتَّضْرِيبُ مِنْ وُجُوهٍ لَطِيفَةٍ خَفِيَّةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ اهـ. وَالتَّضْرِيبُ بَيْنَ الْقَوْمِ: إِغْرَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا النَّوْعَ الْأَخِيرَ عَنِ الرَّازِيِّ قُلْتُ: النَّمِيمَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. فَهَذَا حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَائْتِلَافِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ الْكَذَّابُ مَنْ يُنَمِّ خَيْرًا» أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، وَكَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ، جَاءَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَنَمَّى إِلَيْهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَنَقَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ لَأَمَ بَيْنَ ذَلِكَ فَتَنَاكَرَتِ النُّفُوسُ وَافْتَرَقَتْ. وَإِنَّمَا يَحْذُو عَلَى مِثْلِ هَذَا الذَّكَاءِ ذُو الْبَصِيرَةِ النَّافِذَةِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا. لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» وَسُمِّيَ السَّحُورُ سَحُورًا لِكَوْنِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخِرَ اللَّيْلِ. وَالسِّحْرُ: الرِّئَةُ وَهِيَ مَحَلُّ الْغِذَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَغُضُونِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُتْبَةَ: أَنْتَفَخَ سِحْرُهُ؟ أَيْ: أَنْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ؟ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي. وَقَالَ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [7 116] أَيْ: أَخْفَوْا عَنْهُمْ عَمَلَهُمْ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» انْقِسَامَ السِّحْرِ إِلَيْهَا. وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ تَقْسِيمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَرْجِعُ غَالِبُهَا إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ قَسَّمَهُ الشَّيْخُ سَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ إِبْرَاهِيمَ الْعَلَوِيُّ الشَّنْقِيطِيُّ صَاحِبُ التَّآلِيفِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ فِي نَظْمِهِ الْمُسَمَّى (رُشْدُ الْغَافِلِ) وَشَرْحِهِ لَهُ، الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ أَنْوَاعَ عُلُومِ الشَّرِّ لِتُتَّقَى وَتُجْتَنَبَ إِلَى أَقْسَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ: (مِنْهَا) قِسْمٌ يُسَمَّى (بِالْهِيمْيَاءِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَمِيمٌ فَيَاءٌ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ الْمَمْدُودَةُ، عَلَى وَزْنِ كِبْرِيَاءَ. قَالَ: وَهُوَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ خَوَاصٍّ سَمَاوِيَّةٍ تُضَافُ لِأَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ، يَحْصُلُ لِمَنْ عُمِلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ السَّحَرَةِ، وَقَدْ يَبْقَى لَهُ إِدْرَاكٌ، وَقَدْ يُسْلَبُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَتَصِيرُ أَحْوَالُهُ كَحَالَاتِ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، حَتَّى يَتَخَيَّلَ مُرُورَ السِّنِينِ الْكَثِيرَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَحُدُوثَ الْأَوْلَادِ وَانْقِضَاءَ الْأَعْمَارِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فِي سَاعَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ. وَمَنْ لَمْ يُعْمَلْ لَهُ ذَلِكَ لَا تَجِدُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ. وَهَذَا تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ اه. (وَمِنْهَا) نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالسِّيمْيَاءِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبَقِيَّةُ حُرُوفِهِ كَحُرُوفِ مَا قَبْلَهُ. قَالَ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرَكَّبَ مِنْ خَوَاصَّ أَرْضِيَّةٍ كَدُهْنٍ خَاصٍّ، أَوْ مَائِعَاتٍ خَاصَّةٍ يَبْقَى مَعَهَا إِدْرَاكٌ، وَقَدْ يُسْلَبُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْهِيمْيَاءِ. (وَمِنْهَا) : نَوْعٌ هُوَ رُقًى ضَارَّةٌ. قَالَ: كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ كُفْرًا. قَالَ: وَلِهَذَا نَهَى مَالِكٌ عَنِ الرُّقَى بِالْعَجَمِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ (النَّصِيحَةِ) : وَلَا يُقَالُ لِمَا يُحْدِثُ ضَرَرًا رُقًى، بَلْ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ سِحْرٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 (وَمِنْهَا) : قِسْمٌ يُسَمَّى خَصَائِصُ بَعْضِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَهَا تَسَلُّطٌ عَلَى النُّفُوسِ. كَالْمُشْطِ، وَالْمُشَاقَةِ وَجَفُّ طَلْعِ الذَّكَرِ مِنَ النَّخْلِ، وَقِصَّةُ جُعْلِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذُكِرَ فِي سِحْرِهِ مَشْهُورَةٌ. وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ عِنْدَ أَهْلِهِ: أَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْكِلَابِ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا رُمِيَ بِحَجَرٍ أَنْ يَعَضَّهُ، فَإِذَا رُمِيَ بِسَبْعِ حِجَارَةٍ وَعَضَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَطُرِحَتْ تِلْكَ الْحِجَارَةُ فِي مَاءٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَإِنَّ السَّحَرَةَ يَزْعُمُونَ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ آثَارٌ مَخْصُوصَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهُمْ. قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمِنْهَا) : نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالطَّلَاسِمِ) وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَقْشِ أَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ عَلَى زَعْمِ أَهْلِهَا فِي جِسْمٍ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا، تَحْدُثُ بِهَا خَاصِّيَّةٌ رُبِطَتْ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسٍ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ. فَإِنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ لَا تَجْرِي الْخَاصَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى يَدِهِ. (وَمِنْهَا) : نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالْعَزَائِمِ) وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَسْمَاءً أُمِرُوا بِتَعْظِيمِهَا، وَمَتَى أُقْسِمَ عَلَيْهِمْ بِهَا أَطَاعُوا وَأَجَابُوا وَفَعَلُوا مَا طُلِبَ مِنْهُمْ اهـ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الزَّعْمِ مِنَ الْفَسَادِ. (وَمِنْهَا) : نَوْعٌ يُسَمُّونَهُ الِاسْتِخْدَامَ لِلْكَوَاكِبِ، وَالْجِنِّ. وَأَهْلُ الِاسْتِخْدَمَاتِ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ إِدْرَاكَاتٍ رُوحَانِيَّةً. فَإِذَا قُوبِلَتَ الْكَوَاكِبُ بِبَخُورٍ خَاصٍّ وَلِبَاسٍ خَاصٍّ عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْبَخُورَ، كَانَتْ رُوحَانِيَّةَ فَلَكِ الْكَوَاكِبِ مُطِيعَةٌ لَهُ، مَتَى مَا أَرَادَ شَيْئًا فَعَلَتْهُ لَهُ عَلَى زَعْمِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ سِحْرِ الْكِلْدَانِيِّينَ الْمُتَقَدِّمِ. وَكَذَلِكَ مُلُوكُ الْجَانِّ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا لَهُمْ أَشْيَاءً خَاصَّةً بِكُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ أَطَاعُوا وَفَعَلُوا لَهُمْ مَا أَرَادُوا. قَالَ: وَشُرُوطُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كُتُبِهِمْ. وَذَكَرَ مِنْ عُلُومِ الشَّرِّ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً: كَالْخَطِّ، وَالْأَشْكَالِ، وَالْمَوَالِدِ، وَالْقُرْعَةِ، وَالْفَأْلِ، وَعِلْمِ الْكَتِفِ، وَالْمُوسِيقَى، وَالرَّعْدِيِّ، وَالْكِهَانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْخَطُّ الرَّمْلِيُّ مَعْرُوفٌ. وَالْأَشْكَالُ جَمْعُ شَكْلٍ، وَيُسَمَّى عِلْمُهَا عِلْمُ الْجَدَاوِلِ وَعِلْمُ الْأَوْفَاقِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مِنَ الْبَاطِلِ. وَالْمَوَالِدُ جَمْعُ مَوْلِدٍ، وَهِيَ أَنْ يَدَّعِيَ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّجْمِ الَّذِي كَانَ طَالِعًا عِنْدَ وِلَادَةِ الشَّخْصِ أَنَّهُ يَكُونُ سُلْطَانًا أَوْ عَالِمًا، أَوْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا، أَوْ طَوِيلَ الْعُمْرِ أَوْ قَصِيرَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وَالْقُرْعَةُ مَا يُسَمُّونَهُ قُرْعَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَاصِلُهَا جَدْوَلٌ مَرْسُومٌ فِي بُيُوتِهِ أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَسْمَاءُ الطُّيُورِ. وَبَعْدَ الْجَدْوَلِ تَرَاجِمُ، لِكُلِّ اسْمٍ تَرْجَمَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، وَيُذْكَرُ فِيهَا أُمُورٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَالْمَضَارِّ، يُقَالُ لِلشَّخْصِ غَمِّضْ عَيْنَيْكَ وَضَعْ أُصْبُعَكَ فِي الْجَدْوَلِ. فَإِذَا وَضَعَهَا عَلَى اسْمٍ قُرِئَتْ لَهُ تَرْجَمَتُهُ لِيَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. وَمُرَادُهُ بِالْفَأْلِ: الْفَأْلُ الْمُكْتَسَبُ. كَأَنْ يُرِيدَ إِنْسَانٌ التَّزَوُّجَ أَوِ السَّفَرَ مَثَلًا، فَيَخْرُجُ لِيَسْمَعَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِقْدَامُ أَوِ الْإِحْجَامُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ لِذَلِكَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. أَمَّا مَا يُعْرَضُ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ كَأَنْ يَسْمَعَ قَائِلًا يَقُولُ: مَا مُفْلِحٌ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَعِلْمُ الْكَتِفِ: عِلْمٌ يَزْعُمُ أَهْلُ الشَّرِّ، وَالضَّلَالِ أَنَّ مَنْ عَلِمَهُ يَكُونُ إِذَا نَظَرَ فِي أَكْتَافِ الْغَنَمِ اطَّلَعَ عَلَى أُمُورٍ مِنَ الْغَيْبِ، وَرُبَّمَا زَعَمَ الْمُشْتَغِلُ بِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ يَمُوتُ فِي تَارِيخِ كَذَا، وَأَنَّهُ يَطْرَأُ رُخْصٌ أَوْ غَلَاءٌ أَوْ مَوْتَ الْأَعْيَانِ كَالْعُلَمَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَقَدْ يَذْكُرُ شَأْنَ الْكُنُوزِ أَوِ الدَّفَائِنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْمُوسِيقَى مَعْرُوفَةٌ، وَكُلُّهَا مِنَ الْبَاطِلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالشَّرْعِ الْكَرِيمِ. وَالرَّعْدِيَّاتُ: عِلْمٌ يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّ الرَّعْدَ إِذَا كَانَ فِي وَقْتِ كَذَا مِنَ السَّنَةِ وَالشَّهْرِ فَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ مِنْ جَدْبٍ وَخِصْبٍ، وَكَثْرَةِ الرَّوَاجِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقِلَّتِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْمَاشِيَةِ، وَانْقِرَاضِ الْمِلْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِرَافَةِ وَالْكِهَانَةِ مَعَ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي دَعْوَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ: أَنَّ الْعِرَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، وَالْكِهَانَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ اهـ مِنْهُ. وَعُلُومُ الشَّرِّ كَثِيرَةٌ، وَقَصَدْنَا بِذِكْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا التَّنْبِيهَ عَلَى خِسَّتِهَا وَقُبْحِهَا شَرْعًا، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ، وَمِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهَا التَّحْرِيمُ الشَّدِيدُ. وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ عَلَى أَنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ مِنَ السِّحْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ فِي «الْأَنْعَامِ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّحْرِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ هُوَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ تَخْيِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ أَقْسَامِ السِّحْرِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي كَلَامِ الرَّازِيِّ، وَغَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُ أَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ كُفْرِهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا سِحْرَكَ. فَإِنْ وَصَفَ مَا يَسْتَوْجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ سِحْرِ أَهْلِ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ لِلْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَطْلُبُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ. فَإِنْ كَانَ السِّحْرُ مِمَّا يُعَظَّمُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ كَالْكَوَاكِبِ، وَالْجِنِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سِحْرُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [2 102] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [2 102] ، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [2 102] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [20 69] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَإِنْ كَانَ السِّحْرُ لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَالِاسْتِعَانَةِ بِخَوَاصِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِنْ دِهَانَاتٍ وَغَيْرِهَا فَهُوَ حَرَامٌ حُرْمَةً شَدِيدَةً وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي السَّاحِرِ هَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ لِلسِّحْرِ وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَهَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ، أَوْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَإِذَا قُتِلَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ قِصَاصًا. وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ: لَا تُقْبَلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: تُقْبَلُ التَّوْبَةُ. وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يُقْتَلُ. يَعْنِي لِقِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ السَّاحِرَةِ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، وَلَكِنْ تُحْبَسُ. وَقَالَ الثَّلَاثَةُ: حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - عُمَرُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُشْرِكِينَ. لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَحَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَلَمْ يَقْتُلْهَا. وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ: يُقْتَلُ إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ. وَحَكَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ: وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ. وَأَمَّا السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ تَضَمَّنَ سِحْرُهُ كُفْرًا كُفِّرَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [2 102] لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ. لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبِلْنَاهُ. فَإِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ قُتِلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ قَالَ لَمْ أَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كُفِّرَ وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عُزِّرَ وَاسْتُتِيبَ مِنْهُ، وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَنَا، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ، وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ: وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، لِأَنَّ السَّاحِرَ عِنْدَهُ كَافِرٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَعِنْدَنَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ، وَالزِّنْدِيقِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قَتَلَ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ مَاتَ بِسِحْرِهِ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَإِنْ قَالَ مَاتَ بِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَلَا قِصَاصَ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ. لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِاعْتِرَافِ السَّاحِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: (بَابُ السِّحْرِ) وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [2 102] : وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَمُتَعَلِّمُهُ كَافِرٌ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلشَّيَاطِينِ أَوِ الْكَوَاكِبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ فَلَا يَكْفُرُ مَنْ تَعَلَّمَهُ أَصْلًا. قَالَ النَّوَوِيُّ. عَمَلُ السِّحْرِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عَدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُفْرًا. وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا، بَلْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً. فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ، إِلَى آخِرِ كَلَامِ النَّوَوِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ حَجَّةَ لَمَّا نَقَلَهُ عَنْهُ قَالَ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَبِيرٌ وَتَفَاصِيلُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السِّحْرَ نَوْعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ، وَمِنْهُ مَا لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ، فَإِنْ كَانَ السَّاحِرُ اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا؟ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِي اسْتِتَابَتِهِ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِي (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» أَنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا أَنَّ الزِّنْدِيقَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ، وَلَا أُمَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّنْقِيبِ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ؟ بَلْ بِالِاكْتِفَاءِ بِالظَّاهِرِ. وَمَا يُخْفُونَهُ فِي سَرَائِرِهِمْ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ السَّاحِرَ لَهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ. لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بِالْكُفْرِ، وَالزِّنْدِيقُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَهُ إِلَّا إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ السَّاحِرَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ السَّاحِرِ وَأَنَّهَا إِنْ كَفَرَتْ بِسِحْرِهَا قُتِلَتْ كَمَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ. لِأَنَّ لَفْظَةَ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» تَشْمَلُ الْأُنْثَى عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَأَصَحِّهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى الْآيَةَ [4 124] . فَأَدْخَلَ الْأُنْثَى فِي لَفْظَةِ «مَنْ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ الْآيَةَ [4 124] ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ الْآيَةَ [33 30] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ شُمُولُ لَفْظَةِ «مَنْ» فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 لِلْأُنْثَى أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَمَا شُمُولُ مَنْ لِلْأُنْثَى جَنَفٌ ... وَفِي شَيْبِهِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا وَأَمَّا إِنْ كَانَ السَّاحِرُ عَمِلَ السِّحْرَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ، فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَالَّذِينَ قَالُوا يُقْتَلُ وَلَوْ لَمْ يَكْفُرْ بِسِحْرِهِ قَالَ أَكْثَرُهُمْ: يُقْتَلُ حَدًّا وَلَوْ قَتَلَ إِنْسَانًا بِسِحْرِهِ، وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا لَا حَدًّا. وَهَذِهِ حُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ وَمُنَاقَشَتُهَا: أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا مُطْلَقًا إِذَا عَمِلَ بِسِحْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ بِهِ أَحَدًا فَاسْتَدَلُّوا بِآثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِحَدِيثٍ جَاءَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ. فَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ (الْجِهَادُ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ) : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ قَالَ: فَقَتَلْنَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَ سَوَاحِرَ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْمَحَارِمِ مِنْهُمْ. وَرَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ» إِلَخْ فِي هَذَا الْأَثَرِ سَاقِطَةٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، ثَابِتَةٌ فِي بَعْضِهَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدِ وَأَبِي يَعْلَى. قَالَهُ فِي الْفَتْحِ. وَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ. قَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ مِثْلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [2 102] فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ انْتَهَى مِنَ الْمُوَطَّأِ. وَنَحْوَهُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: كَانَ عِنْدَ الْوَلِيدِ رَجُلٌ يَلْعَبُ فَذَبَحَ إِنْسَانًا وَأَبَانَ رَأْسَهُ، فَجَاءَ جُنْدَبٌ الْأَزْدِيُّ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ: أَنَّهُ قَتَلَهُ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: قَتَلَهُ جُنْدَبُ بْنُ كَعْبٍ. وَفِي (فَتْحِ الْمَجِيدِ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ) لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَشَارَ لِكَلَامِ الْبُخَارِيِّ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 التَّارِيخِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: فَأَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَسُجِنَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا وَلَهَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ انْتَهَى مِنْهُ. فَهَذِهِ آثَارٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ: وَهُمْ عُمَرُ وَابْنَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَجُنْدَبٌ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَيُعْتَضَدُ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» . وَضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ جُنْدَبٍ مَوْقُوفٌ، وَتَضْعِيفُهُ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي (فَتْحِ الْمَجِيدِ) أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جُنْدَبٍ الْمَذْكُورِ: رَوَى ابْنُ السَّكَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُضْرَبُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ أُمَّةً وَحْدَهُ» اهـ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَضْعِيفَهُ بِإِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا اهـ. وَهَذَا يُقَوِّيهِ كَمَا تَرَى. فَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهَا عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مَعَ اعْتِضَادِهَا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمَذْكُورِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِهِ مُطْلَقًا. وَالْآثَارُ الْمَذْكُورَةُ وَالْحَدِيثُ فِيهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ سِحْرُهُ الْكُفْرَ. لِأَنَّ السَّاحِرَ الَّذِي قَتَلَهُ جُنْدَبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ سِحْرُهُ مِنْ نَحْوِ الشَّعْوَذَةِ، وَالْأَخْذِ بِالْعُيُونِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ أَبَانَ رَأْسَ الرَّجُلِ، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَوْلُ عُمَرَ «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِصِيغَةِ الْعُمُومِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآثَارِ وَهَذَا الْحَدِيثِ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحَفْصَةٌ، وَجُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجُنْدَبُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سِحْرُهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْكُفْرَ لَا يُقْتَلُ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ. . .» الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَلَيْسَ السِّحْرُ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ مِنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَدِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَةٌ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 لَمَا حَلَّ بَيْعُهَا. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُ. وَمَا حَاوَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِحَمْلِ السِّحْرِ عَلَى الَّذِي يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْقَتْلِ، وَحَمْلِهِ عَلَى الَّذِي لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْقَتْلِ لَا يَصِحُّ. لِأَنَّ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي قَتْلِهِ جَاءَتْ بِقَتْلِ السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَهُ مِنْ نَوْعِ الشَّعْوَذَةِ كَسَاحِرِ جُنْدَبٍ الَّذِي قَتَلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. فَالْجَمْعُ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ، فَبَعْضُهُمْ يُرَجِّحُ عَدَمَ الْقَتْلِ بِأَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ إِلَّا بِيَقِينٍ. وَبَعْضُهُمْ يُرَجِّحُ الْقَتْلَ بِأَنَّ أَدِلَّتَهُ خَاصَّةٌ، وَلَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ. لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ السَّاحِرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِهِ سِحْرُهُ الْكُفْرَ وَلَمْ يَقْتُلْ بِهِ إِنْسَانًا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ. لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ. وَقَتْلُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ بِسِحْرِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّجَرُّؤُ عَلَى دَمِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مَرْفُوعَةٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِقَتْلِهِ مُطْلَقًا قَوِيٌّ جِدًّا لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ لَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي تَعَلُّمِ السِّحْرِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ بِهِ. هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا؟ ، وَالتَّحْقِيقُ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ فِي قَوْلِهِ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [2 102] وَإِذَا أَثْبَتَ اللَّهُ أَنَّ السِّحْرَ ضَارٌّ وَنَفَى أَنَّهُ نَافِعٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعَلُّمُ مَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ لَا نَفْعَ فِيهِ؟ ! وَجَزَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بِأَنَّهُ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ. قَالَ مَا نَصُّهُ: (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ غَيْرُ قَبِيحٍ، وَلَا مَحْظُورٍ، اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ، وَأَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [39 9] ، وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ، وَمَا يَتَوَقَّفُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا، وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا كَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَبِيحًا. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْكَلَامِ وَعَدَمُ صِحَّتِهِ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِمَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ: «الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ» إِنْ عَنَى بِهِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ عَقْلًا فَمُخَالِفُوهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَمْنَعُونَ هَذَا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ شَرْعًا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ تَبْشِيعٌ لِعِلْمِ السِّحْرِ. وَفِي السُّنَنِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ، وَفِي السُّنَنِ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً وَنَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ» وَقَوْلُهُ «وَلَا مَحْظُورَ، اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ» كَيْفَ لَا يَكُونُ مَحْظُورًا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ، وَاتِّفَاقُ الْمُحَقِّقِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. وَأَيْنَ نُصُوصُهُمْ عَلَى ذَلِكَ! ! ثُمَّ إِدْخَالُهُ عَلِمَ السِّحْرِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [39 9] فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى مَدْحِ الْعَالِمِينَ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ، وَلَمَّا قُلْتَ إِنَّ هَذَا مِنْهَا! ثُمَّ تُرَقِّيهِ إِلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزِ إِلَّا بِهِ ضَعِيفٌ بَلْ فَاسِدٌ. لِأَنَّ أَعْظَمَ مُعْجِزَاتِ رَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ السِّحْرِ أَصْلًا. ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ، وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْمُعْجِزَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ السِّحْرَ، وَلَا تَعَلَّمُوهُ، وَلَا عَلَّمُوهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا صَوَابٌ، وَأَنَّ رَدَّهُ عَلَى الرَّازِيِّ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، وَأَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي مَنْعِهِ. لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [2 102] . وَقَوْلُ ابْنِ كَثِيرٍ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: وَفِي الصَّحِيحِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا. . إِلَخْ» إِنْ كَانَ يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ بِذَلِكَ صَحِيحٌ فَلَا مَانِعَ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي أَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) : وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لِأَمْرَيْنِ: إِمَّا لِتَمْيِيزِ مَا فِيهِ كُفْرٌ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِمَّا لِإِزَالَتِهِ عَمَّنْ وَقَعَ فِيهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ، فَإِذَا سَلِمَ الِاعْتِقَادُ فَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 بِمُجَرَّدِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَنْعًا. كَمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ عِبَادَةِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لِلْأَوْثَانِ. لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ مَا يُعَلِّمُهُ السَّاحِرُ إِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، بِخِلَافِ تَعَاطِيهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ أَوِ الْفِسْقِ فَلَا يَحِلُّ أَصْلًا، وَإِلَّا جَازَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ. اهـ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُبِيحَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، مَعَ أَنَّ تَعَلُّمَهُ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً لِلْعَمَلِ بِهِ، وَالذَّرِيعَةُ إِلَى الْحَرَامِ يَجِبُ سَدُّهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ فِي الْمَرَاقِي: سَدُّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمِ ... حَتْمٌ كَفَتْحِهَا إِلَى الْمُنْحَتِمِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حَلِّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ. فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ. وَمِمَّنْ أَجَازَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرُ) : وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ، أَوْ يُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْإِصْلَاحَ. فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ اهـ. وَمَالَ إِلَى هَذَا الْمُزَنِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي كِتَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ أَخْضَرَ فَيَدُقُّهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ بِالْمَاءِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ يَحْسُو مِنْهُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ وَيَغْتَسِلُ. فَإِنَّهُ يَذْهَبُ عَنْهُ كُلُّ مَا بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ إِذَا حُبِسَ عَنْ أَهْلِهِ انْتَهَى مِنْهُ. وَمِمَّنْ أَجَازَ النَّشْرَةَ وَهِيَ حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ: أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَمِمَّنْ كَرِهَ ذَلِكَ: الْحَسَنُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ: هَلَّا تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اسْتِخْرَاجَ السِّحْرِ إِنْ كَانَ بِالْقُرْآنِ كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَجُوزُ الرُّقْيَا بِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بِسِحْرٍ أَوْ بِأَلْفَاظٍ عَجَمِيَّةٍ، أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، أَوْ بِنَوْعٍ آخَرَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ. وَهَذَا وَاضِحٌ وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا تَرَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: (تَكْمِيلٌ) قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ، وَأَقْوَى مَا يُوجَدُ مِنَ النُّشْرَةِ مُقَاوَمَةُ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ: مِنَ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْقِرَاءَةِ. فَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنَ اللَّهِ، مَعْمُورًا بِذِكْرِهِ، وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّوَجُّهِ، لَا يُخِلُّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ لَهُ. قَالَ: وَسُلْطَانُ تَأْثِيرِ السِّحْرِ هُوَ فِي الْقُلُوبِ الضَّعِيفَةِ. وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ، وَالْجُهَّالَ. لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ إِنَّمَا تَنْشَطُ عَلَى الْأَرْوَاحِ، تَلَقَاهَا مُسْتَعِدَّةً لِمَا يُنَاسِبُهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَجَوَازُ السِّحْرِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَعَ عَظِيمِ مَقَامِهِ، وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ، وَمُلَازَمَةِ وِرْدِهِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيَانِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ الْقَدْرِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي الْمَسْحُورِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسِطَةٌ وَطَرَفَيْنِ: طَرَفٌ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ يَبْلُغُهُ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَكَالْمَرَضِ الَّذِي يُصِيبُ الْمَسْحُورَ مِنَ السِّحْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [2 102] فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَقَارِبَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ. فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفُ الْيَهُودِيِّ كَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ؟ قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: «هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أَرِبْتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةَ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَاسْتُخْرَجَ» قَالَتْ فَقُلْتُ: أَفَلَا أَيْ: تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا» اهـ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّبَ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 الْمَرَضَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ مَطْبُوبٌ. أَيْ: مَسْحُورٌ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ السِّحْرَ سَبَّبَ لَهُ وَجَعًا. وَنَفْيُ بَعْضِ النَّاسِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [17 47] سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعَاوَى. وَسَتَرَى فِي آخِرِ بَحْثِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِيضَاحَ وَجْهِ ذَلِكَ. وَطَرَفٌ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّحْرِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ عِنْدَهُ إِنْزَالَ الْجَرَادِ، وَالْقُمَّلِ، وَالضَّفَادِعِ، وَفَلْقَ الْبَحْرِ، وَقَلْبَ الْعَصَا، وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَإِنْطَاقَ الْعَجْمَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ السَّاحِرِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: وَإِنَّمَا مَنَعْنَا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَأَجَزْنَاهُ انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيُّ. وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ فَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقَلِبَ بِالسِّحْرِ الْإِنْسَانُ حِمَارًا مَثَلًا، وَالْحِمَارُ إِنْسَانًا؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَطِيرَ السَّاحِرُ فِي الْهَوَاءِ، وَأَنْ يَسْتَدِقَّ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ كُوَّةٍ ضَيِّقَةٍ. وَيَنْتَصِبُ عَلَى رَأْسِ قَصَبَةٍ، وَيَجْرِي عَلَى خَيْطٍ مُسْتَدَقٍّ، وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَرْكَبُ الْكَلْبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَبَعْضُ النَّاسِ يُجِيزُ هَذَا. وَجَزَمَ بِجَوَازِهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَكَذَلِكَ صَاحَبُ رُشْدِ الْغَافِلِ، وَغَيْرُهُمَا. وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُ مِثْلَ هَذَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ مُنَاسَبَةٌ عَقْلِيَّةٌ بَيَّنَ السَّبَبَ، وَالْمُسَبِّبَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [2 102] . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثُبُوتِ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُقْنِعٌ. لِأَنَّ غَالِبَ مَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِهِ قَائِلُهُ حِكَايَاتٌ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ عُدُولٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِ الشَّعْوَذَةِ، وَالْأَخْذِ بِالْعُيُونِ، لَا قَلْبِ الْحَقِيقَةِ مَثَلًا إِلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 تَنْبيهٌ اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا، وَلَا مُحَالًا شَرْعِيًّا حَتَّى تُرَدَّ بِذَلِكَ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ. لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ، كَالْأَمْرَاضِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْبَتَّةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. وَاسْتِدْلَالُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّهُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةِ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [17 47] مَرْدُودٌ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَحْثِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا. قَالُوا: وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يَعْدَمُ الثِّقَةَ بِمَا شَرَعُوهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ، ثُمَّ وَأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ. لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ. وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ. فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِأَجْلِهَا، وَلَا كَانَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلِهَا، فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ كَالْأَمْرَاضِ. فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيِّلَ اللَّهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَطِئَهُنَّ وَهَذَا كَثِيرٌ مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامِ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَلَفْظُهُ: «حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ» وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ «أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَلَا يَأْتِيهِمْ» قَالَ الدَّاوُدِيُّ: «يُرَى» بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُظَنُّ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَتْ «يَرَى» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ مِنَ الرَّأْيِ لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ. وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سُحِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَائِشَةَ، حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ. وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ. قَالَ عِيَاضٌ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ، لَا عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَقَالَتْ أُخْتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: إِنْ يَكُنْ نَبِيَّنَا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ: قُلْتُ: فَوَقَعَ الشِّقُّ الْأَوَّلُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَمَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْخَاطِرِ يَخْطُرُ، وَلَا يَثْبُتُ. فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّةٌ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّخَيُّلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ سَابِقِ عَادَتِهِ مِنَ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِذَا دَنَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَتَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْقُودِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ» أَيْ: صَارَ كَالَّذِي أَنْكَرَ بَصَرَهُ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا رَأَى الشَّيْءَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ. فَإِذَا تَأَمَّلَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ. وَيُؤَيِّدُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: صَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُمْ كَيْدَهُ، فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ. فَكَذَلِكَ السِّحْرُ مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِهِ مَا يُدْخِلُ نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ ضَرَرِ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ: مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْكَلَامِ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ بَعْضِ الْفِعْلِ، أَوْ حُدُوثِ تَخَيُّلٍ لَا يَسْتَمِرُّ بَلْ يَزُولُ. وَيُبْطِلُ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيَاطِينَ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «أَمَّا أَنَا فَقَدَ شَفَانِي اللَّهُ» وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ. لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْمُدَّعِي أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: فَكَانَ يَدُورُ، وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعَهُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: مَرِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاءِ، وَالطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ. فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ. الْحَدِيثَ انْتَهَى مِنْ (فَتْحِ الْبَارِي) . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ خَلَلًا فِي التَّبْلِيغِ، وَالتَّشْرِيعِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ: كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ، وَالْآلَامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يَعْتَرِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ. لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [14 11] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [17 47] فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْحُورٌ أَوْ مَطْبُوبٌ، قَدْ خَبَلَهُ السِّحْرُ فَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «مَسْحُورًا» أَيْ: مَخْدُوعًا. مِثْلَ قَوْلِهِ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [23 89] أَيْ: مِنْ أَيْنَ تُخْدَعُونَ. وَمَعْنَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 مَا قَبْلَهُ. لِأَنَّ الْمَخْدُوعَ مَغْلُوبٌ فِي عَقْلِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَسْحُورًا مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ سِحْرًا أَيْ: رِئَةً فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، فَهُوَ مِثْلُكُمْ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ. كَقَوْلِهِمْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [25 7] ، وَقَوْلِهِ عَنِ الْكُفَّارِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 33 - 34] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ: مَسْحُورٌ وَمُسَحَّرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ أَيْ: نُغَذَّى وَنُعَلَّلُ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ «مَسْحُورًا» رَاجِعَةٌ إِلَى دَعْوَاهُمُ اخْتِلَالَ عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ أَوَ الْخَدِيعَةِ، أَوْ كَوْنِهِ بَشَرًا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ بَعْضِ التَّأْثِيرَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّبْلِيغِ، وَالتَّشْرِيعِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ لِحُكْمِ سَاحِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قَتْلِهِ، وَاسْتِدْلَالِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِعَدَمِ قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ الَّذِي سَحَرَهُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَتَلَهُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَشَدَّ حُرْمَةً مِنْ سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا عَدَمُ قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ الْأَعْصَمِ فَقَدْ بَيَّنَتِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَهُ اتِّقَاءَ إِثَارَةِ فِتْنَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَهُ. وَقَدْ تَرَكَ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ: مُحَمَّدٌ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَتْلِ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُنَافِقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ لَمَّا عَايَنُوا عَصَا مُوسَى تَبْتَلِعُ جَمِيعَ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ خَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى قَائِلِينَ: آمَنَّا بِاللَّهِ الَّذِي هُوَ رَبُّ هَارُونَ وَمُوسَى. فَهَدَاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْبُرْهَانِ الْإِلَهِيِّ، هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَظِيمَةَ. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [7 117] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [26 45 - 48] ، وَقَوْلِهِ: فَأُلْقِيَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْبُرْهَانِ الَّذِي عَايَنُوهُ. كَأَنَّهُمْ أَمْسَكَهُمْ إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهُمْ سَاجِدِينَ بِالْقُوَّةِ لِعِظِمِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي عَايَنُوهَا. وَذَكَرَ فِي قِصَّتِهِمْ أَنَّهُمْ عَايَنُوا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي سُجُودِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ السَّحَرَةِ فِي حَالِ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ مُؤْمِنِينَ بِهِ نَظَرًا إِلَى حَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ. كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [4 2] فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْيُتْمِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَظَرًا إِلَى الْحَالِ الْمَاضِيَةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيمَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ فَوَاصِلِ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ مَعَ خِسَّتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، قَدْ كَانَ سَبَبًا لِإِيمَانِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ. لِأَنَّهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالسِّحْرِ عَرَفُوا مُعْجِزَةَ الْعَصَا خَارِجَةً عَنْ طَوْرِ السِّحْرِ، وَأَنَّهَا أَمْرٌ إِلَهِيٌّ فَلَمْ يُدَاخِلْهُمْ شَكٌّ فِي ذَلِكَ. فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمُ الرَّاسِخِ الَّذِي لَا يُزَعْزِعُهُ الْوَعِيدُ، وَالتَّهْدِيدُ. وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ بِالسِّحْرِ جِدًّا، لَأَمْكَنَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَصَا مِنْ جِنْسِ الشَّعْوَذَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ لَمَّا آمَنُوا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: آمَنْتُمْ لَهُ أَيْ: صَدَّقْتُمُوهُ فِي أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَآمَنْتُمْ بِاللَّهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ. يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُفُّوا عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يَحِقُّ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ هُوَ لَهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُوسَى هُوَ كَبِيرُهُمْ. أَيْ: كَبِيرُ السَّحَرَةِ وَأُسْتَاذُهُمُ الَّذِي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ مُقْسِمًا عَلَى أَنَّهُ يَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ؛ يَعْنِي الْيَدَ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى مَثَلًا. لِأَنَّهُ أَشَدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ قَطْعِهِمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ قَطْعُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يَبْقَى عِنْدَهُ شِقٌّ كَامِلٌ صَحِيحٌ، بِخِلَافِ قَطْعِهِمَا مِنْ خِلَافٍ. فَالْجَنْبُ الْأَيْمَنُ يَضْعُفُ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَالْأَيْسَرُ يَضْعُفُ بِقَطْعِ الرِّجْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَنَّهُ يُصَلِّبُهُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَجِذْعُ النَّخْلَةِ هُوَ أَخْشَنُ جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الشَّجَرِ، وَالتَّصْلِيبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنَ التَّصْلِيبِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 الْجُذُوعِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُ هُنَا أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ ": قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [26 49] . وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " وَزَادَ فِيهَا التَّصْرِيحَ بِفَاعِلٍ، قَالَ: وَادِّعَاءُ فِرْعَوْنَ أَنَّ مُوسَى، وَالسَّحَرَةَ تَمَالَئُوا عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا أَنَّهُ غَلَبَهُمْ مَكْرًا لِيَتَعَاوَنُوا عَلَى إِخْرَاجِ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ مِنْ مِصْرَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [7 123 - 124] " وَقَوْلُهُ فِي " طه ": وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يُبَيِّنُ أَنَّ التَّصْلِيبَ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ هُوَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ فِي " الْأَعْرَافِ، وَالشُّعَرَاءِ ": وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [7 124، 26 49] . أَيْ: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَتَعْدِيَةُ التَّصْلِيبِ بِـ " فِي " أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُوِيدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ: هُمُ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً فِي مَعْنَى الْحَرْفِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِيضَاحُ كَلَامِهِمْ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ " الْقَصَصِ ". وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ) . أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ مَجَازًا كُلَّهَا أَسَالِيبٌ عَرَبِيَّةٌ نَطَقَتْ بِهَا الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ عَدَمِ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُورِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا: يَعْنِي أَنَا، أَمْ رَبُّ مُوسَى أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقُرْطُبِيُّ. وَعَلَيْهِ فَفِرْعَوْنُ يَدَّعِي أَنَّ عَذَابَهُ أَشَدُّ وَأَبْقَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 24] ، وَقَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 38] ، وَقَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 29] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَنَا، أَمْ مُوسَى أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَالتَّهَكُّمِ بِمُوسَى لِاسْتِضْعَافِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ. كَقَوْلِهِ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [43 52] . وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ فَعَلَ بِهِمْ فِرْعَوْنُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ بِهِمْ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: قَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ. وَقَوْمٌ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ مِنْهُ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمُ الرَّاسِخِ بِاللَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [28 35] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْثِرَكَ أَيْ: لَنْ نَخْتَارَ اتِّبَاعَكَ وَكَوْنُنَا مِنْ حِزْبِكَ، وَسَلَامَتُنَا مِنْ عَذَابِكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ. كَمُعْجِزَةِ الْعَصَا الَّتِي أَتَتْنَا وَتَيَقَنَّا صِحَّتَهَا. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِي فَطَرَنَا عَاطِفَةٌ عَلَى «مَا» مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى مَا جَاءَنَا أَيْ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا عَلَى وَالَّذِي فَطَرَنَا أَيْ: خَلَقَنَا وَأَبْرَزَنَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الْقَسَمِ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. أَيْ: وَالَّذِي فَطَرَنَا لَا نُؤْثِرُكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَاقْضِ مَا أَيِ: اصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ. فَلَسْنَا رَاجِعِينَ عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أَيْ: إِنَّمَا يَنْفُذُ أَمْرُكَ فِيهَا. فَـ «هَذِهِ» مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ عَلَى الْأَصَحِّ. أَيْ: وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُهِمُّ لِسُرْعَةِ زَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِتَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ وَوَعِيدِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ قَدْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» عَنْهُمْ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [26 \ 50] . وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [7 125 - 126] . وَقَوْلُهُ: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ عَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا أَنْتَ قَاضِيهِ لِأَنَّهُ مَخْفُوضٌ بِالْوَصْفِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: كَذَاكَ حَذْفُ مَا بِوَصْفٍ خُفِضَا ... كَأَنْتَ قَاضٍ بَعْدَ أَمْرٍ مِنْ قَضَى وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ الْمَازِنِيِّ: وَيَصْغُرُ فِي عَيْنَيْ تِلَادِي إِذَا انْثَنَتْ ... يَمِينِي بِإِدْرَاكِ الَّذِي كُنْتُ طَالِبًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 أَيْ: طَالِبَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا قَالَ لِلسَّحَرَةِ مَا قَالَ لَمَّا آمَنُوا، قَالُوا لَهُ: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا [20 73] يَعْنُونَ ذُنُوبَهُمُ السَّالِفَةَ كَالْكُفْرِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَيْ: وَيَغْفِرُ لَنَا مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُمْ هُنَا أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " الشُّعَرَاءِ " عَنْهُمْ: إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [26 50 - 51] وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي " الْأَعْرَافِ ": رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [7 126] . وَفِي آيَةِ طه " هَذَا سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُمْ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ [20 73] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ، كَقَوْلِهِ فِي " طه ": فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [20 62 - 63] . فَقَوْلُهُمْ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [20 64] صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكْرَهِينَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي " الشُّعَرَاءِ ": قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [26 41] وَقَوْلُهُ فِي " الْأَعْرَافِ ": قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [7 113 - 114] فَتِلْكَ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكْرَهِينَ. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ مَعْرُوفَةٌ: (مِنْهَا) : أَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ عَلَى الشُّخُوصِ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ لِيُعَارِضُوا مُوسَى بِسِحْرِهِمْ، فَلَمَّا أُكْرِهُوا عَلَى الْقُدُومِ وَأُمِرُوا بِالسِّحْرِ أَتَوْهُ طَائِعِينَ، فَإِكْرَاهُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَطَوْعُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخِرِ الْأَمْرِ، فَانْفَكَّتَ الْجِهَةُ وَبِذَلِكَ يَنْتَفِي التَّعَارُضُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [26 36] وَقَوْلُهُ: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [7 111] . (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ كَانَ يُكْرِهُهُمْ عَلَى تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِمُ السِّحْرَ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِإِكْرَاهِهِمْ عَلَى السِّحْرِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنَ السِّحْرِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِمْ وَكِبَرِهِمْ طَائِعِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 (وَمِنْهَا) : أَنَّهُمْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَرِنَا مُوسَى نَائِمًا: فَفَعَلَ فَوَجَدُوهُ قُرْبَ عَصَاهُ، فَقَالُوا: مَا هَذَا بِسِحْرِ السَّاحِرِ! لِأَنَّ السَّاحِرَ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعَارِضُوهُ، وَأَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَعَلُوهُ طَائِعِينَ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَطَايَانَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ، وَهِيَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ. كَالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ. وَالْفَعِيلَةُ تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ، وَالْهَمْزَةُ فِي فَعَائِلَ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْيَاءِ فِي فَعِيلَةٍ، وَمِثْلُهَا الْأَلِفُ، وَالْوَاوُ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْمَدُّ زِيدَ ثَالِثًا فِي الْوَاحِدِ ... هَمْزًا يُرَى فِي مِثْلِ كَالْقَلَائِدِ فَأَصْلُ خَطَايَا " خَطَائِيِ " بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَهِيَ يَاءُ خَطِيئَةٍ، وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ. ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ هَمْزَةً عَلَى حَدِّ الْإِبْدَالِ فِي صَحَائِفَ فَصَارَتْ خَطَائِئَ بِهَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِلُزُومِ إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمُتَطَرِّفَةِ بَعْدَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ يَاءً، فَصَارَتْ خَطَائِيَ، ثُمَّ فُتِحَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى تَخْفِيفًا فَصَارَ خَطَاءَيَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ خَطَاءَا بِأَلِفَيْنِ بَيْنَهُمَا هَمْزَةٌ، وَالْهَمْزَةُ تُشْبِهُ الْأَلِفَ، فَاجْتَمَعَ شِبْهُ ثَلَاثَةِ أَلِفَاتٍ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً فَصَارَ خَطَايَا بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْمَالٍ، وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَافْتَحْ وَرُدَّ الْهَمْزَ يَا فِيمَا أُعِلَّ ... لَامًا وَفِي مِثْلِ هِرَاوَةٍ جُعِلْ وَاوًا. . . إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ: أَنَّ الْمَعْنَى خَيْرٌ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَبْقَى مِنْهُ. لِأَنَّهُ بَاقٍ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَلَا يُذَلُّ، وَلَا يَمُوتُ، وَلَا يُعْزَلُ. كَمَا أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا [16 52] . أَيْ: بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى، بَلْ يَمُوتُ أَوْ يُعْزَلُ، أَوْ يُذَلُّ بَعْدَ الْعِزِّ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ ثَوَابَهُ خَيْرٌ مِمَّا وَعَدَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [7 113 - 114] . وَأَبْقَى: أَيْ: أَدْوَمُ. لِأَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ زَائِلٌ، وَثَوَابُ اللَّهِ بَاقٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 96] وَقَالَ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [87 16] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَأَبْقَى أَيْ: أَبْقَى عَذَابًا مِنْ عَذَابِكَ، وَأَدْوَمُ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وَمَعْنَى أَبْقَى أَكْثَرُ بَقَاءً. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا. ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ أَيِ: الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُجْرِمًا أَيْ: مُرْتَكِبًا الْجَرِيمَةَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَالْكَافِرِ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ فِيهَا فَـ لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً فِيهَا رَاحَةٌ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [30 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [14 15 - 17] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [4 56] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [87 11 - 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [43 77] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ: أَلَا مَنْ لِنَفْسٍ لَا تَمُوتُ فَيَنْقَضِي ... شَقَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «أَنَّ» وَمَنْ يَأْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ أَيْ: فِي الدُّنْيَا حَتَّى مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَأُولَئِكَ لَهُمُ عِنْدَ اللَّهِ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا وَالْعُلَا: جَمْعُ عُلْيَا وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَعْلَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [17 21] وَقَوْلِهِ: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [6 132] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 وَالسَّلَامُ: أَنْ يَسْرِيَ بِعِبَادِهِ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَيُخْرِجَهُمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ لَيْلًا، وَأَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا، أَيْ: يَابِسًا لَا مَاءَ فِيهِ، وَلَا بَلَلَ، وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ دَرَكًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَاءَهُ أَنْ يَنَالَهُ بِسُوءٍ. وَلَا يَخْشَى مِنَ الْبَحْرِ أَمَامَهُ أَنْ يَغْرَقَ قَوْمُهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [26 52 - 63] . فَقَوْلُهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» : أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [26 63] أَيْ: فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا [20 77] وَقَوْلُهُ: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [26 61 - 62] يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «الدُّخَانِ» : فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [44 22 - 24] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ وَاضِحَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ «أَنِ اسْرِ» بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَكَسْرِ نُونٍ أَنْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا أَنْ أَسْرِ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ مَعَ إِسْكَانِ نُونِ «أَنْ» وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» أَنَّ أَسْرَى وَسَرَى لُغَتَانِ وَبَيَّنَا شَوَاهِدَ ذَلِكَ الْعَرَبِيَّةَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ بِسُكُونِ الْفَاءِ بِدُونِ أَلِفٍ بَيْنَ الْخَاءِ، وَالْفَاءِ، وَهُوَ مَجْزُومٌ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الطَّلَبِ، أَيْ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَفْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجَزْمِ بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الطَّلَبِ، أَيْ: أَنْ تَضْرِبَ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَفْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ «لَا تَخَافُ» بِالرَّفْعِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ وَلَا تَخْشَى لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الْأَلِفِ، مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ مَرْفُوعٍ هُوَ قَوْلُهُ: لَا تَخَافُ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ «لَا تَخَفْ» بِالْجَزْمِ فَفِي قَوْلِهِ وَلَا تَخْشَى إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُضَارِعٍ مَجْزُومٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَزْمَهُ، وَلَوْ جُزِمَ لَحُذِفَتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 الْأَلِفُ مِنْ تَخْشَى عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَاحْذِفْ جَازِمًا ... ثَلَاثَهُنَّ تَقْضِ حُكْمًا لَازِمًا وَالْأَلِفُ لَمْ تُحْذَفْ فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَلَا تَخْشَى مُسْتَأْنَفٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتَ لَا تَخْشَى، أَيْ: وَمِنْ شَأْنِكَ أَنَّكَ آمِنٌ لَا تَخْشَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ مَجْزُومٌ، وَالْأَلِفُ لَيْسَتْ هِيَ الْأَلِفُ الَّتِي فِي مَوْضِعِ لَامِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّهَا زِيدَتْ لِلْإِطْلَاقِ مِنْ أَجْلِ الْفَاصِلَةِ، كَقَوْلِهِ: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [33 67] وَقَوْلِهِ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ [33 10] . وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِشْبَاعَ الْحَرَكَةِ بِحَرْفِ مَدٍّ يُنَاسِبُهَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَقَوْلِ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَقَّاصٍ الْحَارِثِيِّ: وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ... كَأَنْ لَمْ تَرَ قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا وَقَوْلِ الرَّاجِزِ: إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقْ ... وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقْ وَقَوْلِ الْآخَرِ: قُلْتُ وَقَدْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ ... يَا نَاقَتِي مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ وَقَوْلِ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: يَنْبَاعُ مِنْ ذَفِرَيْ غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلَ الْفَنِيقِ الْمُكْدَمِ فَالْأَصْلُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ: كَأَنْ لَمْ تَرَ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ. وَالْأَصْلُ فِي الثَّانِي، وَلَا تَرْضَهَا، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ. وَالْأَصْلُ فِي الثَّالِثِ عَلَى الْكَلْكَالِ يَعْنِي الصَّدْرَ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ. وَالْأَصْلُ فِي الرَّابِعِ يَنْبُعُ يَعْنِي أَنَّ الْعَرَقَ يَنْبُعُ مِنْ عَظْمِ الذِّفْرَى مِنْ نَاقَتِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ، وَإِشْبَاعُ الْفَتْحَةِ بِأَلْفٍ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ لَيْسَ لِضَرُورَةٍ لِلشِّعْرِ لِتَصْرِيحِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ فِي النَّثْرِ، كَقَوْلِهِمْ فِي النَّثْرِ: كَلْكَالٌ، وَخَاتَامٌ، وَدَانَاقٌ، يَعْنُونَ كَلْكَلًا، وَخَاتَمًا، وَدَانِقًا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِهَا الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [90 1] مَعَ قَوْلِهِ: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [95 3] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا: فَاجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ لَهُ فِي مَالِهِ سَهْمًا، وَضَرَبَ اللَّبِنَ عَمِلَهُ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ يَبَسًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ جَاءَتْ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ كَبَطَلٍ وَحَسَنٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْيُبْسُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. يُقَالُ: يَبِسَ يَبَسًا وَيُبْسًا، وَنَحْوُهُمَا الْعَدَمُ، وَالْعُدْمُ، وَمِنْ ثَمَّ وُصِفَ بِهِ الْمُؤَنَّثُ فَقِيلَ: شَاتُنَا يُبْسٌ، وَنَاقَتُنَا يُبْسٌ. إِذَا جَفَّ لَبَنُهَا. وَقَوْلُهُ: لَا تَخَافُ دَرَكًا الدَّرَكُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، أَيْ: لَا يُدْرِكُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَلَا يَلْحَقُونَكَ مِنْ وَرَائِكَ، وَلَا تَخْشَى مِنَ الْبَحْرِ أَمَامَكَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَا تَخَافُ فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاضْرِبْ أَيْ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي حَالِ كَوْنِكَ غَيْرَ خَائِفٍ دَرَكًا، وَلَا خَاشٍ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ بِلَا إِذَا كَانَتْ جُمْلَتُهُ حَالِيَّةً وَجَبَ الرَّبْطُ فِيهَا بِالضَّمِيرِ وَامْتَنَعَ بِالْوَاوِ. كَقَوْلِهِ هُنَا: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِكَ لَا تَخَافُ دَرَكًا، وَقَوْلِهِ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ [27 20] وَقَوْلِهِ: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ [5 84] وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا لِارْتِفَاعِ قَبِيلَةٍ ... دَخَلُوا السَّمَاءَ دَخَلْتُهَا لَا أُحْجَبُ يَعْنِي دَخَلْتُهَا فِي حَالِ كَوْنِي غَيْرَ مَحْجُوبٍ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ: وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارِعٍ ثَبَتْ ... حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ فِي مَفْهُومِهِ تَفْصِيلٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ. التَّحْقِيقُ أَنَّ أَتْبَعَ وَاتَّبَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَقَوْلُهُ: فَـ أَتْبَعَهُمْ أَيِ: اتَّبَعَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 10] وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ الْآيَةَ [7 \ 175] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَسْرَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ [20 \ 78] أَيِ: الْبَحْرِ مَا غَشِيَهُمْ أَيْ: أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فِي الْبَحْرِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَتْبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ وَجُنُودُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَغْرَقَهُمْ فِي الْبَحْرِ أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 الْمَوْضِعِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [26 \ 52] يَعْنِي سَيَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ اتِّبَاعِهِ لَهُمْ فَقَالَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [26 \ 53 - 62] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «يُونُسَ» : وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا [10 \ 90] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» : فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [44 \ 23] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِتْبَاعِهِ لَهُمْ. وَأَمَّا غَرَقُهُ هُوَ وَجَمِيعُ قَوْمِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُنَا: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ. كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 63 - 67] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [136] وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [43 \ 55] وَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 50] وَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» : حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [10 \ 90] وَقَوْلِهِ فِي «الدُّخَانِ» : وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [44 \ 24] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [20 \ 78] يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [53 \ 16] وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [53 \ 53 - 54] وَقَوْلُهُ: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [53 \ 10] . وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَالْمَعْنَى: فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ مَا أَصَابَهُمْ وَهُوَ الْغَرَقُ، وَالْهَلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى. يَعْنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ أَضَلَّ قَوْمَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا كَذِبَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [40 29] وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [11 96 - 98] وَالنُّكْتَةُ الْبَلَاغِيَّةُ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَا هَدَى وَلَمْ يَقُلْ وَمَا هَدَاهُمْ، هِيَ مُرَاعَاةُ فَوَاصِلِ الْآيَاتِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [93 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: امْتِنَانَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّهُ وَاعَدَهُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ، وَالسَّلْوَى، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. وَلَا تَطْغَوْا فَيَغْضَبَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي امْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ فِي «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [2 49] وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [7 141] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» : وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [44 30 - 31] وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [14 6] وَقَوْلُهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 59] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [44 28] وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [7 137] وَقَوْلُهُ فِي «الْقَصَصِ» : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً إِلَى قَوْلِهِ يَحْذَرُونَ [28 6] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وَقَوْلُهُ هُنَا: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [20 80] الْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ الْآيَةَ [7 142] وَقَوْلُهُ: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً الْآيَةَ [2 51] وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا [20 86] وَهُوَ الْوَعْدُ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى قَدْ أَوْضَحَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [2 57] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [7 160] وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ: التَّرَنْجَبِينُ، وَهُوَ شَيْءٌ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَنُزُولِ النَّدَى ثُمَّ يَتَجَمَّدُ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْعَسَلَ الْأَبْيَضَ. وَالسَّلْوَى: طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. وَقِيلَ هُوَ السُّمَانَى. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي الْمَنِّ، وَالسَّلْوَى. وَقِيلَ: السَّلْوَى الْعَسَلُ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ إِطْلَاقَ السَّلْوَى عَلَى الْعَسَلِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ «السَّلْوَى» يُطْلَقُ عَلَى الْعَسَلِ لُغَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيِّ: وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا يَعْنِي أَلَذَّ مِنَ الْعَسَلِ إِذَا مَا نَسْتَخْرِجُهَا. لِأَنَّ النُّشُورَ: اسْتِخْرَاجُ الْعَسَلِ. قَالَ مُؤَرِّجُ بْنُ عُمَرَ السَّدُوسِيُّ: إِطْلَاقُ السَّلْوَى عَلَى الْعَسَلِ لُغَةُ كِنَانَةَ. سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَلِّي. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلْوَى. هَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَمْعٌ، وَاحِدُهُ سَلْوَاةٌ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ لِذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ وَيُرْوَى هَذَا الْبَيْتُ: كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى مُفْرَدٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. مِثْلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ سَلْوَى مِثْلَ جَمَاعَتِهِ. كَمَا قَالُوا: دِفْلَى وَسُمَانَى وَشُكَاعَى فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَالدِّفْلَى كَذِكْرَى: شَجَرٌ أَخْضَرُ مُرٌّ حَسَنُ الْمَنْظَرِ، يَكُونُ فِي الْأَوْدِيَةِ. والشُّكَاعَى كَحُبَارَى وَقَدْ تُفْتَحُ: نَوْعٌ مِنْ دَقِيقِ النَّبَاتِ صَغِيرٌ أَخْضَرُ، دَقِيقُ الْعِيدَانِ يُتَدَاوَى بِهِ. وَالسُّمَانَى: طَائِرٌ مَعْرُوفٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي الْمَنِّ: أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يَمُنُّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ، وَلَا تَعَبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّرَنْجَبِينُ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ. وَيَشْمَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُمَاثِلُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» . وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي السَّلْوَى: أَنَّهُ طَائِرٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ السُّمَانَى، أَوْ طَائِرٌ يُشْبِهُهُ، لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ عَلَى ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ السَّلْوَى، يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْعَسَلِ، كَمَا بَيَّنَّا. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [20 81] أَيْ: مِنَ الْمَنِّ، وَالسَّلْوَى، وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَالِامْتِنَانِ. وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [2 57] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [7 160] وَقَوْلِهِ: كُلُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ «مَا» أَيْ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ الَّذِي رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ أَيْ: فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ فِيمَا رَزَقَهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ بِأَنْ يَكْفُرُوا نِعْمَتَهُ بِهِ، وَيَشْغَلَهُمُ اللَّهْوُ وَالنَّعِيمُ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعَمِهِ، وَأَنْ يُنْفِقُوا رِزْقَهُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ فِي الْمَعَاصِي، أَوْ يَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ يَمْنَعُوا الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُهُ جَلَّ وَعَلَا، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَيَحِلَّ سَبَبِيَّةٌ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ بَعْدَ النَّهْيِ وَهُوَ طَلَبٌ مَحْضٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَبَعْدَ فَا جَوَابُ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ ... مَحْضَيْنِ أَنْ وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ الْكِسَائِيُّ «فَيَحُلَّ» بِضَمِّ الْحَاءِ (وَمَنْ يَحْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ. وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا يَحِلَّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيَحْلِلْ بِكَسْرِ اللَّامِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ (فَيَحُلَّ) بِالضَّمِّ أَيْ: يَنْزِلُ بِكُمْ غَضَبِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهُوَ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ بِالْكَسْرِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 إِذَا وَجَبَ، وَمِنْهُ حَلَّ دَيْنُهُ إِذَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ. وَمِنْهُ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 33] . وَقَوْلُهُ: فَقَدْ هَوَى أَيْ: هَلَكَ وَصَارَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيَهْلِكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هَوَى مِنْ رَأْسِ مَرْقَبَةٍ ... فَفَتَّتَ تَحْتَهَا كَبِدَهُ وَيَقُولُونَ: هَوَتْ أُمُّهُ، أَيْ: سَقَطَ سُقُوطًا لَا نُهُوضَ بَعْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ: هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا ... وَمَاذَا يَوَدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَئُوبُ وَنَحْوَ هَذَا هُوَ أَحَدُ التَّفْسِيرَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَعَنْ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ الْأَصْبَحِيِّ قَالَ: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ جَبَلًا يُدْعَى صَعُودًا يَطْلُعُ فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَرْقَاهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [74 17] وَإِنَّ فِي جَهَنَّمَ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ هَوَى، يُرْمَى الْكَافِرُ مِنْ أَعْلَاهُ فَيَهْوِي أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَصْلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ صِفَةٌ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ إِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ، تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. نُعَوْذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ فَنُصَدِّقُ رَبَّنَا فِي كُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ تَنْزِيهِنَا التَّامِّ لَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِمَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ «وَوَاعَدْنَاكُمْ وَأَنْجَيْنَاكُمْ» بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِلتَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (وَوَعَدْنَاكُمْ) بِلَا أَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، مِنَ الْوَعْدِ لَا مِنَ الْمُوَاعَدَةِ مَعَ نُونِ التَّعْظِيمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى. ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ غَفَّارٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ وَكُفْرِهِ، وَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [8 38] . وَقَوْلِهِ فِي الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5 74] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ الْآيَةَ [39 53 - 54] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى التَّوْبَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ اهْتَدَى أَيِ: اسْتَقَامَ وَثَبَتَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَمْ يَنْكُثْ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [41 30] وَفِي الْحَدِيثِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» . وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ الْآيَةَ [11 112] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى. أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى قِصَّةِ مُوَاعَدَتِهِ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَهَابِهِ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَاسْتِعْجَالِهِ إِلَيْهِ قَبْلَ قَوْمِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَاعَدَهُ رَبُّهُ وَجَعَلَ لَهُ الْمِيقَاتَ الْمَذْكُورَ، وَأَوْصَى أَخَاهُ هَارُونَ أَنْ يَخْلُفَهُ فِي قَوْمِهِ، اسْتَعْجَلَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ. الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي أَجْمَلَهَا هُنَا أَشَارَ لَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [7 142] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ مُوسَى لَيْسَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ رَبُّهُ، لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَعْجَلَهُ عَنْ قَوْمِهِ، وَالْجَوَابُ لَمْ يَأْتِ مُطَابِقًا لِذَلِكَ. لِأَنَّهُ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ: (مِنْهَا) : أَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي يَعْنِي هُمْ قَرِيبٌ وَمَا تَقَدَّمْتُهُمْ إِلَّا بِيَسِيرٍ يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ، فَكَأَنِّي لَمْ أَتَقَدَّمْهُمْ وَلَمْ أَعْجَلْ عَنْهُمْ لِقُرْبِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَمَّا خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ دَاخَلَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ، وَالْإِجْلَالِ، وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا أَذْهَلَهُ عَنِ الْجَوَابِ الْمُطَابِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وَقَوْلُهُ هُمْ أُولَاءِ الْمَدُّ فِيهِ لُغَةُ الْحِجَازِيِّينَ. وَرَجَّحَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْمَدُّ أَوْلَى. وَلُغَةُ التَّمِيمِيِّينَ «أُولَا» بِالْقَصْرِ، وَيَجُوزُ دُخُولُ اللَّامِ عَلَى لُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ فِي الْبُعْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أُولَالِكَا قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً ... وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلَّا أُولَالِكَا وَأَمَّا عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ بِالْمَدِّ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْفِتْنَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ عِبَادَتُهُمُ الْعِجْلَ. فَهِيَ فِتْنَةُ إِضْلَالٍ. كَقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [7 155] . وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. كَقَوْلِهِ: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [2 51] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ هُنَا: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَوْضَحَ كَيْفِيَّةَ إِضْلَالِهِ لَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ إِلَى قَوْلِهِ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [7 148] أَيِ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَقَدْ صَنَعَهُ السَّامِرِيُّ لَهُمْ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ فَأَضَلَّهُمْ بِعِبَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ هُنَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [20 88] وَالسَّامِرِيُّ: قِيلَ اسْمُهُ هَارُونُ، وَقِيلَ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظُفَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ. وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا مِنَ الْقِبْطِ. وَكَانَ جَارًا لِمُوسَى آمَنَ بِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ. وَقِيلَ: كَانَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسَّامِرَةِ وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالشَّامِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ مِنْ أَهْلِ كَرْمَانَ. وَالْفِتْنَةُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ لِيُتَبَيَّنَ أَهْوَ خَالِصٌ أَمْ زَائِفٌ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقَاتٍ مُتَعَدِّدَةً: (مِنْهَا) : الْوَضْعُ فِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [51 13] أَيْ: يُحْرَقُونَ بِهَا، وَقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [85 10] . أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 (وَمِنْهَا) : الِاخْتِبَارُ وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفِتْنَةِ. كَقَوْلِهِ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ الْآيَةَ [64 15] وَقَوْلِهِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [72 16 - 17] . (وَمِنْهَا) : نَتِيجَةُ الِاخْتِبَارِ إِذَا كَانَتْ سَيِّئَةٌ. وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [8 39] وَقَوْلِهِ هُنَا فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ الْآيَةَ [20 85] . (وَمِنْهَا) : الْحُجَّةُ، كَقَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 23] أَيْ: لَمْ تَكُنْ حُجَّتُهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أَسْنَدَ إِضْلَالَهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ بِصِيَاغَتِهِ لَهُمُ الْعِجْلَ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ وَرَمْيِهِ عَلَيْهِ التُّرَابَ الَّذِي مَسَّهُ حَافِرُ الْفَرَسِ الَّتِي جَاءَ عَلَيْهَا جِبْرِيلُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ وَقَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [7 148] . وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَعَلَ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ ذَلِكَ الْحُلِيَّ الْمَصُوغَ جَسَدًا مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عِجْلًا جَسَدًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصُّورَةُ لَحْمًا، وَلَا دَمًا، وَلَكِنْ إِذَا دَخَلَتْ فِيهَا الرِّيحُ صَوَّتَتْ كَخُوَارِ الْعِجْلِ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْجَمَادَ لَحْمًا وَدَمًا، كَمَا جَعَلَ آدَمَ لَحْمًا وَدَمًا وَكَانَ طِينًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ بَعْدَ مَجِيئِهِ لِلْمِيقَاتِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الرُّجُوعِ غَضْبَانَ أَسِفًا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ. وَقَوْلُهُ أَسِفًا أَيْ: شَدِيدَ الْغَضَبِ. فَالْأَسَفُ هُنَا: شِدَّةُ الْغَضَبِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ غَضْبَانَ أَسِفًا أَيْ: غَضْبَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَسَفِ عَلَى الْغَضَبِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الزُّخْرُفِ» فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [43 55] أَيْ: فَلَمَّا أَغْضَبُونَا بِتَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ مَعَ تَوَالِي الْآيَاتِ عَلَيْهِمُ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَسَفُ هُنَا الْحُزْنُ، وَالْجَزَعُ. أَيْ: رَجَعَ مُوسَى فِي حَالِ كَوْنِهِ غَضْبَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 حَزِينًا جَزِعًا لِكُفْرِ قَوْمِهِ بِعِبَادَتِهِمْ لِلْعِجْلِ. وَقِيلَ: أَسِفًا أَيْ: مُغْتَاظًا. وَقَائِلُ هَذَا يَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَضَبِ، وَالْغَيْظِ: أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْغَضَبِ، وَلَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِالْغَيْظِ. حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا حَاجَةَ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ غَضْبَانَ أَسِفًا حَالَانِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ التَّحْقِيقَ جَوَازُ تَعَدُّدِ الْحَالِ مِنْ صَاحِبٍ وَاحِدٍ مَعَ كَوْنِ الْعَامِلِ وَاحِدًا. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدٍ ... لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرِ مُفْرَدٍ وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ مِنْ كَوْنِ مُوسَى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ آثَارِ غَضَبِهِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [7 150] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ آثَارِ غَضَبِ مُوسَى إِلْقَاءَهُ الْأَلْوَاحَ الَّتِي فِيهَا التَّوْرَاةُ، وَأَخْذَهُ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [7 150] وَقَالَ فِي «طه» مُشِيرًا لِأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ: قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [الْآيَةَ 94] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ مُوسَى بِكُفْرِ قَوْمِهِ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [20 85] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَايَنَ قَوْمَهُ حَوْلَ الْعِجْلِ يَعْبُدُونَهُ أَثَّرَتْ فِيهِ مُعَايَنَةُ ذَلِكَ أَثَرًا لَمْ يُؤَثِّرْهُ فِيهِ الْخَبَرُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ، فَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» : وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَعَايَنَهُمْ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ قَالَ لَهُمْ: يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْوَعْدِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ وَعَدَهُمْ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ كِتَابًا فِيهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا الْوَعْدُ الْحَسَنُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ الْآيَةَ [20 80] وَفِيهِ أَقْوَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، يَعْنِي لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ. كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: (وما بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ) . لِأَنَّ طُولَ الْعَهْدِ مَظِنَّةُ النِّسْيَانِ، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ لَمْ يَطُلْ فَكَيْفَ نَسِيتُمْ؟ وَقَوْلُهُ: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «أَمْ» هُنَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَمَعْنَى إِرَادَتِهِمْ حُلُولَ الْغَضَبِ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يَسْتَوْجِبُ غَضَبَ رَبِّهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ. فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْغَضَبَ لَمَّا أَرَادُوا سَبَبَهُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَقَوْلُهُ: فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي كَانُوا وَعَدُوهُ أَنْ يَتْبَعُوهُ لَمَّا تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَأَنْ يَثْبُتُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعَبَدُوا الْعِجْلَ وَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْبَعُوا مُوسَى. فَأَخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِالْكُفْرِ وَعَدَمِ الذَّهَابِ فِي أَثَرِهِ، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ «بِمَلْكِنَا» بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «بِمُلْكِنَا» بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو «بِمِلْكِنَا» بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِأَنْ مَلَكْنَا أَمَرَنَا، فَلَوْ مَلَكْنَا أَمْرَنَا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ. وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا أَخْلَفُوا الْمَوْعِدَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ السَّامِرِيِّ وَكَيْدِهِ. وَهُوَ اعْتِذَارٌ بَارِدٌ سَاقِطٌ كَمَا تَرَى! وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ وَجْهُ الْعُذْرِ لَيْسَ بِبَيِّنٍ ... فَإِنَّ اطِّرَاحَ الْعُذْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعُذْرِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ. لِأَنَّهُمْ وَعَدُوهُ أَنْ يَتْبَعُوهُ، وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ عِبَادَةِ أَكْثَرِهِمْ لِلْعِجْلِ تَأَخَّرُوا عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَجَرَّءُوا عَلَى مُفَارَقَتِهِمْ خَوْفًا مِنَ الْفُرْقَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 فَالْعُذْرُ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [20 92] . وَالْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ بِمَلْكِنَا مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمَلْكِنَا أَمْرَنَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ بِمَلْكِنَا الصَّوَابَ بَلْ أَخْطَأْنَا. فَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِالْخَطَأِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ: الزَّمَانُ، يُرِيدُ مُدَّةَ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ. تَنْبيهٌ كُلُّ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فِي الْقُرْآنِ مَجْزُومٌ بِـ «لَمْ» إِذَا تَقَدَّمَتْهَا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامِ. كَقَوْلِهِ هُنَا: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُضَارَعَتَهُ تَنْقَلِبُ مَاضَوِيَّةً، وَنَفْيَهُ يَنْقَلِبُ إِثْبَاتًا. فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ بِمَعْنَى وَعَدَكُمْ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَعْنَى شَرَحْنَا، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ جَعَلْنَا لَهُ عَيْنَيْنِ. وَهَكَذَا. وَوَجْهُ انْقِلَابِ الْمُضَارَعَةِ مَاضَوِيَّةً ظَاهِرٌ، لِأَنَّ «لَمْ» حَرْفُ قَلْبٍ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَوَجْهُ انْقِلَابِ النَّفْيِ إِثْبَاتًا أَنَّ الْهَمْزَةَ إِنْكَارِيَّةٌ، فَهِيَ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ الْكَامِنُ فِيهَا عَلَى النَّفْيِ الصَّرِيحِ فِي «لَمْ» فَيَنْفِيهِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى الْإِثْبَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي ذَلِكَ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ فَيَقُولُ «بَلَى» وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا حَمَلُهُمْ عَلَى أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُوا بَلَى هَكَذَا. وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ جَرِيرٍ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحٍ فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا إِلَى قَوْلِهِ بِمَلْكِنَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِمْ فِي شِدَّةِ غَضَبٍ مِمَّا فَعَلُوا وَعَاتَبَهُمْ قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعِتَابِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الْآيَةَ [20 86] فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ عِتَابِهِ لَهُمْ لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا، وَكَذَلِكَ بَعْضُ فِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [7 150] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وَبَيَّنَ بَعْضَ مَا فَعَلَ بِقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [7 150] وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا فِي «طه» فِي قَوْلِهِ: قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [20 94] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ حَمَلْنَا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ مُبَيِّنًا لِلْفَاعِلِ مُجَرَّدًا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «حُمِّلْنَا» بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَ «نَا» عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَاعِلُ «حَمَلَ» وَعَلَى الثَّانِيَةِ نَائِبُ فَاعِلِ «حُمِّلَ» بِالتَّضْعِيفِ. وَالْأَوْزَارُ فِي قَوْلِهِ أَوْزَارًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهَا الْأَثْقَالُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهَا الْآثَامُ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا أَحْمَالٌ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا آثَامٌ وَتَبِعَاتٌ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْحَرْبِيِّ، وَلِأَنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ لَهُمْ. وَالتَّعْلِيلُ الْأَخِيرُ أَقْوَى. وَقَوْلُهُ: مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ الْحُلِيُّ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ [7 148] أَيْ: أَلَقَيْنَاهَا وَطَرَحْنَاهَا فِي النَّارِ الَّتِي أَوْقَدَهَا السَّامِرِيُّ فِي الْحُفْرَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَطْرَحَ الْحُلِيَّ فِيهَا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا جَمِيعَ الْحُلِيِّ فِي النَّارِ لِيَذُوبَ فَيَصِيرَ قِطْعَةً وَاحِدَةً. لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لِحِفْظِهِ حَتَّى يَرَى نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى فِيهِ رَأْيَهُ. وَالسَّامِرِيُّ يُرِيدُ تَدْبِيرَ خُطَّةٍ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ لِيَذْهَبَ بِمُوسَى إِلَى الْمِيقَاتِ وَكَانَ عَلَى فَرَسٍ، أَخَذَ السَّامِرِيُّ تُرَابًا مَسَّهُ حَافِرُ تِلْكَ الْفَرَسِ، وَيَزْعُمُونَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْضِعَ أَثَرِهَا يَنْبُتُ فِيهِ النَّبَاتُ، فَتَفَرَّسَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِيهَا خَاصِّيَّةَ الْحَيَاةِ، فَأَخَذَ تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ وَاحْتَفَظَ بِهَا، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَطْرَحُوا الْحُلِيَّ فِي النَّارِ لِيَجْعَلُوهُ قِطْعَةً وَاحِدَةً أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَجَعَلُوهُ فِيهَا، أَلْقَى السَّامِرِيُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ الْمَذْكُورَةَ، وَقَالَ لَهُ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. فَجَعَلَهُ اللَّهُ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ. فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْعِجْلُ هُوَ إِلَاهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [20 59] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ اعْتِذَارِهِمُ الْفَاسِدِ الْبَارِدِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ مِنَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَا مَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَبْعُدُ مَعَهُ احْتِمَالُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُعَيِّنُ كَوْنَ الِاعْتِذَارِ مِنْهُمْ تَعَيُّنًا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ عُذْرٌ لَا وَجْهَ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَنَسِيَ أَيْ: نَسِيَ مُوسَى إِلَهَهُ هُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ فَنَسِيَ أَيْ: نَسِيَ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فَنَسِيَ أَيِ: السَّامِرِيُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَصَارَ كَافِرًا بِادِّعَاءِ أُلُوهِيَّةِ الْعِجْلِ وَعِبَادَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَخَافَةَ عُقُولِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَكَيْفَ عَبَدُوا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ الْجَوَابِ لِمَنْ سَأَلَهُ، وَلَا يَمْلِكُ نَفْعًا لِمَنْ عَبَدَهُ، وَلَا ضَرًّا لِمَنْ عَصَاهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ النَّفْعِ، وَالضَّرَرِ وَرَدِّ الْجَوَابِ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [7 148] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مَنْ لَا يُكَلِّمُهُ، وَلَا يَهْدِيهِ سَبِيلًا إِلَهًا أَنَّهُ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [19 42] وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيْضًا: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [26 72] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [7 195] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 5 - 6] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [35 13] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى فِي هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي بَعْدَهَا أَدَاةُ عَطْفٍ كَالْفَاءِ، وَالْوَاوِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: أَفَلَا يَرَوْنَ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ أَلَّا يَرْجِعُ بِالرَّفْعِ لِأَنَّ «أَنْ» مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِالثَّقِيلَةِ فِي قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا فِي «الْأَعْرَافِ» : أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ الْآيَةَ [7 148] وَرَأَى فِي آيَةِ «طه، وَالْأَعْرَافِ» عَلَمِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ الْمَصُوغَ مِنَ الْحُلِيِّ لَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ: «أَنْ» لَهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «أَنْ» الْمَصْدَرِيَّةَ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. وَضَابِطُ هَذِهِ: أَنْ تَكُونَ بَعْدَ فِعْلِ الْعِلْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الْيَقِينِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى [73 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [72 \ 28] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِّرَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِعْلٌ مُضَارِعٌ فَإِنَّهُ يُرْفَعُ، وَلَا يُنْصَبُ كَقَوْلِهِ: عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُونَ فَجَادُوا ... قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوا بِأَعْظَمِ سُؤْلِ وَ «أَنْ» هَذِهِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ يَكُونُ اسْمُهَا مُسْتَكِنًّا غَالِبًا، وَالْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ. وَقِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُخَفَّفْ أَنَّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ ... وَالْخَبَرُ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ أَنْ وَمَا سُمِعَ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ مِنْ بُرُوزِ اسْمِهَا فِي حَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ فَمِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. كَقَوْلِ جَنُوبَ أُخْتِ عَمْرِو ذِي الْكَلْبِ: لَقَدْ عَلِمَ الضَّيْفُ وَالْمُرْمِلُونَ ... إِذَا اغْبَرَّ أُفْقٌ وَهَبَّتْ شَمَالًا بِأَنَّكَ رَبِيعٌ وَغَيْثٌ مُرْبِعٌ ... وَأَنَّكَ هُنَاكَ تَكُونُ الثِّمَالَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: فَلَوْ أَنَّكِ فِي يَوْمِ الرَّخَاءِ سَأَلْتِنِي ... طَلَاقَكِ لَمْ أَبْخَلْ وَأَنْتِ صَدِيقُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَكُونَ مُحْتَمِلَةً لِكَوْنِهَا الْمَصْدَرِيَّةَ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ. وَمُحْتَمِلَةً لِأَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَإِنْ جَاءَ بَعْدَهَا فِعْلٌ مُضَارِعٌ جَازَ نَصْبُهُ لِلِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَرَفْعُهُ لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ الْقِرَاءَتَانِ السَّبْعِيَّتَانِ فِي قَوْلِهِ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [5] ، بِنَصْبِ «تَكُونَ» وَرَفْعِهِ، وَضَابِطُ «أَنْ» هَذِهِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ فِعْلٍ يَقْتَضِي الظَّنَّ وَنَحْوِهِ مِنْ أَفْعَالِ الرُّجْحَانِ. وَإِذَا لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ فَاصْلٌ فَالنَّصْبُ أَرْجَحُ، وَلِذَا اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الْآيَةَ [29 \ 2] وَقِيلَ: إِنَّ «أَنْ» الْوَاقِعَةَ بَعْدَ الشَّكِّ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا النَّصْبُ. نَقَلَهُ الصَّبَّانُ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ أَبِي حَيَّانَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ السُّيُوطِيِّ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ «أَنْ» لَيْسَتْ بَعْدَ مَا يَقْتَضِي الْيَقِينَ، وَلَا الظَّنَّ وَلَمْ يَجْرِ مَجْرَاهُمَا، فَهِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِلَى الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ كَذَا بِأَنْ ... لَا بَعْدَ عِلْمٍ وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنَّ فَانْصِبْ بِهَا وَالرَّفْعَ صَحِّحْ وَاعْتَقِدْ ... تَخَفِيفَهَا مِنْ أَنَّ فَهْوَ مُطَّرِدْ تَنْبِيهٌ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِجْلَ لَوْ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ لَكَانَ إِلَهًا. لِأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ، فَفَوَاتُ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقْتَضِي فَوَاتَ الْمَشْرُوطِ، وَلَكِنَّ حُصُولَ الْوَاحِدِ فِيهَا لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَشْرُوطِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. فَكُلُّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى شَرْطَيْنِ فَصَاعِدًا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ. فَلَوْ قُلْتَ لِعَبْدِكَ: إِنْ صَامَ زَيْدٌ وَصَلَّى وَحَجَّ فَأَعْطِهِ دِينَارًا. لَمْ يَجُزْ لَهُ إِعْطَاؤُهُ الدِّينَارَ إِلَّا بِالشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ. وَمَحَلُّ هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُ الشُّرُوطِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ وَاحِدٌ. فَلَوْ قُلْتَ لِعَبْدِكَ: إِنْ صَامَ زَيْدٌ أَوْ صَلَّى فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا. فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ إِعْطَاءَ الدِّرْهَمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ الْمُخَصَّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعَلَّقَ عَلَى شَرْطَيْنِ شَيْءٌ ... فَبِالْحُصُولِ لِلشَّرْطَيْنِ وَمَا عَلَى الْبَدَلِ قَدْ تَعَلَّقَا ... فَبِحُصُولِ وَاحِدٍ تَحَقَّقَا وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ عَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ هَذَا الْعِجْلَ اسْمُهُ يَهْمُوتِ. وَحَاصِلُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ: أَنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنْ زِينَةِ الْقِبْطِ فَأَلْقَوْهَا عَنْهُمْ وَعَبَدُوا الْعِجْلَ، فَتَوَرَّعُوا عَنِ الْحَقِيرِ وَفَعَلُوا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍ: أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ. يَعْنِي هَلْ يُصَلِّي فِيهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَعْنِي الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) وَهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضَةِ انْتَهَى مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا فَتَنَهُمُ السَّامِرِيُّ وَأَضَلَّهُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، نَصَحَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ هَارُونُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ فِتْنَةٌ فُتِنُوا بِهَا. أَيْ: كُفْرٌ وَضَلَالٌ ارْتَكَبُوهُ بِذَلِكَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَبَّهُمُ الرَّحْمَنُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ عِجْلًا مُصْطَنَعًا مِنْ حُلِيٍّ لَا يَعْبُدُهُ إِلَّا مَفْتُونٌ ضَالٌّ كَافِرٌ. وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَفَاءِ بِمَوْعِدِ مُوسَى عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنْ يُطِيعُوهُ فِي ذَلِكَ. فَصَارَحُوهُ بِالتَّمَرُّدِ، وَالْعِصْيَانِ، وَالدَّيْمُومَةِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ مَعَهُمْ غَايَةَ جُهْدِهِ وَطَاقَتِهِ، وَأَنَّهُمُ اسْتَضْعَفُوهُ وَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُطِيعُوهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [7 \ 150] ،. فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي خِطَابِهِمْ لَهُ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِضْعَافِهِمْ لَهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَيْهِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ مَا نَصُّهُ: وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ: مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا الْفَقِيهُ فِي مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ؟ وَاعْلَمْ حَرَسَ اللَّهُ مُدَّتَهُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ رِجَالٍ فَيُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُوقِعُونَ بِالْقَضِيبِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَدِيمِ، وَيَقُومُ بَعْضُهُمْ يَرْقُصُ وَيَتَوَاجَدُ حَتَّى يَقَعَ مُغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَيُحْضِرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ. هَلَ الْحُضُورُ مَعَهُمْ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ: يَا شَيْخُ كُفَّ عَنِ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالزَّلَلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 وَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ صَالِحًا ... مَا دَامَ يَنْفَعُكَ الْعَمَلْ أَمَّا الشَّبَابُ فَقَدْ مَضَى ... وَمَشِيبُ رَأْسِكَ قَدْ نَزَلْ وَفِي مِثْلِ هَذَا وَنَحْوِهِ الْجَوَابُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ: مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ بَطَالَةٌ وَجَهَالَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَمَا الْإِسْلَامُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الرَّقْصُ، وَالتَّوَاجُدُ: فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجَلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، قَامُوا يَرْقُصُونَ حَوَالَيْهِ، وَيَتَوَاجَدُونَ، فَهُوَ دِينُ الْكُفَّارِ وَعِبَادَةُ الْعِجْلِ. وَأَمَّا الْقَضِيبُ: فَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهُ الزَّنَادِقَةُ لِيَشْغَلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ مِنَ الْوَقَارِ. فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ، وَغَيْرِهَا. وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ، وَلَا أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْحَقِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِذَلِكَ عَالَجُوا أَمْرَاضَ قُلُوبِهِمْ وَحَرَسُوهَا، وَرَاقَبُوهَا وَعَرَفُوا أَحْوَالَهَا، وَتَكَلَّمُوا عَلَى أَحْوَالِ الْقُلُوبِ كَلَامًا مُفَصَّلًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، أَوِ ابْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، أَوِ ابْنِ عَسْكَرٍ أَعْنِي أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ، وَكَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ حَكَمُ الْأُمَّةِ، وَأَضْرَابِهِمَا، وَكَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ، أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ، وَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَنْ سَارَ عَلَى مِنْوَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَالَجُوا أَمْرَاضَ أَنْفُسِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَحِيدُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ أَشْيَاءٌ تُخَالِفُ الشَّرْعَ. فَالْحُكْمُ بِالضَّلَالِ عَلَى جَمِيعِ الصُّوفِيَّةِ لَا يَنْبَغِي، وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمِيزَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ فِي ذَلِكَ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهَدْيِهِ وَسَمْتِهِ، كَمَنْ ذَكَرْنَا وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ الضَّالُّ. نَعَمْ، صَارَ الْمَعْرُوفُ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ، أَنَّ عَامَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ دَجَاجِلَةٌ يَتَظَاهَرُونَ بِالدِّينِ لِيُضِلُّوا الْعَوَامَّ الْجَهَلَةَ وَضِعَافَ الْعُقُولِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، لِيَتَّخِذُوا بِذَلِكَ أَتْبَاعًا وَخَدَمًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 وَأَمْوَالًا وَجَاهًا، وَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ الْحَقِّ، لَا يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَاسْتِعْمَارُهُمْ لِأَفْكَارِ ضِعَافِ الْعُقُولِ أَشَدُّ مِنِ اسْتِعْمَارِ كُلِّ طَوَائِفِ الْمُسْتَعْمِرِينَ. فَيَجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْهُمْ، وَالِاعْتِصَامُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بَعْضُ الْخَوَارِقِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَطِيرُ ... وَفَوْقَ مَاءِ الْبَحْرِ قَدْ يَسِيرُ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ ... فَإِنَّهُ مُسْتَدْرِجٌ أَوْ بِدْعِي وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [4 \ 123] ، فَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَمُتَصَوِّفَةِ آخِرِ الزَّمَانِ فَهُوَ الضَّالُّ. وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي. نَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّا يُزِيغَنَا، وَلَا يُضِلَّنَا عَنِ الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي هِيَ مَحَجَّةٌ بَيْضَاءُ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «لَا» فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّبِعَنِي زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] ، قَالَ لِأَنَّ الْمُرَادَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي سُورَةِ «ص» : قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ [38] . فَحَذَفَ لَفْظَةَ «لَا» فِي «ص» مَعَ ثُبُوتِهَا فِي «الْأَعْرَافِ» ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ عُرِفَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ لَفْظَةِ «لَا» فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ لِتَوْكِيدِهِ مُطَّرِدَةٌ. كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَيْ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتْبَعَنِي، وَقَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي «ص» : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْآيَةَ [57 \ 29] . أَيْ: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَوْلِهِ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [4 \ 65] ، أَيْ فَوَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [41] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 أَيْ: وَالسَّيِّئَةُ، وَقَوْلِهِ: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [21 \ 95] ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [6 \ 109] ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَوْلُهُ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا الْآيَةَ [6 \ 151] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهَا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرْ يَعْنِي فَوَأَبِيكِ. وَقَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمِطَ الْقَفَنْدَرَا يَعْنِي أَنْ تَسْخَرَ، وَقَوْلُ الْآخَرَ: مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمُ ... وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ يَعْنِي وَعُمَرُ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَتَلْحَيْنَنِي فِي اللَّهْوِ أَلَّا أُحِبَّهُ ... وَلِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ يَعْنِي أَنْ أُحِبَّهُ، وَ «لَا» مَزِيدَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَبْيَاتِ لِتَوْكِيدِ الْجَحْدِ فِيهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا لَا تُزَادُ إِلَّا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَحْدِ النَّفْيُ وَمَا يُشْبِهُ كَالْمَنْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ [20 \ 89] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَنَّ زِيَادَةَ لَفْظَةِ «لَا» لِتَوْكِيدِ الْكَلَامِ وَتَقْوِيَتِهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ أَغْلَبُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسْمُوعٌ فِي غَيْرِهِ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِزِيَادَةِ «لَا» قَوْلَ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ: أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ ... غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ وَيُرْوَى «أَفَمِنْكَ» بَدَلَ «أَفَعَنْكَ» وَ «تَشَيَّمَهُ» بَدَلَ «تَسَنَّمَهُ» يَعْنِي أَعَنْكَ بَرْقٌ بِـ «لَا» زَائِدَةٍ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْجَهْدِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ يَعْنِي كَادَ يَتَقَطَّعُ. وَأَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ لِزِيَادَةِ «لَا» قَوْلَ الْعَجَّاجِ: فِي بِئْرِ لَا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ ... بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ وَالْحُورُ الْهَلَكَةُ. يَعْنِي فِي بِئْرِ هَلَكَةٍ، وَلَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي. الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَهُ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [7 \ 142] . وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] ، فَجَعَلَ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَانِعًا مِنَ الِاخْتِيَارِ، مُوجِبًا لِلِامْتِثَالِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] ، فَوَبَّخَهُ هَذَا التَّوْبِيخَ الشَّدِيدَ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ افْعُلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [20 \ 116] ،. وَجَمَاهِيرُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مُمَاثِلٌ لَهَا. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَافْعَلْ لَدَى الْأَكْثَرِ لِلْوُجُوبِ ... وَقِيلَ لِلنَّدْبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ . . إِلَخْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَارُونَ قَالَهُ لِأَخِيهِ مُوسَى يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ [7 \ 150] ،. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [20 \ 94] ، مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ هَارُونَ. أَيْ: خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ تَقُولَ لِي لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أَيْ: لَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي وَتَمْتَثِلْ أَمْرِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 تَنْبيهٌ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِضَمِيمَةِ آيَةِ «الْأَنْعَامِ» إِلَيْهَا تَدُلُّ عَلَى لُزُومِ إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، فَهِيَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ عَلَى إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ وَعَدَمِ حَلْقِهَا. وَآيَةُ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ الْآيَةَ [6 \ 84] . ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ أَنْ عَدَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكِرَامَ الْمَذْكُورِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَارُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ أَمْرٌ لَنَا. لِأَنَّ أَمْرَ الْقُدْوَةِ أَمْرٌ لِأَتْبَاعِهِ كَمَا بَيَّنَّا إِيضَاحَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: مِنْ أَيْنَ أُخِذَتِ السَّجْدَةُ فِي «ص» قَالَ: أَوْ مَا تَقْرَأُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ [6 \ 84] ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6] ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا عَلِمْتَ بِذَلِكَ أَنَّ هَارُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَمْرَهُ أَمْرٌ لَنَا. لِأَنَّ لَنَا فِيهِ الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ، وَعَلِمْتَ أَنَّ هَارُونَ كَانَ مُوَفِّرًا شَعْرَ لِحْيَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِأَخِيهِ: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَالِقًا لَمَا أَرَادَ أَخُوهُ الْأَخْذَ بِلِحْيَتِهِ تَبَيَّنَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ بِإِيضَاحٍ: أَنَّ إِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ مِنَ السَّمْتِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ سَمْتُ الرُّسُلِ الْكِرَامِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَالْعَجَبُ مِنَ الَّذِينَ مَضَخَتْ ضَمَائِرُهُمْ، وَاضْمَحَلَّ ذَوْقُهُمْ، حَتَّى صَارُوا يَفِرُّونَ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورِيَّةِ، وَشَرَفِ الرُّجُولَةِ، إِلَى خُنُوثَةِ الْأُنُوثَةِ، وَيُمَثِّلُونَ بِوُجُوهِهِمْ بِحَلْقِ أَذْقَانِهِمْ، وَيَتَشَبَّهُونَ بِالنِّسَاءِ حَيْثُ يُحَاوِلُونَ الْقَضَاءَ عَلَى أَعْظَمِ الْفَوَارِقِ الْحِسِّيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى وَهُوَ اللِّحْيَةُ. وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثَّ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ أَجْمَلُ الْخَلْقِ وَأَحْسَنُهُمْ صُورَةً. وَالرِّجَالُ الَّذِينَ أَخَذُوا كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَدَانَتْ لَهُمْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا: لَيْسَ فِيهِمْ حَالِقٌ. نَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُرِيَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُؤْمِنِينَ الْحَقَّ حَقًّا، وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ، وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا وَيَرْزُقَنَا اجْتِنَابَهُ. أَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، فَلَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِهَا لِشُهْرَتِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكَثْرَةِ الرَّسَائِلِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَصَدْنَا هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ دَلِيلَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا قَالَ هَارُونُ لِأَخِيهِ قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ أَشَدُّ عَطْفًا وَحَنَانًا مِنْ قَرَابَةِ الْأَبِ. وَأَصْلُهُ يَا ابْنَ أُمِّي بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَطَّرِدُ حَذْفُ الْيَاءِ وَإِبْدَالُهَا أَلِفًا وَحَذْفُ الْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنْهَا كَمَا هُنَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَفَتْحٌ أَوْ كَسْرٌ وَحَذْفُ الْيَا اسْتَمَرْ ... فِي يَا بْنَ أُمَّ يَا بْنَ عَمَّ لَا مَفَرْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وَأَمَّا ثُبُوتُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَقُولُ حَرْمَلَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شَقِيقِيَ ... نَفْسِي أَنْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ فَلُغَةٌ قَلِيلَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَقَوْلُهُ «يَا ابْنَ أُمَّ» قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ [7 \ 150] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ السَّامِرِيُّ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَاهًا؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَرَ الْإِلَهَ أَيِ: الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ بِـ إِنَّمَا الَّتِي هِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي خَالِقِ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ. الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِالْحَقِّ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَهُوَ الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَقَوْلُهُ عِلْمًا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ تَعَالَى. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [3 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [47 \ 19] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ فِي إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [6 \ 59] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ. الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَذَلِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا سَبَقَ قَصَصًا مِثْلَ ذَلِكَ الْقَصَصِ الْحَسَنِ الْحَقِّ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، وَعَنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، وَالسَّامِرِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ لِلتَّبْعِيضِ، وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يُقْصَصْ عَلَيْهِ خَبَرُهُ وَيَدُلُّ لِهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 الْمَفْهُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» : وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [4 \ 164] ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [40 \ 78] ، قَوْلُهُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [14 \ 9] ،. وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ قَصَّ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَارَ الْمَاضِينَ. أَيْ: لِيُبَيِّنَ بِذَلِكَ صِدْقَ نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ، وَلَا يَقْرَأُ الْكُتُبَ، وَلَمْ يَتَعَلَّمْ أَخْبَارَ الْأُمَمِ وَقِصَصَهُمْ. فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ لَمَا عَلِمَهُ. بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [3 \ 44] ، أَيْ: فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْكَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لَكَ عِلْمٌ بِهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «هُودٍ» تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [11 \ 49] ، وَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» أَيْضًا: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ الْآيَةَ [11 \ 120] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُوسُفَ» : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [12 \ 102] ، وَقَوْلِهِ فِي «يُوسُفَ» أَيْضًا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [12 \ 3] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [28 \ 44] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [28 \ 46] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [28 \ 45] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. يَعْنِي لَمْ تَكُنْ حَاضِرًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِتِلْكَ الْوَقَائِعِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْكَ ذَلِكَ لَمَا عَلِمْتَهُ. وَقَوْلِهِ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ أَيْ: أَخْبَارِ مَا مَضَى مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَالرُّسُلِ. قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا. أَيْ: أَعْطَيْنَاكَ مِنْ عِنْدِنَا ذِكْرًا وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [21 \ 50] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [3 \ 58] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [21 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [15 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الْآيَةَ [43 \ 44] وَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَذْكُرُ أَنْوَاعَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ تَعَالَى. فَفِيهِ التَّذْكِيرُ، وَالْمَوَاعِظُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فِيهِ الذِّكْرُ، وَالشَّرَفُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [43 \ 44] ،. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى كُلَّ كُتُبِهِ ذِكْرًا فَقَالَ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [21 \ 7] ، اهـ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ. وَيَدُلُّ لِلْوَجْهِ الثَّانِي فِي كَلَامِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا. [20 \ 113] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، أَيْ: صَدَّ وَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالْآدَابِ، وَالْمَكَارِمِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَيَعْتَبِرُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَصَصِ، وَالْأَمْثَالِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُرِيدُ بِالْوِزْرِ الْعُقُوبَةَ الثَّقِيلَةَ الْبَاهِظَةَ. سَمَّاهَا وِزْرًا تَشْبِيهًا فِي ثِقَلِهَا عَلَى الْمُعَاقَبِ وَصُعُوبَةِ احْتِمَالِهَا، بِالْحِمْلِ الَّذِي يَفْدَحُ الْحَامِلَ وَيَنْقُضُ ظَهْرَهُ، وَيُلْقِي عَلَيْهِ بِوِزْرِهِ. أَوْ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْوِزْرِ وَهُوَ الْإِثْمُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: عَلَى أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ. أَيْ: أَثْقَالَ ذُنُوبِهِمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ. كَقَوْلِهِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [6 \ 31] ، وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [16 \ 25] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [29 \ 13] ، وَقَوْلِهِ فِي «فَاطِرٍ» : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [35 \ 18] ،. وَبِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا [20 \ 100] ، وَقَوْلِهِ: وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا [20 \ 101] ، أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوِزْرِ الْمَحْمُولِ أَثْقَالُ ذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُونَهَا: سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ أَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةُ تَتَجَسَّمُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ وَأَنْتَنِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَمَلَ «سَاءَ» الَّتِي بِمَعْنَى بِئْسَ مِرَارًا. فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: خَالِدِينَ فِيهِ يُرِيدُ مُقِيمِينَ فِيهِ، أَيْ: فِي جَزَائِهِ، وَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ. تَنْبِيهٌ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَعْرَضَ وَقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ وَقَوْلِهِ: يَحْمِلُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ «مَنْ» وَأَمَّا جَمْعُ خَالِدِينَ وَضَمِيرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى مِنْ. كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [20 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا الْآيَةَ [72 \ 23] . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: اللَّامُ فِي «لَهُمْ» مَا هِيَ؟ وَبِمَ تَتَعَلَّقُ؟ قُلْتُ: هِيَ لِلْبَيَانِ كَمَا فِي هَيْتَ لَكَ. [12 \ 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْجِبَالِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 إِنَّ رَبَّهُ يَنْسِفُهَا نَسْفًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْلَعَهَا مِنْ أُصُولِهَا، ثُمَّ يَجْعَلَهَا كَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ الَّذِي يَسِيلُ، وَكَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ تُطَيِّرُهَا الرِّيَاحُ هَكَذَا وَهَكَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ الْأَحْوَالَ الَّتِي تَصِيرُ إِلَيْهَا الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْزِعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا وَيَحْمِلُهَا فَيَدُكُّهَا دَكًّا. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [69 \ 13 - 14] ،. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يُسَيِّرُهَا فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [27 \ 87 - 88] ، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً الْآيَةَ [18 \ 47] وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [81 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [52 \ 9 - 10] ،. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يُفَتِّتُهَا وَيَدُقُّهَا كَقَوْلِهِ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أَيْ: فُتِّتَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْبَسِيسَةِ، وَهِيَ دَقِيقٌ مَلْتُوتٌ بِسَمْنٍ أَوْ نَحْوِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَقَوْلِهِ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [69 \ 14] ،. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ يُصَيِّرُهَا كَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ، وَكَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ؟ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [73 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [70 \ 9] ، فِي «الْمَعَارِجِ، وَالْقَارِعَةِ» . وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ: كَأَنَّ فُتَاتَ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا تَصِيرُ كَالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ فِي قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [56 \ 5 - 6] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا تَصِيرُ سَرَابًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ السَّرَابَ لَا شَيْءَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْسِفُهَا نَسْفًا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [20 \ 105] ،. تَنْبِيهٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَسْأَلُونَكَ قَالَ لَهُ قُلْ بِغَيْرِ فَاءٍ. كَقَوْلِهِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الْآيَةَ [17 \ 85] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ الْآيَةَ [2 \ 219] وَقَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ الْآيَةَ [2 \ 215] وَقَوْلِهِ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ الْآيَةَ [5 \ 4] وَقَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [2 \ 217] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ فَقَالَ فِيهَا: فَقُلْ يَنْسِفُهَا [20 \ 105] بِالْفَاءِ. وَقَدْ أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ هَذَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا نَصُّهُ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ أَيْ: عَنْ حَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقُلْ. جَاءَ هَذَا بِفَاءٍ، وَكُلُّ سُؤَالٍ فِي الْقُرْآنِ «قُلْ» بِغَيْرِ فَاءٍ إِلَّا هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ سَأَلُوكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ، فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنْهَا فَأَجَابَهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ. وَتِلْكَ أَسْئِلَةٌ تَقَدَّمَتْ، سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ الْجَوَابُ عَقِبَ السُّؤَالِ. فَلِذَلِكَ كَانَ بِغَيْرِ فَاءٍ. وَهَذَا سُؤَالٌ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ بَعْدُ فَتَفَهَّمْهُ انْتَهَى مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُهَا فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَنَظِيرُ هَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [35 \ 45] ، وَقَوْلُهُ: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [16 \ 16] ، فَالضَّمِيرُ فِيهِمَا رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا شَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْقُرْآنِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنَابِتِ الْجِبَالِ الَّتِي هِيَ مَرَاكِزُهَا وَمَقَارُّهَا لِأَنَّهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ ذِكْرِ الْجِبَالِ. وَالْمَعْنَى: فَيَذَرُ مَوَاضِعَهَا الَّتِي كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ قَاعًا صَفْصَفًا. وَالْقَاعُ: الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ. وَالصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِي الْأَمْلَسُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَلَا بِنَاءَ، فَإِنَّهُ عَلَى صَفٍّ وَاحِدٍ فِي اسْتِوَائِهِ. وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الْأَعْشَى: وَكَمْ دُونَ بَيْتِكَ مِنْ صَفْصَفٍ ... وَدَكْدَاكِ رَمْلٍ وَأَعْقَادِهَا وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَمَلْمُومَةٌ شَهْبَاءُ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... شَمَارِيخَ مِنْ رَضْوَى إِذًا عَادَ صَفْصَفًا وَقَوْلُهُ: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [20 \ 107] ، أَيْ: لَا اعْوِجَاجَ فِيهَا، وَلَا أَمْتَ. وَالْأَمْتُ: النُّتُوءُ الْيَسِيرُ. أَيْ: لَيْسَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ، وَلَا ارْتِفَاعٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، بَلْ هِيَ مُسْتَوِيَةٌ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَمْتِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُ لَبِيَدٍ: فَاجْرَمَّزَتْ ثُمَّ سَارَتْ وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... فِي كَافِرٍ مَا بِهِ أَمْتٌ، وَلَا شَرَفٌ وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَأَبْصَرَتْ لَمْحَةً مِنْ رَأْسِ عِكْرِشَةٍ ... فِي كَافِرٍ مَا بِهِ أَمْتٌ وَلَا عِوَجٌ وَالْكَافِرُ فِي الْبَيْتَيْنِ: قِيلَ اللَّيْلُ. وَقِيلَ الْمَطَرُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَيْنَ مِنْ رُؤْيَةِ الِارْتِفَاعِ، وَالِانْحِدَارِ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْعِوَجِ، وَالْعَوَجِ فَقَالُوا. الْعِوَجُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي، وَالْعَوَجِ بِالْفَتْحِ فِي الْأَعْيَانِ. وَالْأَرْضُ عَيْنٌ، فَكَيْفَ صَحَّ فِيهَا الْمَكْسُورُ الْعَيْنِ؟ قُلْتُ اخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ لَهُ مَوْقِعٌ حَسَنٌ بَدِيعٌ فِي وَصْفِ الْأَرْضِ بِالِاسْتِوَاءِ، وَالْمَلَاسَةِ، وَنَفْيِ الِاعْوِجَاجِ عَنْهَا عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ. وَذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ عَمَدْتَ إِلَى قِطْعَةِ أَرْضٍ فَسَوَّيْتَهَا، وَبَالَغْتَ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى عَيْنِكِ وَعُيُونِ الْبُصَرَاءِ مِنَ الْفِلَاحَةِ، وَاتَّفَقْتُمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ قَطُّ، ثُمَّ اسْتَطْلَعْتَ رَأْيَ الْمُهَنْدِسِ فِيهَا، وَأَمَرْتَهُ أَنْ يَعْرِضَ اسْتِوَاءَهَا عَلَى الْمَقَايِيسِ الْهَنْدَسِيَّةِ لَعَثَرَ فِيهَا عَلَى عِوَجٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَا يُدْرَكُ ذَلِكَ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَلَكِنْ بِالْقِيَاسِ الْهَنْدَسِيِّ، فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ الْعِوَجَ الَّذِي دَقَّ وَلَطُفَ عَنِ الْإِدْرَاكِ، اللَّهُمَّ إِلَّا بِالْقِيَاسِ الَّذِي يَعْرِفُهُ صَاحِبُ التَّقْدِيرِ، وَالْهَنْدَسَةِ، وَذَلِكَ الِاعْوِجَاجُ لَمَّا لَمْ يُدْرَكْ إِلَّا بِالْقِيَاسِ دُونَ الْإِحْسَاسِ لَحِقَ بِالْمَعَانِي فَقِيلَ فِيهِ: عِوَجٌ بِالْكَسْرِ، وَالْأَمْتُ: النُّتُوءُ الْيَسِيرُ، يُقَالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتَّى مَا فِيهِ أَمْتٌ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ مَا يُغْنِي عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا. قَوْلُهُ يَوْمَئِذٍ أَيْ: يَوْمَ إِذْ نُسِفَتِ الْجِبَالُ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ. وَالدَّاعِي: هُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحُضُورِ لِلْحِسَابِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُنَادِيهِمْ أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ، وَالْأَوْصَالُ الْمُتَفَرِّقَةُ، وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ، قُومِي إِلَى رَبِّكِ لِلْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ، فَيَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَيَتْبَعُونَهُ. وَمَعْنَى لَا عِوَجَ لَهُ: أَيْ: لَا يَحِيدُونَ عَنْهُ، وَلَا يَمِيلُونَ يَمِينًا، وَلَا شِمَالًا. وَقِيلَ: لَا عِوَجَ لِدُعَاءِ الْمَلَكِ عَنْ أَحَدٍ، أَيْ: لَا يَعْدِلُ بِدُعَائِهِ عَنْ أَحَدٍ، بَلْ يَدْعُوهُمْ جَمِيعًا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ لِلدَّاعِي لِلْحِسَابِ، وَعَدَمِ عُدُولِهِمْ عَنْهُ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَزَادَ أَنَّهُمْ يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [54 \ 6 - 8] ، وَالْإِهْطَاعُ: الْإِسْرَاعُ: وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [50 \ 41 - 42] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ الْآيَةَ [17 \ 52] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ أَيْ: خُفِّضَتْ وَخَفُتَتْ، وَسَكَنَتْ هَيْبَةً لِلَّهِ، وَإِجْلَالًا وَخَوْفًا فَلَا تَسْمَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَوْتًا عَالِيًا، بَلْ لَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا أَيْ: صَوْتًا خَفِيًّا خَافِتًا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. أَوْ إِلَّا هَمْسًا أَيْ: إِلَّا صَوْتَ خَفْقِ الْأَقْدَامِ وَنَقْلِهَا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَالْهَمْسُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْخَفَاءِ، فَيَشْمَلُ خَفْضَ الصَّوْتِ وَصَوْتَ الْأَقْدَامِ. كَصَوْتِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا يَابِسُ النَّبَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [78 \ 37] . وَقَوْلُهُ هُنَا: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ الْآيَةَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي «مَرْيَمَ» ، وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا. قَوْلُهُ: عَنَتِ أَيْ: ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عَنَا يَعْنُو عُنُوًّا وَعَنَاءً: إِذْ ذَلَّ وَخَضَعَ، وَخَشَعَ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ عَانٍ لِذُلِّهِ وَخُضُوعِهِ لِمَنْ أَسَرَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ: مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَعَنَا لَهُ وَجْهِي وَخَلْقِي كُلُّهُ ... فِي السَّاجِدِينَ لِوَجْهِهِ مَشْكُورًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ الَّتِي ذَلَّتْ وَخَشَعَتْ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ: وُجُوهُ الْعُصَاةِ خَاصَّةً وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَأَسْنَدَ الذُّلَّ، وَالْخُشُوعَ لِوُجُوهِهِمْ، لِأَنَّ الْوَجْهَ تَظْهَرُ فِيهِ آثَارُ الذُّلِّ، وَالْخُشُوعِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [67 \ 27] وَقَوْلُهُ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [75 \ 24] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [88 \ 2 - 4] ،، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ انْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِبَعْضِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ: أَيْ: ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعِ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ الْخَلَائِقِ تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَامَاتُ الذُّلِّ، وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ: خَسِرَ مَنْ حَمَلَ شِرْكًا. وَتَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى تَسْمِيَةِ الشِّرْكِ ظُلْمًا. كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الْآيَةَ [6 \ 82] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الظُّلْمَ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [20 \ 111] ، يَعُمُّ الشِّرْكَ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَعَاصِي. وَخَيْبَةُ كُلِّ ظَالِمٍ بِقَدْرِ مَا حَلَّ مِنَ الظُّلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ الْحَيُّ: الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا. وَالْقَيُّومُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ. لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَقِيلَ: الْقَيُّومُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِرَبِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ ظُلْمًا، وَلَا هَضْمًا. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [60 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18 \ 49] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ. وَفَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ الظُّلْمِ، وَالْهَضْمِ بِأَنَّ الظُّلْمَ الْمَنْعُ مِنَ الْحَقِّ كُلِّهِ. وَالْهَضْمَ: النَّقْصُ وَالْمَنْعُ مِنْ بَعْضِ الْحَقِّ. فَكُلُّ هَضْمٍ ظُلْمٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْهَضْمِ عَلَى مَا ذُكِرَ قَوْلُ الْمُتَوَكِّلِ اللَّيْثِيِّ: إِنَّ الْأَذِلَّةَ وَاللِّئَامَ لَمَعْشَرٌ ... مَوْلَاهُمُ الْمُنْهَضِمُ الْمَظْلُومُ فَالْمُنْهَضِمُ: اسْمُ مَفْعُولٍ تَهْضِمُهُ إِذَا اهْتَضَمَهُ فِي بَعْضِ حُقُوقِهِ وَظَلَمَهُ فِيهَا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ [20 \ 111] ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ مَرْفُوعًا، وَلَا نَافِيَةٍ. أَيْ: فَهُوَ لَا يَخَافُ، أَوْ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ «فَلَا يَخَفْ» بِالْجَزْمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ. وَعَلَيْهِ فَـ «لَا» نَاهِيَةٌ جَازِمَةُ الْمُضَارِعِ. وَقَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ مَجْزُومٌ. لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ وَمَنْ يَعْمَلْ غَلَطٌ مِنْهُ. لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَخَافُ مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالتَّحْقِيقُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ «لَا» نَاهِيَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَالْجُمْلَةُ الطَّلَبِيَّةُ جَزَاءُ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُ اقْتِرَانُهَا بِالْفَاءِ. لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ فِعْلًا لِلشَّرْطِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ. الْآيَةَ، قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ كُلَّمَا قَالَ جِبْرِيلُ آيَةً قَالَهَا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ. فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا يَنْبَغِي. فَنَهَاهُ عَنِ الْعَجَلَةِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَعَ جِبْرِيلَ، بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يُنْصِتَ لِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ حَتَّى يَنْتَهِيَ، ثُمَّ يَقْرَؤُهُ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لَهُ حِفْظَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْضَحَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْقِيَامَةِ» : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 16 - 19] ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [75 \ 16 - 17] ، قَالَ: جَمْعَهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ، وَنَقْرَؤُهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [75 \ 18] ، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 19] ، ثُمَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ. فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَرَأَهُ اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ أَيْ: أَوْصَيْنَاهُ أَلَّا يَقْرَبَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. وَهَذَا الْعَهْدُ إِلَى آدَمَ الَّذِي أَجْمَلَهُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [2 \ 35] ، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ هُوَ عَهْدُهُ إِلَى آدَمَ الْمَذْكُورُ هُنَا. وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [7 \ 19] ،. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَسِيَ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ التُّرْكُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ التَّرْكِ عَمْدًا. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ النِّسْيَانَ وَتُرِيدُ بِهِ التَّرْكَ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [20 \ 126] ، فَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّرْكُ قَصْدًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [7 \ 51] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [32 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [59 \ 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [45 \ 34] . وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَنَسِيَ أَيْ: تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ فِي الْآيَةِ: النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَقْسَمَ لَهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَهُ نَاصِحٌ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْهَا غَرَّهُ وَخَدَعَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُ الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ. كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [7 \ 21 - 22] ،. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ اهـ. وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ ... وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [20 \ 121] ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَفِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. لِأَنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالنِّسْيَانِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِي (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَقَوْلِهِ هُنَا فَنَسِيَ مَعَ قَوْلِهِ وَعَصَى فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَالْعِصْيَانُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالنِّسْيَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] ، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ. فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْفُوًّا عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ وَتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ عَظِيمُ مُوقِعٍ. وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [2 \ 286] ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . فَقَوْلُهُ «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِأُمَّتِهِ. وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ. لِأَنَّ مَنَاطَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 التَّجَاوُزِ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَتَلَقَّوْنَهُ بِالْقَبُولِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْمَشْهُورِ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَصَاحِبُهُ الَّذِي امْتَنَعَ مِنْ تَقْرِيبِ شَيْءٍ لِلصَّنَمِ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَرَّبَهُ مُكْرَهٌ. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَرِّبْ لَقَتَلُوهُ كَمَا قَتَلُوا صَاحِبَهُ، وَمَعَ هَذَا دَخَلَ النَّارَ فَلَمْ يَكُنْ إِكْرَاهُهُ عُذْرًا. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [18 \ 20] ، فَقَوْلُهُ: يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى الْإِكْرَاهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي شَرْعِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنَ التَّكْلِيفِ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْآيَةَ [4 \ 92] . فَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ هُنَا كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الْقَتْلِ خَطَأً. وَالْكَفَّارَةُ تُشْعِرُ بِوُجُودِ الذَّنْبِ فِي الْجُمْلَةِ. كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ خَطَأً فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [4 \ 92] ، فَجُعِلَ صَوْمُ الشَّهْرَيْنِ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مُؤَاخَذَةً فِي الْجُمْلَةِ بِذَلِكَ الْخَطَأِ، مَعَ قَوْلِهِ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [33 \ 5] ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] ، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ، فَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْإِثْمُ مَرْفُوعَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هِيَ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَفُّظِ، وَالْحَذَرِ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [20 \ 122] ، هُوَ وَنَحْوُهُ مِنَ الْآيَاتِ مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ بِعَدَمِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. لِأَنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَهَا بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ أَجْمَعُوا عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّبْلِيغِ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا مَعْرُوفًا فِي الْأُصُولِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ إِنْ وَقَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ فَإِنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَهُ بِصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِذَلِكَ دَرَجَةً أَعَلَا مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ هُنَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [20 \ 122] ،. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [20 \ 115] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَانَا آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [46 \ 35] ، وَهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا أَيْ: لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَمُوَاظَبَةً عَلَى الْتِزَامِ الْأَمْرِ. وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا، وَالْوُجُودُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ نَجِدْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَمَفْعُولَاهُ لَهُ عَزْمًا وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَعِنْدَ مَنَالِهِ عَزْمًا اهـ مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. أَيْ: أَبَى أَنْ يَسْجُدَ. فَذَكَرَ عَنْهُ هُنَا الْإِبَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ هُنَا الِاسْتِكْبَارَ. وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ أَيْضًا فِي «الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [15 \ 31] ،. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْحِجْرِ» هَذِهِ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ يُبَيِّنُ مَعْمُولَ «أَبَى» الْمَحْذُوفَ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [20 \ 116] ، أَيْ: أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الْحِجْرِ» وَكَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [7 \ 11] ، وَذَكَرَ عَنْهُ فِي سُورَةِ «ص» الِاسْتِكْبَارَ وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [38] ، وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ، وَالِاسْتِكْبَارَ مَعًا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [2] ،. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» سَبَبَ اسْتِكْبَارِهِ فِي زَعْمِهِ وَأَدِلَّةِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِ فِي زَعْمِهِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ هَلْ أَصْلُهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ صَرَّحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ السُّجُودَ الْمَذْكُورَ سَجَدَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لَا بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ. [38 - 74] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْكَهْفِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَشْقَى أَيْ: فَتَتْعَبُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ بِالْكَدِّ، وَالِاكْتِسَابِ. لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ لُقْمَةَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى يَحْرُثَ الْأَرْضَ، ثُمَّ يَزْرَعُهَا، ثُمَّ يَقُومُ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَدْرُسُهُ، ثُمَّ يُنَقِّيهِ، ثُمَّ يَطْحَنُهُ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ، ثُمَّ يَخْبِزُهُ. فَهَذَا شَقَاؤُهُ الْمَذْكُورُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّقَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّعَبُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعِيشَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [20 \ 118 - 119] ، يَعْنِي احْذَرْ مِنْ عَدُوِّكَ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ دَارِ الرَّاحَةِ الَّتِي يُضْمَنُ لَكَ فِيهَا الشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْكُسْوَةُ، وَالسَّكَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَفَافُ الْإِنْسَانِ، فَذِكْرُهُ اسْتِجْمَاعَهَا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مَكْفِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِفَايَةِ كَافٍ، وَلَا إِلَى كَسْبِ كَاسِبٍ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا. وَذِكْرُهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِنَقَائِضِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ، وَالْعُرْيُ، وَالظَّمَأُ، وَالضَّحْوُ لِيَطْرُقَ سَمْعَهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا، حَتَّى يَتَحَامَى السَّبَبَ الْمُوقِعَ فِيهَا كَرَاهَةً لَهَا اهـ. فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [20 \ 118] ، قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّقَاءَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ تَعَبُ الدُّنْيَا فِي كَدِّ الْمَعِيشَةِ لِيَدْفَعَ بِهِ الْجُوعَ، وَالظَّمَأَ، وَالْعُرْيَ، وَالضَّحَاءَ. وَالْجُوعُ مَعْرُوفٌ، وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ. وَالْعُرْيُ بِالضَّمِّ: خِلَافُ اللُّبْسِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا تَضْحَى أَيْ: لَا تَصِيرُ بَارِزًا لِلشَّمْسِ، لَيْسَ لَكَ مَا تَسْتَكِنُّ فِيهِ مِنْ حَرِّهَا. تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَحِيَ يَضْحَى، كَرَضِيَ يَرْضَى. وَضَحَى يَضْحَى كَسَعَى يَسْعَى إِذَا كَانَ بَارِزًا لِحَرِّ الشَّمْسِ لَيْسَ لَهُ مَا يَكِنُّهُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: رَأَتْ رَجُلًا أَيْمًا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضَحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَنْحَصِرْ وَقَوْلُ الْآخَرِ: ضَحِيتُ لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا نَافِعًا وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ» ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ أَيْ: وَإِنَّ لَكَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. وَيَجُوزُ فِي الْمَصْدَرِ الْمَعْطُوفِ الْمَذْكُورِ النَّصْبُ، وَالرَّفْعُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى ... مَنْصُوبِ إِنَّ بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا وَإِيضَاحُ تَقْدِيرِ الْمَصْدَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: إِنَّ لَكَ عَدَمَ الْجُوعِ فِيهَا، وَعَدَمَ الظَّمَأِ. تَنْبِيهٌ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وُجُوبَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ [20 \ 117] ، بِخِطَابٍ شَامِلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ خَصَّ آدَمَ بِالشَّقَاءِ دُونَهَا فِي قَوْلِهِ فَتَشْقَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالْكَدِّ عَلَيْهَا وَتَحْصِيلِ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ الضَّرُورِيَّةِ لَهَا: مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَشْرَبٍ، وَمَلْبَسٍ، وَمَسْكَنٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِذِكْرِ الشَّقَاءِ وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَا يُعَلِّمُنَا أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَمِنْ يَوْمئِذٍ جَرَتْ نَفَقَةُ النِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ. فَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ حَوَّاءَ عَلَى آدَمَ كَذَلِكَ نَفَقَاتُ بَنَاتِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَعْلَمَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْكُسْوَةُ، وَالْمَسْكَنُ. فَإِذَا أَعْطَاهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ تَفَضَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْجُورٌ. فَأَمَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا. لِأَنَّ بِهَا إِقَامَةَ الْمُهْجَةِ اهـ مِنْهُ. وَذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ: أَنَّهُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ أُهْبِطَ إِلَيْهِ ثَوْرٌ أَحْمَرُ وَحَبَّاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوْرِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَذَلِكَ مِنَ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ فِي اصْطِلَاحِ الْبَلَاغِيِّينَ، هُوَ مَا يُسَمَّى «مُرَاعَاةَ النَّظِيرِ» ، وَيُسَمَّى «التَّنَاسُبَ، وَالِائْتِلَافَ. وَالتَّوْفِيقَ، وَالتَّلْفِيقَ» . فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ. وَضَابِطُهُ: أَنَّهُ جَمْعُ أَمْرٍ وَمَا يُنَاسِبُهُ لَا بِالتَّضَادِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [55 \ 5] ، فَإِنَّ الشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ مُتَنَاسِبَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ الْبُحْتُرِيَّ يَصِفُ الْإِبِلَ الْأَنْضَاءَ الْمَهَازِيلَ، أَوِ الرِّمَاحَ: كَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ بَلِ ... الْأَسْهُمِ مَبْرِيَّةٍ بَلِ الْأَوْتَارِ وَبَيْنَ الْأَسْهُمِ، وَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ، وَالْأَوْتَارِ مُنَاسَبَةٌ فِي الرِّقَّةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَرَقَّ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ ابْنِ رَشِيقٍ: أَصَحُّ وَأَقْوَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى ... مِنَ الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مُنْذُ قَدِيمِ أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا ... عَنِ الْبَحْرِ عَنْ كَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمِ فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالسَّمَاعِ، وَالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ، وَالْأَحَادِيثِ، وَالرِّوَايَةِ، وَكَذَا نَاسَبَ بَيْنَ السَّيْلِ، وَالْحَيَا وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْبَحْرِ وَكَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمٍ، وَكَقَوْلِ أُسَيْدِ بْنِ عَنْقَاءَ الْفَزَارِيِّ: كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي وَجْهِهِ الْبَدْرُ فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الثُّرَيَّا، وَالشِّعْرَى، وَالْبَدْرِ، كَمَا نَاسَبَ بَيْنَ الْجَبِينِ، وَالْوَجْنَةِ، وَالْوَجْهِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي فَنِّ الْبَلَاغَةِ. وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَاسَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى بَيْنَ نَفْيِ الْجُوعِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْحَرَارَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَبَيْنَ نَفْيِ الْعُرْيِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ مِنْ أَذَى الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى نَاسَبَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى بَيْنَ نَفْيِ الظَّمَأِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ الظَّمَأُ. وَبَيْنَ نَفْيِ الضُّحَى الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ حَرُّ الشَّمْسِ وَنَحْوُهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. بِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُسَمَّى قَطْعَ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَزْعُومِ تَحْقِيقُ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَكْثِيرِهَا. لِأَنَّهُ لَوْ قَرَنَ النَّظِيرَ بِنَظِيرِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِهَذَا قَطَعَ الظَّمَأَ عَنِ الْجُوعِ، وَالضَّحْوَ عَنِ الْكُسْوَةِ، مَعَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَقَالُوا: وَمِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ فَقَطَعَ رُكُوبَ الْجَوَادِ مِنْ قَوْلِهِ «لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً» وَقَطَعَ «تَبَطُّنَ الْكَاعِبِ» عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 شُرْبِ «الزِّقَ الرَّوِيَّ» مَعَ التَّنَاسُبِ فِي ذَلِكَ. وَغَرَضُهُ أَنْ يُعَدِّدَ مَلَاذَّهُ وَمَفَاخِرَهُ وَيُكَثِّرَهَا. كُلُّهُ كَلَامٌ لَا حَاجَةَ لَهُ لِظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى. الْوَسْوَسَةُ، وَالْوَسْوَاسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ، وَالْكِلَابِ، وَصَوْتِ الْحُلِيِّ: وَسْوَاسٌ. وَالْوِسْوَسُ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْأُولَى مَصْدَرٌ، وَبِفَتْحِهَا الِاسْمُ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [114 \ 4] ، وَيُقَالُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ: وَسْوَاسٌ وَوَسْوَسَةٌ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوَسْوَاسِ عَلَى صَوْتِ الْحُلِيِّ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ ... كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى هَمْسِ الصَّائِدِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: فَبَاتَ يُشْئِزُهُ ثَأْدٌ وَيُسْهِرُهُ ... تَذَؤُّبُ الرِّيحِ وَالْوَسْوَاسُ وَالْهِضَبُ وَقَوْلُ رُؤْبَةَ: وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ ... سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعَقَقْ فِي الزَّرْبِ لَوْ يَمْضُعُ شُرْبًا مَا بَصَقَ وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ [20 \ 120] ، أَيْ: كَلَّمَهُ كَلَامًا خَفِيًّا فَسَمِعَهُ مِنْهُ آدَمُ وَفَهِمَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَلَامٌ مِنْ إِبْلِيسَ سَمِعَهُ آدَمُ وَفَهِمَهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْوَسْوَسَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا قَوْلٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [20 \ 120] ،. فَالْقَوْلُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسْوَسَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَى حَوَّاءَ أَيْضًا مَعَ آدَمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْلِهِ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [7 \ 21] ، لِأَنَّ تَصْرِيحَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ قَاسَمَهُمَا أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْكَذِبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ الْمَذْكُورَةَ كَلَامٌ مَسْمُوعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى آدَمَ إِشْكَالًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 مَعْرُوفًا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِبْلِيسُ قَدْ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ صَاغِرًا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، فَكَيْفَ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى وَسْوَسَ لِآدَمَ؟ ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ قِصَّةَ الْحَيَّةِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَالْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَقِفَ إِبْلِيسُ خَارِجَ الْجَنَّةِ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِهَا بِحَيْثُ يَسْمَعُ آدَمُ كَلَامَهُ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِمْكَانُ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا لِامْتِحَانِ آدَمَ وَزَوْجِهِ، لَا لِكَرَامَةِ إِبْلِيسَ. فَلَا مُحَالَ عَقْلًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَلَّمِ آدَمَ، وَحَلَفَ لَهُ حَتَّى غَرَّهُ وَزَوْجَهُ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أَضَافَ الشَّجَرَةَ إِلَى الْخُلْدِ وَهُوَ الْخُلُودُ. لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ الْكَاذِبِ خَالِدًا لَا يَمُوتُ، وَلَا يَزُولُ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي زَعْمِهِ مُلْكٌ لَا يَبْلَى أَيْ: لَا يَفْنَى، وَلَا يَنْقَطِعُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى يَدُلُّ لِمَعْنَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ [7 \ 20] بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَوْلُهُ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [7 \ 20] ، هُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ فِي «طه» : هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [20 \ 120] ،. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ: أَنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا اللَّهُ عَنْهَا نَالَا الْخُلُودَ، وَالْمُلْكَ، وَصَارَا مَلَكَيْنِ، وَحَلَفَ لَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، يُرِيدُ لَهُمَا الْخُلُودَ، وَالْبَقَاءَ، وَالْمُلْكَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ. وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ اعْتَقَدَ مِنْ شِدَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَنْسَاهُ ذَلِكَ الْعَهْدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ. تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ عَدَّى فِعْلَ الْوَسْوَسَةِ فِي «طه» بِإِلَى فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ أَنَّهُ عَدَّاهُ فِي «الْأَعْرَافِ» بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [7 \ 20] ،. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى إِلَى كَعَكْسِ ذَلِكَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ يُرِيدُ إِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُوَصِّلُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ كُلِّهَا الْفِعْلَ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ. وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ ذَلِكَ: إِرَادَةُ التَّضْمِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ عَدَّى «وَسْوَسَ» تَارَةً بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وَأُخْرَى بِإِلَى؟ قُلْتُ: وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ كَوَلْوَلَةِ الثَّكْلَى، وَوَعْوَعَةِ الذِّئْبِ، وَوَقْوَقَةِ الدَّجَاجَةِ، فِي أَنَّهَا حِكَايَاتٌ لِلْأَصْوَاتِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ صَوْتٍ وَأَجْرُسٍ. وَمِنْهُ وَسْوَسَ الْمُبَرْسَمُ وَهُوَ مُوَسْوِسٌ بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحُ لَحْنٌ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ ... . . . . . . فَإِذَا قُلْتَ: وَسْوَسَ لَهُ. فَمَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ. كَقَوْلِهِ: أَجْرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أَبِي كِبَاشٍ ... فَمَا لَهَا اللَّيْلَةَ مِنْ إِنْفَاشِ غَيْرَ السُّرَى وَسَائِقٍ نَجَّاشِ وَمَعْنَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ. كَقَوْلِهِ: حَدَّثَ إِلَيْهِ وَأَسَرَّ إِلَيْهِ اهـ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُوَ مَعْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْكُوفِيِّينَ فِي تَعَاقُبِ حُرُوفِ الْجَرِّ، وَإِتْيَانِ بَعْضِهَا مَكَانَ بَعْضٍ هَلْ هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى التَّضْمِينِ، أَوْ لِأَنَّ الْحُرُوفَ يَأْتِي بَعْضُهَا بِمَعْنَى بَعْضٍ؟ وَسَنَذْكُرُ مِثَالًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ يَتَّضِحُ بِهِ الْمَقْصُودُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى مَثَلًا: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْآيَةَ [21 \ 77] عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّضْمِينِ. فَالْحَرْفُ الَّذِي هُوَ «مِنْ» وَارِدٌ فِي مَعْنَاهُ لَكِنَّ «نَصَرَ» هُنَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْإِنْجَاءِ، وَالتَّخْلِيصِ، أَيْ: أَنْجَيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. وَالْإِنْجَاءُ مَثَلًا يَتَعَدَّى بِمِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَـ «نَصَرَ» وَارِدٌ فِي مَعْنَاهُ، لَكِنَّ «مِنْ» بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: نَصَرْنَاهُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الْآيَةَ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُشَاكِلُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» أَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اخْتِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْيِينِهَا، وَعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي مَعْرِفَةِ عَيْنِهَا. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ السُّنْبُلَةُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ شَجَرَةُ الْكَرْمِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ شَجَرَةُ التِّينِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى. الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَكَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِمَا هُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَيْ: فَأَكَلَا مِنْهَا بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ. وَكَذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَكْلُهُمَا مِنَ الشَّجَرَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 الْمَذْكُورَةِ، فَكَانَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ سَبَبًا لِلْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. وَكَانَ الْأَكْلُ مِنْهَا سَبَبًا لِبُدُوِّ سَوْءَاتِهِمَا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ (الْإِيمَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ) : أَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِمْ: سَهَا فَسَجَدَ، أَيْ: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ. سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا [20 \ 120 - 121] ، أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الْأَكْلِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ السَّبَبِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ هُنَا كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ هِيَ سَبَبُ مَا وَقَعَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [2 \ 36] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي أَزَلَّهُمَا. وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى «فَأَزَالَهُمَا» وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، أَيْ: مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الْآيَةَ [7 \ 27] وَقَوْلُهُ: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [7 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ مِنْ تَرَتُّبِ بُدُوِّ سَوْءَاتِهِمَا عَلَى أَكْلِهِمَا مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [7 \ 22] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [7 \ 27] . وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ كَانَا فِي سِتْرٍ مِنَ اللَّهِ يَسْتُرُ بِهِ سَوْءَاتِهِمَا، وَأَنَّهُمَا لَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا رَبُّهُمَا عَنْهُمَا انْكَشَفَ ذَلِكَ السِّتْرُ بِسَبَبِ تِلْكَ الزَّلَّةِ. فَبَدَتْ سَوْءَاتُهُمَا أَيْ: عَوْرَاتُهُمَا. وَسُمِّيَتَ الْعَوْرَةُ سَوْءَةً لِأَنَّ انْكِشَافَهَا يَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَصَارَا يُحَاوِلَانِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ بِوَرَقِ شَجَرِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ هُنَا: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [20 \ 121] ، وَقَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [7 \ 27] ،. وَقَوْلُهُ وَطَفِقَا أَيْ: شَرَعَا. فَهِيَ مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ، وَلَا يَكُونُ خَبَرُ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ إِلَّا فِعْلًا مُضَارِعًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِـ «أَنْ» وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: . . . . . ... وَتَرْكُ أَنْ مَعَ ذِي الشُّرُوعِ وَجَبَا كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ ... وَكَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ أَيْ: شَرَعَا يَلْزَقَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِيَسْتُرَا بِهِ عَوْرَاتِهِمَا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَصَفَ النَّعْلَ يَخْصِفُهَا: إِذَا خَرَّزَهَا: وَخَصَفَ الْوَرَقَ عَلَى بَدَنِهِ: إِذَا أَلْزَقَهَا وَأَطْبَقَهَا عَلَيْهِ وَرَقَةً وَرَقَةً. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ وَرَقَ الْجَنَّةِ الَّتِي طَفِقَ آدَمُ وَحَوَّاءُ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْهُ إِنَّهُ وَرَقُ التِّينِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ السِّتْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَانْكَشَفَ عَنْهُمَا لَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهِ، فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ مِنْ جِنْسِ الظُّفُرِ. فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ أَزَالَهُ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَّا مَا أَبْقَى عَلَى رُءُوسِ الْأَصَابِعِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ لِبَاسُهُمَا نُورًا يَسْتُرُ اللَّهُ بِهِ سَوْءَاتِهِمَا. وَقِيلَ: لِبَاسٌ مِنْ يَاقُوتٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَهُوَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» . وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّهُمَا كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ يَسْتُرُهُمَا اللَّهُ بِهِ. فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ نَزَعَ عَنْهُمَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ الْمَذْكُورُ الظُّفُرَ أَوِ النُّورَ، أَوْ لِبَاسَ التَّقْوَى، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ. وَأَسْنَدَ جَلَّ وَعَلَا إِبْدَاءَ مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا إِلَى الشَّيْطَانِ قَوْلُهُ: لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا [7 \ 20] ، كَمَا أُسْنِدَ لَهُ نَزْعُ اللِّبَاسِ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [7 \ 27] ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جُعِلَ سَبَبُ الزَّلَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ مُخْتَصًّا بِآدَمَ دُونَ حَوَّاءَ قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ سَبَّبَتِ الزَّلَّةَ لَهُمَا مَعًا كَمَا أَوْضَحْنَاهُ. وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي «الْأَعْرَافِ» أَنَّهُ وَسْوَسَ لِحَوَّاءَ أَيْضًا مَعَ آدَمَ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [7 \ 20] ، فَبَيَّنَتْ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» مَا لَمْ تُبَيِّنْهُ آيَةُ «طه» كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. مَسْأَلَةٌ أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يَدُلُّ عَلَى قُبْحِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي بَذْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 الْجُهْدِ فِي سَتْرِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» مَا نَصُّهُ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا السَّتْرَ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَرَا إِلَى سَتْرِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قِيلَ لَهُمَا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [7 \ 19] . وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَقِرَّ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ سُتْرَةٌ ظَاهِرَةٌ، عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ بِهَا كَمَا فَعَلَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيُّ. وَوُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الْآيَةَ [7 \ 31] وَكَبَعْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يُنَادِي عَامَ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ عَامَ تِسْعٍ: «أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَأَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» . وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَنْعِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَمَامَ النَّاسِ. وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» . فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَمَعَ السَّوْءَاتِ فِي قَوْلِهِ سَوْآتُهُمَا مَعَ أَنَّهُمَا سَوْأَتَانِ فَقَطْ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ سَوْءَتَانِ: الْقُبُلُ، وَالدُّبُرُ، فَهِيَ أَرْبَعٌ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى قُبُلَ نَفْسِهِ وَقُبُلَ الْآخَرِ، وَدُبُرَهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ فِي الْجَمْعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُثَنَّى إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ شَيْئَانِ هَمَا جُزْآهُ جَازَ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ شَيْئَانِ الْجَمْعُ، وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْإِفْرَادُ، وَأَفْصَحُهَا الْجَمْعُ، فَالْإِفْرَادُ، فَالتَّثْنِيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، سَوَاءٌ كَانَتَ الْإِضَافَةُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى. وَمِثَالُ اللَّفْظِ: شَوَيْتُ رُءُوسَ الْكَبْشَيْنِ أَوْ رَأْسَهُمَا، أَوْ رَأْسَيْهِمَا. وَمِثَالُ الْمَعْنَى: قَطَعْتُ مِنَ الْكَبْشَيْنِ الرُّءُوسَ، أَوِ الرَّأْسَ، أَوِ الرَّأْسَيْنِ. فَإِنْ فُرِّقَ الْمُثَنَّى الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَالْمُخْتَارُ فِي الْمُضَافِ الْإِفْرَادُ، نَحْوَ: عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَمِثَالُ جَمْعِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ الْأَفْصَحُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [66 \ 4] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ، وَمِثَالُ الْإِفْرَادِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقَاكِ مِنَ الْغُرِّ الْغَوَادِي مَطِيرُهَا وَمِثَالُ التَّثْنِيَةِ قَوْلُ الرَّاجِزِ: وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلَ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 وَالضَّمَائِرُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الْمُضَافِ الْمَذْكُورِ الْمَجْمُوعِ لَفْظًا وَهُوَ مُثَنَّى مَعْنًى يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، وَالتَّثْنِيَةُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: خَلِيلَيَّ لَا تَهْلِكْ نُفُوسُكُمَا أَسًى ... فَإِنَّ لَهُمَا فِيمَا بِهِ دُهِيتُ أَسًى وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: قُلُوبُكُمَا يَغْشَاهُمَا الْأَمْنُ عَادَةً ... إِذَا مِنْكُمَا الْأَبْطَالُ يَغْشَاهُمُ الذُّعْرُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: أَقَلُّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْمُشْتَهِرِ ... الِاثْنَانِ فِي رَأْيِ الْإِمَامِ الْحُمَيْرِي وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاثْنَانِ الْمُضَافَانِ مُنْفَصِلَيْنِ عَنِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: كَانَا غَيْرَ جُزْأَيْهِ فَالْقِيَاسُ الْجَمْعُ وِفَاقًا لِلْفَرَّاءِ، كَقَوْلِكَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا، وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى مَضَاجِعِكُمَا، وَضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا، وَسَأَلَتَا عَنْ إِنْفَاقِهِمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. الْمَعْصِيَةُ خِلَافَ الطَّاعَةِ. فَقَوْلُهُ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى أَيْ: لَمْ يُطِعْهُ فِي اجْتِنَابِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ قُرْبَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. وَقَوْلُهُ: فَغَوَى الْغَيُّ: الضَّلَالُ، وَهُوَ الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَمْ يُطِعْ آدَمُ رَبَّهُ فَأَخْطَأَ طَرِيقَ الصَّوَابِ بِسَبَبِ عَدَمِ الطَّاعَةِ، وَهَذَا الْعِصْيَانُ، وَالْغَيُّ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ مِنَ الْجَنَّةِ رَغَدًا حَيْثُ شَاءَا، وَنَهَاهُمَا أَنْ يَقَرَبَا شَجَرَةً مُعَيَّنَةً مِنْ شَجَرِهَا. فَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ لَهُمَا وَيَحْلِفُ لَهُمَا بِاللَّهِ إِنَّهُ لَهُمَا لَنَاصِحٌ، وَإِنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنْهَا نَالَا الْخُلُودَ وَالْمُلْكَ الَّذِي لَا يَبْلَى. فَخَدَعَهُمَا بِذَلِكَ كَمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [7 \ 21] ، فَأَكَلَا مِنْهَا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: مَنْ خَادَعَنَا بِاللَّهِ خَدَعَنَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ: «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ» . وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ نَفْطَوَيْهِ: إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْتَهُ ... وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَرِّبًا لَا يُخْدَعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 فَآدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا صَدَرَتْ مِنْهُ الزَّلَّةُ إِلَّا بِسَبَبِ غُرُورِ إِبْلِيسَ لَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ آدَمَ مِنْ شِدَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ كَاذِبٌ فَأَنْسَاهُ حَلِفُ إِبْلِيسَ بِاللَّهِ الْعَهْدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ. وَقَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَغَوَى أَيْ: فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا. قَالُوا: وَالْغَيُّ. الْفَسَادُ، خِلَافُ الظَّاهِرِ وَإِنْ حَكَاهُ النَّقَّاشُ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فَغَوَى أَيْ: بَشَمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. وَالْبَشَمُ: التُّخَمَةُ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْلِبُ الْيَاءَ الْمَكْسُورَةَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا فَيَقُولُ فِي فَنِيَ وَبَقِيَ، فَنَا وَبَقَا، وَهُمْ بَنُو طَيِّئٍ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، اهـ مِنْهُ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ لُغَةِ طَيِّئٍ مَعْرُوفٌ. فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجَارِيَةِ: جَارَاةٌ، وَلِلنَّاصِيَةِ نَاصَاةٌ، وَيَقُولُونَ فِي بَقِيَ بَقَى كَرَمَى. وَمِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَعَمْرُكَ لَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى ... عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا وَهَذِهِ اللُّغَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لَا حَاجَةَ لَهَا فِي التَّفْسِيرِ الْبَاطِلِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: غَوَى الْفَصِيلُ كَرَضِيَ وَكَرَمَى: إِذَا بَشَمَ مِنَ اللَّبَنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَصَى آدَمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «غَوَى» ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَأَمْثَالَهَا فِي الْقُرْآنِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْأُصُولِ: مَسْأَلَةٌ الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَعْصِيَةٌ. وَخَالَفَ الرَّوَافِضُ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا فِي الصَّغَائِرِ. وَمُعْتَمَدُهُمُ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ. لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ. وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي غَلَطًا وَقَالَ: دَلَّتْ عَلَى الصِّدْقِ اعْتِقَادًا. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالصَّغَائِرِ الْخَسِيسَةِ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِمَا اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصَمَتُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَلَوِيُّ الشَّنْقِيطِيُّ فِي (نَشْرِ الْبُنُودِ شَرْحِ مَرَاقِي السُّعُودِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْأَنْبِيَاءُ عُصِمُوا مِمَّا نَهَوْا ... عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَفُكُّهٌ بِجَائِزٍ بَلْ ذَاكَ لِلتَّشْرِيعِ ... أَوْ نِيَّةِ الزُّلْفَى مِنَ الرَّفِيعِ مَا نَصُّهُ: فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ، وَالشَّرَائِعِ كُلِّهَا عَلَى وُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيمَا دَلَّ الْمُعْجِزُ الْقَاطِعُ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيهِ. كَدَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلَائِقِ. وَصُدُورُ الْكَذِبِ عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا مَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَمَا سِوَى الْكَذِبِ فِي التَّبْلِيغِ. فَإِنْ كَانَ كُفْرًا فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ عَمْدًا. وَمُخَالِفُ الْجُمْهُورِ الْحَشْوِيَّةُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ: هَلِ الْمَانِعُ لِوُقُوعِ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَمْدًا الْعَقْلُ أَوِ السَّمْعُ؟ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَالْعَقْلُ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا فَالْمُخْتَارُ الْعِصْمَةُ مِنْهَا. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَقَدْ جَوَّزَهَا الْجُمْهُورُ عَقْلًا. لَكِنَّهَا لَا تَقَعُ مِنْهُمْ غَيْرُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا انْتَهَى مِنْهُ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ وَمِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ. وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ الْأُخْرَى مِنْهُمْ عَقْلًا. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِعْلًا. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَفِي الْمُنْتَخَبِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: مَنَعَتِ الْأُمَّةُ وُقُوعَ الْكُفْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا الْفُضَيْلِيَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ قَالُوا: وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ. وَأَجَازَ الْإِمَامِيَّةُ إِظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ. وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلَا يَجُوزُ عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ خَطَئِهِمْ فِي الْفُتْيَا عَمْدًا. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّهْوِ. وَأَمَّا أَفْعَالُهُمْ فَقَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: بِجَوَازِ الصَّغَائِرِ عَمْدًا إِلَّا فِي الْقَوْلِ كَالْكَذِبِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ، وَالْخَطَأِ، وَهُمْ مأخُوذُونَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ. وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ. فَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: مِنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: مِنْ وَقْتِ النُّبُوَّةِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ذَنْبٌ حَالَةَ النُّبُوَّةِ الْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ، وَلَا الصَّغِيرَةُ. لِأَنَّهُمْ لَوْ صَدَرَ عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلِئَلَّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهَادَةِ، وَلِئَلَّا يَجِبَ زَجْرُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ، وَلِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، ولئِلَّا يَفْعَلُوا ضِدَّ مَا أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْإِغْوَاءِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ (الْمُنْتَخَبِ) ، وَالْقَوْلُ فِي الدَّلَائِلِ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ. وَفِي إِبْطَالِ مَا يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ مِنْهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ. وَحَاصِلُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَتَطْفِيفِ حَبَّةٍ، وَأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ غَيْرَ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ مِنْهُمْ. وَلَكِنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ اخْتَارُوا أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ جَازَ عَقْلًا لَمْ يَقَعْ فِعْلًا، وَقَالُوا: إِنَّمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ نِسْيَانًا أَوْ سَهْوًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مَا يُزْرِي بِمَرَاتِبِهِمُ الْعَلِيَّةِ، وَمَنَاصِبِهِمُ السَّامِيَةِ. وَلَا يَسْتَوْجِبُ خَطَأً مِنْهُمْ، وَلَا نَقْصًا فِيهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الذُّنُوبِ لِأَنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَنَالُوا بِذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِهِمْ فَتَكُونُ بِذَلِكَ دَرَجَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [20 \ 121] ،. فَانْظُرْ أَيَّ أَثَرٍ يَبْقَى لِلْعِصْيَانِ وَالْغَيِّ بَعْدَ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاجْتِبَائِهِ أَيِ: اصْطِفَائِهِ إِيَّاهُ، وَهِدَايَتِهِ لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ الزَّلَّاتِ يَنَالُ صَاحِبُهَا بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا دَرَجَةً أَعْلَى مِنْ دَرَجَتِهِ قَبْلَ ارْتِكَابِ تِلْكَ الزَّلَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى. الِاجْتِبَاءُ: الِاصْطِفَاءُ، وَالِاخْتِيَارُ. أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ مَا صَدَرَ مِنْ آدَمَ بِمُهْلَةٍ اصْطَفَاهُ رَبُّهُ وَاخْتَارَهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَكَانَتْ سَبَبَ تَوْبَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [2 \ 37] ، أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [7 \ 23] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. الظَّاهِرُ أَنَّ أَلِفَ الِاثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ اهْبِطَا رَاجِعَةٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [20 \ 121] ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى إِبْلِيسَ وَآدَمَ، وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمَا بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [2 \ 36] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 38] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [7 \ 24] ،. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جِيءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ اهْبِطُوا [2 \ 36، 7 24] ، فِي «الْبَقَرَةِ» وَ «الْأَعْرَافِ» وَبِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي «طه» فِي قَوْلِهِ: اهْبِطَا مَعَ أَنَّهُ أَتْبَعَ صِيغَةَ التَّثْنِيَةِ فِي «طه» بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى وَأَظْهَرُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ التَّثْنِيَةَ بِاعْتِبَارِ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَقَطْ، وَالْجَمْعَ بِاعْتِبَارِهِمَا مَعَ ذُرِّيَّتِهِمَا. خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّثْنِيَةَ بِاعْتِبَارِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَالْجَمْعَ بِاعْتِبَارِ ذُرِّيَّتِهِمَا مَعَهُمَا، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْجَمْعَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مُرَادٌ بِهِ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ، وَالْحَيَّةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَيَّةَ لَيْسَتْ مُرَادَّةً فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَذْكُرُونَ قِصَّةَ الْحَيَّةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ قَوَائِمَ أَرْبَعٍ كَالْبُخْتِيَّةِ مِنْ أَحْسَنِ دَابَّةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ فِي فَمِهَا فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، فَوَسْوَسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ بَعْدَ أَنْ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الدَّوَابِّ فَلَمْ يُدْخِلْهُ إِلَّا الْحَيَّةُ. فَأُهْبِطَ هُوَ إِلَى الْأَرْضِ وَلُعِنَتْ هِيَ وَرُدَّتْ قَوَائِمُهَا فِي جَوْفِهَا، وَجُعِلَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ، وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِقَتْلِهَا. وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» جُمَلًا مِنْ أَحْكَامِ قَتْلِ الْحَيَّاتِ. فَذَكَرَ عَنْ سَاكِنَةَ بِنْتِ الْجَعْدِ أَنَّهَا رَوَتْ عَنْ سُرَيَّ بِنْتِ نَبْهَانَ الْغَنَوِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَأَسُوَدِهَا وَأَبْيَضِهَا، وَيُرَغِّبُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثًا فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَتْلِ حَيَّةٍ فَسَبَقَتْهُمْ إِلَى جُحْرِهَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُضْرِمُوا عَلَيْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 نَارًا. وَذَكَرَ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ خَصَّصُوا بِذَلِكَ النَّهْيِ عَنِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَعَنْ أَنْ يُعَذَّبَ أَحَدٌ بِعَذَابِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُحْرَقَ الْعَقْرَبُ بِالنَّارِ، وَقَالَ: هُوَ مُثْلَةٌ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [77] ، فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً، إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ «اقْتُلُوهَا» ، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا» فَلَمْ يُضْرِمْ نَارًا، وَلَا احْتَالَ فِي قَتْلِهَا، وَأَجَابَ هُوَ عَنْ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ نَارًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْجُحْرُ بِهَيْئَةٍ يُنْتَفَعُ بِالنَّارِ هُنَاكَ، مَعَ ضَرَرِ الدُّخَانِ وَعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَى الْحَيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى دَفْعِ الْمُضِرَّةِ الْمُخَوِّفَةِ مِنَ الْحَيَّاتِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهُنَّ، فَمَنْ خَافَ ثَأْرَهُنَّ فَلَيْسَ مِنِّي» ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ لَا تُقْتَلُ حَتَّى تُؤْذَنَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. لِحَدِيثِ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ خَصَّ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا» . قَالُوا: وَلَا نَعْلَمُ هَلْ أَسْلَمَ مِنْ جِنِّ غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَوْ لَا. قَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ مَالِكٍ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ الْآيَةَ [46 \ 29] . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَتَانِي دَاعِيَ الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَفِيهِ سَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ» وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي سُورَةِ «الْجِنِّ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يُقْتَلْ شَيْءٌ مِنْهَا حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيْهِ وَيُنْذَرُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (ثُمَّ قَالَ) : رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زَهْرَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينِ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ فَإِنَّنِي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ» فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ. فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يَدْرِي أَيْهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى. قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا: فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهُمْ فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ» . ثُمَّ قَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الْجَانَّ الَّذِي قَتَلَهُ الْفَتَى كَانَ مُسْلِمًا، وَأَنَّ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ بِهِ قِصَاصًا. لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْجِنِّ لَكَانَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَهَذَا الْفَتَى لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِلَى قَتْلِ مَا سُوِّغَ قَتْلُ نَوْعِهِ شَرْعًا، فَهَذَا قَتْلٌ خَطَأٌ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُفَّارَ الْجِنِّ أَوْ فَسَقَتَهُمْ قَتَلُوا الْفَتَى بِصَاحِبِهِمْ عَدْوًا وَانْتِقَامًا. وَقَدْ قَتَلَتْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وُجِدَ مَيِّتًا فِي مُغْتَسَلِهِ وَقَدِ اخْضَرَّ جَسَدُهُ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ، وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا: قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ ... رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ ... فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهُ وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا» لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، وَيَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَتْ جَانًا. فَأُرِيَتْ فِي الْمَنَامِ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهَا: لَقَدْ قَتَلْتِ مُسْلِمًا. فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَعَلَيْكِ ثِيَابُكِ. فَأَصْبَحَتْ فَأَمَرَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَأَنْتِ مُسْتَتِرَةٌ. فَتَصَدَّقَتْ وَأَعْتَقَتْ رِقَابًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ: الْجَانُّ مِنَ الْحَيَّاتِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا هِيَ الَّتِي تَمْشِي، وَلَا تَلْتَوِي. وَعَنْ عَلْقَمَةَ نَحْوُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ إِنْذَارِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُنْذَرُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَهُ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْيَوْمِ مِرَارًا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِنْذَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَكُونَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: يَكْفِي ثَلَاثَ مِرَارٍ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا» ، وَقَوْلُهُ «حَرِّجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا» وَلِأَنَّ ثَلَاثًا لِلْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ مُقَيِّدٌ لِتِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَيَحْمِلُ ثَلَاثًا عَلَى إِرَادَةِ لَيَالِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ، فَغَلَّبَ اللَّيْلَةَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي بَابِ التَّارِيخِ، فَإِنَّهَا تَغْلِبُ فِيهَا التَّأْنِيثُ. قَالَ مَالِكٌ: وَيَكْفِي فِي الْإِنْذَارِ أَنْ يَقُولَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا تَبْدُوا لَنَا، وَلَا تُؤْذُونَا. وَذَكَرَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا: أَنْشُدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْشُدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدُ فَاقْتُلُوهُ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُقَالُ: «أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَّا تُؤْذُونَا، وَلَا تَظْهَرْنَ عَلَيْنَا» انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ مُلَخَّصًا قَرِيبًا مِنْ لَفْظِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَيَّاتِ فِي الْبُيُوتِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كَالْحَيَّاتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْفَيَافِي، وَأَنَّ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ لَا تُقْتَلُ إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي عُمُومُ الْإِنْذَارِ فِي الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِنْذَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا تَكْفِي ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَتْ أَدِلَّةُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَأَنَّ الْأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ يُقْتَلَانِ فِي الْبُيُوتِ بِلَا إِنْذَارٍ. لِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: إِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُنَّ (يُرِيدُ عَوَامِرَ الْبُيُوتِ) وَأُمِرَ بِقَتْلِ الْأَبْتَرِ وَذِي الطُّفْيَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ: «لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْوَلَدَ، وَيُذْهِبُ الْبَصَرَ فَاقْتُلُوهُ» . وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَإِنْذَارِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ. فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ، وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لِأَقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ: لَا تَقْتُلْهَا. فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ، وَهِيَ الْعَوَامِرُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 الْخَطَّابِ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، وَالزُّبَيْدِيُّ، وَقَالَ صَالِحٌ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَابْنُ مُجَمَّعٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةُ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ اهـ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ أَبِي عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ، فَإِنَّهُمَا يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ» قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ وَجَدَهَا. فَأَبْصَرَهُ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ. ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَفِي كُلِّهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ يَعْنِي إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ ثَلَاثًا. وَعَنْ مَالِكٍ: يُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا بِالْمَسَاجِدِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ» هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ. وَأَصْلُ الطُّفْيَةِ خُوصَةُ الْمُقَلِ وَهُوَ شَجَرُ الدَّوْمِ. وَقِيلَ: الْمُقَلُ ثَمَرُ شَجَرِ الدَّوْمِ. وَجَمْعُهَا طُفَى بِضَمٍّ فَفَتَحَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالْمُرَادُ بِالطُّفْيَتَيْنِ فِي الْحَدِيثِ: خَطَّانِ أَبْيَضَانِ. وَقِيلَ: أَسْوَدَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، يُشْبِهَانِ فِي صُورَتِهَا خُوصَ الْمُقَلِ الْمَذْكُورَ. وَالْأَبْتَرُ: قَصِيرُ الذَّنَبِ مِنَ الْحَيَّاتِ: وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: هُوَ صِنْفٌ مِنَ الْحَيَّاتِ أَزْرَقٌ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ حَامِلٌ إِلَّا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ الْأَفْعَى الَّتِي تَكُونُ قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَامِلَ إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِمَا وَخَافَتْ أَسْقَطَتْ جَنِينَهَا غَالِبًا. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الْحَبَلِ الْمَذْكُورَ خَاصِّيَّةٌ فِيهِمَا مِنْ سُمِّهِمَا. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى «يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ» أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِيهِمَا مِنْ شِدَّةٍ سُمِّهِمَا خَاصِّيَّةً يَخْطِفَانِ بِهَا الْبَصَرَ، وَيَطْمِسَانِهِ بِهَا بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ: بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْبَصَرَ بِاللَّسْعِ، وَالنَّهْشِ ضَعِيفٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهَا. لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ الْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِلنَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [20 \ 123] ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْأَظْهَرُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَ بَنِي آدَمَ عَدُوٌّ لِبَعْضِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [6 \ 65] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 بِقَوْلِهِ اهْبِطَا آدَمُ وَإِبْلِيسُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ أَعْدَاءٌ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [18 \ 50] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ إِحْرَاقِ الْحَيَّةِ بِالنَّارِ لَمْ يَثْبُتْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْتَلَ بِالنَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ غَيْرَ الْأَبْتَرِ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ الَّتِي قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي لُبَابَةَ: «لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرٍ ذِي طُفْيَتَيْنِ» يَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَاحِدٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَجَابَ عَنْ هَذَا. بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ ظَاهِرُهَا اتِّحَادُهُمَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَنْفِي الْمُغَايَرَةَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِأَنَّهَا لَا تَنْفِي الْمُغَايَرَةَ: أَنَّ الْأَبْتَرَ وَإِنْ كَانَ ذَا طُفْيَتَيْنِ فَلَا يُنَافِي وُجُودَ ذِي طُفْيَتَيْنِ غَيْرَ الْأَبْتَرِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِبَنِي آدَمَ. أَيْ: فَإِنْ يَأْتِكُمْ مِنِّي هُدًى أَيْ: رَسُولٌ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ، وَكِتَابٌ يَأْتِي بِهِ رَسُولٌ، فَمَنِ اتَّبَعَ مِنْكُمْ هُدَايَ أَيْ: مَنْ آمَنَ بِرُسُلِي وَصَدَّقَ بِكُتُبِي، وَامْتَثَلَ مَا أَمَرْتُ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَيْتُ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِي. فَإِنَّهُ لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: لَا يَزِيغُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ لِاسْتِمْسَاكِهِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَامِلًا بِمَا يَسْتَوْجِبُ السَّعَادَةَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رُسُلِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْآيَةَ 38] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ أَبَوَيْنَا مِنَ الْجَنَّةِ لَا يَرُدُّ إِلَيْهِمَا أَحَدًا مِنَّا إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَالِامْتِحَانِ بِالتَّكَالِيفِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، ثُمَّ يُطِيعُ اللَّهَ فِيمَا ابْتَلَاهُ بِهِ. كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا الْآيَةَ [13 \ 57] الْآيَاتُ الْمُوَضَّحَةُ نَتَائِجَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَخِيمَةِ. فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْهَا الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ. وَاعْلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 أَنَّ الضَّنْكَ فِي اللُّغَةِ: الضِّيقُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا ... أَشْدُدْ وَإِنْ يُلْفَوْا بِضَنْكٍ أَنْزِلُ وَقَوْلُهُ أَيْضًا: إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلِي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ الْمَنْزِلِ وَأَصْلُ الضَّنْكِ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ، وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمُفْرَدُ، وَالْجَمْعُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعِيشَةً ضَنْكًا أَيْ: عَيْشًا ضَيِّقًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَيْشِ الضَّيِّقِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا: أَنَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ شُمُولَ الْآيَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَمِنَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ مَعَ الدِّينِ التَّسْلِيمَ، وَالْقَنَاعَةَ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقِسْمَتِهِ فَصَاحِبُهُ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ بِسَمَاحٍ وَسُهُولَةٍ، فَيَعِيشُ عَيْشًا هَنِيئًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [16 \ 97] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الْآيَةَ [11 \ 3] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَمَّا الْمُعْرِضُ عَنِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْحِرْصُ الَّذِي لَا يَزَالُ يَطْمَحُ بِهِ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الدُّنْيَا مُسَلِّطٌ عَلَيْهِ الشُّحَّ الَّذِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَعَيْشُهُ ضَنْكٌ، وَحَالُهُ مُظْلِمَةٌ. وَمِنَ الْكَفَرَةِ مَنْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الذِّلَّةَ، وَالْمَسْكَنَةَ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتِ [2 \ 61] . وَذَلِكَ مِنَ الْعَيْشِ الضَّنْكِ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ تَعَالَى أَنَّ عَيْشَهُمْ يَصِيرُ وَاسِعًا رَغْدًا لَا ضَنْكًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الْآيَةَ [5 \ 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 96] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [71 \ 10 - 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ هُودٍ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [11 \ 52] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ الْآيَةَ [72 \ 16 - 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ: هِيَ طَعَامُ الضَّرِيعِ، وَالزَّقُّومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ الْآيَةَ [88 \ 6] وَقَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ الْآيَةَ [44 \ 43 - 44] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ: الْكَسْبُ الْحَرَامُ، وَالْعَمَلُ السَّيِّئُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ: عَذَابُ الْقَبْرِ وَضَغْطَتُهُ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ فِي قَوْلِهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [14 \ 27] ،. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ فِي الْآيَةِ: عَذَابُ الْقَبْرِ. وَبَعْضُ طُرُقِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ شُمُولُ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ لِمَعِيشَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَطَعَامِ الضَّرِيعِ، وَالزَّقُّومِ. فَتَكُونُ مَعِيشَتَهُ ضَنْكًا فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ يَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَعْمَى. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ: أَعْمَى أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى خِلَافِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْمَى أَيْ: أَعْمَى الْبَصَرِ لَا يَرَى شَيْئًا. وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا [20 \ 125] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ عَمَاهُ هُوَ الْعَمَى الْمُقَابِلُ لِلْبَصَرِ وَهُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ زَادَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ الْعَمَى يُحْشَرُ أَصَمَّ أَبْكَمَ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [17 \ 97] . تَنْبِيهٌ فِي آيَةِ " طه " هَذِهِ وَآيَةِ " الْإِسْرَاءِ " الْمَذْكُورَتَيْنِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قَدْ دَلَّتَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، وَزَادَتْ آيَةُ " الْإِسْرَاءِ " أَنَّهُ يُحْشَرُ أَبْكَمَ أَصَمَّ أَيْضًا، مَعَ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [19 \ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا الْآيَةَ [18 \ 53] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا الْآيَةَ [32 \ 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْعَمَى، وَالصَّمَمِ، وَالْبَكَمِ حَقِيقَتُهُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ أَبْصَارَهُمْ وَنُطْقَهُمْ وَسَمْعَهُمْ فَيَرَوْنَ النَّارَ وَيَسْمَعُونَ زَفِيرَهَا، وَيَنْطِقُونَ بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ، وَلَا يَسْمَعُونَ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ، كَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَبْصِرُونَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْمَعُونَهُ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ نَزَلَ مَا يَقُولُونَهُ وَيَسْمَعُونَهُ وَيُبْصِرُونَهُ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ لَا شَيْءَ عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْمُنَافِقِينَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ الْآيَةَ [2 \ 18] مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ فِيهِمْ: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [33 \ 19] ، وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [63 \ 4] ، أَيْ: لِفَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ. وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [2 \ 20] ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَلَا شَيْءٍ: فَيَصْدُقُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْمَى وَأَصَمُّ وَأَبْكَمُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قَعْنَبِ بْنِ أُمِّ صَاحِبٍ: صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَصَمُّ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ ... وَأَسْمَعُ خَلْقِ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: قُلْ مَا بَدَا لَكَ مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ ... حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءَ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ إِطْلَاقِ الصَّمَمِ عَلَى السَّمَاعِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالرُّؤْيَةُ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَالَ لَهُمْ: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [23 \ 108] وَقَعَ بِهِمْ ذَلِكَ الْعَمَى، وَالصَّمَمُ، وَالْبَكَمُ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ، وَالْيَأْسِ مِنَ الْفَرَجِ، قَالَ تَعَالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [27 \ 85] ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْأَحْوَالُ الْخَمْسَةُ مُقَدَّرَةً، أَعْنِي قَوْلَهُ فِي " طه ": وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [20 \ 125] ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَوْلُهُ فِي " الْإِسْرَاءِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [17 \ 97] ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [20 \ 126] مِنَ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَمْدًا كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. [20 \ 115] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُجَازِي الْمُسْرِفِينَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الْمَذْكُورَ. وَقَدْ دَلَّ مَسْلَكَ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ لِعِلَّةِ إِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الطُّغْيَانِ وَالْمَعَاصِي، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ جَزَاءَ الْإِسْرَافِ النَّارُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [40 \ 43] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُنِيبُوا إِلَى اللَّهِ وَيَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ الْآيَةَ [39 \ 52 - 54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. أَيْ: أَشَدُّ أَلَمًا وَأَدْوَمُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَمِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ الَّتِي هِيَ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [41 \ 16] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [68 \ 33] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. تَقَدَّمَ بَعْضُ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَسَيَأْتِي لَهُ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ اقْتَرَحُوا - عَلَى عَادَتِهِمْ فِي التَّعَنُّتِ - آيَةً عَلَى النُّبُوَّةِ كَالْعَصَا وَالْيَدِ مِنْ آيَاتِ مُوسَى، وَكَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَاقْتِرَاحِهِمْ لِذَلِكَ بِحَرْفِ التَّحْضِيضِ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ الْحَضِّ فِي طَلَبِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا يَأْتِينَا [20 \ 138] ، أَيْ: هَلَّا يَأْتِينَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ: كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، أَيْ: نَطْلُبُ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَضٍّ وَحَثٍّ. فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [20 \ 133] وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُ آيَةٌ هِيَ أَعْظَمُ الْآيَاتِ وَأَدَلُّهَا عَلَى الْإِعْجَازِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى صِحَّةِ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِدْقِهَا وَصِحَّتِهَا: كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [5 \ 48] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [27] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [3 \ 93] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي هُوَ الْأَظْهَرُ أَوْضَحَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [29 - 51] فَقَوْلُهُ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [29 \ 51] هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي «طه» : الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى كَمَا أَوْضَحْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِن َ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُوتِيَ مَا آمَنَ الْبَشَرُ عَلَى مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» أَنَّ آيَةَ «طه» هَذِهِ تُشِيرُ إِلَى مَعْنَاهَا آيَةُ «الْقَصَصِ» الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [28 \ 47] ، وَأَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا لَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا: كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ مُتَرَبِّصٌ، أَيْ: مُنْتَظِرٌ مَا يَحِلُّ بِالْآخَرِ مِنَ الدَّوَائِرِ، كَالْمَوْتِ، وَالْغَلَبَةِ. وَقَدْ أَوْضَحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَا يَنْتَظِرُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُ خَيْرٌ، بِعَكْسِ مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَتَرَبَّصُ الْكُفَّارُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [9 \ 52] ، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ الْآيَةَ [9 \ 98] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ سَيَعْلَمُونَ فِي ثَانِي حَالٍ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى. أَيْ: وُفِّقَ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ، وَالدَّيْمُومَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ. وَالْمَعْنَى: سَيَتَّضِحُ لَكُمْ أَنَّا مُهْتَدُونَ، وَأَنَّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ وَبَاطِلٍ. وَهَذَا يَظْهَرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ، وَيَظْهَرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَوْنَهُ مَنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [25 \ 42] ، وَقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [54 \ 26] وَقَوْلِهِ: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [38 \ 88] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالصِّرَاطُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ. وَالسَّوِيُّ: الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ وَ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ مَنْ أَصْحَابُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَوْصُولَةٌ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «تَعْلَمُونَ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي «مَرْيَمَ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَخْفَوُا النَّجْوَى فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَائِلِينَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ؟ وَالنَّجْوَى: الْإِسْرَارُ بِالْكَلَامِ وَإِخْفَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ بَشَرًا مِثْلَهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، وَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] وَقَوْلِهِ: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ الْآيَةَ [64 \ 6] وَقَوْلِهِ: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [54 \ 24] وَقَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 \ 33 - 34] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ الْآيَةَ [25 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْآيَةَ [14 \ 10] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ. وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةَ الَّتِي هِيَ مَنْعُ إِرْسَالِ الْبَشَرِ، كَقَوْلِهِ هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [21 \ 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً الْآيَةَ [13 \ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 20] وَقَوْلُهُ هُنَا: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [21 \ 8] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَجُمْلَةُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قِيلَ: بَدَلٌ مِنَ «النَّجْوَى» . أَيْ: أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّتِي هِيَ هَذَا الْحَدِيثُ الْخَفِيُّ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَصَدَّرَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ لِلنَّجْوَى. لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْخَفِيِّ. أَيْ: قَالُوا فِي خُفْيَةٍ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَقِيلَ: مَعْمُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَالُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَهُوَ أَظْهَرُهَا؛ لِاطِّرَادِ حَذْفِ الْقَوْلِ مَعَ بَقَاءِ مَقُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ ظَلَمُوا أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْإِعْرَابِ مَعْرُوفَةٌ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] ،. فَقَوْلُهُ مَنْ بَدَلٌ مِنْ «النَّاسِ» : بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَا عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. كَمَا قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ. إِعْرَابُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ جَارٍ مَجْرَى إِعْرَابِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، الَّتِي هِيَ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِحْرٌ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الزَّعْمِ الْبَاطِلِ أَنْكَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِتْيَانَ السِّحْرِ وَهُمْ يُبْصِرُونَ. يَعْنُونَ بِذَلِكَ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ نُصَدِّقَكَ وَنَتَّبِعَكَ، وَنَحْنُ نُبْصِرُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِحْرٌ، كَقَوْلِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [74 \ 24] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [51 \ 52] . وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ بِقَوْلِهِ هُنَا: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [21 \ 4] يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الَّذِي هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَكَوْنُ مَنْ أَنْزَلَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صِدْقِهِ فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَسَلَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ، وَالنَّقَائِصِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [25 \ 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [4 \ 166] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْقَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ قُلْ بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضْرَابَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [21 \ 5] إِلَخْ، إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ لَا إِبْطَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ صَدَرَتْ مِنْ طَائِفَةٍ مُتَّفِقَةٍ لَا يَثْبُتُونَ عَلَى قَوْلٍ، بَلْ تَارَةً يَقُولُونَ هُوَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً شَاعِرٌ، وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لَا يَثْبُتُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ قَالَتْهُ طَائِفَةٌ، كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [15 \ 91] ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَرَدِّهِ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [69 \ 41 - 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [36] ، وَقَوْلِهِ فِي رَدِّ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ افْتَرَاهُ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [10 \ 37 - 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [11 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [12 \ 111] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ فِي رَدِّ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [52 \ 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [81 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 [34 \ 46] وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [23] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ إِبْطَالَ كُلِّ مَا ادَّعَوْهُ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [21 \ 5] أَيْ: أَخْلَاطٌ كَالْأَحْلَامِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَرَاهَا النَّائِمُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَحَادِيثُ طسم أَوْ سَرَابٌ بِفَدْفَدِ ... تَرَقْرَقَ لِلسَّارِي وَأَضْغَاثُ حَالِمِ وَعَنِ الْيَزِيدِيِّ: الْأَضْغَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ اقْتَرَحُوا عَلَى نَبِيِّنَا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ كَآيَاتِ الرُّسُلِ قَبْلَهُ؛ نَحْوِ نَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَى مُوسَى، وَرِيحِ سُلَيْمَانَ، وَإِحْيَاءِ عِيسَى لِلْأَمْوَاتِ، وَإِبْرَائِهِ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِيضَاحُ وَجْهِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ هُوَ أَنَّهُ فِي مَعْنَى: كَمَا أَتَى الْأَوَّلُونَ بِالْآيَاتِ؛ لِأَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِتْيَانِ بِالْآيَاتِ. فَقَوْلُكَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُعْجِزَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَوْ جَاءَتْهُمْ مَا آمَنُوا، وَأَنَّهَا لَوْ جَاءَتْهُمْ وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ صَالِحٍ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا الْآيَةَ [17 \ 59] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [6 \ 109] . وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [21 \ 6] يَعْنِي أَنَّ الْأُمَمَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا لَمْ يُؤْمِنُوا، بَلْ تَمَادَوْا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَأَنْتُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ عُتُوًّا وَعِنَادًا. فَلَوْ جَاءَكُمْ مَا اقْتَرَحْتُمْ مَا آمَنْتُمْ، فَهَلَكْتُمْ كَمَا هَلَكُوا. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [10 \ 96 - 97] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبَيِّنَ أَنَّهُمْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ هِيَ أَعْظَمُ الْآيَاتِ، فَيَسْتَحِقُّ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بِهَا التَّقْرِيعَ وَالتَّوْبِيخَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ الْآيَةَ [29 - 51] . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الصُّحُفِ الْأُولَى [20 \ 133] وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [21 \ 8] ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ. بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى الْأُمَمِ فَكَذَّبُوهُمْ، وَأَنَّهُ وَعَدَ الرُّسُلَ بِأَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ وَالْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ، وَأَنَّهُ صَدَقَ رُسُلَهُ ذَلِكَ الْوَعْدَ فَأَنْجَاهُمْ. وَأَنْجَى مَعَهُمْ مَا شَاءَ أَنْ يُنْجِيَهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ مِنْ أُمَمِهِمْ، وَأَهْلَكَ الْمُسْرِفِينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [12 \ 110] وَقَوْلِهِ: فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [14 \ 47] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [14 \ 13 - 14] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 171 - 173] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا الْآيَةَ [11 \ 58] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا الْآيَةَ [11 \ 66] وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [11 \ 94] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ «صَدَقَ» تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا وَبِالْحَرْفِ، تَقُولُ: صَدَقْتُهُ الْوَعْدَ، وَصَدَقْتُهُ فِي الْوَعْدِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ [21 \ 9] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [3 \ 152] فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: «صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ كَقَوْلِهِ: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا» - لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمَعَاصِي كَالْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْمُسْرِفِينَ عَلَى الْكُفَّارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ. «وَكَمْ» هُنَا لِلْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لِأَنَّهَا مَفْعُولُ «قَصَمْنَا» أَيْ: قَصَمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ ظَالِمَةً، وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [17 \ 17] وَقَوْلِهِ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا الْآيَةَ [22 \ 45] وَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [65 \ 8 - 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ قَصَمْنَا أَصْلُ الْقَصْمِ: أَفْظَعُ الْكَسْرِ؛ لِأَنَّهُ الْكَسْرُ الَّذِي يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْفَصْمِ - بِالْفَاءِ - فَهُوَ كَسْرٌ لَا يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الْأَجْزَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَصْمِ فِي الْآيَةِ: الْإِهْلَاكُ الشَّدِيدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ الْآيَةَ [21 \ 18] . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَ هَذَا، قَدْ قَدَّمْنَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مَا يُبَيِّنُهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا عَلَيْهِ: إِنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بَيَانًا شَافِيًا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَبَيَّنَ هُنَا بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ عَلَى رَبِّهِمْ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلَادِ - وَهُمْ فِي زَعْمِهِمُ الْمَلَائِكَةُ - بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ الَّذِي هُوَ «بَلْ» مُبَيِّنًا أَنَّهُمْ عِبَادُهُ الْمُكْرَمُونَ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لِسَيِّدِهِ. ثُمَّ أَثْنَى عَلَى مَلَائِكَتِهِ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَ رَبَّهُمْ بِالْقَوْلِ، أَيْ: لَا يَقُولُونَ إِلَّا مَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوهُ لِشِدَّةِ طَاعَتِهِمْ لَهُ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدُهُ وَمِلْكُهُ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لِسَيِّدِهِ، أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [2 \ 116] وَقَوْلِهِ فِي «النِّسَاءِ» : إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [4 \ 171] أَيْ: وَالْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُنَافِي الْوَلَدِيَّةَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ سِوَاهُ إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَهُوَ مِلْكٌ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا -. وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَى مَلَائِكَتِهِ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى. عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66 \ 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 10 - 12] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [21 \ 19 - 20] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. مَسْأَلَةٌ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَبَ إِذَا مَلَكَ ابْنَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. فَنَفَى اللَّهُ تِلْكَ الدَّعْوَى بِأَنَّهُمْ عِبَادُهُ وَمِلْكُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مُنَافَاةِ الْمِلْكِ لِلْوَلَدِيَّةِ، وَأَنَّهُمَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [21 \ 26] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَ كَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ لَوِ ادَّعَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي صَرْفِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْخَاصَّةِ بِهِ إِلَيْهِ لَكَانَ مُشْرِكًا، وَكَانَ جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَصِحُّ فِيمَا لَا يُمْكِنُ وَلَا يَقَعُ، فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ [43 \ 81] وَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الشِّرْكِ. وَهَذَا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا فِي شَأْنِ الْمَلَائِكَةِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي شَأْنِ الرُّسُلِ، عَلَى الْجَمِيعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [39 \ 65] وَلَمَّا ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ [6 \ 84] إِلَى آخَرِ مَنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [6 \ 88] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ الْآيَةَ [21 \ 29] دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ الْخَالِصَةَ لَهُ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنْهَا لِأَحَدٍ وَلَوْ مَلِكًا مُقَرَّبًا، أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [3 \ 79 - 80] وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِسَيِّدِ الْخَلْقِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [3 \ 64] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ «أَوَلَمْ يَرَ» بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ «أَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بِدُونِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِتَوْبِيخِ الْكُفَّارِ وَتَقْرِيعِهِمْ، حَيْثُ يُشَاهِدُونَ غَرَائِبَ صُنْعِ اللَّهِ وَعَجَائِبَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مَا لَا يَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهُ، وَلَا يَضُرُّ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: كَانَتَا التَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا نَوْعُ السَّمَاءِ وَنَوْعُ الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا [35 \ 41] وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ شَيْبَةَ: أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ جِبَالَ قِيسٍ ... وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعًا وَالرَّتْقُ مَصْدَرُ رَتَقَهُ رَتْقًا: إِذَا سَدَّهُ. وَمِنْهُ الرَّتْقَاءُ، وَهِيَ الَّتِي انْسَدَّ فَرْجُهَا، وَلَكِنَّ الْمَصْدَرَ وُصِفَ بِهِ هُنَا، وَلِذَا أَفْرَدَهُ وَلَمْ يَقُلْ كَانَتَا رَتْقَيْنِ. وَالْفَتْقُ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَّصِلَيْنِ، فَهُوَ ضِدُّ الرَّتْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَهُونُ عَلَيْهِمْ إِذَا يَغْضَبُو ... نَ سُخْطُ الْعِدَاةِ وَإِرْغَامُهَا وَرَتْقُ الْفُتُوقِ وَفَتْقُ الرُّتُوقِ ... وَنَقْضُ الْأُمُورِ وَإِبْرَامُهَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، بَعْضُهَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا تَدُلُّ لَهُ قَرَائِنُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 الْأَوَّلُ أَنَّ مَعْنَى كَانَتَا رَتْقًا أَيْ: كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مُتَلَاصِقَةً بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، فَفَتَقَهَا اللَّهُ وَفَصَلَ بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَرَفَعَ السَّمَاءَ إِلَى مَكَانِهَا، وَأَقَرَّ الْأَرْضَ فِي مَكَانِهَا، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْهَوَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ كَانَتْ رَتْقًا، أَيْ: مُتَلَاصِقَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَفَتَقَهَا اللَّهُ وَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، كُلُّ اثْنَتَيْنِ مِنْهَا بَيْنَهُمَا فَصْلٌ، وَالْأَرَضُونَ كَذَلِكَ كَانَتْ رَتْقًا فَفَتَقَهَا، وَجَعَلَهَا سَبْعًا بَعْضُهَا مُنْفَصِلٌ عَنْ بَعْضٍ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى كَانَتَا رَتْقًا أَنَّ السَّمَاءَ كَانَتْ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا مَطَرٌ، وَالْأَرْضُ كَانَتْ لَا يَنْبُتُ فِيهَا نَبَاتٌ، فَفَتَقَ اللَّهُ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: كَانَتَا رَتْقًا أَيْ: فِي ظُلْمَةٍ لَا يُرَى مِنْ شِدَّتِهَا شَيْءٌ، فَفَتَقَهُمَا اللَّهُ بِالنُّورِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. الْخَامِسُ: - وَهُوَ أَبْعَدُهَا لِظُهُورِ سُقُوطِهِ - أَنَّ الرَّتْقَ يُرَادُ بِهِ الْعَدَمُ، وَالْفَتْقُ يُرَادُ بِهِ الْإِيجَادُ، أَيْ: كَانَتَا عَدَمًا فَأَوْجَدْنَاهُمَا. وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا تَرَى. فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ مِنْهَا - وَهُوَ كَوْنُهُمَا كَانَتَا رَتْقًا بِمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا مَطَرٌ، وَالْأَرْضَ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، فَفَتَقَ اللَّهُ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ - قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرَائِنُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ [21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ فِي «رَأَى» أَنَّهَا بَصَرِيَّةٌ، وَالَّذِي يَرَوْنَهُ بِأَبْصَارِهِمْ هُوَ أَنَّ السَّمَاءَ تَكُونُ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا مَطَرٌ، وَالْأَرْضُ مَيِّتَةٌ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَيُشَاهِدُونَ بِأَبْصَارِهِمْ إِنْزَالَ اللَّهِ الْمَطَرَ وَإِنْبَاتَهُ بِهِ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ. الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [21] . وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبِلَهُ، أَيْ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ بِفَتِقِنَا السَّمَاءَ، وَأَنْبَتْنَا بِهِ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ بِفَتِقِنَا الْأَرْضَ - كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. الْقَرِينَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [86 \ 12] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجْعِ نُزُولُ الْمَطَرِ مِنْهَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالْمُرَادَ بِالصَّدْعِ انْشِقَاقُ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا الْآيَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 [80 \ 24 - 26] . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمَا؛ لِلْقَرَائِنِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ الِاسْتِدْلَالِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِظَمِ مِنَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ أَنَّهُمَا كَانَتَا مُتَلَاصِقَتَيْنِ، فَفَتَقَهُمَا اللَّهُ وَفَصَلَ بَعْضَهُمَا عَنْ بَعْضٍ - قَالُوا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ أَنَّهَا مِنْ «رَأَى» الْعِلْمِيَّةِ لَا الْبَصْرِيَّةِ، وَقَالُوا: وَجْهُ تَقْرِيرِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا سَبِيلَ لِلشَّكِّ فِيهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْقَرَائِنِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَرَجَّحُوا هَذَا الْوَجْهَ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا وَلِلْمَاءِ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ مَرْجُوحٌ؛ لِأَنَّ الْمَطَرَ لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاوَاتِ بَلْ مِنْ سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ سَمَاءُ الدُّنْيَا. قُلْنَا: إِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْجَمْعِ لِأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا سَمَاءٌ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، وَبُرْمَةٌ أَعْشَارٌ. اهـ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ «جَعَلَ» هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النُّورِ» : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [24 \ 45] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَاءُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ النُّطْفَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُولَدُ عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ مِنَ النُّطَفِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْمَاءُ الْمَعْرُوفُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ إِمَّا مَخْلُوقَةً مِنْهُ مُبَاشَرَةً كَبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَتَخَلَّقُ مِنَ الْمَاءِ، وَإِمَّا غَيْرَ مُبَاشِرَةٍ؛ لِأَنَّ النُّطَفَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ كُلُّهَا نَاشِئَةٌ عَنِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَنَحْوِهَا ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّحُومِ، وَالْأَلْبَانِ، وَالْأَسْمَانِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ نَاشِئٌ بِسَبَبِ الْمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى خَلْقِهِ كُلَّ حَيَوَانٍ مِنْ مَاءٍ أَنَّهُ كَأَنَّمَا خَلَقَهُ مِنَ الْمَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 لِفَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [21 \ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْمَعَانِيَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي تَأْتِي لَهَا لَفْظَةُ «جَعَلَ» وَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَمْ يَجِئْ فِيهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» . وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ قَالَ: وَخَلَقْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ حَيَوَانٍ؟ وَقَدْ قَالَ: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [15 \ 27] وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مِنَ النُّورِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [5 \ 110] وَقَالَ فِي حَقِّ آدَمَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59] . وَالْجَوَابُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ قَائِمَةٌ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا مَحْسُوسًا؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَخْرُجُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْجِنُّ، وَآدَمُ، وَقِصَّةُ عِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَرَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. اهـ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ أَيْضًا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ الْحَيَوَانُ فَقَطْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ، وَالشَّجَرُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَاءِ صَارَ نَامِيًا، وَصَارَ فِيهِ الرُّطُوبَةُ، وَالْخُضْرَةُ، وَالنُّورُ، وَالثَّمَرُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَفَتَقْنَا السَّمَاءَ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَجَعَلْنَا مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ وَغَيْرِهِ حَيًّا. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ النَّبَاتَ لَا يُسَمَّى حَيًّا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [30 \ 50] انْتَهَى مِنْهُ أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ. تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا، أَيْ: لِأَنَّهَا لِلْأَرْضِ كَالسَّقْفِ لِلْبَيْتِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ السَّقْفَ مَحْفُوظًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْكُفَّارَ مُعْرِضُونَ عَمَّا فِيهَا - أَيِ السَّمَاءِ - مِنَ الْآيَاتِ، لَا يَتَّعِظُونَ بِهِ، وَلَا يَتَذَكَّرُونَ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَمَّا كَوْنُهُ جَعَلَهَا سَقْفًا فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ «الطُّورِ» أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [52 - 5] . وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ السَّقْفِ مَحْفُوظًا فَقَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنَ السُّقُوطِ فِي قَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [22 \ 65] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [30 \ 25] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا [35 \ 41] وَقَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [2 \ 255] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [23 \ 17] عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ. إِذْ لَوْ كُنَّا نَغْفُلُ لَسَقَطَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ فَأَهْلَكَتْهُمْ. وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّشَقُّقِ وَالتَّفَطُّرِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ كَسَائِرِ السُّقُوفِ إِذَا طَالَ زَمَنُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [67 \ 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [50 \ 6] أَيْ: لَيْسَ فِيهَا مِنْ شُقُوقٍ، وَلَا صُدُوعٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ السَّقْفَ الْمَذْكُورَ مَحْفُوظٌ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، كَقَوْلِهِ: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى حِفْظِهَا مِنْ جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» . وَأَمَّا كَوْنُ الْكُفَّارِ مُعْرِضِينَ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ فَقَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [12 \ 105] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا الْآيَةَ [54 \ 2] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [10 \ 96 - 97] وَقَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 101] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُونَ: هُوَ شَاعِرٌ يُتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ كَمَا مَاتَ شَاعِرُ بَنِي فَلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ مَاتَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِكَ، وَتَوَلَّى دِينَهُ بِالنَّصْرِ وَالْحِيَاطَةِ، فَهَكَذَا نَحْفَظُ دِينَكَ وَشَرْعَكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَمَّا نَعَى جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ قَالَ: «فَمَنْ لِأُمَّتِي» ؟ فَنَزَلَتْ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [21 \ 34] وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِبَشَرٍ قَبْلَ نَبِيِّهِ الْخُلْدَ أَيْ: دَوَامَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، بَلْ كُلُّهُمْ يَمُوتُ. وَقَوْلُهُ: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مَعْنَاهُ النَّفْيُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ مِتَّ فَهُمْ لَنْ يَخْلُدُوا بِعْدَكَ، بَلْ سَيَمُوتُونَ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [3 \ 185] وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَمُوتُ، وَأَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ، وَأَنَّ الْمَوْتَ سَتَذُوقُهُ كُلُّ نَفْسٍ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [39 \ 3] وَكَقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [52 \ 26 - 27] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [3 \ 185] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [29 \ 56 - 57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» : أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [4 \ 78] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» اسْتِدْلَالَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مَوْتِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: فَهُمُ الْخَالِدُونَ هُوَ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ. أَيْ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ حَذْفَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهَا جَائِزٌ، وَهُوَ قِيَاسِيٌّ عِنْدَ الْأَخْفَشِ مَعَ «أَمْ» ، وَدُونَهَا ذِكْرُ الْجَوَابِ أَمْ لَا، فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ دُونَ «أَمْ» وَدُونَ ذِكْرِ الْجَوَابِ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ ... وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ يَعْنِي: أَوْ ذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ. وَقَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدٌ: رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ ... فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ يَعْنِي: أَهُمْ هُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ دُونَ «أَمْ» مَعَ ذِكْرِ الْجَوَابِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرَا ... عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 يَعْنِي: أَتَحُبُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَهُوَ مَعَ «أَمْ» كَثِيرٌ جِدًّا، وَأَنْشَدَ لَهُ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ التَّمِيمِيِّ: لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ... شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ يَعْنِي: أَشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ... وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ ... بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يَعْنِي: أَبِسَبْعٍ. وَقَوْلُ الْأَخْطَلِ: كِذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا يَعْنِي: أَكْذَبَتْكَ عَيْنُكَ. كَمَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْأَخْطَلِ هَذَا، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخَلِيلَ قَائِلًا: إِنَّ «كَذَبَتْكَ» صِيغَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّ «أَمْ» بِمَعْنَى بَلْ. فَفِي الْبَيْتِ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ يُسَمَّى «الرُّجُوعَ» . وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَكْثَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِهَا الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» وَذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» هَذِهِ فَهُمُ الْخَالِدُونَ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَفَإِنْ مِتَّ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ «مِتَّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَجْهَ كَسْرِ الْمِيمِ. وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْرَحَ بِمَوْتِ أَحَدٍ لِأَجْلِ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ يَنَالُهُ بِسَبَبِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ لَيْسَ مُخَلَّدًا بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مُسْتَشْهِدًا بِهِمَا: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الَّذِي ... مَضَى تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْآخَرِ: فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 الْمَعْنَى: وَنَخْتَبِرُكُمْ بِمَا يَجِبُ فِيهِ الصَّبْرُ مِنَ الْبَلَايَا، وَمِمَّا يَجِبُ فِيهِ الشُّكْرُ مِنَ النِّعَمِ، وَإِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يُوجَدُ مِنْكُمْ مِنَ الصَّبْرِ أَوِ الشُّكْرِ، وَقَوْلِهِ: فِتْنَةً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِـ وَنَبْلُوكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ أَيْ: يَخْتَبِرُهُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ - قَدْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [7 \ 168] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [6 \ 42 - 45] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 94 - 95] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «بَلَا يَبْلُو» تُسْتَعْمَلُ فِي الِاخْتِبَارِ بِالنِّعَمِ وَبِالْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ «بَلَا يَبْلُو» ، وَفِي الْخَيْرِ «أَبْلَى يُبْلِي» . وَقَدْ جَمَعَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْخَيْرِ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ قَالَ: أَيْ نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً بِالشِّدَّةِ، وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ، وَالسُّقْمِ، وَالْغِنَى، وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهُدَى، وَالضَّلَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا رَأَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَتَّخِذُونَهُ إِلَّا هُزُوًا، أَيْ مُسْتَهْزَأً بِهِ مُسْتَخَفًّا بِهِ. وَالْهُزُؤُ: السُّخْرِيَةُ، فَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. وَيَقُولُونَ: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَنْفِي أَنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ وَتُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وَيَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَلَا تَضُرُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا، وَهُمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ كَافِرُونَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا رَآكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَ «إِنْ» فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ نَافِيَةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ قَالَ فِيهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: إِنَّهُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمَذْكُورِ التَّحْقِيرَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ قَوْلِهِ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّ مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي تُؤَدَّى بِالِاسْتِفْهَامِ التَّحْقِيرَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ جَوَابَ «إِذَا» هُوَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُونَ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ. وَقَالَ: إِنَّ جُمْلَةَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ إِذَا وَجَوَابِهَا. وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ أَنَّ جَوَابَ «إِذَا» هُوَ جُمْلَةُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وَقَالَ: إِنَّ جَوَابَ إِذَا بِجُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِـ «إِنْ» أَوْ «مَا» النَّافِيَتَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاقْتِرَانِ بِالْفَاءِ. وَقَوْلِهِ: يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أَيْ: يَعِيبُهَا. وَمِنْ إِطْلَاقِ الذِّكْرِ بِمَعْنَى الْعَيْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [21 \ 60] أَيْ: يَعِيبُهُمْ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ ... فَيَكُونُ جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الْأَجْرَبِ أَيْ لَا تَعِيبِي مُهْرِي، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الذِّكْرُ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِخِلَافِهِ، فَإِذَا دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى أَحَدِهِمَا أُطْلِقُ وَلَمْ يُقَيَّدْ، كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَذْكُرُكَ، فَإِذَا كَانَ الذَّاكِرُ صَدِيقًا فَهُوَ ثَنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا فَذَمٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [21 \ 60] وَقَوْلِهِ: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [21 \ 36] انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ حَالِيَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى كُفْرِهِمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُوَ الْمُوَضَّحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [25 \ 60] وَقَوْلُهُمْ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحِمْنَ الْيَمَامَةَ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمُ الرَّحْمَنَ تَجَاهُلٌ مِنْهُمْ وَمُعَانَدَةٌ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرَّحْمَنَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجُهَلَاءُ: أَلَا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا ... أَلَا قَطَعَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ الطُّهَوِيُّ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجَلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ ... وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدُ وَيُطْلِقُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَامٍ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَيَسُوءُهُمْ أَنْ تُذَكَرَ بِسُوءٍ، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَا تَشْفَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ. وَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمْ بِهِ كَافِرُونَ لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُتَّخَذُوا هُزُؤًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي اتَّخَذُوهُ هُزُؤًا، فَإِنَّهُ مُحِقٌ وَهُمْ مُبْطِلُونَ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ جَاءَ أَيْضًا مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [25 \ 41 - 42] فَتَحْقِيرُهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [21 \ 36] هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [25 \ 41] وَذِكْرُهُ لِآلِهَتِهِمْ بِالسُّوءِ الْمَذْكُورِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْفُرْقَانِ» فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [20 \ 42] أَيْ: لِمَا يُبَيِّنُ مِنْ مَعَائِبِهَا، وَعَدَمِ فَائِدَتِهَا، وَعِظَمِ ضَرَرِ عِبَادَتِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُورِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ عَجَلٍ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ، وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا. أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتِ الْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَجَلُ: الطِّينُ، وَهِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ: الْبَيْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ ... وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ يَعْنِي: بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: خُلِقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [17 \ 61] وَقَوْلِهِ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [32 \ 7] وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَجَلِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الطِّينَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 [21 \ 38] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَجَلِ هُوَ الْعَجَلَةُ الَّتِي هِيَ خِلَافُ التَّأَنِّي، وَالتَّثَبُّتِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خُلِقَ مِنْ كَذَا. يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْمُبَالِغَةَ فِي الْإِنْصَافِ. كَقَوْلِهِمْ: خُلِقَ فَلَانٌ مِنْ كَرَمٍ، وَخُلِقَتْ فُلَانَةُ مِنَ الْجَمَالِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [30 \ 54] عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [17 \ 11] أَيْ: وَمِنْ عَجَلَتِهِ دُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِالشَّرِّ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُلْجِئَةَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ، وَيَقُولُونَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ. فَنَزَلَ قَوْلُهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ لِلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ. كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوا، فَإِنَّكُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ طَبْعُكُمْ وَسَجِيَّتُكُمْ. ثُمَّ وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُرِيهِمْ آيَاتِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَسْتَعْجِلُوا بِقَوْلِهِ: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [21 \ 37] كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [41 \ 53] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ آدَمُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ: لَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْ آدَمَ نَظَرَ فِي ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ جَوْفَهُ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ؛ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَغَيْرِهِمَا: خُلِقَ آدَمُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أَحْيَا اللَّهُ رَأْسَهُ اسْتَعْجَلَ وَطَلَبَ تَتْمِيمَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ مِنْ طَبْعِهِ الْعَجَلُ وَعَدَمُ التَّأَنِّي كَمَا بَيَّنَّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ فِي النُّفُوسِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَاسْتَعْجَلَتْ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لَا يُؤَخِّرُ. وَلِهَذَا قَالَ: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي أَيْ: نَقْمِي وَحُكْمِي، وَاقْتِدَارِي عَلَى مَنْ عَصَانِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ. انْتَهَى مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ. جَوَابُ «لَوْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَشَوَاهِدَهُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» وَسُورَةِ «يُوسُفَ» . وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ يَعْلَمُ الْكُفَّارُ الْوَقْتَ الَّذِي يَسْأَلُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ؟ وَهُوَ وَقْتٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ، تُحِيطُ بِهِمْ فِيهِ النَّارُ مِنْ وَرَاءَ وَقُدَّامَ. فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِهَا وَدَفْعِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ؛ لَمَّا كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالِاسْتِعْجَالِ، وَلَكِنَّ جَهْلَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي هَوَّنَهُ عَلَيْهِمْ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْمَعَانِي جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا إِحَاطَةُ النَّارِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [18 \ 29] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ الْآيَةَ [7 \ 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ [39 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [14 \ 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [23 \ 104] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. نَرْجُو اللَّهَ الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ أَنْ يُعِيذَنَا مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ مَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ وَلَا قُوَّةٌ يَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [86 \ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [37 \ 25 - 26] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الَّذِي هَوَّنَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْعَظِيمَ حَتَّى اسْتَعْجَلُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِمَنْ يُخَوِّفُهُمْ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ جَهْلُهُمْ بِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [42] 18، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [10 \ 50] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ يَعْلَمُ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِرْفَانِيَّةٌ، فَهِيَ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وَظَنِّ تُهَمَةْ ... تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدِ مُلْتَزَمَةْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وَعَلَى هَذَا فَالْمَفْعُولُ هَذَا قَوْلُهُ: حِينَ أَيْ: لَوْ يَعْرِفُونَ حِينَ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَظَائِعِ لَمَا اسْتَخَفُّوا بِهِ وَاسْتَعْجَلُوهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْحِينُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا مَفْعُولٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِ الْحِينِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِعْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَلَيْسَ وَاقِعًا عَلَى مَفْعُولٍ. وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ وَلَمْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ لَمَا كَانُوا مُسْتَعْجِلِينَ. وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [39 \ 9] وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِفَاعِلِهِ فِي الْكَلَامِ الْمُثْبَتِ، أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى اللَّازِمِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [39 \ 9] لِأَنَّهُ يُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ صِفَةُ الْعِلْمِ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَمَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا وُقُوعُ الْعِلْمِ عَلَى مَعْلُومَاتِ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: حِينَ لَا يَكُفُّونَ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ. أَيْ: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وَجْهِهِمُ النَّارَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْبَاطِلِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ. وَاسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ مَفْعُولَ «يَعْلَمُ» مَحْذُوفٌ، وَأَنَّهُ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «حِينَ» ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَجِيءَ الْمَوْعُودِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ حِينَ لَا يَكُفُّونَ لَمَا كَفَرُوا وَاسْتَعْجَلُوا وَاسْتَهْزَءُوا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مَعَ قَوْلِهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ فَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنَ الْعَجَلِ وَجُبِلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْهَاهُ عَمَّا خُلِقَ مِنْهُ وَجُبِلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمُحَالٍ! ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ هُوَ جُبِلَ عَلَى الْعَجَلِ، وَلَكِنْ فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِالتَّأَنِّي. كَمَا أَنَّهُ جُبِلَ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ مَعَ أَنَّهُ فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِالْكَفِّ عَنْهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. [79 \ 40 - 41] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ إِخْوَانَهُ مِنَ الرُّسُلِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمُ - اسْتَهْزَأَ بِهِمُ الْكُفَّارُ، كَمَا اسْتَهْزَءُوا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا، وَلَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَالنَّصْرُ النِّهَائِيُّ كَمَا كَانَ لَهُمْ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذَلِكَ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [41 \ 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [11 \ 120] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [35 \ 25 - 26] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [35 \ 4] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ. وَمَادَّةُ حَاقَ يَائِيَّةُ الْعَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْمُضَارِعِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 43] وَلَا تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ إِلَّا فِي إِحَاطَةِ الْمَكْرُوهِ خَاصَّةً. فَلَا تَقُولُ: حَاقَ بِهِ الْخَيْرُ بِمَعْنَى أَحَاطَ بِهِ. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ: وَحَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَحَاقَ أَيْ: أَحَاطَ وَدَارَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا وَسَخِرُوا مِنْهُمْ وَهَزِئُوا بِهِمْ (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [21 \ 41] أَيْ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّخْرِيَةَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبَيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْرِضِينَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيْ: مَنْ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُكُمْ وَيَحْرُسُكُمْ بِاللَّيْلِ فِي حَالِ نَوْمِكُمْ وَالنَّهَارِ فِي حَالِ تَصَرُّفِكُمْ فِي أُمُورِكُمْ. وَالْكِلَاءَةُ بِالْكَسْرِ: الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ. يُقَالُ: اذْهَبْ فِي كِلَاءَةِ اللَّهِ. أَيْ: فِي حِفْظِهِ، وَاكْتَلَأْتُ مِنْهُمْ: احْتَرَسْتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ هَرْمَةَ: إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: أَنَخْتُ بَعِيرِي وَاكْتَلَأْتُ بِعَيْنِهِ ... وَآمَرْتُ نَفْسِي أَيَّ أَمْرِي أَفْعَلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ مِنَ الرَّحْمَنِ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ «مِنْ» هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى بَدَلَ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: بَدَلَ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي غَيْرَهُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ كَثِيرٍ لِذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ: جَارِيَةٌ لَمْ تَلْبَسِ الْمُرَقَّقَا ... وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا أَيْ لَمْ تَذُقْ بَدَلَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [9 \ 38] أَيْ: بَدَلَهَا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفَصِيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفِيلَا يَعْنِي: أَخَذُوا فِي الزَّكَاةِ الْمَخَاضَ بَدَلَ الْفَصِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيْ: يَحْفَظُكُمْ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ وَبَأْسِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي. وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [11 \ 63] أَيْ: مَنْ يَنْصُرُنِي مِنْهُ فَيَدْفَعُ عَنِّي عَذَابَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، وَهُوَ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْرِيرَ. فَوَجْهُ كَوْنِهِ إِنْكَارِيًّا أَنَّ الْمَعْنَى: لَا كَالِئَ لَكُمْ يَحْفَظُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وُوجْهُ كَوْنِهِ تَقْرِيرِيًّا أَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ؟ اضْطُرُّوا إِلَى أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الَّذِي يَكْلَؤُهُمْ هُوَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُخْلِصُونَ لَهُ الدُّعَاءَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، وَلَا يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» وَغَيْرِهَا. فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، كَيْفَ يَصْرِفُونَ حُقُوقَ الَّذِي يَحْفَظُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى مَا لَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَحْرُسُهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ الْحَافِظَ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [13 \ 11] عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا الْآيَةَ [48 \ 11] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [33 \ 17] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [5 \ 17] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [33 \ 88] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ. قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَهِيَ بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَلَهَمْ آلِهَةٌ تَجْعَلُهُمْ فِي مَنَعَةٍ وَعِزٍّ حَتَّى لَا يَنَالُهُمْ عَذَابُنَا. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَ لَا تَسْتَطِيعُ نَفْعَ أَنْفُسِهَا، فَكَيْفَ تَنْفَعُ غَيْرَهَا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ [21 \ 43] وَقَوْلِهِ: مِنْ دُونِنَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُتَعَلِّقُ آلِهَةً أَيْ: أَلَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا أَيْ: سِوَانَا تَمْنَعُهُمْ مِمَّا نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَهُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ تَمْنَعُهُمْ لِقَوْلِ الْعَرَبِ: مَنَعْتُ دُونَهُ، أَيْ: كَفَفْتُ أَذَاهُ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ الْآيَةَ [21 \ 29] وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الْآيَةَ [25 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْآلِهَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا لَا تَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَنْفُسِهَا، فَكَيْفَ تَنْفَعُ غَيْرَهَا - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ [7 \ 191 - 195] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [7 \ 197] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ الْآيَةَ [35 \ 13 - 14] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [46 \ 5] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ الْمَعْبُودَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهَا نَفْعٌ أَلْبَتَّةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: يُجَارُونَ، أَيْ: لَيْسَ لِتِلْكَ الْآلِهَةِ مُجِيرٌ يُجِيرُهُمْ مِنَّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [23 \ 88] فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [23 \ 88] وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَنَا جَارٌ لَكَ وَصَاحِبٌ مِنْ فَلَانٍ، أَيْ: مُجِيرٌ لَكَ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا ... لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دَوَانِي يَعْنِي: لِيُجَارَ وَيُغَاثَ مِنَّا. وَأَغْلَبُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: يُصْحَبُونَ يُمْنَعُونَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: يُنْصَرُونَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: لَا يَصْحَبُهُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ، وَلَا يَجْعَلُ الرَّحْمَةَ صَاحِبًا لَهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضْرَابَ بَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ انْتِقَالِيٌّ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَؤُلَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ الْآيَةَ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنِ اتَّخَذَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَتَّعَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَآبَاءَهُمْ قَبْلَهُمْ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا حَتَّى طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي رَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ، فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الطُّغْيَانِ، وَاللَّجَاجِ فِي الْكُفْرِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الْكُفَّارَ وَيُمْلِي لَهُمْ فِي النِّعْمَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَضَلَالًا - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [7 \ 182 - 183] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [25 \ 18] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [43 \ 29] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعُمْرُ يُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ الْعَيْشِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 فِي مَعْنَى إِتْيَانِ اللَّهِ الْأَرْضَ يَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُهَا تَدُلُّ لَهُ قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَقْصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا: مَوْتُ الْعُلَمَاءِ، وَجَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ دَلَالَةِ السِّيَاقِ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَقْصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا خَرَابُهَا عِنْدَ مَوْتِ أَهْلِهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَقْصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا هُوَ نَقْصُ الْأَنْفُسِ، وَالثَّمَرَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَى نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَيْ: نَنْقُصُ أَرْضَ الْكُفْرِ وَدَارَ الْحَرْبِ، وَنَحْذِفُ أَطْرَافَهَا بِتَسْلِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا، وَرَدِّهَا دَارَ إِسْلَامٍ. وَالْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هِيَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ [21 \ 44] وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ غَلَبَتِهِمْ. وَقِيلَ: لِتَقْرِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ لَا غَالِبُونَ، فَقَوْلُهُ: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَقْصَ الْأَرْضِ مِنْ أَطْرَافِهَا سَبَبٌ لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ [13 \ 31] عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَارِعَةِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ سَرَايَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْتَحُ أَطْرَافَ بِلَادِهِمْ، أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ هُنَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «الرَّعْدِ» أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [13 \ 41] وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» هَذِهِ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [46 \ 27] . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ صَوَابٌ، وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَفَلَا يَرَى كُفَّارُ مَكَّةَ وَمَنْ سَارَ سَيْرَهُمْ فِي تَكْذِيبِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالْكَفْرِ بِمَا جِئْتَ بِهِ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَيْ: بِإِهْلَاكِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ كَمَا أَهْلَكْنَا قَوْمَ صَالِحٍ وَقَوْمَ لُوطٍ، وَهُمْ يَمُرُّونَ بِدِيَارِهِمْ. وَكَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 أَهْلَكْنَا قَوْمَ هُودٍ، وَجَعَلْنَا سَبَأً أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءُوا بِهِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى [46 \ 27] كَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَسَبَأٍ، فَاحْذَرُوا مِنْ تَكْذِيبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا نُنْزِلَ بِكُمْ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا بِهِمْ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ بَعْدَهُ: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَلَبَةَ لِحِزْبِ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي أَهْلَكَ مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ بِأَقْوَى مِنْهُمْ، وَلَا أَكْثَرَ أَمْوَالًا وَلَا أَوْلَادًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ الْآيَةَ [44 \ 37] . وَقَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [40 \ 82] وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الْآيَةَ [30 \ 90] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِنْذَارُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا وَقَعَ لِمَنْ كَذَّبَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ. وَبِهِ تَعْلَمُ اتِّجَاهَ مَا اسْتَحْسَنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ آيَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» هَذِهِ بِآيَةِ «الْأَحْقَافِ» الْمَذْكُورَةِ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: نَأْتِي الْأَرْضَ؟ قُلْتُ: فِيهِ تَصْوِيرُ مَا كَانَ اللَّهُ يُجْرِيهِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عَسَاكِرَهُمْ وَسَرَايَاهُمْ كَانَتْ تَغْزُو أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَأْتِيهَا غَالِبَةً عَلَيْهَا نَاقِصَةً مِنْ أَطْرَافِهَا. اهـ مِنْهُ. وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَتُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ وَزْنًا فِي غَايَةِ الْعَدَالَةِ وَالْإِنْصَافِ، فَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالدِّقَّةِ كَمِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَكَفَى بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - حَاسِبًا؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْمَوَازِينَ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَزْنِ مِنْهَا مَا يَخِفُّ، وَمِنْهَا مَا يَثْقُلُ، وَأَنَّ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ هَلَكَ، وَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ نَجَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [7 \ 8 - 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [23 \ 101 - 103] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [101 \ 6 - 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ مَوَازِينَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَوَازِينُ قِسْطٍ ذَكَرَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [7 \ 8] لِأَنَّ الْحَقَّ عَدْلٌ وَقِسْطٌ، وَمَا ذَكَرَهُ فِيهَا مِنْ أَنَّهُ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [10 \ 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18 \ 49] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» . وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَتَى بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [31 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99 \ 7 - 8] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مِيزَانٍ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ تَعَدُّدُ الْمُوَازِينِ لِكُلِّ شَخْصٍ؛ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [23 \ 102] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [23] فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ الْوَاحِدِ مَوَازِينَ يُوزَنُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ مِنْ أَعْمَالِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَلِكٌ تَقُومُ الْحَادِثَاتُ لِعَدْلِهِ ... فَلِكُلِّ حَادِثَةٍ لَهَا مِيزَانُ وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ فِيهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آخِرِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْقِسْطَ أَيِ الْعَدْلَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَلِذَا لَزِمَ إِفْرَادُهُ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرَا ... فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّعْتَ بِالْمَصْدَرِ يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ الْمُبَالَغَةُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ بِنِيَّةِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ بَالَغَ فِي عَدَالَةِ الْمَوَازِينِ حَتَّى سَمَّاهَا الْقِسْطَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ. وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى: الْمَوَازِينُ ذَوَاتُ الْقِسْطِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِيهَا أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: (مِنْهَا) : أَنَّهَا لِلتَّوْقِيتِ، أَيِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْوَقْتِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: جِئْتُ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَامُ «كَيْ» ، أَيْ: نَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِأَجْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ: لِحِسَابِ النَّاسِ فِيهِ حِسَابًا فِي غَايَةِ الْعَدَالَةِ، وَالْإِنْصَافِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّهَا بِمَعْنَى فِي، أَيْ: نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّامَ تَأْتِي بِمَعْنَى فِي، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [21 \ 47] أَيْ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [7 \ 187] أَيْ: فِي وَقْتِهَا. وَوَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَابْنُ مَالِكٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَنْشَدَ مُسْتَشْهِدًا لِذَلِكَ قَوْلَ مِسْكِينٍ الدَّارِمِيِّ: أُولَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ ... كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ عَادٌ وَتُبَّعُ يَعْنِي مَضَوْا فِي سَبِيلِهِمْ. وَقَوْلَ الْآخَرِ: وَكُلُّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ عُمِّرَا مَعًا ... مُقِيمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ أَيْ فِي وَقْتٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِـ تُظْلَمُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ. أَيْ: شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ لَا قَلِيلًا، وَلَا كَثِيرًا. وَمِثْقَالُ الشَّيْءِ: وَزْنُهُ. وَالْخَرْدَلُ: حَبٌّ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وَالدِّقَّةِ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: هُوَ زَرِيعَةُ الْجِرْجِيرِ. وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ مِثْقَالَ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِاكْتِسَابِهِ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَرُبَّمَا أَكْسَبَ ثَانٍ أَوَّلًا ... تَأْنِيثًا إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُؤَهَّلًا وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... نَقَضْنَ كُلِّي وَنَقَضْنَ بِعْضِي وَقَوْلُ الْأَعْشَى: وَتُشْرِقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتُهُ ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ فَقَدْ أَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ لَفْظَةَ «كُلُّ» لِإِضَافَتِهَا إِلَى «عَيْنٍ» . وَأَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي لَفْظَةَ «طُولُ» لِإِضَافَتِهَا إِلَى «اللَّيَالِي» وَأَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ الصَّدْرَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى «الْقَنَاةِ» وَأَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الرَّابِعِ «مَرُّ» لِإِضَافَتِهِ إِلَى «الرِّيَاحِ» . وَالْمُضَافَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَوْ حُذِفَتْ لَبَقِيَ الْكَلَامُ مُسْتَقِيمًا، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:. . . . . . . . . . إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُؤَهَّلًا وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ مَا عَدَا نَافِعًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ بِنَصْبِ مِثْقَالَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ أَيْ: وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي يُرَادُ وَزْنُهُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ بِالرَّفْعِ، فَاعِلُ كَانَ عَلَى أَنَّهَا تَامَّةٌ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَيْ: كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ وَبَّخَ مَنْ يُنْكِرُونَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الْقُرْآنَ مُبَارَكٌ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [6 \ 155] وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [6 \ 92] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «ص» : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَنَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى الْقَرِيبَ الْمُجِيبَ أَنْ تَغْمُرَنَا بَرَكَاتُ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الْمُبَارَكِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا لِتَدَبُّرِ آيَاتِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْمَكَارِمِ وَالْآدَابِ، امْتِثَالًا وَاجْتِنَابًا، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ. قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَفْحَمَ قَوْمَهُ الْكَفَرَةَ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ لَجَئُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ، فَقَالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [21 \ 68] أَيْ: بِقَتْلِكُمْ عَدُوَّهَا إِبْرَاهِيمَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَهِيَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا قَتْلَهُ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» أَنَّهُمْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [29 \ 24] وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [29 \ 24] . وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْمُبْطِلَ إِذَا أُفْحِمَ بِالدَّلِيلِ لَجَأَ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَّةِ لِيَسْتَعْمِلَهَا ضِدَّ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِينَ آلِهَتَكُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، فَاخْتَارُوا لَهُ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ، وَهِيَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ، وَإِلَّا فَقَدَ فَرَّطْتُمْ فِي نَصْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ. فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: قَالُوا حَرِّقُوهُ فَرَمَوْهُ فِي النَّارِ، فَلَمَّا فَعَلُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 ذَلِكَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا وَقَدْ بَيَّنَ فِي «الصَّافَّاتِ» أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ فِي النَّارِ بَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا لِيُلْقُوهُ فِيهِ. وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ مِنْ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ الْعَالِي بِالْمَنْجَنِيقِ بِإِشَارَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسٍ (يَعْنُونَ الْأَكْرَادَ) وَأَنَّ اللَّهَ خَسَفَ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [37 \ 97] وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ مِنْ شِدَّةِ هَذِهِ النَّارِ وَارْتِفَاعِ لَهَبِهَا، وَكَثْرَةِ حَطَبِهَا شَيْئًا عَظِيمًا هَائِلًا. وَذَكَرُوا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَتَّفُوهُ مُجَرَّدًا وَرَمَوْهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا اللَّهُ فَنِعِمَّا، قَالَ: لِمَ لَا تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: عِلْمُهُ بِحَالِي كَافٍ عَنْ سُؤَالِي. وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ أَمَرَ النَّارَ بِأَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ أَنْ تَكُونَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْجَاهُ مِنْ تِلْكَ النَّارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُونِي بَرْدًا [21] يَدُلُّ عَلَى سَلَامَتِهِ مِنْ حَرِّهَا، وَقَوْلَهُ: وَسَلَامًا يَدُلُّ عَلَى سَلَامَتِهِ مِنْ شَرِّ بَرْدِهَا الَّذِي انْقَلَبَتِ الْحَرَارَةُ إِلَيْهِ، وَإِنْجَاؤُهُ إِيَّاهُ مِنْهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ هُنَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [29 \ 24] وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا [21 \ 71] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [21 \ 70] يُوَضِّحُهُ مَا قَبْلَهُ. فَالْكَيْدُ الَّذِي أَرَادُوهُ بِهِ: إِحْرَاقُهُ بِالنَّارِ نَصْرًا مِنْهُمْ لِآلِهَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ، وَجَعْلِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيِ الَّذِينَ هُمْ أَكْثَرُ خُسْرَانًا لِبُطْلَانِ كَيْدِهِمْ وَسَلَامَتِهِ مِنْ نَارِهِمْ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» فِي قَوْلِهِ: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [37 \ 98] وَكَوْنُهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَاضِحٌ؛ لِعُلُوِّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامَتِهِ مِنْ شَرِّهِمْ. وَكَوْنِهُمُ الْأَخْسَرِينَ لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ خَلْقًا مِنْ أَضْعَفِ خَلْقِهِ فَأَهْلَكَهُمْ وَهُوَ الْبَعُوضُ. وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ كُلَّ الدَّوَابِّ تُطْفِئُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّارَ، إِلَّا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ يَنْفُخُ النَّارَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» . وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَسَلَامًا لَكَانَ بَرْدُهَا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ حَرِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَكَانَ بَرْدُهَا بَاقِيًا إِلَى الْأَبَدِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 عَنْهُمْ - لَوْ لَمْ يَقُلْ: وَسَلَامًا لَمَاتَ إِبَرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا. وَعَنِ السُّدِّيُّ: لَمْ تَبْقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَارٌ إِلَّا طَفِئَتْ. وَعَنْ كَعْبٍ وَقَتَادَةَ: لَمْ تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا وِثَاقَهُ. وَعَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ. وَعَنْ شُعَيْبٍ الْحِمَّانِيِّ أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُلْقِيَ فِيهَا وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: بَرَدَتْ نِيرَانُ الْأَرْضِ جَمِيعًا، فَمَا أَنْضَجَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ كُرَاعًا. وَذَكَرُوا فِي الْقِصَّةِ أَنَّ نَمْرُوذَ أَشْرَفَ عَلَى النَّارِ مِنَ الصَّرْحِ، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ جَالِسًا عَلَى السَّرِيرِ يُؤْنِسُهُ مَلَكُ الظِّلِّ، فَقَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ، لَأُقَرِّبَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ، وَكَفَّ عَنْهُ. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، أُرَاهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالُوا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [3 \ 173] حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ آخِرُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ: «حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» انْتَهَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَنَجَّيْنَاهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَضُمِّنَ قَوْلُهُ: وَنَجَّيْنَاهُ مَعْنَى أَخْرَجْنَاهُ بِنَجَاتِنَا إِلَى الْأَرْضِ. وَلِذَلِكَ تَعَدَّى «نَجَّيْنَاهُ» بِإِلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ «إِلَى» مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُنْتَهِيًا إِلَى الْأَرْضِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا تَضْمِينَ فِي وَنَجَّيْنَاهُ عَلَى هَذَا. وَالْأَرْضُ الَّتِي خَرَجَا مِنْهَا: هِيَ كُوثَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي خَرَجَا إِلَيْهَا هِيَ أَرْضُ الشَّامِ. اهـ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى هِجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمَعَهُ لُوطٌ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ فِرَارًا بِدِينِهِمَا. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [29 \ 26] وَقَوْلِهِ فِي «الصَّافَّاتِ:» وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [37 \ 99] عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ إِلَى رَبِّهِ بِدِينِهِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ: هَذِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ حِينَ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ قَالَ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي أَيْ: مُهَاجِرٌ مِنْ بَلَدِ قَوْمِي وَمَوْلِدِي إِلَى حَيْثُ أَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ فِيمَا نَوَيْتُ إِلَى الصَّوَابِ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّهُ بَارَكَ لِلْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ الشَّامُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [21 \ 71] بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [21 \ 81] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [17] وَمَعْنَى كَوْنِهِ (بَارَكَ فِيهَا) . هُوَ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْخِصْبِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالثِّمَارِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [7 \ 96] وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَاءٍ عَذْبٍ أَصْلُ مَنْبَعِهِ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ الَّتِي عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَجَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ تَرَكْنَاهَا لِضَعْفِهَا فِي نَظَرِنَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَارَ بِالدِّينِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى بَلَدٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْفَارُّ بِدِينِهِ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ - وَاجِبٌ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَجُوبُهُ بَاقٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ وَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ، وَابْنَ ابْنِهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ الْجَمِيعَ صَالِحِينَ. وَقَدْ أَوْضَحَ الْبِشَارَةَ بِهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [11 \ 71] وَقَوْلِهِ: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [37 \ 112] وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» إِلَى أَنَّهُ لَمَّا هَجَرَ الْوَطَنَ وَالْأَقَارِبَ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ قُرَّةَ الْعَيْنِ بِالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [19 \ 49] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: نَافِلَةً قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: نَافِلَةٌ: عَطِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: النَّافِلَةُ: وَلَدُ الْوَلَدِ، يَعْنِي أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 يَعْقُوبَ وَلَدُ إِسْحَاقَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَصْلُ النَّافِلَةِ فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْهُ النَّوَافِلُ فِي الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَاتٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْفَرْضُ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ وَلَدُ الصُّلْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: فَإِنْ تَكُ أُنْثَى مِنْ مَعَدٍّ كَرِيمَةٌ ... عَلَيْنَا فَقَدْ أَعْطَيْتَ نَافِلَةَ الْفَضْلِ أَيْ أَعْطَيْتَ الْفَضْلَ عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةُ فِي الْكَرَامَةِ عَلَيْنَا، كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ هَذَا، وَكَمَا شَرَحَهُ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّكَّرِيُّ فِي شَرْحِهِ لِأَشْعَارِ الْهُذَلِيِّينَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ إِيرَادَ صَاحِبِ اللِّسَانِ بَيْتَ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْمَذْكُورَ مُسْتَشْهِدًا بِهِ لِأَنَّ النَّافِلَةَ الْغَنِيمَةَ - غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ هُوَ غَلَطٌ. مَعَ أَنَّ الْأَنْفَالَ الَّتِي هِيَ الْغَنَائِمُ رَاجِعَةٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ تَكْرِيمٍ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ فَأَحَلَّهَا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ. أَوْ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمَغْنُومَةَ أَمْوَالٌ أَخَذُوهَا زِيَادَةً عَلَى أَمْوَالِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ بِلَا ثَمَنٍ. وَقَوْلُهُ: نَافِلَةً فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: النَّافِلَةُ الْعَطِيَّةُ فَهُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ «وَهَبْنَا» أَيْ: وَهَبَنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هِبَةً. وَعَلَيْهِ النَّافِلَةُ مَصْدَرٌ جَاءَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ. وَعَلَى أَنَّ النَّافِلَةَ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ فَهُوَ حَالٌ مِنْ «يَعْقُوبَ» أَيْ: وَهَبْنَا لَهُ يَعْقُوبَ فِي حَالِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى إِسْحَاقَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْنَاهُمْ يَشْمَلُ كُلَّ الْمَذْكُورِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَلُوطًا، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، أَيْ جَعَلَهُمْ رُؤَسَاءَ فِي الدِّينِ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ وَأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ. وَقَوْلِهِ بِأَمْرِنَا أَيْ: بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ، وَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، أَوْ يَهْدُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِنَا بِأَمْرِنَا إِيَّاهُمْ، بِإِرْشَادِ الْخَلْقِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ طَلَبَ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَةَ لِذَرِّيَّتِهِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَجَابَهُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ دُونَ بَعْضِهَا، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لَا يَنَالُونَ الْإِمَامَةَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ كَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَإِنَّهُمْ يَنَالُونَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً [21] وَطَلَبُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [2 \ 124] فَقَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرِ. فَأَجَابَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أَيْ: لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ عَهْدِي بِالْإِمَامَةِ، عَلَى الْأَصْوَبِ. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: الظَّالِمِينَ أَنَّ غَيْرَهُمْ يَنَالُهُ عَهْدُهُ بِالْإِمَامَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَشَارَ لَهُ تَعَالَى فِي «الصَّافَّاتِ» بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [37 \ 113] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ [21] أَيْ: أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ، وَيَأْمُرُوا النَّاسَ بِفِعْلِهَا. وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرَاتِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا النُّكْتَةَ الْبَلَاغِيَّةَ الْمُسَوِّغَةَ لِلْإِطْنَابِ فِي عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَعَكْسُهُ فِي الْقُرْآنِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ أَيْ: مُطِيعِينَ بِاجْتِنَابِ النَّوَاهِي وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ بِإِخْلَاصٍ، فَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَيَجْتَنِبُونَ مَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْهُ كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [11 \ 88] . وَقَوْلُهُ: أَئِمَّةً مَعْلُومٌ أَنَّهُ جَمْعُ إِمَامٍ، وَالْإِمَامُ: هُوَ الْمُقْتَدَى بِهِ، وَيُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ كَمَا هُنَا، وَفِي الشَّرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [28 \ 41] وَمَا ظَنَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِوَاقِعٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِقَامَ الصَّلَاةِ لَمْ تُعَوَّضْ هُنَا تَاءٌ عَنِ الْعَيْنِ السَّاقِطَةِ بِالِاعْتِلَالِ عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَعْوِيضِهَا عَنْهُ جَائِزٌ كَمَا هُنَا، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: . . . . . . . . . . ... وَأَلْفُ الْإِفْعَالِ وَاسْتِفْعَالِ أَزِلْ لِذَا الْإِعْلَالِ، وَالَتَا الْزَمْ عِوَضْ ... وَحَذْفُهَا بِالنَّقْلِ رُبَّمَا عَرَضْ وَقَدْ أَشَارَ فِي أَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ إِلَى أَنَّ تَعْوِيضَ التَّاءِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْعَيْنِ هُوَ الْغَالِبُ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَعِذِ اسْتِعَاذَةً ثُمَّ أَقِمْ ... إِقَامَةً وَغَالِبًا ذَا التَّا لَزِمْ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ التَّاءَ الْمَذْكُورَةَ عِوَضٌ عَنِ الْعَيْنِ أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْأَلِفُ الْبَاقِيَةُ، وَأَنَّ التَّاءَ عِوَضٌ عَنْ أَلْفِ الْإِفْعَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَوْلُهُ: وَلُوطًا [21] مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وُجُوبًا يُفَسِّرُهُ آتَيْنَاهُ كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: فَالسَّابِقُ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا حَتْمًا مُوَافِقٍ لِمَا قَدْ أَظْهَرَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: الْحُكْمُ: النُّبُوَّةُ. وَالْعِلْمُ: الْمَعْرِفَةُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَمَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَقِيلَ: عِلْمًا: فَهْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُكْمًا: حِكْمَةً، وَهُوَ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ، أَوْ فَصْلًا بَيْنَ الْخُصُومِ، وَقِيلَ: هُوَ النُّبُوَّةُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَصْلُ الْحُكْمِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. فَمَعْنَى الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهَا الْخَلَلُ. وَالْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ هِيَ سَدُومُ وَأَعْمَالُهَا، وَالْخَبَائِثُ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُهَا جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: مِنْهَا: اللِّوَاطُ، وَأَنَّهُمْ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [7 \ 80] وَقَالَ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [26 \ 165 - 166] وَمِنَ الْخَبَائِثِ الْمَذْكُورَةِ إِتْيَانُهُمُ الْمُنْكَرَ فِي نَادِيهِمْ، وَقَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ الْآيَةَ [29 \ 29] . وَمِنْ أَعْظَمِ خَبَائِثِهِمْ: تَكْذِيبُ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ، وَتَهْدِيدُهُمْ لَهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [26 \ 167] وَقَالَ تَعَالَى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [27 \ 56] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ فَقَلَبَ بِهِمْ بَلَدَهُمْ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [15] وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَالْخَبَائِثُ: جَمْعُ خَبِيثَةٍ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ السَّيِّئَةُ، كَالْكُفْرِ وَاللِّوَاطِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 وَقَوْلِهِ: قَوْمَ سَوْءٍ أَيْ: أَصْحَابَ عَمَلٍ سَيِّئٍ، وَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ جَزَاءٌ يَسُوءُهُمْ، وَقَوْلِهِ: فَاسِقِينَ أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوْلِهِ: وَأَدْخَلْنَاهُ يَعْنِي لُوطًا فِي رَحْمَتِنَا شَامِلٌ لِنَجَاتِهِ مِنْ عَذَابِهِمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَشَامِلٌ لِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِي رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «تَحَاجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ» . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: «فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِهَا مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ. قَوْلُهُ: وَنُوحًا مَنْصُوبٌ بِـ «اذْكُرْ» مُقَدَّرًا، أَيْ: وَاذْكُرْ نُوحًا حِينَ نَادَى مِنْ قَبْلُ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. وَنِدَاءُ نُوحٍ هَذَا الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [37 - 77] وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ هَذَا النِّدَاءَ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [71 \ 26 - 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [54 \ 9 - 11] وَالْمُرَادُ بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ فِي الْآيَةِ: الْغَرَقُ بِالطُّوفَانِ الَّذِي تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجُهُ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ الْعِظَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ [11 \ 42] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [29 \ 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْكَرْبُ: هُوَ أَقْصَى الْغَمِّ، وَالْأَخْذُ بِالنَّفْسِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ يَعْنِي إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ بِالْهَلَاكِ مَعَ الْكَفَرَةِ الْهَالِكِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [11 \ 40] وَمَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ: ابْنُهُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [11 \ 43] وَامْرَأَتُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ إِلَى قَوْلِهِ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. [66 \ 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ [21 \ 78] مَنْصُوبٌ بِـ «اذْكُرْ» مُقَدَّرًا. وَقِيلَ: مَعْطُوفُ قَوْلِهِ: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ [21] أَيْ: وَاذْكُرْ نُوحًا إِذَا نَادَى مِنْ قَبْلُ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: إِذْ بَدَلٌ مِنْ «دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ كَمَا أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْمُنَاقَشَةِ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّ حُكْمَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فِي الْحَرْثِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ بِوَحْيٍ، إِلَّا أَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَى سُلَيْمَانَ كَانَ نَاسِخًا لِمَا أُوحِيَ إِلَى دَاوُدَ. وَفِي الْآيَةِ قَرِينَتَانِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ بِاجْتِهَادٍ لَا بِوَحْيٍ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ أَصَابَ فَاسْتَحَقَّ الثَّنَاءَ بِاجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ، وَأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يُصِبْ فَاسْتَحَقَّ الثَّنَاءَ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَمْ يَسْتَوْجِبْ لَوْمًا وَلَا ذَمًّا بِعَدَمِ إِصَابَتِهِ. كَمَا أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِالْإِصَابَةِ فِي قَوْلِهِ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [21 \ 79] وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [21 \ 78] فَدَلَّ قَوْلُهُ: إِذْ يَحْكُمَانِ عَلَى أَنَّهُمَا حَكَمَا فِيهَا مَعًا كُلٌّ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ مُخَالِفٍ لِحُكْمِ الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ وَحْيًا لَمَا سَاغَ الْخِلَافُ. ثُمَّ قَالَ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهَا دَاوُدُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ فِيهَا بِوَحْيٍ لَكَانَ مُفْهَمًا إِيَّاهَا كَمَا تَرَى. فَقَوْلُهُ: إِذْ يَحْكُمَانِ مَعَ قَوْلِهِ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ بِوَحْيٍ بَلْ بِاجْتِهَادٍ، وَأَصَابَ فِيهِ سُلَيْمَانُ دُونَ دَاوُدَ بِتَفْهِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ ذَلِكَ. وَالْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَفَهَّمْنَاهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهَّمَهُ إِيَّاهَا مِنْ نُصُوصِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الشَّرْعِ. لَا أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهَا وَحْيًا جَدِيدًا نَاسِخًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَفَهَّمْنَاهَا أَلْيَقُ بِالْأَوَّلِ مِنَ الثَّانِي كَمَا تَرَى. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِيهَا بِاجْتِهَادٍ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ - جَاءَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِوُقُوعِ مِثْلِهِ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِمْكَانِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وُقُوعِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ ابْنًا) حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرْنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةُ» انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ. وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللَّهُ» انْتَهَى مِنْهُ فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُمَا قَضَيَا مَعًا بِالِاجْتِهَادِ فِي شَأْنِ الْوَلَدِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ أَصَابَ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَ قَضَاءُ دَاوُدَ بِوَحْيٍ لَمَا جَازَ نَقْضُهُ بِحَالٍ. وَقَضَاءُ سُلَيْمَانَ وَاضِحٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَحْيٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْهَمَ الْمَرْأَتَيْنِ أَنَّهُ يَشُقُّهُ بِالسِّكِّينِ؛ لِيَعْرِفَ أُمَّهُ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفَ الْكَاذِبَةَ بِرِضَاهَا بِشَقِّهِ لِتُشَارِكَهَا أُمُّهُ فِي الْمُصِيبَةِ فَعَرَفَ الْحَقَّ بِذَلِكَ. وَهَذَا شَبِيهٌ جِدًّا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ حَسْبَمَا ذَكَرْنَا وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ الْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ قَضَائِهِمَا الْقِصَّةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً مُطَوَّلَةً، مُلَخَّصُهَا أَنَّ امْرَأَةً حَسْنَاءَ فِي زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، فَامْتَنَعَتْ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، فَاتَّفَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا. فَشَهِدُوا عِنْدَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهَا مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا كَلْبًا لَهَا، قَدْ عَوَّدَتْهُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَلَسَ سُلَيْمَانُ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ وَلْدَانٌ مِثْلُهُ، فَانْتَصَبَ حَاكِمًا وَتَزَيَّا أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ بِزِيٍّ أُولَئِكَ وَآخَرُ بِزِيِّ الْمَرْأَةِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا كَلْبًا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: فَرَّقُوا بَيْنَهُمْ. فَسَأَلَ أَوَّلَهُمْ: مَا كَانَ لَوْنُ الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: أَسْوَدُ، فَعَزَلَهُ. وَاسْتَدْعَى الْآخَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ لَوْنِهِ؟ فَقَالَ: أَحْمَرُ. وَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 الْآخَرُ: أَغْبَشُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَبْيَضُ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِمْ، فَحُكِيَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاسْتَدْعَى مِنْ فَوْرِهِ بِأُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ فَسَأَلَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ ذَلِكَ الْكَلْبِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ؛ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ، بَابُ مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ: وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَلَا يَخْشَوُا النَّاسَ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [2 \ 41] إِلَى أَنْ قَالَ - وَقَرَأَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [21 \ 78 - 79] فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ. وَلَوْلَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَسَنَ يَرَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَزِيدُ هَذَا إِيضَاحًا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ فِي الشَّرْعِ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ بَنِي «إِسْرَائِيلَ» طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، وَوَعَدْنَا بِذِكْرِهِ مُسْتَوْفًى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَسُورَةِ الْحَشْرِ، وَهَذَا أَوَانُ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّا ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَبَيَّنَّا إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْعَمَلِ بِنَوْعِ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِلْحَاقِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ. وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَبَيَّنَّا الْإِجْمَاعَ أَيْضًا عَلَى الْعَمَلِ بِنَوْعِ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفِ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَذَكَرْنَا أَمْثِلَةً لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَكَرْنَا أَحَادِيثَ دَالَّةً عَلَى الِاجْتِهَادِ، مِنْهَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ وَعَدْنَا بِأَنْ نَذْكُرَ طُرُقَهُ هُنَا إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ كُلُّهَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَمَّا الرِّوَايَةُ الْمُتَّصِلَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا سَابِقًا عَنِ ابْنِ قُدَامَةَ فِي (رَوْضَةِ النَّاظِرِ) أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، فَهَذَا الْإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا وَرِجَالُهُ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ، فَإِنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ خَرَّجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ بِلَفْظِ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ. اهـ مِنْهُ. وَلَفْظَةُ «قِيلَ» صِيغَةُ تَمْرِيضٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِلَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَهُ فِيهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ الْمَذْكُورُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ وَهُوَ الْمَصْلُوبُ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُعَاذٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النُّسْخَةَ الْمَوْجُودَةَ بِأَيْدِينَا مِنْ تَارِيخِ ابْنِ كَثِيرٍ الَّتِي هِيَ مِنَ الطَّبْعَةِ الْأُولَى سَنَةَ (1351) فِيهَا تَحْرِيفٌ مَطْبَعِيٌّ فِي الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ فَفِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَسَّانَ، وَالصَّوَابُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ لَا سَعْدٍ. وَفِيهَا: عَنْ عَيَّاذِ بْنِ بِشْرٍ، وَالصَّوَابُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ إِخْرَاجِ ابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ابْنُ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ - لَمْ أَرَهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَالَّذِي فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ غَيْرُ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا لَفْظُهُ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: «لَا تَقْضِيَنَّ، وَلَا تَفْصِلَنَّ إِلَّا بِمَا تَعْلَمُ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فَقِفْ حَتَّى تَبَيَّنَهُ أَوْ تَكْتُبَ إِلَيَّ فِيهِ» اهـ مِنْهُ. وَمَا أَدْرِي أَوَهِمَ الْحَافِظُ بْنُ كَثِيرٍ فِيمَا ذَكَرَ؟ أَوْ هُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَعْنَى «تَبَيَّنَهُ» فِي الْحَدِيثِ أَيْ: تَعْلَمُهُ بِاجْتِهَادِكَ فِي اسْتِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَنْصُوصِ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ؟ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 فَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، فِيهَا كَذَّابٌ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ الَّذِي قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فِي الزَّنْدَقَةِ وَصَلَبَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: وَضَعَ أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ بِهَذَا انْحِصَارَ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتَهَدَ فِيهَا رَأْيَهُ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ - عَلِمْتَ وَجْهَ تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ ضَعَّفَهُ، وَأَنَّهُ يَقُولُ: طَرِيقُ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ لَمْ تُسْنِدُوهَا ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ، وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى الَّتِي فِي الْمُسْنَدِ، وَالسُّنَنِ فِيهَا الْحَارِثُ بْنُ أَخِي الْمُغِيرَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالرُّوَاةُ فِيهَا أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ مَجَاهِيلُ - فَمِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ بِصِحَّتِهَا؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الطَّرِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمُسْنَدِ، وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَقُلْنَا: لَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ الْحَارِثَ الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَنَّ أَصْحَابَ مُعَاذٍ لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ كَذَّابٌ، وَلَا مُتَّهَمٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُرَادِ ابْنِ كَثِيرٍ بِجَوْدَةِ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ مَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقِيَمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، قَالَ فِيهِ: وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا عَلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ: أَنَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ» ؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، لَا آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ» . فَهَذَا حَدِيثٌ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ فَهُمْ أَصْحَابُ مُعَاذٍ، فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، لَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الشُّهْرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَوْ سُمِّيَ، كَيْفَ وَشُهْرَةُ أَصْحَابِ مُعَاذٍ بِالْعِلْمِ، وَالدِّينِ، وَالْفَضْلِ، وَالصِّدْقِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَخْفَى، وَلَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِهِ مُتَّهَمٌ، وَلَا كَذَّابٌ، وَلَا مَجْرُوحٌ، بَلْ أَصْحَابُهُ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُسْلِمِينَ وَخِيَارِهِمْ، وَلَا يَشُكُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ فِي ذَلِكَ، كَيْفَ وَشُعْبَةُ حَامِلُ لِوَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: إِذَا رَأَيْتَ شُعْبَةَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثٍ فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ، وَرِجَالُهُ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 الْعِلْمِ قَدْ نَقَلُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ. فَوَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، كَمَا وَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحَلُّ مَيْتَتُهُ» ، وَقَوْلِهِ: «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا الْبَيْعَ» ، وَقَوْلِهِ: «الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ» . وَإِنَّ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ وَلَكِنْ لَمَّا تَلَقَّتْهَا الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ غَنُوا بِصِحَّتِهَا عِنْدَهُمْ عَنْ طَلَبِ الْإِسْنَادِ لَهَا. فَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا احْتَجُّوا بِهِ جَمِيعًا غَنُوا عَنْ طَلَبِ الْإِسْنَادِ لَهُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ شَاهِدٌ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَهُ شَوَاهِدُ غَيْرُ ذَلِكَ سَتَرَاهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ: (مِنْهَا) : الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي " الْإِسْرَاءِ ". (وَمِنْهَا) : الِاجْتِهَادُ فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: السَّبْرُ، وَالتَّقْسِيمُ، وَالْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاجْتِهَادَ بِإِلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ قِسْمٌ مِنْ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَيُسَمَّى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْقِيَاسَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ. وَالثَّانِي مِنْ نَوْعَيِ الْإِلْحَاقِ: هُوَ الْقِيَاسُ الْمَعْرُوفُ بِهَذَا الِاسْمِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى وَصْفٍ جَامِعٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهُوَ الْعِلَّةُ. بَلْ يُقَالُ فِيهِ: لَمْ يُوجَدْ بَيْنَ هَذَا الْمَنْطُوقِ بِهِ وَهَذَا الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَرْقٌ فِيهِ يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، فَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ، وَأَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ، لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْطِقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَظْنُونًا. فَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةٌ: (الْأَوَّلُ مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 الْفَارِقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [17 \ 23] فَالضَّرْبُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ مِنَ التَّأْفِيفِ الْمَنْطُوقِ بِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] فَشَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ الْمَسْكُوتُ عَنْهَا أَوْلَى بِالْحُكْمِ وَهُوَ الْقَبُولُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْعَدْلَيْنِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. (وَالثَّانِي مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ قَطْعِيًّا، بَلْ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا مُزَاحِمًا لِلْيَقِينِ. وَمِثَالُهُ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ. فَالتَّضْحِيَةُ بِالْعَمْيَاءِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا أَوْلَى بِالْحُكْمِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ الْمَنْطُوقِ بِهَا، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ قَطْعِيًّا بَلْ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ كَوْنُهَا نَاقِصَةً ذَاتًا وَثَمَنًا وَقِيمَةً، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَالْعَمْيَاءُ أَنْقَصُ مِنْهَا ذَاتًا وَقِيمَةً. وَهُنَاكَ احْتِمَالٌ آخَرُ: هُوَ الَّذِي مَنَعَ مِنَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ أَنَّ الْعَوَرَ مَظِنَّةُ الْهُزَالِ؛ لِأَنَّ الْعَوْرَاءَ نَاقِصَةُ الْبَصَرِ، وَنَاقِصَةُ الْبَصَرِ تَكُونُ نَاقِصَةَ الرَّعْيِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرَى إِلَّا مَا يُقَابِلُ عَيْنًا وَاحِدَةً، وَنَقْصُ الرَّعْيِ مَظِنَّةٌ لِلْهُزَالِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْعَمْيَاءُ لَيْسَتْ كَالْعَوْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَمْيَاءَ يُخْتَارُ لَهَا أَحْسَنُ الْعَلَفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِسِمَنِهَا. (وَالثَّالِثُ مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوِيًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الْآيَةَ [4 \ 10] . فَإِحْرَاقُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَإِغْرَاقُهَا الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوٍ لِلْأَكْلِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ، وَالْوَعِيدُ بِعَذَابِ النَّارِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. (وَالرَّابِعُ مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوِيًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا مَظْنُونٌ ظَنًّا قَوِيًّا مُزَاحِمًا لِلْيَقِينِ، وَمِثَالُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ. . " الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي " الْإِسْرَاءِ، وَالْكَهْفِ "، فَإِنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ وَهُوَ عِتْقُ بَعْضِ الْأَمَةِ مُسَاوٍ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ وَهُوَ عِتْقُ بَعْضِ الْعَبْدِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ سَرَايَةُ الْعِتْقِ الْمُبَيَّنَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِرَارًا. إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا مَظْنُونٌ ظَنًّا قَوِيًّا؛ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِتْقِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ لَا يُنَاطُ بِهِمَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ " وَهُنَاكَ احْتِمَالٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي مَنَعَ مِنَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ نَصَّ عَلَى سَرَايَةِ الْعِتْقِ فِي خُصُوصِ الْعَبْدِ الذَّكَرِ، مُخَصِّصًا لَهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ عِتْقَ الذَّكَرِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ مَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِتْقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 الْأُنْثَى، كَالْجِهَادِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَاصِبِ الْمُخْتَصَّةِ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَقَدْ أَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ ". (وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْإِلْحَاقِ) : فَهُوَ الْقِيَاسُ الْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَسَنُعَرِّفُهُ هُنَا لُغَةً وَاصْطِلَاحًا، وَنَذْكُرُ أَقْسَامَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ وَالتَّسْوِيَةُ. يُقَالُ: قَاسَ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ، وَقَاسَ الْجُرْحَ بِالْمِيلِ (بِالْكَسْرِ) وَهُوَ الْمِرْوَدُ، إِذَا قَدَّرَ عُمْقَهُ بِهِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمِيلُ مِقْيَاسًا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْبُعَيْثِ بْنِ بِشْرٍ يَصِفُ جِرَاحَةً أَوْ شَجَّةً: إِذَا قَاسَهَا الْآسِي النَّطَاسِيُّ أَدْبَرَتْ ... غَثِيثَتُهَا وَازْدَادَ وَهْيًا هَزُومُهَا فَقَوْلُهُ: " قَاسَهَا " يَعْنِي قَدَّرَ عُمْقَهَا بِالْمِيلِ. وَالْآسِي: الطَّبِيبُ، وَالنِّطَاسِيُّ (بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا) : الْمَاهِرُ بِالطِّبِّ، وَالْغَثِيثَةُ (بِثَاءَيْنِ مُثَلَّثَتَيْنِ) : مِدَّةُ الْجُرْحِ وَقَيْحُهُ، وَمَا فِيهِ مِنْ لَحْمٍ مَيِّتٍ، وَالْوَهْيُ: التَّخَرُّقُ وَالتَّشَقُّقُ، وَالْهُزُومُ: غَمْزُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ فَيَصِيرُ فِيهِ حُفْرَةٌ كَمَا يَقَعُ فِي الْوَرَمِ الشَّدِيدِ. وَتَعْرِيفُ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَثُرَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ الْأُصُولِيِّينَ مَعَ مُنَاقَشَاتٍ مَعْرُوفَةٍ فِي تَعْرِيفَاتِهِمْ لَهُ. وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعْرِيفَهُ بِأَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ، أَيْ: إِلْحَاقُهُ بِهِ فِي حُكْمِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ إِنَّمَا يَشْمَلُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ دُونَ الْفَاسِدِ. وَالتَّعْرِيفُ الشَّامِلُ لِلْفَاسِدِ هُوَ أَنْ تَزِيدَ عَلَى تَعْرِيفِ الصَّحِيحِ لَفْظَةُ عِنْدَ الْحَامِلِ، فَتَقُولُ: هُوَ إِلْحَاقٌ مَعْلُومٌ فِي حُكْمِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَامِلِ، فَيَدْخُلُ الْفَاسِدُ فِي الْحَدِّ مَعَ الصَّحِيحِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ مُعَرِّفًا لِلْقِيَاسِ: يُحْمَلُ مَعْلُومٌ عَلَى مَا قَدْ عُلِمْ ... لِلِاسْتِوَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَسَمْ وَإِنْ تُرِدْ شُمُولَهُ لِمَا فَسَدْ ... فَزِدْ لَدَى الْحَامِلِ وَالزَّيْدُ أَسَدْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ أَرْبَعَةٌ: وَهِيَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ، وَالْفَرْعُ الْمَقِيسُ، وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا، وَحُكْمُ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ. فَلَوْ قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ، فَالْأَصْلُ: الْخَمْرُ، وَالْفَرْعُ: النَّبِيذُ، وَالْعِلَّةُ: الْإِسْكَارُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 وَحُكْمُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ: التَّحْرِيمُ. وَشُرُوطُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ وَالْبَحْثُ فِيهَا مُسْتَوْفًى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَلَا نُطِيلُ بِهِ الْكَلَامَ هُنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ يَنْقَسِمُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي: قِيَاسُ الدَّلَالَةِ. وَالثَّالِثُ: قِيَاسُ الشَّبَهِ. أَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِنَفْسِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالْخَمْرِ بِنَفْسِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْإِسْكَارُ، وَالْقَصْدُ مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ؛ لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قِيَاسَ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ لَا يَصِحُّ؛ لِوُجُودِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَأَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ ". وَالْقِيَاسُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ كَحُكْمِ الْأَصْلِ، إِلَّا أَنَّ الْمِثَالَ يَصِحُّ بِالتَّقْدِيرِ وَالْفَرْضِ، وَمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ الْبُرِّ وَالذُّرَةِ بِنَفْسِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْكَيْلُ مَثَلًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: وَمَا بِذَاتِ عِلَّةٍ قَدْ جُمِعَا ... فِيهِ فَقَيْسُ عِلَّةٍ قَدْ سُمِعَا وَأَمَّا قِيَاسُ الدَّلَالَةِ فَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِيهِ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ لَا بِنَفْسِ الْعِلَّةِ، كَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِمَلْزُومِ الْعِلَّةِ أَوْ أَثَرِهَا أَوْ حُكْمِهَا. فَمِثَالُ الْجَمْعِ بِمَلْزُومِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: النَّبِيذُ حَرَامٌ كَالْخَمْرِ بِجَامِعِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، وَهِيَ مَلْزُومٌ لِلْإِسْكَارِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْإِسْكَارِ. وَمِثَالُ الْجَمْعِ بِأَثَرِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: الْقَتْلُ بِالْمُثْقَلِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ كَالْقَتْلِ بِمُحَدَّدٍ، بِجَامِعِ الْإِثْمِ وَهُوَ أَثَرُ الْعِلَّةِ وَهِيَ لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ. وَمِثَالُ الْجَمْعِ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: تُقْطَعُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَمَا يُقْتَلُونَ بِهِ، بِجَامِعِ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ غَيْرَ عَمْدٍ، وَهُوَ حُكْمُ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْقِطَعُ مِنْهُمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَالْقَتْلُ مِنْهُمْ فِي الثَّانِيَةِ. وَإِلَى تَعْرِيفِ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: جَامِعُ ذِي الدَّلَالَةِ الَّذِي لَزِمْ ... فَأَثَّرَ فَحُكْمُهَا كَمَا رُسِمْ وَقَوْلُهُ: " الَّذِي لَزِمَ " بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ يَعْنِي اللَّازِمَ، وَتَعْبِيرُهُ هُنَا بِاللَّازِمِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ غَلَطٌ مِنْهُ وَمِمَّنْ تَبِعَهُ هُوَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِإِطْبَاقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 الْعُقَلَاءِ؛ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ اللَّازِمِ أَعَمَّ مِنَ الْمَلْزُومِ، وَوُجُودُ الْأَعَمِّ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْأَخَصِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَلِذَا أَجْمَعَ النُّظَّارُ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ التَّالِي فِي الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ لَا يُنْتِجُ عَيْنَ الْمُقَدَّمِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَلْزُومِ، وَالصَّوَابُ مَا مَثَّلْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ بِمَلْزُومِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَلْزُومَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي وُجُودُهُ وُجُودَ اللَّازِمِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، فَالشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ وَالْإِسْكَارُ مُتَلَازِمَانِ، وَدَلَالَةُ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عَلَى الْإِسْكَارِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَلْزُومٌ لَهُ لَا لَازِمٌ، لِمَا عَرَفْتَ مِنْ أَنَّ وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَلْزُومِ، وَاقْتِضَاؤُهُ لَهُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ لِلْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَازِمٌ لِلْآخَرِ وَمَلْزُومٌ لَهُ لِلْمُلَازِمَةِ بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَعَرَفَ بَعْضُهُمُ الشَّبَهَ بِأَنَّهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِ، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ بِالتَّبَعِ بِالذَّاتِ. وَمَعْنَى هَذَا كَمَعْنَى تَعْرِيفِ مَنْ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُنَاسِبِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: عِبَارَاتُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الشَّبَهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْلَكُ السَّادِسُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كُلُّهَا تَدُورُ حَوْلَ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيُشْبِهُ الْوَصْفَ الطَّرْدِيَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ " أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي تَتَضَمَّنُ إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِهِ مَصْلَحَةً مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَالطَّرْدِيُّ هُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، إِمَّا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَإِمَّا فِي بَعْضِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أَنَّ مَا يُسَمَّى بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ بِعَيْنِهِ لَا شَيْءٌ آخَرُ. وَغَلَبَةُ الْأَشْيَاءِ هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهًا بِهِ، كَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ لِشَبَهِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهُوَ يُشْبِهُ الْمَالَ لِكَوْنِهِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى وَيُوهَبُ وَيُورَثُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَالِ، وَيُشْبِهُ الْحُرَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِنْسَانٌ يَنْكِحُ وَيُطَلِّقُ وَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ، وَتَلْزَمُهُ أَوَامِرُ الشَّرْعِ وَنَوَاهِيهِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ شَبَهَهُ بِالْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَالَ فِي الْحُكْمِ وَالصِّفَةِ مَعًا أَكْثَرَ مِمَّا يُشْبِهُ الْحُرَّ فِيهِمَا. فَمِنْ شَبَهِهِ بِالْمَالِ فِي الْحُكْمِ: كَوْنُهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى وَيُورَثُ، وَيُوهَبُ وَيُعَارُ، وَيُدْفَعُ فِي الصَّدَاقِ وَالْخُلْعِ، وَيُرْهَنُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ. وَمِنْ شَبَهِهِ بِالْمَالِ فِي الصِّفَةِ: كَوْنُهُ تَتَفَاوَتُ قِيمَتُهُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ أَوْصَافِهِ جَوْدَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وَرَدَاءَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. فَلَوْ قَتَلَ إِنْسَانٌ عَبْدًا لِآخَرَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ شَبَهَهُ بِالْمَالِ أَغْلَبُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَلْزَمُهُ دِيَتُهُ كَالْحُرِّ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّ شَبَهَهُ بِالْحُرِّ أَغْلَبُ، فَإِنْ قِيلَ: بِأَيِّ طَرِيقٍ يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ الَّذِي هُوَ غَلَبَةُ الْأَشْبَاهِ مِنَ الشَّبَهِ؛ لِأَنَّكُمْ قَرَّرْتُمْ أَنَّهُ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ، فَمَا وَجْهُ كَوْنِهِ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ إِيضَاحَ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّ أَوْصَافَهُ الْمُشَابِهَةَ لِلْمَالِ كَكَوْنِهِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى. . إلخ طَرْدِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُزُومِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ كَالْمَالِ لَيْسَ صَالِحًا لِأَنْ يُنَاطَ بِهِ لُزُومُ دِيَتِهِ إِذَا قُتِلَ، وَكَذَلِكَ أَوْصَافُهُ الْمُشَابِهَةُ لِلْحُرِّ كَكَوْنِهِ مُخَاطَبًا يُثَابُ وَيُعَاقَبُ إلخ. فَهِيَ طَرْدِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُزُومِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ كَالْحُرِّ لَيْسَ صَالِحًا لِأَنْ يُنَاطَ بِهِ لُزُومُ الْقِيمَةِ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ يُشْبِهُ الطَّرْدِيَّ كَمَا تَرَى، أَمَّا تَرَتُّبُ الْقَيِّمَةِ عَلَى أَوْصَافِهِ الْمُشَابِهَةِ لِأَوْصَافِ الْمَالِ فَهُوَ مُنَاسِبٌ كَمَا تَرَى، وَكَذَلِكَ تَرَتُّبُ الدِّيَةِ عَلَى أَوْصَافِهِ الْمُشَابِهَةِ لِأَوْصَافِ الْحُرِّ مُنَاسِبٌ، وَبِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يَتَّضِحُ كَوْنُهُ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ أَنْوَاعِ الشَّبَهِ غَيْرِ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ: الشَّبَهُ الَّذِي الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ لَا يُنَاسِبُ لِذَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ لِذَاتِهِ، وَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِكَ فِي الْخَلِّ: مَائِعٌ لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ، فَلَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ وَلَا حُكْمُ الْخَبَثِ - قِيَاسًا عَلَى الدُّهْنِ. فَقَوْلُكَ: " لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ " لَيْسَ مُنَاسِبًا فِي ذَاتِهِ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْقَنْطَرَةِ عَلَى الْمَائِعِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ أَنَّ الْقَنْطَرَةَ لَا تُبْنَى عَلَى الْمَائِعِ الْقَلِيلِ، بَلْ عَلَى الْكَثِيرِ كَالْأَنْهَارِ، وَالْقِلَّةُ مُنَاسِبَةٌ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُتَّصِفِ بِهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ لِلطَّهَارَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ الْعَامَّ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَسْبَابُهُ عَامَّةَ الْوُجُودِ، أَمَّا تَكْلِيفُ الْجَمِيعِ بِمَا لَا يَجِدُهُ إِلَّا الْبَعْضُ فَبَعِيدٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَصَارَ قَوْلُكَ: " لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ " لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ. وَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِتَأْثِيرِ جِنْسِ الْقِلَّةِ، وَالتَّعَذُّرِ فِي عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهَارَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا قَلَّ وَاشْتَدَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالطَّهَارَةِ بِهِ وَيَنْتَقِلُ إِلَى التَّيَمُّمِ. وَأَمَّا الشَّبَهُ الصُّورِيُّ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [16 \ 66] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " بَرَاءَةَ " كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي قَالَ فِيهِ: أَلَا تَرَى إِلَى عُثْمَانَ وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا إِلَى قِيَاسِ النِّسْبَةِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ " بَرَاءَةَ " شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ " الْأَنْفَالِ " فَأَلْحَقُوهَا بِهَا، فَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 يَدْخُلُ فِي تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ؟ وَإِلَى الشَّبَهِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَالشَّبَهُ الْمُسْتَلْزِمُ الْمُنَاسَبَا ... مِثْلُ الْوُضُو يَسْتَلْزِمُ التَّقَرُّبَا مَعَ اعْتِبَارِ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ ... فِي مِثْلِهِ لِلْحُكْمِ لَا الْغَرِيبِ صَلَاحُهُ لَمْ يَدْرِ دُونَ الشَّرْعِ ... وَلَمْ يُنَطْ مُنَاسِبٌ بِالسَّمْعِ وَحَيْثُمَا أَمْكَنَ قَيْسُ الْعِلَّةِ ... فَتَرْكُهُ بِالِاتِّفَاقِ أَثْبَتُ إِلَّا فَفِي قَبُولِهِ تَرَدُّدْ ... غَلَبَةُ الْأَشْبَاهِ هُوَ الْأَجْوَدْ فِي الْحُكْمِ وَالصِّفَةِ ثُمَّ الْحُكْمِ ... فَصِفَةٌ فَقَطْ لَدَى ذِي الْعِلْمِ وَابْنُ عُلَيَّةَ يَرَى لِلصُّورِي ... كَالْقَيْسِ لِلْخَيْلِ عَلَى الْحَمِيرِ وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ الطَّرْدِ يَصْدُقُ بِأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الطَّرْدَ يُطْلَقُ إِطْلَاقَيْنِ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِإِنَاطَةِ حُكْمٍ بِهِ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْفَائِدَةِ. كَمَا لَوْ ظَنَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَحْمِ الْجَزُورِ أَنَّ عِلَّةَ النَّقْضِ بِهِ الْحَرَارَةُ، فَأَلْحَقَ بِهِ لَحْمَ الظَّبْيِ قَائِلًا: إِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى لَحْمِ الْجَزُورِ بِجَامِعِ الْحَرَارَةِ، فَهَذَا الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ فِيهِ طَرْدِيٌّ. وَمِثْلُهُ كُلُّ مَا كَانَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ طَرْدِيًّا وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لِلَّذِينِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا قِيَاسُ الطَّرْدِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مِنْهُمَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ مُسْتَنْبَطًا بِالْمَسْلَكِ الثَّامِنِ الْمَعْرُوفِ (بِالطَّرْدِ) وَهُوَ الدَّوْرِيُّ الْوُجُودِيُّ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّهُ مُقَارَنَةُ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ غَيْرَ الصُّورَةِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ فِي الْوُجُودِ فَقَطْ دُونَ الْعَدَمِ. وَالِاخْتِلَافُ فِي إِفَادَتِهِ الْعِلَّةَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُوَضَّحٌ فِي فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ عَشْرَةٌ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّ مِنْهَا إِلْغَاءَ الْفَارِقِ، وَتِسْعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعُدُّهُ مِنْهَا، وَهِيَ: النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْإِيمَاءُ، وَالسَّبْرُ، وَالتَّقْسِيمُ، وَالْمُنَاسَبَةُ، وَالشَّبَهُ، وَالدَّوَرَانُ، وَالطَّرْدُ، وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ، وَإِلْغَاءُ الْفَارِقِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ نَظَّمَهَا بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: مَسَالِكُ عِلَّةٍ رَتِّبْ فَنَصٌّ ... فَإِجْمَاعٌ فَإِيمَاءٌ فَسَبْرُ مُنَاسَبَةٌ كَذَا مُشْبِهٌ فَيَتْلُو ... لَهُ الدَّوَرَانُ طَرْدٌ يَسْتَمِرُّ فَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فَأَلْغِ فَرْقًا ... وَتِلْكَ لِمَنْ أَرَادَ الْحَصْرَ عَشْرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وَمَحَلُّ إِيضَاحِهَا فَنُّ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ. وَأَمَّا الْقَوَادِحُ فِي الدَّلِيلِ مِنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي فَنِّ الْأُصُولِ، وَقَدْ نَظَّمَهَا بِاخْتِصَارٍ الشَّيْخِ عُمَرُ الْفَاسِيُّ بِقَوْلِهِ: الْقَدْحُ بِالنَّقْضِ وَبِالْكَسْرِ مَعًا ... تَخْلُفُ الْعَكْسَ وَبِالْقَلْبِ اسْمَعَا وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ بِالْوَصْفِ وَفِي ... أَصْلٍ وَفَرْعٍ ثُمَّ حُكْمٍ فَاقْتَفِي وَالْمَنْعُ وَالْفَرْقُ وَبِالتَّقْسِيمِ ... وَبِاخْتِلَافِ الضَّابِطِ الْمَعْلُومِ وَفَقْدُ الِانْضِبَاطِ وَالظُّهُورِ ... وَالْخَدْشُ فِي تَنَاسُبِ الْمَذْكُورِ وَكَوْنُ ذَاكَ الْحُكْمِ لَا يُفْضِي إِلَى ... مَقْصُودِ ذِي الشَّرْعِ الْعَزِيزِ فَاقْبَلَا وَالْخَدْشُ فِي الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ ... وَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ ذُو اعْتِبَارِ وَابْدَأْ بِاسْتِفْسَارٍ فِي الْإِجْمَالِ ... أَوِ الْغَرَابَةِ بِلَا إِشْكَالِ وَإِنَّمَا لَمْ نُوَضِّحْ هُنَا الْمَسَالِكَ وَالْقَوَادِحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُوَضَّحٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَصْدُنَا هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَلَّامَةَ ابْنَ الْقَيِّمِ تَعَالَى شَفَى الْغَلِيلَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِهِ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا وَافِيَةً مُفِيدَةً مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ. قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ إِلَى أَبِي مُوسَى: (ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أَدْلَى إِلَيْكَ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْكَ مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ، وَلَا سُنَّةٍ، قَايِسْ بَيْنَ الْأُمُورِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْرِفِ الْأَمْثَالَ، ثُمَّ اعْمَدْ فِيمَا تَرَى إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ) مَا نَصُّهُ: هَذَا أَحَدُ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْقِيَاسِيُّونَ فِي الشَّرِيعَةِ، قَالُوا: هَذَا كِتَابُ عُمَرَ إِلَى أَبِي مُوسَى وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَحَدُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فَقِيهٌ. وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَاسَ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى النَّشْأَةِ الْأُولَى فِي الْإِمْكَانِ، وَجَعَلَ النَّشْأَةَ الْأُولَى أَصْلًا وَالثَّانِيَةَ فَرْعًا عَلَيْهَا، وَقَاسَ حَيَاةَ الْأَمْوَاتِ عَلَى حَيَاةِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالنَّبَاتِ، وَقَاسَ الْخَلْقَ الْجَدِيدَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَعْدَاؤُهُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مِنْ قِيَاسِ الْأَوْلَى، كَمَا جَعَلَ قِيَاسَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى مِنْ قِيَاسِ الْأَوْلَى، وَقَاسَ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ وَصَرَّفَهَا فِي الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكُلُّهَا أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ يُنَبِّهُ بِهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، فَإِنَّ الْأَمْثَالَ كُلَّهَا قِيَاسَاتٌ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ الْمُمَثَّلِ مِنَ الْمُمَثَّلِ بِهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى بِضْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا تَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [29 \ 43] بِالْقِيَاسِ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنْ خَاصَّةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ رَكَّزَ اللَّهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَإِنْكَارَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَإِنْكَارَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وَمَدَارُ الِاسْتِدْلَالِ جَمْعِيَّةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّهُ إِمَّا اسْتِدْلَالٌ بِمُعَيَّنٍ عَلَى مُعَيَّنٍ، أَوْ بِمُعَيَّنٍ عَلَى عَامٍّ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى مُعَيَّنٍّ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى عَامٍّ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَجَامِعُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ. فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْمُعَيَّنِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمَلْزُومِ عَلَى لَازِمِهِ بِكُلِّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّلَازُمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ وَمَدْلُولًا لَهُ. وَهَذَا النَّوْعُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ، وَالثَّانِي: الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَالُ بِأَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنَّارِ عَلَى الْحَرِيقِ. وَالثَّانِي: كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى النَّارِ. وَالثَّالِثُ: كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى الدُّخَانِ. وَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى التَّلَازُمِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقِيَاسُ الْفَرْقِ هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ، فَلَوْ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ لَانْسَدَّتْ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهُ. قَالُوا: وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْعَامِّ فَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، إِذْ لَوْ جَازَ الْفَرْقُ لَمَا كَانَ هَذَا الْمَعَيَّنُ دَلِيلًا عَلَى الْأَمْرِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ. وَمِنْ هَذَا أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ بِتَعْذِيبِ الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ عَذَّبَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَعِصْيَانِ أَمْرِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ شَامِلٌ عَلَى مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَدْ نَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى نَفْسِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَتَعْدِيَةِ هَذَا الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ إِخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَاتِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [54 \ 43] فَهَذَا مَحْضُ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى مَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمَ مِثْلِهِ لَمَا لَزِمَتِ التَّعْدِيَةُ وَلَا تَمَّتِ الْحُجَّةُ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عُقَيْبَ إِخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَةِ قَوْمِ هُودٍ حِينَ رَأَوُا الْعَارِضَ فِي السَّمَاءِ: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [46 \ 24] فَقَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [46 \ 24] ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [46 \ 26] فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ تَجِدُ الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَكُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَأَنَّا إِذَا كُنَّا قَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِمَعْصِيَةِ رَسُولِنَا وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ مَا مُكِّنُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْعَيْشِ فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَأَنَّ هَذَا مَحْضُ عَدْلِ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] فَأَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَلُّ مَوْضِعٍ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ بِالْمَسِيرِ فِي الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ السَّيْرَ الْحِسِّيَّ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالدَّوَابِّ، أَوِ السَّيْرَ الْمَعْنَوِيَّ بِالتَّفْكِيرِ وَالِاعْتِبَارِ، أَوْ كَانَ اللَّفْظُ يَعُمُّهُمَا، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِبَارِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَحِلَّ بِالْمُخَاطَبِينَ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ أُولِي الْأَبْصَارِ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ حَتَّى تَعْبُرَ الْعُقُولُ مِنْهُ إِلَيْهِ لَمَا حَصَلَ الِاعْتِبَارُ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحُكْمِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [68 \ 35 - 36] وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ بَاطِلٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، لَا تَلِيقُ نِسْبَتُهُ إِلَى سُبْحَانَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [45 \ 21] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [38 \ 28] أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَرَ الْعُقُولَ، وَنَبَّهَ الْفِطَرَ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ إِعْطَاءِ النَّظِيرِ حُكْمَ نَظِيرِهِ، وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُخَالِفِهِ فِي الْحُكْمِ. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتَابِهِ، وَجَعَلَهُ قَرِينَهُ وَوَزِيرَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [42 \ 17] وَقَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [57 \ 25] وَقَالَ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [55 \ 1 - 2] فَهَذَا الْكِتَابُ، ثُمَّ قَالَ: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [55 \ 7] وَالْمِيزَانُ يُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ، وَالْآلَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْعَدْلُ وَمَا يُضَادُّهُ. وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ، فَالْأَوْلَى تَسْمِيَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ اسْمُ مَدْحٍ وَاجِبٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، بِخِلَافِ اسْمِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَمَمْدُوحٍ وَمَذْمُومٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ مَدْحُهُ وَلَا ذَمُّهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ، وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَوْرِدُ تَقْسِيمٍ إِلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، فَالصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتَابِهِ، وَالْفَاسِدُ مَا يُضَادُّهُ كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْبَيْعَ عَلَى الرِّبَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ، وَقَاسَ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَيْتَةَ عَلَى الْمُذَكَّى فِي جَوَازِ أَكْلِهَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ إِزْهَاقِ الرُّوحِ - هَذَا بِسَبَبٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا بِفِعْلِ اللَّهِ - وَلِهَذَا تَجِدُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ذَمَّ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَتَجِدُ فِي كَلَامِهِمُ اسْتِعْمَالَهُ، وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِ، وَهَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْأَقْيِسَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثَةٌ: قِيَاسُ عِلَّةٍ، وَقِيَاسُ دَلَالَةٍ، وَقِيَاسُ شَبَهٍ، وَقَدْ وَرَدَتْ كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ. فَأَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [3 \ 59] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عِيسَى نَظِيرُ آدَمَ فِي التَّكْوِينِ، بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ مَجِيئُهَا طَوْعًا لِمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ وُجُودَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَنْ يُقِرُّ بِوُجُودِ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ وَوُجُودِ حَوَّاءَ مِنْ غَيْرِ أَمٍّ، فَآدَمُ وَعِيسَى نَظِيرَانِ يَجْمَعُهُمَا الَّذِي يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ بِهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [3 \ 137] أَيْ: قَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ، فَانْظُرُوا إِلَى عَوَاقِبِهِمُ السَّيِّئَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَهُمُ الْأَصْلُ وَأَنْتُمُ الْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ: التَّكْذِيبُ، وَالْحُكْمُ: الْهَلَاكُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [6 \ 6] فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ إِهْلَاكَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْقُرُونِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِمَعْنَى الْقِيَاسِ وَهُوَ ذُنُوبُهُمْ، فَهُمُ الْأَصْلُ وَنَحْنُ الْفَرْعُ، وَالذُّنُوبُ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ، وَالْحُكْمُ: الْهَلَاكُ. فَهَذَا مَحْضُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ سُبْحَانَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَوْلَى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَبْلَنَا كَانُوا أَقْوَى مِنَّا فَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ وَشِدَّتُهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [9] وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ هَذَا الْكَافِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَقِيلَ: هُوَ رَفْعُ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَنْتُمْ كَالَّذِينِ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقِيلَ: نُصِبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَعْمَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ فِي الْعَذَابِ. ثُمَّ قِيلَ: الْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَعَنَهُمْ وَعَذَّبَهُمْ كَمَا لَعَنَ [الَّذِينَ] مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقِيلَ بَلِ الْعَامِلُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ: وَعْدُ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ كَوَعْدِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَلَعْنُهُمْ كَلَعْنِهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ كَالْعَذَابِ الَّذِي لَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْحَقَهُمْ بِهِمْ فِي الْوَعِيدِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيهِ كَمَا تَسَاوَوْا فِي الْأَعْمَالِ، وَكَوْنُهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ الْمُؤَثِّرِ، وَأَلْغَى الْوَصْفَ الْفَارِقَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ اقْتَضَتْ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْجَزَاءِ، فَقَالَ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [9] فَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ وَالْوَصْفُ الْجَامِعُ، وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هُوَ الْحُكْمُ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الْأَصْلُ، وَالْمُخَاطَبُونَ الْفَرْعُ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ قَالَ بِدِينِهِمْ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَمْتَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْخَلَاقَ هُوَ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ، كَأَنَّهُ الَّذِي خُلِقَ لِلْإِنْسَانِ وَقُدِّرَ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: قَسَمُهُ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، وَنَصِيبُهُ الَّذِي نُصِبَ لَهُ أَيْ: أُثْبِتَ، وَقِطُّهُ الَّذِي قُطَّ لَهُ أَيْ: قُطِعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [2 \ 200] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الْدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ". وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ مَا ذِكْرَهُ السَّلَفَ كُلَّهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [9] فَبِتِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَعْمَلُوا لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ، وَالْأَوْلَادُ، وَتِلْكَ الْقُوَّةُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 وَالْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ هِيَ الْخَلَاقُ، فَاسْتَمْتَعُوا بِقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْسُ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ مِنَ الْخَلَاقِ الَّذِي اسْتَمْتَعُوا بِهِ. وَلَوْ أَرَادُوا بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ لَكَانَ لَهُمْ خَلَاقٌ فِي الْآخِرَةِ، فَتَمَتُّعُهُمْ بِهَا أَخْذُ حُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ، وَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ إِلَّا لِدُنْيَاهُ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفُرُوعِ، فَقَالَ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَنَالُهُمْ مَا يَنَالُهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا. فَقِيلَ " الَّذِي " صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَالْمَخُوضِ الَّذِي خَاضُوا، وَقِيلَ: لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: كَخَوْضِ الْقَوْمِ الَّذِي خَاضُوا وَهُوَ فَاعِلُ الْخَوْضِ. وَقِيلَ: " الَّذِي " مَصْدَرِيَّةٌ كَـ " مَا " أَيْ: كَخَوْضِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ مَوْضِعُ " الَّذِينَ ". وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ وَبَيْنَ الْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالِاعْتِقَادِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَهُوَ الْخَوْضُ، أَوْ يَقَعُ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الْحَقِّ، وَالصَّوَابُ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْخَلَاقِ. فَالْأَوَّلُ الْبِدَعُ. وَالثَّانِي اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهَذَانِ هُمَا أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ، وَبِهِمَا كُذِّبَتِ الرُّسُلُ وَعُصِيَ الرَّبُّ، وَدُخِلَتِ النَّارُ وَحَلَّتِ الْعُقُوبَاتُ. فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الشُّبَهَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ صِنْفَيْنِ: صَاحِبَ هَوًى فَتَنَهُ هَوَاهُ، وَصَاحِبَ دُنْيَا أَعْجَبَتْهُ دُنْيَاهُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، فَهَذَا يُشْبِهُ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَفِي صِفَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ أَتَتْهُ الْبِدَعُ فَنَفَاهَا، وَالدُّنْيَا فَأَبَاهَا. وَهَذِهِ حَالُ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [32 \ 24] فَبِالصَّبْرِ تُتْرَكُ الشَّهَوَاتُ، وَبِالْيَقِينِ تُدْفَعُ الشُّبَهَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [103 \ 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [38 \ 45] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وَفِي بَعْضِ الْمَرَاسِيلِ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبَهَاتِ، وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ دَاءُ الْعُصَاةِ. وَقَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا إِشَارَةٌ إِلَى الشُّبَهَاتِ، وَهُوَ دَاءُ الْمُبْتَدِعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَمِعَانِ، فَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ فَاسِدَ الِاعْتِقَادِ إِلَّا وَفَسَادُ اعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي عَمَلِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِخَلَاقِهِ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ بِخَلَاقِهِمْ، وَيَخُوضُ كَخَوْضِهِمْ، وَأَنَّ لَهُمْ مِنَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ كَمَا لِلَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ حَضَّهُمْ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَالَ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [9 \ 70] فَتَأَمَّلْ صِحَّةَ هَذَا الْقِيَاسِ وَإِفَادَتَهُ لِمَا عُلِّقَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ قَدْ تَسَاوَيَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْعِقَابُ، وَأَكَّدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَوْلَى وَهُوَ شِدَّةُ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَى اللَّهِ عِقَابُ الْأَقْوَى مِنْهُمْ بِذَنْبِهِ فَكَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِقَابُ مَنْ هُوَ دُونَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [6 \ 133] فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: إِنْ شِئْتُ أَذْهَبْتُكُمْ وَاسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكُمْ، كَمَا أَذْهَبْتُ مَنْ قَبْلَكُمْ وَاسْتَخْلَفْتُكُمْ، بِذِكْرِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةِ: عِلَّةُ الْحُكْمِ وَهِيَ عُمُومُ مَشِيئَتِهِ وَكَمَالِهَا، وَالْحُكْمُ وَهُوَ إِذْهَابُهُ إِيَّاهُمْ وَإِتْيَانُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَالْفَرْعُ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [10 \ 39] فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَبْلُ الْمُكَذِّبِينَ أَصْلٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَالْفَرْعُ نُفُوسُهُمْ، فَإِذَا سَاوَوْهُمْ فِي الْمَعْنَى سَاوَوْهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [73 \ 15 - 16] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ عَصَى رَسُولَهُ فَأَخَذَهُ أَخْذًا وَبِيلًا. فَهَكَذَا مَنْ عَصَى مِنْكُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ فُتِحَ لَكَ بَابُهُ. فَصْلٌ وَأَمَّا قِيَاسُ الدَّلَالَةِ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ وَمَلْزُومِهَا. وَمِنْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [41 \ 39] فَدَلَّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنَ الْإِحْيَاءِ الَّذِي تَحَقَّقُوهُ وَشَاهَدُوهُ، عَلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي اسْتَبْعَدُوهُ، وَذَلِكَ قِيَاسُ إِحْيَاءٍ عَلَى إِحْيَاءٍ، وَاعْتِبَارُ الشَّيْءِ فَنَظِيرُهُ، وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ هِيَ عُمُومُ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَكَمَالُ حِكْمَتِهِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [30 \ 19] . فَدَلَّ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وَقَرَّبَ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ جِدًّا بِلَفْظِ الْإِخْرَاجِ، أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً كَمَا يَخْرُجُ الْحَيُّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَخْرُجُ الْمَيِّتُ مِنَ الْحَيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 36 - 40] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ وَاخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْمَاءِ فِي الرَّحِمِ إِلَى أَنْ صَارَ مِنْهُ الزَّوْجَانِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَذَلِكَ أَمَارَةُ وُجُودِ صَانِعٍ قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ فِي النُّطْفَةِ الْمَهِينَةِ الْحَقِيرَةِ مِنَ الْأَطْوَارِ، وَسَوْقِهَا فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنْهَا، حَتَّى صَارَتْ بَشَرًا سَوِيًّا فِي أَحْسَنِ خِلْقَةٍ وَتَقْوِيمٍ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ هَذَا الْبَشَرَ سُدًى مُهْمَلًا مُعَطَّلًا. لَا يَأْمُرُهُ، وَلَا يَنْهَاهُ، وَلَا يُقِيمُهُ فِي عُبُودِيَّتِهِ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مِنْ حِينِ كَانَ نُطْفَةً إِلَى أَنْ صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَذَلِكَ يَسُوقُهُ فِي مَرَاتِبِ كَمَالِهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ جَارَهُ فِي دَارِهِ يَتَمَتَّعُ بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ. . . إِلَى آخِرِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ، فَإِنَّهُ أَطَالَ فِي ذِكْرِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ نَذْكُرْ جَمِيعَ كَلَامِهِ خَوْفًا مِنَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ، فَقَالَ فِيهِ: وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَلَمْ يَحْكِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا عَنِ الْمُبْطِلِينَ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِمْ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [12 \ 77] فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِعِلَّةٍ وَلَا دَلِيلِهَا، وَإِنَّمَا أَلْحَقُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ جَامِعٍ سِوَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوسُفَ، فَقَالُوا هَذَا مَقِيسٌ عَلَى أَخِيهِ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ، وَذَلِكَ قَدْ سَرَقَ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ بِالشَّبَهِ الْفَارِغِ، وَالْقِيَاسُ بِالصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسَاوِي، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَالتَّسَاوِي فِي قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلتَّسَاوِي فِي السَّرِقَةِ لَوْ كَانَ حَقًّا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 التَّسَاوِي فِيهَا، فَيَكُونُ الْجَمْعُ لِنَوْعٍ شَبَهٍ خَالٍ مِنَ الْعِلَّةِ وَدَلِيلِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ الْفَاسِدِ أَمْثِلَةً أُخْرَى فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ حَيْثُ شَبَّهُوهُمْ بِالْبَشَرِ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الشَّبَهَ مَانِعٌ مِنْ رِسَالَتِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا [11 \ 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ الْآيَةَ [23 \ 33] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ بَشَرًا لَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي انْتِقَاءِ الرِّسَالَةِ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَلَمَّا قَالُوا لِلرُّسُلِ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [36 \ 15] أَجَابُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [14 \ 11] وَقِيَاسُ الْكُفَّارِ الرُّسُلَ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ فِي عَدَمِ الرِّسَالَةِ قِيَاسٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنَ التَّخْصِيصِ وَالتَّفْضِيلِ، وَجَعْلِ بَعْضِ الْبَشَرِ شَرِيفًا وَبَعْضِهِ دَنِيًّا، وَبَعْضِهِ مَرْءُوسًا وَبَعْضِهِ رَئِيسًا، وَبَعْضِهِ مَلِكًا وَبَعْضِهِ سُوقًا - يُبْطِلُ هَذَا الْقِيَاسَ. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَوَابُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورُ آنِفًا، يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [43] وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ لَيْسَ فِيهَا وَصْفٌ مُنَاسِبٌ بِالذَّاتِ وَلَا بِالتَّبَعِ. فَلِذَلِكَ كَانَتْ بَاطِلَةً. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ كُلُّهَا قِيَاسَاتُ شَبَهٍ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِثْلِ تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِي حُكْمِهِ، وَتَقْرِيبُ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَحْسُوسِ أَوْ أَحَدِ الْمَحْسُوسِينَ مِنَ الْآخَرِ وَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. ثُمَّ سَرَدَ الْأَمْثَالَ الْقُرْآنِيَّةَ ذَلِكَ فِيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فَأَجَادَ وَأَفَادَ. وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: قَالُوا فَهَذَا بَعْضُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْجَمْعِ، وَالْفَرْقِ، وَاعْتِبَارِ الْعِلَلِ، وَالْمَعَانِي وَارْتِبَاطِهَا بِأَحْكَامِهَا تَأْثِيرًا وَاسْتِدْلَالًا. قَالُوا: وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْثَالَ، وَصَرَّفَهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، وَيَقَظَةً وَمَنَامًا، وَدَلَّ عِبَادَهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِذَلِكَ، وَعُبُورُهُمْ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ. بَلْ هَذَا أَصْلُ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ، فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالتَّمْثِيلِ، وَاعْتِبَارِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الثِّيَابَ فِي التَّأْوِيلِ كَالْقُمُصِ تَدُلُّ عَلَى الدِّينِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ طُولٍ أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 قِصَرٍ، أَوْ نَظَافَةٍ أَوْ دَنَسٍ فَهُوَ فِي الدِّينِ. كَمَا أَوَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْ هَذَا تَأْوِيلُ اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ؛ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَالِ النَّشْأَةِ، وَأَنَّ الطِّفْلَ إِذَا خُلِّيَ وَفِطْرَتَهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ اللَّبَنِ. فَهُوَ مَفْطُورٌ عَلَى إِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّاسَ. وَمِنْ هَذَا تَأْوِيلُ الْبَقَرِ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ شَرِّهَا وَكَثْرَةِ خَيْرِهَا، وَحَاجَةِ الْأَرْضِ وَأَهْلِهَا إِلَيْهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقَرًا تُنْحَرُ كَانَ ذَلِكَ نَحْرًا فِي أَصْحَابِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ زَارِعٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ لَهُ مَا بَذَرَهُ كَمَا يَخْرُجُ لِلْبَاذِرِ زَرْعُ مَا بَذَرَهُ، فَالدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ، وَالْأَعْمَالُ الْبَذْرُ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ طُلُوعِ الزَّرْعِ وَحَصَادِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانِدِ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا رُوحَ فِيهِ، وَلَا ظِلَّ، وَلَا ثَمَرَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا شَبَّهَ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْسَامٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، وَفِي كَوْنِهَا مُسَنَّدَةً نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْخَشَبَ إِذَا انْتُفِعَ بِهِ جُعِلَ فِي سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ مَظَانِّ الِانْتِفَاعِ، وَمَا دَامَ مَتْرُوكًا فَارِغًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ جُعِلَ مُسَنَّدًا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَشَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْخُشُبِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ فِيهَا بِهَا. . . إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَكُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ نَظِيرَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَنَظِيرَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَهَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَوَحْيُهُ، وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ، كُلُّهُ قَائِمٌ بِهَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ إِلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُ الشَّارِعُ الْعِلَلَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ، وَالْمَعَانِيَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَزَائِيَّةِ؛ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا أَيْنَ وَجِدَتْ، وَاقْتِضَائِهَا لِأَحْكَامِهَا، وَعَدَمِ تَخَلُّفِهَا عَنْهَا إِلَّا لِمَانِعٍ يُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَيُوجِبُ تَخَلُّفَ آثَارِهَا عَنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [59 \ 4] ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [40 \ 12] ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [45 \ 35] ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [40] ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 28] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [47 \ 26] وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [41] . وَقَدْ جَاءَ التَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالْبَاءِ تَارَةً، وَبِاللَّامِ تَارَةً، وَبِـ «أَنَّ» تَارَةً، وَبِمَجْمُوعِهِمَا تَارَةً، وَبِـ «كَيْ» تَارَةً، وَ «مِنْ أَجْلِ» تَارَةً، وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ تَارَةً، وَبِالْفَاءِ الْمُؤْذِنَةِ بِالسَّبَبِيَّةِ تَارَةً، وَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لَهُ تَارَةً، وَبِـ «لَمَّا» تَارَةً، وَبِـ «أَنَّ» الْمُشَدَّدَةَ تَارَةً، وَبِـ «لَعَلَّ» تَارَةً، وَبِالْمَفْعُولِ لَهُ تَارَةً. فَالْأَوَّلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّامُ كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [5 \ 97] وَ «أَنْ» كَقَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [6 \ 156] ثُمَّ قِيلَ: التَّقْدِيرُ لِئَلَّا تَقُولُوا، وَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا. وَ «أَنْ وَاللَّامُ» كَقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] وَغَالِبُ مَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ فِي النَّفْيِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَ «كَيْ» كَقَوْلِهِ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً [59 \ 7] وَالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [3 \ 120] وَالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ [26 \ 139] فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [69 \ 10] فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [73 \ 16] وَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [5 \ 15] وَقَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [58 \ 11] وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [7 \ 170] وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [12 \ 56] وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [12 \ 52] وَلَمَّا كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [43] فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [7 \ 166] وَإِنَّ الْمُشَدَّدَةَ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [21 \ 77] إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ [21] وَلَعَلَّ كَقَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [20 \ 44] لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [2] لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [24] وَالْمَفْعُولِ لَهُ كَقَوْلِهِ: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [92 \ 19 - 21] أَيْ: لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ جَزَاءَ نِعْمَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَ «مِنْ أَجْلِ» كَقَوْلِهِ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [5] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلَلَ الْأَحْكَامِ، وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ فِيهَا؛ لِيَدُلَّ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِهَا، وَتَعَدِّيهَا بِتَعَدِّي أَوْصَافِهَا وَعِلَلِهَا، كَقَوْلِهِ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ: «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ» ، وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ، وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ» ، وَقَوْلِهِ فِي الْهِرَّةِ: «لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» ، وَنَهْيِهِ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَتَقْرِيبِهِ الطِّيبَ، وَقَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» ، وَقَوْلِهِ: «إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكُمْ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» ذَكَرَهُ تَعْلِيلًا لِنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [2 \ 222] وَقَوْلِهِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 91] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ -: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ» ؟ قَالُوا نَعَمْ. فَنَهَى عَنْهُ. وَقَوْلِهِ: «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» . وَقَوْلِهِ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِالْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَقَالَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ «هَلْ هُوَ إِلَّا بِضْعَةٌ مِنْكَ» ، وَقَوْلِهِ فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي؛ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ» ، وَقَوْلِهِ فِي الصَّدَقَةِ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ؛ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» . وَقَدْ قَرَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَحْكَامَ لِأُمَّتِهِ بِذِكْرِ نَظَائِرِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَضَرَبَ لَهَا الْأَمْثَالَ. . . إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَقْيِسَةٌ فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا قِيَاسُ الْقُبْلَةِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَقِيَاسُ دَيْنِ اللَّهِ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ. وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى كَمَا قَبْلَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَمِنْهَا قِيَاسُ الْعَكْسِ فِي حَدِيثِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ وَضْعَهَا فِي حَرَامٍ، أَيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ» وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «التَّوْبَةِ» . وَمِنْهَا قِصَّةُ الَّذِي وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَمِنْهَا حَدِيثُ الْمُسْتَحَاضَةِ الَّذِي قَاسَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَمَ الْعِرْقِ الَّذِي هُوَ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ دِمَاءِ الْعُرُوقِ الَّتِي لَا تَكُونُ حَيْضًا. وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنَ الشَّرْعِ، لَا مُخَالِفَ لَهُ كَمَا يَزْعُمُهُ الظَّاهِرِيَّةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِذَلِكَ. فَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَاجْتَهَدَ بَعْضُهُمْ وَصَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ النُّهُوضِ. فَنَظَرُوا إِلَى الْمَعْنَى. وَاجْتَهَدَ آخَرُونَ وَأَخَّرُوهَا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَصَلَّوْهَا لَيْلًا. وَقَدْ نَظَرُوا إِلَى اللَّفْظِ، وَهَؤُلَاءِ سَلَفُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأُولَئِكَ سَلَفُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي وَالْقِيَاسِ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا كَانَ بِالْيَمَنِ أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَخْتَصِمُونَ فِي غُلَامٍ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ: هُوَ ابْنِي. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلْقَارِعِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ لِلرَّجُلَيْنِ الْآخَرَيْنِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَدْ صَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ» . وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ خَرَجَا فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ. فَصَوَّبَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ» ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: «لَكَ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ» . وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ مُجَزِّزِ الْمُدْلِجِيِّ بِالْقِيَافَةِ، وَقَالَ: إِنَّ أَقْدَامَ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ سُرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إِلْحَاقٍ ذَلِكَ الْقَائِفِ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ، مَعَ أَنَّ زَيْدًا أَبْيَضُ وَأَسَامَةَ أَسْوَدُ، فَأَلْحَقَ هَذَا الْقَائِفُ الْفَرْعَ بِنَظِيرِهِ وَأَصْلِهِ، وَأَلْغَى وَصْفَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْكَلَالَةِ، قَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ (أَرَاهُ مَا خَلَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ) فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ قَالَ: إِنِّي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمِنْ أَغْرَبِ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ لَهُ إِلَى مَعْنَى الْكَلَالَةِ إِشَارَةً وَاضِحَةً ظَاهِرَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 جِدًّا. وَلَمْ يَفْهَمْهَا عَنْهُ مَعَ كَمَالِ فَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ مِرَارًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» . وَهَذَا الْإِرْشَادُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضِحٌ كُلَّ الْوُضُوحِ فِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْكَلَالَةَ هِيَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ؛ لِأَنَّ آيَةَ الصَّيْفِ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي أَخْبَرَهُ أَنَّهَا تَكْفِيهِ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً كَافِيَةً وَاضِحَةً فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِيهَا: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [4 \ 176] صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَلَالَةَ لَا يَكُونُ فِيهَا وَلَدٌ، وَقَوْلِهِ فِيهَا: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [4 \ 12] يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهَا لَا أَبَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، فَظَهَرَ أَنَّ آيَةَ الصَّيْفِ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ بِكُلِّ وُضُوحٍ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ، وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْإِشَارَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ، فَالْكَمَالُ التَّامُّ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَحْدَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، لَهَا كَمَهْرِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعُدَّةُ. وَقَدْ شَهِدَ لِابْنِ مَسْعُودٍ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بِالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْعَهْدِ بِالْخِلَافَةِ إِلَى عُمَرَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ قَاسَ الْعَهْدَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْعَقْدِ لَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ فِي جَمْعِ الْمُصْحَفِ بِالْكِتَابَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَالْمُشْتَرَكَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْحِمَارِيَّةِ، وَالْيَمِّيَّةِ. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ، وَاجْتِهَادُ عَمَرَ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيهِ. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُهُمْ فِي جَلْدِ السَّكْرَانِ ثَمَانِينَ، قَالُوا: إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَحَدُّوهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مُتَوَاتِرٌ مَعْنًى، فَإِنَّ الْوَقَائِعَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَتَوَاتَرْ آحَادُهَا فَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 الْيَقِينِيَّ لِتَوَاتُرِهَا مَعْنًى، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَعَلَّمَ ذَلِكَ. وَرِسَالَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْمُتَضَمِّنَةُ لِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) : وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ، قَالَ لِي عُمَرُ: اقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ أَقْضِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ مَا قَضَتْ بِهِ أَئِمَّةُ الْمُهْتَدِينَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ، وَاسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ. . إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَايَسَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي الْمَكَاتِبِ، وَقَايَسَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَقَاسَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَضْرَاسَ بِالْأَصَابِعِ وَقَالَ: عَقْلُهَا سَوَاءٌ، اعْتَبِرُوهَا بِهَا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: الْفُقَهَاءُ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا - وَهَلُمَّ جَرَّا - اسْتَعْمَلُوا الْمَقَايِيسَ فِي الْفِقْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَأَجْمَعُوا بِأَنَّ نَظِيرَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَنَظِيرَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِنْكَارُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ التَّشْبِيهُ بِالْأُمُورِ وَالتَّمْثِيلُ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بَعْدَ حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُ: وَمِنَ الْقِيَاسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ صَيْدُ مَا عَدَا الْكَلْبَ مِنَ الْجَوَارِحِ قِيَاسًا عَلَى الْكِلَابِ بِقَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [5 \ 4] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [24 \ 4] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُحْصَنُونَ قِيَاسًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْإِمَاءِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ قِيَاسًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِمَّنْ لَا يَكَادُ يُعَدُّ قَوْلُهُ خِلَافًا. وَقَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [5 \ 95] فَدَخَلَ فِيهِ قَتْلُ الْخَطَأِ قِيَاسًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَنْ شَذَّ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [33 \ 49] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِيَّاتُ قِيَاسًا: وَقَالَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْمُدَايَنَاتِ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] فَدَخَلَ فِي مَعْنَى إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى قِيَاسًا لِلْمَوَارِيثِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالْغُصُوبِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَوْرِيثِ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْأُخْتَيْنِ. وَقَالَ عَمَّنْ أَعْسَرَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الرِّبَا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [2 \ 280] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُعْسِرٍ بِدَيْنٍ حَلَالٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ قِيَاسُهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَوْرِيثُ الذَّكَرِ ضِعْفَيْ مِيرَاثِ الْأُنْثَى مُنْفَرِدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 اجْتِمَاعِهِمَا بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4 \ 11] وَقَالَ: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4 \ 176] . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قِيَاسُ التَّظَاهُرِ بِالْبِنْتِ عَلَى التَّظَاهُرِ بِالْأُمِّ فِيمَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ بِنْتِي. وَقِيَاسُ الرَّقَبَةِ فِي الظِّهَارِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ. وَقِيَاسُ تَحْرِيمِ الْأُخْتَيْنِ وَسَائِرِ الْقِرَابَاتِ مِنَ الْإِمَاءِ عَلَى الْحَرَائِرِ فِي الْجَمْعِ فِي التَّسَرِّي. قَالَ: وَهَذَا لَوْ تَقَصَّيْتُهُ لَطَالَ بِهِ الْكِتَابُ. قُلْتُ: بَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِيهَا نِزَاعٌ، وَبَعْضُهَا لَا يُعْرَفُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ إِدْخَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، فَأُدْخِلَ قَذْفُ الرِّجَالِ فِي قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَجُعِلَ الْمُحْصَنَاتُ صِفَةً لِلْفُرُوجِ لَا لِلنِّسَاءِ. وَأُدْخِلَ صَيْدُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ [5 \ 4] وَقَوْلِهِ: مُكَلِّبِينَ [5 \ 4] وَإِنْ كَانَ مِنْ لَفْظِ الْكَلْبِ فَمَعْنَاهُ مُغْرِينَ لَهَا عَلَى الصَّيْدِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: مُكَلِّبِينَ مَعْنَاهُ مُعَلِّمِينَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ: مُكَلِّبِينَ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ صَيْدِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْكِلَابِ. وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَمَا جَزَمُوا بِتَحْرِيمِ أَجْزَاءِ الْخِنْزِيرِ لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَأَعَادُوا الضَّمِيرَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ دُونَ الْمُضَافِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَهُمْ يُضْطَرُّونَ فِيهَا وَلَا بُدَّ إِلَى الْقِيَاسِ أَوِ الْقَوْلِ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ. فَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى يَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ بِالسَّمْنِ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» -: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالسَّمْنِ دُونَ سَائِرِ الْأَدْهَانِ وَالْمَائِعَاتِ. هَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْفُتْيَا لَا يُفَرِّقُونَ فِيهِ بَيْنَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالدُّبَّسِ. كَمَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَأْرَةِ وَالْهِرَّةِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ نَهَىُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، لَا يُفَرِّقُ عَالِمٌ يَفْهَمُ عَنِ اللَّهِ رَسُولِهِ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ. وَمِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [2 \ 230] أَيْ: إِنْ طَلَّقَهَا الثَّانِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا. وَالْمُرَادُ بِهِ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالصُّورَةِ الَّتِي يُطْلَقُ فِيهَا الثَّانِي فَقَطْ، بَلْ مَتَى تَفَارَقَا بِمَوْتٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» . وَقَوْلِهِ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَهَذَا التَّحْرِيمُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، بَلْ يَعُمُّ سَائِرَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهَا، وَلَا يَتَوَضَّأَ بِهَا، وَلَا يَكْتَحِلَ مِنْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ عَالِمٌ. وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَرِمَ عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ، وَالسَّرَاوِيلِ، وَالْعِمَامَةِ، وَالْخُفَّيْنِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ، بَلْ يَتَعَدَّى النَّهْيُ إِلَى الْجِبَابِ، وَالْأَقْبِيَةِ، وَالطَّيْلَسَانِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الْمَلْبُوسَاتِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» فَلَوْ ذَهَبَ مَعَهُ بِخِرْقَةِ تَنْظِيفٍ أَكْثَرَ مِنَ الْأَحْجَارِ، أَوْ قُطْنٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ. وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ غَرَضٌ فِي غَيْرِ التَّنْظِيفِ وَالْإِزَالَةِ، فَمَا كَانَ أَبْلَغَ فِي ذَلِكَ كَانَ مِثْلَ الْأَحْجَارِ فِي الْجَوَازِ أَوْ أَوْلَى. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ» . مَعْلُومٌ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْبَيْعِ وَالْخِطْبَةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْإِجَارَةِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ عَلَى إِجَارَتِهِ. وَإِنَّ قُدِّرَ دُخُولُ الْإِجَارَةِ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ الْعَامِّ وَهُوَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ فَحَقِيقَتُهَا غَيْرُ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَأَحْكَامُهَا غَيْرُ أَحْكَامِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [5 \ 6] فَأَلْحَقَتِ الْأُمَّةُ أَنْوَاعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي نَقْضِهَا بِالْغَائِطِ. وَالْآيَةُ لَمْ تَنُصَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إِلَّا عَلَيْهِ وَعَلَى اللَّمْسِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ. وَأَلْحَقَتِ الِاحْتِلَامَ بِمُلَامَسَةِ النِّسَاءِ، وَأَلْحَقَتْ وَاجِدَ ثَمَنِ الْمَاءِ بِوَاجِدِهِ، وَأَلْحَقَتْ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ مِنَ الْعَطَشِ إِذَا تَوَضَّأَ بِعَادِمِ الْمَاءِ، فَجَوَّزَتْ لَهُ التَّيَمُّمَ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ. وَأَلْحَقَتْ مَنْ خَشِيَ الْمَرَضَ مِنْ شِدَّةِ بِرْدِ الْمَاءِ بِالْمَرِيضِ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الْبَدَلِ. وَإِدْخَالُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْعُمُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَرِيبُ مَنْ لَهُ فَهْمٌ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَصْدِ عُمُومِهَا وَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ، وَكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ - أَوْلَى مِنْ إِدْخَالِهَا فِي عُمُومَاتٍ لَفْظِيَّةٍ بَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ لَهَا لَيْسَتْ بِحَرِيَّةِ الْفَهْمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 مِمَّا لَا يُنْكِرُ تَنَاوُلَ الْعُمُومِيِّينَ لَهَا. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِتَنَاوُلِ الْعُمُومِيِّينَ لَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [2 \ 283] قَاسَتِ الْأُمَّةُ الرَّهْنَ فِي الْحَضَرِ عَلَى الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ مَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ عَلَى الرَّهْنِ مَعَ عَدَمِهِ. فَإِنِ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهَنَ دِرْعَهُ فِي الْحَضَرِ فَلَا عُمُومَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا رَهَنَهَا عَلَى شَعِيرٍ اسْتَقْرَضَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقِيَاسِ إِمَّا عَلَى الْآيَةِ وَإِمَّا عَلَى السُّنَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ لَمَّا بَاعَ خَمْرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَخَذَ ثَمَنَهَا فِي الْعُشُورِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ؟ أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ عَلَى الْيَهُودِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَكَمَا يَحْرُمُ ثَمَنُ الشُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ ثَمَنُ الْخَمْرِ الْحَرَامِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا الْعَبْدَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ؛ قِيَاسًا عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ثُمَّ ذَكَرَ آثَارًا دَالَّةً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ جَعَلُوا الْعَبْدَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ فِيمَا ذَكَرَ قِيَاسًا عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ تَنْصِيفِ الْحَدِّ عَلَى الْأَمَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَوْرِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِرَأْيِهِ، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، قَالَ: أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ وَزَيْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا قَالَا: إِنَّ الْأُمَّ تَرِثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ مَعَ الْأَبَوَيْنِ، قَاسَا وُجُودَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ زَوْجٌ وَلَا زَوْجَةٌ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْأَبِ ضِعْفُ مَا لِلْأُمِّ، فَقَدَّرَا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ كُلُّ الْمَالِ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِذَا اجْتَمَعَا وَكَانَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الذَّكَرُ ضِعْفَ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 كَالْأَوْلَادِ وَبَنِي الْأَبِ، وَإِمَّا أَنْ تُسَاوِيَهُ كَوَلَدِ الْأُمِّ، وَأَمَّا أَنَّ الْأُنْثَى تَأْخُذُ ضِعْفَ مَا يَأْخُذُ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لَهَا فِي دَرَجَتِهِ، فَلَا عَهْدَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْفَرَائِضِ بِالْعَوْلِ، وَإِدْخَالِ النَّقْصِ عَلَى جَمِيعِ ذَوِي الْفَرَائِضِ قِيَاسًا عَلَى إِدْخَالِ النَّقْصِ عَلَى الْغُرَمَاءِ إِذَا ضَاقَ مَالُ الْمُفْلِسِ عَنْ تَوْفِيَتِهِمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَوْلَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْدَلُ مِنْ تَوْفِيَةِ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ حَقَّهُ كَامِلًا وَنَقْصِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ حَقِّهِ، فَهَذَا ظُلْمٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ، فَلَوْ تَقَصَّيْنَاهَا لَطَالَ الْكَلَامُ جِدًّا. وَهَذِهِ الْوَقَائِعُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالَهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْ تَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْقِيَاسَ فِي الْأَحْكَامِ، وَيُعَرِّفُونَهَا بِالْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ يَقْدَحُ فِي كُلِّ سَنَدٍ مِنْ أَسَانِيدِهَا، فَإِنَّهَا فِي كَثْرَةِ طُرُقِهَا وَاخْتِلَافِ مَخَارِجِهَا وَأَنْوَاعِهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كُلُّ فَرْدٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ جَاءَتْ عَلَى مَنْعِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَبِهَا تَمَسَّكَ الظَّاهِرِيَّةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا وَافِيَةً مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ نُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالُوا: فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [4 \ 59] وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ - هُوَ الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي حُضُورِهِ وَحَيَاتِهِ، وَإِلَى سُنَّتِهِ فِي غَيْبَتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِهَذَا وَلَا هَذَا، وَلَا يُقَالُ: الرَّدُّ إِلَى الْقِيَاسِ هُوَ مِنَ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِدَلَالَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا رَدَّنَا إِلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَرُدَّنَا إِلَى قِيَاسِ عُقُولِنَا وَآرَائِنَا فَقَطْ، بَلْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [5 \ 49] وَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [4 \ 105] وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْتَ أَنْتَ. وَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [5 \ 44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [5 \ 45] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [5 \ 47] وَقَالَ تَعَالَى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [7 \ 3] وَقَالَ تَعَالَى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [16 \ 89] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [29 \ 51] وَقَالَ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [34 \ 50] فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ هُدًى لَمْ يَنْحَصِرِ الْهُدَى فِي الْوَحْيِ. وَقَالَ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [4 \ 65] فَنَفَى الْإِيمَانَ حَتَّى يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَتَحْكِيمُ سُنَّتِهِ فَقَطْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [49] أَيْ: لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ. قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَرَّمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ، أَوْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَكَلَّمَ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ، فَقُلْنَا: وَنَحْنُ نَقِيسُ عَلَى قَوْلِكَ الْبَلُّوطَ، فَهَذَا مَحْضُ التَّقَدُّمِ، قَالُوا: وَقَدْ حَرَّمَ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا نَعْلَمُ، فَإِذَا قُلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ وَاقَعْنَا هَذَا الْمُحَرَّمَ يَقِينًا، فَإِنَّا غَيْرُ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرِيمَهُ فِي الْقَدِيدِ مِنَ اللُّحُومِ، وَهَذَا قَفْوٌ مِنَّا مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَتَعَدٍّ لِمَا حُدَّ لَنَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَالْوَاجِبُ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَا نَتَجَاوَزُهَا، وَلَا نُقَصِّرَ بِهَا. وَلَا يُقَالُ: فَإِبْطَالُ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْرِيمٌ لِمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَقَفْوٌ مِنْكُمْ لِمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ يُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. فَمَا عَلِمْنَاهُ وَبَيَّنَهُ لَنَا فَهُوَ مِنَ الدِّينِ، وَمَا لَمْ يَعْلِّمْنَاهُ وَلَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ. وَقَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [5 \ 3] فَالَّذِي أَكْمَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَبَيَّنَهُ هُوَ دِينُنَا لَا دِينَ لَنَا سِوَاهُ، فَأَيْنَ فِيمَا أَكْمَلَهُ لَنَا، قِيسُوا مَا سَكَتُّ عَنْهُ عَلَى مَا تَكَلَّمْتُ بِإِيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ أَوْ إِبَاحَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عِلَّةً أَوْ دَلِيلً عِلَّةٍ، أَوْ وَصْفًا شَبِيهًا، فَاسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَانْسُبُوهُ إِلَيَّ وَإِلَى رَسُولِي وَإِلَى دِينِي، وَأَحْكَمُوا بِهِ عَلَيَّ. قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَأَخْبَرَ رَسُولَهُ أَنَّ " الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " وَنَهَى عَنْهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ الظَّنِّ ظَنُّ الْقِيَاسِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ، وَالْحَلْوَى بِالْعِنَبِ، وَالنِّشَا بِالْبُرِّ، وَإِنَّمَا هِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 ظُنُونٌ مُجَرَّدَةٌ لَا تُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الضُّرَاطِ عَلَى " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " مِنَ الظَّنِّ الَّذِي نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَتَحْكِيمِهِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ بَاطِلٌ. فَأَيْنَ الضُّرَاطُ مِنَ " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ". وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى الْأَعْضَاءَ الطَّاهِرَةَ الطَّيِّبَةَ عِنْدَ اللَّهِ فِي إِزَالَةِ الْحَدَثِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى أَخْبَثَ الْعَذِرَاتِ، وَالْمَيْتَاتِ، وَالنَّجَاسَاتِ ظَنًّا. فَلَا نَدْرِي مَا الظَّنُّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَسَلَخَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ عُبَّادِ الصُّلْبَانِ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَخِيَارِ خَلْقِهِ، وَسَادَاتِ الْأَمَةِ وَعُلَمَائِهَا وَصُلَحَائِهَا فِي تَكَاثُرِ دِمَائِهِمْ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ ظَنًّا، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ يُذَمُّ اتِّبَاعُهُ. قَالُوا: مِنَ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ أَعْدَاءَ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ، فَقَتَلْتُمْ أَلْفَ وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى قَتَلُوا نَصْرَانِيًّا وَاحِدًا، وَلَمْ تَقِيسُوا مَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِدَبُّوسٍ فَنَثَرَ دِمَاغَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَنْ طَعَنَهُ بِمِسَلَّةٍ فَقَتَلَهُ. قَالُوا: وَسَنُبَيِّنُ لَكُمْ مِنْ تُنَاقِضُ أَقْيِسَتِكُمْ وَاخْتِلَافِهَا وَشِدَّةِ اضْطِرَابِهَا مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ. قَالُوا: وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكِلْ بَيَانَ شَرِيعَتِهِ إِلَى آرَائِنَا وَأَقْيِسَتِنَا وَاسْتِنْبَاطِنَا، وَإِنَّمَا وَكَلَهَا إِلَى رَسُولِهِ الْمُبَيِّنِ عَنْهُ، فَمَا بَيَّنَهُ عَنْهُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمُ اللَّهَ هَلِ اعْتِمَادُكُمْ فِي هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الشَّبِيهَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَدْسِيَّةِ التَّخْمِينِيَّةِ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ، أَوْ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ وَظُنُونِهِمْ وَحَدْسِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [16 \ 44] فَأَيْنَ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي إِذَا حَرَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَوْجَبْتُهُ أَوْ أَبَحْتُهُ فَاسْتَخْرِجُوا وَصْفًا مَا شَبِيهًا جَامِعًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ جَمِيعِ مَا سَكَتُّ عَنْهُ فَأَلْحِقُوهُ بِهِ وَقِيسُوهُ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَهَى عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ، فَكَمَا لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ لَا تُضْرَبُ لِدِينِهِ، وَتَمْثِيلُ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِهِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ لِشَبَهٍ مَا ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِدِينِهِ. قَالُوا: وَمَا ضَرَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَمْثَالِ فَهُوَ حَقٌّ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ إِثْبَاتِكُمُ الْأَحْكَامَ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَذَكَرُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهَا حَقٌّ. قَالُوا: وَلَا تُفِيدُكُمْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، قَالُوا: فَالْأَمْثَالُ الَّتِي ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هِيَ لِتَقْرِيبِ الْمُرَادِ، وَتَفْهِيمِ الْمَعْنَى وَإِيصَالِهِ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، وَإِحْضَارِهِ فِي نَفْسِهِ بِصُورَةِ الْمِثَالِ الَّذِي مُثَّلَ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 تَعَقُّلِهِ وَفَهْمِهِ وَضَبْطِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ لَهُ بِاسْتِحْضَارِ نَظِيرِهِ. فَإِنَّ النَّفْسَ تَأْنَسُ بِالنَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ الْأُنْسَ التَّامَّ، وَتَنْفِرُ مِنَ الْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ النَّظِيرِ. فَفِي الْأَمْثَالِ مِنْ تَأْنِيسِ النَّفْسِ وَسُرْعَةِ قَبُولِهَا وَانْقِيَادِهَا لِمَا ضُرِبَ لَهَا مَثَلُهُ مِنَ الْحَقِّ أَمْرٌ لَا يَجْحَدُهُ أَحَدٌ وَلَا يُنْكِرُهُ. وَكُلَّمَا ظَهَرَتْ لَهَا الْأَمْثَالُ ازْدَادَ الْمَعْنَى ظُهُورًا وَوُضُوحًا. فَالْأَمْثَالُ شَوَاهِدُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَتَزْكِيَةٌ لَهُ، وَهِيَ: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [48 \ 29] ، وَهِيَ خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَلُبُّهُ وَثَمَرَتُهُ، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ فَهِمْنَا أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ عَشَرَةٍ، قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا عَلَى أَقَلِّ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ. هَذَا بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْفَهْمِ. كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ: (بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيَفْهَمَ السَّامِعُ) . قَالُوا: فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذِهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا نَجْهَلُ مَا أُرِيدَ بِهَا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يُسْتَفَادَ وُجُوبُ الدَّمِ عَلَى مَنْ قَطَعَ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [2 \ 196] وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: " صَاعٌ مَنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٌ مَنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ زَبِيبٍ " يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى صَاعًا مِنْ إِهْلِيجٍ جَازِ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ وَالِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " يُسْتَفَادُ مِنْهُ وَمِنْ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي وَهُوَ بِأَقْصَى الشَّرْقِ وَهِيَ بِأَقْصَى الْغَرْبِ، فَقَالَ: قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ، وَمَعَ هَذَا لَوْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ، وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ وَيَسْتَلْحِقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَلَيْسَ بِوَلَدِهِ؟ . وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ " أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ أَوْ بِكُورِ الْحَدَّادِ أَوْ بِمَرَازِبِ الْحَدِيدِ الْعِظَامِ، حَتَّى خَلَطَ دِمَاغَهُ بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ - أَنَّ هَذَا خَطَأٌ شِبْهُ عَمْدٍ لَا يُوجِبُ قَوْدًا. وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إِنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 - أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ أَوِ ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ وَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَأَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ " فَهَذَا فِي مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ، وَهِيَ الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ أَوْ فِي الْفَاعِلِ أَوْ فِي الِاعْتِقَادِ. وَلَوْ عُرِضَ هَذَا عَلَى فَهْمِ مَنْ فَرَضَ مِنَ الْعَالَمِينَ لَمْ يَفْهَمْهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَأَنَّ مَنْ يَطَأُ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتُهُ وَتَحْرِيمِ اللَّهِ لِذَلِكَ، وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ "، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ. قَالُوا: فَهَذَا التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ هُوَ الَّذِي نُنْكِرُهُ، وَنُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَهْمِهِ بِوَجْهٍ مَا. قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً [16 \ 66] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاعْتَبِرُوا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْكِشْكِ بِاللَّبَنِ، وَبِيعِ الْخَلِّ بِالْعِنَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [42 \ 10] وَلَمْ يَقُلْ إِلَى قِيَاسَاتِكُمْ وَآرَائِكُمْ. وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ آرَاءَ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتَهَا حَاكِمَةً بَيْنَ الْأُمَّةِ أَبَدًا. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] فَإِنَّمَا مَنْعُهُمْ مِنَ الْخِيَرَةِ عِنْدَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، لَا عِنْدَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتِهِمْ وَظُنُونِهِمْ. وَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَالَ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَقَالَ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ قَالُوا: فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ شَرْعُ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَّ كُلَّ مَا سَكَتَ عَنْ إِيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عَفْوٌ عَفَا عَنْهُ لِعِبَادِهِ، مُبَاحٌ إِبَاحَةَ الْعَفْوِ، فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ وَلَا إِيجَابُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ أَوْ حَرَّمَهُ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ هَذَا الْقِسْمَ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِلْغَاءَهُ، إِذِ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ شَبَهٌ وَوَصْفٌ جَامِعٌ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ. فَلَوْ جَازَ إِلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِسْمٌ قَدْ عَفَا عَنْهُ. وَلَمْ يَكُنْ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ بَلْ يَكُونُ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ حَرَّمَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا حَرَّمَهُ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 تَحْرِيمُ مَا سَكَتَ عَنْهُ تَبْدِيلًا لِحُكْمِهِ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْقَوْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَمَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْحُكْمِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ تَسَبَّبَ إِلَى تَحْرِيمِ الشَّارِعِ صَرِيحًا بِمَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَرَّمَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ بِقِيَاسِهِ وَرَأْيِهِ! يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ لَمَّا كَانَ عَفْوًا عَفَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَنْهُ، وَكَانَ الْبَحْثُ عَنْهُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ لَا لِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْ ذَلِكَ وَسَامَحَ بِهِ عِبَادَهُ كَمَا يَعْفُو عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ. فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ لَفْظٍ عَامٍّ يُحْرِّمُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ مِنْهُ، فَمَنْ حَرَّمَهُ بِسُؤَالِهِ عَنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَانَ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ مِمَّنْ سَأَلَهُ عَنْ حُكْمِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يَبْحَثَ عَنْهُ، وَلَا يَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ اكْتِفَاءً بِسُكُوتِ اللَّهِ عَنْ عَفْوِهِ عَنْهُ. فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يُحَرِّمَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ بِغَيْرِ النَّصِّ الَّذِي حَرَّمَ أَصْلَهُ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ. قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا كِتَابُ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [5 \ 101 - 102] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ مِنَ السُّؤَالِ مَا تَرَكَهُمْ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ حَيَاتِهِ وَبَيْنَ مَمَاتِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتْرُكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَلَا نَقُولُ لَهُ: لِمَ حَرَّمْتَ كَذَا لِنُلْحِقَ بِهِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ حُكْمِ شَيْءٍ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ: " وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " فَجَعَلَ الْأُمُورَ ثَلَاثَةً لَا رَابِعَ لَهَا: (مَأْمُورٌ بِهِ) فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ (وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ) فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمُ اجْتِنَابُهُ بِالْكُلِّيَّةِ (وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ) فَلَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ. وَهَذَا حُكْمٌ لَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ فَقَطْ، وَلَا يَخُصُّ الصَّحَابَةَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، بَلْ فَرَضَ عَلَيْنَا نَحْنُ امْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ، وَتَرْكَ الْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّرْكُ جَهْلًا وَتَجْهِيلًا لِحُكْمِهِ، بَلْ إِثْبَاتٌ لِحُكْمِ الْعَفْوِ وَهِيَ الْإِبَاحَةُ الْعَامَّةُ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 فَقَدِ اسْتَوْعَبَ الْحَدِيثُ أَقْسَامَ الدِّينِ كُلَّهَا، فَإِنَّهَا: إِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا حَرَامٌ، وَإِمَّا مُبَاحٌ. وَالْمَكْرُوهُ وَالْمُسْتَحَبُّ فَرْعَانِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 18 - 19] فَوَكَلَ بَيَانَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى الْقِيَاسِيِّينِ وَالْآرَائِيِّينَ. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] فَقَسَّمَ الْحُكْمَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ أَذِنَ فِيهِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقِسْمٌ افْتُرِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَأَيْنَ إِذًا لَنَا أَنْ نَقِيسَ الْبَلُّوطَ عَلَى التَّمْرِ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ، وَأَنْ نَقِيسَ الْقِزْدِيرَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَرْدَلَ عَلَى الْبُرِّ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَّانَا بِهَذَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّا قَائِلُونَ لِمُنَازِعِينَا أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [6 \ 144] فَمَا لَمْ تَأْتُونَا بِهِ وَصِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَيْنُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِرَدِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُبِحْ لَنَا قَطُّ أَنْ نَرُدَّ ذَلِكَ إِلَى رَأْيٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا تَقْلِيدِ إِمَامٍ، وَلَا مَنَامٍ، وَلَا كُشُوفٍ، وَلَا إِلْهَامٍ، وَلَا حَدِيثِ قَلْبٍ، وَلَا اسْتِحْسَانٍ، وَلَا مَعْقُولٍ، وَلَا شَرِيعَةِ الدِّيوَانِ، وَلَا سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ، وَلَا عَوَائِدِ النَّاسِ الَّتِي لَيْسَ عَلَى شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ أَضَرُّ مِنْهَا. فَكُلُّ هَذِهِ طَوَاغِيتُ! مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهَا أَوْ دَعَا مُنَازِعَهُ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَيْهَا فَقَدْ حَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ! وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16] . قَالُوا: وَمَنْ تَأْمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا نَصٌّ عَلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلدِّينِ، وَتَمْثِيلُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِمَا فِيهِ نَصٌّ. وَمَنْ مَثَّلَ مَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ بِمَا حَرَّمَهُ أَوْ أَوْجَبَهُ فَقَدْ ضَرَبَ لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، وَلَوْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ مِثْلَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ لِأَعْلَمَنَا بِذَلِكَ، وَلَمَا أَغْفَلَهُ سُبْحَانَهُ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَلِيُبَيِّنَ لَنَا مَا نَتَّقِي كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ إِذْ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [9 \ 115] وَلَمَا وَكَّلَهُ إِلَى آرَائِنَا وَمَقَايِيسِنَا الَّتِي يَنْقَضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهَذَا يَقِيسُ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ عَلَى مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَظِيرُهُ، فَيَجِيءُ مُنَازِعُهُ فَيَقِيسُ ضِدَّ قِيَاسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُبْدِي مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مِثْلَ مَا أَبْدَاهُ مُنَازِعُهُ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مَعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَلَيْسَا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [14 \ 4] وَقَالَ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [16 \ 44] فَكُلُّ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، بَيَّنَهُ بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ. وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُقُوعَ كُلِّ اسْمٍ فِي اللُّغَةِ عَلَى مُسَمَّاهُ فِيهَا، وَأَنَّ اسْمَ الْبُرِّ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَرْدَلَ، وَاسْمَ التَّمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَلُّوطَ، وَاسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقِزْدِيرَ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَقْدِيرُ الْمَهْرِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الطَّيِّبَ عِنْدَ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا إِذَا مَاتَ صَارَ نَجِسًا خَبِيثًا. وَأَنَّ هَذَا عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي وَلَّاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ وَبَعَثَهُ بِهِ أَبْعَدُ شَيْءٍ وَأَشَدُّهُ مُنَافَاةً لَهُ. فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ قَطْعًا، فَلَيْسَ إِذًا مِنَ الدِّينِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ " وَلَوْ كَانَ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ خَيْرًا لَهُمْ لَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ " وَلَقَالَ لَهُمْ: إِذَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَوْ حَرَّمْتُهُ فَقِيسُوا عَلَيْهِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَصْفٌ جَامِعٌ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ. أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَلَمَا حَذَّرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْحَذَرِ. وَقَدْ أَحْكَمَ اللِّسَانُ كُلَّ اسْمٍ عَلَى مُسَمَّاهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْعَرَبُ مِنْ لِسَانِهَا، فَإِذَا نَصَّ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ نَصَّ رَسُولُهُ عَلَى اسْمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ - وَجَبَ أَلَّا يُوَقَّعَ ذَلِكَ الْحُكْمُ إِلَّا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَلَا يُتَعَدَّى بِهِ الْوَضْعَ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ، وَلَا يُخْرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ شَيْءٌ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَالنَّقْصُ مِنْهُ نَقْصٌ فِي الدِّينِ. فَالْأَوَّلُ الْقِيَاسُ، وَالثَّانِي التَّخْصِيصُ الْبَاطِلُ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ النُّصُوصِ فَإِنَّهُ تَارَةً يَزِيدُ فِي النَّصِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيَقُولُ هَذَا قِيَاسٌ. وَمَرَّةً يَنْقُصُ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَقْتَضِيهِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِهِ وَيَقُولُ هَذَا تَخْصِيصٌ. وَمَرَّةً يَتْرُكُ النَّصَّ جُمْلَةً وَيَقُولُ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ. أَوْ يَقُولُ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، أَوْ خِلَافُ الْأُصُولِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنَ الدِّينِ لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ النَّاسِ لِلْأَحَادِيثِ، وَكَانَ كُلَّمَا تَوَغَّلَ فِيهِ الرَّجُلُ كَانَ أَشَدَّ اتِّبَاعًا لِلْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. قَالُوا: وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّمَا اشْتَدَّ تَوَغُّلُ الرَّجُلِ فِيهِ اشْتَدَّتْ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَنِ، وَلَا تَرَى خِلَافَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ إِلَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ قَدْ عُطِّلَتْ بِهِ، وَكَمْ مِنْ أَثَرٍ دَرَسَ حُكْمُهُ بِسَبَبِهِ، فَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ عِنْدَ الْآرَائِيِّينَ وَالْقِيَاسِيِّينَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، مُعَطَّلَةٌ أَحْكَامُهَا، مَعْزُولَةٌ عَنْ سُلْطَانِهَا وَوِلَايَتِهَا، لَهَا الِاسْمُ وَلِغَيْرِهَا الْحُكْمُ، لَهَا السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَلِغَيْرِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَإِلَّا فَلِمَاذَا تُرِكَ حَدِيثُ الْعَرَايَا، وَحَدِيثُ قِسْمِ الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ الْعَقْدِ سَبْعَ لَيَالٍ إِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 كَانَتْ بِكْرًا، أَوْ ثَلَاثًا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، ثُمَّ يُقَسَّمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَحَدِيثُ تَغْرِيبِ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَحَدِيثُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ وَجَوَازِ التَّحَلُّلِ بِالشَّرْطِ، وَحَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَحَدِيثُ عُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ وَالْجَاهِلِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَحَدِيثُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ إِلَى مَنْ جَاءَ فَوَصَفَ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ إِذَا أُعْتِقُوا فِي الْمَرَضِ وَلَمْ يَحْمِلْهُمُ الثُّلُثُ. وَحَدِيثُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَحَدِيثُ إِتْمَامِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَحَدِيثُ إِتْمَامِ الصُّبْحِ لِمَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً، وَحَدِيثُ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَحَدِيثُ الْحَجِّ عَنِ الْمَرِيضِ الْمَيْئُوسِ مِنْ بُرْئِهِ، وَحَدِيثُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ، وَحَدِيثُ " مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ "، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَحَدِيثُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ، وَحَدِيثُ " الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمَةٍ " وَهُوَ سَبَبُ الْحَدِيثِ تَخْيِيرُ الْغُلَامِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ إِذَا افْتَرَقَا، وَحَدِيثُ قَطْعِ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَحَدِيثُ رَجْمِ الْكِتَابِيِّينَ فِي الزِّنَى، وَحَدِيثُ " مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ "، وَحَدِيثُ " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ "، وَحَدِيثُ " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ "، وَحَدِيثُ " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ "، وَحَدِيثُ " الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ "، وَحَدِيثُ عِتْقِ صَفِيَّةَ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صَدَاقَهَا، وَحَدِيثُ " اصْدُقُوا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، وَحَدِيثُ " إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ "، وَحَدِيثُ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "، وَحَدِيثُ " لَيْسَ فِيهَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ "، وَحَدِيثُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَحَدِيثُ " ذَكَاةِ الْجَنِينِ ذَكَاةِ أُمِّهِ " وَحَدِيثُ " الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ "، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَحَدِيثُ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ " لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ "، وَحَدِيثُ " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ "، وَأَحَادِيثُ حُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، وَحَدِيثُ إِشْعَارِ الْهَدْيِ، وَحَدِيثُ " إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ "، وَحَدِيثُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَأَحَادِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، وَحَدِيثُ السَّرَاوِيلِ، وَحَدِيثُ مَنْعِ الرَّجُلِ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّهُ جَوْرٌ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " وَحَدِيثُ " مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ "، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَحَدِيثُ الْجَهْرِ بِـ " آمِينَ " فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، وَلَا يَرْجِعُ غَيْرُهُ، وَحَدِيثُ " الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ " وَحَدِيثُ الْخُرُوجِ إِلَى الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ إِذَا عُلِمَ بِالْعِيدِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحَدِيثُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 الْقَبْرِ، وَحَدِيثُ " مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ "، وَحَدِيثُ بَيْعِ جَابِرٍ بِعِيرَهُ وَاشْتِرَاطِ ظَهْرِهِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَحَدِيثُ " لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ "، وَحَدِيثُ " إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ "، وَحَدِيثُ " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ " وَحَدِيثُ " إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ اخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ "، وَحَدِيثُ الْوِتْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَحَدِيثُ " كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ "، وَحَدِيثُ " مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ "، وَأَحَادِيثُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَأَحَادِيثُ الِاسْتِفْتَاحِ، وَحَدِيثُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكْتَتَانِ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "، وَحَدِيثُ حَمْلِ الصَّبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَحَادِيثُ الْقُرْعَةِ، وَأَحَادِيثُ الْعَقِيقَةِ، وَحَدِيثُ " لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ "، وَحَدِيثُ " أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ "، وَحَدِيثُ " إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ "، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الذَّبْحِ بِالسَّنِّ وَالظُّفُرِ، وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ عَسِيبِ الْفَحْلِ، وَحَدِيثُ " الْمُحْرِمُ إِذَا مَاتَ لَمْ يُخَمَّرْ رَأْسُهُ، وَلَمْ يُقَرَّبْ طِيبًا " إِلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي كَانَ تَرْكُهَا مِنْ أَجْلِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ. فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ الْأُمَّةِ لِلْأَحَادِيثِ، وَلَا حُفِظَ لَهُمْ تَرْكُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ إِلَّا لِنَصٍّ نَاسِخٍ لَهُ، فَحَيْثُ رَأَيْنَا كُلَّ مَنْ كَانَ أَشَدَّ تَوَغُّلًا فِي الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ كَانَ أَشَدَّ مُخَالَفَةً لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ شَيْئًا تُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ لَأَبْيَنُ شَيْءٍ مُنَافَاةً لِلدِّينِ ; فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَطَابَقَ السُّنَّةَ أَعْظَمَ مُطَابَقَةً، وَلَمْ يُخَالِفْ أَصْحَابُهُ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْهَا، وَلَكَانُوا أَسْعَدَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَلْيُرُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ حَدِيثًا وَاحِدًا صَحِيحًا قَدْ خَالَفُوهُ، كَمَا أَرَيْنَاهُمْ آنِفًا مَا خَالَفُوهُ مِنَ السُّنَّةِ بِجَرِيرَةِ الْقِيَاسِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَيْنَا بَعْدَهُمْ أَلَّا نَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَعَارِضَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِحَيْثُ لَا يَدْرِي النَّاظِرُ فِيهَا أَيُّهَا الصَّوَابُ حَقًّا لَكَانَتْ مُتَّفِقَةً يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالسُّنَّةِ الَّتِي يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [10 \ 82] لَا بِآرَائِنَا، وَلَا مَقَايِيسِنَا، وَقَالَ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [33 \ 4] فَمَا لَمْ يَقُلْهُ سُبْحَانَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وَلَا هَدَى إِلَيْهِ فَلَيْسَ مِنَ الْحَقِّ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [28 \ 50] فَقَسَّمَ الْأُمُورَ إِلَى قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: اتِّبَاعٌ لِمَا دَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعُ الْهَوَى. قَالُوا: وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدْعُ أُمَّتَهُ إِلَى الْقِيَاسِ قَطُّ، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ وَأُسَامَةَ مَحْضَ الْقِيَاسِ فِي شَأْنِ الْحُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَرْسَلَ بِهِمَا إِلَيْهِمَا فَلَبِسَهَا أُسَامَةُ قِيَاسًا لِلُّبْسِ عَلَى التَّمَلُّكِ وَالِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ وَكُسْوَتِهَا لِغَيْرِهِ، وَرَدَّهَا عُمَرُ قِيَاسًا لِتَمَلُّكِهَا عَلَى لُبْسِهَا، فَأُسَامَةُ أَبَاحَ، وَعُمَرُ حَرَّمَ قِيَاسًا. فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَقَالَ لِعُمَرَ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا "، وَقَالَ لِأُسَامَةَ: " إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ بِهَا لِتَلْبِسَهَا، وَلَكِنْ بَعَثْتُهَا إِلَيْكَ لِتَشُقَّهَا خُمُرًا لِنِسَائِكَ "، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَرِيرِ بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ فَقَطْ، فَقَاسَا قِيَاسًا أَخْطَآ فِيهِ، فَأَحَدُهُمَا قَاسَ اللُّبْسَ عَلَى الْمِلْكِ، وَعُمَرُ قَاسَ التَّمَلُّكَ عَلَى اللُّبْسِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ مَا حَرَّمَهُ مِنَ اللُّبْسِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَبَاحَهُ مِنَ التَّمَلُّكِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اللُّبْسِ. قَالُوا: وَهَذَا عَيْنُ إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَقَالُوا: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا "، قَالُوا: وَهَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا. قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ: " الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ ". قَالُوا: وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ، وَلَا إِيجَابِهِ بِإِلْحَاقِهِ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ. قَالُوا: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ثِنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ. فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ ". قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ. . فَذَكَرَهُ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ، إِلَّا جَرِيرَ بْنَ عُثْمَانَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الِانْحِرَافِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 عَنْ عَلِيٍّ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ إِمَامٌ جَلِيلٌ، وَكَانَ سَيْفًا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. قَالُوا: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِحَّةً تَقْرُبُ مِنَ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ قَالَ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ مُرَادِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ. وَقَدْ ذَكَرُوا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ آثَارًا كَثِيرَةً فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَذَكَرُوا كَثِيرًا مِنْ أَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَعَارَضُوهَا بِأَقْيِسَةٍ تُمَاثِلُهَا فِي زَعْمِهِمْ. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً يَزْعُمُونَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ وَجَمَعُوا فِيهَا بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّتِهِمُ الْكَثِيرَةِ عَلَى إِبْطَالِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكَلَامِ جُمَلًا وَافِيَةً مِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَلَمْ نَتَتَبَّعْ جَمِيعَ أَدِلَّتِهِمْ لِئَلَّا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ. وَقَدْ رَأَيْتَ فِيمَا ذَكَرْنَا حُجَجَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَحُجَجَ الْمَانِعِينَ لِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَقَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ مَا رَأَيْتَ أَنَّ الْقِيَاسَ قِسْمَانِ: قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَقِيَاسٌ فَاسِدٌ. أَمَّا الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ فَهُوَ الَّذِي تَرُدُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الظَّاهِرِيَّةُ وَتَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ كَمَا قَالُوا وَكَمَا هُوَ الْحَقُّ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يُنَاقِضُ أَلْبَتَّةَ نَصًّا صَحِيحًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. فَكَمَا لَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ الْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَا دَلَالَةُ النَّصِّ الصَّرِيحِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، بَلْ كُلُّهَا مُتَصَادِقَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ، يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَلَا يُنَاقِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ الصَّحِيحَ أَبَدًا. وَضَابِطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ هُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا الْحُكْمَ وَشَرَعَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 مِنْ أَجْلِهَا مَوْجُودَةً بِتَمَامِهَا فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الْمَعْرُوفُ بِـ " الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ " الَّذِي هُوَ الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ. فَمِثْلُ ذَلِكَ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ، وَلَا يُعَارِضُ نَصًّا، وَلَا يَتَعَارَضُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَسَنَضْرِبُ لَكَ أَمْثِلَةً مِنْ ذَلِكَ تَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى جَهْلِ الظَّاهِرِيَّةِ الْقَادِحِ الْفَاضِحِ، وَقَوْلِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى دِينِهِ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي بُطْلَانِهِ وَعِظَمِ ضَرَرِهِ عَلَى الدِّينِ بِدَعْوَى أَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ النُّصُوصِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِلَفْظِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَوْ صَرَّحَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، فَأَهْدَرُوا الْمَصَالِحَ الْمَقْصُودَةَ مِنَ التَّشْرِيعِ. وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَشْرَعُ الْمَضَارَّ الظَّاهِرَةَ لِخَلْقِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ نَهَى عَنِ الْحُكْمِ فِي وَقْتِ الْغَضَبِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّهُ خَصَّ وَقْتَ الْغَضَبِ بِالنَّهْيِ دُونَ وَقْتِ الرِّضَا؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُشَوِّشُ الْفِكْرَ فَيَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْحُكْمِ. فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَيَاعِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ أَنَّ النَّهْيَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الْغَضَبِ، وَلَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنْ حَالَاتِ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ الْمَانِعَةِ مِنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْحُكْمِ. فَلَوْ كَانَ الْقَاضِي فِي حُزْنٍ مُفْرِطٍ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ تَأْثِيرًا أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَضَبِ بِأَضْعَافٍ، أَوْ كَانَ فِي جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ مُفْرِطٍ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَضَبِ، فَعَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ فَحُكْمُهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْحُكْمِ عَفْوٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَكَتَ عَنْهُ فِي زَعْمِهِمْ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ عَفَا لِلْقَاضِي عَنِ التَّسَبُّبِ فِي إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي نَصَّبَهُ الْإِمَامُ مِنْ أَجْلِ صِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا مِنَ الضَّيَاعِ، مَعَ أَنَّ تَنْصِيصَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْحُكْمِ فِي حَالَةِ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ تَشْوِيشًا كَتَشْوِيشِ الْغَضَبِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، فَانْظُرْ عُقُولَ الظَّاهِرِيَّةِ وَقَوْلَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْقُضَاةِ الْحُكْمَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَحْوَالِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ، مَعَ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّرِيحِ عَنْ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ وَهِيَ الْغَضَبُ - بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ النُّصُوصِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 [24 \ 4 - 5] فَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَصَّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يُجْلَدُونَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ وَيُحْكَمُ بِفِسْقِهِمْ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ تَابَ مِنَ الْقَاذِفِينَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحَ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَذَا النَّصِّ لِحُكْمِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنِينَ الذُّكُورَ. فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا ذَكَرًا لَيْسَ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ جَلْدُهُ وَلَا رَدُّ شَهَادَتِهِ وَلَا الْحُكْمُ بِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ فِي زَعْمِهِمْ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ! فَانْظُرْ عُقُولَ الظَّاهِرِيَّةِ وَمَا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، بِدَعْوَى الْوُقُوفِ مَعَ النَّصِّ! وَدَعْوَى بَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ آيَةَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ شَامِلَةٌ لِلذُّكُورِ بِلَفْظِهَا، بِدَعْوَى أَنَّ الْمَعْنَى: يَرْمُونَ الْفُرُوجَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ فُرُوجِ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ - مِنْ تُلَاعُبِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِنُصُوصِ الشَّرْعِ؟ وَهَلْ تُمْكِنُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [24 \ 23] فَهَلْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ الْفُرُوجَ هِيَ الْغَافِلَاتُ الْمُؤْمِنَاتُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [4 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [4 \ 25] كَمَا هُوَ وَاضِحٌ؟ وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ عِلَّةَ نَهْيِهِ عَنْهُ أَنَّ الْبَوْلَ يَسْتَقِرُّ فِيهِ لِرُكُودِهِ فَيُقَذِّرَهُ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ مَلَأَ آنِيَةً كَثِيرَةً مِنَ الْبَوْلِ ثُمَّ صَبَّهَا فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ أَوْ تَغَوَّطَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَفْوٌ؛ لِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ. فَيَكُونُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ يَنْهَى عَنْ جَعْلِ قَلِيلٍ مِنَ الْبَوْلِ فِيهِ إِذَا بَاشَرَ الْبَوْلَ فِيهِ، وَيَأْذَنُ فِي جَعْلِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ الْبَوْلِ فِيهِ بِصَبِّهِ فِيهِ مِنَ الْآنِيَةِ، وَكَذَلِكَ يَأْذَنُ فِي التَّغَوُّطِ فِيهِ! . وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنْ أَدْنَى عَاقِلٍ لَكَانَ تَنَاقُضًا مَعِيبًا عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْسِبُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى بِدَعْوَى الْوُقُوفِ مَعَ النُّصُوصِ! وَرُبَّمَا ظَنَّ الْإِنْسَانُ الْأَجْرَ وَالْقُرْبَةَ فِيمَا هُوَ إِلَى الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ أَقْرَبُ. كَمَا قِيلَ: أَمُنْفِقَةُ الْأَيْتَامِ مِنْ كَدِّ فَرْجِهَا ... لَكِ الْوَيْلُ لَا تَزْنِي وَلَا تَتَصَدَّقِي وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ مَعَ سُكُوتِهِ عَنْ حُكْمِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُنَاطَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِخُصُوصِ لَفْظِ الْعَوَرِ خَاصَّةً، فَتَكُونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 الْعَمْيَاءُ مِمَّا سَكَتَ اللَّهُ عَنْ حُكْمِ التَّضْحِيَةِ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَفْوًا. وَإِدْخَالُ الْعَمْيَاءِ فِي اسْمِ الْعَوْرَاءِ لُغَةً غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَوَرِ غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنَ الْعَمَى؛ لِأَنَّ الْعَوَرَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا فِي صُورَةٍ فِيهَا عَيْنٌ تُبْصِرُ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَلَا يُطْلَقُ فِي ذَلِكَ. وَتَفْسِيرُ الْعَوَرِ بِأَنَّهُ عَمَى إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَا يُنَافِي الْمُغَايِرَةَ؛ لِأَنَّ الْعَمَى الْمُقَيَّدَ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ غَيْرُ الْعَمَى الشَّامِلِ لِلْعَيْنَيْنِ مَعًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْعَوَرِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْعَمَى، فَوُقُوفُ الظَّاهِرِيَّةِ مَعَ لَفْظِ النَّصِّ يَلْزَمُهُ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ؛ لِأَنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْهُمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَصَدْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى بُطْلَانِ أَسَاسِ دَعْوَاهُمْ، وَهُوَ الْوُقُوفُ مَعَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَعَانِي التَّشْرِيعِ وَالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَحْكَامِ، وَإِلْحَاقُ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ الَّذِي لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشْرَعُ الْأَحْكَامَ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، فَأَفْعَالُهُ وَتَشْرِيعَاتُهُ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ. فَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ - تَقْلِيدًا لِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ - مِنْ أَنَّ أَفْعَالَهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا تُعَلَّلُ بِالْعِلَلِ الْغَائِيَّةِ، زَاعِمِينَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَغْرَاضِ يَسْتَلْزِمُ الْكَمَالَ بِحُصُولِ الْغَرَضِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - مُنَزَّهٌ مِنْ ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ النَّقْصَ - كُلُّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - غَنِيٌّ لِذَاتِهِ الْغِنَى الْمُطْلَقَ، وَجَمِيعُ الْخَلْقِ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] وَلَكِنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَشْرَعُ وَيَفْعَلُ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ الْمُحْتَاجِينَ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ، لَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَادِّعَاءُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ مُطْلَقُ أَمَارَاتٍ وَعَلَامَاتٍ لِلْأَحْكَامِ نَاشِئٌ عَنْ ذَلِكَ الظَّنِّ الْبَاطِلِ. فَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَشْرَعُ الْأَحْكَامَ لِأَجْلِ الْعِلَلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي يَعُودُ نَفْعُهَا إِلَى خَلْقِهِ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ لَا إِلَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى وَصَرَّحَ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَشْرَعُ الْأَحْكَامَ مِنْ أَجْلِ الْحِكَمِ الْمَنُوطَةِ بِذَلِكَ التَّشْرِيعِ. وَأَصْرَحُ لِفْظٍ فِي ذَلِكَ لَفْظَةُ (مِنْ أَجْلِ) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [5] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ ". وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِحُرُوفِ التَّعْلِيلِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِلَلِ الْغَائِيَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِحُكْمِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ مُطْلَقًا وَقَوْلَ مَنْ غَلَا فِيهِ، وَذَكَرَ أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ مَا نَصُّهُ: وَقَالَ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ، فَكِلَاهُمَا فِي الْإِنْزَالِ أَخَوَانِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ شَقِيقَانِ، وَكَمَا لَا يَتَنَاقَضُ الْكِتَابُ فِي نَفْسِهِ، فَالْمِيزَانُ الصَّحِيحُ لَا يَتَنَاقَضُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَتَنَاقَضُ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ، فَلَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا دَلَالَةُ الْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا دَلَالَةُ النَّصِّ الصَّرِيحِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، بَلْ كُلُّهَا مُتَصَادِقَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ، يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، فَلَا يُنَاقِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ الصَّحِيحَ أَبَدًا. وَنُصُوصُ الشَّارِعِ نَوْعَانِ: أَخْبَارٌ، وَأَوَامِرُ، فَكَمَا أَنَّ أَخْبَارَهُ لَا تُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ، بَلْ هِيَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوَافِقُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ جُمْلَةً، أَوْ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَنَوْعٌ يَعْجِزُ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِإِدْرَاكِ تَفْصِيلِهِ وَإِنْ أَدْرَكَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَهَكَذَا أَوَامِرُهُ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَشْهَدُ بِهِ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ، وَنَوْعٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِالشَّهَادَةِ بِهِ وَلَكِنْ لَا يُخَالِفُهُ، وَكَمَا أَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِي الْأَخْبَارِ مُحَالٌ وَهُوَ وُرُودُهَا بِمَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ، فَكَذَلِكَ الْأَوَامِرُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْمِيزَانَ الصَّحِيحَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِنَّمَا تَنْفَصِلُ بِتَمْهِيدِ قَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الذِّكْرَ الْأَمْرِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَإِذْنًا وَعَفْوًا. كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ الْقَدَرِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهَا عِلْمًا وَكِتَابَةً وَقَدَرًا، فَعِلْمُهُ وَكِتَابَتُهُ وَقَدَرُهُ قَدْ أَحْصَى جَمِيعَ أَفْعَالِ عِبَادِهِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَغَيْرِهَا، وَأَمْرُهُ نَهْيُهُ وَإِبَاحَتُهُ وَعَفْوُهُ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِمُ التَّكْلِيفِيَّةِ. فَلَا يَخْرُجُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ: إِمَّا الْكَوْنِيَّ، وَإِمَّا الشَّرْعِيَّ الْأَمْرِيَّ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَلَامِهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَجَمِيعَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَجَمِيعَ مَا أَحَلَّهُ، وَجَمِيعَ مَا حَرَّمَهُ، وَجَمِيعَ مَا عَفَا عَنْهُ. وَبِهَذَا يَكُونُ دِينُهُ كَامِلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [5 \ 3] وَلَكِنْ قَدْ يَقْصُرُ فَهُمْ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنْ فَهْمِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَعَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَمَوْقِعِهَا، وَتَفَاوُتُ الْأُمَّةِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا -. وَلَوْ كَانَتِ الْأَفْهَامُ مُتَسَاوِيَةً لَتَسَاوَتْ أَقْسَامُ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَلَمَا خَصَّ سُبْحَانَهُ سُلَيْمَانَ بِفَهْمِ الْحُكُومَةِ فِي الْحَرْثِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى دَاوُدَ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 مُوسَى فِي كِتَابِهِ إِلَيْهِ: الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهُ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ "، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالتَّأْوِيلِ أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالتَّأْوِيلُ إِدْرَاكُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُؤَوَّلُ إِلَيْهَا الْمَعْنَى الَّتِي هِيَ آخَيَتُهُ وَأَصْلُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ فَقِهَ فِي الدِّينِ عَرَفَ التَّأْوِيلَ؛ فَمَعْرِفَةُ التَّأْوِيلِ يَخْتَصُّ بِهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَأْوِيلَ التَّحْرِيفِ وَتَبْدِيلِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ بُطْلَانَهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ: يَعْنِي نُفَاةَ الْقِيَاسِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْغَالِينَ فِيهِ، وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ فَقَطْ لَا مَصَالِحَ أُنِيطَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ وَشُرِعَتْ مِنْ أَجْلِهَا - سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا مَنْ طُرُقِ الْحَقِّ، فَاضْطَرُّوا إِلَى تَوْسِعَةِ طَرِيقٍ أُخْرَى أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَمِلُهُ. فَنُفَاةُ الْقِيَاسِ لَمَّا سَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ بَابَ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْلِيلِ، وَاعْتِبَارِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَهُوَ مِنَ الْمِيزَانِ وَالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ - احْتَاجُوا إِلَى تَوْسِعَةِ الظَّاهِرِ وَالِاسْتِصْحَابِ، فَحَمَلُوهُمَا فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَوَسَّعُوهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَسَعَانِهِ. فَحَيْثُ فَهِمُوا مِنَ النَّصِّ حُكْمًا أَثْبَتُوهُ وَلَمْ يُبَالُوا مِمَّا وَرَاءَهُ، وَحَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوهُ مِنْهُ نَفَوْهُ وَحَمَلُوا الِاسْتِصْحَابَ، وَأَحْسَنُوا فِي اعْتِنَائِهِمْ بِالنُّصُوصِ وَنَصْرِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ تَقْدِيمِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا مِنْ رَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَأَحْسَنُوا فِي رَدِّ الْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ، وَبَيَانِهِمْ تُنَاقُضَ أَهْلِهَا فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ وَتَرْكِهِمْ لَهُ، وَأَخَذُوا بِقِيَاسِ تَرْكِهِمْ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَلَكِنْ أَخْطَئُوا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا رَدُّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ الَّتِي يَجْرِي النَّصُّ عَلَيْهَا مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَعَنَ عَبْدُ اللَّهِ خَمَّارًا عَلَى كَثْرَةِ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ: " لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا تَلْعَنُوا كُلَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ. وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [6 \ 145] : نَهْيٌ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ. وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْهِرَّةِ: " لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ "، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كُلُّ مَا هُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ طَعَامٍ كَذَلِكَ، وَإِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 قَالَ: لَا تَشْرَبْ هَذَا الشَّرَابَ فَإِنَّهُ مُسْكِرٌ فَهُوَ نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ. وَلَا تَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا فَاجِرَةٌ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ الْخَطَأِ. الثَّانِي: تَقْصِيرُهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، فَكَمْ مِنْ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ. وَسَبَبُ هَذَا الْخَطَأِ حَصْرُهُمُ الدَّلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ إِيمَائِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَإِشَارَتِهِ وَعُرْفِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [17 \ 23] ضَرْبًا، وَلَا سَبًّا، وَلَا إِهَانَةً غَيْرَ لَفْظَةِ: " أُفٍّ " فَقَصَّرُوا فِي فَهْمِ الْكِتَابِ كَمَا قَصَّرُوا فِي اعْتِبَارِ الْمِيزَانِ الْخَطَأِ. الثَّالِثُ: تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَجَزْمُهُمْ بِمُوجِبِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالنَّاقِلِ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ عِلْمًا بِالْعَدَمِ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الِاسْتِصْحَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ أَقْسَامَهُ. ثُمَّ شَرَعَ يُبَيِّنُ أَقْسَامَ الِاسْتِصْحَابِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي سُورَةِ «بَرَاءَةَ» وَجَعَلَهَا هُوَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وَأَطَالَ فِيهَا الْكَلَامَ. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى يَرِدَ النَّافِلُ عَنْهُ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَالْإِبَاحَةُ الْعَقْلِيَّةُ. كَقَوْلِنَا: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ فَلَا تُغْمَزُ بِدَيْنٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَافِلٍ عَنِ الْأَصْلِ يُثْبِتُ ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ وُجُوبِ صَوْمِ شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِ رَمَضَانَ، فَيَلْزَمُ اسْتِصْحَابُ هَذَا الْعَدَمِ حَتَّى يَرِدَ نَافِلٌ عَنْهُ، وَهَكَذَا. النَّوْعُ الثَّانِي: اسْتِصْحَابُ الْوَصْفِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، كَاسْتِصْحَابِ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَبَقَاءِ الْمِلْكِ وَبَقَاءِ شُغْلِ الذِّمَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ. الثَّالِثُ: اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَكِلَا الْأَوَّلَيْنِ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ فِي الْجُمْلَةِ. الرَّابِعُ: الِاسْتِصْحَابُ الْمَقْلُوبُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَأَمْثِلَتَهُ فِي سُورَةِ «التَّوْبَةِ» . الْخَطَأُ الرَّابِعُ لَهُمْ: هُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلُّهَا عَلَى الْبَاطِلِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ اسْتَصْحَبُوا بُطْلَانَهُ، فَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَعُقُودِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الصِّحَّةُ إِلَّا مَا أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ أَوْ نَهَى عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهَا حُكْمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا تَأْثِيمَ إِلَّا مَا أَثَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَاعِلَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَّعَهُ اللَّهُ، فَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبُطْلَانُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الصِّحَّةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْبُطْلَانِ وَالتَّحْرِيمِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا شَرَّعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَحَقُّهُ الَّذِي أَحَقَّهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَّعَهُ. وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَهِيَ عَفْوٌ حَتَّى يَحَرِّمَهَا، وَلِذَا نَعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ؛ فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَكُلُّ شَرْطٍ وَعَقْدٍ وَمُعَامَلَةٍ سَكَتَ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا؛ فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْهَا رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ وَإِهْمَالٍ. فَكَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَتِ النُّصُوصُ بِأَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا مَا حَرَّمَهُ؟ ! وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ كُلِّهَا، فَقَالَ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [17 \ 34] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [5 \ 1] وَقَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [23 \ 8] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [2 \ 177] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ - 2 - 3] وَقَالَ: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [3 \ 76] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [8 \ 58] وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ، مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فَلَانِ بْنِ فُلَانٍ» وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أُلْقِيَ فِي قَلْبِيَ الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ» قَالَ: فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٍ، وَقَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلْ مَعَهُ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ. وَالْمَقْصُودُ عِنْدَهُ دَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ، وَمَنْعِ الْإِخْلَافِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي سَاقَهَا كَمَا تَرَى. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ يُجِيبُونَ عَنِ الْحُجَجِ الْمَذْكُورَةِ تَارَةً بِنَسْخِهَا، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ الْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ، وَتَارَةً بِالْقَدْحِ فِي سَنَدِ مَا يُمْكِنُهُمُ الْقَدْحُ فِيهِ، وَتَارَةً بِمُعَارَضَتِهَا بِنُصُوصٍ أُخَرَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 229] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ: وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَبِأَنَّ الْقَدْحَ فِي بَعْضِهَا لَا يَقْدَحُ فِي سَائِرِهَا، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُمْدَةً لِاعْتِضَادِهِ بِالصَّحِيحِ، وَبِأَنَّهَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَارَضُوهَا بِهِ مِنَ النُّصُوصِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ» أَيْ: فِي حُكْمِهِ وَشَرْعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [4 \ 24] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فِي كَسْرِ السِّنِّ» . قَالَ: فَكِتَابُهُ سُبْحَانَهُ يُطْلَقُ عَلَى كَلَامِهِ وَعَلَى حُكْمِهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ، فَيَكُونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 بَاطِلًا. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، فَشُرِطَ خِلَافُ ذَلِكَ يَكُونُ شَرْطًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ. وَلَكِنْ أَيْنَ فِي هَذَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ مِنَ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ يَكُونُ بَاطِلًا حَرَامًا، وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ هُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ، أَوْ إِبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ، أَوْ إِسْقَاطُ مَا أَوْجَبَهُ، لَا إِبَاحَةُ مَا سَكَتَ عَنْهُ، وَعَفَا عَنْهُ، بَلْ تَحْرِيمُهُ هُوَ نَفْسُ تَعَدِّي حُدُودِهِ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا. وَبَيَّنَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِمَّا فَهِمَ فِيهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنَ النُّصُوصِ خِلَافَ الْمُرَادِ. قَالَ: وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُمَرَ فَهْمَهُ إِتْيَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ» فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ الْعَامِ الَّذِي يَأْتُونَهُ فِيهِ. وَأَنْكَرَ عَلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَهْمَهُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ نَفْسَ الْعِقَالَيْنِ. وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ كِبْرٍ» شُمُولَ لَفْظِهِ لِحَسَنِ الثَّوْبِ وَحَسَنِ النَّعْلِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ «بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» . وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» أَنَّهُ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا لِلْكَافِرِ إِذَا احْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِالْعَذَابِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَكْرَهُ لِقَاءَهُ. وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا احْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِكَرَامَةِ اللَّهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ. وَأَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ إِذْ فَهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [84 \ 8] مُعَارَضَتَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» . وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ، أَيْ: حِسَابُ الْعَرْضِ لَا حِسَابَ الْمُنَاقَشَةِ. وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [4 \ 123] أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ. وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْهَمِّ، وَالْحُزْنِ، وَالْمَرَضِ، وَالنَّصَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَائِبِهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَقْيِيدُ الْجَزَاءِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [6 \ 82] أَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ بِالْمَعَاصِي، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَذَكَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] وَأَوْضَحَ وَجْهَ ذَلِكَ بِسِيَاقِ الْقُرْآنِ. قَالَ: ثُمَّ سَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ فِيهَا مِرَارًا، فَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» وَاعْتَرَفَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ فَهْمُهَا، وَفَهِمَهَا الصِّدِّيقُ. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَفَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ نَهْيِهِ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ. وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ الْقَوْمِ وَظَهْرَهُمْ. وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا كَانَتْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ. وَفَهِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكِبَارُ الصَّحَابَةِ مَا قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ وَصَرَّحَ بِعِلَّتِهِ لِكَوْنِهَا رِجْسًا. وَفَهِمَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [4 \ 20] جَوَازَ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَاقِ، فَذَكَرَتْهُ لِعُمَرَ فَاعْتَرَفَ بِهِ. وَفَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [46 \ 15] مَعَ قَوْلِهِ: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [2 \ 233] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفْهَمْهُ عُثْمَانُ، فَهَمَّ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ لَهَا، حَتَّى ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَقَرَّ بِهِ. وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهِمْ» قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ فَأَقَرَّ بِهِ. وَفَهِمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [5 \ 93] رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنِ الْخَمْرِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَمْرَ، وَلَوْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لِفَهِمَ الْمُرَادَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رُفِعَ الْجُنَاحُ عَنْهُمْ فِيمَا طَعِمُوهُ مُتَّقِينَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ. فَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَ بِوَجْهٍ. وَقَدْ فَهِمَ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [2 \ 195] انْغِمَاسَ الرَّجُلِ فِي الْعَدْوِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَيْعِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا. وَقَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [5 \ 105] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكِرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعِقَابِ مِنْ عِنْدِهِ» فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فِي فَهْمِهِمْ مِنْهَا خِلَافَ مَا أُرِيدَ بِهَا. وَأُشْكِلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرُ الْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ الَّتِي لَمَّ تَرْتَكِبْ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنَ الْيَهُودِ، هَلْ عُذِّبُوا أَوْ نَجَوْا حَتَّى بَيَّنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ دُخُولَهُمْ فِي النَّاجِينَ دُونَ الْمُعَذَّبِينَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ عَنِ السَّاكِتِينَ: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [7 \ 164] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعْلَهُمْ وَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوهُمْ بِالنَّهْيِ، فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِهِ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمَّا قَامَ بِهِ أُولَئِكَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ فَلَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ بِسُكُوتِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا عَذَّبَ الَّذِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ السَّاكِتِينَ قَطْعًا، فَلَمَّا بَيَّنَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الظَّالِمِينَ الْمُعَذَّبِينَ كَسَاهُ بُرْدَهُ وَفَرِحَ بِهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلصَّحَابَةِ: مَا تَقُولُونَ فِي إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [110 \ 1] السُّورَةَ؟ قَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ. فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا تَعْلَمُ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْمَقْصُودُ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهْمِ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ فِي الْآيَةِ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهَا عَشَرَةَ أَحْكَامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ سِيَاقِهِ وَدُونَ إِيمَائِهِ وَإِشَارَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَاعْتِبَارِهِ. وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ ضَمُّهُ إِلَى نَصٍّ آخَرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، فَيَفْهَمُ مِنِ اقْتِرَانِهِ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ. وَهَذَا بَابٌ عَجِيبٌ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ، لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِارْتِبَاطِ هَذَا بِهَذَا وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، كَمَا فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [46 \ 15] مَعَ قَوْلِهِ: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [2 \ 233] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. . إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَإِنَّمَا أَكْثَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ مِنْ نَقْلِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَمَا رَأَيْتَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِيهَا بِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 لَمْ يَأْتِ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَلَا مَنْ تَأَخَّرَ. وَقَدْ تَرَكْنَا كَثِيرًا مِنْ نَفَائِسِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ الْكَثِيرَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اعْلَمْ أَنَّ اسْتِهْزَاءَ الظَّاهِرِيَّةِ وَسُخْرِيَّتَهُمْ بِالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ قِيَاسَاتِهِمْ مُتَنَاقِضَةٌ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كُلَّهَا بَاطِلَةٌ وَلَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ - إِذَا تَأَمَّلَ فِيهِ الْمُنْصِفُ الْعَارِفُ وَجَدَ الْأَئِمَّةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَقْرَبَ فِي أَغْلَبِ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ وَالْعَمَلِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصِ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ السَّاخِرِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَسَنَضْرِبُ لَكَ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ لِتَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَالَ فِيهَا الظَّاهِرِيَّةُ بِتَنَاقُضِ أَقْيِسَةِ الْأَئِمَّةِ وَتَكْذِيبِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ أَقْيِسَتِهِمْ - هِيَ مَسْأَلَةُ الرِّبَا الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» . قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا فِي السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَتَحْرِيمُهُ فِي شَيْءٍ غَيْرِهَا قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَتَشْرِيعٌ زَائِدٌ عَلَى مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: وَالَّذِينَ زَادُوا عَلَى النَّصِّ أَشْيَاءَ يُحَرَّمُ فِيهَا الرِّبَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ، وَتَنَاقَضَتْ أَقْيِسَتُهُمْ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: التَّمْرُ وَالْبَلُّوطُ ثَمَرُ شَجَرٍ يُؤْكَلُ وَيُدْبَغُ بِقِشْرِهِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هِيَ الْكَيْلُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هِيَ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ. . . إلخ. فَهَذِهِ أَقْيِسَةٌ مُتَضَارِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ فَلَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَخِرُوا بِسَبَبِهَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَادَّعَوْا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا الرِّبَا فِي أَشْيَاءَ لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِيهَا كَالتُّفَّاحِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الطَّعْمُ كَالشَّافِعِيِّ، وَكَالْأُشْنَانِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الْكَيْلُ - عَلِمْتَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَمَلِ بِالنَّصِّ فِي ذَلِكَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُدَّعِينَ الْوُقُوفَ مَعَ ظَاهِرِ النَّصِّ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ الَّذِي قَالَ: الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا الطَّعْمُ فَقَدِ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَكَانَ طَعَامُنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الطَّعَامَ إِذَا بِيعَ بِالطَّعَامِ بِيعَ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَالطَّعَامُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُؤْكَلُ، قَالَ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [3 \ 93] وَقَالَ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [80 \ 24 - 28] وَقَالَ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [5 \ 5] وَلَا خِلَافَ فِي ذَبَائِحِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي زَمْزَمَ: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» وَقَالَ لَبِيدٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ: لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ ... غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا يَعْنِي بِطَعَامِهَا: فَرِيسَتَهَا، كَمَا قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . فَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ سَخِرَ الظَّاهِرِيَّةُ مِنْهُ فِي تَحْرِيمِهِ الرِّبَا فِي التُّفَّاحِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . فَمَا الْمَانِعُ لِلظَّاهِرِيَّةِ مِنَ الْقَوْلِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى عَادَتِهِمُ الَّتِي يَزْعُمُونَ فَيَحْكُمُونَ عَلَى الطَّعَامِ بِأَنَّهُ مِثْلٌ بِمِثْلٍ؟ وَمَا مُسْتَنَدُهُمْ فِي مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَحُكْمُهُمْ بِالرِّبَا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ؟ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَامٌّ لِلْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا تَرَى، فَهَلِ الشَّافِعِيُّ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي التُّفَّاحِ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ أَوِ الظَّاهِرِيَّةُ؟ وَكَذَلِكَ سُخْرِيَتُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي قَوْلِهِمَا بِدُخُولِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، مُسْتَهْزِئِينَ بِمَنْ يَقُولُ بِالرِّبَا فِي الْأُشْنَانِ قِيَاسًا عَلَى التَّمْرِ - إِذَا تَأَمَّلْتَ فِيهِ وَجَدْتَ الْإِمَامَيْنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَقْرَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ. قَالَ الْحَاكِمُ فِي (الْمُسْتَدْرَكِ) : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَقِيهُ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكَرَّمٍ، ثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا مِجْلَزٍ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا، يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ، فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ إِلَى مَتَى تُؤَكِّلُ النَّاسَ الرِّبَا؟ أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إِنِّي لَأَشْتَهِي تَمْرَ عَجْوَةٍ» فَبَعَثَتْ صَاعَيْنِ مَنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ بَدَلَ صَاعَيْنِ صَاعٌ مِنْ تَمْرِ عَجْوَةٍ، فَقَامَتْ فَقَدَّمَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ، فَتَنَاوَلَ تَمْرَةً، ثُمَّ أَمْسَكَ فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: بَعَثْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا بَدَلَ صَاعَيْنِ هَذَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ، وَهَا هُوَ، كُلْ، فَأَلْقَى التَّمْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «رَدُّوهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبَا» ثُمَّ قَالَ «كَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ أَيْضًا» إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ يُبَاعُ مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَاتُهَا. فَأَبُو حَنِيفَةَ مَثَلًا الْقَائِلُ بِالرِّبَا فِي الْأُشْنَانِ مُتَمَسِّكٌ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ، الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ بَعِيدٌ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدَثُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِضَعْفِهِ، وَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ مُتَعَقِّبًا عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: حَيَّانُ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَيْسَ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: زَعْمُهُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ. وَاعْتِقَادُ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ مَجْهُولٌ. فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ مَا سَتَرَاهُ الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: مُنَاقَشَةُ مَنْ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَعِيفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا ضَعْفَهُ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا فَهُوَ مُعْتَضِدٌ بِمَا يَثْبُتُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ. أَمَّا الْمُنَاقَشَةُ فِي تَضْعِيفِهِ، فَقَوْلُ الذَّهَبِيِّ: إِنَّ حَيَّانَ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَيْسَ بِالْحُجَّةِ - مُعَارَضٌ بِقَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِهِ فِي كِتَابِ «الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ» : إِنَّهُ صَدُوقٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّعْدِيلَ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، وَالتَّجْرِيحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُبَيَّنًا مُفَصَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا. وَإِعْلَالُ ابْنِ حَزْمٍ لَهُ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَأَنَّ حَيَّانَ مَجْهُولٌ قَدْ قَدَّمْنَا مُنَاقَشَتَهُ فِيهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ؛ لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ أَدْرَكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَسَمِعَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي «الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ» فِي أَبِي مِجْلَزٍ الْمَذْكُورِ: وَهُوَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ، تُوُفِّيَ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ وَجُنْدُبٍ. . . إلخ، وَتَصْرِيحُهُ بِرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ فِي لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمَذْكُورِ: أَبُو مِجْلَزٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ، مَاتَ قَبْلَ الْحَسَنِ بِقَلِيلٍ، وَمَاتَ الْحَسَنُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. . . إلخ. وَفِيهِ تَصْرِيحُ الْبُخَارِيِّ بِسَمَاعِ أَبِي مِجْلَزٍ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعَ هَذَا فَابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ: هُوَ مُنْقَطِعٌ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ أَبُو مِجْلَزٍ الْمَذْكُورُ، وَالْمُعَاصَرَةُ تَكْفِي، وَلَا يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ اللُّقِيِّ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا أَوْضَحَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي أَبِي مِجْلَزٍ الْمَذْكُورِ: رَوَى عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَسٍ، وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَقَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَرْسَلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَحُذَيْفَةَ. . . إلخ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ مُعَاصَرَةَ أَبِي مِجْلَزٍ لِأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُمْ مَاتُوا قَبْلَ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَبُو سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ بَعْدَ السِّتِّينَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَسُمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ فَقَدْ قَدَّمْنَا مُنَاقَشَةَ السُّبْكِيِّ لَهُ فِي تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ، وَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ أَرَادَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ الصَّرْفِ هَذَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمِنْ جِهَتِهِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ، وَمِنْ جِهَتِهِ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ جِهَتِهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ' وَهُوَ حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَدِيٍّ بَصْرِيٌّ، سَمِعَ أَبَا مِجْلَزٍ لَاحِقَ بْنَ حُمَيْدٍ، وَالضَّحَّاكَ وَعَنْ أَبِيهِ، وَرَوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ بُرَيْدَةَ، رَوَى عَنْهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَقَدَ لَهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ تَرْجَمَةً فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْضَ مَا ذَكَرْتُهُ. وَلَهُ تَرْجَمَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ عَدِيٍّ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، فَزَالَ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ جَهَالَةَ الْحَالِ فَهُوَ قَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ: أَخْبَرْنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالصِّدْقِ مِنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، فَرَوْحٌ مُحَدِّثٌ نَشَأَ فِي الْحَدِيثِ، عَارِفٌ بِهِ، مُصَنِّفٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَصْرِيٌّ بَلَدِيٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فَنَاهِيكَ بِهِ، وَمَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ إِسْحَاقُ! وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا، وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَشَاهِيرِ مِمَّنْ رَوَوْا عَنْهُ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُمْ، قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْهُ، فَقَالَ: صَدُوقٌ. اهـ مِنْ تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . وَالَّذِي رَأَيْتُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ الْكُبْرَى أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ حَيَّانَ الْمَذْكُورِ فِي إِسْنَادِهِ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ» : وَحَيَّانُ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ: جَائِزُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَيَّانُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ: مَجْهُولٌ. وَلَعَلَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ بِحَيَّانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْوِيِّ، وَبِمَا ذُكِرَ تَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَى ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ، وَأَنَّ حَيَّانَ الْمَذْكُورَ مَجْهُولٌ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ. وَأَمَّا دَعْوَاهُ عَدَمَ رُجُوعِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنِ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةَ بِرُجُوعِهِ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّهُمْ مُثْبِتُونَ رُجُوعَهُ وَهُوَ نَافِيهِ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَأَمَّا شَوَاهِدُ حَدِيثِ حَيَّانَ الْمَذْكُورِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ؛ فَمِنْهَا مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إِذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كِيلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ. فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» قَوْلَ الشَّوْكَانِيِّ: إِنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَعُبَادَةَ هَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبَزَّارُ أَيْضًا. وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ. انْتَهَى مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ سَخِرَ الظَّاهِرِيَّةُ مِمَّنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَمِنْ شَوَاهِدِ حَدِيثِ حَيَّانَ الْمَذْكُورِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي (كِتَابِ الْوِكَالَةِ) : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» ؟ فَقَالَ: إِنَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جِنِيبًا» ، وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَنْعِ الرِّبَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ مَنْ أَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ وَصَرَفَهُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» . قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ» انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ» ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ مَا يُوزَنُ كَمَا يُكَالُ، وَأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الرِّبَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي عَمِلَ بِهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ وَإِنِ اسْتَهْزَأَ بِهِمُ الظَّاهِرِيَّةُ فِي ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ مِنْ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ: إِنَّهُ لَا رِبَا إِلَّا فِي السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ. وَالْمَقْصُودُ التَّمْثِيلُ لِأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَنَقُولُ مَثَلًا: إِنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُوجَبْ عَلَيْنَا فَهُوَ عَفْوٌ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ آيَةَ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [17 \ 23] سَاكِتَةٌ عَنْ تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ، بَلْ نَقُولُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَادِّعَاءُ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا تَرَى. وَلَا نَقُولُ: إِنَّ آيَةَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الْآيَةَ [99 \ 7] سَاكِتَةٌ عَنْ مُؤَاخَذَةِ مَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ جَبَلٍ، بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ. وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنْ أَنَّ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ قِسْمَانِ؛ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، كَمَا بَيَّنَّا وَكَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلْنَا - اعْتَمَدَهُ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي قَوْلِهِ فِي الْقِيَاسِ: وَمَا رُوِيَ مِنْ ذِمَّةٍ فَقَدْ عُنِيَ ... بِهِ الَّذِي عَلَى الْفَسَادِ قَدْ بُنِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْ خَالَفَ النَّصَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَيُسَمُّونَ الْقَدْحَ فِيهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا ... فَسَادُ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَاسْتِقْرَاءُ مَذْهَبِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ فِي دَفْعِ صَاعِ التَّمْرِ عِوَضَ اللَّبَنِ. وَمِنْ أَصْرِحِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَا نِزَاعَ بَعْدَهَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِهَا عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ مُخَالَفَةً لِلْقِيَاسِ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حِينَ عَظُمَ جَرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا: نَقَصَ عَقْلُهَا. وَمَالِكٌ خَالَفَ الْقِيَاسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهُ السُّنَّةُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَبَعْدَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَالِكًا يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ عَلَى النَّصِّ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ مُدَوَّنَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَكْتَفِي بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ هُنَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ الْحَرْثَ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ بُسْتَانُ عِنَبٍ، وَالنَّفْشُ: رَعْيُ الْغَنَمِ لَيْلًا خَاصَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: بَدَّلْنَ بَعْدَ النَّفْشِ الْوَجِيفَا ... وَبَعْدَ طُولِ الْجَرَّةِ الصَّرِيفَا وَقِيلَ: كَانَ الْحَرْثُ الْمَذْكُورُ زَرْعًا، وَذَكَرُوا أَنَّ دَاوُدَ حَكَمَ بِدَفْعِ الْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ عِوَضًا مِنْ حَرْثِهِمُ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ فَأَكَلَتْهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: اعْتَبَرَ قِيمَةَ الْحَرْثِ فَوَجَدَ الْغَنَمَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَدَفَعَهَا إِلَى أَصْحَابِ الْحَرْثِ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَرَاهِمُ أَوْ تَعَذَّرَ بَيْعُهَا، وَرَضُوا بِدَفْعِهَا وَرَضِيَ أُولَئِكَ بِأَخْذِهَا بَدَلًا مِنَ الْقِيمَةِ. وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِالضَّمَانِ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 أَصْحَابِ الْغَنَمِ، وَأَنْ يَضْمَنُوا ذَلِكَ بِالْمِثْلِ بِأَنْ يُعَمِّرُوا الْبُسْتَانَ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ حِينَ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُهُمْ. وَلَمْ يُضَيِّعْ عَلَيْهِمْ غَلَّتَهُ مِنْ حِينِ الْإِتْلَافِ إِلَى حِينِ الْعَوْدِ، بَلْ أَعْطَى أَصْحَابَ الْبُسْتَانِ مَاشِيَةَ أُولَئِكَ لِيَأْخُذُوا مِنْ نَمَائِهَا بِقَدْرِ نَمَاءِ الْبُسْتَانِ فَيَسْتَوْفُوا مِنْ نَمَاءِ غَنَمِهِمْ نَظِيرَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ نَمَاءِ حَرْثِهِمْ. وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّمَاءَيْنِ فَوَجَدَهُمَا سَوَاءً، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِدْرَاكِهِ. هَكَذَا يَقُولُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. فَلَوْ نَفَشَتْ غَنَمُ قَوْمٍ فِي حَرْثِ آخَرِينَ فَتَحَاكَمُوا إِلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَمَاذَا يَفْعَلُ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلًا يَضْمَنُهُ أَرْبَابُ الْمَاشِيَةِ بِقِيمَتِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقِيلَ: يَضْمَنُونَهُ بِمِثْلِهِ كَقَضِيَّةِ سُلَيْمَانَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَوَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ خِلَافُهُ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى اخْتِصَاصِ الضَّمَانِ بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّ النَّفْشَ لَا يُطْلَقُ لُغَةً إِلَّا عَلَى الرَّعْيِ بِاللَّيْلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِضَمَانِ أَصْحَابِ الْبَهَائِمِ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا بِحَدِيثِ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا» رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ بَيْنَ مَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّ مَعْمَرًا قَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخَذْنَا بِهِ لِثُبُوتِهِ وَاتِّصَالِهِ وَمَعْرِفَةِ رِجَالِهِ. اهـ مِنْهُ. وَالِاخْتِلَافُ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ، وَحَدَّثَ بِهِ الثِّقَاتُ، وَاسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ، وَجَرَى فِي الْمَدِينَةِ الْعَمَلُ بِهِ، وَحَسْبُكَ بِاسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ احْتَجَّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ بِاللَّيْلِ عَلَى أَرْبَابِهَا، وَفِي النَّهَارِ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا ضَمَانَ مُطْلَقًا فِي جِنَايَةِ الْبَهَائِمِ، وَيَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيْ: جَرْحُهَا هَدْرٌ. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَامٌّ، وَضَمَانَ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا مُخَصِّصٌ لَهُ. وَذَهَبَ دَاوُدُ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى أَنَّ مَا أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِمُ بِغَيْرِ عِلْمِ مَالِكِهَا وَلَوْ لَيْلًا ضَمَانٌ فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا رَعَاهَا صَاحِبُهَا بِاخْتِيَارِهِ فِي حَرْثِ غَيْرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالْمِثْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ قِيمَةِ مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلًا يَقُولُونَ: يَضْمَنُهُ أَصْحَابُهَا وَلَوْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا، خِلَافًا لِلَّيْثٍ الْقَائِلِ: لَا يَضْمَنُونَ مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفَاصِيلُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِحُكْمِهِمْ [21 \ 78] الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُرَادٌ بِهَا سُلَيْمَانُ، وَدَاوُدُ، وَأَصْحَابُ الْحَرْثِ، وَأَصْحَابُ الْغَنَمِ، وَأَضَافَ الْحُكْمَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ حَاكِمًا وَمَحْكُومًا لَهُ وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فَفَهَّمْنَاهَا أَيْ: الْقَضِيَّةَ أَوِ الْحُكُومَةَ الْمَفْهُومَةَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [21 \ 78] وَقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنَا [21 \ 79] أَيْ: أَعْطَيْنَا كُلًّا مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حُكْمًا وَعِلْمًا. وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا عِوَضٌ عَنْ كَلِمَةٍ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَخَّرَ الْجِبَالَ، أَيْ: ذَلَّلَهَا، وَسَخَّرَ الطَّيْرَ تُسَبِّحُ مَعَ دَاوُدَ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَسْخِيرِهِ الطَّيْرَ وَالْجِبَالَ تُسْبِّحُ مَعَ نَبِيِّهِ دَاوُدَ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ الْآيَةَ [34 \ 10] . وَقَوْلِهِ: أَوِّبِي مَعَهُ أَيْ: رَجِّعِي مَعَهُ التَّسْبِيحَ. وَالطَّيْرَ أَيْ: وَنَادَيْنَا الطَّيْرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ تَرْجِيعِ التَّسْبِيحِ مَعَهُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ أَوِّبِي مَعَهُ: أَيْ: سِيرِي مَعَهُ، وَأَنَّ التَّأْوِيبَ سَيْرُ النَّهَارِ - سَاقِطٌ كَمَا تَرَى. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [38 \ 17 - 18] . وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ الْمَذْكُورَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَجْعَلُ لَهَا إِدْرَاكَاتٍ تُسَبِّحُ بِهَا، يَعْلَمُهَا هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا. كَمَا قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [7 \ 44] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 74] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [33 \ 72] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْجِذْعَ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْخُطْبَةِ إِلَى الْمِنْبَرِ سُمِعَ لَهُ حَنِينٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجْرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَالتَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ [21 \ 79] أَيْ: جَعَلْنَاهَا بِحَيْثُ تُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهَا بِالتَّسْبِيحِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُنَّا فَاعِلِينَ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [21 \ 79] وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّأْكِيدِ أَنَّ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحَهَا أَمْرٌ عَجَبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُكَذِّبَ بِهِ الْكَفَرَةُ الْجَهَلَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَكُنَّا فَاعِلِينَ أَيْ: قَادِرِينَ عَلَى أَنَّ نَفْعَلَ هَذَا. وَقِيلَ: كُنَّا نَفْعَلُ بِالْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ بِمَعْنَى كُنَّا قَادِرِينَ بَعِيدٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا لَا دَلِيلَ عَلَى الْآخَرِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ أَيْ: فَاعِلِينَ هَذِهِ الْأَعَاجِيبَ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهِنَّ وَالطَّيْرِ لِمَنْ نَخُصُّهُ بِكَرَامَتِنَا. اهـ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي هُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى دَاوُدَ، وَالْمُرَادُ بِصِيغَةِ اللَّبُوسِ: صَنْعَةُ الدُّرُوعِ وَنَسْجُهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّبُوسِ فِي الْآيَةِ الدُّرُوعُ أَنَّهُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [21 \ 80] أَيْ: لِتَحْرِزَ وَتَقِيَ بَعْضَكُمْ مِنْ بَأْسِ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الدِّرْعَ تَقِيهِ ضَرَرَ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ، وَالرَّمْيِ بِالرُّمْحِ وَالسَّهْمِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أَوْضَحَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [34 \ 10 - 11] فَقَوْلُهُ: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ أَيْ: أَنِ اصْنَعْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ مِنَ الْحَدِيدِ الَّذِي أَلَنَّاهُ لَكَ. وَالسَّرْدُ: نَسْجُ الدِّرْعِ. وَيُقَالُ فِيهِ: الزَّرَدُ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الْآخَرِ: نُقْرِيهُمُ لَهْذِمِيَّاتٍ نَقُدُّ بِهَا ... مَا كَانَ خَاطَ عَلَيْهِمْ كُلُّ زَرَّادِ وَمُرَادُهُ بِالزَّرَّادِ: نَاسِجُ الدِّرْعِ. وَقَوْلِهِ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أَيْ: اجْعَلِ الْحَلَقَ وَالْمَسَامِيرَ فِي نَسْجِكَ الدِّرْعَ بِأَقْدَارٍ مُتَنَاسِبَةٍ، فَلَا تَجْعَلِ الْمِسْمَارَ دَقِيقًا لِئَلَّا يَنْكَسِرَ وَلَا يُشَدَّ بَعْضَ الْحَلَقِ بِبَعْضٍ، وَلَا تَجْعَلْهُ غَلِيظًا غِلَظًا زَائِدًا فَيَفْصِمَ الْحَلْقَةَ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللَّبُوسَ فِي الْآيَةِ الدُّرُوعُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ اللَّبُوسَ عَلَى الدُّرُوعِ كَمَا فِي الْآيَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَاوِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ ... سَوَابِغُ بَيْضٍ لَا يُخَرِّقُهَا النَّبْلُ فَقَوْلُهُ: «سَوَابِغُ» أَيْ: دُرُوعٌ سَوَابِغُ، وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ وَمُرَادُهُ بِاللَّبُوسِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالسَّرَابِيلِ: الدُّرُوعُ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اللَّبُوسَ أَيْضًا عَلَى جَمِيعِ السِّلَاحِ، دِرْعًا كَانَ أَوْ جَوْشَنًا أَوْ سَيْفًا أَوْ رُمْحًا. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الرُّمْحِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ يَصِفُ رُمْحًا: وَمَعِي لَبُوسٌ لِلْبَئِيسِ كَأَنَّهُ ... رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعَاجٍ مُجْفِلِ وَتُطْلِقُ اللَّبُوسَ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مَا يُلْبَسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَيْهَسٍ: الْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا ... إِمَّا نَعِيمَهَا وَإِمَّا بُوسَهَا وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ لِيَقِيَهُمْ بِهَا مِنْ بَأْسِ السِّلَاحِ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [16 \ 81] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [21 \ 80] الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 91] أَيِ: انْتَهُوا. وَلِذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انْتَهَيْنَا يَا رَبُّ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ الْآيَةَ [3 \ 20] أَيْ: أَسْلِمُوا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّ فِي الْمَعَانِي الَّتِي تُؤَدَّى بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ: الْأَمْرُ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ: شَاكِرُونَ شُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: هُوَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِنِعَمِهِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَشُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ: هُوَ أَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ. وَمَادَّةُ «شَكَرَ» لَا تَتَعَدَّى غَالِبًا إِلَّا بِاللَّامِ، وَتَعْدِيَتُهَا بِنَفْسِهَا دُونَ اللَّامِ قَلِيلَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي نُخَيْلَةَ: شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مَنِ الْتُّقَى ... وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي وَفِي قَوْلِهِ: لِتُحْصِنَكُمْ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّةٌ: قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ عَامِرٍ وَعَاصِمًا لِيُحْصِنَكُمْ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدٌ إِلَى دَاوُدَ أَوْ إِلَى اللَّبُوسِ؛ لِأَنَّ تَذْكِيرَهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَا يُلْبَسُ مِنَ الدُّرُوعِ جَائِزٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ لِتُحْصِنَكُمْ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَضَمِيرُ الْفَاعِلِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّبُوسِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، أَوْ إِلَى الصَّنْعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: صَنْعَةَ لَبُوسٍ وَقَرَأَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ لِنُحْصِنَكُمْ بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ. قَوْلُهُ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ [21 \ 81] مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ «وَسَخَّرْنَا» ، فِي قَوْلِهِ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ [21 \ 79] أَيْ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ فِي حَالِ كَوْنِهَا عَاصِفَةً، أَيْ: شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ. يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ أَيِ: اشْتَدَّتْ، فَهِيَ رِيحٌ عَاصِفٌ وَعَصُوفٌ، وَفِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ (أَعْصَفَتْ) فَهِيَ مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ (الْإِسْرَاءِ) . وَقَوْلُهُ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ أَيْ: تُطِيعُهُ وَتَجْرِي إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَأْمُرُهَا بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ، وَأَنَّهَا تَجْرِي بِأَمْرِهِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَزَادَ بَيَانَ قَدْرِ سُرْعَتِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 [34 \ 12] وَقَوْلِهِ: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [38 \ 36] . تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا سُؤَالَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَصَفَ الرِّيحَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» بِأَنَّهَا عَاصِفَةٌ، أَيْ: شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَوَصَفَهَا فِي سُورَةِ «ص» بِأَنَّهَا تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً، وَالْعَاصِفَةُ غَيْرُ الَّتِي تَجْرِي رُخَاءً. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ هُنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» خَصَّ جَرْيَهَا بِهِ بِكَوْنِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، وَفِي سُورَةِ «ص» قَالَ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [38 \ 36] وَقَوْلِهِ: حَيْثُ أَصَابَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلَيْهَا عَلَى الرِّيحِ. فَقَوْلُهُ: حَيْثُ أَصَابَ أَيْ: حَيْثُ أَرَادَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَصَابَ الصَّوَابَ، وَأَخْطَأَ الْجَوَابَ، أَيْ: أَرَادَ الصَّوَابَ وَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ... فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِلِ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ مَعْنَى «أَصَابَ» ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ: أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فَقَالَا: هَذِهِ طِلْبَتُنَا، وَرَجَعَا. أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَاصِفَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَيِّنَةٌ رُخَاءٌ فِي بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، كَأَنْ تَعْصِفَ وَيَشْتَدَّ هُبُوبُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَتَّى تَرْفَعَ الْبِسَاطَ الَّذِي عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ، فَإِذَا ارْتَفَعَ سَارَتْ بِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ. الْجَوَابُ الثَّانِي: هُوَ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: وُصِفَتْ هَذِهِ الرِّيحُ بِالْعَصْفِ تَارَةً وَبِالرُّخَاءِ أُخْرَى، فَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: كَانَتْ فِي نَفْسِهَا رَخِيَّةً طَيِّبَةً كَالنَّسِيمِ، فَإِذَا مَرَّتْ بِكُرْسِيِّهِ أَبْعَدَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، عَلَى مَا قَالَ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، فَكَانَ جَمْعُهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ تَكُونَ رُخَاءً فِي نَفْسِهَا، وَعَاصِفَةً فِي عَمَلِهَا، مَعَ طَاعَتِهَا لِسُلَيْمَانَ، وَهُبُوبِهَا عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ وَيَحْتَكِمُ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: حَيْثُ أَصَابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجْرِي بِأَمْرِهِ حَيْثُ أَرَادَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وَقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 [38 \ 36] لِأَنَّ مَسْكَنَهُ فِيهَا وَهِيَ الشَّامُ، فَتَرُدُّهُ إِلَى الشَّامِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: حَيْثُ أَصَابَ فِي حَالَةِ الذَّهَابِ. وَقَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا فِي حَالَةِ الْإِيَابِ إِلَى مَحَلِّ السُّكْنَى. فَانْفَكَّتِ الْجِهَةُ فَزَالَ الْإِشْكَالُ. وَقَدْ قَالَ نَابِغَةُ ذُبْيَانَ: إِلَّا سُلَيْمَانُ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ ... قُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ وَخَيِّسِ الْجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصِّفَاحِ وَالْعَمَدِ وَتَدْمُرُ: بَلَدٌ بِالشَّامِ. وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّامَ هُوَ مَحَلُّ سُكْنَاهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَعْمُولِ سَخَّرْنَا أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: «مِنْ» مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَبْلَهُ خَبَرُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَخَّرَ لِسُلَيْمَانَ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ: يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ فَيَسْتَخْرِجُونَ لَهُ مِنْهَا الْجَوَاهِرَ النَّفِيسَةَ، كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ. وَالْغَوْصُ: النُّزُولُ تَحْتَ الْمَاءِ، وَالْغَوَّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ الْبَحْرَ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ اللُّؤْلُؤَ وَنَحْوَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا أَنَّ الشَّيَاطِينَ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ، أَيْ: سِوَى ذَلِكَ الْغَوْصِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: كَبِنَاءِ الْمَدَائِنِ، وَالْقُصُورِ، وَعَمَلِ الْمَحَارِيبِ، وَالتَّمَاثِيلِ، وَالْجِفَانِ، وَالْقُدُورِ الرَّاسِيَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اخْتِرَاعِ الصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ أَيْ: مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ، أَوْ يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا، أَوْ يُوجَدَ مِنْهُمْ فَسَادٌ فِيمَا هُمْ مُسَخَّرُونَ فِيهِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي الْغَوْصِ وَالْعَمَلِ سَوَاءً: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ الْآيَةَ [38 \ 37] وَقَوْلِهِ فِي الْعَمَلِ غَيْرِ الْغَوْصِ: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ [34 \ 12] وَقَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [34 \ 13] وَكَقَوْلِهِ فِي حِفْظِهِمْ مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [34 \ 12] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 وَقَوْلِهِ: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [38 \ 38] . وَصِفَةُ الْبِسَاطِ، وَصِفَةُ حَمْلِ الرِّيحِ لَهُ، وَصِفَةُ جُنُودِ سُلَيْمَانَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ كُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ بِكَثْرَةٍ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَنَحْنُ لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَيُّوبَ مَنْصُوبٌ بِـ «اذْكُرْ» مُقَدَّرًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «ص» : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [38 \ 41] . وَقَدْ أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَذْكُرَ أَيُّوبَ حِينَ نَادَى رَبَّهُ قَائِلًا: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [21 \ 83] وَأَنَّ رَبَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ جَمِيعَ مَا بِهِ مِنَ الضُّرِّ، وَأَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ، وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِهِ وَتَذْكِيرًا لِلْعَابِدِينَ، أَيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرَى. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «ص» فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَلْبَابِ [38 \ 41 - 43] وَالضُّرُّ الَّذِي مَسَّ أَيُّوبَ، وَنَادَى رَبَّهُ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُ كَانَ بَلَاءً أَصَابَهُ فِي بَدَنِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِذْهَابَ الضُّرِّ عَنْهُ أَمَرَهُ أَنْ يَرْكُضَ بِرِجْلِهِ فَفَعَلَ، فَنَبَعَتْ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، فَزَالَ كُلُّ مَا بِظَاهِرِ بَدَنِهِ مِنَ الضُّرِّ، وَشَرِبَ مِنْهَا فَزَالَ كُلُّ مَا بِبَاطِنِهِ. كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [38 \ 42] . وَمَا ذَكَرَهُ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» مِنْ أَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ وَذِكْرَى لِمَنْ يَعْبُدُهُ بَيَّنَهُ فِي «ص» فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [38 \ 43] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [21 \ 84] مَعَ قَوْلِهِ فِي «ص» ، وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [38 \ 43] فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيُطِيعُونَهُ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ تُصْرَفُ لِأَتْقَى النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، أَيِ الْعُقُولِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 الصَّحِيحَةِ السَّالِمَةِ مِنَ الِاخْتِلَالِ. تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَفِي «ص» فِي قَوْلِهِ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَجِرَ مِنَ الْمَرَضِ فَشَكَا مِنْهُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [38 \ 44] يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صَبْرِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ أَيُّوبَ دُعَاءٌ وَإِظْهَارُ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ إِلَى رَبِّهِ، لَا شَكْوَى وَلَا جَزَعٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ جَزَعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ دُعَاءً مِنْهُ. وَالْجَزَعُ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الرِّضَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَمِعْتُ أُسْتَاذَنَا أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ حَبِيبٍ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسًا غَاصًّا بِالْفُقَهَاءِ وَالْأُدَبَاءِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، فَسُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ كَانَ شِكَايَةً وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا شِكَايَةً، وَإِنَّمَا كَانَ دُعَاءً، بَيَانُهُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَالْإِجَابَةُ تَتَعَقَّبُ الدُّعَاءَ لَا الِاشْتِكَاءَ. فَاسْتَحْسَنُوهُ وَارْتَضَوْهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: عَرَّفَهُ فَاقَةَ السُّؤَالِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ بِكَرَمِ النَّوَالِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَدُعَاءُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنَدَ مَسُّ الضُّرِّ أَيُّوبَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَذَكَرَهُ فِي سُورَةِ «ص» وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ وَالنُّصْبُ عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ مَعْنَاهُ: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ، وَالْعَذَابُ: الْأَلَمُ. وَفِي نِسْبَةِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ «ص» هَذِهِ إِشْكَالٌ قَوِيٌّ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى مِثْلِ أَيُّوبَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ [34 \ 21] وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُقَرِّرًا لَهُ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [14 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] . وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ لِيَقْضِيَ مِنْ إِتْعَابِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَطَرَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ صَالِحًا إِلَّا وَقَدْ نَكَبَهُ وَأَهْلَكَهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لَهُ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ فَحَسْبُ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَتْ وَسْوَسَتُهُ إِلَيْهِ وَطَاعَتُهُ لَهُ فِيمَا وَسْوَسَ سَبَبًا فِيمَا مَسَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهِ، مَعَ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَانَ يُوَسْوِسُ بِهِ إِلَيْهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ تَعْظِيمِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَيُغْرِيهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالْجَزَعِ، فَالْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ، أَوْ بِالتَّوْفِيقِ فِي دَفْعِهِ وَرَدِّهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارْتَدَّ أَحَدُهُمْ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْتَلِي الْأَنْبِيَاءَ الصَّالِحِينَ. وَذُكِرَ فِي سَبَبِ بَلَائِهِ أَنَّ رَجُلًا اسْتَغَاثَهُ عَلَى ظَالِمٍ فَلَمْ يُغِثْهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ مَوَاشِيهِ فِي نَاحِيَةِ مَلِكٍ كَافِرٍ فَدَاهَنَهُ وَلَمْ يَغْزُهُ. وَقِيلَ. أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى مَالِهِ وَأَهْلِهِ ابْتِلَاءً لِأَيُّوبَ، فَأَهْلَكَ الشَّيْطَانُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، ثُمَّ سَلَّطَهُ عَلَى بَدَنِهِ ابْتِلَاءً لَهُ، فَنَفَخَ فِي جَسَدِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا، فَصَارَ فِي جَسَدِهِ ثَآلِيلُ، فَحَكَّهَا بِأَظَافِرِهِ حَتَّى دَمِيَتْ، ثُمَّ بِالْفَخَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ لَحْمُهُ، وَعَصَمَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ (وَغَالِبُ ذَلِكَ مِنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ) وَتَسْلِيطُهُ لِلِابْتِلَاءِ عَلَى جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ تَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ بِحَمْلِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي، كَمُدَاهَنَةِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورِ، وَعَدَمِ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَقَدْ ذَكَرُوا هُنَا قِصَّةً طَوِيلَةً تَتَضَمَّنُ الْبَلَاءَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ، وَقَدْرَ مُدَّتَهُ (وَكُلُّ ذَلِكَ مِنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا قَلِيلًا. وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَى نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ نَادَاهُ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَكَشَفَ عَنْهُ كُلَّ ضُرٍّ، وَوَهَبَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَأَنَّ أَيُّوبَ نَسَبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 ذَلِكَ فِي «ص» إِلَى الشَّيْطَانِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ صَبْرُهُ الْجَمِيلُ، وَتَكُونَ لَهُ الْعَافِيَةُ الْحَمِيدَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَرْجِعَ لَهُ كُلُّ مَا أُصِيبَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مِثْلِ أَيُّوبَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْجَسَدِ مَنْ جِنْسِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْأَعْرَاضُ الْبَشَرِيَّةُ كَالْمَرَضِ، وَذَلِكَ يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُصِيبُهُمُ الْمَرَضُ، وَمَوْتُ الْأَهْلِ، وَهَلَاكُ الْمَالِ لِأَسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ. وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ تِلْكَ الْأَسْبَابِ تَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ لِلِابْتِلَاءِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا جَوَازَ وُقُوعِ الْأَمْرَاضِ، وَالتَّأْثِيرَاتِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ «طه» وَقَوْلُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ فِي سُورَةِ «ص» : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [38 \ 44] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ: إِنَّهُ حَلَفَ فِي مَرَضِهِ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ لِيَخْرُجَ مِنْ يَمِينِهِ، وَالضِّغْثُ: الْحُزْمَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْخُذُ حُزْمَةً فِيهَا مِائَةُ عُودٍ، فَيَضْرِبُهَا بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ يَمِينِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» الِاسْتِدْلَالَ بِآيَةِ وَلَا تَحْنَثْ [38 \ 44] عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُفِيدُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ يُفِيدُ لِقَالَ اللَّهُ لِأَيُّوبَ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً فِي يَمِينِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ. أَيْ: وَاذْكُرْ ذَا النُّونِ. وَالنُّونُ: الْحُوتُ. «وَذَا» بِمَعْنَى صَاحِبٍ. فَقَوْلُهُ: وَذَا النُّونِ مَعْنَاهُ: صَاحِبُ الْحُوتِ. كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي «الْقَلَمِ» فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ الْآيَةَ [68 \ 48] . وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْحُوتِ لِأَنَّهُ الْتَقَمَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [37 \ 142] . وَقَوْلُهُ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [21 \ 87] فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا يَكْذِّبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَيْ: لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ «قَدَرَ» بِمَعْنَى «ضَيَّقَ» فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [13 \ 26] أَيْ: وَيُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْآيَةَ [65 \ 7] . فَقَوْلُهُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [65 \ 7] أَيْ: وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [21 \ 87] لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ. «وَقَدَرَ» بِالتَّخْفِيفِ تَأْتِي بِمَعْنَى «قَدَّرَ» الْمُضَعَّفَةِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [54 \ 12] أَيْ: قَدَّرَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ - وَأَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ شَاهِدًا لِذَلِكَ -: فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السَّلِمُ النَّضِرُ وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تَقْدِرُ يَقَعُ لَكَ الشُّكْرُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يَقْدِرُهُ قَدْرًا، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَنَصَرَ يَنْصُرُ، بِمَعْنَى قَدَّرَهُ لَكَ تَقْدِيرًا. وَمِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ «لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ فِيهَا الْأَشْيَاءَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [44 \ 4] وَالْقَدَرُ بِالْفَتْحِ، وَالْقَدْرُ بِالسُّكُونِ: مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ الْخَشْرَمِ: أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدَرِ ... وَلِلْأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [21 \ 87] مِنَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ لَا يَشُكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُغَاضِبًا أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ. وَمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ: أَنَّهُ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ وَتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَأَغْضَبُوهُ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ مَعْنَى «مُغَاضِبًا» غَضْبَانُ، وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي اشْتِرَاكًا نَحْوَ عَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَسَافَرْتُ. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مُغَاضِبًا أَيْ: مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْقُتْبِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْمَهْدَوِيُّ - يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَيْ: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا: وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مَنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ كَمَا تَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ أَيْ: مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 أَجْلِكَ، وَالْمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا عُصِيَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرَ: مُغَاضِبًا قَوْمَهُ مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ بِهِ وَعِصْيَانِهِمْ لَهُ. وَغَيْرُ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ. أَيْ: ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ. «وَأَنْ» فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ [21 \ 87] مُفَسِّرَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَى «أَنْ لَا إِلَهَ» ، وَمَعْنَى «سُبْحَانَكَ» ، وَمَعْنَى الظُّلْمِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ أَيْ: أَجَبْنَاهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَإِطْلَاقُ «اسْتَجَابَ» بِمَعْنَى أَجَابَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نِدَاءِ نَبِيِّهِ يُونُسَ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ هَذَا النِّدَاءَ الْعَظِيمَ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ وَنَجَّاهُ مِنَ الْغَمِّ - أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَبِّحْ هَذَا التَّسْبِيحَ الْعَظِيمَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ. وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ طَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَخُرُوجِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَأَنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلَى مَنْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ. وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِهَا لِنُبِذَ بِالْعَرَاءِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا، وَلَكِنَّهُ تَدَارَكَهُ بِهَا فَنُبِذَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، قَالَ تَعَالَى فِي «الصَّافَّاتِ» : وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ الْآيَةَ [37 \ 139 - 148] . فَقَوْلُهُ فِي آيَاتِ «الصَّافَّاتِ» الْمَذْكُورَةِ: إِذْ أَبَقَ [37 \ 140] أَيْ: حِينَ أَبَقَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: عَبْدٌ آبِقٌ؛ لِأَنَّ يُونُسَ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِبَاقِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَلَامَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُلِيمٌ [37 \ 142] لِأَنَّ الْمُلِيمَ اسْمُ فَاعِلِ «أَلَامَ» إِذَا فَعَلَ مَا يَسْتَوْجِبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 الْمَلَامَ. وَقَوْلِهِ: فَسَاهَمَ أَيْ: قَارَعَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ سِهَامَ الْقُرْعَةِ لِيَخْرُجَ سَهْمُ مَنْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلِهِ: فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أَيِ الْمَغْلُوبِينَ فِي الْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الَّذِي يُلْقَى صَاحِبُهُ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ ... فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ وَقَوْلُهُ: فَنَبَذْنَاهُ أَيْ: طَرَحْنَاهُ، بِأَنْ أَمَرْنَا الْحُوتَ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ. وَالْعَرَاءُ: الصَّحْرَاءُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَرَاءُ: الْفَضَاءُ أَوِ الْمُتَّسَعُ مِنَ الْأَرْضِ، أَوِ الْمَكَانُ الْخَالِي، أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ - رَاجِعٌ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: وَرَفَعْتُ رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا ... وَنَبَذْتُ بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي وَشَجَرَةُ الْيَقْطِينِ: هِيَ الدُّبَّاءُ. وَقَوْلِهِ: وَهُوَ سَقِيمٌ أَيْ: مَرِيضٌ لِمَا أَصَابَهُ مِنِ الْتِقَامِ الْحُوتِ إِيَّاهُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي «الْقَلَمِ» : وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [68 \ 48 - 50] فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْقَلَمِ» هَذِهِ: إِذْ نَادَى [68 \ 48] أَيْ: نَادَى أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَكْظُومٌ [6 \ 48] أَيْ: مَمْلُوءٌ غَمًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ [21 \ 88] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي مَالِكٍ مَكْظُومٌ: مَمْلُوءٌ كَرْبًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ أَنَّ الْغَمَّ فِي الْقَلْبِ، وَالْكَرْبَ فِي الْأَنْفَاسِ. وَقِيلَ مَكْظُومٌ مَحْبُوسٌ. وَالْكَظْمُ: الْحَبْسُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: كَظَمَ غَيْظَهُ، أَيْ: حَبَسَ غَضَبَهُ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: الْمَكْظُومُ الْمَأْخُوذُ بِكَظْمِهِ، وَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَآيَةُ «الْقَلَمِ» الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَجَّلَ بِالذَّهَابِ وَمُغَاضَبَةِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَصْبِرِ الصَّبْرَ اللَّازِمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مُخَاطِبًا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ الْآيَةَ [68 \ 48] . فَإِنَّ أَمْرَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّبْرِ وَنَهْيَهُ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الْحُوتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحُوتِ لَمْ يَصْبِرْ كَمَا يَنْبَغِي. وَقِصَّةُ يُونُسَ وَسَبَبُ ذَهَابِهِ وَمُغَاضَبَتِهِ قَوْمَهُ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُونُسَ» أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا فَنَفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْقُرَى الَّتِي بُعِثَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [10 \ 98] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُهُ الْكَرْبُ وَالْغَمُّ فَيَبْتَهِلُ إِلَى اللَّهِ دَاعِيًا بِإِخْلَاصٍ إِلَّا نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ هَذَا. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي دُعَاءِ يُونُسَ الْمَذْكُورِ: «لَمْ يَدْعُ بِهِ مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَهَادَةً قَوِيَّةً كَمَا تَرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْجَى يُونُسَ شَبَّهَ بِذَلِكَ إِنْجَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلِهِ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ صِيغَةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ كَمَا تَرَى. وَقَرَأَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِنُونَيْنِ أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا جِيمٌ مَكْسُورَةٌ مُخَفِّفَةٌ فَيَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ مُضَارِعُ «أَنْجَى» الرُّبَاعِيِّ عَلَى صِيغَةِ أَفْعَلَ، وَالنُّونُ الْأُولَى دَالَّةٌ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «وَكَذَلِكَ نُجِّي الْمُؤْمِنِينَ» بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا جِيمٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ فَيَاءٌ سَاكِنَةٌ. وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِصِيغَةِ فِعْلٍ مَاضٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ مَنْ نَجَّى الْمُضَعَّفَةِ عَلَى وَزْنِ «فَعَّلَ» بِالتَّضْعِيفِ. وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. أَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَاضِحَةٌ لَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَلَكِنْ فِيهَا إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ: أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ إِنَّمَا كَتَبَهُ الصَّحَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، فَيُقَالُ: كَيْفَ تُقْرَأُ بِنُونَيْنِ وَهِيَ فِي الْمَصَاحِفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ؟ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ بِالْإِشْكَالِ مِنْ جِهَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ نَجَّى عَلَى قِرَاءَتِهِمَا بِصِيغَةِ مَاضٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ، فَالْقِيَاسُ رَفْعُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ فَتْحُ يَاءِ «نَجَّى» لَا إِسْكَانُهَا. وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي بَابِ الْإِدْغَامِ مِنْ تَوْضِيحِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ «نُنَجِّي» بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ مُضَارِعُ نَجَّى مُضَعَّفًا، فَحُذِفَتِ النُّونُ الثَّانِيَةُ تَخْفِيفًا. أَوْ نُنْجِي بِسُكُونِهَا مُضَارِعُ «أَنْجَى» وَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْجِيمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَهْرِ، وَالِانْفِتَاحِ، وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، كَمَا أُدْغِمَتْ فِي «إِجَّاصَةِ وَإِجَّانَةِ» بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ «إِنْجَاصَةٌ وَإِنْجَانَةٌ» فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِيهِمَا. وَالْإِجَّاصَةُ: وَاحِدَةُ الْإِجَّاصِ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْإِجَّاصُ بِالْكَسْرِ مُشَدَّدًا: ثَمَرٌ مَعْرُوفٌ، دَخِيلٌ لِأَنَّ الْجِيمَ وَالصَّادَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلِمَةٍ، الْوَاحِدَةُ بِهَاءٍ. وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 تَقُلْ إِنْجَاصٌ، أَوْ لُغَيَّةٌ. اهـ. وَالْإِجَّانَةُ وَاحِدَةُ الْأَجَاجِينِ. قَالَ فِي التَّصْرِيحِ: وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا. قَالَ صَاحِبُ الْفَصِيحِ: قَصْرِيَّةٌ يُعْجَنُ فِيهَا وَيُغْسَلُ فِيهَا. وَيُقَالُ: إِنْجَانَةٌ كَمَا يُقَالُ إِنْجَاصَةٌ، وَهِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ فِيهِمَا أَنْكَرَهَا الْأَكْثَرُونَ. اهـ. فَهَذَانِ وَجْهَانِ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ، وَعَلَيْهِمَا فَلَفْظَةُ «الْمُؤْمِنِينَ» مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «نُنَجِّي» . وَمِنْ أَجْوِبَةِ الْعُلَمَاءِ عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ: أَنَّ «نُجِّيَ» عَلَى قِرَاءَتِهِمَا فِعْلُ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالنَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ، أَيْ: نَجَّى هُوَ، أَيِ الْإِنْجَاءُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْآيَةُ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لِيُجْزَى قَوْمًا الْآيَةَ [45 \ 14] بِبِنَاءِ «يُجْزَى» لِلْمَفْعُولِ، وَالنَّائِبُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ، أَيْ: لِيَجْزِيَ هُوَ، أَيِ الْجَزَاءَ وَنِيَابَةُ الْمَصْدَرِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي حَالِ كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ تَرِدُ بِقِلَّةٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَقَابِلْ مِنْ ظُرُوفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيَابَةٍ حَرِي وَلَا يَنُوبُ بَعْضُ هَذَا إِنْ وُجِدْ ... فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ بِهِ وَقَدْ يَرِدْ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: «وَقَدْ يَرِدُ» وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ جَرِيرٍ يَهْجُو أُمَّ الْفَرَزْدَقِ: وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ ... لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجَرْوِ الْكِلَابَا 69 يَعْنِي لَسُبَّ هُوَ، أَيْ: السَّبُّ. وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: لَمْ يَعْنِ بِالْعَلْيَاءِ إِلَّا سَيِّدًا ... وَلَا شَفَى ذَا الْغَيِّ إِلَّا ذُو هُدَى وَأَمَّا إِسْكَانُ يَاءِ «نُجِّي» عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْعَرَبِ: رَضِي، وَبَقِي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا. وَمِنْهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [2 \ 278] بِإِسْكَانِ يَاءِ «بَقِيَ» وَمِنْ شَوَاهِدِ تِلْكَ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: خَمَّرَ الشَّيْبُ لُمَّتِي تَخْمِيرًا ... وَحَدَا بِي إِلَى الْقُبُورِ الْبَعِيرَا لَيْتَ شِعْرِي إِذِ الْقِيَامَةُ قَامَتْ ... وَدُعِي بِالْحِسَابِ أَيْنَ الْمَصِيرَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ حَذَفُوا النُّونَ فِي الْمَصَاحِفِ؛ لِتُمْكِنَ مُوَافَقَةُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ لِلْمَصَاحِفِ لِخَفَائِهَا، أَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ حَذَفُوا حَرْفًا مِنَ الْكَلِمَةِ لِمَصْلَحَةٍ مَعَ تَوَاتُرِ الرِّوَايَةِ لَفْظًا بِذِكْرِ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 قَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ «الْأُمَّةِ» فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» . وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا: الشَّرِيعَةُ وَالْمِلَّةُ، وَالْمَعْنَى: وَأَنَّ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمْ شَرِيعَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ بِإِخْلَاصٍ فِي ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ مَا شَرَعَهُ لِخَلْقِهِ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [21 \ 92] أَيْ: وَحْدِي، وَالْمَعْنَى دِينُكُمْ وَاحِدٌ وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ، فَلِمَ تَخْتَلِفُونَ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [21 \ 93] أَيْ: تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَكَانُوا شِيَعًا؛ فَمِنْهُمْ يَهُودِيٌّ، وَمِنْهُمْ نَصْرَانِيٌّ، وَمِنْهُمْ عَابِدُ وَثَنٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفِرَقِ الْمُخْتَلِفَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ أَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ رَاجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيُجَازِيهِمْ بِمَا فَعَلُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ الْمَعْنَى: جَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ قِطَعًا كَمَا يَتَوَزَّعُ الْجَمَاعَةُ الشَّيْءَ وَيَقْتَسِمُونَهُ، فَيَصِيرُ لِهَذَا نَصِيبٌ وَلِذَلِكَ نُصِيبٌ؛ تَمْثِيلًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، وَصَيْرُورَتِهِمْ فِرَقًا شَتَّى. اهـ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ «تَقَطَّعَ» مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَمَفْعُولُهَا «أَمْرَهُمْ» وَمَعْنَى تَقَطَّعُوهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ قِطَعًا كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ: تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِمْ، فَنَصَبَ «أَمْرَهُمْ» بِحَذْفِ «فِي» وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأُمَّةِ بِمَعْنَى الشَّرِيعَةِ وَالدِّينِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [43 \ 23] أَيْ: عَلَى شَرِيعَةٍ وَمِلَّةٍ وَدِينٍ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ. . إلخ» أَنَّ صَاحِبَ الدِّينِ لَا يَرْتَكِبُ الْإِثْمَ طَائِعًا. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ: مِنْ أَنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَالرَّبَّ وَاحِدٌ فَلَا دَاعِيَ لِلِاخْتِلَافِ. وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا أَوْ صَارُوا فِرَقًا أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» وَزَادَ أَنَّ كُلَّ حِزْبٍ مِنَ الْأَحْزَابِ الْمُخْتَلِفَةِ فَرِحُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [23 \ 51 - 54] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: زُبُرًا أَيْ: قِطَعًا كَزُبَرِ الْحَدِيدِ وَالْفِضَّةِ أَيْ: قِطَعِهَا. وَقَوْلُهُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ: كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الضَّالِّينَ الْمُخْتَلِفِينَ الْمُتَقَطِّعِينَ دِينَهُمْ قِطَعًا فَرِحُونَ بِبَاطِلِهِمْ، مُطْمَئِنُّونَ إِلَيْهِ، مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ مَا فَرِحُوا بِهِ وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ بَاطِلٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [40 \ 83 - 84] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [6 \ 159] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ هَذِهِ «هَذِهِ» اسْمُ «إِنَّ» وَخَبَرُهَا أُمَّتُكُمْ. وَقَوْلِهِ أُمَّةً وَاحِدَةً حَالٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الزَّفِيرِ أَنَّهُ كَأَوَّلِ صَوْتِ الْحِمَارِ، وَأَنَّ الشَّهِيقَ كَآخِرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ الشَّهِيقَ، وَالْخُلُودَ، كَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» : فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا. [الْآيَةَ 106] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ، وَلَا يُبْصِرُونَ، كَقَوْلِهِ فِي «الْإِسْرَاءِ» : وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [17 \ 97] وَقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [20 \ 124] وَقَوْلِهِ: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [27 \ 85] مَعَ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [19 \ 38] وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا الْآيَةَ [32 \ 12] وَقَوْلِهِ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ الْآيَةَ [18 \ 53] . وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْجُهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي «طه» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ فِي عِلْمِهِ الْحُسْنَى وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ أَوِ السَّعَادَةُ - مُبْعَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ النَّارِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [10 \ 26] وَقَوْلِهِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [55 \ 60] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ [21] أَيْ: تَسْتَقْبِلُهُمْ بِالْبِشَارَةِ، وَتَقُولُ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أَيْ: تُوعَدُونَ فِيهِ أَنْوَاعَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ. قِيلَ: تَسْتَقْبِلُهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنِ اسْتِقْبَالِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِذَلِكَ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «فُصِّلَتْ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [41 - 33] وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [16] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ. قَوْلُهُ: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ [21 \ 104] مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ [21] أَوْ بِقَوْلِهِ تَتَلَقَّاهُمُ. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ الْكُتُبَ. وَصَرَّحَ فِي «الزُّمَرِ» بِأَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [39 \ 67] وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ إِمْرَارُهُ كَمَا جَاءَ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ صِفَةَ الْخَالِقِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُمَاثِلَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ. وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّجِلَّ: الصَّحِيفَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْكُتُبِ: مَا كُتِبَ فِيهَا، وَاللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: كَطَيِّ السِّجِلِّ عَلَى الْكُتُبِ، أَيْ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا فَطَيُّ السِّجِلِّ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ؛ لِأَنَّ السِّجِلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَفْعُولُ الطَّيِّ. الثَّانِي: أَنَّ السِّجِلَّ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَطْوِي كُتُبَ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، تَرْفَعُ إِلَيْهِ الْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْخَلْقِ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِهِ (فِيمَا ذَكَرُوا) هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَطْوِي الصَّحِيفَةَ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهَا، فَيَرْفَعَهَا وَيَطْوِيَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ السِّجِلَّ صَحَابِيٌّ كَاتِبٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «لِلْكِتَابِ» قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ «لِلْكِتَابِ» بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ «لِلْكُتُبِ» بِضَمِّ الْكَافِ وَالتَّاءِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ جِنْسُ الْكِتَابِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ الْكُتُبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الزَّبُورَ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْكِتَابِ فَيَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ، كَالتَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَزَبُورِ دَاوُدَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ: أُمُّ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ بَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: الزَّبُورُ فِي الْآيَةِ زَبُورُ دَاوُدَ، وَالذِّكْرُ: التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَظْهَرُهَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكَلَاهُمَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ حَقُّ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [21 \ 105] فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَرْضُ الْجَنَّةِ يُورِثُهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [39] وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» . الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْعَدُوِّ، يُورِثُهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [33 \ 27] وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ [7 \ 137] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [7 \ 128] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَةَ [24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [14 \ 13 - 14] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ حَمْزَةَ فِي الزَّبُورِ بِفَتْحِ الزَّايِ وَمَعْنَاهُ الْكِتَابُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ (فِي الزُّبُورِ) بِضَمِّ الزَّايِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فَهُوَ جَمْعُ زُبُرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الزِّبِرَ - بِالْكَسْرِ - بِمَعْنَى الزَّبُورِ أَيِ: الْمَكْتُوبِ. وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الْكُتُبِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّبُورِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ جِنْسُ الْكُتُبِ لَا خُصُوصُ زَبُورِ دَاوُدَ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ «يَرِثُهَا عِبَادِي» بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ. الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا [21 \ 106] لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي مِنْهُ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ. وَالْبَلَاغُ: الْكِفَايَةُ، وَمَا تُبْلَغُ بِهِ الْبُغْيَةُ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِيهِ الْكِفَايَةُ لِلْعَابِدِينَ، وَمَا يَبْلُغُونَ بِهِ بُغْيَتَهُمْ، أَيْ: مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [14 \ 52] وَخَصَّ الْقَوْمَ الْعَابِدِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إِلَى الْخَلَائِقِ إِلَّا رَحْمَةً لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُسْعِدُهُمْ وَيَنَالُونَ بِهِ كُلَّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنِ اتَّبَعُوهُ. وَمَنْ خَالَفَ وَلَمْ يَتَّبِعْ فَهُوَ الَّذِي ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى. وَضَرَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا مَثَلًا، قَالَ: لَوْ فَجَّرَ اللَّهُ عَيْنًا لِلْخَلْقِ غَزِيرَةَ الْمَاءِ، سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ، فَسَقَى النَّاسُ زُرُوعَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ بِمَائِهَا، فَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ بِذَلِكَ، وَبَقِيَ أُنَاسٌ مُفَرِّطُونَ كُسَالَى عَنِ الْعَمَلِ، فَضَيَّعُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ - فَالْعَيْنُ الْمُفَجَّرَةُ فِي نَفْسِهَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَنِعْمَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَلَكِنَّ الْكَسْلَانَ مِحْنَةٌ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ حَرَمَهَا مَا يَنْفَعُهَا. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [14 \ 28] وَقِيلَ: كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكُفَّارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عُقُوبَتَهُمْ أُخِّرَتْ بِسَبَبِهِ، وَأَمِنُوا بِهِ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَهُ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [29 \ 51] وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [28 \ 86] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ. قَوْلُهُ فَإِنْ تَوَلَّوْا [21 \ 109] أَيْ: أَعْرَضُوا وَصَدُّوا عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ أَنِّي حَرْبٌ لَكُمْ كَمَا أَنَّكُمْ حَرْبٌ لِي، بَرِيءٌ مِنْكُمْ كَمَا أَنْتُمْ بَرَاءٌ مِنِّي. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [8 \ 58] أَيْ: لِيَكُنْ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِنَبْذِ الْعُهُودِ عَلَى السَّوَاءِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [10 \ 41] وَقَوْلِهِ: آذَنْتُكُمْ الْأَذَانُ: الْإِعْلَامُ. وَمِنْهُ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [9 \ 3] أَيْ: إِعْلَامٌ مِنْهُ، قَوْلُهُ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 279] أَيِ: اعْلَمُوا. وَمِنْهُ قَوْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ... ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ يَعْنِي أَعْلَمَتْنَا بِبَيْنِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ عَلِمَ مَا يَجْهَرُ بِهِ خَلْقُهُ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ مَا يَكْتُمُونَهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [67 \ 13] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [24 \ 29] فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَوْلِهِ: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [2 \ 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [50 \ 16] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [20 \ 7] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ قُلْ رَبِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحْدَهُ قَالَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ بِصِيغَةِ الْمَاضِي. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَقِرَاءَةُ حَفْصٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ. وَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُ هُنَا قَالَهُ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [7 \ 89] وَقَوْلِهِ: افْتَحْ أَيْ: احْكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [21 \ 112] أَيْ: تَصِفُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ بِادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ الْآيَةَ [16 \ 62] وَقَالَ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ الْآيَةَ [16 \ 116] . وَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَهُ يَعْقُوبُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ أَوْلَادَهُ فَعَلُوا بِأَخِيهِمْ يُوسُفَ شَيْئًا غَيْرَ مَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [12 \ 18] وَالْمُسْتَعَانُ: الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَوْنُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وَهَذَا آخِرُ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الْخَامِسُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَوَّلُهُ سُورَةُ الْحَجِّ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ النَّاسَ بِتَقْوَاهُ جَلَّ وَعَلَا ; بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، تَذْهَلُ بِسَبَبِهِ الْمَرَاضِعُ عَنْ أَوْلَادِهَا، وَتَضَعُ بِسَبَبِهِ الْحَوَامِلُ أَحْمَالَهَا، مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ، وَأَنَّ النَّاسَ يُرَوْنَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَكِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ. وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [4] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَمَا بَيَّنَهُ هُنَا مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِ السَّاعَةِ، وَعِظَمِ زَلْزَلَتِهَا، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [99 - 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [69 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [56 \ 4 - 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [7 \ 187] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ هَوْلِ السَّاعَةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اتَّقُوا رَبَّكُمْ [22] قَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى مَعْنَى التَّقْوَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَالزَّلْزَلَةُ: شِدَّةُ التَّحْرِيكِ وَالْإِزْعَاجِ، وَمُضَاعَفَةُ زَلِيلِ الشَّيْءِ عَنْ مَقَرِّهِ وَمَرْكَزِهِ؛ أَيْ تَكْرِيرُ انْحِرَافِهِ وَتَزَحْزُحِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ ; لِأَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الْأَرْضَ إِذَا حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً تَزَلْزَلَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا زَلْزَلَةً قَوِيَّةً. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ تَرَوْنَهَا مَنْصُوبٌ بِـ (تَذْهَلُ) وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الزَّلْزَلَةِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ زَلْزَلَةَ الْأَشْيَاءِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ: رَأَى الْعِلْمِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: ت {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي بسبب تلك الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليلَ عن خليله وقال قطرب: ذهل عن الأمر: اشتغل عنه. وقيل: ذهل عن الأمر: غفل عنه لطرو شاغل، من هم أو مرض، أو نحو ذلك، والمعنى واحد، وبقية الأقوال راجعة إلى ما ذكرنا. وقوله {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أَيْ: كُلُّ أُنْثَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ: مُرْضِعَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ: مُرْضِعٍ: هُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، مِنْ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْإِنَاثِ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْفِعْلُ لَحِقَهَا التَّاءُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا النَّسَبُ جُرِّدَتْ مِنَ التَّاءِ، فَإِنْ قُلْتَ: هِيَ مُرْضِعٌ، تُرِيدُ أَنَّهَا ذَاتُ رَضَاعٍ، جَرَّدْتَهُ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ ... فأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ وَإِنْ قُلْتَ: هِيَ مُرْضِعَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَفْعَلُ الرَّضَاعَ؛ أَيْ: تُلْقِمُ الْوَلَدَ الثَّدْيَ، قُلْتَ: هِيَ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْأُنْثَى يَخُصُّ ... عَنْ تَاءٍ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ وَحَيْثُ مَعْنَى الْفِعْلِ يَعْنِي التَّاءَ زِدْ ... كَذِي غَدَتْ مُرْضِعَةً طِفْلًا وُلِدْ وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ الْكُوفِيِّينَ: مِنْ أَنَّ أُمَّ الصَّبِيِّ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ، وَالْمُسْتَأْجَرَةَ لِلْإِرْضَاعِ: مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ - بَاطِلٌ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى - الْبَيْتَ، فَقَدْ أَثْبَتَ التَّاءَ لِغَيْرِ الْأُمِّ، وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَيْضًا: إِنَّ الْوَصْفَ الْمُخْتَصَّ بِالْأُنْثَى لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّاءِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْوَصْفُ الْمُخْتَصُّ بِالْأُنْثَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى فَرْقٍ ; لِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الذَّكَرِ لَهَا فِيهِ - مَرْدُودٌ أَيْضًا، قَالَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الْعَرَبِ: مُرْضِعَةٌ، وَحَائِضَةٌ، وَطَالِقَةٌ. وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، مِنْ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ الْفِعْلُ جِيءَ بِالتَّاءِ، وَإِنْ أُرِيدَ النِّسْبَةُ جُرِّدَ مِنَ التَّاءِ، وَمِنْ مَجِيءِ التَّاءِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُ الْأَعْشَى: أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: (مُرْضِعَةٍ) دُونَ (مُرْضِعٍ) ؟ قُلْتُ: الْمُرْضِعَةُ الَّتِي هِيَ فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ مُلْقِمَةٌ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ. وَالْمُرْضِعُ: الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ، فَقِيلَ: (مُرْضِعَةٍ) ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا: نَزَعَتْهُ عَنْ فِيهِ ; لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّا أَرْضَعَتْ الظَّاهِرُ أَنَّ «مَا» مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: أَرْضَعَتْهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أَيْ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَنْ إِرْضَاعِهَا. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَيُقَوِّي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً تَعَدِّي «وَضَعَ» إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: حَمْلَهَا لَا إِلَى الْمَصْدَرِ. وَقَوْلُهُ: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا؛ أَيْ: كُلُّ صَاحِبَةِ حَمْلٍ تَضَعُ جَنِينَهَا مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالْهَوْلِ، وَالْـ (حَمْلُ) بِالْفَتْحِ: مَا كَانَ فِي بَطْنٍ مِنْ جَنِينٍ، أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ مِنْ ثَمَرٍ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ؛ أَيْ: يُشَبِّهُهُمْ مَنْ رَآهُمْ بِالسُّكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَالْخَوْفُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي صَيَّرَ مَنْ رَآهُمْ يُشَبِّهُهُمْ بِالسُّكَارَى، لِذَهَابِ عُقُولِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، كَمَا يَذْهَبُ عَقْلُ السَّكْرَانِ مِنَ الشَّرَابِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى (بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ سُكَارَى بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْكَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِي الْحَرْفَيْنِ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ سَكْرَانَ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَكْرَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ جَمَعُ سَكِرٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ بِمَعْنَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 السَّكْرَانِ، كَمَا يُجْمَعُ الزَّمِنُ عَلَى الزَّمْنَى، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَكْرَى مُفْرَدٌ، وَهُوَ غَيْرُ صَوَابٍ. وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ يُسَمَّى شَيْئًا ; لِأَنَّهُ وَصَفَ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ بِأَنَّهَا شَيْءٌ فِي حَالِ عَدَمِهَا قَبْلَ وُجُودِهَا. قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ رَدِّهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، هَلْ هِيَ بَعْدَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ نَشُورِهِمْ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، أَوْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ زَلْزَلَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ؟ فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ كَائِنَةٌ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ أَحْوَالِ السَّاعَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: عَلْقَمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ النَّقْلِ، بَلِ الثَّابِتُ مِنَ النَّقْلِ يُؤَيِّدُ خِلَافَهُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ جَاءَ بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مُبَيِّنًا دَلِيلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الزَّلْزَلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي آخِرِ الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلَقَ الصُّورَ، فَأُعْطِيَ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ، شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَنْظُرُ مَتَى يُؤْمَرُ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ: " قَرْنٌ "، قَالَ: وَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: " قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثَ نَفْخَاتٍ، الْأُولَى: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَتُفْزِعُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا فَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [38 \ 15] فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ فَتَكُونُ سَرَابًا، وَتُرَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [79 \ 6 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 - 8] فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ الْمُوبَقَةِ فِي الْبَحْرِ، تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تُكْفَأُ بِأَهْلِهَا، أَوْ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ، تُرَجِّجُهُ الْأَرْوَاحُ، فَتَمِيدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [40 - 33] فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثُمَّ خُسِفَتْ شَمْسُهَا، وَخُسِفَ قَمَرُهَا، وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ " فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ حِينَ يَقُولُ: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [27 \ 87] قَالَ: " أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الْأَحْيَاءِ، أُولَئِكَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّنَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [22] ". انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى. وَابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسُوقَ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ، قَالَ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ خَبَرٌ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. . . إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ، كَمَا سُقْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مُسْتَنَدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ، مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ بِطُولِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مُطَوَّلًا جِدًّا. وَالْغَرَضُ مِنْهُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ كَائِنَةٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُضِيفَتْ إِلَى السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمْتَ ضَعْفَ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا حُجَّةُ أَهْلِ الْقَوْلِ الْآخَرِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ الْمَذْكُورَةَ كَائِنَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، فَهِيَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ فِي التَّفْسِيرِ فِي بَابِ قَوْلِهِ: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ - أُرَاهُ قَالَ - تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا، وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، وَأَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا ". وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين: وقال جرير، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} . انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَفِيهِ تَصْرِيحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تَضَعُ فِيهِ الْحَامِلُ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا آخِرُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا فِي كِتَابِ: الرِّقَاقِ فِي بَابِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَذَلِكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ; وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: " أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ ". انْتَهَى مِنْهُ. وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَقْصُودِ ظَاهِرَةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ، فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: سَبَبًا [18 \ 83 - 84] حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ; وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - فِي بَابِ بَيَانِ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ كَمَا رَأَيْتَ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تَضَعُ فِيهِ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ كَمَا تَرَى، وَذَلِكَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا النَّصُّ فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ لَا تَحْمِلُ الْإِنَاثُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا مِنَ الْفَزَعِ، وَلَا تُرْضِعَ حَتَّى تَذْهَلَ عَمَّا أَرْضَعَتْ. فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا تُبْعَثُ حَامِلًا، فَتَضَعُ حَمْلَهَا مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ، وَمَنْ مَاتَتْ مُرْضِعَةً بُعِثَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [73 \ 17] وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا يَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ، فَمَا مَعْنَاهَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: شِدَّةُ الْخَوْفِ وَالْهَوْلِ وَالْفَزَعِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى زِلْزَالًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا وَقَعَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ مِنَ الْخَوْفِ: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [33 \ 10 - 11] ؛ أَيْ: وَهُوَ زِلْزَالُ فَزَعٍ وَخَوْفٍ، لَا زِلْزَالُ حَرَكَةِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِظَمَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوجِبٌ وَاضِحٌ لِلِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْهَوْلِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَبْلَ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ ; لِمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ إِنَّ الْمُشَدَّدَةَ الْمَكْسُورَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، وَمَسْلَكِ النَّصِّ الظَّاهِرِ؛ أَيْ: اتَّقُوا اللَّهَ ; لِأَنَّ أَمَامَكُمْ أَهْوَالًا عَظِيمَةً، لَا نَجَاةَ مِنْهَا إِلَّا بِتَقْوَاهُ جَلَّ وَعَلَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ بَعْضًا يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ أَيْ: يُخَاصِمُ فِي اللَّهِ بِأَنْ يَنْسِبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، كَالَّذِي يَدَّعِي لَهُ الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَيَقُولُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْيِيَ اللَّهُ الْعِظَامَ الرَّمِيمَ، كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ جَادَلُوا فِي اللَّهِ ذَلِكَ الْجِدَالَ الْبَاطِلَ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ، مِنْ عِلْمٍ عَقْلِيٍّ، وَلَا نَقْلِيٍّ، وَمَعَ جِدَالِهِمْ فِي اللَّهِ ذَلِكَ الْجِدَالَ الْبَاطِلَ يَتَّبِعُونَ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ؛ أَيْ: عَاتٍ طَاغٍ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كُتِبَ عَلَيْهِ [22 \ 3] ؛ أَيْ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ كِتَابَةَ قَدَرٍ وَقَضَاءٍ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ [22 \ 3] ؛ أَيْ: كُلُّ مَنْ صَارَ وَلِيًّا لَهُ؛ أَيْ: لِلشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ؛ أَيْ: النَّارِ الشَّدِيدَةِ الْوَقُودِ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ كَالْكُفَّارِ يُجَادِلُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ أَيْ: يُخَاصِمُ فِيهِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ مِنْ عِلْمٍ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [22 \ 8 - 9] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي لُقْمَانَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [31 \ 20 - 21] فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ لُقْمَانَ هَذِهِ: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَجِّ: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 4] وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [22 \ 3] الْآيَةَ، يَدْخُلُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالذَّمِ: أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ، الْمُتَّبِعِينَ لِلْبَاطِلِ، يَتْرُكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَيَتَّبِعُونَ أَقْوَالَ رُؤَسَاءِ الضَّلَالَةِ الدُّعَاةِ إِلَى الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ، بِقَدْرِ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مُجَادَلَةِ الْكَفَّارِ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 77 - 78] ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ النَّحْلِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [18 \ 56] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [42 \ 16] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [43 \ 58] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [6 \ 25] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَنَّهُ قَدَّرَ وَقَضَى أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الشَّيْطَانَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [35 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [31 \ 21] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [19 \ 45] ، وَقَوْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [24 \ 21] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهَا: أَنَّهُ مَنْ يُجَادِلُ بِعِلْمٍ عَلَى ضَوْءِ هُدَى كِتَابٍ مُنِيرٍ، كَهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ بِتِلْكَ الْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ - أَنَّ ذَلِكَ سَائِغٌ مَحْمُودٌ ; لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ [22 \ 3] أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِعِلْمٍ فَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعٌ لِلشَّيْطَانِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَفْهُومِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هَذِهِ الْآيَةُ بِمَفْهُومِهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُجَادَلَةِ الْحَقَّةِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمُجَادَلَةِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالدَّلَائِلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُجَادَلَةَ مَعَ الْعِلْمِ جَائِزَةٌ، فَالْمُجَادَلَةُ الْبَاطِلَةُ: هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [43 \ 58] وَالْمُجَادَلَةُ الْحَقَّةُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] اهـ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 4] يَعْنِي عَذَابَ النَّارِ، فَالسَّعِيرُ النَّارُ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلَ السَّعِيرِ فَعِيلٌ، بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: سَعَرَ النَّارَ يَسْعَرُهَا، كَمَنَعَ يَمْنَعُ: إِذَا أَوْقَدَهَا، وَكَذَلِكَ سَعَّرَهَا بِالتَّضْعِيفِ، وَعَلَى لُغَةِ التَّضْعِيفِ وَالتَّخْفِيفِ الْقِرَاءَتَانِ السَّبْعِيَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ [81 \ 12] فَقَدْ قَرَأَهُ مِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: سُعِّرَتْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الْعَيْنِ، وَمِمَّا جَرَى مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى نَحْوِ قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ ذَكْوَانَ وَحَفْصٍ، قَوْلُ بَعْضِ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: قَالَتْ لَهُ عُرْسَهُ يَوْمًا لِتُسْمِعَنِي ... مَهْلًا فَإِنَّ لَنَا فِي أُمِّنَا أَرَبَا وَلَوْ رَأَتْنِي فِي نَارٍ مُسَعَّرَةٍ ... ثُمَّ اسْتَطَاعَتْ لَزَادَتْ فَوْقَهَا حَطَبَا إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: مُسَعَّرَةٍ: اسْمُ مَفْعُولِ سُعِّرَتْ بِالتَّضْعِيفِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَ السَّعِيرِ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ؛ أَيْ: النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ؛ أَيْ: الْمُوقَدَةُ إِيقَادًا شَدِيدًا ; لِأَنَّهَا بِشِدَّةِ الْإِيقَادِ يَزْدَادُ حَرُّهَا عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ مَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَفِي ذَلِكَ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ أَسْعَرَ النَّارَ. بِصِيغَةِ أَفْعَلَ، بِمَعْنَى: أَوْقَدَهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 4] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى كَمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ، يُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّرِّ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [37 \ 23] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ الْآيَةَ [28 \ 41] لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَدْيِهِ وَإِرْشَادِهِ. وَإِطْلَاقُ الْهُدَى فِي الضَّلَالِ كَمَا ذَكَرْنَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ وَكَلَامُ الْبَلَاغِيِّينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، بِأَنَّ فِيهِ اسْتِعَارَةً عِنَادِيَّةً، وَتَقْسِيمُهُمُ الْعِنَادِيَّةَ إِلَى تَهَكُّمِيَّةٍ وَتَمْلِيحِيَّةٍ مَعْرُوفٌ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [22 \ 3] قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَالْمَرِيدُ وَالْمَارِدُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: الْعَاتِي، تَقُولُ: مَرُدَ الرَّجُلُ - بِالضَّمِّ - يَمْرُدُ، فَهُوَ مَارِدٌ وَمَرِيدٌ: إِذَا كَانَ عَاتِيًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يَشْمَلُ كُلَّ عَاتٍ يَدْعُو إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَيُضِلُّ عَنِ الْهُدَى، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ أَوِ الْإِنْسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِدَالَ الْكَفَّارِ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَدْخُلُ فِيهِ جِدَالُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْيِيَ الْعِظَامَ الرَّمِيمَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ قَرِيبًا. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَقَامَ تَعَالَى الْبَرَاهِينَ الْعَظِيمَةَ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] فَمَنْ أَوَجَدَكُمُ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ، وَخَلَقَكُمْ مِنَ التُّرَابِ لَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِكُمْ، وَخَلْقِكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، بَعْدَ أَنْ بَلِيَتْ عِظَامُكُمْ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وَاخْتَلَطَتْ بِالتُّرَابِ ; لِأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَصْعَبَ مِنِ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، وَهَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ - الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ تَعَالَى لِلْخَلَائِقِ الْمَرَّةَ الْأُولَى - الْمَذْكُورُ هُنَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [17 \ 51] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [50 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [56 \ 62] ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 40] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَلِأَجْلِ قُوَّةِ دَلَالَةِ هَذَا الْبُرْهَانِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْبَعْثِ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ فَهُوَ نَاسٍ لِلْإِيجَادِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [36 \ 78] ، إِذْ لَوْ تَذَكَّرَ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَمَا أَمْكَنَهُ إِنْكَارُ الْإِيجَادِ الثَّانِي، وَكَقَوْلِهِ: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [19 \ 66 - 67] إِذْ لَوْ تَذَكَّرَ ذَلِكَ تَذَكُّرًا حَقِيقِيًّا لَمَا أَنْكَرَ الْخَلْقَ الثَّانِيَ، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [22 \ 5] ؛ أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَمْوَاتَ، فَالرَّيْبُ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الشَّكُّ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ طه: أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى خَلْقِهِ لِلنَّاسِ مِنْ تُرَابٍ، أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْهَا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ، ثُمَّ خَلَقَهُمْ مِنْهُمَا عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59] فَلَمَّا كَانَ أَصْلُهُمُ الْأَوَّلُ مِنْ تُرَابٍ، أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ ; لِأَنَّ الْفُرُوعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي طه أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ تُرَابٍ: أَنَّهُ خَلَقَهُمْ مِنَ النُّطَفِ، وَالنُّطَفُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى التُّرَابِ - غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَطْوَارَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَبَيَّنَ أَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِهِ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 تُرَابٍ كَمَا أَوْضَحْنَا آنِفًا، فَالتُّرَابُ هُوَ الطَّوْرُ الْأَوَّلُ. وَالطَّوْرُ الثَّانِي هُوَ النُّطْفَةُ، وَالنُّطْفَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ: وَمَا عَلَيْكِ إِذَا أَخْبَرْتِنِي دَنِفًا ... وَغَابَ بَعْلُكِ يَوْمًا أَنْ تَعُودِينِي وَتَجْعَلِي نُطْفَةً فِي الْقَعْبِ بَارِدَةً ... وَتَغْمِسِي فَاكِ فِيهَا ثُمَّ تَسْقِينِي فَقَوْلُهُ: وَتَجْعَلِي نُطْفَةً؛ أَيْ: مَاءً قَلِيلًا فِي الْقَعْبِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّطْفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: نُطْفَةُ الْمَنِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ: أَنَّ النُّطْفَةَ مُخْتَلِطَةٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ. الطَّوْرُ الثَّالِثُ: الْعَلَقَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْعَلَقِ، وَهُوَ الدَّمُ الْجَامِدُ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [22 \ 5] ؛ أَيْ قِطْعَةِ دَمٍ جَامِدَةٍ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَلَقِ عَلَى الدَّمِ الْمَذْكُورِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: إِلَيْكَ أَعْمَلْتُهَا فُتْلًا مَرَافِقُهَا ... شَهْرَيْنِ يَجْهُضُ مِنْ أَرْحَامِهَا الْعَلَقُ الطَّوْرُ الرَّابِعُ: الْمُضْغَةُ: وَهِيَ الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ اللَّحْمِ، عَلَى قَدْرِ مَا يَمْضُغُهُ الْآكِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فِي مَعْنَاهُ أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، سَنَذْكُرُهَا هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنُبَيِّنُ مَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ. مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ صِفَةٌ لِلنُّطْفَةِ، وَأَنَّ الْمُخَلَّقَةَ هِيَ مَا كَانَ خَلْقًا سَوِيًّا، وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ هِيَ مَا دَفَعَتْهُ الْأَرْحَامُ مِنَ النُّطَفِ، وَأَلْقَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ خَلْقًا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ الْمُخَلَّقَةَ وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ مِنْ صِفَةِ الْمُضْغَةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَعْنَى (مُخَلَّقَةٍ) تَامَّةٍ، وَ (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أَيْ: غَيْرِ تَامَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ قَائِلِهِ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يَخْلُقُ الْمُضَغَ مُتَفَاوِتَةً، مِنْهَا مَا هُوَ كَامِلُ الْخِلْقَةِ، سَالِمٌ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَيَتْبَعُ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ، وَصُوَرِهِمْ، وَطُولِهِمْ، وَقِصَرِهِمْ، وَتَمَامِهِمْ، وَنُقْصَانِهِمْ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: قَتَادَةُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَعَزَاهُ الرَّازِيُّ لِقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَعْنَى مُخَلَّقَةٍ مُصَوَّرَةٍ إِنْسَانًا، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ؛ أَيْ: غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ إِنْسَانًا كَالسِّقْطِ الَّذِي هُوَ مُضْغَةٌ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ تَخْطِيطٌ وَتَشْكِيلٌ، وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، كَمَا نَقَلَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُخَلَّقَةَ: هِيَ مَا وُلِدَ حَيًّا، وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ: هِيَ مَا كَانَ مِنْ سِقْطٍ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: إِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَفِي غَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ الْبُكَاءُ ... فَأَيْنَ الْحَزْمُ وَيْحَكِ وَالْحَيَاءُ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُخَلَّقَةُ: الْمُصَوَّرَةُ خَلْقًا تَامًّا. وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ: السِّقْطُ قَبْلَ تَمَامِ خَلْقِهِ ; لِأَنَّ الْمُخَلَّقَةَ وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ مِنْ نَعْتِ الْمُضْغَةِ، وَالنُّطْفَةُ بَعْدَ مَصِيرِهَا مُضْغَةً لَمْ يَبْقَ لَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَلْقًا سَوِيًّا إِلَّا التَّصْوِيرُ. وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [22 \ 5] خَلْقًا سَوِيًّا، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ: بِأَنْ تُلْقِيَهِ الْأُمُّ مُضْغَةً بِلَا تَصْوِيرٍ، وَلَا يُنْفَخُ الرُّوحَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، اخْتَارَهُ أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَا يَظْهَرُ صَوَابُهُ، وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ الَّذِي اخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ يَصِيرُ الْمَعْنَى: ثُمَّ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ، وَخَلَقْنَاكُمْ مِنْ مُضْغَةٍ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ. وَخِطَابُ النَّاسِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ بَعْضَهُمْ مِنْ مُضْغَةٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ، فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ كَمَا تَرَى ; فَافْهَمْ. فَإِنْ قِيلَ: فِي نَفْسِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ: السِّقْطُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [22 \ 5] يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هُنَاكَ قِسْمًا آخَرَ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ فِي الْأَرْحَامِ، إِلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى، وَهُوَ السِّقْطُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فَهْمُ السِّقْطِ مِنَ الْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا يَشَاءُ أَنْ يُقِرَّهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَقَدْ يُقِرُّهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَدْ يُقِرُّهُ تِسْعَةً، وَقَدْ يُقِرُّهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ. أَمَّا السِّقْطُ: فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ; لِأَنَّ السِّقْطَ الَّذِي تُلْقِيهِ أُمُّهُ مَيِّتًا، وَلَوْ بَعْدَ التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ، لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِنْهُ إِنْسَانًا وَاحِدًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ. فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 الْمُخَلَّقَةِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ: يُخْلَقُ مِنْهُ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا تَنَاقُضَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَا لِيَتَنَاقَضَ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ. وَهُوَ أَنَّ الْمُخَلَّقَةَ هِيَ التَّامَّةُ، وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ هِيَ غَيْرُ التَّامَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالْمُخَلَّقَةُ الْمُسَوَّاةُ الْمَلْسَاءُ مِنَ النُّقْصَانِ وَالْعَيْبِ، يُقَالُ: خَلَقَ السِّوَاكَ وَالْعُودَ: إِذَا سَوَّاهُ وَمَلَّسَهُ. مِنْ قَوْلِهِمْ: صَخْرَةٌ خَلْقَاءُ: إِذَا كَانَتْ مَلْسَاءَ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ الْمُضَغَ مُتَفَاوِتَةً ; مِنْهَا مَا هُوَ كَامِلُ الْخِلْقَةِ أَمْلَسُ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَيَتْبَعُ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ وَتَمَامِهِمْ وَنُقْصَانِهِمْ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: حَجَرٌ أَخْلَقُ؛ أَيْ: أَمْلَسُ مُصْمَتٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ، وَصَخْرَةٌ خَلْقَاءُ بَيِّنَةُ الْخَلْقِ؛ أَيْ: لَيْسَ فِيهَا وَصْمٌ، وَلَا كَسْرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: قد يَتْرُكُ الدهْرُ في خَلْقَاءَ رَاسِيةٍ ... وَهْيًا ويُنْزِلُ مِنْهَا الْأَعْصَمَ الصَّدَعَا وَ «الدَّهْرُ» فِي الْبَيْتِ فَاعِلُ «يَتْرُكُ» وَالْمَفْعُولُ بِهِ: وَهْيًا. يَعْنِي: أَنَّ صَرْفَ الدَّهْرِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي الْحِجَارَةِ الصُّمِّ السَّالِمَةِ مِنَ الْكَسْرِ وَالْوَصْمِ، فَيَكْسِرُهَا وَيُوهِيهَا، وَيُؤَثِّرُ فِي الْعَصْمِ مِنَ الْأَوْعَالِ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ، فَيُنْزِلُهَا مِنْ مَعَاقِلِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ يَصِفُ فَرَسًا، وَقَدْ أَنْشَدَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ: بِمُقَلِّصٍ دَرْكِ الطَّرِيدَةِ مَتْنُهُ ... كَصَفَا الْخَلِيقةِ بِالْفَضاءِ الْمُلْبِدِ فَقَوْلُهُ: كَصَفَا الْخَلِيقَةِ، يَعْنِي: أَنَّ مَتْنَ الْفَرَسِ الْمَذْكُورِ كَالصَّخْرَةِ الْمَلْسَاءِ الَّتِي لَا كَسْرَ فِيهَا وَلَا وَصْمَ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ. وَالسَّهْمُ الْمُخَلَّقُ: هُوَ الْأَمْلَسُ الْمُسْتَوِي. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ - فِيمَا يَظْهَرُ لِي - لِجَرَيَانِهِ عَلَى اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ؛ أَيْ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بِهَذَا النَّقْلِ مَنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، كَمَالَ قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ تُرَابٍ أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثَانِيًا، مَعَ مَا بَيْنَ النُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ مِنَ الْمُنَافَاةِ وَالْمُغَايَرَةِ، وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النُّطْفَةَ عَلَقَةً، مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ وَالتَّغَايُرِ، وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، وَالْمُضْغَةَ عِظَامًا، فَهُوَ قَادِرٌ بِلَا شَكٍّ عَلَى إِعَادَةِ مَا بَدَأَهُ مِنَ الْخَلْقِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ: لِنُبَيِّنَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ «خَلَقْنَاكُمْ» فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ؛ أَيْ: خَلَقْنَاكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ عَلَى التَّدْرِيجِ الْمَذْكُورِ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ قُدْرَتَنَا عَلَى الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُبَيِّنًا نُكْتَةَ حَذْفِ مَفْعُولِ «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ» مَا نَصُّهُ: وَوُرُودُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُعَدًّى إِلَى الْمُبَيَّنِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ هَذِهِ يَتَبَيَّنُ بِهَا مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ مَا لَا يَكْتَنِهُهُ الذِّكْرُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [22 \ 5] ؛ أَيْ: نُقِرُّ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ مَا نَشَاءُ إِقْرَارَهُ فِيهَا مِنَ الْأَحْمَالِ وَالْأَجِنَّةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى؛ أَيْ: مَعْلُومٍ مُعَيَّنٍ فِي عِلْمِنَا، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِوَضْعِ الْجَنِينِ، وَالْأَجِنَّةُ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، فَتَارَةً تَضَعُهُ أُمُّهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَتَارَةً لِتِسْعَةٍ، وَتَارَةً لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ إِقْرَارَهُ مِنَ الْحَمْلِ مَجَّتْهُ الْأَرْحَامُ وَأَسْقَطَتْهُ، وَوَجْهُ رَفْعِ «وَنُقِرُّ» أَنَّ الْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى قَوْلِهِ: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةً لِمَا قَبْلَهُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ: خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، لِنُقِرَّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ لَكَ رَفْعُهُ، وَعَدَمُ نَصْبِهِ، وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَنُقِرُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى: لِنُبَيِّنَ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي نَفَيْنَاهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَيُؤَيِّدُ مَعْنَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا؛ أَيْ: وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْمُضْغَةَ عِظَامًا، ثُمَّ يَكْسُو الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ يُنْشِئُ ذَلِكَ الْجَنِينَ خَلْقًا آخَرَ، فَيُخْرِجُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِوَضْعِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِفْلًا؛ أَيْ: وَلَدًا بَشَرًا سَوِيًّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ؛ أَيْ: لِتَبْلُغُوا كَمَالَ قُوَّتِكُمْ وَعَقْلِكُمْ وَتَمْيِيزِكُمْ بَعْدَ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَعَدَمِ عِلْمِ شَيْءٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْأَشُدِّ، وَهَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى [22 \ 5] ؛ أَيْ: وَمِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ؛ أَيْ: مِنْ قَبْلِ بُلُوغِهِ أَشُدَّهُ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُنْسَأُ لَهُ فِي أَجَلِهِ، فَيُعَمَّرُ حَتَّى يَهْرَمَ فَيُرَدُّ مِنْ بَعْدِ شَبَابِهِ وَبُلُوغِهِ غَايَةَ أَشُدِّهِ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَهُوَ الْهِرَمُ، حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ فِي حَالِ صِبَاهُ مِنَ الضَّعْفِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمَعْنَى: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، بِنَقْلِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ إِلَى آخِرِ الْأَطْوَارِ الْمَذْكُورَةِ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مُبَيِّنًا أَنَّهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، عَلَى الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ. فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِتِلْكَ الْأَطْوَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [70 \ 39] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [71 \ 13 - 14] ؛ أَيْ: طَوْرًا بَعْدَ طَوْرٍ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [39 \ 6] ، وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الزُّمَرِ هَذِهِ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ؛ أَيْ: ظُلْمَةِ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةِ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةِ الْمَشِيمَةِ. فَقَدْ رَكَّبَ تَعَالَى عِظَامَ الْإِنْسَانِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَكَسَاهَا اللَّحْمَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ، وَفَتَحَ مَجَارِيَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَفَتَحَ الْعُيُونَ وَالْآذَانَ وَالْأَفْوَاهَ وَفَرَّقَ الْأَصَابِعَ وَشَدَّ رُءُوسَهَا بِالْأَظْفَارِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ، وَكُلُّ هَذَا فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى شَقِّ بَطْنِ أُمِّهِ وَإِزَالَةِ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ. سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتَهُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَاهُ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ مِنْ صُنْعِهِ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [39 \ 6] وَمِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 الْآيَاتِ الَّتِي أَوْضَحَ فِيهَا تِلْكَ الْأَطْوَارَ عَلَى التَّفْصِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [23 \ 12 - 16] وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ الْأَطْوَارَ مَعَ حَذْفِ بَعْضِهَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنْ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكَهْفِ: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [37 \] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [36 \ 77] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [76 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [96 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ [20 \ 55] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْقَدْرَ الَّذِي تَمْكُثُهُ النُّطْفَةُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ عَلَقَةً، وَالْقَدْرَ الَّذِي تَمْكُثُهُ الْعَلَقَةُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مُضْغَةً، وَالْقَدْرَ الَّذِي تَمْكُثُهُ الْمُضْغَةُ مُضْغَةً. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ (ح) ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ قَالُوا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ» ، الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَصْرِيحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْجَنِينَ يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً، وَيَمْكُثُ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً، وَيَمْكُثُ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَنَفْخُ الرُّوحِ إذًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الْخَامِسِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَمْلِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشِقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ» الْحَدِيثَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي الْبُخَارِيِّ يَنْقُصُ مِنْهَا ذِكْرُ الْعَمَلِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ صَحِيحَةٍ مَعْرُوفَةٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ الدَّلَالَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [22 \ 5] مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى نُخْرِجُكُمْ أَطْفَالًا. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ. مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ قَالَ: وَوَحَّدَ الطِّفْلَ وَهُوَ صِفَةٌ لِلْجَمْعِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ عَدْلٍ وَزُورٍ، وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا؛ أَيْ: نُخْرِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ طِفْلًا، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنِ اسْتِقْرَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، هُوَ أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِهَا أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ يَكْثُرُ إِطْلَاقُهُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ مَعَ تَنْكِيرِهِ - كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ - وَتَعْرِيفِهِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَبِالْإِضَافَةِ ; فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ التَّنْكِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [54 \ 54] ؛ أَيْ: وَأَنْهَارٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَقَوْلِهِ: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا الْآيَةَ [25 \ 74] ؛ أَيْ: أَئِمَّةً، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا الْآيَةَ [4 \ 4] ؛ أَيْ: أَنْفُسًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [23 \ 67] ؛ أَيْ: سَامِرِينَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [2 \ 136] ؛ أَيْ: بَيْنَهُمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [4 \ 69] ؛ أَيْ: رُفَقَاءَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [5 \ 6] ؛ أَيْ: جُنُبَيْنِ أَوْ أَجْنَابًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [66 \ 4] ؛ أَيْ: مُظَاهِرُونَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَعَ التَّنْكِيرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَقِيلِ بْنِ عَلَفَةَ الْمُرِّيِّ: وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمِّ ... وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الْأَخِينَا يَعْنِي: شَرَّ أَعْمَامٍ. وَقَوْلُ قَعْنَبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ: مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ ثُمَّ لَيْسَ لَهُمْ ... دِينٌ وَلَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ إِذَا ائْتُمِنُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 يَعْنِي: مَا بَالُ قَوْمٍ أَصْدِقَاءٍ. وَقَوْلُ جَرِيرٍ: نَصَبْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا ... بِأَعْيُنِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صَدِيقُ يَعْنِي: صَدِيقَاتٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: لَعَمْرِي لَئِنْ كُنْتُمْ عَلَى النَّأْيِ وَالنَّوَى ... بِكُمْ مِثْلُ مَا بِي إِنَّكُمْ لَصَدِيقُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا عَاذِلَاتِي لَا تَزِدْنَ مُلَامَةً ... إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَيْسَ لِي بِأَمِيرِ ؛ أَيْ: لَسْنَ بِأُمَرَاءَ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ وَاللَّفْظُ مُضَافٌ، قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [24 \ 61] ؛ أَيْ: أَصْدِقَائِكُمْ. وَقَوْلُهُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [24 \ 63] ؛ أَيْ: أَوَامِرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [14 \ 34] أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي [15 \ 68] ؛ أَيْ: أَضْيَافِي. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ التَّمِيمِيِّ: بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ ؛ أَيْ: وَأَمَّا جُلُودُهَا فَصَلِيبَةٌ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمُ زَمَنٌ خَمِيصُ ؛ أَيْ: بُطُونِكُمْ. وَهَذَا الْبَيْتُ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنْشَدَهُمَا سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مُسْتَشْهِدًا بِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ: فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمُ ... وَقَدْ سَلِمَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ ؛ أَيْ: إِنَّا إِخْوَانُكُمْ. وَقَوْلُ جَرِيرٍ: إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ ؛ أَيْ: إِذَا آبَاؤُنَا وَآبَاؤُكَ عُدُّوا، وَهَذَا الْبَيْتُ وَالَّذِي قَبْلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا جَمْعُ التَّصْحِيحِ لِلْأَبِ وَلِلْأَخِ، فَيَكُونُ الْأَصْلُ: أُبُونَ وَأُخُونَ، فَحُذِفَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، فَصَارَ كَلَفْظِ الْمُفْرَدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 وَمِنْ أَمْثِلَةِ جَمْعِ التَّصْحِيحِ فِي جَمْعِ الْأَخِ: بَيْتُ عَقِيلِ بْنِ عَلَفَةَ الْمَذْكُورُ آنِفًا، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: كَشَّرَ بَنِي الْأَخِينَا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَصْحِيحِ جَمْعِ الْأَبِ: قَوْلُ الْآخَرِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَيْنَنَا بِالْأَبِينَا وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ - وَاللَّفْظُ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [3 \ 119] ؛ أَيْ: بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ الْآيَةَ [2 \ 285] ، وَقَوْلِهِ: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [42 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [25 \ 75] ؛ أَيْ: الْغُرَفَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ [39 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [34 \ 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] ؛ أَيْ: الْمَلَائِكَةُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [2 \ 210] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [54 \ 45] ؛ أَيْ: الْأَدْبَارَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ [8 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [24 \ 31] ؛ أَيْ: الْأَطْفَالِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [63 \ 4] ؛ أَيْ: الْأَعْدَاءُ، وَنَحْوَ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ فِي النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ مُطَّرِدٌ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرٍ: مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ تَقُلْ سَرَاوَاتُهُمْ ... هُمْ بَيْنَنَا هُمْ رِضًا وَهُمْ عَدْلُ ؛ أَيْ: عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا مَجَّتِ الرَّحِمُ النُّطْفَةَ فِي طَوْرِهَا الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ عَلَقَةً، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ إِسْقَاطِ الْحَمْلِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا سَقَطَتِ النُّطْفَةُ فِي طَوْرِهَا الثَّانِي، أَعْنِي فِي حَالِ كَوْنِهَا عَلَقَةً؛ أَيْ: قِطْعَةً جَامِدَةً مِنَ الدَّمِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ تِلْكَ الْعَلَقَةَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَلَا تُغَسَّلُ، وَلَا تُكَفَّنُ، وَلَا تُوَرَّثُ. وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي أَحْكَامٍ أُخَرَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَحْكَامِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 مِنْهَا: مَا إِذَا كَانَ سُقُوطُهَا بِسَبَبِ ضَرْبِ إِنْسَانٍ بَطْنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَلْقَتْهَا، هَلْ تَجِبُ فِيهَا غُرَّةٌ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ مَنْ ضَرَبَ بَطْنَ حَامِلٍ، فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا عَلَقَةً فَهُوَ ضَامِنٌ دِيَةَ الْعَلَقَةِ ضَمَانَ الْجَنِينِ، فَتَلْزَمُهُ غُرَّةٌ، أَوْ عُشْرُ دِيَةِ الْأُمِّ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا عُلِمَ أَنَّهُ حَمْلٌ، وَإِنْ كَانَ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ مُصَوَّرًا. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْجَنِينَ لَا ضَمَانَ فِيهِ حَتَّى تَظْهَرَ فِيهِ صُورَةُ الْآدَمِيِّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَظُهُورُ بَعْضِ الصُّورَةِ كَظُهُورِ كُلِّهَا فِي الْأَظْهَرِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ حَمْلٌ حَتَّى يُصَوَّرَ، وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: الْحَمْلُ تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ فِي حَالِ الْعَلَقَةِ فَمَا بَعْدَهَا، فَاخْتِلَافُهُمْ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. وَمِنْهَا: مَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ، وَكَانَتْ حَامِلًا، فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا عَلَقَةً، هَلْ تَنْقَضِي بِذَلِكَ عِدَّتُهَا أَوْ لَا؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِإِسْقَاطِ الْعَلَقَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ الْعَلَقَةَ الْمَذْكُورَةَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا حَمْلٌ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: لَا يَرْتَبِطُ بِالْجَنِينِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَلَّقًا - يَعْنِي مُصَوَّرًا - وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَغَيْرُهُمْ: إِلَى أَنَّ وَضْعَ الْعَلَقَةِ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، قَالُوا: لِأَنَّهَا دَمٌ جَامِدٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ جَنِينًا. وَمِنْهَا: مَا إِذَا أَلْقَتِ الْعَلَقَةَ الْمَذْكُورَةَ أَمَةٌ هِيَ سُرِّيَّةٌ لِسَيِّدِهَا، هَلْ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ بِوَضْعِ تِلْكَ الْعَلَقَةِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِوَضْعِ تِلْكَ الْعَلَقَةِ ; لِأَنَّ الْعَلَقَةَ مَبْدَأُ جَنِينٍ، وَلِأَنَّ النُّطْفَةَ لَمَّا صَارَتْ عَلَقَةً صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا خُلِقَتْ عَلَقَةً، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نُطْفَةً، فَدَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [39 \ 6] فَيَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا وَضَعَتْ جَنِينًا مِنْ سَيِّدِهَا، فَتَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ بِوَضْعِهَا الْعَلَقَةَ الْمَذْكُورَةَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَوْجِيهَهُمْ لِذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا أَسْقَطَتِ الْمَرْأَةُ النُّطْفَةَ فِي طَوْرِهَا الثَّالِثِ - أَعْنِي كَوْنَهَا مُضْغَةً؛ أَيْ قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ - فَلِذَلِكَ أَرْبَعُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ فِي تِلْكَ الْمُضْغَةِ شَيْءٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالرَّأْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَلْزَمُ فِيهِ الْغُرَّةُ، وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْمُضْغَةُ الْمَذْكُورَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ شَهِدَتْ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِلِ أَنَّهُنَّ اطَّلَعْنَ فِيهَا عَلَى تَخْطِيطٍ وَتَصْوِيرٍ خَفِيٍّ، وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَنَّ حُكْمَهَا كَحُكْمِ الَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّ تِلْكَ الْمُضْغَةَ جَنَيْنٌ لِمَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ فِيهَا مِنَ الصُّورَةِ الْخَفِيَّةِ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمُضْغَةُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَ فِيهَا تَخْطِيطٌ وَلَا تَصْوِيرٌ ظَاهِرٌ وَلَا خَفِيٌّ، وَلَكِنْ شَهِدَتْ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِلِ أَنَّهَا مَبْدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ ; فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِهَا، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ الْمُسْقِطِ لَهَا الْغُرَّةُ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخَرَقِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْأَثْرَمُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ، وَسَائِرِ مَنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْآدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْمُضْغَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَتَجِبُ فِيهَا الْغُرَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِلِ الْعَارِفَاتِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْمُضْغَةَ مَبْدَأُ جَنِينٍ، وَأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ لَتَخَلَّقَتْ إِنْسَانًا - أَنَّهَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ بِهَا الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، وَتَجِبُ بِهَا الْغُرَّةُ عَلَى الْجَانِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمُضْغَةُ لَيْسَ فِيهَا تَصْوِيرٌ ظَاهِرٌ وَلَا خَفِيٌّ، وَلَمْ تَشْهَدِ الْقَوَابِلُ بِأَنَّهَا مَبْدَأُ إِنْسَانٍ، فَحُكْمَ هَذِهِ كَحُكْمِ الْعَلَقَةِ: وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا مُسْتَوْفًى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا أَسْقَطَتِ الْمَرْأَةُ جَنِينَهَا مَيِّتًا بَعْدَ أَنْ كَمُلَتْ فِيهِ صُورَةُ الْآدَمِيِّ، فَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِوَضْعِهِ، وَكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَوُجُوبِ الْغُرَّةِ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَغُسْلِهُ وَتَكْفِينِهِ. فَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُحَنَّطُ، وَلَا يُسَمَّى، وَلَا يُوَرَّثُ، وَلَا يَرِثَ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا، وَلَا عِبْرَةَ بِعُطَاسِهِ، وَرَضَاعِهِ وَبَوْلَهُ، فَلَوْ عَطَسَ أَوْ رَضَعَ أَوْ بَالَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: رَضَاعُهُ تَتَحَقَّقُ بِهِ حَيَاتُهُ فَتَجِبُ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَحْكَامِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ، وَلَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرَ أَنْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا، فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى أَنْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا غُسِلَ دَمُهُ، وَلُفَّ بِخِرْقَةٍ، وَوُورِيَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا أَوْ تَحَرَّكَ حَرَكَةً تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ ثُمَّ مَاتَ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَوَرِثَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُلَفُّ بِخِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْأُمِّ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ التَّابِعِيِّ، وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِسْحَاقُ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، أَمَّا إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: اعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ ; لِأَنَّ مَنَاطَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ تَقَدَّمَتْ لَهُ حَيَاةٌ. وَمَنَاطُ عَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ تَتَقَدَّمْ لَهُ حَيَاةٌ، فَمَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ رَأَوْا أَنَّهُ إِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا، أَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ حَيًّا، عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ حَيَاةٍ، فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مُطْلَقَ الْحَرَكَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ ; لِأَنَّ الْمَذْبُوحَ قَدْ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً قَوِيَّةً، وَقَالُوا: إِنَّهُ إِنْ رَضَعَ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى حَيَاتِهِ. قَالُوا: قَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَعَنَهُ عَدُوُّ اللَّهِ مَعْدُودًا فِي الْأَمْوَاتِ لَوْ مَاتَ لَهُ مُورِّثٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا وَرِثَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَا قُتِلَ بِهِ ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 عُمْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَكَلَّمُ وَيَعْهَدُ. وَالَّذِينَ خَالَفُوا هَؤُلَاءِ قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَكُلُّ حَرَكَةٍ قَوِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ، وَعُمَرُ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَى الْحَرَكَةِ الْقَوِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَيَاةِ، فَهُوَ حَيٌّ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: يُغَسَّلُ إِنْ سَقَطَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ نَحْوَ مَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَانْتِهَاءُ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ هُوَ انْتِهَاءُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، وَنَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْحِينِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ حَيَاةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. هَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ آخَرُ عَلَى الْبَعْثِ: وَقَوْلُهُ: وَتَرَى [22 \ 5] ؛ أَيْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ. وَقِيلَ: وَتَرَى أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمُخَاطَبُ، وَهِيَ رُؤْيَةٌ بَصَرِيَّةٌ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. فَقَوْلُهُ: هَامِدَةً حَالٌ مِنَ الْأَرْضِ، لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِـ «تَرَى» وَقَوْلُهُ: «هَامِدَةً» أَيْ: يَابِسَةً قَاحِلَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «هَامِدَةً» أَيْ: دَارِسَةَ الْآثَارَ مِنَ النَّبَاتِ وَالزَّرْعِ. قَالُوا: وَأَصْلُ الْهُمُودِ الدُّرُوسُ وَالدُّثُورُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونِ بْنِ قَيْسٍ: قَالَتْ قَتِيلَةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِبًا ... وَأَرَى ثِيَابَكَ بَالِيَاتٍ هُمَّدَا ؛ أَيْ: وَأَرَى ثِيَابَكَ بَالِيَاتٍ دَارِسَاتٍ. فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ [22 \ 5] ؛ أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمَطَرِ، أَوِ الْأَنْهَارِ أَوِ الْعُيُونِ أَوِ السَّوَانِي: اهْتَزَّتْ؛ أَيْ: تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ. وَلَمَّا كَانَ النَّبَاتُ نَابِتًا فِيهَا مُتَّصِلًا بِهَا، كَانَ اهْتِزَازُهُ كَأَنَّهُ اهْتِزَازُهَا، فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَنَّهَا اهْتَزَّتْ بِالنَّبَاتِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَاهْتِزَازُهَا تَخَلْخُلُهَا وَاضْطِرَابُ بَعْضِ أَجْسَامِهَا لِأَجْلِ خُرُوجِ النَّبَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَرَبَتْ؛ أَيْ: زَادَتْ وَارْتَفَعَتْ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَرَبَتْ: انْتَفَخَتْ لِأَجْلِ خُرُوجِ النَّبَاتِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَرَبَتْ؛ أَيْ: أَضْعَفَتِ النَّبَاتَ بِمَجِيءِ الْغَيْثِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَصْلُ الْمَادَّةِ الَّتِي مِنْهَا رَبَتْ: الزِّيَادَةُ، وَالظَّاهِرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 أَنَّ مَعْنَى الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْأَرْضِ هِيَ أَنَّ النَّبَاتَ لَمَّا كَانَ نَابِتًا فِيهَا مُتَّصِلًا بِهَا صَارَ كَأَنَّهُ زِيَادَةٌ حَصَلَتْ فِي نَفْسِ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالِاهْتِزَازُ: الْحَرَكَةُ عَلَى سُرُورٍ، فَلَا يَكَادُ يُقَالُ: اهْتَزَّ فُلَانٌ لَكَيْتَ وَكَيْتَ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَنَافِعِ. اهـ مِنْهُ. وَالِاهْتِزَازُ أَصْلُهُ: شِدَّةُ الْحَرَكَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: تَثَنَّى إِذَا قَامَتْ وَتَهْتَزُّ إِنْ مَشَتْ كَمَا اهْتَزَّ غُصْنُ الْبَانِ فِي وَرَقٍ خُضْرِ وَقَوْلُهُ: وَأَنْبَتَتْ؛ أَيْ: أَنْبَتَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ؛ أَيْ: صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ وَالزَّرْعِ، وَالثِّمَارِ: بَهِيجٍ؛ أَيْ: حَسَنٍ، وَالْبَهْجَةُ: الْحُسْنُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ تَقُولُ: بَهُجَ بِالضَّمِّ بَهَاجَةً فَهُوَ بَهِيجٌ: إِذَا كَانَ حَسَنًا، وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ: وَرَبَتْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَا يَرْبُو: إِذَا نَمَا وَزَادَ، وَقَرَأَ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعُ: وَرَبَأَتْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ؛ أَيِ ارْتَفَعَتْ، كَأَنَّهُ مِنَ الرَّبِيئَةِ أَوِ الرَّبِيئِيِّ، وَهُوَ الرَّقِيبُ الَّذِي يَعْلُو عَلَى شَيْءٍ مُشْرِفٍ يَحْرُسُ الْقَوْمَ وَيَحْفَظُهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: بَعَثْنَا رَبِيئًا قَبْلَ ذَاكَ مُخَمَّلًا ... كَذِئْبِ الْغَضَا يَمْشِي الضَّرَاءَ وَيَتَّقِي وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى إِحْيَاءِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ إِحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتٍ، وَإِيجَادٌ بَعْدَ عَدَمٍ بَيَّنَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ كَثْرَةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْبُرْهَانِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْبَعْثِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [41 \ 39] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [30 \ 19] ؛ أَيْ: مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [50 \ 11] ؛ أَيْ: خُرُوجُكُمْ مِنَ الْقُبُورِ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 \ 57] ، وَقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [30 \ 50] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 [35 \ 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [43 \ 11] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [22 \ 5] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22 \ 6 - 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي هِيَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [22 \ 3] نَازِلَةٌ فِي الْأَتْبَاعِ الْجَهَلَةِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ فِي الرُّؤَسَاءِ الدُّعَاةِ إِلَى الضَّلَالِ الْمَتْبُوعِينَ فِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْأُولَى: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ [22 \ 3] وَقَالَ فِي هَذِهِ: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [22 \ 9] فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُضِلٌّ لِغَيْرِهِ، مَتْبُوعٌ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِضَمِّ يَاءِ «يُضِلُّ» وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى جِدَالِ الْكَفَرَةِ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ [22 \ 8] ؛ أَيْ: بِدُونِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ، حَاصِلٍ لَهُمْ بِمَا يُجَادِلُونَ بِهِ وَلَا هُدًى؛ أَيْ اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ عَقْلِيٍّ، يَهْتَدِي بِهِ الْعَقْلُ لِلصَّوَابِ وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ؛ أَيْ: وَحْيٍ نَيِّرٍ وَاضِحٍ، يَعْلَمُ بِهِ مَا يُجَادِلُ بِهِ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَلَا عِلْمٌ مِنْ وَحْيٍ، فَهُوَ جَاهِلٌ مَحْضٌ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَقَوْلُهُ: ثَانِيَ عِطْفِهِ [22 \ 9] حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يُجَادِلُ؛ أَيْ: يُخَاصِمُ بِالْبَاطِلِ فِي حَالِ كَوْنِهِ ثَانِيَ عِطْفِهِ؛ أَيْ: لَاوِي عُنُقِهِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ اسْتِكْبَارًا وَإِعْرَاضًا. فَقَوْلُهُ: (ثَانِيَ) اسْمُ فَاعِلِ ثَنَى الشَّيْءَ: إِذَا لَوَاهُ، وَأَصْلُ الْعِطْفِ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ مِنْ لَدُنْ رَأْسِهِ إِلَى وِرْكَيْهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ثَنَى فُلَانٌ عَنْكَ عِطْفَهُ، تَعْنِي أَعْرَضَ عَنْكَ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْعُلَمَاءُ هُنَا بِالْعُنُقِ فَقَالُوا: ثَانِيَ عِطْفِهِ: لَاوِي عُنُقِهِ، مَعَ أَنَّ الْعِطْفَ يَشْمَلُ الْعُنُقَ وَغَيْرَهَا ; لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ الصُّدُودُ عُنُقُ الْإِنْسَانِ، يَلْوِيهَا وَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَيِّهَا. وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [22 \ 9] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ مِمَّا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَامُ الْعَاقِبَةِ، وَالْبَلَاغِيُّونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، فِي مَعْنَى الْحَرْفِ. وَقَدْ وَعَدْنَا بِإِيضَاحِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَنَقُولُ هُنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا، وَأَنَّ اللَّامَ فِي الْجَمِيعِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ عَلَى الْكَافِرِ فِي أَزَلِهِ أَنْ يُجَادِلَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي حَالِ كَوْنِهِ لَاوِيَ عُنُقِهِ إِعْرَاضًا عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتِكْبَارًا. وَقَدْ قَدَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ ضَالًّا مُضِلًّا. وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ؛ أَيْ: لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ. وَكَذَلِكَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الْآيَةَ [28 \ 8] ؛ أَيْ: قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلْتَقِطُوهُ ; لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا تَرَى. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِعْرَاضِ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتِكْبَارِهِمْ أَوْضَحَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [31 \ 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [63 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [4 \ 61] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ [31 \ 18] ؛ أَيْ: لَا تُمِلْ وَجْهَكَ عَنْهُمُ اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ [51 \ 38 - 39] فَقَوْلُهُ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ بِمَعْنَى: ثَنَى عِطْفَهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ الْآيَةَ [17 \ 83] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [22 \ 9] ؛ أَيْ: ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ. وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ جَادَلُوا فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عَلَمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ; كَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ ثَنَى عِطْفَهُ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضًا عَنْهُ عَامَلَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَأَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَذَلِكَ الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ نَقِيضُ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعَظَمَةِ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [40 \ 56] ، وَقَوْلِهِ فِي إِبْلِيسَ لَمَّا اسْتَكْبَرَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [7 \ 13] وَالصَّغَارُ: الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَقَوْلِهِ: وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [22 \ 9] ؛ أَيْ: نَحْرِقُهُ بِالنَّارِ، وَنُذِيقُهُ أَلَمَ حَرِّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [83 \ 4 - 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُذِيقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ، يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ؛ أَيْ: هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي نُذِيقُكَهُ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ؛ أَيْ: قَدَّمَتْهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [22 \ 10] فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 30] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ «أَنَّ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [22 \ 10] فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى (مَا) الْمَجْرُورَةِ بِالْبَاءِ. وَالْمَعْنَى: هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي يُذِيقُكَهُ اللَّهُ حَصَلَ لَكَ بِسَبَبَيْنِ، وَهُمَا: مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَعَدَالَةُ مَنْ جَازَاكَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الْوِفَاقَ، وَعَدَمُ ظُلْمِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ الْمَعْرُوفِ فِي نَفْيِ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِظَلَّامٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّا أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ سَابِقًا، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ النَّفْيَ إِذَا دَخَلَ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَقْتَضِ نَفْيَ أَصْلِ الْفِعْلِ. فَلَوْ قُلْتَ: لَيْسَ زَيْدٌ بِظَلَّامٍ لِلنَّاسِ، فَمَعْنَاهُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ غَيْرُ مُبَالِغٍ فِي الظُّلْمِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حُصُولَ مُطْلَقِ الظُّلْمِ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَسْنَدَ كُلَّ مَا قَدَّمَ إِلَى يَدَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَكُفْرُهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ ذُنُوبِهِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْبَطْشِ بِالْيَدِ يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ فِي اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْيَدِ. وَزِنَاهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِيَدِهِ، بَلْ بِفَرْجِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُزَاوَلُ بِغَيْرِ الْيَدِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا ظَاهِرٌ: وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ إِسْنَادُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْيَدِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا الْجَارِحَةُ الَّتِي يُزَاوِلُ بِهَا أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ فَغَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ مَعَ أَنَّ الْعَذَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْهُ حَاضِرٌ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: وَضْعُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ مَوْضِعَ إِشَارَةِ الْقُرْبِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ الْآيَةَ [2 \ 1 - 2] ؛ أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ. وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ: فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكَا أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا يَعْنِي: أَنَا هَذَا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ الْآيَةَ، لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ وَإِهَانَةٌ لَهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [44 \ 47 - 50] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [52 \ 13 - 16] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ [22 \ 12] رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [22 \ 11] ؛ أَيْ: يَدْعُو ذَلِكَ الْكَافِرُ الْمَذْكُورُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مَا لَا يَضُرُّهُ، إِنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ وَكَفَرَ بِهِ، وَمَا لَا يَنْفَعُهُ إِنْ عَبَدَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا، وَلَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [10 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [26 \ 72 - 74] . إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، وَلَكِنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. تَنْبِيهٌ فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِهِ تَعَالَى النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَعْبُودِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ [22 \ 12] مَعَ إِثْبَاتِهِمَا فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: «أَقْرَبُ» دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَفْعًا وَضَرًّا، وَلَكِنَّ الضَّرَّ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ: مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: الضَّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ، مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. قُلْتُ: إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَفَّهُ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ أَنَّهُ يَسْتَنْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [22 \ 13] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قَالَ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ لِمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا: لَبِئْسَ الْمَوْلَى، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرِ. اهـ مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَوَابَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا غَيْرُ مُقْنِعٍ ; لِأَنَّ الْمَعْبُودَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ الْبَتَّةَ، حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: إِنَّ ضَرَّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو حَيَّانَ عَدَمَ اتِّجَاهِ جَوَابِهِ الْمَذْكُورِ. وَمِنْهَا: مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْآيَةَ الْأَوْلَى فِي الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَالْأَصْنَامُ لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَلَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا؛ وَلِذَا قَالَ فِيهَا: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَصْنَامُ، هِيَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظَةِ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ [22 \ 12] لِأَنَّ لَفْظَةَ «مَا» تَأْتِي لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ. أَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي مَنْ عَبَدَ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفِرْعَوْنَ الْقَائِلِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 \ 38] ، لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 \ 29] ، أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 24] ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ قَدْ يُغْدِقُونَ نِعَمَ الدُّنْيَا عَلَى عَابِدِيهِمْ؛ وَلِذَا قَالَ لَهُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [26 \ 41 - 42] فَهَذَا النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَيُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ كَلَا شَيْءٍ، فَضَرُّ هَذَا الْمَعْبُودِ بِخُلُودِ عَابِدِهِ فِي النَّارِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ زَائِلٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْضُ الطُّغَاةِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ هِيَ التَّعْبِيرُ بِـ «مَنْ» الَّتِي تَأْتِي لِمَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ جَوَابِ أَبِي حَيَّانَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] فِيهَا إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ. ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْهَا ثَلَاثَةً: أحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ مُتَزَحْلِقَةٌ عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَالْأَصْلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَعَلَى هَذَا فَـ «مَنْ» الْمَوْصُولَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ لِـ «يَدْعُو» وَاللَّامُ مُوطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُبْتَدَإِ، الَّذِي هُوَ وَخَبَرُهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَتَأْكِيدُ الْمُبْتَدَإِ فِي جُمْلَةِ الصِّلَةِ بِاللَّامِ وَغَيْرِهَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: مِنْهَا عِنْدِي لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ أَيْ: عِنْدِي مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَعْطَيْتُكَ لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ أَيْ: مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ. وَالثَّانِي مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يَدْعُو تَأْكِيدٌ لِـ «يَدْعُوَ» فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: لَمَنْ ضَرُّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] صِلَةُ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ «مِنْ» وَالْخَبَرُ هُوَ جُمْلَةُ: لَبِئْسَ الْمَوْلَى. وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَمَا فَعَلْتَ لَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لَمَّا ذَكَّرَ هَذَا الْوَجْهَ: وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ فِي: لَبِئْسَ الْمَوْلَى جَوَابُ اللَّامِ الْأُولَى: قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَصَحُّ، وَالْأَوَّلُ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَقْرَبُ. اهـ. وَالثَّالِثُ مِنْهَا أَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «يَدْعُو» وَأَنَّ اللَّامَ دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَقَدْ عَزَا هَذَا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ مَعَ نَقْلِهِ عَمَّنْ عَزَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ شَاذٌّ. وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَرَ مِنْهُ نَفْعًا أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] تَرْفِيعًا لِلْكَلَامِ: كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [34 \ 24] وَبَاقِي الْأَقْوَالِ فِي اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ تَرَكْنَاهُ، لِعَدَمِ اتِّجَاهِهِ فِي نَظَرِنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَبِئْسَ الْمَوْلَى الْمَوْلَى: هُوَ كُلُّ مَا انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ، يُوَالِيكَ وَتُوَالِيهِ بِهِ. وَالْعَشِيرُ: هُوَ الْمُعَاشِرُ، وَهُوَ الصَّاحِبُ وَالْخَلِيلُ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْلَى وَالْعَشِيرِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ. وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [22 \ 12] ؛ أَيْ: الْبَعِيدُ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُهَا يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ قُرْآنٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مِنَ الْكَفَرَةِ الْحَسَدَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ [22 \ 15] ؛ أَيْ: بِحَبْلٍ إِلَى السَّمَاءِ؛ أَيْ سَمَاءِ بَيْتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّقْفُ: لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَا عَلَاكَ سَمَاءٌ كَمَا قَالَ: وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ ... وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَالْمَعْنَى: فَلْيَعْقِدْ رَأْسَ الْحَبْلِ فِي خَشَبَةِ السَّقْفِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ [22 \ 15] ؛ أَيْ: لِيَخْتَنِقْ بِالْحَبْلِ، فَيَشُدُّهُ فِي عُنُقِهِ، وَيَتَدَلَّى مَعَ الْحَبْلِ الْمُعَلَّقِ فِي السَّقْفِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْقَطْعَ عَلَى الِاخْتِنَاقِ ; لِأَنَّ الِاخْتِنَاقَ يَقْطَعُ النَّفَسَ بِسَبَبِ حَبْسِ مَجَارِيهِ، وَلِذَا قِيلَ لِلْبُهْرِ وَهُوَ تَتَابُعُ النَّفَسِ: قَطْعٌ، فَلْيَنْظُرْ إِذَا اخْتَنَقَ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ؛ أَيْ: هَلْ يُذْهِبُ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا يَغِيظُهُ مَنْ نَصْرِ اللَّهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا يُذْهِبُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ ذَلِكَ الْكَافِرُ الْحَاسِدُ مَا يَغِيظُهُ وَيُغْضِبُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسُمِّيَ فِعْلُهُ كَيْدًا ; لِأَنَّهُ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الْكَيْدِ؛ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكِدْ بِهِ مَحْسُودَهُ، إِنَّمَا كَادَ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ: لَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا مَا لَيْسَ بِمُذْهِبٍ لِمَا يَغِيظُهُ. اهـ مِنْهُ. وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِحَاسِدِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ رَبَّهُ لَنْ يَنْصُرَهُ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، فَهُوَ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِكُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَغَيْرُهُمْ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ أَظْهَرُهَا عِنْدِي. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ تَعَالَى. وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ النَّصْرَ يَأْتِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّمَاءِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرْتَقِي بِذَلِكَ السَّبَبِ، حَتَّى يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَقْطَعَ نُزُولَ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَمْنَعَ النَّصْرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَإِنْ غَاظَهُ نَصْرُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ. فَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ، وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى مَنْعِ النَّصْرِ ; الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الِارْتِقَاءَ إِلَى السَّمَاءِ وَمَنْعِ نُزُولِ النَّصْرِ مِنْهَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ [22 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لِيَقْطَعْ لِلتَّعْجِيزِ فَلْيَنْظُرْ ذَلِكَ الْحَاسِدُ الْعَاجِزُ عَنْ قَطْعِ النَّصْرِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يُذْهِبُ كَيْدُهُ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ جَهْدِهِ فِي كَيْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يَغِيظُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ أَعْمَلَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ مِنْ كَيْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَمْنَعَ عَنْهُ نَصْرَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُذْهِبُ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [38 \ 10 - 11] وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَلِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَنْ يَنْصُرَهُ عَائِدٌ إِلَى «مَنْ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ [22 \ 15] وَأَنَّ النَّصْرَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّزْقِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: لَنْ يَرْزُقَهُ، فَلْيَخْتَنِقْ، وَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ؛ إِذْ لَا خَيْرَ فِي حَيَاةٍ لَيْسَ فِيهَا رِزْقُ اللَّهِ وَعَوْنُهُ، أَوْ فَلْيَخْتَنِقْ وَلْيَمُتْ غَيْظًا وَغَمًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الرِّزْقَ نَصْرًا، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا سَائِلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَقَالَ: مَنْ يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ. يَعْنِي: مَنْ يُعْطِينِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ؛ أَيْ: مَمْطُورَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي فَقْعَسٍ: وَإِنَّكَ لَا تُعْطِي امْرَءًا فَوْقَ حَقِّهِ ... وَلَا تَمْلِكُ الشِّقَّ الَّذِي الْغَيْثُ نَاصِرُهْ ؛ أَيْ: مُعْطِيهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، كَمَا تَرَى، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ أَوِ الْكِتَابِ، لَا يُخَالِفُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ نَصْرَ الدِّينِ وَالْكِتَابِ هُوَ نَصْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَنَصْرُ اللَّهُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَائِهِ كَلِمَتَهُ، وَقَهْرِهِ أَعْدَاءَهُ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ، وَالِانْتِقَامِ مِمَّنْ كَذَّبَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [40 \ 51] فَإِنْ قِيلَ: قَرَّرْتُمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي «يَنْصُرُهُ» عَائِدٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فَكَيْفَ قَرَّرْتُمْ رُجُوعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ؟ فَالْجَوَابُ هُوَ مَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فَالْكَلَامُ دَالٌّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ الْآيَةَ [22 \ 14] . هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِانْقِلَابُ عَنِ الدِّينِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [22 \ 11] انْقِلَابٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لِيَقْطَعْ قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ فِي لَامِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ تَخْفِيفًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَمَنْ كُلِّ مَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [22 \ 19] ؛ أَيْ: قَطَّعَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّارِ ثِيَابًا، وَأَلْبَسَهُمْ إِيَّاهَا تَنْقَدُّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ [14 \ 50] وَالسَّرَابِيلُ: هِيَ الثِّيَابُ الَّتِي هِيَ الْقُمُصُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَكَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [7 \ 41] وَالْغَوَاشِي: جَمْعُ غَاشِيَةٍ، وَهِيَ غِطَاءٌ كَاللِّحَافِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [22 \ 19] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [44 \ 48 - 49] وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْبَالِغُ شِدَّةَ الْحَرَارَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ الْآيَة [18 \ 29] . وَقَوْلُهُ هُنَا يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ [22 \ 20] ؛ أَيْ: يُذَابُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 بِذَلِكَ الْحَمِيمِ إِذَا سُقُوهُ فَوَصَلَ إِلَى بُطُونِهِمْ كُلُّ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشَّحْمِ وَالْأَمْعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [47 \ 15] وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَهَرْتُ الشَّيْءَ فَانْصَهَرَ، فَهُوَ صَهِيرٌ؛ أَيْ: أَذَبْتُهُ فَذَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ يَصِفُ تَغْذِيَةَ قَطَاةٍ لِفَرْخِهَا فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ: تُرْوَى لَقًى أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ ... تَصْهَرُهُ الشَّمْسُ فَمَا يَنْصَهِرُ ؛ أَيْ: تُذِيبُهُ الشَّمْسُ، فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَذُوبُ. وَقَوْلُهُ: وَالْجُلُودُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى «مَا» مِنْ قَوْلِهِ: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ [22 \ 20] الَّتِي هِيَ نَائِبُ فَاعِلِ «يُصْهَرُ» وَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْآيَةِ فَذَلِكَ الْحَمِيمُ يُذِيبُ جُلُودَهُمْ، كَمَا يُذِيبُ مَا فِي بُطُونِهِمْ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ. إِذِ الْمَعْنَى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ، وَتُصْهَرُ بِهِ الْجُلُودُ؛ أَيْ: جُلُودُهُمْ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ قَامَتَا مَقَامَ الْإِضَافَةِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَالْجُلُودُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلَى تُصْهَرُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَتُحْرَقُ بِهِ الْجُلُودُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْعَامِلِ الْمَحْذُوفِ الرَّافِعِ الْبَاقِي مَعْمُولُهُ مَرْفُوعًا بَعْدَ الْوَاوِ، قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَعَلَا فُرُوعُ الْأَيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا يَعْنِي: وَبَاضَ نَعَامُهَا ; لِأَنَّ النَّعَامَةَ لَا تَلِدُ الطِّفْلَ، وَإِنَّمَا تَبِيضُ، بِخِلَافِ الظَّبْيَةِ فَهِيَ تَلِدُ الطِّفْلَ، وَمِثَالُهُ فِي الْمَنْصُوبِ قَوْلُ الْآخَرِ: إِذَا مَا الْغَانِيَاتِ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا تَرَى مِنَّا الْأُيُورَ إِذَا رَأَوْهَا ... قِيامًا رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَا يَعْنِي زَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ، وَأَكْحَلْنَ الْعُيُونَ. وَقَوْلُهُ: وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سيفًا وَرُمْحَا ؛ أَيْ: وَحَامِلًا رُمْحًا ; لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 تَرَاهُ كَأَنَّ اللَّهَ يَجْدَعُ أَنْفَهُ ... وَعَيْنَيْهِ إِنْ مَوْلَاهُ ثَابَ لَهُ وَفْرُ يَعْنِي: وَيَفْقَأُ عَيْنَيْهِ. وَمِنْ شَوَاهِدِهِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلُ الرَّاجِزِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا يَعْنِي: وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الْآيَةَ [59 \ 9] ؛ أَيْ: وَأَخْلَصُوا الْإِيمَانَ، أَوْ أَلِفُوا الْإِيمَانَ، وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الْمَخْفُوضِ قَوْلُهُمْ: مَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً، وَلَا سَوْدَاءَ تَمْرَةً؛ أَيْ: وَلَا كُلُّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ انْفَرَدَتْ بِعَطْفِ عَامِلٍ مُزَالٍ قَدْ بَقِي ... مَعْمُولُهُ دَفْعًا لِوَهْمٍ اتَّقِي وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [22 \ 21] الْمَقَامِعُ: جَمَعُ مِقْمَعَةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَفَتْحِ الْمِيمِ الْأَخِيرَةِ، وَيُقَالُ: مِقْمَعٌ بِلَا هَاءٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: حَدِيدَةٌ كَالْمِحْجَنِ يُضْرَبُ بِهَا عَلَى رَأْسِ الْفِيلِ: وَهِيَ فِي الْآيَةِ مَرَازِبُ عَظِيمَةٌ مِنْ حَدِيدٍ تَضْرِبُ بِهَا خَزَنَةُ النَّارِ رُءُوسَ أَهْلِ النَّارِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمَقَامِعُ: سِيَاطٌ مِنْ نَارٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقَامِعَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْحَدِيدِ لِتَصْرِيحِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ الْآيَةَ [22 \ 19] نَزَلَ فِي الْمُبَارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي أَقْرَانِهِمُ الْمُبَارِزِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُمْ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ كُلَّمَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا، لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْغَمِّ فِيهَا عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا، أُعِيدُوا فِيهَا، وَمُنِعُوا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي الْمَائِدَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [5 \ 36 - 37] ، وَقَوْلِهِ فِي السَّجْدَةِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [32 \ 20] ، وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْحَجِّ هَذِهِ: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [22 \ 22] حُذِفَ فِيهِ الْقَوْلُ. وَالْمَعْنَى: أُعِيدُوا فِيهَا، وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ فِي الْحَجِّ صُرِّحَ بِهِ فِي السَّجْدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [32 \ 20] وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ لَهَبَ النَّارِ يَرْفَعُهُمْ، حَتَّى يَكَادَ يَرْمِيهِمْ خَارِجَهَا، فَتَضْرِبُهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ، فَتَرُدُّهُمْ فِي قَعْرِهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا، وَمِنْ كُلِّ مَا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. اعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ «إِنَّ» فِي قَوْلِهِ هُنَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [22 \ 25] مَحْذُوفٌ كَمَا تَرَى. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، نُذِيقُهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. كَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [22 \ 25] وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ. فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَاحِدٌ مِنْهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُضَارِعَ قَدْ لَا يُلَاحَظُ فِيهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مِنْ حَالٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ، فَيَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَمِنْهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [22 \ 25] ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [13 \ 28] قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ. الثَّانِي: أَنَّ يَصُدُّونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَهُمْ يَصُدُّونَ، وَعَلَيْهِ فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ اسْمِيَّةٌ لَا فِعْلِيَّةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ اسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ. الثَّالِثُ: أَنَّ يَصُدُّونَ مُضَارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي؛ أَيْ: كَفَرُوا وَصَدُّوا. وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، وَجُمْلَةُ «يَصُدُّونَ» خَبَرُ «إِنَّ» أَيْ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 الْآيَةَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 217] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [48 \ 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا الْآيَةَ [5 \ 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [22 \ 25] قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ: سَوَاءٌ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفِي إِعْرَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ بِرَفْعِ «سَوَاءٌ» وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: الْعَاكِفُ: مُبْتَدَأٌ، وَالْبَادِ: مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَ: «سَوَاءٌ» خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ. فَالْمَعْنَى: الْعَاكِفُ وَالْبَادِي سَوَاءٌ؛ أَيْ: مُسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ «سَوَاءٌ» مُبْتَدَأٌ وَ «الْعَاكِفُ» فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسَوِّغَ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ «سَوَاءٌ» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: هُوَ عَمَلُهَا فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ إِذِ الْمَعْنَى: سَوَاءٌ فِيهِ الْعَاكِفُ وَالْبَادِي، وَجُمْلَةُ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرُهُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ «جَعَلْنَا» وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: «سَوَاءً» بِالنَّصْبِ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِـ «جَعَلْنَا» الَّتِي بِمَعْنَى صَيَّرْنَا. وَالْعَاكِفُ فَاعِلُ «سَوَاءٌ» أَيْ: مُسْتَوِيًا فِيهِ الْعَاكِفُ وَالْبَادِي، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ هُوَ وَالْعَدَمُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ «جَعَلَ» فِي الْآيَةِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ قَالَ: إِنَّ «سَوَاءٌ» حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي: جَعَلْنَاهُ؛ أَيْ: وَضَعْنَاهُ لِلنَّاسِ فِي حَالِ كَوْنِهِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ [3 \ 96] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْحَرَمِ ; وَلِذَلِكَ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ لَا تُمْلَكُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْعَاكِفُ: هُوَ الْمُقِيمُ فِي الْحَرَمِ، وَالْبَادِي: الطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَادِيَةِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «وَالْبَادِي» قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ بَعْدَ الدَّالِ فِي الْوَصْلِ، وَإِسْقَاطِهَا فِي الْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْقَاطِهَا، وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [22 \ 25] قَدْ أَوْضَحْنَا إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ عَنْ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: بِإِلْحَادٍ، وَنَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرْنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [19 \ 25] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَالْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهُ: الْمَيْلُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِلْحَادِ فِي الْآيَةِ: أَنْ يَمِيلَ وَيَحِيدَ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ، وَيَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّ مَيْلٍ وَحَيْدَةٍ عَنِ الدِّينِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَالشِّرْكُ بِهِ فِي الْحَرَمِ، وَفِعْلُ شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَهُ، وَتَرْكُ شَيْءٍ مِمَّا أَوْجَبَهُ. وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ: انْتِهَاكُ حُرُمَاتِ الْحَرَمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَ: بَلَى وَاللَّهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ فُسْطَاطَانِ: أَحَدُهُمَا فِي طَرَفِ الْحَرَمِ، وَالْآخَرُ فِي طَرَفِ الْحِلِّ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَهْلَهُ أَوْ غُلَامَهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْفُسْطَاطِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْحَرَمِ، يَرَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْإِلْحَادِ فِيهِ بِظُلْمٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ كُلَّ مُخَالَفَةٍ بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ تَدْخُلُ فِي الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا الْجَائِزَاتُ كَعِتَابِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، أَوْ عَبْدَهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْإِلْحَادِ، وَلَا مِنَ الظُّلْمِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ هَمَّ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فِي مَكَّةَ، أَذَاقَهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ هَمِّهِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مِنَ الْبِقَاعِ، فَلَا يُعَاقَبُ فِيهِ بَالْهَمِّ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ بِإِلْحَادٍ فِيهِ بِظُلْمٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَوَقْفُهُ عَلَيْهِ أَصَحُّ مِنْ رَفْعِهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ اسْتَدَلُّوا لَهُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [22 \ 25] لِأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ إِذَاقَةَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِلْحَادِ بِالظُّلْمِ فِيهِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: «بِإِلْحَادٍ» لِأَجْلِ أَنَّ الْإِرَادَةَ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْهَمِّ؛ أَيْ: وَمَنْ يَهْمُمْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» الْحَدِيثَ، وَعَلَيْهِ فَهَذَا التَّخْصِيصُ لِشِدَّةِ التَّغْلِيظِ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، وَوَجْهُ هَذَا ظَاهِرٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [22 \ 25] الْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ عَلَى ارْتِكَابِ الذَّنْبِ فِيهِ، وَالْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ عَلَى الذَّنْبِ ذَنْبٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ اللَّهِ؛ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الذَّنْبِ إِذَا كَانَتْ عَزْمًا مُصَمَّمًا عَلَيْهِ أَنَّهَا كَارْتِكَابِهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» . فَقَوْلُهُمْ: مَا بَالُ الْمَقْتُولِ: سُؤَالٌ عَنْ تَشْخِيصِ عَيْنِ الذَّنْبِ الَّذِي دَخَلَ بِسَبَبِهِ النَّارَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الْقَتْلَ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» أَنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي أَدْخَلَهُ النَّارَ هُوَ عَزْمُهُ الْمُصَمِّمُ وَحِرْصُهُ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ «إِنَّ» الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ. وَمِثَالُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الْعَزْمِ الْمُصَمِّمِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فِيهِ، مَا وَقَعَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ الْإِهْلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ، بِسَبَبِ طَيْرٍ أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [105 \ 4] لِعَزْمِهِمْ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنَاكِرِ فِي الْحَرَمِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْعَزْمِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَكِنَّ حُكْمَ الْحَرَمِ كُلِّهِ فِي تَغْلِيظِ الذَّنْبِ الْمَذْكُورِ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ؛ أَيِ اذْكُرْ حِينَ بَوَّأْنَا، تَقُولُ الْعَرَبُ: بَوَّأْتُ لَهُ مَنْزِلًا، وَبَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا، وَبَوَّأْتُهُ فِي مَنْزِلٍ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كُلُّهَا بِمَعْنَى: هَيَّأْتُهُ لَهُ وَمَكَّنْتُ لَهُ فِيهِ وَأَنْزَلْتُهُ فِيهِ، فَتَبَوَّأَهُ؛ أَيْ: نَزَلَهُ، وَتَبَوَّأْتُ لَهُ مَنْزِلًا أَيْضًا: هَيَّأْتُهُ لَهُ وَأَنْزَلْتُهُ فِيهِ. فَـ «بَوَّأَهُ» الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا الْآيَةَ [29 \ 58] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً الْآيَةَ [16 \ 42] وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 كَمْ مِنْ أَخٍ لِي مَاجِدٍ ... بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا ؛ أَيْ: هَيَّأْتُهُ لَهُ وَأَنْزَلْتُهُ فِيهِ. وَبَوَّأْتُ لَهُ. كَقَوْلِهِ هُنَا: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [22 \ 26] . وَبَوَّأْتُهُ فِيهِ. كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَبُوِّئَتْ فِي صَمِيمِ مَعْشَرِهَا ... وَتَمَّ فِي قَوْمِهَا مُبَوَّؤُهَا ؛ أَيْ: نَزَلَتْ مِنَ الْكَرَمِ فِي صَمِيمِ النَّسَبِ، وَتَبَوَّأَتْ لَهُ مَنْزِلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا [10 \ 78] . وَتَبَوَّأَهُ. كَقَوْلِهِ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ الْآيَةَ [39 \ 74] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ [12 \ 56] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الْآيَةَ [59 \ 9] . وَأَصْلُ التَّبَوُّءِ مِنَ الْمَبَاءَةِ: وَهِيَ مَنْزِلُ الْقَوْمِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَقَوْلُهُ: بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [22 \ 26] ؛ أَيْ: هَيَّأْنَاهُ لَهُ وَعَرَّفْنَاهُ إِيَّاهُ ; لِيَبْنِيَهُ بِأَمْرِنَا عَلَى قَوَاعِدِهِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُنْدَرِسَةِ، حِينَ أَمَرْنَاهُ بِبِنَائِهِ، كَمَا يُهَيَّأُ الْمَكَانُ لِمَنْ يُرِيدُ النُّزُولَ فِيهِ. وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: بَوَّأَهُ لَهُ وَأَرَاهُ إِيَّاهُ بِسَبَبِ رِيحٍ تُسَمَّى الْخَجُوجَ كَنَسَتْ مَا فَوْقَ الْأَسَاسِ، حَتَّى ظَهَرَ الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ مُنْدَرِسًا، فَبَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ لَهُ مُزْنَةً فَاسْتَقَرَّتْ فَوْقَهُ، فَكَانَ ظِلُّهَا عَلَى قَدْرِ مِسَاحَةِ الْبَيْتِ، فَحَفَرَا عَنِ الْأَسَاسِ فَظَهَرَ لَهُمَا فَبَنَيَاهُ عَلَيْهِ. وَهُمْ يَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ مُنْدَرِسًا مِنْ زَمَنِ طُوفَانِ نُوحٍ، وَأَنَّ مَحَلَّهُ كَانَ مَرْبِضَ غَنَمٍ لِرَجُلٍ مِنْ جُرْهُمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّ اللَّهَ بَوَّأَ مَكَانَهُ لِإِبْرَاهِيمَ، فَهَيَّأَهُ لَهُ وَعَرَّفَهُ إِيَّاهُ لِيَبْنِيَهُ فِي مَحَلِّهِ، وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يُبْنَ قَبْلَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ حِينَ تَرَكَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ فِي مَكَّةَ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [14 \ 37] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا وَانْدَرَسَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا مَكَانَ الْبَيْتِ [22 \ 26] لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مَكَانًا سَابِقًا، كَانَ مَعْرُوفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْآيَةَ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ الْمَذْكُورِ آيَةُ الْبَقَرَةِ ; وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [2 \ 125] فَدَلَّتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى آيَةِ الْحَجِّ هَذِهِ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [22 \ 26] وَعَهِدْنَا إِلَيْهِ؛ أَيْ: أَوْصَيْنَاهُ، أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ، وَزَادَتْ آيَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 الْبَقَرَةِ: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَيْضًا مَعَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْمَعْنَى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَلَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ الْآيَةَ. فَاعْلَمْ أَنَّ فِي «أَنْ» وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَعَلَيْهِ فَتَطْهِيرُ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ هُوَ تَفْسِيرُ الْعَهْدِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ أَيْ: وَالْعَهْدُ هُوَ إِيصَاؤُهُ بِالتَّطْهِيرِ الْمَذْكُورِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى دُخُولِ «أَنْ» الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الطَّلَبِيَّةِ. وَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ مُفَسِّرَةً لِلْعَهْدِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَالْمَذْكُورُ هُنَاكَ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ هُنَا ; لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالتَّطْهِيرُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ يَشْمَلُ التَّطْهِيرَ الْمَعْنَوِيَّ وَالْحِسِّيَّ، فَيُطَهِّرُهُ الطَّهَارَةَ الْحِسِّيَّةَ مِنَ الْأَقْذَارِ، وَالْمَعْنَوِيَّةَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي؛ وَلِذَا قَالَ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [22 \ 26] وَكَانَتْ قَبِيلَةُ جُرْهُمَ تَضَعُ عِنْدَهُ الْأَصْنَامَ تَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى فِيمَا كَانَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَصْنَامِ عَامَ الْفَتْحِ، وَطَهَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْجَاسِ الْأَوْثَانِ وَأَقْذَارِهَا. كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمَ هُنَا، وَقَالَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [16 \ 123] وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِينَ يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ: الْمُصَلُّونَ؛ أَيْ: طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِطَوَافٍ أَوْ صَلَاةٍ، وَالرُّكَّعُ: جَمْعُ رَاكِعٍ، وَالسُّجُودُ: جَمْعُ سَاجِدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا لَفْظَةُ «شَيْئًا» مَفْعُولٌ بِهِ: لِـ «لَا تُشْرِكْ» ؛ أَيْ: لَا تُشْرِكْ بِي مِنَ الشُّرَكَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ: لَا تُشْرِكْ؛ أَيْ: لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا مِنَ الشِّرْكِ، لَا قَلِيلًا، وَلَا كَثِيرًا. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لَا تُشْرِكْ بِي شِرْكًا قَلِيلًا، وَلَا كَثِيرًا، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: بَيْتِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْكَانِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَرِّخِينَ لَهُمْ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِلْبَيْتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَزْعُمُونَ، أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ أَيَّامَ الطُّوفَانِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَدَرَجَ عَلَى ذَلِكَ نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ فَقَالَ: وَدَلَّتْ إِبْرَاهِيمَ مُزْنَةٌ عَلَيْهِ ... فَهِيَ عَلَى قَدْرِ الْمِسَاحَةِ تُرِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 وَقِيلَ دَلَّتْهُ خَجُوجٌ كَنَسَتْ ... مَا حَوْلَهُ حَتَّى بَدَا مَا أَسَّسَتْ قَبْلَ الْمَلَائِكِ مِنَ الْبِنَاءِ ... قَبْلَ ارْتِفَاعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ شَبِيهٌ بِالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَا يُصَدَّقُ مِنْهُ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ، وَلِذَلِكَ نُقَلِّلُ مِنْ ذِكْرِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. مَسْأَلَةٌ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ عِنْدَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ قَذَرٌ مِنَ الْأَقْذَارِ، وَلَا نَجَسٌ مِنَ الْأَنْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَلَا الْحِسِّيَّةِ، فَلَا يُتْرَكُ فِيهِ أَحَدٌ يَرْتَكِبُ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلَا أَحَدٌ يُلَوِّثُهُ بِقَذَرٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ دُخُولَ الْمُصَوِّرِينَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَوْلَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِآلَاتِ التَّصْوِيرِ يُصَوِّرُونَ بِهَا الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - أَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَطْهِيرِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، فَانْتِهَاكُ حُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ حُرْمَةِ التَّصْوِيرِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ تَصْوِيرَ الْإِنْسَانِ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ، وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ التَّصْوِيرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ارْتِكَابَ أَيِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي يَلْزَمُ تَطْهِيرُ بَيْتِ اللَّهِ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ مَا يَقَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُخِلِّ بِالدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ لَا يَجُوزُ إِقْرَارُ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا تَرْكُهُ. وَنَرْجُو اللَّهَ لَنَا وَلِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَنَا، وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ التَّوْفِيقَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ فِي حَرَمِهِ، وَسَائِرِ بِلَادِهِ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ الْأَذَانُ فِي اللُّغَةِ: الْإِعْلَامُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَقَوْلُ الْحَارْثِ بْنِ حِلِّزَةَ: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ وَكَثْرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّرَدُّدِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: حَجَّ بَنُو فُلَانٍ فُلَانًا: إِذَا قَصَدُوهُ وَأَطَالُوا الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَالتَّرَدُّدَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ أَسْعَدَ أَنَّمَا ... تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الْمَنُونِ لِأَكْبَرَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وَأَشْهَدُ مَنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا قَوْلُهُ: يَحُجُّونَ، يَعْنِي: يُكْثِرُونَ قَصْدَهُ وَالِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَالتَّرَدُّدَ عَلَيْهِ. وَالسِّبُّ بِالْكَسْرِ: الْعِمَامَةُ. وَعَنَى بِكَوْنِهِمْ يَحُجُّونَ عِمَامَتَهُ: أَنَّهُمْ يَحُجُّونَهُ، فَكَنَّى عَنْهُ بِالْعِمَامَةِ. وَالرِّجَالُ فِي الْآيَةِ: جَمْعُ رَاجِلٍ، وَهُوَ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْهِ، وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ وَنَحْوُهُ، الْمَهْزُولُ الَّذِي أَتْعَبَهُ السَّفَرُ. وَقَوْلُهُ «يَأْتِينَ» يَعْنِي: الضَّوَامِرَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ: كُلِّ ضَامِرٍ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: وَعَلَى ضَوَامِرَ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ «كُلِّ» صِيغَةُ عُمُومٍ، يَشْمَلُ ضَوَامِرَ كَثِيرَةً، وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ، وَجَمْعُهُ: فِجَاجٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [21 \ 31] وَالْعَمِيقُ: الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا الْخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ ... يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْعُمْقُ فِي الْبُعْدِ سُفْلًا، تَقُولُ: بِئْرٌ عَمِيقَةٌ؛ أَيْ: بَعِيدَةُ الْقَعْرِ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [22 \ 27] لِإِبْرَاهِيمَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِطَابَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ وَسَلَّمَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ؛ أَيْ: وَأَمَرْنَا إِبْرَاهِيمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ؛ أَيْ: أَعْلِمْهُمْ، وَنَادِ فِيهِمْ بِالْحَجِّ؛ أَيْ: بِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُبَلِّغُ النَّاسَ وَصَوْتِي لَا يُنْفِذُهُمْ، فَقَالَ: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْحَجَرِ. وَقِيلَ: عَلَى الصَّفَا. وَقِيلَ: عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ، حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ وَأَسْمَعَ مَنْ فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ: هَذَا مَضْمُونُ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُطَوَّلَةً. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَأْتُوكَ رِجَالًا مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ، وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، دَلَّ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ أَيْ: إِنْ تُؤَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ. وَإِنَّمَا قَالَ «يَأْتُوكَ» لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ يَتَوَجَّهُ نَحْوَ الدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ إِتْيَانُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْحَجِّ ; لِأَنَّ نِدَاءَ إِبْرَاهِيمَ لِلْحَجِّ؛ أَيْ: يَأْتُوكَ مُلَبِّينَ دَعْوَتَكَ، حَاجِّينَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ، كَمَا نَادَيْتَهُمْ لِذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ الَّذِي ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَوُجُوبُ الْحَجِّ بِهَا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، مَعَ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ الْمَذْكُورَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَقَعَ مِثْلُهُ أَيْضًا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [2 \ 158] . وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ الْآيَةَ. قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا ; لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقُوَّةِ هِمَمِهِمْ. وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ أَبِي حَلْحَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَنِّي وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ حَجَجْتُ مَاشِيًا ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَأْتُوكَ رِجَالًا. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ: هَلِ الرُّكُوبُ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ أَوِ الْمَشْيُ، وَنَظَائِرُهَا - كَوْنُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْجِبِلَّةِ وَالتَّشْرِيعِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْفِعْلُ الْجِبِلِّيُّ الْمَحْضُ: أَعْنِي الْفِعْلَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةُ بِطَبِيعَتِهَا؛ كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُفْعَلْ لِلتَّشْرِيعِ وَالتَّأَسِّي، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَنَا أَجْلِسُ وَأَقُومُ تَقَرُّبًا لِلَّهِ وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُومُ وَيَجْلِسُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ وَالتَّأَسِّي. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: فِعْلُهُ الْجِبِلِّيُّ يَقْتَضِي الْجَوَازَ، وَبَعْضُهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 يَقُولُ: يَقْتَضِي النَّدْبَ. وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُفْعَلْ لِلتَّشْرِيعِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: هُوَ الْفِعْلُ التَّشْرِيعِيُّ الْمَحْضُ. وَهُوَ الَّذِي فُعِلَ لِأَجْلِ التَّأَسِّي وَالتَّشْرِيعِ، كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ مَعَ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْفِعْلُ الْمُحْتَمِلُ لِلْجِبِلِّيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ. وَضَابِطُهُ: أَنْ تَكُونَ الْجِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةُ تَقْضِيهِ بِطَبِيعَتِهَا، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ مُتَعَلِّقًا بِعِبَادَةٍ بِأَنْ وَقَعَ فِيهَا أَوْ فِي وَسِيلَتِهَا، كَالرُّكُوبِ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّ رُكُوبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ مُحْتَمِلٌ لِلْجِبِلَّةِ ; لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ تَقْتَضِي الرُّكُوبَ، كَمَا كَانَ يَرْكَبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ بِذَلِكَ الرُّكُوبِ، بَلْ لِاقْتِضَاءِ الْجِبِلَّةِ إِيَّاهُ، وَمُحْتَمِلٌ لِلشَّرْعِيِّ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِالْحَجِّ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالرُّجُوعُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى غَيْرِ الَّتِي ذَهَبَ فِيهَا إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، وَالضِّجْعَةُ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ، بَيْنَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَدُخُولُ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ - بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ - وَالْخُرُوجُ مِنْ كُدًى - بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ - وَالنُّزُولُ بِالْمُحَصَّبِ بَعْدَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ; لِاحْتِمَالِهَا لِلْجِبِلِّيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَفِعْلُهُ الْمَرْكُوزُ فِي الْجِبِلَّهْ ... كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ مِلَّهْ مِنْ غَيْرِ لَمْحِ الْوَصْفِ وَالَّذِي احْتَمَلْ ... شَرْعًا فَفِيهِ قُلْ تَرَدُّدٌ حَصَلْ فَالْحَجُّ رَاكِبًا عَلَيْهِ يَجْرِي ... كَضِجْعَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ، إِلَّا فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَالْمَشْيُ فِيهِمَا وَاجِبٌ. وَقَالَ سَنَدٌ وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ لِلْمَشَقَّةِ، وَرُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبِلِّيٌّ لَا تَشْرِيعِيٌّ. وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ دَاوُدُ: مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: «وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أَوْ: نَصَبِكِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: «عَلَى قَدْرِ عَنَائِكِ وَنَصَبِكِ» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا آسِي عَلَى شَيْءٍ مَا آسِي أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا، وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي فِي شَبَابِي، إِلَّا أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا، وَلَقَدْ حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِيًا. وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ، وَلَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ تَعَالَى مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى كَانَ يُعْطِي الْخُفَّ، وَيُمْسِكُ النَّعْلَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَضْلِ الْحَجِّ مَاشِيًا: ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ يُقَوِّي حُجَّةَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنَ الرُّكُوبِ ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُ نَصَبًا وَعَنَاءً. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ» ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» ، أَوْ قَالَ: «نَفَقَتِكِ» وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمُرِ، وَهُوَ إِحْدَى الدَّعَائِمِ الْخَمْسِ، الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ إِجْمَاعًا. أَمَّا دَلِيلُ وُجُوبِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» . انْتَهَى مِنْهُ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» ، وَنَحْوُهُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ مِنَ الْقَرَائِنِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إِحْدَى الدَّعَائِمِ الْخَمْسِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِ الْحَجِّ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَعَنْهُ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْهَا أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَفَضْلُ الْحَجِّ وَكَوْنُهُ مِنَ الدَّعَائِمِ الْخَمْسِ مَعْرُوفٌ. وَاعْلَمْ: أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ الْمَذْكُورَ تُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطٌ، وَهِيَ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَمَّا الْعَقْلُ فَكَوْنُهُ شَرْطًا فِي وُجُوبِ كُلِّ تَكْلِيفٍ، وَاضِحٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ بِحَالٍ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ فَوَاضِحٌ ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، فَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ كِلَاهُمَا شَرْطُ وُجُوبٍ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ لَا شَرْطُ وُجُوبٍ، وَعَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَا، فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ، وَالْأَصَحُّ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ شَرْطَ صِحَّةٍ فِي حَقِّهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبٍ، فَهُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ شُرُوطِ الْوُجُوبِ يَكُونُ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ أَيْضًا؛ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِهَا وَصِحَّتِهَا أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ شَرْطُ الْوُجُوبِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ؛ كَالْبُلُوغِ، وَالْحُرِّيَّةِ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ لَوْ فَعَلَهُ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ: فَهِيَ شَرْطُ وُجُوبٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْعَبْدِ، وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْعَبْدِ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُ إِذَا حَجَّ صَحَّ حَجُّهُ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ عُتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ ; لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مُسْتَحَقَّةٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَطِيعًا. وَيَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً، وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. الْأَمْرُ الثَّانِي: حَدِيثٌ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا صَبِيٌّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا عَبْدٌ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْنَدِ الْأَعْمَشِ، وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ وَصَحَّحَهُ، وَالْخَطِيبُ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ، بَلْ خَرَّجَهُ كَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ، وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ شُعْبَةَ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: لَكِنْ هُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَالْخَطِيبِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ مُتَابَعَةً لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ. وَيُؤَيِّدُ صِحَّةَ رَفْعِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْفَظُوا عَنِّي وَلَا تَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ ; فَلِذَا نَهَاهُمْ عَنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِلَفْظِ: «لَوْ حَجَّ صَغِيرٌ حَجَّةً لَكَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إِذَا بَلَغَ» الْحَدِيثَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرْسَلًا، وَفِيهِ رَاوٍ مُبْهَمٌ. انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِيُّ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا صَبِيٌّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٌّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٌ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِسَنَدٍ آخَرَ مَوْقُوفًا عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَكَتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلِ الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ أَوِ الْمَرْفُوعُ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ؟ وَرَوَاهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِ. وَرِوَايَةُ الْمَرْفُوعِ قَوِيَّةٌ، وَلَا يَضُرُّ تَفَرُّدُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ بِهَا، فَإِنَّهُ ثِقَةٌ مَقْبُولٌ ضَابِطٌ. رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا. اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ: أَنَّ ابْنَ الْمِنْهَالِ تَابَعَهُ عَلَى رَفْعِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، فَقَدْ زَالَ التَّفَرُّدُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَارِثَ الْمَذْكُورَ هُوَ ابْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ لِضَعْفِهِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعَلَمُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، ثُمَّ أُعْتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَتْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَجْزَأَهُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ: أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا أَدْرَكَ لَا تُجْزِئُ عَنْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ إِذَا حَجَّ فِي رِقِّهِ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ مَا حَجَّ فِي حَالِ رِقِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ: فَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] ، وَمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْرُوفٌ، وَتَفْسِيرُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْآيَةِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. فَالِاسْتِطَاعَةُ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى: هِيَ إِمْكَانُ الْوُصُولِ بِلَا مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَشَقَّةِ السَّفَرِ الْعَادِيَّةِ مَعَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، بَلْ يَجِبُ الْحَجُّ عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ، إِنْ كَانَتْ لَهُ صَنْعَةٌ يُحَصِّلُ مِنْهَا قُوتَهُ فِي الطَّرِيقِ؛ كَالْجَمَّالِ، وَالْخَرَّازِ، وَالنَّجَّارِ، وَمَنْ أَشْبَهُهُمْ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَوَجَبَ بِاسْتِطَاعَةٍ بِإِمْكَانِ الْوُصُولِ بِلَا مَشَقَّةٍ عَظُمَتْ، وَأَمْنٍ عَلَى نَفْسٍ وَمَالٍ مَا نَصُّهُ: وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَفِي سَمَاعِ أَشْهَبَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] أَذَلِكَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا ذَلِكَ إِلَّا طَاقَةُ النَّاسِ، الرَّجُلُ يَجِدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَسِيرِ، وَآخَرُ يَقْدِرُ أَن يَمْشِيَ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَلَا صِفَةَ فِي هَذَا أَبيَنُ مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] ، وَزَادَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: وَرُبَّ صَغِيرٍ أَجَلَدُ مِنْ كَبِيرٍ، وَنَقَلَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ كَلَامَ مَالِكٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ، إِمَّا رَاجِلًا بِغَيْرِ كَبِيرِ مَشَقَّةٍ، أَوْ رَاكِبًا بِشِرَاءٍ أَوْ كِرَاءٍ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ. انْتَهَى مِنَ الْحَطَّابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ يَشْتَرِطُونَ فِي الصَّنْعَةِ الْمَذْكُورَةِ أَلَّا تَكُونَ مُزْرِيَةً بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيرِ الَّذِي عَادَتُهُ سُؤَالُ النَّاسِ فِي بَلَدِهِ، وَعَادَةُ النَّاسِ إِعْطَاؤُهُ، وَذَلِكَ السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي مِنْهُ عِيشَتُهُ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ حَاجًّا وَسَأَلَ، أَعْطَاهُ النَّاسُ مَا يَعِيشُ بِهِ كَمَا كَانُوا يُعْطُونَهُ فِي بَلَدِهِ، هَلْ سُؤَالُهُ النَّاسَ وَإِعْطَاؤُهُمْ إِيَّاهُ يَكُونُ بِسَبَبِهِ مُسْتَطِيعًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الزَّادِ بِذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِذَلِكَ، أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الْحَجُّ، وَلَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، وَبِهَذَا الْقَوْلِ جَزَمَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِيمَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ: لَا بِدَيْنٍ أَوْ عَطِيَّةٍ أَوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا. وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُصُولُ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا بِتَحَمُّلِ دَيْنٍ فِي ذَلِكَ، أَوْ قَبُولِ عَطِيَّةٍ مِمَّنْ أَعْطَاهُ مَالًا أَوْ سُؤَالِ النَّاسِ مُطْلَقًا، أَنَّهُ لَا يُعَدُّ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَقَوْلُهُ: أَوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا يَعْنِي بِالْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَ السُّؤَالُ عَادَتَهُ فِي بَلَدِهِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَادَةُ النَّاسِ إِعْطَاءَهُ أَوْ لَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ عَادَةُ النَّاسِ عَدَمَ إِعْطَائِهِ، فَالْحَجُّ حَرَامٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، سَوَاءٌ كَانَ السُّؤَالُ عَادَتَهُ فِي بَلَدِهِ أَوْ لَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عَادَةُ النَّاسِ إِعْطَاءَهُ، وَلَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ عَادَتَهُ فِي بَلَدِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُسْتَطِيعًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ فِي بَلَدِهِ، وَمِنْهُ عِيشَتُهُ، وَعَادَةُ النَّاسِ إِعْطَاؤُهُ، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا قَوْلَ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلَا يُعَدُّ مُسْتَطِيعًا بِسُؤَالِ النَّاسِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ بِسُؤَالٍ مُطْلَقًا، وَقَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَسُؤَالٍ مُطْلَقًا، وَقَالَ خَلِيلٌ فِي مَنْسِكِهِ: وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ عَادَتُهُ السُّؤَالُ، إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ إِعْطَاءَهُ، وَيُكْرَهُ لَهُ الْمَسِيرُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ، أَوْ لَمْ تَكُنِ الْعَادَةُ إِعْطَاءَهُ سَقَطَ الْحَجُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ: أَوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ فِي بَلَدِهِ السُّؤَالَ، وَمِنْهُ عَيْشُهُ، وَالْعَادَةُ إِعْطَاؤُهُ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَوْضِيحِهِ وَمَنْسِكِهِ: إِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَيُكْرَهُ لَهُ الْخُرُوجُ، وَجَزَمَ بِهِ هُنَا، وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَأَقَرَّ فِي شُرُوحِهِ كَلَامَ الْمُؤَلِّفِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَكَذَلِكَ الْبِسَاطِيُّ وَالشَّيْخُ زَرُّوقٌ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ ابْنُ غَازِيٍّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَطَّابُ أَيْضًا: وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَقَبِلَهُمَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنُ فَرْجُونٍ، وَصَاحِبُ الشَّامِلِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَرَجَّحُوا الْقَوْلَ بِالسُّقُوطِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَشْهِيرِهِ، وَكَذَلِكَ شُرَّاحُ الْمُخْتَصَرِ. اهـ مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَرَجَّحُوا الْقَوْلَ بِالسُّقُوطِ، يَعْنِي: سُقُوطَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَمَّنْ عَادَتُهُ السُّؤَالُ وَالْإِعْطَاءُ. الْقَوْلُ الثَّانِي مِنْ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي عَادَتُهُ السُّؤَالُ فِي بَلَدِهِ وَعَادَةُ النَّاسِ إِعْطَاؤُهُ، إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ إِعْطَاءَهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ كَمَا كَانُوا يُعْطُونَهُ فِي بَلَدِهِ، أَنَّهُ يُعَدُّ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا، وَأَنَّ تَحْصِيلَهُ زَادَهُ بِذَلِكَ السُّؤَالِ يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ وَالْإِعْطَاءَ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَجُّ، بَلْ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: وَنُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مُصَرِّحَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ عَادَتُهُ السُّؤَالُ، إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ إِعْطَاءَهُ، ثُمَّ سَرَدَ كَثِيرًا مِنْ نُقُولِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مُصَرِّحَةً بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَجَّهُوهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ السُّؤَالُ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى كَسْبِ مَا يَعِيشُ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ لَمَّا كَانَ جَائِزًا لَهُ، وَصَارَ عَيْشُهُ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ، فَهُوَ بِذَلِكَ السُّؤَالِ وَالْإِعْطَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ. قَالُوا: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ جَائِزٍ لَزِمَهُ الْحَجُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعِيشُ فِي طَرِيقِهِ بِتَكَفُّفِ النَّاسِ، وَأَنَّ سُؤَالَ النَّاسِ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ الْآيَةَ [9 \ 91] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 الْأَلْفَاظِ، لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، وَبَيَّنَّا أَدِلَّةَ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتَكَفَّفُ النَّاسَ لِشِدَّةِ فَقْرِهِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْهُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ ابْنُ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ مُتَأَخِّرِي عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ حَمَلُوا قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ الَّذِي احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، عَلَى مَنْ لَيْسَ عَادَتُهُ السُّؤَالَ فِي بَلَدِهِ، قَالُوا: فَلَمْ يَتَنَاوَلْ قَوْلُهُ مَحَلَّ النِّزَاعِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، فَتَخْصِيصُهَا بِمَنْ لَيْسَ عَادَتُهُ السُّؤَالَ بِدُونِ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، لَا يَصِحُّ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا شَبَّابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ، وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [2 \ 197] وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ الْمُهْلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ مِنَ التَّقْوَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ إِلْحَافًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [2 \ 197] ؛ أَيْ: تَزَوَّدُوا، وَاتَّقُوا أَذَى النَّاسِ بِسُؤَالِكُمْ إِيَّاهُمْ وَالْإِثْمِ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى حُرْمَةِ خُرُوجِ الْإِنْسَانِ حَاجًّا بِلَا زَادٍ لِيَسْأَلَ النَّاسَ، وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ فِي كُلِّ حَاجٍّ يَسْأَلُ النَّاسَ، فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا، كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ فِي بَلَدِهِ أَوْ لَا، وَحَمْلُ النُّصُوصِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَاجِبٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، بِتَرْكِهِمْ سُؤَالَ النَّاسِ، كَانُوا مَنْ أَفْقَرِ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ، وَأَشَارَ لِشِدَّةِ فَقْرِهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 الْآيَةَ [2 \ 273] فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِالتَّعَفُّفِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ. وَوَجْهُ إِشَارَةِ الْآيَةِ إِلَى شِدَّةِ فَقْرِهِمْ هُوَ مَا فَسَّرَهَا بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [2 \ 273] ؛ أَيْ: بِظُهُورِ آثَارِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِسِيمَاهُمْ: عَلَامَةُ فَقْرِهِمْ مِنْ ظُهُورِ آثَارِ الْجُوعِ، وَالْفَاقَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْقَوْلَ الْآخَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِسِيمَاهُمْ: عَلَامَتُهُمُ الَّتِي هِيَ التَّخَشُّعُ وَالتَّوَاضُعُ، مَا نَصُّهُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَعْرِفُهُمْ بِعَلَامَاتِهِمْ وَآثَارِ الْحَاجَةِ فِيهِمْ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [2 \ 273] يَقُولُ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمُ الْجَهْدَ مِنَ الْحَاجَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالَ: رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ. انْتَهَى. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ. فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: تَدُلُّ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ الْمُتَعَفِّفِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وَتَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى ذَمِّ سُؤَالِ النَّاسِ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَمِّ السُّؤَالِ مُطْلَقًا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ سُؤَالَ النَّاسِ لَيْسَ اسْتِطَاعَةً عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ اهـ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَالِاسْتِطَاعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. فَلَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَعَادَتُهُ سُؤَالُ النَّاسِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا. وَالِاسْتِطَاعَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، بِشَرْطِ أَنْ يَجِدَهُمَا بِثَمَنِ الْمِثِلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمَا إِلَّا بِأَكْثَرَ مِنَ الْمِثِلِ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ الْحَجِّ. وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا: وُجُودُ الْمَاءِ فِي أَمَاكِنِ النُّزُولِ، وَهَذَا شَرْطٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 هَلَكَ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا لَا مَرِيضًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ الْمَرَضَ الْقَوِيَّ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ السَّفَرُ مَشَقَّةً فَادِحَةً مُسْقِطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ. وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنًا مِنْ غَيْرِ خِفَارَةٍ. وَالْخِفَارَةُ مُثَلَّثَةُ الْخَاءِ: هِيَ الْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى الْحَاجِّ. وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ السَّيْرِ وَالْأَدَاءِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْمُسْتَطِيعِ بِنَفْسِهِ لَا فِيمَا يُسَمُّونَهُ الْمُسْتَطِيعَ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةً تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ رَاحِلَةً، أَوْ وَجَدَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَهُمْ، وَلَا تُعَدُّ قُدْرَتُهُ عَلَى الْمَشْيِ اسْتِطَاعَةً عِنْدَهُمْ، لِحَدِيثِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَصْرِفُهُ فِي الزَّادِ وَالْمَاءِ، وَلَكِنَّهُ كَسُوبٌ ذُو صَنْعَةٍ يَكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ مَا يَكْفِيهِ، فَفِي ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَفْصِيلٌ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يَكْتَسِبُ فِي الْيَوْمِ إِلَّا كِفَايَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ ; لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنِ الْكَسْبِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ يَكْتَسِبُ فِي الْيَوْمِ كِفَايَةَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ الْحَجُّ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ يَوْمَ الْعِيدِ لَا تُجْعَلُ كَمِلْكِ الصَّاعِ فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، انْتَهَى مِنَ النَّوَوِيِّ، وَمُرَادُهُ بِالْإِمَامِ: إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، يَعْنِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَدَمَ وُجُوبِ الْحَجِّ بِذَلِكَ مُطْلَقًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَهِيَ هَلِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّحْصِيلِ بِمَنْزِلَةِ التَّحْصِيلِ أَوْ لَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّحْصِيلِ بِمَنْزِلَةِ التَّحْصِيلِ بِالْفِعْلِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالِاسْتِطَاعَةُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ: هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُشْتَرَطَةُ: مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ الصِّحَّةُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ الْمَذْكُورَة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ. أَمَّا الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَحُجَّتُهُمُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْآيَةِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ اهـ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْخُوزِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْخُوزِيُّ الْمَكِّيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. انْتَهَى مِنَ التِّرْمِذِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: تَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخُوزِيَّ الْمَذْكُورُ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ نَقَلَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّهُ لَمَّا سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، قَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْخُوزِيِّ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. اهـ. وَمُقْتَضَى مَا نَقَلَ الزَّيْلَعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُحَسِّنْهُ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْغَرَابَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخُوزِيَّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. فَلَا يَكُونُ حَدِيثٌ هُوَ فِي إِسْنَادِهِ حَسَنًا. قَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ: وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي سُنَنِهِ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْمُصْفَرُّ، ثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْمُصْفَرُّ ضَعِيفٌ. اهـ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ ضَعِيفٌ. قَالَ فِي الْمِيزَانِ فِيهِ: رَوَى عَبَّاسٌ عَنْ يَحْيَى لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: قَدْ تَرَكْنَا حَدِيثَهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ شُعْبَةَ: سَكَتُوا عَنْهُ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ عَجَائِبِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الْخُوزِيَّ كَمَا تَابَعَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْمُصْفَرِّ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا، أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَقَدْ تَابَعَهُ أَيْضًا فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ إِبْرَاهِيمَ الْخُوزِيِّ الْمَذْكُورِ، عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 فَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَأَعَلَّهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ، وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَعِينٍ ثُمَّ قَالَ: وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْخُوزِيِّ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ غَرِيبٌ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ تَضْعِيفَ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ. قَالَ: وَرُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَرُوِّينَاهُ مِنْ أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَفِيهِ قُوَّةٌ لِهَذَا السَّنَدِ. انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنْهُ: قَالَ الشَّيْخُ فِي الْإِمَامِ قَوْلَهُ: فِيهِ قُوَّةٌ، فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الطَّرِيقَ إِذَا كَانَ وَاحِدًا، وَرَوَاهُ الثِّقَاتُ مُرْسَلًا، وَانْفَرَدَ ضَعِيفٌ بِرَفْعِهِ، أَنْ يُعَلِّلُوا الْمُسْنَدَ بِالْمُرْسَلِ، وَيَحْمِلُوا الْغَلَطَ عَلَى رِوَايَةِ الضَّعِيفِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِضَعْفِ الْمُسْنَدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَقْوِيَةً لَهُ. اهـ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: قَالَ - يَعْنِي الشَّيْخَ - فِي الْإِمَامِ: وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عِلَّانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، ثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ. وَالْمُرْسَلُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ، ثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا السَّبِيلُ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زَادٌ وَرَاحِلَةٌ» . انْتَهَى. حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ، ثَنَا مَنْصُورٌ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. قَالَ: وَهَذِهِ أَسَانِيدٌ صَحِيحَةٌ إِلَّا أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مُسْنَدًا، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَإِنَّمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. اهـ. مِنْ نَصْبِ الرَّايَةِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ لَمْ يُسْنَدْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخُوزِيَّ مَتْرُوكٌ، وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَجَّاجِ الْمُصْفَرَّ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ تَابَعَهُ عَلَيْهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُتَابَعَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ لَا تُقَوِّيهِ ; لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَعَلَّ الْحَدِيثَ بِهِ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ. . اهـ مِنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 وَأَمَّا مُرْسَلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ صَحِيحًا إِلَى الْحَسَنِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ; لِأَنَّ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ فِيهَا ضَعْفٌ. وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَيْضًا: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ الْحَسَنُ جَامِعًا عَالِمًا رَفِيعًا فَقِيهًا ثِقَةً، مَأْمُونًا، عَابِدًا، نَاسِكًا، كَثِيرَ الْعِلْمِ، فَصِيحًا، جَمِيلًا، وَسِيمًا، وَكَانَ مَا أَسْنَدَ مِنْ حَدِيثِهِ وَرَوَى عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ، فَهُوَ حُجَّةٌ، وَمَا أَرْسَلَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ تَدْرِيبِ الرَّاوِي فِي شَرْحِ تَقْرِيبِ النَّوَاوِيِّ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مُرْسَلَاتُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَصَحُّ الْمُرْسَلَاتِ، وَمُرْسَلَاتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ لَا بَأْسَ بِهَا، وَلَيْسَ فِي الْمُرْسَلَاتِ أَضْعَفُ مِنْ مُرْسَلَاتِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ ; فَإِنَّهُمَا كَانَا يَأْخُذَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ. انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ: وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ عِنْدَهُمْ شِبْهُ الرِّيحِ، وَعَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِمَرَاسِيلِ الْحَسَنِ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هِيَ صِحَاحٌ إِذَا رَوَاهَا عَنْهُ الثِّقَاتُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: مُرْسَلَاتُ الْحَسَنِ إِذَا رَوَاهَا عَنْهُ الثِّقَاتُ صِحَاحٌ، مَا أَقَلَّ مَا يَسْقُطُ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كُلُّ شَيْءٍ يَقُولُ الْحَسَنُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَجَدْتُ لَهُ أَصْلًا ثَابِتًا مَا خَلَا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ. اهـ. فَهَذَا هُوَ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، بِحَسَبَ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْقُرَشِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، وَأَخْبَرَنِيهِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» يَعْنِي قَوْلَهُ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] وَهَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَمَحَلُّهُ الصِّدْقُ، مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: فِي حَدِيثِهِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَهْمٌ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: مَقْبُولٌ. اهـ. وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي الْبُيُوعِ: وَقَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 قَالَ: «أَيُّمَا ثَمَرَةٍ بِيعَتْ، ثُمَّ أُبِّرَتْ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ قَوْلِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرْنَا: وَأَمَّا كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ ; فَلِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَأَوْرَدَهُ بِأَلْفَاظِ الشَّوَاهِدِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، مَعَ أَنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَبِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ: وَأَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الزِّبْرِقَانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ حُصَيْنِ بْنِ الْمُخَارِقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ «لَا بَلْ حَجَّةٌ» ، قِيلَ: «فَمَا السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ: وَدَاوُدُ وَحُصَيْنٌ كِلَاهُمَا ضَعِيفَانِ. اهـ. وَداوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ الْمَذْكُورُ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ، وَكَذَّبَهُ الْأَزْدِيُّ، وَحُصَيْنُ بْنُ مُخَارِقٍ الْمَذْكُورُ قَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ قَالَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. اهـ. وَهَذَا حَاصِلُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ الْحَافِظُ بِالْكُوفَةِ، وَأَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ التَّاجِرُ، قَالَا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَجَلِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الْكِنْدِيُّ، ثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَقَدْ تَابَعَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ سَعِيدًا عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَاهُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ الْفَقِيهُ بِبُخَارَى، ثَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا أَبُو قَتَادَةَ، ثَنَا حَمَّادُ بْن سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] فَقِيلَ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. انْتَهَى مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ. وَأَقَرَّهُ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 تَصْحِيحِ الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ، فَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، وَقَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِالْإِسْنَادَيْنِ. اهـ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ «السَّبِيلُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . انْتَهَى. رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَأَعَلَّهُ بِعَتَّابٍ وَقَالَ: إِنَّ فِي حَدِيثِهِ وَهْمًا. انْتَهَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبِيلِ؟ فَقَالَ «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا: أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ أَعَلَّهُ الْعُقَيْلِيُّ بِعَتَّابِ بْنِ أَعْيَنَ، وَقَالَ: إِنَّ فِي حَدِيثِهِ وَهْمًا، وَأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ: لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ فِي عَتَّابٍ الْمَذْكُورِ، قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: فِي حَدِيثِهِ وَهْمٌ. رَوَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدِيثًا خُولِفَ فِي سَنَدِهِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَأَمَّا مُرْسَلُ الْحَسَنِ الَّذِي أَشَارَ لَهُ، فَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى قَرِيبًا. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ تَرَكُوهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ مُحَمَّدًا الْمَذْكُورَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ بَهْلُولِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِنَحْوِهِ. وَبَهْلُولُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. اهـ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ فِي بَهْلُولٍ الْمَذْكُورِ: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ ذَاهِبٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَسْرِقُ الْحَدِيثَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَبِمَا ذُكِرَ تَعَلَمُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ أَيْضًا: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِنَحْوِهِ. وَابْنُ لَهِيعَةَ وَالْعَرْزَمِيُّ ضَعِيفَانِ. قَالَ الشَّيْخُ فِي الْإِمَامِ: وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِيهَا إِسْنَادٌ يُحْتَجُّ بِهِ. انْتَهَى مِنْهُ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ رِوَايَاتِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِتَفْسِيرِ السَّبِيلِ فِي الْآيَةِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَثْبُتُ مُسْنَدًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ، إِلَّا الطَّرِيقُ الَّتِي أَرْسَلَهَا الْحَسَنُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ حَدِيثَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ الْمَذْكُورَ ثَابِتٌ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ ; لِأَنَّ الطَّرِيقَيْنِ اللَّتَيْنِ أَخْرَجَهُمَا بِهِ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كِلْتَاهُمَا صَحِيحَةُ الْإِسْنَادِ، وَأَقَرَّ تَصْحِيحَهُمَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِشَيْءٍ، وَالدَّعْوَى عَلَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي رِوَايَتِهِمَا الْحَدِيثَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا غَلَطٌ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا - دَعْوَى لَا مُسْتَنَدَ لَهَا، بَلْ هِيَ تَغْلِيطٌ وَتَوْهِيمٌ لِلْعُدُولِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ: أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَجَاءَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى غَيْرِ صَحِيحَةٍ، فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الطُّرُقُ عِلَّةً فِي الصَّحِيحَةِ، إِذَا كَانَ رُوَاتُهَا لَمْ يُخَالِفُوا جَمِيعَ الْحُفَّاظِ، بَلِ انْفِرَادُ الثِّقَةِ الْعَدْلِ بِمَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ غَيْرَهُ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. فَرِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا لَمْ يُخَالِفُوا فِيهَا غَيْرَهُمْ، بَلْ حَفِظُوا مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهُمْ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، فَادِّعَاءُ الْغَلَطِ عَلَيْهِمَا بِلَا دَلِيلٍ غَلَطٌ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَقَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ مُتَسَاهِلٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَاكِمَ مُتَسَاهِلٌ فِي التَّصْحِيحِ، لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ تَصْحِيحٌ مُطْلَقًا. وَرُبَّ تَصْحِيحٍ لِلْحَاكِمِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَتَصْحِيحُهُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ لَمْ يَتَسَاهَلْ فِيهِ؛ وَلِذَا لَمْ يُبْدِ النَّوَوِيُّ وَجْهًا لِتَسَاهُلِهِ فِيهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهِ بَلْ هُوَ تَصْحِيحٌ مُطَابِقٌ. فَإِنْ قِيلَ: مُتَابَعَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ لِسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ الْمَذْكُورَةُ، رَاوِيهَا عَنْ حَمَّادٍ هُوَ أَبُو قَتَادَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ، فَقَدْ تَسَاهَلَ الْحَاكِمُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، مَعَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهَا أَبَا قَتَادَةَ الْمَذْكُورَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْمَذْكُورَ، وَإِنْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، فَقَدْ وَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَنَاهِيكَ بِتَوْثِيقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَثَنَائِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ وَالذَّهَبِيُّ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ قَالَ لِأَبِيهِ: إِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صُبَيْحٍ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْمَذْكُورَ كَانَ يَكْذِبُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ جِدًّا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّهُ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُشْبِهُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَا بِهِ بَأْسٌ، رَجُلٌ صَالِحٌ، يُشْبِهُ أَهْلَ النُّسُكِ رُبَّمَا أَخْطَأَ. وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: أَبُو قَتَادَةَ الْحَرَّانِيُّ ثِقَةٌ. ذَكَرَهَا عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالذَّهَبِيُّ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لَعَلَّهُ كَبُرَ فَاخْتَلَطَ، تَخْمِينٌ وَظَنٌّ لَا يَثْبُتُ بِهِ اخْتِلَاطُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّعْدِيلَ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، وَالتَّجْرِيحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُفَصَّلًا، مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أَنَسٍ لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهَا كَلَامٌ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مُوَافَقَةُ الْحَافِظِ النَّقَّادَةِ الذَّهَبِيِّ لِلْحَاكِمِ عَلَى تَصْحِيحِ مُتَابِعَةِ حَمَّادٍ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ الصَّحِيحَ الْمَذْكُورَ مُعْتَضِدٌ بِمُرْسَلِ الْحَسَنِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَرَاسِيلَهُ صِحَاحٌ، إِذَا رَوَتْهَا عَنْهُ الثِّقَاتُ كَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَدِّدَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ ضِعَافًا؛ لِأَنَّهَا تُقَوِّي غَيْرَهَا، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا سَنَدَهُ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَتَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ حَدِيثَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، لَا يَقِلُّ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ وَالِاحْتِجَاجِ. وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ مَا يُبِلِّغُهُ ذِهَابًا وَإِيَابًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ حَدِيثَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلِاحْتِجَاجِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ بِدُونِ مَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ الرَّاحِلَةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ ; لِأَنَّهُ يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَصِّلُ مِنْهَا قُوتَهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ; لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الزَّادِ فِي طَرِيقِهِ كَتَحْصِيلِهِ بِالْفِعْلِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ، دُونَ الرَّاحِلَةِ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِقَبُولِ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ لَيْسَ مِنَ السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْآيَةَ بِأَغْلَبِ حَالَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ أَكْثَرَ الْحُجَّاجِ أَفَاقِيُّونَ، قَادِمُونَ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، وَالْغَالِبُ عَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنِ الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الْمَسَافَاتِ الطَّوِيلَةِ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ سَفَرِهِ بِلَا زَادٍ، فَفَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ بِالْأَغْلَبِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّصَّ إِذَا كَانَ جَارِيًا عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ، لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا مَنَعَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ تَزْوِيجَ الرَّجُلِ رَبِيبَتَهُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ قَائِلِينَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [4 \ 23] جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَإِذَا كَانَ أَغْلَبُ حَالَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَجَرَى الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، فَيَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ، إِمَّا لِعَدَمِ طُولِ الْمَسَافَةِ، وَإِمَّا لِقُوَّةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَى الْمَشْيِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى ذِي الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَصِّلُ مِنْهَا قُوتَهُ فِي سَفَرِهِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ وَاجِدِ الزَّادِ فِي الْمَعْنَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا سَوَّى فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْحَاجِّ الرَّاكِبِ وَالْحَاجِّ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْهِ. وَقَدَّمَ الْمَاشِيَ عَلَى الرَّاكِبِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [22 \ 27] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُسْتَوْفًى، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَطِيعِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا مَا يُسَمُّونَهُ الْمُسْتَطِيعَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: هُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، لِكَوْنِهِ زَمِنًا، أَوْ هَرِمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَهُ مَالٌ يَدْفَعُهُ إِلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] ؟ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ؟ وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ ; فَيَلْزَمُهُ عِنْدَهُمْ أُجْرَةُ أَجِيرٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ يَجِدَ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [53 \ 39] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] ، وَهَذَا لَا يَسْتَطِيعُ بِنَفْسِهِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْعَجْزِ كَالصَّلَاةِ، وَاحْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ امْرَأَةً (ح) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ; أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مَنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ:» نَعَمْ «. وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» فَحُجِّي عَنْهُ «. اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَخْرَجَهُ بَاقِي الْجَمَاعَةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِمَعْنَاهُ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ - قَالَ حَفْصٌ فِي حَدِيثِهِ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ. قَالَ:» احْجُجْ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ «وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، نَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ. إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ كَلَفْظِ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي ذَكَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْعُمْرَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنْ يَعْتَمِرَ الرَّجُلُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ اسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ. انْتَهَى مِنْهُ. وَحَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ هَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ اسْتِفْتَاءِ الْخَثْعَمِيَّةِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ حَدِيثٍ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، يَرَوْنَ أَنْ يُحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ حُجَّ عَنْهُ، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُحَجَّ عَنِ الْحَيِّ، إِذَا كَانَ كَبِيرًا أَوْ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَحُجَّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ. انْتَهَى مِنْ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. اهـ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ مَنْ خَثْعَمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي كَبِيرٌ، وَقَدْ أَفْنَدَ وَأَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهَا فَيُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ أُؤَدِّيَهَا عَنْهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» نَعَمْ «رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. انْتَهَى مِنْهُمَا بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمُجِدِّ فِي الْمُنْتَقَى وَالنَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَحَدِيثُ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ. اهـ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَقَدْ أَفْنَدَ؛ أَيْ: خَرِفَ وَضَعُفَ عَقْلُهُ مِنَ الْهِرَمِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مَنْ خَثْعَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوبَ، وَأَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ فَهَلْ يُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ» أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَكُنْتَ تَقْضِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحُجَّ عَنْهُ «وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ» أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ «قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَإِنْ شَدَدْتُهُ خَشِيتُ أَنْ يَمُوتَ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أَكَانَ مُجْزِئًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ» . اهـ مِنْ سُنَنِ النَّسَائِيِّ. وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ النَّسَائِيِّ قَالَ الْمُجِدُّ فِي الْمُنْتَقَى: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: قَالَ الْحَافِظُ: إِنَّ إِسْنَادَهُ صَالِحٌ. انْتَهَى. وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ نَوْعَيِ الْمُسْتَطِيعِ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ يَدْفَعُهُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَهُ وَلَدٌ يُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ وَالْوَلَدُ مُسْتَطِيعٌ، فَهَلْ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْوَالِدِ، وَيَلْزَمُهُ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالْحَجِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فَرْعٌ فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمَعْضُوبِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا لَا يُحِجُّ بِهِ غَيْرَهُ، فَوَجَدَ مَنْ يُطِيعُهُ ; قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَالِكًا احْتَجَّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَهُ مَالٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [53 \ 39] وَبِأَنَّهُ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَبِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ وَغَيْرَهُ رَوَوْا عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّهُ لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَنَحْوَهُ عَنِ اللَّيْثِ وَمَالِكٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ خَالَفُوهُ احْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَفِيهَا أَلْفَاظٌ ظَاهِرُهَا الْوُجُوبُ، كَتَشْبِيهِهِ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَكَقَوْلِ السَّائِلِ: يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ وَالْإِجْزَاءُ دَلِيلُ الْمُطَالَبَةِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهَا أَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ: إِنَّ عَلَيْهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، وَيَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَنَّ الْحَجَّ سَقَطَ عَنْهُ بِزَمَانَتِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَبِقَوْلِهِ لِلْوَلَدِ «أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ» وَأَمْرِهِ بِالْحَجِّ عَنْهُ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ وُجُودِ الْمَعْضُوبِ مَالًا فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْحَجَّ، وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَلَدًا يُطِيعُهُ فَلَمْ يُوجِبُوهُ عَلَيْهِ ; فَلِأَنَّ الْمَالَ مِلْكُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ بِهِ، وَالْوَلَدُ مُكَلَّفٌ آخَرُ لَيْسَ مُلْزَمًا بِفَرْضٍ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ بِبَدَنٍ، وَلَا بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ، وَلَوْ وَجَدَ إِنْسَانًا غَيْرَ الْوَلَدِ يُطِيعُهُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَلَدِ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ. وَفِي فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ تَوْجِيهُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا، فَانْظُرْهُ فِي النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ كَالْوَلَدِ. تَنْبِيهٌ إِذَا مَاتَ الشَّخْصُ، وَلَمْ يَحُجَّ، وَكَانَ الْحَجُّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِاسْتِطَاعَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ مَالًا، فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُحَجَّ وَيُعْتَمَرَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ أَنْ يُحُجَّ عَنْهُ، وَيُعْتَمَرَ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ مُفَرِّطًا أَوْ غَيْرَ مُفْرِّطٍ ; لِكَوْنِ الْمَوْتِ عَاجَلَهُ عَنِ الْحَجِّ فَوْرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالُكٌ: يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ، فَهُوَ فِي الثُّلُثِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [53 \ 39] مُقَدَّمٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، بَلْ عَلَى صَرِيحِهَا؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْهَا. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَبِأَنَّ الْمَعْضُوبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِسَعْيِهِ، بِتَقْدِيمِ الْمَالِ وَأُجْرَةِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. فَهَذَا مِنْ سَعْيِهِ، وَأَجَابُوا عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّلَاةِ بِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَالَّذِينَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ اسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ، تَقْتَضِي أَنَّ مَنْ مَاتَ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ ". اهـ. وَالْحَجُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا فَإِيجَابُ اللَّهِ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كِتَابِهِ أَقْوَى مِنْ إِيجَابِهِ بِالنَّذْرِ. وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ نَذْرِ الْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: فَإِذَا حَجَّ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ عَنِ النَّذْرِ. وَقِيلَ: يُجْزِئُ عَنِ النَّذْرِ، ثُمَّ يَحُجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: يُجْزِئُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ". اهـ. وَقَالَ الْمُجِدُّ فِي الْمُنْتَقَى بَعْدَ أَنْ أَشَارَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ هَذَا: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ مِنَ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أَوَارِثٌ هُوَ أَوْ لَا؟ وَشَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ. انْتَهَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ عَدَمَ الِاسْتِفْصَالِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَيْ: طَلَبَ التَّفْصِيلِ فِي أَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ، يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ الْقَوْلِيِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَنَزِّلَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ ... مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ وَخَالَفَ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، مَعَ بَيَانِ الْخِلَافِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، تَبَعًا لِلْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ، فَأَتَى أَخُوهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ " أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَاقْضُوا اللَّهَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ ". انْتَهَى. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي نَذْرِ الْحَجِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إِيجَابَ اللَّهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَعْظَمُ مِنْ إِيجَابِهَا بِالنَّذْرِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَضَائِهَا وَشَبَّهَهَا بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَسَنَذْكُرُ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا نَذْرُ الْحَجِّ. قَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ " أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ ". اهـ. وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، لَا كَلَامَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِلَّا الْحَكَمَ بْنَ أَبَانٍ الْعَدَنِيَّ. وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: صَالِحٌ. وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: ثِقَةٌ صَاحِبُ سُنَّةٍ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَتَيْتُ عَدَنَ، فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، وَعَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَقَالَ: رُبَّمَا أَخْطَأَ. وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنَاكِيرُ فِي رِوَايَتِهِ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَنْهُ، وَإِبْرَاهِيمُ ضَعِيفٌ. وَحَكَى ابْنُ خَلْفُونٍ تَوْثِيقَهُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: فِيهِ ضَعْفٌ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ: تَكَلَّمَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِهِ. وَبِمَا ذُكِرَ تَعْلَمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَذْرُ الْحَجِّ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 امْرَأَةُ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ الْجُهَنِيَّ، أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَيُجْزِئُ عَنْ أُمِّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ، لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا؟ فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا "، وَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِإِسْنَادٍ آخَرَ: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَبِيهَا، مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ. قَالَ: " حُجِّي عَنْ أَبِيكِ " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ صَحِيحٍ. وَقَالَ الْمُجِدُّ فِي الْمُنْتَقَى: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ " أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَبَاكَ تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ أَقَضَيْتَهُ عَنْهُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَاحْجُجْ عَنْ أَبِيكَ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. انْتَهَى مِنَ الْمُنْتَقَى. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ " نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا ". اهـ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. اهـ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ، سَمِعْتُ طَاوُسًا يَقُولُ: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا حَجٌّ، قَالَ: " حُجِّي عَنْ أُمِّكِ " وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ الشَّافِعِيِّ هَذَا مُرْسَلٌ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَبِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ قَالَ: فَقَالَ " وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صُومِي عَنْهَا، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا ". انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا: هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي الْحَيَاةِ، وَتَرَكَ مالًا وَجَبَ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، وَلَيْسَتْ كُلُّهَا ظَاهِرَةً فِي ذَلِكَ. وَلَكِنَّ بَعْضَهَا ظَاهِرٌ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 كَتَشْبِيهِهِ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ الْحَجَّ أَعْمَالٌ بَدَنِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ. وَالْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَلَا وُجُوبَ لِعَمَلٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ مُتَطَوِّعٌ، وَفَاعِلٌ خَيْرًا. قَالُوا: وَوَجْهُ تَشْبِيهِهِ بِالدَّيْنِ انْتِفَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَدِينُ يَنْتَفِعُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَالْمَيِّتُ يَنْتَفِعُ بِالْحَجِّ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ أَحَدٍ، أَنَّ الْقَضَاءَ عَنْهُ وَاجِبٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهُ عَنْهُ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ: وَارِدَةٌ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، قَالُوا: وَالْأَمْرُ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ كَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَالْحَظْرَ الْأَوَّلَ كِلَاهُمَا قَرِينَةٌ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى الْإِبَاحَةِ. قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ: فَإِنْ وَرَدَ بَعْدَ حَظْرٍ - قَالَ الْإِمَامُ: أَوِ اسْتِئْذَانٍ - فَلِلْإِبَاحَةِ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشِّيرَازِيُّ، وَالسَّمْعَانِيُّ وَالْإِمَامُ: لِلْوُجُوبِ، وَتَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. انْتَهَى مِنْهُ. فَتَرَاهُ صَدَّرَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْإِبَاحَةِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَبْيَاتِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ كَونِ الْأَمْرِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْإِبَاحَةِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا اصْطَادُوهُ بِالْجَوَارِحِ، وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي أَكْلِهِ، نَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [5 \ 4] فَصَارَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ سُؤَالٍ وَاسْتِئْذَانٍ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ مُسْلِمٍ: أَأُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ " نَعَمْ " الْحَدِيثَ، فَإِنَّ مَعْنَى " نَعَمْ " هُنَا: صَلِّ فِيهَا. وَهَذَا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ، وَخِلَافُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ أَوِ الِاسْتِئْذَانِ مَعْرُوفٌ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِي الْمُسْتَطِيعِ بِغَيْرِهِ، وَوُجُوبِ الْحَجِّ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَتَرَكَ مَالًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَدِلَّتَهُمْ وَمُنَاقَشَتَهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْمَعْضُوبِ وَالْمَيِّتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا وُجُوبُ الْحَجِّ فَوْرًا، وَعَلَيْهِ فَلَوْ فَرَّطَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 الْحَجِّ حَتَّى مَاتَ مُفَرِّطًا مَعَ الْقُدْرَةِ، أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِنْ تَرَكَ مَالًا ; لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَقَضَاءُ دَيْنِ اللَّهِ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِأَحَقِّيَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ". أَمَّا مَنْ عَاجَلَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَمَاتَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ، فَالظَّاهِرُ لَنَا أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا دَيْنَ لِلَّهِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَاءِ الْفِعْلِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ نَفَسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى جَوَازِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقُوهُ، لَمْ يَعْمَلُوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعَ كَثْرَتِهَا وَصِحَّتِهَا ; لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ عِنْدَهُمْ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [53 \ 39] . وَقَوْلِهِ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] وَالْمَعْضُوبُ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمُسْتَطِيعٍ ; لِصِدْقِ قَوْلِكَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ; مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: أَنَّ الصَّحِيحَ الْقَادِرَ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْهُ فِي الْفَرْضِ. وَالْمَعْضُوبُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ، وَأَحْرَى الْمَيِّتُ، فَالْحَجُّ عَنْهُمَا مِنْ مَالِهِمَا لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ إِلَّا بِوَصِيَّةٍ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ صَحَّ مِنَ الثُّلُثِ، وَتَطَوُّعُ وَلَيِّهِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، خِلَافُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ، بَلْ مَكْرُوهٌ. وَالْأَفْضَلُ عِنْدَهُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، كَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ أَوْ يُعْتِقَ بِهِ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْهُ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَصَحَّ حَجُّهُ عَنْهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النِّيَابَةَ عَنِ الصَّحِيحِ فِي الْفَرْضِ عِنْدَهُ مَمْنُوعَةٌ، وَفِي غَيْرِ الْفَرْضِ مَكْرُوهَةٌ، وَالْعَاجِزُ عِنْدَهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ أَصْلًا لِلْحَجِّ. قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَمُنِعَ اسْتِنَابَةُ صَحِيحٍ فِي فَرْضٍ، وَإِلَّا كُرِهَ. اهـ. وَقَالَ شَارِحُهُ الْخَطَّابُ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِلَّا كُرِهَ، بِحَسَبِ الظَّاهِرِ ثَلَاثُ صُوَرٍ: اسْتِنَابَةُ الصَّحِيحِ فِي النَّفْلِ، وَاسْتِنَابَةُ الْعَاجِزِ فِي الْفَرْضِ وَفِي النَّفْلِ، لَكِنْ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ هُنَا إِلَّا صُورَتَانِ ; لِأَنَّ الْعَاجِزَ لَا فَرِيضَةَ عَلَيْهِ. اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ حَمَلَ الْكَرَاهَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَوَازِ الْحَجِّ عَنِ الْمَعْضُوبِ وَالْمَيِّتِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الَّذِي يَحُجُّ عَنْهُمَا قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، خِلَافًا لِمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّائِبَ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْحَجِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِحَدِيثٍ جَاءَ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّالَقَانِيُّ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ - الْمَعْنَى وَاحِدٌ - قَالَ إِسْحَاقُ: ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ «مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي - أَوْ: قَرِيبٌ لِي - قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: قَرِيبٌ لِي. قَالَ: هَلْ حَجَجْتَ قَطُّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» ، وَإِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، مَعْرُوفُونَ، إِلَّا عَزْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ قَتَادَةُ، وقَتَادَةُ رَوَى عَنْ ثَلَاثَةٍ كُلُّهُمُ اسْمُهُ: عَزْرَةَ، وَعَزْرَةُ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ ذَكَرَاهُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ عَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى، وَعَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى لَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَلَمْ يَخُصُّهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ بِتَرْجَمَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ فِيهِ: مَقْبُولٌ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكِلَابِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ، وَقَالَ: يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: أَثْبَتُ النَّاسِ سَمَاعًا، عَنْ سَعِيدٍ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّيْخُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ سَعِيدٍ، ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ رِوَايَةَ أَبِي يُوسُفَ، وَأَوْرَدَ مَتْنَ الْحَدِيثِ كَمَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَرَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا حَافِظٌ ثِقَةٌ، فَلَا يَضُرُّهُ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُ، وعَزْرَةُ هَذَا هُوَ عَزْرَةُ بْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْحَافِظَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ أَيْضًا عَنْ عَزْرَةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَعَنْ عَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. اهـ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ، وَقَدْ أَوْرَدَ رِوَايَاتٍ أُخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تُؤَيِّدُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ وَأَطَالَ فِيهِ الْكَلَامَ، وَذَكَرَ كَلَامَ الْبَيْهَقِيِّ فِي تَصْحِيحِهِ، وَكَلَامَ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْهُ وَذَكَرَ طُرُقَهُ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: فَيَجْتَمِعُ مِنْ هَذَا صِحَّةُ الْحَدِيثِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ شُبْرُمَةَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ كَمَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّوَوِيَّ يَظُنُّ أَنَّ عَزْرَةَ الْمَذْكُورَ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهُوَ عَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنْ تَصْحِيحِ الْبَيْهَقِيِّ لِلْحَدِيثِ، وَأَنَّ رَفْعَهُ أَصَحُّ مِنْ وَقْفِهِ. فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ الْحَدِيثَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّائِبَ فِي الْحَجِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَاسَ الْعُلَمَاءُ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَقَالُوا: يَصِحُّ حَجُّ النَّائِبِ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْحَجِّ عَنِ الْمَعْضُوبِ وَالْمَيِّتِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهَا: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ، حُجَّ عَنْ أُمِّكَ» ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، وَلَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا مِنْهُمْ هَلْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ لَا. وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الْخَاصِّ الَّذِي فِيهِ قِصَّةُ شُبْرُمَةَ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَلَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ حَتَّى يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، وَهَلْ ذَلِكَ الْوُجُوبُ عَلَى سَبِيلِ الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي؟ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَسَنُبَيِّنُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَقْوَالَهُمْ وَحُجَجَهُمْ، وَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ عِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ، فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي ; الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا نَصَّ فِي ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ: إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْنَ شُجَاعٍ رَوَى عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ وَقَدْ قَصَدَ التَّزَوُّجَ، قَالَ: يَحُجُّ وَلَا يَتَزَوَّجُ ; لِأَنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. انْتَهَى. وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَعَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، كِلَاهُمَا شَهَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ مَا لَمْ يَحْسُنِ الْفَوَاتُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوَاتِ، فَإِنْ خَشِيَهُ وَجَبَ عِنْدَهُمْ فَوْرًا اتِّفَاقًا. قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ: وَفِي فَوْرِيَّتِهِ وَتَرَاخِيهِ لِخَوْفِ الْفَوَاتِ خِلَافٌ. اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ إِنْ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: خِلَافٌ، فَهُوَ يَعْنِي بِذَلِكَ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَشْهِيرِ الْقَوْلِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ الْجَلَّابُ: مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَفَرْضُهُ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي وَالتَّسْوِيفِ، وَعَنِ ابْنِ عَرَفَةَ هَذَا لِلْعِرَاقِيِّينَ، وَعَزَا لِابْنِ مُحْرِزٍ وَالْمَغَارِبَةِ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَابْنِ رُشْدٍ: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ حُجَجُهُمْ: أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ فُرِضَ عَامَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ آيَةَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْآيَةَ [2 \ 196] نَزَلَتْ عَامَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي شَأْنِ مَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إِحْصَارِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهَ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ بِعُمْرَةٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ عَامِ سِتٍّ بِلَا خِلَافٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 [2 \ 196] ، وَذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا الْآيَةَ [2 \ 196] ، وَلِذَا جَزَمَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ عَامَ سِتٍّ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ الْحَجُّ فُرِضَ عَامَ سِتٍّ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ إِلَّا عَامَ عَشْرٍ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ عَنْ أَوَّلِ وَقْتٍ لِلْحَجِّ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. قَالُوا: وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ عَامُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَتَحَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ عَامِ ثَمَانٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ، قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ، فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ، بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَحُجُّوا، قَالُوا: ثُمَّ غَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ فِي عَامِ تِسْعٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا قَبْلَ الْحَجِّ، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ قَادِرُونَ عَلَى الْحَجِّ، غَيْرُ مُشْتَغِلِينَ بِقِتَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَمْ يَحُجُّوا، ثُمَّ حَجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ سَنَةَ عَشْرٍ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، قَالُوا: فَتَأْخِيرُهُ الْحَجَّ الْمَذْكُورَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ عَلَى التَّرَاخِي. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِمَا جَاءَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ السَّعْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا. قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا، قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: صَدَقَ. ثُمَّ وَلَّى قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ ". انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالُوا: هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ جَاءَ فِيهِ وُجُوبُ الْحَجِّ، وَقَدْ زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ قُدُومَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ كَانَ عَامَ خَمْسٍ، قَالُوا: وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٍ فَقَالَ فِيهِ: بَعَثَ بَنُو سَعْدٍ ضِمَامًا فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ كَانَ مَفْرُوضًا عَامَ خَمْسٍ، فَتَأْخِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ إِلَى عَامِ عَشْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، لَا عَلَى الْفَوْرِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَمَرَ الْمُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ أَنْ يَفْسَخُوهُ فِي عُمْرَةٍ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا: أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الْحَجَّ مِنْ سَنَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ إِلَى سِنِينَ، ثُمَّ فَعَلَهُ ; فَإِنَّهُ يُسَمَّى مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ لَا قَاضِيًا لَهُ بِالْإِجْمَاعِ، قَالُوا: وَلَوْ حَرُمَ تَأْخِيرُهُ لَكَانَ قَضَاءً لَا أَدَاءً. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي: مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ، لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِامْتِثَالُ الْمُجَرَّدُ. فَوُجُوبُ الْفَوْرِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ زَائِدٍ عَلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ: أَنَّهُمْ قَاسُوا الْحَجَّ عَلَى الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ. قَالُوا: فَهِيَ عَلَى التَّرَاخِي، وَيُقَاسُ الْحَجُّ عَلَيْهَا، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَاجِبٌ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي كَوْنِهِمَا عَلَى التَّرَاخِي، بِجَامِعِ أَنَّ كِلَيْهِمَا وَاجِبٌ، لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ: قَالُوا: وَلَكِنْ ثَبَتَتْ آثَارٌ: أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ غَايَةُ زَمَنِهِ مُدَّةُ السَّنَةِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَدِلَّةٍ، وَمَنَعُوا أَدِلَّةَ الْمُخَالِفِينَ. فَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُفْهَمُ مِنْهَا ذَلِكَ، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مِنْهَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى تَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يُبَادِرْ، وَتَخْوِيفِهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَمْتَثِلَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اقْتَرَبَ أَجْلُهُ، وَهُوَ لَا يَدْرِي. أَمَّا آيَاتُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَكَقَوْلِهِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [3 \ 133] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [57 \ 21] ، فَقَوْلُهُ: وَسَارِعُوا وَقَوْلُهُ: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَجَنَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ بِالْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَارَعَةَ وَالْمُسَابَقَةَ كِلْتَاهُمَا عَلَى الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي، وَكَقَوْلِهِ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ الْآيَةَ [2 \ 148] ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الِاسْتِبَاقُ إِلَى الِامْتِثَالِ. وَصِيَغُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَسَارِعُوا وَقَوْلِهِ: سَابِقُوا، وَقَوْلِهِ: فَاسْتَبِقُوا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ، إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْقَرَائِنِ اقْتَضَتِ الْوُجُوبَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: وَافْعَلْ لَدَى الْأَكْثَرِ لِلْوُجُوبِ. . إِلَخْ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا، بِأَنَّ أَمْرَهُ قَاطِعٌ لِلِاخْتِيَارِ، مُوجِبٌ لِلِامْتِثَالِ، وَقَدْ سَمَّى نَبِيُّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [20 \ 93] يَعْنِي قَوْلَهُ لَهُ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [7 \ 142] وَإِنَّمَا قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَلَمَّا عَلِمَهَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [7 \ 151] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا عَنَّفَ إِبْلِيسَ لَمَّا خَالَفَ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] وَالنُّصُوصُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً، مَثَلًا، فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ فَأَدَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ ذَلِكَ التَّأْدِيبَ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ ; لِأَنَّهُ عَصَاهُ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، فَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تُؤَدِّبَنِي، لِأَنَّ أَمْرَكَ لِي بِقَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً، لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ - لَقَالَ لَهُ أَهْلُ اللِّسَانِ: كَذَبْتَ، بَلِ الصِّيغَةُ أَلْزَمَتْكَ، وَلَكِنَّكَ عَصَيْتَ سَيِّدَكَ، فَدَلَّ مَا ذُكِرَ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ دَلَّا عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْوُجُوبَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: سَابِقُوا وَقَوْلَهُ: وَسَارِعُوا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ فَوْرًا. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى الْمُبَادِرِينَ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ رَبِّهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ الْآيَةَ [21] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [23 \ 61] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الدَّالُّ عَلَى التَّخْوِيفِ مِنَ الْمَوْتِ قَبْلَ الِامْتِثَالِ الْمُتَضَمِّنِ الْحَثَّ عَلَى الِامْتِثَالِ: فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ خَلْقَهُ أَنْ يَنْظُرُوا فِي غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ، كَخَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [10 \ 101] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [50 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [88 \ 17 - 20] . ثُمَّ ذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّظَرَ مَعَ لُزُومِهِ يَجِبُ مَعَهُ النَّظَرُ فِي اقْتِرَابِ الْأَجَلِ، فَقَدْ يَقْتَرِبُ أَجَلُهُ وَيَضِيعُ عَلَيْهِ أَجْرُ الِامْتِثَالِ بِمُعَالَجَةِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [7 \ 185] إِذِ الْمَعْنَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي أَنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَجَلُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَ، فَيَضِيعُ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ بِعَدَمِ الْمُبَادَرَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُعَالِجَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، أَحَادِيثُ جَاءَتْ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ، إِلَّا أَنَّهَا تَعْتَضِدُ بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَبِمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَهَا. مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيِّ، عَنْ فُضَيْلٍ، يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ " يَعْنِي الْفَرِيضَةَ. فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: تَعَجَّلُوا، يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ نَقَلَ حَدِيثَ أَحْمَدَ هَذَا الْمُجِدُّ فِي الْمُنْتَقَى بِحَذْفِ الْإِسْنَادِ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ " - يَعْنِي الْفَرِيضَةَ - " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ سَكَتَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَيْضًا شَارِحُهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَظَاهِرُ سُكُوتِهُمَا عَلَيْهِ: أَنَّهُ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ عِنْدَهُمَا، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صَلَاحِيَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِانْفِرَادِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 لِلِاحْتِجَاجِ ; فَفِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيفَةَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ، وَهُوَ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ ; لِأَنَّهُ ضَعَّفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ شِيعِيًّا مِنْ غُلَاتِهِمْ، وَكَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ، سَيِّئُ الْحِفْظِ، نُسِبَ إِلَى الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِهِ، وَانْظُرْ إِنْ شِئْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ، وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيُّ، عَنْ مِهْرَانَ أَبِي صَفْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ". اهـ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا [أبو] مُعَاوِيَةُ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مِهْرَانَ أَبِي صَفْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ". اهـ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْمُثَنَّى، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ أَبِي صَفْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَأَبُو صَفْوَانَ هَذَا سَمَّاهُ غَيْرُهُ مِهْرَانَ، مَوْلًى لِقُرَيْشٍ، وَلَا يُعْرَفُ بِالْجَرْحِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ لِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَا يَخْلُو هَذَا السَّنَدُ مِنْ مَقَالٍ ; لِأَنَّ فِيهِ مِهْرَانَ أَبَا صَفْوَانَ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: كُوفِيٌّ مَجْهُولٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَقَالَ فِيهِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ "، وَعَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيُّ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. قُلْتُ: وَقَالَ الْحَاكِمُ لَمَّا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ هَذَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ: لَا يُعْرَفُ بِجَرْحٍ. انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ مِهْرَانَ الْمَذْكُورَ مُعْتَبَرٌ بِهِ، فَيَعْتَضِدُ بِمَا قَبْلَهُ، وَبِمَا بَعْدَهُ، مَعَ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ عَدَّهُ فِي الثِّقَاتِ، وَصَحَّحَ حَدِيثَهُ الْحَاكِمُ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى ذَلِكَ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَا: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَبُو إِسْرَائِيلَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ - أَوْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ; فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ ". اهـ. وَفِي سَنَدِهِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيفَةَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ ضَعَّفُوهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يَحْبِسْهُ مَرَضٌ، أَوْ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَلَهُ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي السُّنَنِ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِلَفْظِ: " مَنْ لَمْ يَحْبِسْهُ مَرَضٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا ". لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: " مَنْ كَانَ ذَا يَسَارٍ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ " الْحَدِيثَ. وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَشَرِيكٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ، وَقَدْ خَالَفَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَأَرْسَلَهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ " فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا. وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ مُرْسَلًا، وَأَوْرَدَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ شَرِيكٍ مُخَالِفَةٍ لِلْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَرَاوِيهَا عَنْ شَرِيكٍ عَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرِيقَ أَبِي يَعْلَى هَذِهِ فِي تَرْجَمَةِ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ الرَّهَاوِيِّ الْمَذْكُورِ الرَّاوِي، عَنْ شَرِيكٍ: هَذَا مُنْكَرٌ عَنْ شَرِيكٍ. الثَّانِي: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّاوِي لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولٌ، وَسُئِلَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: مَنْ هِلَالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يُعْرَفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ بِمَحْفُوظٍ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. اهـ. وَقَالَ فِيهِ فِي التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا، وَلَمْ يُرْوَ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: طَرِيقُ أَبِي أُمَامَةَ عَلَى مَا فِيهَا أَصْلَحُ مِنْ هَذِهِ. الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ وَجَعٍ حَابِسٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 أَوْ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، أَوْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ; فَلْيَمُتْ أَيَّ الْمِيتَتَيْنِ شَاءَ: إِمَّا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَطَفَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ - وَهُمَا مَتْرُوكَانِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ ; إِلَّا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَتَنْظُرَ كُلَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ جِدَّةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ ; مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ " لَفْظُ سَعِيدٍ، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لِيَمُتْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا - يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - رَجُلٌ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَجَدَ لِذَلِكَ سَعَةً، وَخُلِّيَتْ سَبِيلُهُ. قُلْتُ: وَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الْمَوْقُوفُ إِلَى مُرْسَلِ ابْنِ سَابِطٍ، عُلِمَ أَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَمَحْمَلُهُ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّ التَّرْكَ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ خَطَأُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنَ التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ بِلَفْظِهِ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَحْمَلُهُ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّ التَّرْكَ، هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْكُفْرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] يُحْمَلُ عَلَى مُسْتَحِلِّ التَّرْكِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالِ أَنَّهَا تُصَرِّحُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِثْمِ إِلَّا مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْحَجِّ؛ كَالْمَرَضِ، أَوِ الْحَاجَةِ الظَّاهِرَةِ، أَوِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ. فَلَوْ كَانَ تَرَاخِيهِ لِغَيْرِ الْعُذْرِ الْمَذْكُورِ لَكَانَ قَدْ مَاتَ، وَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّرَاخِي فِيهِ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الطُّرُقَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: وَهَذِهِ الطُّرُقُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَبِذَلِكَ تَتَبَيَّنُ مُجَازَفَةُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي عَدِّهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، فَإِنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الطُّرُقِ لَا يَقْصُرُ عَنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُحْتَجٌّ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: لَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ نَفْيَ الصِّحَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحُسْنِ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ " قَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ - يَعْنِي حَدِيثَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورَ فَقَالَا: صَدَقَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَابِتٌ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ، والْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 قَدَّمْنَا أَنَّهُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِيهِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ والْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ: " فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ " ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " مِنْ قَابِلٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَضَاءَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى الْمُحْصَرِ فِي غَيْرِهَا، وَبَيَّنَّا أَدِلَّةَ ذَلِكَ هُنَاكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [2 \ 196] وَالرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا هُنَاكَ: " فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى "، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْ بَيَّنَتْهَا رِوَايَةُ: " وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ " وَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْفَوْرِ، مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا هُنَاكَ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ - مَعَ تَعَدُّدِهَا وَاخْتِلَافِ طُرُقِهَا - تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَعْتَضِدُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَتَعْتَضِدُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " - مَعَ ضَعْفِهِ - حُجَّةٌ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ وَكَلَ الْأَمْرَ إِلَى إِرَادَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَقِلُّ مَجْمُوعُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ، عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ قَالُوا: إِنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ وَالْعَقْلَ كُلَّهَا دَالٌّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرَ. أَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ فَوْرًا لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [3 \ 133] ، وَكَقَوْلِهِ: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [57 \ 21] ، وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرَ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ. وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَإِنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَدَّبَهُ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: صِيغَةُ افْعَلْ فِي قَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً، تَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَكُنْتُ سَأَمْتَثِلُ بَعْدَ زَمَنٍ مُتَرَاخٍ عَنِ الْأَمْرِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّيغَةَ أَلْزَمَتْكَ فَوْرًا، وَلَكِنَّكَ عَصَيْتَ أَمْرَ سَيِّدِكَ بِالتَّوَانِي وَالتَّرَاخِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرَاخِي لَهُ غَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ يَنْتَهِي عِنْدَهَا، وَإِمَّا لَا، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ زَمَنٌ يَتَحَتَّمُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، بَلِ الْعُمُرُ كُلُّهُ تَسْتَوِي أَجْزَاؤُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَعْيِينُ غَايَةٍ لَهُ لَمْ يُعَيِّنْهَا الشَّرْعُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ: أَنَّ تَرَاخِيَهُ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهِ ; لِأَنَّ مَا جَازَ تَرْكُهُ جَوَازًا لَمْ تُعَيَّنْ لَهُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، فَإِنَّ تَرْكَهُ جَائِزٌ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهِ، وَالْمَفْرُوضُ وُجُوبُهُ. فَإِنْ قِيلَ: غَايَتُهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاؤُهُ إِلَيْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَقَاءَ إِلَى زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْقَى سِنِينَ فَيَخْتَرِمُهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [7 \ 185] وَلَا يَنْتَهِي إِلَى حَالَةٍ يَتَيَقَّنُ الْمَوْتَ فِيهَا إِلَّا عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا سِيَّمَا الْعِبَادَاتُ الشَّاقَّةُ كَالْحَجِّ. وَالْإِنْسَانُ طَوِيلُ الْأَمَلِ، يَهْرَمُ، وَيَشِبُّ أَمَلُهُ، وَتَحْدِيدُ وَجُوبِهَ بِسِتِّينَ سَنَةً تَحْدِيدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَمَنَعُوا أَدِلَّةَ الْمُخَالِفِينَ، قَالُوا إِنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ الْحَجَّ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ بِدَلِيلِ قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ قُدُومَهُ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبَ الْحَجِّ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْآيَةَ [2 \ 196] نَزَلَتْ عَامَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عَامَ سِتٍّ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهُ بَعْدَ فَرْضِهِ إِلَى عَامِ عَشْرٍ، كُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ، بَلِ الْحَجُّ إِنَّمَا فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ، قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ السَّعْدِيِّ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ فِي تَرْجَمَةِ ضِمَامٍ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَزَعَمَ الْوَاقِدَيُّ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَهَذَا عِنْدِي أَرْجَحُ. اهـ مِنْهُ، وَانْظُرْ تَرْجِيحَ ابْنِ حَجَرٍ لِكَوْنِ قُدُومِهِ عَامَ تِسْعٍ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ قُدُومَ ضِمَامٍ الْمَذْكُورِ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ تِسْعٍ، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ قُدُومَهُ كَانَ قَبْلَ عَامِ خَمْسٍ، هَذَا وَجْهُ رَدِّهِمْ لِلِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ ضِمَامٍ، وَأَمَّا وَجْهُ رَدِّهِمْ لِلِاحْتِجَاجِ بِآيَةِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] فَهُوَ أَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وُجُوبُ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا يَسْتَلْزِمُ ابْتِدَاءَ الْوُجُوبِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] فَإِنَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَيْسَ فِيهَا فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ وَإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ تَأَخُّرُ نُزُولِ فَرْضِهِ إِلَى التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ عَامَ الْوُفُودِ، وَفِيهِ: قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَفِيهَا نَزَلَ صَدْرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَنَاظَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْمُبَاهَلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ، وَجَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ التِّجَارَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [9 \ 28] فَأَعَاضَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْجِزْيَةَ، وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُنَادَاةُ بِهَا إِنَّمَا كَانَ عَامَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ فِي مَكَّةَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْ زَادِ الْمَعَادِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ آيَةَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ إِتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَوْ كَانَ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ لَمَا حَصَلَ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْخِلَافُ فِي وُجُوبِهَا مَعْرُوفٌ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحُهُ. بَلِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ: هُوَ وُجُوبُ إِتْمَامِهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَأَنَّ قِصَّةَ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، كَانَتْ عَامَ تِسْعٍ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ، فَظَهَرَ سُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَبِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا ; لِأَنَّ آيَةَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] هِيَ الْآيَةُ الَّتِي فُرِضَ بِهَا الْحَجُّ. وَهِيَ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَدْ نَزَلَ عَامَ الْوُفُودِ، وَفِيهِ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ، وَصَالَحَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَعَلَى كَوْنِ الْحَجِّ إِنَّمَا فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُ انْصَرَفَ مِنْ مَكَّةَ وَالْحَجُّ قَرِيبٌ، وَلَمْ يَحُجَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ سَبَبَ تَأْخِيرِهِ الْحَجَّ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، أَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ عَامَ تِسْعٍ، بَلْ أَخَّرَ حَجَّهُ إِلَى عَامِ عَشْرٍ، وَهَذَا يَكْفِينَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ بَعْدَ فَرْضِهِ إِلَى عَامِ عَشْرٍ. فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ عَامَ تِسْعٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ النَّبِيُّ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ الَّذِي هُوَ عَامُ تِسْعٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [9 \ 28] ، وَ (عَامِهِمْ هَذَا) هُوَ عَامُ تِسْعٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ عَامَ تِسْعٍ، وَلِذَا أَرْسَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ يُنَادِي بِـ " بَرَاءَةٌ " وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا عُرْيَانٌ، فَلَوْ بَادَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَجِّ عَامَ تِسْعٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى رُؤْيَتِهِ الْمُشْرِكِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ فِيهَا مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ، فَأَوَّلُ وَقْتٍ أَمْكَنَهُ فِيهِ الْحَجُّ صَافِيًا مِنَ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَائِقِ بَعْدَ وُجُوبِهِ: عَامُ عَشْرٍ، وَقَدْ بَادَرَ بِالْحَجِّ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ، أَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى تَأْخِيرِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَا أَحْرَمُوا فِيهِ فَسَخُوهُ فِي عُمْرَةٍ، وَحَلُّوا مِنْهُ - بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَأْخِيرُ الْحَجِّ لِعَزْمِهِمْ عَلَى أَنْ يَحُجُّوا فِي تِلْكَ السَّنَةِ بِعَيْنِهَا، وَتَأْخِيرُ الْحَجِّ إِنَّمَا هُوَ بِتَأْخِيرِهِ مِنْ سَنَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاقِعٍ هُنَا، فَلَا تَأْخِيرَ لِلْحَجِّ فِي الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّهُمْ حَجُّوا فِي عَيْنِ الْوَقْتِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ مَنْ لَمْ يَفْسَخْ حَجَّهُ فِي عُمْرَةٍ، فَلَا تَأْخِيرَ كَمَا تَرَى، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَوْ أَخَّرَهُ مِنْ سَنَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ سِنِينَ، ثُمَّ فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ حَرُمَ التَّأْخِيرَ لَكَانَ قَضَاءً - بِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ خَرَجَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُعِينُ لَهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَالْحَجُّ لَمْ يُوَقَّتْ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَالْعُمُرُ كُلُّهُ وَقْتٌ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمُبَادَرَةِ خَوْفًا مَنْ طُرُوِّ الْعَوَائِقِ، أَوْ نُزُولِ الْمَوْتِ قَبْلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 الْأَدَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ ثُمَّ أَخَّرَهُ ثُمَّ فَعَلَهُ، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَأْخِيرِهِ. وَلَوْ كَانَ التَّأْخِيرُ حَرَامًا لَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَجُوزُ - بِأَنَّهُ مَا كُلُّ مَنِ ارْتَكَبَ مَا لَا يَجُوزُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، بَلْ لَا تُرَدُّ إِلَّا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْفِسْقِ، وَهُنَا قَدْ يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِتَفْسِيقِهِ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ حَرَامًا، وَشُبْهَةُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي أَقَامُوهَا عَلَى ذَلِكَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي وَأَلْيَقُهُمَا بِعَظْمَةِ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ أَوَامِرِهِ جَلَّ وَعَلَا - كَالْحَجِّ - عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمُبَادَرَةِ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ مُبَاغَتَةِ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [3 \ 133] وَمَا قَدَّمْنَا مَعَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [7 \ 185] وَلِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ وَالْعَقْلَ كُلُّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْجُهَ الْجَوَابِ عَنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إِلَّا سَنَةَ عَشْرٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ وُجُوبَ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ بِقَوْلِهِ: وَكَوْنُهُ لِلْفَوْرِ أَصْلُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ لَدَى الْقَيْدِ بِتَأْخِيرِ أَبِي الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مُفْرِدًا الْحَجَّ، وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ قَارِنًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا هُوَ الْأَفْضَلُ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَجَوَازُ الثَّلَاثَةِ قَالَ بِهِ الْعُلَمَاءُ وَكَافَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إِلَّا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنِ التَّمَتُّعِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وَقَالَ أَيْضًا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ، بِأَيِّ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِي مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ» . هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ادِّعَاءَ بَعْضِ الْمُعَاصِرِينَ أَنَّ إِفْرَادَ الْحَجِّ مَمْنُوعٌ، مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّ بِاتِّفَاقِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهَا مَعَ مُنَاقَشَةِ الْأَدِلَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اعْلَمْ أَنَّ مِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ: مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ - فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ - وَأَصْحَابُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ، وَعَلَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَلَى غَيْرِهِ بِأَدِلَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ. الْأَوَّلُ: أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ أَفْرَدَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ. أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. وَلَا يَحْتَمِلُ لَفْظُ عَائِشَةَ هَذَا غَيْرَ إِفْرَادِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ مَعَهُ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ، وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَمَتَّعَ وَبَعْضَهُمْ قَرَنَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَهُوَ الْحَجُّ الْمُفْرَدُ، وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 فَقَالَ: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ» . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِي مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِفْرَادِ بِحَالٍ ; لِأَنَّهَا ذَكَرَتِ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ وَالْإِفْرَادَ، وَصَرَّحَتْ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرِيدُ الْقِرَانَ وَلَا غَيْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: وَلَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: وَلَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ. كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَبَعْضُهَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي حَدِيثِهِ - أَعْنِي جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ حَجَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ بَيَانٍ، وَسَاقَهَا أَحْسَنَ سِيَاقَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَبْطِهِ لَهَا وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، الْحَدِيثَ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ دُونَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لِقَوْلِهِ: لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا قَالَ: أَهْلَلْنَا - أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ. وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِلَفْظِ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْهُ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَيْضًا: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنِ الْهِلَالِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا: قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا - بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ - قَالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ؟ فَقَالَ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ. فَرَجَعْتُ إِلَى أَنَسٍ فَأَخْبَرْتُهُ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: كَأَنَّمَا كُنَّا صِبْيَانًا. انْتَهَى مِنْهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ إِفْرَادِ الْحَجِّ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْقِرَانَ وَلَا التَّمَتُّعَ بِحَالٍ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ بَكْرًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَنَسًا يَقُولُ: إِنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَنَسٍ دَعْوَاهُ الْقِرَانَ قَائِلًا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِفْرَادِ كَمَا تَرَى. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا. اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: بِمَ أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَهَلَّ بِالْحَجِّ. فَانْصَرَفَ ثُمَّ أَتَاهُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ: بِمَ أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَلَمْ تَأْتِنِي عَامَ أَوَّلٍ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَرَنَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُنْكَشِفَاتُ الرُّءُوسِ، وَإِنِّي كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّنِي لُعَابُهَا أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الْأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ. فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُهِلُّ بِالْحَجِّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ. الْحَدِيثَ. قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مُفْرِدًا، وَرُوَاتُهَا مِنْ أَضْبَطِ الصَّحَابَةِ وَأَتْقَنِهِمْ، قَالُوا: فَمِنْهُمْ جَابِرٌ الَّذِي عُرِفَ ضَبْطُهُ وَحِفْظُهُ، وَخُصُوصًا ضَبْطُهُ لِحَجَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ الَّذِي رَدَّ عَلَى أَنَسٍ، وَذَكَرَ أَنَّ لُعَابَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمَسُّهُ. وَمِنْهُمْ: عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَحِفْظُهَا وَضَبْطُهَا وَاطِّلَاعُهَا عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ. وَمِنْهُمْ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَكَانَتُهُ فِي الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ مَعْرُوفَةٌ. الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ - هُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُفْرِدَ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنَ النُّسُكِ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَانْتِفَاءُ الدَّمِ عَنْهُ مَعَ لُزُومِهِ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ الْكَامِلَ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَبْرِ بِالدَّمِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْجَبْرِ بِالدَّمِ. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لَيْسَ دَمَ جَبْرٍ لِنَقْصٍ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ مَحْضٍ لَزَمَ فِي ذَلِكَ النُّسُكِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ بِجَوَازِ أَكْلِ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ مِنْ دَمِ قِرَانِهِ وَتَمَتُّعِهِ، قَالُوا: لَوْ كَانَ جَبْرًا لَمَا جَازَ الْأَكْلُ مِنْهُ كَالْكَفَّارَاتِ، وَبِأَنَّ الْجَبْرَ فِي فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ، وَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ جَائِزَانِ، فَلَا جَبْرَ فِي مُبَاحٍ. وَرَدَّ هَذَا مَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ قَائِلًا: إِنَّهُ دَمُ جَبْرٍ لَا دَمُ نُسُكٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّوْمَ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. قَالُوا: وَالنُّسُكُ الْمَحْضُ كَالْأَضَاحِي وَالْهَدَايَا لَا يَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْ دَمٍ إِلَّا إِذَا كَانَ دَمَ جَبْرٍ. قَالُوا: وَلَا مَانِعَ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةٍ مَعَ مَا يَجْبُرُهَا وَيُكْمِلُهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ بَعْضِ دِمَاءِ الْجَبْرِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ الْجَبْرِ فِي الْمُبَاحِ: لُزُومُ فِدْيَةِ الْأَذَى الْمَنْصُوصُ فِي آيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ الْآيَةَ [2 \ 196] ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ جَبْرٌ فِي فِعْلٍ مُبَاحٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَبِسَ لِمَرَضٍ، أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدَيْنِ، أَوْ أَكَلَ صَيْدًا لِلضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِلْمَيْتَةِ، أَوِ احْتَاجَ لِلتَّدَاوِي بِطِيبٍ. قَالُوا: وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ لَا نُسُكٍ سُقُوطُهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 قَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [2 \ 196] فَلَوْ كَانَ دَمَ نُسُكٍ مَحْضٍ لَكَانَ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِمْ لِاسْتِوَائِهِمْ جَمِيعًا فِي حُكْمِ النُّسُكِ الْمَحْضِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: «ذَلِكَ» رَاجِعَةٌ إِلَى لُزُومِ دَمِ التَّمَتُّعِ؛ أَيْ: وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ إِنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [2 \ 196] رَاجِعَةٌ إِلَى التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَمَتُّعَ لَهُمْ ; لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْآفَاقِيِّ، وَحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُوجِبًا لِوُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ عَلَى الْأَوَّلِ وَسُقُوطِهِ عَنِ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ تَمَتَّعَ بِالتَّرَفُّهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنَّهُ إِنْ سَافَرَ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ فِي سَفَرٍ جَدِيدٍ، أَنَّهُ لَا دَمَ تَمَتُّعٍ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ. مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي قَدْرِ السَّفَرِ الْمُسْقِطِ لِلدَّمِ الْمَذْكُورِ؛ فَبَعْضُهُمْ يَكْتَفِي بِسَفَرِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ وَإِسْحَاقَ وَالْمُغِيرَةِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَبَعْضُهُمْ يَكْتَفِي بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ الرُّجُوعَ إِلَى مَحِلِّهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَعَزَاهُ فِي الْمُغْنِي لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ أَوْ سَفَرَ مَسَافَةٍ بِقَدْرِهِ، أَعْنِي قَدْرَ مَسَافَةِ الْمَحِلِّ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ دَمُ جَبْرٍ لِنَقْصِ السَّفَرِ الْمَذْكُورِ، بِدَلِيلِ أَنَّ السَّفَرَ إِنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ سَقَطَ الدَّمُ لِزَوَالِ عِلَّةِ وُجُوبِهِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ: بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي أَبُو عِيسَى الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَوْرَكٍ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ الْهُنَائِيِّ وَاسْمُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 خَيْوَانُ بْنُ [خَلْدَةَ] أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَفَفِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ، قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلَّا مُقَطَّعًا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَمَعَهُنَّ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَالْأَشْعَثُ بْنُ بَزَّازٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَقال: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِهِ: وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ. وَرَوَاهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ أَبِي شَيْخٍ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ. انْتَهَى مِنَ الْبَيْهَقِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ الْحَدِيثِينَ اللَّذَيْنِ سُقْنَاهُمَا عَنْهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمْرَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَرْوِ هُنَا عَنْ عُمْرَ، بَلْ عَنْ صَحَابِيٍّ غَيْرِ مُسَمًّى، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ. ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِي مِنْهُمَا: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي أَبُو عِيسَى الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ. حَدَّثَنَا مُوسَى أَبُو سَلَمَةَ ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي شَيْخٍ الْهُنَائِيِّ خَيْوَانَ بْنِ خَلْدَةَ مِمَّنْ قَرَأَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَعَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ فَقَالُوا: أَمَّا هَذَا فَلَا، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا مَعَهُنَّ، وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ. انْتَهَى مِنْهُ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَهُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ، وَأَشَدُّهُمُ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ مُفْرِدًا، وَحَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَشْرَ سِنِينَ بِالنَّاسِ مُفْرِدًا، وَحَجَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِمْ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ مُفْرِدًا. قَالُوا: فَمُدَّةُ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الثَّلَاثَةِ حَوْلَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهُمْ يَحُجُّونَ بِالنَّاسِ مُفْرِدِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لَمَا وَاظَبُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَشَرْحِ مُسْلِمٍ فِي أَدِلَّةِ مَنْ فَضَّلَ الْإِفْرَادَ: وَمِنْهَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدُوا الْحَجَّ، وَوَاظَبُوا عَلَيْهِ، كَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ. وَاخْتَلَفَ فِعْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ عَشْرَ حِجَجٍ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ كُلِّهَا مُفْرِدًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُفْرِدًا لَمْ يُوَاظِبُوا عَلَى الْإِفْرَادِ مَعَ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ، وَقَادَةُ الْإِسْلَامِ، وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَهُمْ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِلَافِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَنَّهُمْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْخِلَافُ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا فَعَلُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُمْ مَا يُوَضِّحُ هَذَا. انْتَهَى مِنْهُ. الْأَمْرُ الْخَامِسُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ: وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ الْإِفْرَادِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَكَرِهَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا التَّمَتُّعَ، وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ، وَإِنْ كَانُوا يُجَوِّزُونَهُ عَلَى مَا سَبَقَ تَأْوِيلُهُ، فَكَانَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ أَفْضَلَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ، وَثَبَتَ بِمُضِيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجٍّ مُفْرَدٍ، ثُمَّ بِاخْتِلَافِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كَرَاهِيَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ الْإِفْرَادِ، كَوْنُ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ أَفْضَلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى أَيْضًا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ قَالَا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَرَّدَ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشْرَانَ، أَنْبَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، أَنْبَأَ نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: أَنْ تَفْصِلُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَتَجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَتْمَمُ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ. انْتَهَى مِنْهُ. ثُمَّ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَفْرِدِ الْحَجَّ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ. اهـ. وَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوا الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَمَرَ بِإِفْرَادِ الْحَجِّ قَالَ فَكَانَ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَعَثٌ وَسَفَرٌ. انْتَهَى مِنَ الْبَيْهَقِيِّ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَارِيخِهِ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُمَرَ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَجَرَّدَ. تَابَعَهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، وَهَذَا إِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هَا هَهُنَا ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا عَنْ تَوْقِيفٍ. وَالْمُرَادُ بِالتَّجْرِيدِ هَاهُنَا: الْإِفْرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَاسِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْرَزَّازُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَفْرَدَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عَشْرٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَبَعَثَ عُمَرَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ، فَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ. ثُمَّ حَجَّ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ عُمَرُ سِنِيَّهُ كُلَّهَا فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: لَهُ شَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. انْتَهَى مِنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْإُبُلِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ: سَلْ لِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَجُلٍ يُهِلُّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَيُحِلُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ: لَا يُحِلُّ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَا يُحِلُّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إِلَّا بِالْحَجِّ، قُلْتُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: بِئْسَمَا قَالَ. فَتَصَدَّانِي الرَّجُلُ فَسَأَلَنِي فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: فَقُلْ لَهُ فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا شَأْنُ أَسْمَاءَ وَالزُّبَيْرِ فَعَلَا ذَلِكَ؟ قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَمَا بَالُهُ لَا يَأْتِينِي بِنَفْسِهِ يَسْأَلُنِي، أَظُنُّهُ عِرَاقِيًّا؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ كَذَبَ، قَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي - الزُّبَيْرِ بْنُ الْعَوَّامِ - فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ أَفَلَا يَسْأَلُونَهُ؟ وَلَا أَحَدَ مِمَّنْ مَضَى كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنَ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا تَحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ قَطُّ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا، وَقَدْ كَذَبَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ كَانَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَأْتُوا مُفْرِدِينَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يُتِمُّونَهُ كَمَا رَأَيْتَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: وَقَوْلُهُ: «ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ» ، وَكَذَا قَالَ فِيمَا بَعْدَهُ: وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ (غَيْرُهُ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَصَوَابُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمِيمِ، وَكَانَ السَّائِلُ لِعُرْوَةَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَعْلَمَهُ عُرْوَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَ (غَيْرُهُ) تَصْحِيفٌ، لَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ فِي الرِّوَايَةِ وَصَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ قَوْلَهُ (غَيْرُهُ) يَتَنَاوَلُ الْعُمْرَةَ وَغَيْرَهَا. وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ؛ أَيْ: لَمْ يُغَيِّرِ الْحَجَّ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ وَيَفْسَخْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ لَا عُمْرَةٍ وَلَا قِرَانٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ صَوَابٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي - الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ - فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يُحِلُّونَ. وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مَنِ الْبَيْتَ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا تُحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّيِ أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي - الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. انْتَهَى مِنْهُ. قَالُوا: وَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْمَذْكُورِ لَا يَدْفَعُ احْتِجَاجَ عُرْوَةَ بِمَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ جَوَابُ ابْنِ حَزْمٍ، وَقَدْ أَجَابَ عُرْوَةُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَسْكَتَهُ. أَمَّا جَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُرْوَةُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَاكُمْ سَتَهْلَكُونَ، أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ، تُرَخِّصُ فِي الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ أُمَّكَ يَا عُرَيَّةَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ يَفْعَلَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكُمْ مُنْتَهِينَ حَتَّى يُعَذِّبَكُمُ اللَّهُ، أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَتُحَدِّثُونَنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: لَهُمَا أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَعُ لَهَا مِنْكَ. اهـ. قَالُوا: فَتَرَى عُرْوَةَ أَجَابَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِجَوَابٍ أَسْكَتَهُ بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَعَ لَهَا، لَا يُمْكِنُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ حَزْمٍ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ عُرْوَةَ، وَأَنَّهُ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - خَيْرٌ مِنْ عُرْوَةَ وَأَوْلَى مِنْهُ بِالنَّبِيِّ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ سَاقَ آثَارًا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَذْكُرُ فِيهَا التَّمَتُّعَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَهَى عَنْهُ مُعَاوِيَةُ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ الْمَذْكُورِ رَدِّهِ عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ مِنْ عُرْوَةَ وَأَفْضَلُ، فَلَا يَرُدُّ رِوَايَةَ عُرْوَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْرِدُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُعَارِضْ عُرْوَةَ بِأَنَّ فِعْلَهُمَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ مِنَ الْإِفْرَادِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَقَدْ أَجَابَهُ عُرْوَةُ بِأَنَّهُمَا مَا فَعَلَا إِلَّا مَا عَلِمَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَتْبَعُ لِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي رَوَاهَا مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهَا لَا تُعَدُّ شَيْئًا مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُمْ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُفَضِّلُونَ الْإِفْرَادَ. وَمَنْ فَهِمَ كَلَامَهُمْ حَقَّ الْفَهْمِ - أَعْنِي الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ - عَلِمَ أَنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَعْلَمُونَ جَوَازَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عِلْمًا لَا يُخَالِجُهُ شَكٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ أَتَمُّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْمَعْنَى غَيْرُ خَافٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِمَنْ تَأْمَّلَ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ كَانُوا يُفْرِدُونَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ، فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي - أَوْ: غَسَلَتْ رَأْسِي - فَقَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالتَّمَامِ، قَالَ اللَّهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [2 \ 196] وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَنَحْوُهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: مُحَصِّلُ جَوَابِ عُمَرَ فِي مَنْعِهِ النَّاسَ مِنَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ، أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ دَالٌّ عَلَى مَنْعِ التَّحَلُّلِ لِأَمْرِهِ بِالْإِتْمَامِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 فَيَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ الْإِحْرَامِ إِلَى فَرَاغِ الْحَجِّ، وَأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، لَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِحْلَالِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ إِنَّ الْمُتْعَةَ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَقِيلَ: الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ. وَعَلَى الثَّانِي: إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا تَرْغِيَبًا فِي الْإِفْرَادِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهَا وَتَحْرِيمَهَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْفَسْخِ، وَلِهَذَا كَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِ: أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ السَّنَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هِيَ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ، وَهُوَ عَلَى التَّنْزِيهِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِفْرَادِ، كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ التَّمَتُّعِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَرَى إِلَّا تَفْضِيلَ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ، وَشَاهِدٌ لِصِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ عَشْرَ حِجَجٍ مُفْرِدًا، وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ: تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ، فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، وَأَبِتُّوا نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاءِ، فَإِنْ أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ إِلَّا رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَافْصِلُوا حَجَّكُمْ مِنْ عُمْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ، وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ. اهـ مِنْهُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفَضَلُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ بِالنَّاسِ مُفْرِدًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرَى أَفْضَلِيَّةَ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ لِنَهْيِهِ عَنِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ كَمَا رَأَيْتَ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَكَانَ عَلَيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِنَهْيِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ التَّمَتُّعِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْإِفْرَادَ أَفْضَلَ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ كَمَا رَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رَأَيْتَ. تَنْبِيهٌ فَإِنْ قِيلَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْإِفْرَادَ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِمَا، وَكَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَنْ ذَكَرْنَا سَابِقًا مِمَّنْ يَقُولُ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النُّسُكِ بِأَيِّ جَوَابٍ يُجِيبُونَ عَنِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا مِنْ أَصْحَابِهِ، بِأَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ، فَالَّذِينَ أَحْرَمُوا بِالْإِفْرَادِ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ، وَالتَّحَلُّلِ التَّامِّ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، وَتَأَسَّفَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ الَّذِي صَارَ سَبَبًا لِمَنْعِهِ مِنَ التَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ، وَقَالَ «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَأَسَّفُ عَلَى فَوَاتِ الْعُمْرَةِ، إِلَّا وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْقِرانُ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْتَارُ لِنَبِيِّهِ فِي نُسُكِهِ إِلَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مُفْرِدًا وَذَلِكَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَفْضَلِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِيمَا سِوَاهُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا تَفْصِيلُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عَلَى أَنَّ تَحَتُّمَ فَسْخِ الْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي الْعُمْرَةِ وَأَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهِ خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّكْبِ وَبِتِلْكَ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ مَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَفْضَلِيَّةِ ذَلِكَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَلَكِنْ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى خَارِجَةٍ عَنْ ذَاتِهِ؛ وَهِيَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ، وَمَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِهِ لِلْبَيَانِ وَالتَّشْرِيعِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 فَهُوَ قُرْبَةٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا أَوْ مَفْضُولًا، فَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ مَفْضُولًا أَوْ مَكْرُوهًا، وَيَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَأْمُرُ بِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَيَصِيرُ قُرْبَةً فِي حَقِّهِ، وَأَفْضَلَ مِمَّا هُوَ دُونَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَرُبَّمَا يَفْعَلُ لِلْمَكْرُوهِ ... مُبَيِّنًا أَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ فَصَارَ فِي جَانِبِهِ مِنَ الْقُرَبِ ... كَالنَّهْيِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فَمِ الْقِرَبِ وَقَالَ فِي نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحِهِ لِلْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَفْعَلُ الْمَكْرُوهَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، مُبَيِّنًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَصَارَ ذَلِكَ الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ قُرْبَةً يُثَابُ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ، كَنَهْيِهِ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ أَفْوَاهِ الْقِرَبِ، وَقَدْ شَرِبَ مِنْهَا. انْتَهَى مِنْهُ. وَلَيْسَ قَصْدُنَا أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ مَكْرُوهَانِ، بَلْ لَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينًا، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، يَكُونُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلِذَلِكَ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الرَّكْبِ وَتِلْكَ السَّنَةِ. الْأَوَّلُ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرِئَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الْأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ «الْحِلُّ كُلُّهُ» قَالُوا: فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَتَرْتِيبُهُ بِالْفَاءِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، ظَاهِرٌ كُلَّ الظُّهُورِ فِي أَنَّ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَجَّهُمْ عُمْرَةً، هُوَ أَنْ يُزِيلَ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، فَالْفَسْخُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، لَا لِأَنَّ الْفَسْخَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ أَفْضَلُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي مَسْلَكِ النَّصِّ وَمَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، قَالُوا: فَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، لَا ارْتِبَاطَ بَيْنِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ، لَكَانَ ذِكْرُهُ قَلِيلَ الْفَائِدَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، ثَنَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا عَفَا الْوَبَرْ وَبَرَأَ الدَّبَرْ وَدَخَلَ صَفَرْ، فَقَدْ حَلَتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ. فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. اهـ. وَقَدْ بَيَّنَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمَذْكُورَ، دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرَى فَسْخَ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لَازِمًا؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ أَنَّ الْفَسْخَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ الْمَذْكُورِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُهُ، وَهُوَ يَرَى بَقَاءَ حُكْمِهِ، وَلَوْ كَانَ سَبَبُهُ الْأَوَّلُ بَيَانَ الْجَوَازِ، وَلَكِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ خَالَفُوهُ فِي رَأْيِهِ ذَلِكَ. الدَّلِيلُ الثَّانِي مِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ الْمَذْكُورَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّكْبِ وَتِلْكَ السَّنَةِ، هُوَ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ - أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: «بَلْ لَكُمْ خَاصَّةً» . اهـ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لَنَا خَاصَّةً» . اهـ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ فَسْخَ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ لَنَا خَاصَّةً» . وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجَ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَيَّاشٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً. يَعْنِي الْمُتْعَةَ فِي الْحَجِّ. وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَصْلُحُ الْمُتْعَتَانِ إِلَّا لَنَا خَاصَّةً، يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ وَمُتْعَةَ الْحَجِّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: أَتَيْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ فَقُلْتُ: إِنِّي أَهُمُّ أَنْ أَجْمَعَ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ الْعَامَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَكِنْ أَبُوكَ لَمْ يَكُنْ لِيَهِمَّ بِذَلِكَ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرِّبْذَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصَّةً دُونَكُمْ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ: مُرَادُ أَبِي ذَرٍّ بِالْمُتْعَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمُتْعَةُ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهِيَ فَسْخُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ الْمَذْكُورَ هُوَ مُرَادُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ، يَعْنِي ابْنَ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ سَلْمِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا بِعُمْرَةٍ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فِيهَا التَّصْرِيحُ مِنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ وَهِيَ تُفَسِّرُ مُرَادَهُ بِالْمُتْعَةِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَضُعِّفَتْ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ، بِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَ فِيهَا مُدَلِّسٌ. وَقَدْ قَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ. وَعَنْعَنَةُ الْمُدَلِّسِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، حَتَّى يَصِحَّ السَّمَاعُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَيُجَابُ عَنْ تَضْعِيفِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْبَيَانُ يَقَعُ بِكُلِّ مَا يُزِيلُ الْإِبْهَامَ وَلَوْ قَرِينَةٌ أَوْ غَيْرُهَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا أَيْضًا. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَدَّ الْمُخَالِفُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ جِهَتَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 الْأُولَى مِنْهُمَا: تَضْعِيفُ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، قَالُوا: حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ فِيهِ ابْنُهُ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، قَالُوا: وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَدِيثِ بِلَالٍ الْمَذْكُورِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ عِنْدِي، وَلَا أَقُولُ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَى فَسْخَ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ أَحَدَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، أَيْنَ يَقَعُ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَرْفُوعٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ، وَالثَّانِي مَوْقُوفًا، تَبَيَّنَ عَدَمُ صَلَاحِيَتِهِمَا لِلِاحْتِجَاجِ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِهَتَيْ رَدِّ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: هِيَ أَنَّهُمَا مُعَارَضَانِ بِأَقْوَى مِنْهُمَا، وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي تَمَتُّعِهِمُ الْمَذْكُورِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَلْ لِلْأَبَدِ» وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» وَرَدَّ الْمَانِعُونَ تَضْعِيفَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، قَالُوا: حَدِيثُ بِلَالٍ الْمَذْكُورُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَمَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَسْكُتُ إِلَّا عَنْ حَدِيثٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، قَالُوا: وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ جَرْحٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ فِيهِ: هُوَ مَقْبُولٌ، قَالُوا: وَاعْتُضِدَ حَدِيثُهُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، كَمَا رَأَيْتَهُ آنِفًا قَالُوا: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو ذَرٍّ بِذَلِكَ الرَّكْبِ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَقَائِلُهُ اطَّلَعَ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِمَّا لِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْآتِي، وَحَكَمْنَا بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَصِدْقُ لَهْجَةِ أَبِي ذَرٍّ الْمَعْرُوفُ وَتُقَاهُ، وَبُعْدُهُ مِنَ الْكَذِبِ، يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّهُ مَا جَزَمَ بِالْخُصُوصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا وَهُوَ عَارِفٌ صِحَّةَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَابَعَهُ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا: وَيَعْتَضِدُ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِمُوَاظَبَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّكْبِ لَمَا عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ تُقَاهُمْ وَوَرَعِهِمْ، وَحِرْصِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمُوَاظَبَتُهُمْ عَلَى إِفْرَادِ الْحَجِّ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً يُقَوِّي حَدِيثَ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ الْمَذْكُورَ. وَقَدْ رَأَيْتَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، كَمَا أَوْضَحَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ مُسْلِمٍ. قَالُوا: وَرُدَّ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي سُؤَالِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِجَابَتِهِ لَهُ بِقَوْلِهِ: بَلْ لِلْأَبَدِ - لَا يَسْتَقِيمُ ; لِأَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِجْمَاعًا، وَلَا يُرَدُّ غَيْرُ الْأَقْوَى مِنْهُمَا بِالْأَقْوَى ; لِأَنَّهُمَا صَادِقَانِ، وَلَيْسَا بِمُتَعَارِضَيْنِ، وَإِنَّمَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ مَعًا أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: أَنَّ حَدِيثَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَحْمُولَانِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ: التَّحَتُّمُ وَالْوُجُوبُ، فَتَحَتُّمُ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ وَوُجُوبُهُ، خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّكْبِ، لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ بَقَاءَ جَوَازِهِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ إِلَى أَبَدِ الْأَبَدِ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: بَلْ لِلْأَبَدِ، مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ وَبَقَاءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ إِلَى الْأَبَدِ. فَاتَّفَقَ الْحَدِيثَانِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ فِي حَدِيثِ: «بَلْ لِلْأَبَدِ» وَحَدِيثِ الْخُصُوصِيَّةِ بِذَلِكَ الرَّكْبِ الْمَذْكُورَيْنِ، هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَهُوَ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْخُصُوصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ، وَحَمْلِ التَّأْبِيدِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْجَوَازِ أَوِ السُّنَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْمُصْطَلَحِيَّةِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَاعْلَمْ: أَنِ الشَّافِعِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَلْ لِلْأَبَدِ» لَا يُرَادُ بِهِ فَسْخُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، بَلْ يُرَادُ بِهِ جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ دُخُولُ أَفْعَالِهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي حَالَةِ الْقِرَانِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَوْلَ النَّبِيِّ لِسُرَاقَةَ: «بَلْ لِلْأَبَدِ» لَيْسَ هُوَ مَعْنَاهُ، بَلْ مَعْنَاهُ: بَقَاءُ مَشْرُوعِيَّةِ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَبَعْضُ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ ظُهُورًا بَيِّنًا لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، بَلْ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ. وَسَنُمَثِّلُ هُنَا لِبَعْضِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ فَنَقُولُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَفْظُهُ: فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً.» فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» . انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ سُؤَالَ سُرَاقَةَ عَنِ الْفَسْخِ الْمَذْكُورِ وَجَوَابَ النَّبِيِّ لَهُ يَدُلُّ عَلَى تَأْبِيدِ مَشْرُوعِيَّتِهِ كَمَا تَرَى؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ، فَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ الْفَسْخَ مَمْنُوعٌ لِغَيْرِ أَهْلِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُصَرِّحِ بِخِلَافِهِ كَمَا تَرَى. وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوِ انْدِرَاجُ أَعْمَالِهَا فِيهِ فِي حَالِ الْقِرَانِ - بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْعُمْرَةَ انْدَرَجَتْ فِي الْحَجِّ؛ أَيِ انْدَرَجَ وُجُوبُهَا فِي وُجُوبِهِ، فَلَا تَجِبُ الْعُمْرَةُ؛ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَبُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ وَظُهُورُ سُقُوطِهِ كَمَا تَرَى. وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَيْنَ يَقَعُ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ صَحَابِيًّا رَوَوُا الْفَسْخَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ حَتَّى يُقَدَّمُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْفَسْخَ لِلصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا حُكْمَ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْحَارِثُ فِي إِثْبَاتِ الْفَسْخِ لِلصَّحَابَةِ، وَلَكِنَّهُ زَادَ زِيَادَةً لَا تُخَالِفُهُمْ وَهِيَ اخْتِصَاصُ الْفَسْخِ بِهِمْ. اهـ. وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَدِلَّةَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النُّسُكِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ جَوَابَهُمْ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ أَنَّهُ لِإِزَالَةِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ الْمَفْعُولَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ. فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ ادَّعَوُا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَكُلُّهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا الَّتِي هِيَ مُعْتَمَدُهُمْ فِي تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ أَوَّلًا مُفْرِدًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، فَصَارَ قَارِنًا، فَأَحَادِيثُ الْإِفْرَادِ يُرَادُ بِهَا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ أَوَّلَ إِحْرَامِهِ، وَأَحَادِيثُ الْقِرَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 عِنْدَهُمْ حَقٌّ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَهُمْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فَصَارَ قَارِنًا، وَصَيْرُورَتُهُ قَارِنًا فِي آخِرِ الْأَمْرِ هِيَ مَعْنَى أَحَادِيثِ الْقِرَانِ، فَلَا مُنَافَاةَ. أَمَّا الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا ; لِأَنَّ السَّلَفَ يُطْلِقُونَ اسْمَ التَّمَتُّعِ عَلَى الْقِرَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ عُمْرَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ بِالتَّمَتُّعِ وَتَمَنِّيهِ لَهُ، وَتَأَسُّفُهُ عَلَى فَوَاتِهِ بِسَبَبِ سَوْقِ الْهَدْيِ فِي قَوْلِهِ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» كَفِعْلِهِ لَهُ. قَالُوا: وَبِهَذَا تَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ، وَيَكُونُ التَّمَتُّعُ الْمَذْكُورُ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، كَمَا سَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالُوا: وَلَمَّا أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ أَسِفُوا، لِأَنَّهُمْ أَحَلُّوا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ، فَأَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ لِتَطِيبَ نُفُوسُهُمْ، بِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَمِرًا مَعَ حَجِّهِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْعُمْرَةِ، وَالْمَانِعُ لَهُ مِنْ أَنْ يُحِلَّ كَمَا أَحَلُّوا هُوَ سَوْقُ الْهَدْيِ، قَالُوا فَعُمْرَتُهُمْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَعُمْرَتُهُ الَّتِي بِهَا صَارَ قَارِنًا لِمُوَاسَاتِهِمْ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ خَالَفَهُمْ، فَصَارَ تَمَتُّعُهُمْ وَقِرَانُهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلِيَّتُهُمَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، بَعْدَ زَوَالِ الْمُوجِبِ الْحَامِلِ عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَاحَظَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَوَاظَبُوا عَلَى الْإِفْرَادِ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، كُلُّهُمْ يَأْخُذُ بِسُنَّةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي ذَلِكَ. قَالُوا: وَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ، مِنْ أَنَّ بَيَانَ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ - لَا دَاعِيَ لَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَانًا مُتَكَرِّرًا فِي سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ عَامَ سَبْعٍ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ عَامَ ثَمَانٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْعُمَرِ الثَّلَاثِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ. قَالُوا: وَهَذَا الْبَيَانُ الْمُتَكَرِّرُ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ كَافٍ غَايَةَ الْكِفَايَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ بِأَمْرِ الصَّحَابَةِ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ» الْمُتَقَدِّمُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَإِذَا كَانَ بَيَانُ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفَسْخِ الْمَذْكُورَ لِأَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ عَلَى غَيْرِهِ لَا بِشَيْءٍ آخَرَ - لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَنَّ بَيَانَ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ غَايَةَ الِاحْتِيَاج فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ الْبَيَانِ أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ «الْحِلُّ كُلُّهُ» : وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ «حِلُّهُ كُلُّهُ» فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَزَلْ عَظِيمًا عِنْدَهُمْ. وَلَوْ كَانَتِ الْعُمَرُ الثَّلَاثُ الْمَذْكُورَةُ أَزَالَتْ مِنْ نُفُوسِهِمْ ذَلِكَ إِزَالَةً كُلِّيَّةً، لَمَا تَعَاظَمَ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ، فَتَعَاظُمُ ذَلِكَ الْأَمْرِ عِنْدَهُمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَعْدَ صُبْحِ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَامَ عَشْرٍ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ عَامَ سِتٍّ وَعَامَ سَبْعٍ وَعَامَ ثَمَانٍ مَا أَزَالَتْ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ لِشِدَّةِ اسْتِحْكَامِهِ فِيهَا. وَكَذَلِكَ إِذْنُهُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ، السَّابِقُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُوَدِّعٌ حَرِيصٌ عَلَى إِتْمَامِ الْبَيَانِ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ اجْتَمَعَ فِيهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْتَمِعْ مِثْلُهُ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: فَتَعَاظَمَ عِنْدَهُمْ؛ أَيْ: لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ أَوَّلًا، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ. انْتَهَى مِنْهُ. قَالُوا: وَلِشِدَّةِ عِظَمِهِ عِنْدَهُمْ، لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ أَوَّلًا، حَتَّى غَضِبَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ يَتَّضِحُ لَكَ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَحْكَمًا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى صُبْحِ رَابِعَةِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ عَشْرٍ. قَالُوا: وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ بَيَانَ جَوَازِ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَمَلِ كُلِّ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا هَدْيًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتِمَارِهِ هُوَ مَعَ حَجَّتِهِ - أَعْنِي قِرَانَهُ بَيْنَهُمَا - أَمْرٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ جِدًّا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ. وَمِمَّا يَدُلُّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: «وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً: يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحِلُّوا: نَنْطَلِقُ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ نُفْرَتِهِمْ مِنَ الْإِحْلَالِ بِعُمْرَةٍ فِي زَمَنِ الْحَجِّ كَمَا تَرَى. وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ الِاحْتِيَاجَ إِلَى تَأْكِيدِ بَيَانِ الْجَوَازِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ» يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ التَّعَاظُمِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا مُحْرِمِينَ بِحَجٍّ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ» ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَعُبَ عَلَيْهِمُ الْإِحْلَالُ بِالْعُمْرَةِ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ سَمُّوا الْحَجَّ، لَا لِأَنَّ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، لَمْ يَزَلْ بَاقِيًا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ - أَعْنِي قَوْلَهُ: فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ - لَا يَحْتَمِلُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، بَلْ مَعْنَاهُ: أَنَّ تَعَاظُمَ الْإِحْلَالِ بِعُمْرَةٍ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ الْحَجِّ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا. وَيُبَيِّنُ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ؛ حَيْثُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نُحِلَّ وَنَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَضَاقَتْ بِهِ صُدُورُنَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا نَدْرِي أَشِيءٌ بَلَغَهُ مِنَ السَّمَاءِ، أَمْ شَيْءٌ مِنْ قِبَلِ النَّاسِ؟ فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ أَحِلُّوا فَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ» ، الْحَدِيثَ. فَقَوْلُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَضَاقَتْ بِهِ صُدُورُنَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَزُلْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَبُرَ عَلَيْهِمْ، وَلَا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِالْإِحْلَالِ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، كَمَا أَوْضَحَهُ حَدِيثُهُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا. وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ، فَالَّذِي اسْتَدْبَرَهُ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَوِ اسْتَقْبَلَهُ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ: هُوَ مُلَاحَظَةُ الْبَيَانِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سَابِقًا لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى تَأْكِيدِ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ، وَهُوَ مُوَدِّعٌ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ الْقَارِنِينَ بِالْفَسْخِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّ الْعُمْرَةَ الْمَقْرُونَةَ مَعَ الْحَجِّ فِيهَا الْبَيَانُ الْمَذْكُورُ ; لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ عَنِ الْحَجِّ أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَعَ الْحَجِّ، فَهِيَ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْهُ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا إِنَّمَا جَازَتْ تَبَعًا لَهُ. وَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 أَوْضَحْنَا فِي هَذَا الْكَلَامِ حُجَّةَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ النُّسُكِ، وَجَوَابَهُمْ عَمَّا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ دَالًّا عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْقِرَانِ أَوِ التَّمَتُّعِ، وَوَجْهَ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافُ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ هُوَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ النُّسُكِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فِي حَجَّتِهِ. مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» الْحَدِيثَ، أَخْرَجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مُتَّصِلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ سَوَاءً. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ قَرَنَ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا» ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ - يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. الْحَدِيثَ، هَكَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ قَرِيبٌ مِنْهُ بِمَعْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِي الْحَجِّ. وَمُرَادُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالتَّمَتُّعِ الْمَذْكُورِ: الْقِرَانُ، بِدَلِيلِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ الْمُصَرِّحَةِ بِذَلِكَ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ كَانَ يُسَلَّمُ عَلَيَّ حَتَّى اكْتَوَيْتُ فَتُرِكْتُ، ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ فَعَادَ. حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ: قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُحَدِّثَكَ بِأَحَادِيثَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهَا بَعْدِي، فَإِنْ عِشْتُ فَاكْتُمْ عَنِّي، وَإِنْ مُتُّ فَحَدِّثْ بِهَا إِنْ شِئْتَ: إِنَّهُ قَدْ سُلِّمَ عَلَيَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا كِتَابٌ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِيهَا رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تُبَيِّنُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّمَتُّعِ: الْقِرَانُ، وَمَعْرُوفٌ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ التَّمَتُّعِ عَلَى الْقِرَانِ ; لِأَنَّ فِيهِ عُمْرَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ الْحَجِّ. وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ» فَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِهِ، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا» الْحَدِيثَ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ أَلْفَاظِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْقِرَانِ، وَمُخَالَفَةَ ابْنِ عُمَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، قائلًا: إِنَّهُ أَفْرَدَ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَحُمَيْدٍ، أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» وَقَدْ رَوَى عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثَ قِرَانِ النَّبِيِّ هَذَا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، كَمَا بَيَّنَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَادِ الْمَعَادِ، وَهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو قِلَابَةَ، وَحُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّوِيلُ، وقَتَادَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَثَابِتٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الْبُنَانِيُّ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَأَبُو أَسْمَاءَ وَأَبُو قُدَامَةَ عَاصِمُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَأَبُو قَزْعَةَ، وَهُوَ سُوِيدُ بْنُ حُجْرٍ الْبَاهِلِيُّ. وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» . انْتَهَى مِنْهُمَا بِلَفْظِهِ. وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَقْرُونَةٌ مَعَ الْحَجِّ بِلَا شَكٍّ فِي ذَلِكَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ، يَقُولُ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ» . اهـ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ، يَدُلُّ عَلَى الْقِرَانِ، وَالْمُحْتَمَلَاتُ الْأُخَرُ الَّتِي حَمَلَهُ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ لَا تَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ. بَلْ مَعْنَاهُ الْقِرَانُ كَمَا ذَكَرْنَا وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَادِ الْمَعَادِ مِنْهَا بِضْعَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، وَهُمْ جَابِرٌ، وَعَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَبُو طَلْحَةَ، وَالْهِرْمَاسُ بْنُ زِيَادٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَعَدُّهُ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ رَوَى الْقِرَانَ، مَعَ مَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، يَعْنِي بِهِ تَقْرِيرَهُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْقِرَانِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَثُبُوتُ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهَا - لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ مُعْتَرِفُونَ بِقِرَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ أَحْرَمَ أَوَّلًا مُفْرِدًا، ثُمَّ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فَصَارَ قَارِنًا. وَالَّذِينَ قَالُوا بِأَفْضَلِيَّةِ الْقِرَانِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ قَارِنًا فِي ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ. مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ، وَفِيهِ: وَبَدَأَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ؛ وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ أَيْضًا وَفِيهِ: «وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْعَقِيقِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْإِفْرَادِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْقِرَانِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالتَّمَتُّعِ، بِغَيْرِ الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْقَائِلِينَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ، وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفْرَادِ: إِفْرَادُ أَعْمَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَفْعَلُ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ كَمَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ، فَيَطُوفُ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا، عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا. وَأَمَّا جَوَابُهُمْ عَنْ أَحَادِيثِ التَّمَتُّعِ فَوَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ يُطْلِقُونَ التَّمَتُّعَ عَلَى الْقِرَانِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَمَا يَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: اجْتَمَعَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْهَى عَنْهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا مِنْكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّهُمَا جَمِيعًا. فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُتَمَتِّعًا عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَرَّهُ عُثْمَانُ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ مُتَمَتِّعٌ عِنْدَهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ، فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» فَتَرَاهُ صَرَّحَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّمَتُّعِ الْقِرَانُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اعْلَمْ: أَنَّ حُجَّةَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، وَكِلَاهُمَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، هِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا هَدْيًا أَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَتَأَسَّفَ هُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى سَوْقِهِ لِلْهَدْيِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ تَحَلُّلِهِ بِالْعُمْرَةِ مَعَهُمْ. قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّمَتُّعُ هُوَ أَفْضَلَ الْأَنْسَاكِ لَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ، وَلَمَا تَأَسَّفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي قَوْلِهِ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْمَعْرُوفَ، وَأَنَّهُ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ لِلْحَجِّ - بَاطِلَةٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَأَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعَنْ أَبِيهَا. فَإِنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِهَا الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِهِ كَثِيرَةٌ. وَسَبَبُ غَلَطِ مَنِ ادَّعَى الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ الْمَذْكُورَةَ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَعَلِمْتَ أَنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ؟ قُلْتُ لَهُ: لَا أَعْلَمُ هَذَا إِلَّا حُجَّةً عَلَيْكَ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ - أَوْ: رَأَيْتُهُ يُقَصَّرُ عَنْهُ بِمِشْقَصٍ - وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ. انْتَهَى مِنْهُ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ أَحَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ غَلَطٌ فَاحِشٌ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ذِكْرُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّقْصِيرَ كَانَ فِيهَا. التَّنْبِيهُ الثَّانِي وُرُودُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ إِلَّا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَاتٍ، بَعْدَ أَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ هَذَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَّرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ قَارِنًا كَمَا سَبَقَ إِيضَاحُهُ، وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ بِمِنًى، وَفَرَّقَ أَبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَعْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ. فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ تَقْصِيرِ مُعَاوِيَةَ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى عُمْرَةِ الْقَضَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 الْوَاقِعَةِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ; لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمًا، إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا ; لِأَنَّ هَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تُحِلَّ أَنْتَ؟ قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى أُحِلَّ مِنَ الْحَجِّ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَمْلَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا يَصِحُّ بِحَالٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَّا مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، وَأَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، لَمْ يَحِلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ - دَعْوَى بَاطِلَةٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَظَاهِرَةٌ بِكُلِّ الْوُضُوحِ وَالصَّرَاحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُحِلَّ بِعُمْرَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، وَمُسْتَنَدُ مَنِ ادَّعَى تِلْكَ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ. فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يُحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. انْتَهَى مِنْهُ ; لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُحِلُّوا مِنَ الْقَارِنِينَ وَالْمُفْرِدِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَجِبُ حَمْلُهُمْ عَلَى أَنَّ مَعَهُمُ الْهَدْيَ لِأَجْلِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِذَلِكَ وَبِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ هَدْيٌ فَسَخُوا حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ اعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يُعَيِّنْ نُسُكًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، حَتَّى جَاءَهُ الْقَضَاءُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - أَنَّهَا دَعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ: إِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ الْمُصَرِّحَةَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيَّنَ مَا أَحْرَمَ بِهِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، مِنْ إِفْرَادٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَمَتُّعٍ، لَا تُمْكِنُ مُعَارَضَتُهَا لِقُوَّتِهَا وَتَوَاتُرِهَا، وَاتِّفَاقِ جَمِيعِهَا عَلَى تَعْيِينِ الْإِحْرَامِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي نَوْعِهِ، وَمُسْتَنَدُ مَنِ ادَّعَى تِلْكَ الدَّعْوَى أَحَادِيثُ جَاءَتْ يُفْهَمُ مَنْ ظَاهِرِهَا ذَلِكَ، مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً. وَفِي لَفْظٍ: يُلَبِّي وَلَا يَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا لَا تُعَارَضُ بِهِ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ. وَقَدْ أَجَابَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَادِ الْمَعَادِ عَنِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مَنِ ادَّعَى الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةَ، فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِأَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا وَالْوَارِدَةَ بِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا وَالْوَارِدَةَ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ الْبَتَّةَ بَيْنَهَا، إِلَّا الْوَارِدَةَ مِنْهَا بِالتَّمَتُّعِ وَالْوَارِدَةَ بِالْقِرَانِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُطْلِقُونَ اسْمَ التَّمَتُّعِ عَلَى الْقِرَانِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ النِّزَاعُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَمَتَّعَ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالشَّيْءِ كَفِعْلِهِ إِيَّاهُ. أَمَّا الْوَارِدَةُ بِالْإِفْرَادِ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا بِحَالٍ مَعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَادِّعَاءُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا غَلَطٌ، وَإِنْ قَالَ بِهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْجَمْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْإِفْرَادِ يُرَادُ بِهَا أَنَّهُ أَحْرَمَ أَوَّلًا مُفْرِدًا، وَأَحَادِيثَ الْقِرَانِ يُرَادُ بِهَا أَنَّهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ مُفْرِدًا أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، فَصَارَ قَارِنًا فَصَدَقَ هَؤُلَاءِ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَصَدَقَ هَؤُلَاءِ بِاعْتِبَارِ آخِرِهِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْجَمْعُ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْإِفْرَادِ يُرَادُ بِهَا: إِفْرَادُ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَالْقَارِنُ يَعْمَلُ فِي سَعْيِهِ وَطَوَافِهِ كَعَمَلِ الْمُفْرِدِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا. وَكِلَا الْجَمْعَيْنِ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ وَجَلَالَةِ مَنْ قَالَ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُمَا كِلَيْهِمَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَمْعَ لَا يُمْكِنُ بَيْنَ نَصَّيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ تَنَاقُضًا صَرِيحًا، بَلِ الْوَاجِبُ بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ نَصَّيْنِ، لَمْ يَتَنَاقَضَا تَنَاقُضًا صَرِيحًا، فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَحْمَلٍ، لَيْسَ فِي الْآخَرِ التَّصْرِيحُ بِنَقِيضِهِ، فَيَكُونَانِ صَادِقَيْنِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: يَجِبُ الْجَمْعُ إِنْ أَمْكَنَ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِمْ: إِنْ أَمْكَنَ، أَنَّهُمَا إِنْ كَانَا مُتَنَاقِضَيْنِ تَنَاقُضًا صَرِيحًا، لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الْإِفْرَادِ صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَبَدًا وَبَيْنَ أَحَادِيثِهِمَا، فَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ يُكَذِّبُ أَنَسًا فِي دَعْوَاهُ الْقِرَانَ تَكْذِيبًا صَرِيحًا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، كَمَا رَأَيْتَهُ سَابِقًا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ خَبَرَيْنِ وَالْمُخْبِرَانِ بِهِمَا كُلٌّ مِنْهُمَا يُكَذِّبُ الْآخَرَ تَكْذِيبًا صَرِيحًا، فَالْجَمْعُ فِي مِثْلِ هَذَا مُحَالٌ، وَمَنِ ادَّعَى إِمْكَانَهُ فَقَدْ غَلِطَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، بَالِغًا مَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْجَلَالَةِ. وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِهَا الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ تَقُولُ: فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ، فَذِكْرُهَا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَتَصْرِيحُهَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَحْرَمَ بِقِسْمٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، كَمَا تَرَى، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَحْرَمَ بِالْحَجِّ خَالِصًا، وَفِي بَعْضِهَا: أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَفِي بَعْضِهَا: لَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ إِلَخْ. وَأَحَادِيثُ الْقِرَانِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً، فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ قَارِنًا يُلَبِّي بِهِمَا مَعًا، وَسَمِعَ بَعْضُهُمُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَعًا وَسَمِعَ بَعْضُهُمُ الْحَجَّ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَبَعْضُهُمُ الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ، فَرَوَى كُلٌّ مَا سَمِعَ، وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ وَاجِبٌ، وَلَا شَكَّ عِنْدَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْإِنْصَافِ أَنَّ أَحَادِيثَ الْقِرَانِ أَرْجَحُ مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا كَثْرَةُ مَنْ رَوَاهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهَا رَوَاهَا سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، وَأَحَادِيثُ الْإِفْرَادِ لَمْ يَرْوِهَا إِلَّا عَدَدٌ قَلِيلٌ، وَهُمْ: عَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَسْمَاءُ، وَكَثْرَةُ الرُّوَاةِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْوِيِّ: وَكَثْرَةُ الدَّلِيلِ وَالرِّوَايَةِ ... مُرَجِّحٌ لَدَى ذَوِي الدِّرَايَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي «الْبَقَرَةِ» . وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُمُ الْإِفْرَادُ، رُوِيَ عَنْهُمُ الْقِرَانُ أَيْضًا، وَيَكْفِي فِي أَرْجَحِيَّةِ أَحَادِيثِ الْقِرَانِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَنْ رَوَوُا الْقِرَانَ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا بِاتِّفَاقِ الطَّائِفَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَارِنًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا صَارَ قَارِنًا فِي آخِرِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَادِ الْمَعَادِ أَنَّ أَحَادِيثَ الْقِرَانِ أَرْجَحُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا، فَلْيَنْظُرْهُ مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِفْرَادِ يَقْدَحُونَ فِي دَلَالَةِ أَحَادِيثِ الْقِرَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ بِالْقَادِحِ الْمَعْرُوفِ فِي الْأُصُولِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ، فَيَقُولُونَ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا مَعَ بَقَاءِ نِزَاعِنَا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْقِرَانِ عَلَى الْإِفْرَادِ ; لِأَنَّ قِرَانَهُ وَأَمْرَهُ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ، لَمْ يَكُنْ لِأَفْضَلِيَّةِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ فِي حَدِّ ذَاتَيْهِمَا عَلَى الْإِفْرَادِ، بَلْ هُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْضَلُ لِسَبَبٍ مُنْفَصِلٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ مِنْهُمَا فِي حَدِّ ذَاتِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَفْضُولَ أَوِ الْمَكْرُوهَ إِذَا كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ كَانَ أَفْضَلَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَدِلَّةَ مَنْ قَالَ بِهَذَا كَحَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ فِي السُّنَنِ، وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِذَلِكَ الرَّكْبِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَثَبَتَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْآثَارَ وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ حَزْمٍ عَنْهُمْ مُخَالِفَةً لِذَلِكَ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، الْقَاضِيَةِ بِخِلَافِهَا، فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ الْقِرَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمَتُّعَ الْوَاقِعَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَمْرِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَا لِأَجْلِ بَيَانِ الْجَوَازِ، فَاللَّازِمُ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعِيَّةُ أَفْضَلِيَّتِهِمَا بَاقِيَةً كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنْ يُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّةَ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُضْعِفْهُمْ مَرَضٌ، وَمَعَ كَوْنِ ذَلِكَ لِهَذَا السَّبَبِ فَمَشْرُوعِيَّةُ سُنِّيَّتِهِ بَاقِيَةٌ، فَلْيَكُنْ قِرَانُهُ وَتَمَتُّعُ أَصْحَابِهِ بِأَمْرِهِ لِذَلِكَ السَّبَبِ كَذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّمَلَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، بَلْ ثَبَتَ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَهُوَ رَمَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ، وَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ الْمَذْكُورَانِ وَرَدَتْ فِيهِمَا أَدِلَّةٌ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِمَا بِذَلِكَ الرَّكْبِ كَحَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مُنَاقَشَةَ مَنْ ضَعَّفَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْحَارِثَ بْنَ بِلَالٍ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ مَجْهُولٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ مَوْقُوفٌ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَإِنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَوَاطَئُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فِي نَحْوِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى إِفْرَادِ الْحَجِّ مُتَعَمِّدِينَ لِمُخَالَفَةِ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ وَلَمْ يُنْكِرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ وَمُقْتَضَاهَا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 أَنَّ الْأُمَّةَ جَمِيعَهَا وَخُلَفَاءَهَا الرَّاشِدِينَ مَكَثَتْ هَذَا الزَّمَنَ الطَّوِيلَ وَهِيَ عَلَى بَاطِلٍ، فَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ مُعَرِّضًا بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، يَعْنِي بِهِ نَهْيَ عُمَرَ عَنِ التَّمَتُّعِ، أَمَّا إِفْرَادُهُ الْحَجَّ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ. وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَنَّ مَنْ طَافَ حَلَّ بِعُمْرَةٍ شَاءَ أَوْ أَبَى، مَذْهَبٌ مَهْجُورٌ خَالَفَهُ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ بِنَفْيِ الْعَوْلِ وَبِأَنَّ الْأُمَّ لَا يَحْجُبُهَا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَذْهَبُهُ هَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ. فَالْجَوَابُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُجَجِ مَنْ خَالَفُوهُ وَهُمْ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَنْسِكِهِ، وَهُوَ إِفْرَادُ الْحَجِّ بِسَفَرٍ يُنْشَأُ لَهُ مُسْتَقِلًّا، وَإِنْشَاءُ سَفَرٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ لِلْعُمْرَةِ. فَقَدْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَنْسِكِهِ: إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الْمُتْعَةِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ أَنْ تَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا، فَاخْتَارَ عُمَرُ لَهُمْ أَفْضَلَ الْأُمُورِ، وَهُوَ إِفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَفَرٍ يُنْشِئُهُ لَهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بِدُونِ سَفْرَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ عُمَرُ يَخْتَارُهُ لِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ، وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] قَالَا: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي عُمْرَتِهَا: «أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» فَإِذَا رَجَعَ الْحَاجُّ إِلَى دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، فَأَنْشَأَ الْعُمْرَةَ مِنْهَا، وَاعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ، أَوِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِهِ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ، فَهَاهُنَا قَدْ أَتَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النُّسُكَيْنِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَهَذَا إِتْيَانٌ بِهِمَا عَلَى الْكَمَالِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي الزَّادِ. فَتَرَى هَذَا الْمُحَقِّقَ صَرَّحَ بِأَنَّ إِفْرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِسَفَرٍ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا يَرَيَانِ ذَلِكَ عَمَلًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِمَنْعِ الْإِفْرَادِ مُطْلَقًا مُخَالِفٌ لِلصَّوَابِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي طَوَافِ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكْفِيهِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، وَأَنَّ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ; مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ. الثَّانِي: أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَعْيَيْنِ وَطَوَافَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا مَعًا يَكْفِيهِمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. أَمَّا الْجُمْهُورُ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافُ زِيَارَةٍ وَاحِدٌ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، فَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ لَيْسَ مَعَ مُخَالِفِيهِمْ مَا يُقَاوِمُهَا. مِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وَهْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوَّلًا، وَمَنَعَهَا الْحَيْضُ مِنَ الطَّوَافِ فَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُحِلَّ بِعُمْرَةٍ فَأَهَلَّتْ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهَا الْأُولَى فَصَارَتْ قَارِنَةً، وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهَا قَارِنَةٌ حَيْثُ قَالَ: «لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» ، وَمَعَ ذَلِكَ صَرَّحَ بِأَنَّهَا يَكْفِيهَا لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ، فَتَطَهَّرَتْ بِعَرْفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» . اهـ مِنْهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 صَحِيحِهِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلَ ابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ: إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ. فَقَالَ: فَيَصُدُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَلَوْ أَقَمْتَ؟ فَقَالَ: قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ، ثُمَّ قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا، قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرَادَ الْحَجَّ عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ؟ فَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] إذًا أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي، وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بقُدَيْدٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ، وَلَمْ يُحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مَنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ التَّصْرِيحُ مِنِ ابْنِ عُمَرَ بِاكْتِفَاءِ الْقَارِنِ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَعَلَ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَمَلَ الطَّوَافَ الْمَذْكُورَ، عَلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهُ عَلَى الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ فَبَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَكْتَفِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، بَلْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمَقْصُودُ مِنَ الطَّوَافِ الْأَوَّلِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ طَوَافُ الْقُدُومِ؟ قُلْتُ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُكَرِّرِ الطَّوَافَ لِلْقِرَانِ، بَلِ اكْتَفَى بِطَوَافٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي لَفْظٍ مِنْهَا: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَةٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى ابْتَاعَ بِقُدَيْدٍ هَدْيًا، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ لَمْ يُحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا بِحَجَّةٍ يَوْمَ النَّحْرِ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ: حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا يَوْمَ النَّحْرِ بِعَمَلِ حَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي، وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْحَرْ، وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ، وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، فِي مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ، هُوَ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِمَّا لَفْظُهُ: ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا بِحَجَّةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِلَّ بِحَجَّةٍ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. أَمَّا السَّعْيُ فِي الْحَجَّةِ، فَيَكْفِي فِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ الَّذِي رَأَى إِجْزَاءَهُ عَنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ هُوَ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا إِلَّا بِحَجَّةٍ يَوْمَ النَّحْرِ، وَحَجَّةٌ يَوْمَ النَّحْرِ أَعْظَمُ أَرْكَانِهَا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، فَبِدُونِهِ لَا تُسَمَّى حَجَّةً ; لِأَنَّهُ رُكْنُهَا الْأَكْبَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 \ 29] . الْأَمْرُ الثَّانِي الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ اكْتَفَى بِسَعْيِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ إِفَاضَتِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى التَّحْقِيقِ، فَحَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ هَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَعْمَلُ كَعَمَلِ الْمُفْرِدِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي، فَيُفَسَّرُ بِأَنَّهُ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ لَا يَسْعَى لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَخْرَجَ بِهِمَا الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ - أَعْنِي اللَّتَيْنِ سُقْنَاهُمَا آنِفًا - مَا نَصُّهُ: وَالْحَدِيثَانِ ظَاهِرَانِ فِي أَنَّ الْقَارِنَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافٌ وَاحِدٌ كَالْمُفْرِدِ، وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَصْرَحَ مِنْ سِيَاقِ حَدِيثَيِ الْبَابِ فِي الرَّفْعِ، وَلَفْظُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ» وَأَعَلَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 الدَّرَاوَرْدِيُّ أَخْطَأَ فِيهِ، وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَتَمَسَّكَ فِي تَخْطِئَتِهِ بِمَا رَوَاهُ أَيُّوبُ، وَاللَّيْثُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ نَحْوَ سِيَاقِ مَا فِي الْبَابِ، مِنْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِابْنِ عُمَرَ، وَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ رَوَى هَذَا اللَّفْظَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ إِعْلَالٌ مَرْدُودٌ، فالدَّرَاوَرْدِيُّ صَدُوقٌ، وَلَيْسَ مَا رَوَاهُ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ نَافِعٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، أَخْبَرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَهَذَا عَيْنُ الرَّفْعِ، فَلَا وَقْفَ الْبَتَّةَ كَمَا تَرَى، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ أَخْرَجَهُ - أَصْرَحَ مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ فِيهِ الْمَجْدٌ فِي الْمُنْتَقَى: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي لَفْظٍ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ، وَوُقُوفِ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. انْتَهَى. وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ دَالٌّ عَلَى اكْتِفَاءِ الْقَارِنِ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالطَّوَافِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا هُوَ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ. مَرَّتَيْنِ» وَتَصْرِيحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُخُولِهَا فِيهِ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ أَعْمَالِهَا فِي أَعْمَالِهِ حَالَةَ الْقِرَانِ، وَإِنْ أَوَّلَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخَرَ مُتَعَدِّدَةٍ. وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ كَفِعْلِ الْمُفْرِدِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا هُنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ الْحَقَّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَعْضُ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، وَأَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِعُمْرَتِهِ وَحَجِّهِ. وَقَدْ رَأَيْتَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 أَمَّا أَدِلَّةُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجِّهِ. فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ؟ فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ» ، طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: «مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ، جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ. الْحَدِيثَ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا وَأَحَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ طَافُوا وَسَعَوْا لِعُمْرَتِهِمْ، وَطَافُوا وَسَعَوْا مَرَّةً أُخْرَى لِحَجِّهِمْ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ فُضَيْلِ بْنِ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيِّ بِلَفْظِ: «وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ» لَهَا حُكْمُ التَّعْلِيقِ - غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، بَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا قَالَ: قَالَ فُلَانٌ، فَحُكْمُ ذَلِكَ كَحُكْمِ (عَنْ فُلَانٍ) وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالرِّوَايَةُ بِذَلِكَ مُتَّصِلَةٌ، لَا مُعَلَّقَةٌ إِنْ كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ مُدَلِّسٍ، وَكَانَ مُعَاصِرًا لِمَنْ رَوَى عَنْهُ بِـ «قَالَ» وَنَحْوِهَا؛ وَلِذَا غَلَّطُوا ابْنَ حَزْمٍ فِي حَدِيثِ الْمَعَازِفِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ: وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، تَعْلِيقٌ وَلَيْسَ الْحَدِيثُ بِمُتَّصِلٍ، فَغَلَّطُوهُ وَحَكَمُوا لِلْحَدِيثِ بِالِاتِّصَالِ ; لِأَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ غَيْرُ مُدَلِّسٍ، فَقَوْلُهُ عَنْ شَيْخِهِ: قَالَ فَلَانٌ، كَقَوْلِهِ: عَنْ فُلَانٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْصُولٌ لَا مُعَلَّقٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ فُضَيْلٍ الْمَذْكُورِ تَعْلِيقًا، مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فِي حُكْمِ مَا لَوْ قَالَ: عَنْ أَبِي كَامِلٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحْكَمُ بِوَصْلِهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّهْذِيبِ. وَقَدْ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي كَلَامِهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخَذَهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَدْرَكَهُ وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِهِ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ ذِكْرًا فِي كِتَابِهِ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ. انْتَهَى مِنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا كَامِلٍ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَلَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِينَ سَنَةٍ وَالْبُخَارِيُّ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ مُعَاصَرَتَهُمَا زَمَنًا طَوِيلًا، وَقَدْ قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلُ الْإِسْنَادِ حُذِفْ ... مَعَ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَتَعْلِيقًا أُلِفْ وَلَوْ إِلَى آخِرِهِ أَمَّا الَّذِي ... لِشَيْخِهِ عَزَا بِـ «قَالَ» فَكَذِي عَنْعَنَةٌ كَخَبَرِ الْمَعَازِفْ ... لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ الْمُخَالِفْ وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ صَرَّحَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: قَالَ فُلَانٌ، كَقَوْلِهِ: عَنْ فُلَانٍ، تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَّصِلِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعَلَّقِ، وَقَدْ قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ أَيْضًا: وَصَحَّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ ... مِنْ دُلْسِهِ رَاوِيهِ وَاللُّقَا عُلِمْ وَبَعْضُهُمْ حَكَى بِذَا إِجْمَاعَا ... وَمُسْلِمٌ لَمْ يَشْرُطِ اجْتِمَاعَا لَكِنْ تَعَاصُرًا وَقِيلَ يُشْتَرَطْ ... طُولُ صَحَابَةٍ وَبَعْضُهُمْ شَرَطْ مَعْرِفَةَ الرَّاوِي بِالْأَخْذِ عَنْهُ ... وَقِيلَ كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ مُنْقَطِعٌ حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ ... وَحُكْمُ أَنْ حُكْمُ عَنْ فَالْجُلُّ سَوَّوْا وَلِلْقَطْعِ نَحَا الْبَرْدِيجِيُّ ... حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ فِي التَّخْرِيجِ قَالَ وَمِثْلُهُ رَأَى ابْنُ شَيْبَةْ ... كَذَا لَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْ صَوْبَهْ قُلْتُ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَا ... رَوَاهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْوَصْلِ كَيْفَمَا ... رَوَى بِقَالَ أَوْ عَنْ أَوْ بِأَنْ فَوَا وَمَا حَكَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلْ ... وَقَوْلُ يَعْقُوبَ عَلَى ذَا نُزِلْ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ عَنْ فِي ذَا الزَّمَنْ ... إِجَازَةً وَهُوَ بِوَصْلٍ مَا قَمِنْ انْتَهَى مِنْهُ. فَتَرَى الْعِرَاقِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَزَمَ فِي الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِاسْتِوَاءِ: قَالَ فُلَانٌ، وَ: عَنْ فُلَانٍ، وَأَنَّ فُلَانًا قَالَ كَذَا، وَأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْلِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ. وَحَكَى مُقَابِلَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فِي قَوْلِهِ: . . . . . ... وَقِيلَ كُلُّ مَا أَتَانَا عَنْهُ مُنْقَطِعٌ. . . ... . . . . . . إِلَخْ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ. . . إِلَخْ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَّصِلِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعَلَّقِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وَقَالَ صَاحِبُ تَدْرِيبِ الرَّاوِي: أَمَّا مَا عَزَاهُ الْبُخَارِيُّ لِبَعْضِ شُيُوخِهِ بِصِيغَةِ: قَالَ فُلَانٌ، وَ: زَادَ فُلَانٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ التَّعْلِيقِ عَنْ شُيُوخِ شُيُوخِهِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَنْعَنَةِ مِنْ الِاتِّصَالِ بِشَرْطِ اللِّقَاءِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ التَّدْلِيسِ، كَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَغَارِبَةِ أَنَّهُ جَعَلَهُ قِسْمًا مِنَ التَّعْلِيقِ ثَانِيًا، وَأَضَافَ إِلَيْهِ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ فُلَانٌ، وَزَادَ فُلَانٌ، فَوَسَمَ كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيقِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ هَاهُنَا هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي نَوْعِ الصَّحِيحِ فَجَعَلَ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْلِيقِ: قَالَ عَفَّانُ كَذَا، وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ كَذَا، وَهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ. وَالَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَالْمِزِّيِّ، أَنَّ لِذَلِكَ حُكْمَ الْعَنْعَنَةِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَا: وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ حَمدَانَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِالْبُخَارِيِّ: كُلُّ مَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ لِي فُلَانٌ أَوْ قَالَ لَنَا فُلَانٌ، فَهُوَ عَرْضٌ وَمُنَاوَلَةٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالنَّيْسَابُورِيُّ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَيْرِيِّ فِي قَوْلِ الْعِرَاقِيِّ فِي أَلْفِيَّتِهِ. وفي البخاري قال لي فجعله ... حيريهم للعرض والمناولة وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ مَعَ سَمَاعِهِ مِنْهُ لِغَرَضٍ غَيْرِ التَّعْلِيقِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْمَعَازِفِ الْمَذْكُورِ نَاقِلًا عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ الْحَافِظِ فِي رَدِّ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ، أَوْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَهُ قَائِلًا: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، وَسَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ فِيمَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَهِشَامٍ، وَجَعَلَهُ جَوَابًا عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ فِي وُجُوهٍ. وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَعْرُوفُ الِاتِّصَالِ بِشَرْطِ الصَّحِيحِ، وَالْبُخَارِيُّ قَدْ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ مُسْنَدًا مُتَّصِلًا، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصْحَبُهَا خَلَلُ الِانْقِطَاعِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَكَوْنُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَبِّرُ بَـ «قَالَ فُلَانٌ» لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ التَّعْلِيقِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْجَزْمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيقِ بِلَا مُسْتَنَدٍ، دَعْوَى لَمْ يُعَضِّدْهَا دَلِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الَّذِي يَقُولُ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: قَالَ فُلَانٌ، وَيُسَمِّي شَيْخًا مِنْ شُيُوخِهِ، يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمُعَنْعَنِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِيمَا تَحَمَّلَهُ عَنْ شَيْخِهِ مُذَاكَرَةً. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ فِيمَا يَرْوِيهِ مُنَاوَلَةً. اهـ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: قَالَ فُلَانٌ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْلِيقَ. فَإِنْ قِيلَ: تُوجَدُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَحَادِيثُ يَرْوِيهَا عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ بِصِيغَةِ: قَالَ فُلَانٌ، ثُمَّ يُورِدُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِوَاسِطَةٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْخِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا مَانِعَ عَقْلًا وَلَا عَادَةً، وَلَا شَرْعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ رَوَى ذَلِكَ الْحَدِيثَ عَنِ الشَّيْخِ مُبَاشَرَةً وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا بِوَاسِطَةٍ مَعَ كَوْنِ رِوَايَتِهِ عَنْهُ مُبَاشَرَةً تَشْتَمِلُ عَلَى سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلتَّعْبِيرِ بِلَفْظَةِ: قَالَ، الْمُشَارُ إِلَيْهَا آنِفًا، وَالرِّوَايَةُ عَنِ الْوَاسِطَةِ سَالِمَةٌ مِنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَذْكُورَةَ تَقْتَضِي التَّعْلِيقَ وَلَا تَقْتَضِي الِاتِّصَالَ، فَتَعْلِيقُ الْبُخَارِيِّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ حُكْمُهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ حُكْمُ الصَّحِيحِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمَعَازِفِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ التَّعَالِيقِ كُلِّهَا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، يَكُونُ صَحِيحًا إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شُيُوخِهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَسْعَى وَيَطُوفُ لِحَجِّهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلَا يَكْتَفِي بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ السَّابِقِ وَسَعْيِهَا - نَصٌّ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَطُوفُ لِحَجِّهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ مِنًى، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. اهـ مِنْهُ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. انْتَهَى مِنْهُ. فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ، وَأَنَّ الْقَارِنَ يَفْعَلُ كَفِعْلِ الْمُفْرِدِ، وَالْمُتَمَتِّعُ يَطُوفُ لِعُمْرَتِهِ وَيَطُوفُ لِحَجِّهِ، فَلَا وَجْهَ لِلنِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالطَّوَافِ الْوَاحِدِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا: السَّعْيُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَهُوَ وَجِيهٌ عِنْدِي. فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَمَتِّعِ كَالْقَارِنِ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، (ح) ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا. زَادَ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ: طَوَافَهُ الْأَوَّلَ. انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: هَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ، صَرَّحَ فِيهِ جَابِرٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُفْ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَهُ فِيهِمُ الْقَارِنُ، وَهُوَ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، وَفِيهِمُ الْمُتَمَتِّعُ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَإِذًا فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِوَاءِ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ فِي لُزُومِ طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِنْ أَمْكَنَ، قَالُوا: وَهُوَ هُنَا مُمْكِنٌ بِحَمْلِ حَدِيثِ جَابِرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَمْ يَطُوفُوا إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، خُصُوصُ الْقَارِنِينَ مِنْهُمْ، كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا بِلَا شَكٍّ، وَإِنْ حُمِلَ حَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى هَذَا كَانَ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَا ... إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بَيِّنَا وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً: أَنَّ الْجَمْعَ إِنْ أَمْكَنَ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ مَعَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ، وَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ مَعَنَا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحْلِلْ، قَالَ: قُلْنَا: أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ. قَالَ: فَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ وَمَسَسْنَا الطِّيبَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ، وَكَفَانَا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ; كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» . انْتَهَى. وَلَفْظُ جَابِرٍ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْقَارِنِينَ بِحَالٍ ; لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُمْ حَلُّوا الْحِلَّ كُلَّهُ، وَأَتَوُا النِّسَاءَ وَلَبِسُوا الثِّيَابَ وَمَسُّوا الطِّيبَ، وَأَنَّهُمْ أَهَلُّوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِحَجٍّ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ صَرَّحَ بِأَنَّهُمْ كَفَاهُمْ طَوَافُهُمُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ يَنْفِي طَوَافَ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ مِنًى، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُثْبِتَانِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - لِأَنَّهُمَا مُثْبِتَانِ - عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ النَّافِي. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَدَمَ طَوَافِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ مِنًى الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحِ رَوَاهُ جَابِرٌ وَحْدَهُ، وَطَوَافَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ مِنًى رَوَاهُ فِي الصَّحِيحِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ، وَمَا رَوَاهُ اثْنَانِ أَرْجَحُ مِمَّا رَوَاهُ وَاحِدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ، فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْوِيِّ: وَكَثْرَةُ الدَّلِيلِ وَالرِّوَايَهْ ... مُرَجَّحٌ لَدَى ذَوِي الدِّرَايَهْ وَأَمَّا مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ، طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِلْعُمْرَةِ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِلْحَجِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ وَافَقَهُ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُنَا، وَنُبَيِّنُ وَجْهَ رَدِّ الْمُخَالِفِينَ لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَسْعَى سَعْيَيْنِ وَيَطُوفُ طَوَافَيْنِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى، وَمَسْنَدِ عَلَيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: طُفْتُ مَعَ أَبِي، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ ذَلِكَ، وَحَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ نَصْبِ الرَّايَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَا: قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَحَمَّادٌ هَذَا ضَعَّفَهُ الْأَزْدِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: هُوَ مَجْهُولٌ، وَالْحَدِيثُ مِنْ أَجْلِهِ لَا يَصِحُّ. انْتَهَى. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى الطَّوَافَيْنِ وَالسَّعْيَيْنِ لِلْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ مَعًا: مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ مَعًا، وَقَالَ سَبِيلُهُمَا وَاحِدٌ، قَالَ: فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ. وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ. انْتَهَى، وَأَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ وَطَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ. انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ نَصْبِ الرَّايَةِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْوِهِمَا غَيْرُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، ثُمَّ هُوَ قَدْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضِدَّ هَذَا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا وَاللَّهِ مَا طَافَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، فَهَاتُوا مَنْ هَذَا الَّذِي يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ. انْتَهَى. وَبِالسَّنَدِ الثَّانِي رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ الْمُقَوِّمُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ صَاحِبَ الرَّأْيِ، حَدَّثَنَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ أَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: فَذَكَرَهُ. فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: مِنْ هَذَا كَانَ شُعْبَةُ يَشُقُّ بَطْنَهُ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، وَأَطَالَ الْعُقَيْلِيُّ فِي تَضْعِيفِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ حَفْصِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ، قَالَ: وَحَفْصٌ هَذَا ضَعِيفٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَدِيءُ الْحِفْظِ كَثِيرُ الْوَهْمِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، فَطَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ. انْتَهَى. قَالَ: وَعِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: مُبَارَكٌ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. انْتَهَى مِنْ نَصْبِ الرَّايَةِ لِأَحَادِيثِ الْهِدَايَةِ لِلزَّيْلَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ: مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمْرَتِهِ. وَحَجِّهِ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَأَبُو بُرْدَةَ مَتْرُوكٌ، وَمَنْ دُونَهُ فِي الْإِسْنَادِ ضُعَفَاءُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا: مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَزْدِيِّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ. انْتَهَى. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يُقَالُ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الْأَزْدِيَّ حَدَّثَ بِهَذَا مِنْ حِفْظِهِ، فَوَهِمَ فِي مَتْنِهِ، وَالصَّوَابُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الْحَجَّ، وَالْعُمْرَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الطَّوَافِ وَلَا السَّعْيِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذِكْرِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَيْرُوزَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ بِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ. انْتَهَى قَالَ: وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الطَّوَافَ، وَلَا السَّعْيَ، كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَكِيلِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَا: ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبَيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ اهـ. انْتَهَى كُلُّهُ مِنْ نَصْبِ الرَّايَةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ لِلْقَارِنِ، لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ قَائِمٌ كَمَا رَأَيْتَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ، وَطُرُقُهُ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَغَيْرِهِمَا ضَعِيفَةٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 وَكَذَا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَالْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ الِاكْتِفَاءُ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ، فَيُحْمَلُ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ، وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَأَمَّا السَّعْيُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يَثْبُتْ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ أَصْلًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَادِ الْمَعَادِ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ قَارِنًا قِرَانًا طَافَ لَهُ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ، كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَعُذْرُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ، وَعُمْرَةٍ مَعًا، وَقَالَ: سَبِيلُهُمَا وَاحِدٌ. قَالَ: وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ، كَمَا صَنَعْتُ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، فَطَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْعُذْرَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَحِيحَةً، بَلْ لَا يَصِحُّ مِنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَفِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الْحَكَمِ غَيْرُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ الْأَوَّلُ فَفِيهِ حَفْصُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ: حَفْصٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ خِرَاشٍ: هُوَ كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُهُ الثَّانِي: فَيَرْوِيهِ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ مُبَارَكٌ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَيَرْوِيهِ أَبُو بُرْدَةَ عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَأَبُو بُرْدَةَ ضَعِيفٌ، وَمَنْ دُونَهُ فِي الْإِسْنَادِ ضُعَفَاءُ. انْتَهَى. وَفِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ. قَالَ يَحْيَى: هُوَ كَذَّابٌ خَبِيثٌ، وَقَالَ الرَّازِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: فَهُوَ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ وَحَدَّثَ بِهِ مِنْ حِفْظِهِ فَوَهِمَ فِيهِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ مِرَارًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذِكْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ. فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ أَحَادِيثَ السَّعْيَيْنِ، وَالطَّوَافَيْنِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ قَائِمٌ كَمَا رَأَيْتَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافًا، وَيَسْعَى سَعْيًا كَفِعْلِ الْمُفْرِدِ، أَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: هُوَ مَا بَيَّنَاهُ الْآنَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الزَّيْلَعِيِّ، وَابْنِ حَجَرٍ، وَابْنِ الْقَيِّمِ، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَوْجُهِ ضَعْفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ بَعْضَهَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ وَضِعَافُهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَا يَقِلُّ مَجْمُوعُ طُرُقِهَا عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، وَأَصَحُّ، وَأَرْجَحُ، وَأَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَفْعَلْ فِي قِرَانِهِ. إِلَّا كَمَا يَفْعَلُ الْمُفْرِدُ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَكَالْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: «يَكْفِيكِ طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَاضِحًا، وَقَدِ اتَّضَحَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهَا أَنَّ الْقَارِنَ يَفْعَلُ كَفِعْلِ الْمُفْرِدِ لِانْدِرَاجِ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَطُوفُ، وَيَسْعَى لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِحَجَّتِهِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِحَجِّهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ مِنًى أَنَّهُ يُهِلُّ بِالْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْحَجُّ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ دُخُولًا مَجْزُومًا بِهِ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، فَلَوْ كَانَ يَكْفِيهِ طَوَافُ الْعُمْرَةِ الَّتِي حَلَّ مِنْهَا وَسَعْيُهَا، لَكَانَ إِهْلَالُهُ بِالْحَجِّ إِهْلَالًا بِحَجٍّ، لَا طَوَافَ فِيهِ وَلَا سَعْيَ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَجٍّ فِي الْعُرْفِ وَلَا فِي الشَّرْعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ صِفَةَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ هِيَ أَنْ يَبْتَدِئَ طَوَافَهُ مِنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، فَيَسْتَقْبِلَهُ، وَيَسْتَلِمَهُ، وَيُقَبِّلَهُ إِنْ لَمْ يُؤْذِ النَّاسَ بِالْمُزَاحَمَةِ، فَيُحَاذِيَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ جَمِيعَ الْحَجَرِ فَيَمُرَّ جَمِيعُ بَدَنِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَجَرِ، وَذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَصِيرُ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ عِنْدَ طَرَفٍ الْحَجَرِ، وَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ وَرَاءَهُ جُزْءٌ مِنَ الْحَجَرِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ طَوَافَهُ مَارًّا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَجَرِ، جَاعِلًا يَسَارَهُ إِلَى جِهَةِ الْبَيْتِ، ثُمَّ يَمْشِي طَائِفًا بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَمُرُّ وَرَاءَ الْحِجْرِ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَيَدُورُ بِالْبَيْتِ. فَيَمُرُّ عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى رُكْنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ الْمَحَلُّ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ طَوَافَهُ، فَتَتِمُّ لَهُ بِهَذَا طَوَافَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 يَفْعَلُ كَذَلِكَ، حَتَّى يُتَمِّمَ سَبْعًا. وَأَصَحُّ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا جَمِيعَ بَدَنِهِ، حَالَ طَوَافِهِ عَنْ شَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ ; لِأَنَّهُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا جَمِيعَ بَدَنِهِ حَالَ طَوَافِهِ عَنْ جِدَارِ الْحِجْرِ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْبَيْتِ، وَلَكِنْ لَمْ تَبْنِهِ قُرَيْشٌ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُشَرَّعِ اسْتِلَامُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ ; لِأَنَّ أَصْلَهُمَا مِنْ وَسَطِ الْبَيْتِ ; لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَبْنِ مَا كَانَ عَنْ شِمَالِهِمَا مِنَ الْبَيْتِ، وَهُوَ الْحِجْرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجِدَارُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَيْتِ كَمَا بَيَّنَّا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «أَلَمْ تَرَيْ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلَا حَدَثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَفَعَلْتُ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَتْ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَدْرِ، أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَيْ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ» اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْجَدْرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ هُنَا: الْحِجْرُ. وَفِي رِوَايَةِ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ، ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ، وَجَعَلَتْ لَهُ خَلَفًا» قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ خَلَفًا يَعْنِي: بَابًا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِيهِ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ، بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ» فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى هَدْمِهِ قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الْآنَ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ: هَهُنَا، قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَزَيْدٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ رُومَانَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ، وَهُمَا مَذْكُورَانِ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ. عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلَفًا» . اهـ وَقَالَ النَّوَوِيُّ خَلَفًا؛ أَيْ: بَابًا مِنْ خَلْفِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِيهِ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا حَدَثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِيهِ أَيْضًا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، أَوْ قَالَ: بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا فِيهِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشْرِكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ، بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا وَسِتَّةً فِيهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حِينَ بَنَتِ الْكَعْبَةَ» انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَحَدِيثُهَا هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَ رِوَايَاتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، نَصٌّ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ سَلَكَ نَفْسَ الْحِجْرِ فِي طَوَافِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، لَزِمَهُ دَمٌ مَعَ صِحَّةِ طَوَافِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا رَأَيْتَ مِنْ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ، وَأَنَّ الطَّوَافَ فِيهِ لَيْسَ طَوَافًا بِالْبَيْتِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: يُسَنُّ الرَّمَلُ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ أَوَّلِ طَوَافٍ يَطُوفُهُ الْقَادِمُ، إِلَى مَكَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ طَوَافَ عُمْرَةٍ، أَوْ طَوَافَ قُدُومٍ فِي حَجٍّ، وَأَمَّا الْأَشْوَاطُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخِيرَةُ فَإِنَّهُ يَمْشِي فِيهَا، وَلَا يَرْمُلُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، تَابَعَهُ اللَّيْثُ. قَالَ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ. انْتَهَى مِنْهُ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، الْحَدِيثَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ، يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَيَمْشِي أَرْبَعَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ، إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ، خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " زَادَ مُسْلِمٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرَّمَلَ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَطَوَافِ الْقُدُومِ مِمَّا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَنْ شَذَّ، وَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَشْوَاطِ الْأَخِيرَةِ عَلَى الصَّوَابِ. وَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ دَمٌ عَلَى الْأَظْهَرِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ، خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الدَّمَ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: إِنْ قِيلَ مَا الْحِكْمَةُ فِي الرَّمَلِ بَعْدَ زَوَالِ عِلَّتِهِ الَّتِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهَا، وَالْغَالِبُ اطِّرَادُ الْعِلَّةِ وَانْعِكَاسُهَا، بِحَيْثُ يَدُورُ مَعَهَا الْمُعَلَّلُ بِهَا، وُجُودًا وَعَدَمًا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 فَالْجَوَابُ: أَنَّ بَقَاءَ حُكْمِ الرَّمَلِ مَعَ زَوَالِ عِلَّتِهِ، لَا يُنَافِي أَنَّ لِبَقَائِهِ عِلَّةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ كَثَّرَهُمْ وَقَوَّاهُمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ الْآيَةَ [8 \ 26] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ الْآيَةَ [7 \ 86] . وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اذْكُرُوا فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى تَحَتُّمِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ بِذَلِكَ، وَإِذًا فَلَا مَانِعَ مَنْ كَوْنِ الْحِكْمَةِ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الرَّمَلِ، هِيَ تَذَكُّرُ نِعْمَةِ اللَّهِ بِالْقُوَّةِ بَعْدَ الضَّعْفِ. وَالْكَثْرَةِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْكُهُ لِزَوَالِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةَ فِي الصَّحِيحِ فِي الرَّمَلِ ظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافُ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا أَنَّ الرَّمَلَ لَيْسَ فِي الشَّوْطِ كُلِّهِ بَلْ مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ لَا رَمَلَ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَا لَفْظُهُ: فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. وَلَفْظُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ: فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْمُلُوا فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِلَّةَ ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، يَعْنِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَلَسُوا فِي جِهَةِ الْبَيْتِ الشَّمَالِيَّةِ مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَإِذًا فَالَّذِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ لَا يَرَوْنَهُ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَإِذَا كَانُوا لَا يَرَوْنَهُمْ مَشَوْا فَإِذَا ظَهَرُوا لَهُمْ عِنْدَ رُكْنِ الْحِجْرِ رَمَلُوا، مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا، مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا لَفْظُهُ: قَالَ: " رَمَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا " وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُمْ مَشَوْا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَامَ سَبْعٍ، وَمَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى مِنَ الرَّمَلِ فِي كُلِّ شَوْطٍ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا أَجَابَ بِهَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إِنَّ رَمَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ الشَّوْطِ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَاسِخٌ لِلْمَشْيِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الثَّابِتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَالْمُتَأَخِّرُ يَنْسَخُ الْمُتَقَدِّمَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا يَتَعَيَّنُ النَّسْخُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا، فَلَا يَلْزَمُ نَسْخُ الْآخِرِ مِنْهَا لِلْأَوَّلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا شَخْصِيًّا لَا كُلِّيًّا، حَتَّى يُنَافِيَ فِعْلًا آخَرَ، فَجَائِزٌ أَنْ يَقَعَ الْفِعْلُ وَاجِبًا فِي وَقْتٍ، وَفِي وَقْتٍ آخَرَ بِخِلَافِهِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ: مَسْأَلَةٌ: الْفِعْلَانِ لَا يَتَعَارَضَانِ كَصَوْمٍ وَأَكْلٍ لِجَوَازِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ، وَإِبَاحَتِهِ فِي آخَرَ. إلخ، وَمَحَلُّ عَدَمِ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ الْمَذْكُورُ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْفِعْلَيْنِ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَإِلَّا كَانَ آخِرُ الْفِعْلَيْنِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِمَا قَوْلٌ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ يُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، إِنِ اقْتَرَنَ بِهِمَا الْقَوْلُ وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا، فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا. مِثَالُ الْفِعْلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِمَا قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَشْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ وَرَمَلُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، مَعَ رَمَلِهِ فِي الْجَمِيعِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمِثَالُ الْفِعْلَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَرَنَ بِهِمَا قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ صَلَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مُخْتَلِفَةٍ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ اقْتَرَنَتْ بِقَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " فَالْجَارِي عَلَى الْأُصُولِ حَسْبَمَا ذَكَرْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 الْحَاجِبِ، وَالْعَضُدُ، وَالرَّهُونِيُّ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّ طَوَافَ الْأَشْوَاطِ كُلِّهَا لَيْسَ نَاسِخًا لِلْمَشْيِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَأَنَّ صِيغَةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِيهَا الْأَقْوَالُ الْمَارَّةُ قِيلَ: كُلُّ صُورَةٍ بَعْدَ أُخْرَى، فَهِيَ نَاسِخَةٌ لَهَا، وَقِيلَ: كُلُّهَا صَحِيحَةٌ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَقِيلَ: بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَ صُوَرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ وَاحِدٌ، فَالتَّخْيِيرُ. وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ تَعَارُضُ الْأَفْعَالِ ... فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَإِنْ يَكُ الْقَوْلُ بِحُكْمٍ لَامِعًا ... فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ كَانَ رَافِعًا وَالْكُلُّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ صَحِيحُ ... وَمَالِكٌ عَنْهُ رُوِي التَّرْجِيحُ وَحَيْثُمَا قَدْ عُدِمَ الْمَصِيرُ ... إِلَيْهِ فَالْأَوْلَى هُوَ التَّخْيِيرُ وَقَالَ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: تَنْبِيهٌ: لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، وَصَرَّحَ الرَّهُونِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ تَمَاثَلَ الْفِعْلَانِ، أَوِ اخْتَلَفَا، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ لَمْ يُمْكِنْ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِذْ لَا يَقَعُ فِي الْأَعْيَانِ، إِلَّا مُشَخَّصًا فَلَا يَكُونُ كُلِّيًّا حَتَّى يُنَافِيَ فِعْلًا آخَرَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي وَقْتٍ مُبَاحًا فِي آخَرَ، وَهَذَا مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْفِعْلِ قَوْلٌ: يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَرَأَوْهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَقَالَ الْأَبْيَارِيُّ: هَذَا كَاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، وَقِيلَ: يَصِحُّ إِيقَاعُهَا عَلَى كُلِّ وَجْهٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي: وَلِلشَّافِعِيِّ مَيْلٌ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: يَطْلُبُ التَّرْجِيحَ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالرَّمَلُ: مَصْدَرُ رَمَلَ بِفَتْحِ الْمِيمِ يَرْمُلُ بِضَمِّهَا رَمَلًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَمَلَانًا: إِذَا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ وَهَزَّ مَنْكِبَيْهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَنْزُو؛ أَيْ: لَا يَثِبُ، وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ: نَاقَتُهُ تَرْمُلُ فِي النِّقَالِ ... مُتْلِفُ مَالٍ وَمُفِيدُ مَالِ ومراده بالنقال: المناقلة، وهو أن تضع رجليها مواضع يديها، وهو دليل على أن الرمل فيه إسراع، وهو الخبب، ولذا جاء في بعض روايات الحديث: رمل وفي بعضها خب، والمعنى واحد. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الِاضْطِبَاعَ يُسَنُّ فِي الطَّوَافِ، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى، قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ» ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعِرَّانَةِ، فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، قَدْ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى» انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثْنَا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ ابْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ» ، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثُ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَا نَعْرِفُهُ، إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ هُوَ ابْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَقَبِيصَةُ، قَالَا: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ ابْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ يَعْلَى: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ مُضْطَبِعًا» ، قَالَ قَبِيصَةُ: وَعَلَيْهِ بُرْدٌ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي الِاضْطِبَاعِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَفْظُهُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ سَاقَهُ كَمَا سُقْنَاهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: «اضْطَبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَمَلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَوْا أَرْبَعًا» ، وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا» إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَعَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ، وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَنَاكِبِ، وَقَدْ وَطَّدَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَنَفَى الْكُفْرَ، وَأَهْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَتْرُكُ شَيْئًا كُنَّا نَصْنَعُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ سُنِّيَّةَ الِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الِاضْطِبَاعَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ. وَصِفَةُ الِاضْطِبَاعِ: أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ كَتِفِهِ الْيُمْنَى، وَيَرُدَّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَتَبْقَى كَتِفُهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الضَّبْعِ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَسُكُونِ الْبَاءِ بِمَعْنَى: الْعَضُدِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِبْدَاءِ أَحَدِ الضَّبْعَيْنِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْعَضُدَ: ضَبْعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 طَرَفَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ. وَإِنْ شِئْتُ سَامَى وَاسِطَ الْكُوَرِ رَأَسُهَا ... وَعَامَتْ بِضَبْعَيْهَا نَجَاءَ الْخَفَيْدَدِ تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَبَعَهُ إِذَا مَدَّ إِلَيْهِ ضَبْعَهُ، لِيَضْرِبَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شَاسٍ: نَذُودُ الْمُلُوكَ عَنْكُمْ وَتَذُودُنَا ... وَلَا صُلْحَ حَتَّى تَضْبَعُونَا وَنَضْبَعَا ؛ أَيْ تَمُدُّونَ أَضْبَاعَكُمْ إِلَيْنَا بِالسُّيُوفِ، وَنَمُدُّ أَضْبَاعَنَا إِلَيْكُمْ، وَقِيلَ: تَضْبَعُونَ؛ أَيْ: تَمُدُّونَ أَضْبَاعَكُمْ لِلصُّلْحِ وَالْمُصَافَحَةِ. وَالطَّاءُ فِي الْإِضْبَاعِ مُبْدَلَةٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ ; لِأَنَّ الضَّادَ مِنْ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: طَاتَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبِقِ ... فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِي الْفَرْعُ الرَّابِعُ: فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الطَّوَافِ هَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ مِنْ طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَالْخَبَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؟ اعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، وَالْخَبَثِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: لَا تُشْتَرَطُ لِلطَّوَافِ طَهَارَةٌ، وَلَا سَتْرُ عَوْرَةٍ، فَلَوْ طَافَ جُنُبًا، أَوْ مُحْدِثًا، أَوْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، أَوْ عُرْيَانًا صَحَّ طَوَافُهُ عِنْدَهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ. وَمِنْ أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ جُنُبًا، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَإِنْ طَافَهُ مُحْدِثًا: فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ بِطَهَارَةٍ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَالدَّمُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ، بِأَدِلَّةٍ. مِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ سَابِقًا بِسَنَدِهِ، وَمَتْنِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ» الْحَدِيثَ، قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرَّحَتْ فِيهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِطَوَافِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلطَّوَافِ مِنَ الطَّهَارَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 فَإِنْ قِيلَ: وُضُوءُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِعْلٌ مُطْلَقٌ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ: فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا فِي الطَّوَافِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ وُضُوءَهُ لِطَوَافِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَدْ دَلَّ دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَهَذَا الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَالتَّحَتُّمِ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ لِلطَّوَافِ لَزِمَنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ فِي قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ فِعْلَهُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْوُضُوءِ لَهُ، وَمِنْ هَيْئَتِهِ الَّتِي أَتَى بِهِ عَلَيْهَا كُلِّهَا بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 \ 29] وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ لِبَيَانِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ عَلَى اللُّزُومِ وَالتَّحَتُّمِ. وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ ; لِأَنَّ قَطْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] لِأَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَى الْعُضْوِ إِلَى الْمِرْفَقِ، وَإِلَى الْمَنْكِبِ. قَالَ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَوُقُوعُهُ بَيَانًا مَا نَصُّهُ: الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ مُجْمَلٍ، إِمَّا بِقَرِينَةِ حَالٍ، مِثْلُ الْقَطْعِ مِنَ الْكُوعِ، فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] وَإِمَّا بِقَوْلٍ كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَمْ تُبَيَّنْ صِفَاتُهَا فَبَيَّنَهَا بِفِعْلِهِ وَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ بَيَانٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ انْتَهَى. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: إِلَى أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاقِعَ لِبَيَانِ مُجْمَلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمُبَيَّنُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَاجِبًا فَالْفِعْلُ الْمُبَيِّنُ لَهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَاجِبٌ بِقَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَبِالنَّصِّ يُرَى ... وَبِالْبَيَانِ وَامْتِثَالٍ ظَهَرَا وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَبِالْبَيَانِ يَعْنِي: أَنَّهُ يُعْرَفُ حُكْمُ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوُجُوبِ أَوْ غَيْرِهِ بِالْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ أَمْرًا وَاجِبًا: كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَقَطْعِ السَّارِقِ بِالْفِعْلِ، فَهَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا لِوُقُوعِهِ بَيَانًا لِوَاجِبٍ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ طَوَافَ الرُّكْنِ بِقَوْلِهِ: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 \ 29] وَقَدْ بَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَمِنْ فِعْلِهِ الَّذِي بَيَّنَهُ بِهِ: الْوُضُوءُ لَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَهُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ لِلطَّوَافِ: مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» ، انْتَهَى مِنْهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا بِإِسْنَادَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا بِلَفْظِ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ عَنْهَا: «فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي» قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْيِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الطَّوَافِ إِلَى غَايَةٍ هِيَ الطَّهَارَةُ لِقَوْلِهِ: «حَتَّى تَطْهُرِي» ، عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَ «حَتَّى تَغْتَسِلِي» ، عِنْدَ مُسْلِمٍ وَمَنْعُ الطَّوَافِ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ، الَّذِي هُوَ الْحَيْضُ إِلَى غَايَةِ الطَّهَارَةِ مِنْ جَنَابَتِهِ: يَدُلُّ مَسْلَكُ الْإِيمَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ مَنْعِهَا مِنَ الطَّوَافِ، هُوَ الْحَدَثُ الَّذِي هُوَ الْحَيْضُ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ لِلطَّوَافِ كَمَا تَرَى. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ طَوَافِهَا، وَهِيَ حَائِضٌ، أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ يَأْبَى هَذَا التَّعْلِيلَ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَتَّى تَطْهُرِي حَتَّى تَغْتَسِلِي» ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَ لَقَالَ: حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْكِ الدَّمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا نَهَاهَا لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَتَّى تَغْتَسِلِي» ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُكِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ: مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» الْحَدِيثَ. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ: رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ وَالسِّتِّينَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ كِلَاهُمَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ ; إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ يَتَكَلَّمُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِخَيْرٍ» ، انْتَهَى. وَسَكَتَ الْحَاكِمُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ بِهِ بِلَفْظِ: «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ» ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ طَاوُسٍ مَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ بْنِ السَّائِبِ. وَعَنِ الْحَاكِمِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ بِسَنَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَفَعَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: هَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مَرْفُوعًا، أَمَّا الْمَرْفُوعُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ رَوَاهَا عَنْهُ جَرِيرٌ، وَفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَمُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، وَسُفْيَانُ أَخْرَجَهَا كُلَّهَا الْبَيْهَقِيُّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: رِوَايَةُ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ رَوَاهَا عَنْهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: رِوَايَةُ الْبَاغَنْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا. فَأَمَّا طَرِيقُ عَطَاءٍ فَإِنَّ عَطَاءً مِنَ الثِّقَاتِ، لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ بِأَخَرَةٍ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَجَمِيعُ مَنْ رَوَى عَنْهُ رَوَى عَنْهُ فِي الِاخْتِلَاطِ إِلَّا شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، وَمَا سَمِعَ مِنْهُ جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ فَلَيْسَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ. وَأَمَّا طَرِيقُ لَيْثٍ، فَلَيْثٌ رَجُلٌ صَالِحٌ صَدُوقٌ يُسْتَضْعَفُ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ضَعِيفٌ مِثْلُ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: لَعَلَّ اجْتِمَاعَهُ مَعَ عَطَاءٍ يُقَوِّي رَفْعَ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْبَاغَنْدِيِّ، فَإِنَّ الْبَيْهَقِيَّ لَمَّا ذَكَرَهَا قَالَ وَلَمْ يَضَعِ الْبَاغَنْدِيُّ شَيْئًا فِي رَفْعِهِ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ مَوْقُوفًا انْتَهَى مِنْ نَصْبِ الرَّايَةِ لِلزَّيْلَعِيِّ. ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: حَدِيثٌ آخَرُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ، ثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ طَاوُسٍ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الطَّوَافُ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ» انْتَهَى مِنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 وَاعْلَمْ: أَنَّ عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ قَالُوا: إِنَّ وَقْفَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ مِنْ رَفْعِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ قَرِيبًا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ رَفَعَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مَعًا لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مِمَّنْ رَوَى رَفْعَهُ عَنْ عَطَاءٍ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ رِوَايَةَ سُفْيَانَ عَنْهُ صَحِيحَةٌ ; لِأَنَّهُ رَوَى عَنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «الطَّوَافُ صَلَاةٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ كَالْمَشْيِ فِيهِ، وَالِانْحِرَافِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، يَرَوْنَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ حَدِيثَ (الطَّوَافُ صَلَاةٌ) مَوْقُوفٌ لَا مَرْفُوعٌ، لِأَنَّ مَنْ وَقَفُوهُ أَضْبَطُ، وَأَوْثَقُ مِمَّنْ رَفَعَهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ اشْتُهِرَ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونَ حُجَّةً، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اعْتَضَدَ بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ: «الطَّوَافُ صَلَاةٌ» مَا نَصُّهُ: وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَحْصُلُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ اشْتُهِرَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ حُجَّةً كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَيْضًا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ انْتَهَى مِنْهُ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ: بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ لِلطَّوَافِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا لَهُ بِحَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ دَالٍّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأُبُلِّيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح، حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ: أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ، يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِلَفْظِ: «وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» يَدُلُّ فِيهِ مَسْلَكُ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ مِنَ الطَّوَافِ كَوْنُهُ عُرْيَانًا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ كَمَا تَرَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [7 \ 31] . وَإِيضَاحُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ يَتَوَقَّفُ أَوَّلًا عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ. الْأُولَى مِنْهُمَا: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِسَبَبِ النُّزُولِ، أَنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ الْعَلَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي طَلْعَةِ الْأَنْوَارِ: تَفْسِيرُ صَاحِبٍ لَهُ تَعَلُّقُ ... بِالسَّبَبِ الرَّفْعُ لَهُ مُحَقَّقُ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: وَعُدَّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِي ... رَفْعًا فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ: فَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [7 \ 31] أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي ثَوْبًا تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا السَّبَبِ: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الْآيَةَ [7 \ 31] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 وَمِنْ زِينَتِهِمُ الَّتِي أُمِرُوا بِأَخْذِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ: لُبْسُهُمُ الثِّيَابَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلطَّوَافِ ; لِأَنَّهُ هُوَ صُورَةُ سَبَبِ النُّزُولِ. فَدُخُولُهَا فِي حُكْمِ الْآيَةِ قَطْعِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ وَأَوْضَحْنَاهُ سَابِقًا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. فَالْأَمْرُ فِي: خُذُوا شَامِلٌ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ، وَهُوَ أَمْرٌ حَتْمٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ مُخَاطِبًا بِهِ بَنِي آدَمَ، وَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْأَمْرُ. وَاعْلَمْ أَيْضًا: أَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَسَّرَ: خُذُوا زِينَتَكُمْ بِلُبْسِ الثِّيَابِ لِلطَّوَافِ اسْتِنَادًا لِسَبَبِ النُّزُولِ. قَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تَطْوَافًا تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ انْتَهَى مِنْهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفَسِّرُ الزِّينَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بِاللِّبَاسِ، وَلِتَعَلُّقِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِسَبَبِ النُّزُولِ، فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا بَيَّنَّا وَالْبَيْتُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ: جَهْمٌ مِنَ الْجَهْمِ عَظِيمٌ ظِلُّهُ ... كَمْ مِنْ لَبِيبٍ عَقْلُهُ يُضِلُّهُ وَنَاظِرٍ يَنْظُرُ مَا يَمَلُّهُ قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ: اللِّبَاسُ، وَهُوَ مَا يُوَارِي السَّوْأَةَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَيِّدِ الْبَزِّ وَالْمَتَاعِ اهـ مِنْهُ. وَجَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ مُطْبِقُونَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُتَعَلِّقِ بِسَبَبِ النُّزُولِ، فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَلَّا مَعًا عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ فِيمَا كَتَبْنَا أَدِلَّةَ الْجُمْهُورِ عَلَى طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ. أَمَّا طَهَارَةُ الْخَبَثِ: فَقَدِ اسْتَدَلُّوا لَهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ، أَوْ مَرْفُوعٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 فِيهِ، فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَاسْتَأْنَسَ بَعْضُهُمْ لِطَهَارَةِ الْخَبَثِ لِلطَّوَافِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْآيَةَ [22 \ 26] ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالطَّهَارَةِ لِلطَّائِفِينَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ قَالُوا: بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَمْ يَشْتَرِطِ الطَّهَارَةَ، وَلَا سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِلطَّوَافِ. فَاعْلَمْ أَنَّ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ هِيَ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي أُصُولِهِ تَرَكَ مِنْ أَجْلِهَا الْعَمَلَ بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتِلْكَ الْقَاعِدَةُ الَّتِي تَرَكَ مِنْ أَجْلِهَا الْعَمَلَ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَا تُنْسَخُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، فَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 \ 29] وَهُوَ نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ، فَلَوْ زِدْنَا عَلَى الطَّوَافِ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ، وَالسَّتْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، وَأَخْبَارُهَا أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا تَنْسَخُ الْمُتَوَاتِرَ الَّذِي هُوَ الْآيَةُ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِتَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَزِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآيَةَ [24] نَسْخٌ لَهُ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ، فَلَا يُنْسَخُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَقُلْ بِثُبُوتِ الْمَالِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ الْآيَةَ [2 \ 282] وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَالْمُتَوَاتِرُ لَا يُنْسَخُ بِالْآحَادِ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ هُوَ التَّفْصِيلُ. فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَثْبَتَتْ شَيْئًا نَفَاهُ الْمُتَوَاتِرُ، أَوْ نَفَتْ شَيْئًا أَثْبَتَهُ، فَهِيَ نَسْخٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ زِيدَ فِيهَا شَيْءٌ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ النَّصُّ الْمُتَوَاتِرُ، فَهِيَ زِيَادَةُ شَيْءٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ لَمْ تَرْفَعْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا رَفَعَتِ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْإِبَاحَةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَرَفْعُهَا لَيْسَ بِنَسْخٍ. مِثَالُ الزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ نَسْخٌ عَلَى التَّحْقِيقِ: زِيَادَةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالْقُرْآنِ، وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [6 \ 145] فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَمْ تَسْكُتْ عَنْ إِبَاحَةِ الْخَمْرِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 نُزُولِهَا، بَلْ صَرَّحَتْ بِإِبَاحَتِهِمَا بِمُقْتَضَى الْحَصْرِ الصَّرِيحِ بِالنَّفْيِ فِي لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ وَالْإِثْبَاتِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً فَتَحْرِيمُ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ زِيَادَةٌ نَاسِخَةٌ ; لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ تَحْرِيمًا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِهِ. وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا النَّصُّ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، زِيَادَةُ تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ عَامًا بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى آيَةِ الْجَلْدِ، وَزِيَادَةُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عَلَى آيَةِ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ الْآيَةَ. وَزِيَادَةُ الطَّهَارَةِ، وَالسَّتْرِ الَّتِي بَيَّنَّا أَدِلَّتَهَا عَلَى آيَةِ: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 \ 29] وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ نَسْخًا كُلُّ مَا أَفَادَا ... فِيمَا رَسَا بِالنَّصِّ الِازْدِيَادَا وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ [6 \ 145] ، وَبَيَّنَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ جَوَازُ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ إِذَا عُلِمَ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ، وَبَيَّنَّاهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الْآيَةَ [16 \ 101] . وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الطَّوَافَ فِي الْحَجِّ الْمُفْرَدِ وَالْقِرَانِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ: وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ. أَمَّا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِمَا الْعُلَمَاءُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، إِلَى أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ: وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ: سُنَّةٌ، وَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَاسْتَدَلَّ لِوُجُوبِ الْقُدُومِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الطَّوَافُ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْمُهَاجِرُونَ، وَالْأَنْصَارُ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَاسْتَدَلَّ لِعَدَمِ وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، بِتَرْخِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَائِضِ فِي تَرْكِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِدَمٍ وَلَا شَيْءٍ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِجَبْرِهِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ: عَلَيْهِ دَمٌ، وَمِنْ حُجَجِهِمْ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ أَنَّهُ تَحِيَّةٌ، فَلَمْ يَجِبْ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ، يَجِبُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 إِلَّا أَنَّهُ يُرَخَّصُ فِي تَرْكِهِ لِلْحَائِضِ خَاصَّةً، إِذَا نَفَرَتْ رِفْقَتُهَا قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا وُجُوبُ طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَمٌ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ كَلَامَهُ هَذَا، ثُمَّ تَعَقَّبَ عَزْوَهُ سُنِّيَّتَهُ لِابْنِ الْمُنْذِرِ فَقَالَ: وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْأَوْسَطِ لِابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ وَاجِبٌ لِلْأَمْرِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ دَلِيلًا: أَنَّهُ وَاجِبٌ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» قَالَ زُهَيْرٌ: يَنْصَرِفُونَ كُلَّ وَجْهٍ، وَلَمْ يَقُلْ (فِي) . انْتَهَى مِنْهُ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِصِيغَةِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ» إلخ. دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ النَّفْرِ بِدُونِ وَدَاعٍ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ قَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ. اهـ مِنْهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ انْتَهَى. مِنْهُ وَقَوْلُهُ أُمِرَ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَمَعْلُومٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ. فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ، مَعَ التَّرْخِيصِ لِخُصُوصِ الْحَائِضِ وَاللَّهُ يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» ، وَقَدْ نَهَى فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ، عَنِ النَّفْرِ بِدُونِ طَوَافِ وَدَاعٍ، وَأَمَرَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِالْوَدَاعِ. فَدَلَّ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَذَلِكَ النَّهْيُ عَلَى وُجُوبِهِ. أَمَّا لُزُومُ الدَّمِ فِي تَرْكِهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ صَالِحٍ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّمَاءِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْفُقَهَاءُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 وَحَدِيثُ تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفِيَّةَ أَنْ تَنْفِرَ وَهِيَ حَائِضٌ مِنْ غَيْرِ وَدَاعٍ مَعْرُوفٌ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: فِي أَوَّلِ وَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَآخِرِهِ. الظَّاهِرُ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ أَوَّلُ يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ يَدْخُلُ بِنِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَلَا أَعْلَمُ لِذَلِكَ دَلِيلًا مُقْنِعًا. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا آخِرَ لِوَقْتِهِ، بَلْ يَبْقَى وَقْتُهُ مَا دَامَ صَاحِبُ النُّسُكِ حَيًّا، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ الدَّمِ بِالتَّأَخُّرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا آخِرَ لِوَقْتِهِ، بَلْ يَبْقَى مَا دَامَ حَيًّا، وَلَا يَلْزَمُهُ بِتَأْخِيرِهِ دَمٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ أَخَّرَهُ وَفَعَلَهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. فَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِنَا: لَا دَمَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ: وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ: لَزِمَهُ الْعَوْدُ لِلطَّوَافِ، فَيَطُوفُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ مَالِكٍ. دَلِيلُنَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدَّمِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. وَلُزُومُ الدَّمِ بِالتَّأْخِيرِ فِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَهُ إِلَى انْسِلَاخِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَيْهِ الدَّمُ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لِلطَّائِفِ، وَجَمَاهِيرُهُمْ عَلَى تَقْبِيلِهِ، وَإِنْ عَجَزَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَبَّلَهَا خِلَافًا لِمَالِكٍ قَائِلًا: إِنَّهُ يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا مَعَ ذَلِكَ تَقْبِيلُهُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ، بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَقْبِيلِهِ قَبَّلَ الْيَدَ بَعْدَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْبِيلِ الْيَدِ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. حَكَاهُ عَنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلُوهُ، وَتَبِعَهُمْ جُمْلَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَرُوِّينَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ: قَالَ وَقَدْ رُوِّينَا فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ بِدْعَةٌ، وَاعْتَرَفَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَالِكِيُّ بِشُذُوذِ مَالِكٍ عَنِ الْجُمْهُورِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْيَدِ، إِلَّا مَالِكًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَا: لَا يُقَبِّلُهَا. قَالَ: وَقَالَ جَمِيعُهُمْ: يَسْجُدُ عَلَيْهِ، إِلَّا مَالِكًا وَحْدَهُ فَقَالَ: بِدْعَةٌ. وَأَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِلَامُهُ بِالْيَدِ، وَلَا يُقَبَّلُ، بَلْ تُقَبَّلُ الْيَدُ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَلِمُهُ، وَلَا يُقَبِّلُ يَدَهُ بَعْدَهُ بَلْ يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ: أَنَّهُ يُقَبِّلُ يَدَهُ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَبِّلُهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ فِي الْوَقْتِ الَّذِي طَافَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ ظُهْرَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَصَلَّى ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمِنًى، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ صَلَّى ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي مَكَّةَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ طَافَ لَيْلًا لَا نَهَارًا. فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا لَفْظُهُ: «ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ» ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ أَفَاضَ نَهَارًا، وَهُوَ نَهَارُ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّهُ صَلَّى ظُهْرَ يَوْمِ النَّحْرِ بِمَكَّةَ، وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَّهُ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى، وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ انْتَهَى مِنْهُ. فَتَرَى حَدِيثَ جَابِرٍ وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ نَهَارًا، وَاخْتَلَفَا فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ لِظُهْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّهُ صَلَّاهَا بِمَكَّةَ وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 عُمَرَ: أَنَّهُ صَلَّاهَا بِمِنًى بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ، كَمَا قَالَ جَابِرٌ وَعَائِشَةُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِطَائِفَةٍ، وَمَرَّةً بِطَائِفَةٍ أُخْرَى فِي بَطْنِ نَخْلٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ سَابِقًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَرَأَى جَابِرٌ وَعَائِشَةُ صَلَاتَهُ فِي مَكَّةَ فَأَخْبَرَا بِمَا رَأَيَا وَقَدْ صَدَقَا. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ صَلَاتَهُ بِهِمْ فِي مِنًى فَأَخْبَرَ بِمَا رَأَى، وَقَدْ صَدَقَ وَهَذَا وَاضِحٌ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ مَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ فَهُوَ صَحِيحٌ إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ وَزِيَارَتُهُ لَيْلًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْجُهٌ مِنْ أَظْهَرِهَا عِنْدِي اثْنَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ فِي النَّهَارِ يَوْمَ النَّحْرِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ جَابِرٌ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ يَأْتِي الْبَيْتَ لَيْلًا، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا، وَإِتْيَانُهُ الْبَيْتَ فِي لَيَالِي مِنًى، هُوَ مُرَادُ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي عَلَّقَهُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مَا نَصُّهُ: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى. اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ عَقَّبَ هَذَا بِطْرِيقِ أَبِي حَسَّانَ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِذَلِكَ، فَيَحْمِلُ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ: عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا: عَلَى بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا الْجَمْعُ مَالَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ. وَهَذَا ظَاهِرٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي طَافَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا: طَوَافُ الْوَدَاعِ، فَنَشَأَ الْغَلَطُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالزِّيَارَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ كَانَ لَيْلًا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ» . تَابَعَهُ اللَّيْثُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 حَدَّثَنِي خَالِدٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدَّثَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» انْتَهَى مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَيْلًا اهـ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَدُلُّ لِذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا الْجَمْعِ مَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَوْجُهَ الْجَمْعِ غَيْرُ مُقْنِعَةٍ فَحَدِيثُ جَابِرٍ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ نَهَارًا أَصَحُّ مِمَّا عَارَضَهَا، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ مَاشِيًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي سُقْنَاهَا سَابِقًا، فِي أَنَّهُ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَاشٍ عَلَى رِجْلَيْهِ لَا رَاكِبٌ، مَعَ أَنَّهُ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ أُخَرُ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ» تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنِ ابْنِ أَخِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ» . حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ ; لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ غَشَوْهُ» . وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ غَشَوْهُ» . وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَعِيرِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ النَّاسُ» ، انْتَهَى مِنْهُ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى طَوَافِهِ رَاكِبًا مَعَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ طَافَ مَاشِيًا: كَأَحَادِيثِ الرَّمَلِ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَالْمَشْيِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ: هُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مَاشِيًا، وَرَمَلَ فِي أَشْوَاطِهِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ رَاكِبًا» ، هُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ، يُبَيِّنُ أَنَّ مَنْ طَافَ، وَسَعَى رَاكِبًا، فَطَوَافُهُ وَسَعْيُهُ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ، لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَقَدْ قَدَّمْنَا الْبَحْثَ مُسْتَوْفًى فِي الْمَشْيِ، وَالرُّكُوبِ فِي الْحَجِّ مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، هَلْ حُكْمُهُمَا الْوُجُوبُ أَوِ السُّنِّيَّةُ؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَاجَبَتَانِ، وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِهِمَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [2 \ 125] عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، قَالُوا: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَافَ: قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، مُمْتَثِلًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخِذُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مِنَ السُّنَنِ، لَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ وُجُوبِهِمَا بِحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» الْحَدِيثَ. قَالُوا: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ غَيْرُ الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَةِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: بِأَنَّ الْأَمْرَ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ وَارِدٌ بَعْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [109] وَفِي الثَّانِيَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [112] كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمَا أَنْ تَكُونَ خَلْفَ الْمَقَامِ، بَلْ لَوْ صَلَّاهُمَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ غَيْرِهِ صَحَّ ذَلِكَ. وَلَوْ طَافَ فِي وَقْتِ نَهْيٍ، فَأَحَدُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ يُؤَخِّرُ صَلَاتَهُمَا إِلَى وَقْتٍ لَا نَهْيَ عَنِ النَّافِلَةِ فِيهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي صِحَّةَ صَلَاتِهِمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَتَأْخِيرَ صَلَاتِهِمَا إِلَى وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ النَّهْيِ الَّذِي طَافَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، قَالَ: بَابُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى. وَفِعْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الرَّكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، بَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُمَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَلَّاهُمَا فِيهِ، وَأَنَّ تَأْخِيرَهُمَا عَنْ وَقْتِ النَّهْيِ هُوَ الصَّوَابُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، إِلَّا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ دَرْأَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ: إِنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ جَائِزَةٌ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَامٌّ وَهُوَ أَنَّ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ ; لِأَنَّ سَبَبَهَا الْخَاصَّ، يُخْرِجُهَا مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ، كَرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُمَا لِسَبَبٍ خَاصٍّ هُوَ الطَّوَافُ. وَكَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَحَدُهُمَا خَاصٌّ: وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي خُصُوصِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، كَحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ مَعْلُولٌ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ، عَنْ جُبَيْرٍ، لَا عَنْ جَابِرٍ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ، وَالْخَطِيبُ فِي التَّلْخِيصِ مِنْ طَرِيقِ ثُمَامَةَ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مَعْلُولٌ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 حَدِيثَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» ، الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: «مَنْ طَافَ فَلْيُصَلِّ» ؛ أَيْ: حِينَ طَافَ، وَقَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ مَغَارِبِ الشَّمْسِ، فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا. تَنْبِيهٌ عَزَا الْمَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ حَدِيثَ جُبَيْرٍ لِمُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ. وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ تَبِعَهُ عَلَيْهِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، فَقَالَ: رَوَاهُ السَّبْعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، وَابْنَ الرِّفْعَةِ، فَقَالَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: «لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ،» وَكَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَمَّا رَأَى ابْنَ تَيْمِيَةَ عَزَاهُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، دُونَ الْبُخَارِيِّ اقْتَطَعَ مُسْلِمًا مِنْ بَيْنِهِمْ، وَاكْتَفَى بِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ سَاقَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ، فَأَخْطَأَ مُكَرَّرًا. فَائِدَةٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةَ الطَّوَافِ خَاصَّةً: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِالْآثَارِ، وَيُحْتَمَلُ جَمِيعُ الصَّلَوَاتِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ مِنْ جَوَازِ صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ بِلَا كَرَاهَةٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ إِلَّا بِمَكَّةَ» ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، عَنْ حُمَيْدٍ مَوْلَى غُفْرَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَفِيهِ قِصَّةٌ وَكَرَّرَ الِاسْتِثْنَاءَ ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حُمَيْدًا فِي سَنَدِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ، فَلَمْ يَذْكُرْ قَيْسًا، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الْيَسَعَ بْنِ طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا ذَرٍّ فَذَكَرَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ وَلَكِنْ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 ثُمَّ سَاقَهُ بِسَنَدِهِ إِلَى خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، ثَنَا حُمَيْدٌ مَوْلَى غُفْرَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَنَا أَبُو ذَرٍّ فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ مُجَاهِدٌ مِنْ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: جَاءَنَا أَبُو ذَرٍّ؛ أَيْ: جَاءَ بَلَدَنَا. قُلْتُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَقَالَ: أَنَا أَشُكُّ فِي سَمَاعِ مُجَاهِدٍ، مِنْ أَبِي ذَرٍّ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَحُجَّةُ مُخَالِفِيهِمْ هِيَ عُمُومُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ. وَقَدْ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ لَا يَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمَةِ ; لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْعُمُومَيْنِ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ مِنَ الْآخَرِ، لِمَا عَرَفْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّصَّيْنِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ، وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهُمَا يَظْهَرُ تَعَارُضُهُمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا. كَمَا أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ الْعُمُومُ مِنْ وَجْهٍ ظَهَرْ ... فَالْحُكْمُ بِالتَّرْجِيحِ حَتْمًا مُعْتَبَرْ وَإِيضَاحُ كَوْنِ حَدِيثِ جُبَيْرٍ الْمَذْكُورِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ الْمَذْكُورَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَامَّةٌ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا، خَاصَّةٌ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ. وَحَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَامٌّ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا، خَاصٌّ بِمَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ، فَتَخْتَصُّ أَحَادِيثُ النَّهْيِ بِأَوْقَاتِ النَّهْيِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ، وَيَخْتَصُّ حَدِيثُ جُبَيْرٍ بِالْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا يُنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا بِمَكَّةَ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ فِي مَكَّةَ، فَعُمُومُ أَحَادِيثِ النَّهْيِ يَشْمَلُ مَكَّةَ وَغَيْرَهَا، وَعُمُومُ إِبَاحَةِ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ فِي حَدِيثِ جُبَيْرٍ، يَشْمَلُ أَوْقَاتَ النَّهْيِ وَغَيْرَهَا فِي مَكَّةَ فَيَظْهَرُ التَّعَارُضُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ فِي مَكَّةَ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ. وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَصَحُّ مِنْهُ لِثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وَالثَّانِي: هُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى النَّهْيِ يُقَدَّمُ عَلَى النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ دَرْأَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَأَصَحَّهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهُ ; لِأَنَّ نِيَّةَ الْحَجِّ تَكْفِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالسَّعْيِ، وَالرَّمْيِ كُلُّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، لِأَنَّ نِيَّةَ النُّسُكِ بِالْحَجِّ تَشْمَلُ جَمِيعَهَا، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَدَلِيلُهُ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ نِيَّةَ الْعِبَادَةِ تَشْمَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهَا فَكَمَا لَا يَحْتَاجُ كُلُّ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى نِيَّةٍ خَاصَّةٍ لِشُمُولِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَا تَحْتَاجُ أَفْعَالُ الْحَجِّ لِنِيَّةٍ تَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا، لِشُمُولِ نِيَّةِ الْحَجِّ لِجَمِيعِهَا. وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ لِذَلِكَ، أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَمُقَابِلُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلَانِ آخَرَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مُخْتَصًّا بِفِعْلٍ كَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالرَّمْيِ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى نِيَّةٍ، وَمَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِفِعْلٍ بَلْ هُوَ لُبْثٌ مُجَرَّدٌ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ فَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِلَى نِيَّةٍ إِلَّا الطَّوَافَ، لِأَنَّهُ صَلَاةٌ، وَالصَّلَاةُ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَأَظْهَرُهَا وَأَصَحُّهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: أَظْهَرُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ أَنَّهُ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَمِرُّ فِي طَوَافِهِ مُقَدِّمًا إِتْمَامَ الطَّوَافِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: ابْنُ عُمَرَ، وَسَالِمٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي السَّعْيِ أَيْضًا وَلَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجُوزُ قَطْعُ الطَّوَافِ إِلَّا لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ خَاصَّةً، إِذَا أُقِيمَتْ، وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، وَيَبْنِي عِنْدَهُمْ إِنْ قَطَعَهُ لِلصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَيُنْدَبُ عِنْدَهُمْ إِكْمَالُ الشَّوْطِ إِنْ قَطَعَهُ فِي أَثْنَاءِ شَوْطٍ، وَإِنْ قَطَعَهُ لِغَيْرِهَا كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، أَوْ تَحْصِيلِ نَفَقَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا لَمْ يَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ، بَلْ يَسْتَأْنِفُ الطَّوَافَ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ قَطْعُهُ لِذَلِكَ ابْتِدَاءً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا. وَقِيلَ: يَمْضِي فِي طَوَافِهِ، وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 يَقْطَعُهُ لِلصَّلَاةِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا، بِأَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ، فَلَا تُقْطَعُ لِصَلَاةٍ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ» ، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الطَّوَافَ يَجُوزُ قَطْعُهُ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ: كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يَبْنِي عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، فَإِنْ كَانَ قَطْعُهُ لِلطَّوَافِ عِنْدَ انْتِهَاءِ شَوْطٍ مِنْ أَشْوَاطِهِ، بَنَى عَلَى الْأَشْوَاطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَجَاءَ بِبَقِيَّةِ الْأَشْوَاطِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُهُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الشَّوْطِ، فَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ يَبْتَدِئُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ، وَيَعْتَدُّ بِبَعْضِ الشَّوْطِ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْلَ قَطْعِ الطَّوَافِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَبْتَدِئُ الشَّوْطَ الَّذِي قَطَعَ الطَّوَافَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يَعْتَدُّ بِبَعْضِهِ الَّذِي فَعَلَهُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَأَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ قَطَعَهُ لِلْفَرِيضَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَوَضَّأُ، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ طَوَافِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ مَنْ طَافَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ لَابِسٌ مَخِيطًا أَنَّ الطَّوَافَ صَحِيحٌ كَمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي عَشَرَ: لَا خِلَافَ بَيْنِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الطَّوَافَ جَائِزٌ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَفِي صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ، إِذَا طَافَ وَقْتَ نَهْيٍ الْخِلَافُ الَّذِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ قَرِيبًا. الْفَرْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الطَّوَافُ أَفْضَلُ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [2 \ 125] وَقَوْلُهُ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [11 \ 26] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الصَّلَاةُ أَفْضَلُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالطَّوَافُ أَفْضَلُ لِلْغُرَبَاءِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، هَلْ هُوَ رُكْنٌ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ لَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِدُونِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ، أَوْ هُوَ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ، أَوْ سُنَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ دَمٌ؟ وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمَا، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ: أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَعَزْوُهُ إِيَّاهُ لِأَحْمَدَ، قَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ أَنَّهُ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: إِنَّهُ أَوْلَى. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ مِنَ السَّعْيِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَزِمَهُ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ دُونَهَا لَزِمَهُ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفُ صَاعٍ. وَلَيْسَ هُوَ بِرُكْنٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. انْتَهَى. وَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ تَرْكَ أَقَلَّ السَّعْيِ فِيهِ الصَّدَقَةُ بِنِصْفِ صَاعٍ عَنْ كُلِّ شَوْطٍ، عَزَاهُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ الشِّلْبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَافِي اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، أَنَّ مَنْ تَرَكَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَأَقَلَّ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ فِي الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي السَّعْيِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ دَمٌ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي السَّعْيِ: فَاعْلَمْ أَنَّا نُرِيدُ هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَدِلَّةَ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَعَ مُنَاقَشَتِهَا. فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [2 \ 158] . قَالُوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 فَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا أَمْرٌ حَتْمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ، لَا يَجُوزُ التَّهَاوُنُ بِهَا. وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ إِلَى أَنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: بَابُ وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ؛ أَيْ: وُجُوبُ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا، مُسْتَفَادٌ مِنْ كَوْنِهِمَا جُعِلَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ لَا يَجُوزُ التَّهَاوُنُ بِهَا، وَعَدَمُ إِقَامَتِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 5] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الْآيَةَ [22] ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا» ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ دَلِيلَانِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ لِبَيَانِ نَصٍّ مُجْمَلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَكُونُ لَازِمًا، وَسَعْيُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِعْلٌ بَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بَيَانًا لِلْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ، يَعْنِي الصَّفَا ; لِأَنَّ اللَّهَ بَدَأَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ. وَفِي رِوَايَةِ «أَبْدَأُ» بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْفِعْلُ مُضَارِعٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَقَدْ طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكِنَا، وَلَوْ تَرَكْنَاهُ لَكُنَّا مُخَالِفِينَ أَمْرَهُ بِأَخْذِهِ عَنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] فَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ: وَهِيَ كَوْنُهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَأَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ مِنْهُ لِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّهُ قَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . أَمَّا طَوَافُهُ بَيْنَهُمَا سَبْعًا فَهُوَ ثَابِتٌ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ وَلَفْظُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ: «قَدِمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ، وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ» ، وَالرِّوَايَاتُ بِسَعْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَقَدْ مَثَّلْنَا لَهَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ السَّعْيِ بَيَانًا لِآيَةِ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. فَهُوَ أَمْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِذَا كَانَتْ نَازِلَةً جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ حُكْمِ السَّعْيِ، بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَسَعْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا بَيَانٌ لَهَا. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» يَعْنِي الصَّفَا كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَأَمَّا حَدِيثُ «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، فَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ اسْتِحْبَابِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، وَبَيَانِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ جَمِيعًا، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ خَشْرَمٍ: أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: فِي بَابِ الْإِيضَاعِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ: وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا حَفْصٌ، ثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: وَحَدَّثَنَا يُوسُفُ الْقَاضِي، وَمُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَا: ثَنَا ابْنُ كَثِيرٍ، قَالُوا: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ، وَأَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا الْجِمَارَ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا» ، انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ الَّذِي رَوَاهُ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ وَرِوَايَةَ الْبَيْهَقِيِّ الْمَذْكُورَتَيْنِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ; لِأَنَّ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ يُؤَدِّي مَعْنَى قَوْلِهِ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي» ، بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 الْمَجْزُومِ بِلَامِ الْأَمْرِ، فَكِلْتَا الصِّيغَتَيْنِ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصِّيَغَ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَمْرِ أَرْبَعٌ الْأُولَى فِعْلُ الْأَمْرِ نَحْوُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [17 \ 78] وَقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . الثَّانِيَةُ: الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الْمَجْزُومُ بِلَامِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 \ 29] وَقَوْلِهِ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. الثَّالِثَةُ: اسْمُ فِعْلِ الْأَمْرِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [5 \ 105] . الرَّابِعَةُ: الْمَصْدَرُ النَّائِبُ عَنْ فِعْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [47 \ 4] ؛ أَيْ: فَاضْرِبُوا رِقَابَهُمْ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فَرْضٌ لَا بُدَّ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [2 \ 158] فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، عِنْدَ الْمُشَلَّلِ فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ، مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطَّوَّفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 158] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ أَيْ: فَرَضَهُ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ أَجَابَتْ عَائِشَةُ عَمَّا يُقَالُ: إِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [2 \ 158] يُنَافِي كَوْنَهُ فَرْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي قَوْمٍ تَحَرَّجُوا مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً أَنَّ مَا ظَنُّوهُ مِنَ الْحَرَجِ فِي ذَلِكَ مَنْفِيٌّ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ لَا مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي: فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ:. تَنْبِيهٌ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ أَيْ: فَرَضَهُ بِالسُّنَّةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهَا نَفْيَ فَرَضِيَّتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا: لَمْ يُتِمَّ اللَّهُ حَجَّ أَحَدِكُمْ، وَلَا عُمْرَتَهُ مَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: قُلْتُ لَهَا: إِنِّي لَا أَظُنُّ رَجُلًا لَوْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَا ضَرَّهُ. قَالَتْ لِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [2 \ 158] إِلَى آخَرَ الْآيَةِ فَقَالَتْ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ، وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ; الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: " مَا أَرَى عَلَيَّ جُنَاحًا أَنْ لَا أَتَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ لِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا إِنَّمَا أُنْزِلُ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَجِّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، " فَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ "، وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَيْضًا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ، لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْئًا، وَمَا أُبَالِي، أَنْ لَا أَطُوفَ بَيْنَهُمَا. قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ سُنَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ، لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ سَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَلَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، أَلَّا يَطَّوَّفَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا كَانَ مَنْ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: إِنَّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّمَا أُمِرْنَا بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [2 \ 158] قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَأَرَاهَا قَدْ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَيْضًا قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَلَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بِهِمَا. فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ، عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّكَ رَأَيْتَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ، وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي بَعْضِهَا قَالَتْ: فَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا إِلَى آخَرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَفِيهَا النَّصُّ الصَّرِيحُ الصَّحِيحُ، عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْعَ، لَمْ يَتِمَّ لَهُ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ مَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا الدَّالَّ عَلَى أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 السَّعْيَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ حَجٌّ، وَلَا عُمْرَةٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا رَتَّبَتْ بِالْفَاءِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا قَوْلَهَا: فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، عَلَى قَوْلِهَا: قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلَهَا: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، لِأَجْلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَدَلَّ هَذَا التَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهَا بِأَنَّهُ سَنَّهُ أَنَّهُ فَرَضَهُ بِسُنَّتِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، مُسْتَدِلًّا لَهُ بِأَنَّهَا قَالَتْ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ، لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَوْلُهَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَتَرْتِيبُهَا عَلَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ، قَوْلُهَا: فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَجَزْمُهَا بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ إِلَّا بِذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا أَخَذَتْ ذَلِكَ مِمَّا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا بِرَأْيٍ مِنْهَا، كَمَا تَرَى. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ النَّصِّ الظَّاهِرِ مِنْ مَسَالِكَ الْعِلَّةِ أَنَّ الْفَاءَ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهِ، فَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْوَحْيِ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ الْفَاءُ مِنَ الرَّاوِي غَيْرِ الْفَقِيهِ. وَمِثَالُهُ فِي الْوَحْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ؛ أَيْ: لِعِلَّةِ سَرَقَتِهِمَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [2 \ 222] ؛ أَيْ: لِعِلَّةِ كَوْنِ الْحَيْضِ أَذًى. وَمِثَالُهُ فِي كَلَامِ الرَّاوِي. حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنْ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَجِيءَ بِهِ فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. فَقَوْلُ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِحَجَرَيْنِ؛ أَيْ: لِعِلَّةِ رَضِّهِ رَأْسَ الْجَارِيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ» اهـ؛ أَيْ: سَجَدَ لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بِهِمَا؛ أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ ذَلِكَ؛ أَيْ: فَرَضَهُ بِسُنَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَإِلَى إِفَادَةِ الْفَاءِ التَّعْلِيلَ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، ثُمَّ الرَّاوِي الْفَقِيهِ، ثُمَّ الرَّاوِي غَيْرِ الْفَقِيهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي مَرَاتِبِ النَّصِّ الظَّاهِرِ: فَالْفَاءُ لِلشَّارِعِ فَالْفَقِيهِ فَغَيْرُهُ يُتْبَعُ بِالشَّبِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ: حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ، وَمِنْ حَدِيثِ تَمَلُّكَ الْعَبْدَرِيَّةِ، وَمِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْأَزْدِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ صَدَقَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّ عَنِ الرَّمَلِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» انْتَهَى. وَأَمَّا حَدِيثُ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ بِابْنِ الْمُؤَمَّلِ، وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَوَافَقَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ الْعَائِذِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ وَرَاءَهُمْ، وَهُوَ يَسْعَى، حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَيْضًا فِي الْفَضَائِلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُبَيْهٍ، عَنْ جَدَّتِهِ صَفِيَّةَ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ بِنَحْوِهِ. وَسَكَتَ عَنْهُ أَيْضًا، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ، فَذَكَرَهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَخْطَأَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَوْ شَيْخُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ مَوْضِعَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حُسَيْنٍ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَسْقَطَ صَفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَعِنْدِي أَنَّ الْوَهْمَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ إِمَامٌ كَبِيرٌ، وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ ثِقَةٌ، وَابْنُ الْمُؤَمَّلِ سَيِّئُ الْحِفْظِ، وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فَأَسْقَطَ عَطَاءً مَرَّةً، وَابْنَ مُحَيْصِنٍ أُخْرَى، وَصَفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ أُخْرَى، وَأَبْدَلَ ابْنَ مُحَيْصِنٍ بِابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ أُخْرَى، وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ عَبْدَرِيَّةً تَارَةً وَيَمَنِيَّةً أُخْرَى. وَفِي الطَّوَافِ تَارَةً، وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُخْرَى، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى سُوءِ حِفْظِهِ، وَقِلَّةِ ضَبْطِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 طَرِيقٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنِي مَعْرُوفُ بْنُ مُشْكَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ اللَّاتِي أَدْرَكْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ: دَخَلْنَا دَارَ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ فَاطَّلَعْنَا مِنْ بَابٍ مُقَطَّعٍ فَرَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ فِي الْمَسْعَى إِلَى آخِرِهِ. قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمَعْرُوفُ بْنُ مُشْكَانَ بَانِي كَعْبَةِ الرَّحْمَنِ صَدُوقٌ، لَا نَعْلَمُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَمَنْصُورٌ هَذَا ثِقَةٌ مُخَرَّجٌ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. انْتَهَى. وَأَمَّا حَدِيثُ تَمَلُّكَ الْعَبْدَرِيَّةِ ; فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ مِهْرَانَ بْنِ أَبِي عُمَرَ، ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ تَمَلُّكَ الْعَبْدَرِيَّةِ. قَالَتْ: نَظَرْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي غُرْفَةٍ لِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» انْتَهَى. تَفَرَّدَ بِهِ مِهْرَانُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي حَدِيثِهِ اضْطِرَابٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الْأَوْدِيُّ، ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ، انْتَهَى. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي عِلَلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اضْطِرَابًا كَثِيرًا. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَيْصِنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفِيَّةَ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ وَهُوَ الصَّوَابُ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِهِ: (النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ) : الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُقَارِنٌ فِعْلَهُ، وَالْآخَرُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ لَا غَيْرَ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ نَحْوُ مَا رَوَتْهُ حَبِيبَةُ بِنْتُ أَبِي تِجْرَاةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ يَسْعَى وَهُوَ يَقُولُ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلٍ. وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَفِيهِ أَيْضًا إِخْبَارُهُ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا، فَكَانَ أَوْلَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ بَرَّةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ قَالَتْ: لَمَّا انْتَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّعْيِ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 فَاسْعَوْا» قَالَتْ: فَسَعَى حَتَّى رَأَيْتُ إِزَارَهُ انْكَشَفَ عَنْ فَخِذِهِ. انْتَهَى كُلُّهُ مِنْ نَصْبِ الرَّايَةِ لِلزَّيْلَعِيِّ. وَقَدْ رَأَيْتُهُ عَزَا لِصَاحِبِ التَّنْقِيحِ: أَنَّ حَدِيثَ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَدْرَكْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُنَّ رَأَيْنَهُ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» ، أَنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ. لِأَنَّ مَعْرُوفَ بْنَ مَشْكَانَ الْمَذْكُورَ صَدُوقٌ، وَمَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيَّ الْحَجَبِيَّ ثِقَةٌ، وَهُوَ ابْنُ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنَّهُنَّ سَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى، وَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ السَّعْيَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهُوَ نَصٌّ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ فِي أَنَّ السَّعْيَ مِمَّا كُتِبَ عَلَى النَّاسِ، وَلَفْظَةُ: كَتَبَ: تَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ. فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ حَبِيبَةَ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ: يُخْطِئُ، فَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَحَدِيثُ صَفِيَّةَ فِي إِسْنَادِهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ: تَمَلُّكَ الْمَذْكُورُ فِيهِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَهُوَ وَإِنْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ، فَقَدْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فِيهِ الْمُفَضَّلُ بْنُ صَدَقَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ رِوَايَةَ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، لَيْسَ فِي إِسْنَادِهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَ، وَقَدْ صَحَّحَ إِسْنَادَهَا ابْنُ الْهُمَامِ فِي التَّنْقِيحِ، كَمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَحَسَّنَهَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَالْبَيْهَقِيُّ رَوَى حَدِيثَهَا الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ، قَالَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ قَالَا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى النَّيْسَابُورِيُّ، ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنِي مَعْرُوفُ ابْنُ مَشْكَانَ، أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ، أَخْبَرَتْنِي عَنْ نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ اللَّاتِي أَدْرَكْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ: دَخَلْنَا دَارَ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، فَاطَّلَعْنَا مِنْ بَابٍ مُقَطَّعٍ، وَرَأَيْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ فِي الْمَسْعَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ زُقَاقَ بَنِي فُلَانٍ، مَوْضِعًا قَدْ سَمَّاهُ مِنَ الْمَسْعَى، اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْعَوْا فَإِنَّ السَّعْيَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ» انْتَهَى مِنْهُ. فَهَذَا الْإِسْنَادُ هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ، وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي رَوَتْ عَنْهَا صَفِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَضُرُّ لِتَصْرِيحِهَا فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ هَذِهِ بِأَنَّهَا رَوَتْ ذَلِكَ عَنْ نِسْوَةٍ أَدْرَكْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَنْ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُسَمَّى وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فِي رِوَايَةٍ، وَتُسَمَّى غَيْرُهَا مِنْهُنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَمَا لَا يَخْفَى وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِلْوُجُوبِ بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ، ثُمَّ أَلِفٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ هَاءٌ، وَهِيَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمَا. وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْوُجُوبِ. قُلْتُ: لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مُخْتَصَرَةٌ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأُولَى، وَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْأُولَى قَوِيَتْ. وَاخْتُلِفَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ فِي اسْمِ الصَّحَابِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَتْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَخَذَتْهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا: أَخْبَرَتْنِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَلَا يَضُرُّهُ الِاخْتِلَافُ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ طُرُقِ حَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» ، لَا تَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ. وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ مَعَ أَنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ. وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ كَمَا بَيَّنَّا، وَبِمَا سَيَأْتِي أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى لُزُومِ السَّعْيِ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، قَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنِيخٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ لِي «أَحَجَجْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَقَدْ أَحْسَنْتَ. طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . الْحَدِيثَ قَالُوا: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» أَمْرٌ صَرِيحٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى اقْتِضَائِهَا الْوُجُوبَ: الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَقْلَ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ عِنْدِي، أَمَّا دَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ فَفِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] وَهَذَا الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِبْلِيسَ لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ افْعَلِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [20 \ 116] مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ الْآيَةَ [7 \ 12] فَتَوْبِيخُهُ وَتَقْرِيعُهُ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمُخَالَفَتِهِ الْأَمْرَ، وَقَدْ سَمَّى نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِامْتِثَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [20 \ 93] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] فَجَعَلَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَانِعًا مِنْ الِاخْتِيَارِ مُوجِبًا لِلِامْتِثَالِ، مُنَبِّهًا عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ مَعْصِيَةً فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [33 \ 36] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ اللُّغَةِ عَلَى اقْتِضَاءِ صِيغَةِ افْعَلِ الْوُجُوبَ. فَإِيضَاحُهَا أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً مَثَلًا، ثُمَّ لَمْ يَمْتَثِلِ الْعَبْدُ وَعَاقَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ كَانَ ذَلِكَ الْعِقَابُ وَاقِعًا مَوْقِعَهُ، لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ أَلْزَمَتْهُ الِامْتِثَالَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: صِيغَةُ افْعَلْ لَمْ تُوجِبْ عَلَيَّ الْامْتِثَالَ، وَلَمْ تُلْزِمْنِي إِيَّاهُ؟ فَعِقَابُكَ لِي غَلَطٌ لِأَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا لَازِمًا، حَتَّى تُعَاقِبَنِي عَلَيْهِ. وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَأَنَّ عِقَابَهُ لَهُ صَوَابٌ لِعِصْيَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ. وَمُقَابِلُهُ أَقْوَالٌ أُخَرُ، أَشَارَ لَهَا فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ: وَافْعَلْ لَدَى الْأَكْثَرِ لِلْوُجُوبِ وَقِيلَ لِلنَّدْبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وَقِيلَ لِلْوُجُوبِ أَمْرُ الرَّبِّ وَأَمْرُ مَنْ أَرْسَلَهُ لِلنَّدْبِ وَمُفْهَمُ الْوُجُوبِ يُدْرِي الشَّرْع أَوِ الْحِجَا أَوِ الْمُفِيدُ الْوَضْع وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ دَلَالَةَ اللُّغَةِ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ رَاجِعَةٌ إِلَى دَلَالَةِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يُحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ، وَوُقُوفِ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي التِّرْمِذِيِّ لَمَّا سَاقَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ الْمَذْكُورِ: هُوَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، تَفَرَّدَ بِهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَرْفَعُوهُ. وَهُوَ أَصَحُّ. انْتَهَى مِنْهُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ: مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» وَهَذَا اللَّفْظُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالُوا: وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: «يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَطُفْ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا إِجْزَاءٌ عَنْ حَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَأَمَّا حُجَّةُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [2 \ 158] قَالُوا: فَرَفْعُ الْجُنَاحِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [2 \ 158] دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، كَمَا قَالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، لِخَالَتِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السَّعْيِ: هُوَ مَا أَجَابَتْ بِهِ عَائِشَةُ عُرْوَةَ، فَإِنَّهَا أَوَّلًا ذَمَّتْ هَذَا التَّفْسِيرَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهَا: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةُ بِئْسَ فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ، وَمَا ذَمَّتْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا ذَكَرَ، إِلَّا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ لَهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ جُنَاحًا، وَإذًا فَذِكْرُ رَفْعِ الْجُنَاحِ لِمُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ، لَا لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 الْمَنْطُوقِ، فَلَوْ سَأَلَكَ سَائِلٌ مَثَلًا قَائِلًا: هَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فِي أَنْ أُصَلِّيَ الْخَمْسَ الْمَكْتُوبَةَ؟ وَقُلْتَ لَهُ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: بِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَإِنَّمَا قُلْتَ: لَا جُنَاحَ فِي ذَلِكَ، لِيُطَابِقَ جَوَابُكَ السُّؤَالَ، وَقَدْ دَلَّتْ قَرِينَتَانِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَمَّنْ لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. الْأُولَى مِنْهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَكَوْنُهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، لَا يُنَاسِبُهُ تَخْفِيفُ أَمْرِهِمَا بِرَفْعِ الْجُنَاحِ عَمَّنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَهُمَا، بَلِ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ تَعْظِيمُ أَمْرِهِمَا، وَعَدَمُ التَّهَاوُنِ بِهِمَا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ. وَالْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَقَالَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ لِعُرْوَةَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ، لَا إِخْرَاجَ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الطَّلَاقِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ دَلِيلِ الْخِطَابِ، أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ: أَوْ جَهْلَ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ، لِلسُّؤْلِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْمَنْطُوقَ إِذَا كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِلَفْظِ الْمَنْطُوقِ مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ، لَا إِخْرَاجُ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ. فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ فِي بَعْضِ قِرَاءَاتِ الصَّحَابَةِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا كَمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَمْ تَثْبُتْ قُرْآنًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ كَتْبِهَا فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الصَّحَابِيُّ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا. ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ قُرْآنًا، فَبَطَلَ كَوْنُهُ قُرْآنًا بَطَلَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ قُرْآنًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِهِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ، الَّتِي لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَلَا إِشْكَالَ، وَعَلَى الثَّانِي: فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 الْمَذْكُورَةَ تُخَالِفُ الْقِرَاءَةَ الْمَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُتَوَاتِرَةَ، وَمَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا نَقِيضَانِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عَنِ الطَّبَرِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ: أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا زَائِدَةَ. انْتَهَى. وَلَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ كَمَا تَرَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [2 \ 158] لَا دَلِيلَ فِيهِ، عَلَى أَنَّ السَّعْيَ تَطَوُّعٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ ; لِأَنَّ التَّطَوُّعَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لَا إِلَى السَّعْيِ ; لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالسَّعْيِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: السَّعْيُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ، فَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بَيْنَهُمَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا نُسُكٌ، وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ، وَلَا الْخَبَثِ، وَلَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَلَوْ سَعَى، وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ، أَوْ سَعَتِ امْرَأَةٌ وَهِيَ حَائِضٌ، فَالسَّعْيُ صَحِيحٌ، وَلَا يُبْطِلُهُ ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ كَانَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ تَطَهَّرَ وَأَعَادَ السَّعْيَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةً عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي السَّعْيِ، كَالطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالطَّهَارَةُ فِي السَّعْيِ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ: هِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: أَنْ تَفْعَلَ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ، وَهِيَ حَائِضٌ إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ خَاصَّةً. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ طَوَافٍ، وَالْحَيْضُ مَانِعٌ مِنَ الطَّوَافِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ نَصٌّ فِي أَنَّ غَيْرَ الطَّوَافِ يَصِحُّ مِنَ الْحَائِضِ وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّعْيُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ، يَقُولُ: إِذَا طَافَتِ الْمَرْأَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَاضَتْ سَعَتْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ نَفَرَتْ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِذَا طَافَتِ الْمَرْأَةُ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ حَاضَتْ فَلْتَطُفْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ أَيْضًا: وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ، فَأَشْبَهَتِ الْوُقُوفَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ أَيْضًا فِي الْمُغْنِي: وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا الطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَا السِّتَارَةُ لِلسَّعْيِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَشْتَرِطْ لَهُ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَهِيَ آكَدُ فَغَيْرُهَا أَوْلَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَشْتَرِطُونَ فِي السَّعْيِ التَّرْتِيبَ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمَ بِالْمَرْوَةَ، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةَ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ، فِي فِقْهِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ بَدَأَ مِنَ الْمَرْوَةِ لَا يُعْتَدُّ بِالْأُولَى لِمُخَالَفَتِهِ الْأَمْرَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ الشِّلْبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ الْمَذْكُورِ: قَوْلُهُ: وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَا يُعْتَدُّ بِالْأُولَى. وَفِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ: إِنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، وَأَتَى الصَّفَا جَازَ وَيُعْتَدُّ بِهِ، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ لَتَرْكِ السُّنَّةِ. فَتُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ ذَلِكَ الشَّوْطِ. قَالَ السُّرُوجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْغَايَةِ: وَلَا أَصْلَ لِمَا ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ ذَلِكَ الشَّوْطَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ اهـ. فَقَوْلُ السُّرُوجِيِّ: لَا أَصْلَ لِمَا قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ ; فِيهِ نَظَرٌ. انْتَهَى مِنْهُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: «فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ مِنْ مَنَاسِكِنَا الِابْتِدَاءَ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَلًا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ، إِلَّا بَعْدَ طَوَافٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 فَلَوْ سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَحَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ عَطَاءٍ، وَدَاوُدَ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْعَ فِي حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَقَدْ قَالَ «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ السَّعْيِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَلَاقَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَمَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعَيْتُ، قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا، أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا، فَكَانَ يَقُولُ: لَا حَرَجَ لَا حَرَجَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ، فَذَلِكَ الَّذِي حَرَجَ وَهَلَكَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ. وَجَرِيرٌ الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ قُرْطٍ الضَّبِّيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الْقَاضِي، وَالشَّيْبَانِيُّ الْمَذْكُورُ فِيهِ: هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ مُخَرَّجٌ لَهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا الصَّحَابِيَّ، الَّذِي هُوَ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيكٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَرَوَى عَنْهُ زِيَادُ بْنُ عَلَاقَةَ الْمَذْكُورُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْأَقْمَرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا زِيَادٌ الْمَذْكُورُ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ عَنِ الْأَزْدِيِّ، وَسَعِيدُ بْنُ السَّكَنِ، وَالْحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي صِحَّةَ السَّعْيِ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ السَّعْيُ، إِلَّا مَسْبُوقًا بِالطَّوَافِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ صِحَّةَ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ؛ أَيْ: سَعَيْتُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ يَعْنِي: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّعْيِ، أَنْ يَقْطَعَ جَمِيعَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي كُلِّ شَوْطٍ، فَلَوْ بَقِيَ مِنْهَا بَعْضُ خُطْوَةٍ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّعْيِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ كُلَّهُ أَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ فَأَكْثَرَ لَصَحَّ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 دَمٌ وَأَنَّهُ إِنْ تَرَكَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَأَقَلَّ لَزِمَهُ عَنْ كُلِّ شَوْطٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَسَافَةَ لِلسَّعْيِ مُحَدَّدَةٌ مِنَ الشَّارِعِ، فَالنَّقْصُ عَنِ الْحَدِّ مُبْطِلٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ وَافَقَهُ كَطَاوُسٍ هِيَ تَغْلِيبُ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ، مَعَ جَبْرِ الْأَقَلِّ بِالصَّدَقَةِ، وَلَا أَعْلَمُ مُسْتَنَدًا مِنَ النَّقْلِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَالثَّلَاثَةِ، وَلَا لِجَعْلِ نِصْفِ الصَّاعِ مُقَابِلَ الشَّوْطِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّعْيُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ السَّعْيِ، فَلَوْ كَانَ يَمُرُّ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْعَى، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لَوِ انْحَرَفَ عَنْ مَوْضِعِ السَّعْيِ انْحِرَافًا يَسِيرًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ السَّعْيُ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ دَلِيلًا: أَنَّهُ لَوْ سَعَى رَاكِبًا أَوْ طَافَ رَاكِبًا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، لِمَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ: لَا يُجْزِئُهُ السَّعْيُ، وَلَا الطَّوَافُ رَاكِبًا إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَمِنْهُمْ: مَنْ مَنَعَ الرُّكُوبَ فِي الطَّوَافِ، وَكَرِهَهُ فِي السَّعْيِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنْ رَكِبَ وَلَمْ يُعِدْ سَعْيَهُ مَاشِيًا، حَتَّى رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ رَاكِبًا، وَسَعَى رَاكِبًا، وَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا يَسُوغُ فِعْلُهُ، وَقَدْ قَالَ لَنَا: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ يَلْزَمُ فِيهِمَا الْمَشْيُ. قَالُوا: إِنَّ رُكُوبَهُ لِعِلَّةٍ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ كَوْنُهُ مَرِيضًا كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ أَنْ يَرْتَفِعَ، وَيُشْرِفَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْأَلُوهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ كَرَاهِيَتُهُ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ النَّاسُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الرِّوَايَاتِ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ، لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ غَشَوْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ، طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ غَشَوْهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ النَّاسُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ، وَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ يَنْتَهِي وَقْتُهُ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ لَمْ يَأْتِ عَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ إِجْمَاعًا، وَمَنْ جَمَعَ فِي وُقُوفِ عَرَفَةَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَكَانَ جُزْءُ النَّهَارِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ فَوُقُوفُهُ تَامٌّ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ صَحَّ حَجُّهُ، وَلَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِجَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ: مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ بِاللَّيْلِ لَا يُجْزِئُ وَلَا يَصِحُّ بِهِ الْحَجُّ، حَتَّى يَقِفَ مَعَهُ بَعْضَ النَّهَارِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ، وَعَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: حَجُّهُ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ، وَأَنَّ وَقْتَهُ يَنْتَهِي بِطُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الْحَجُّ؟ فَقَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» لَفْظُ أَحْمَدَ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» ، وَأَلْفَاظُ الْبَاقِينَ نَحْوُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ الْحَجُّ عَرَفَةُ» . انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: الْحَجُّ الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، بِتَكْرِيرِ لَفْظَةِ الْحَجِّ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ: فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: مَا أَرَى لِلثَّوْرِيِّ حَدِيثًا أَشْرَفَ مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّيلِيِّ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَآخَرُونَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْحَجِّ؟ فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَنَادَى: الْحَجُّ الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَتَمَّ حَجُّهُ» وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» ، وَإِسْنَادُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. قُلْتُ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ عِنْدَكُمْ بِالْكُوفَةِ حَدِيثٌ أَشْرَفَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَدَلِيلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَمَعَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بَيْنَ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَجُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ، مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ: أَنَّ وُقُوفَهُ تَامٌّ، هُوَ مَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَعَلَ وَقَالَ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . فَمِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ فِيهِ: «فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ» الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ جَمَعَ فِي وُقُوفِهِ بَيْنَ النَّهَارِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ، وَبَيْنَ جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ اللَّيْلِ مَعَ قَوْلِهِ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَدَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ عَلَى جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، دُونَ النَّهَارِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الْمَذْكُورُ، فَإِنَّ فِيهِ تَصْرِيحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. وَجَمْعُ: هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَلَيْلَتُهَا: هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي صَبِيحَتُهَا يَوْمُ النَّحْرِ. وَدَلِيلُ مَنْ أَلْزَمُوهُ دَمًا مَعَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتَفِ بِاللَّيْلِ، بَلْ وَقَفَ مَعَهُ جُزْءًا مِنَ النَّهَارِ، فَتَارِكُ الْوُقُوفِ بِالنَّهَارِ تَارِكٌ نُسُكًا. وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الدِّيلِيِّ: «فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» لَا يُسَاعِدُ عَلَى لُزُومِ الدَّمِ، لِأَنَّ لَفْظَ التَّمَامِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 إِلَى الْجَبْرِ بِدَمٍ، فَهُوَ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ عَلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ: أَنَّ وُقُوفَهُ صَحِيحٌ، وَحَجَّهُ تَامٌّ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ الطَّائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيِّئٍ. أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي. وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ، إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» اهـ. قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى، بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ نَهَارَ عَرَفَةَ كُلَّهُ وَقْتٌ لِلْوُقُوفِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَصَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ، بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَدَلِيلُ أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحَرْتُ هَهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ مُسْلِمٍ الَّذِي سُقْنَاهُ بِهِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَلِابْنِ مَاجَهْ وَأَحْمَدَ أَيْضًا نَحْوُهُ وَفِيهِ: «وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ، وَمَنْحَرٌ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَنْتَهِي بِطُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ. وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَقْتٌ لِلْوُقُوفِ. وَأَمَّا مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ قَائِلًا: إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ كُلَّهُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِهِ إِلَى غُرُوبِهِ وَقْتٌ لِلْوُقُوفِ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الْمُضَرِّسِ الْمَذْكُورِ آنِفًا فَإِنَّ فِيهِ: «وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ،» فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» يَدُلُّ عَلَى شُمُولِ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْمَجْدِ فِي الْمُنْتَقَى، بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ نَهَارَ عَرَفَةَ كُلَّهُ وَقْتٌ لِلْوُقُوفِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هِيَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهَارِ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ الْمَذْكُورِ خُصُوصُ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ لَمْ يَقِفُوا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ وَقَفَ قَبْلَهُ. قَالُوا: فَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِعْلُ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ نَهَارًا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ فَوُقُوفُهُ تَامٌّ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، فَوُقُوفُهُ تَامٌّ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الدَّمِ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: حَجُّهُ صَحِيحٌ. مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ، فَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ. قِيلَ وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِنَانًا، وَقِيلَ: نَدْبًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ. وَأَنَّمَا قِيلَ: الزَّوَالُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا مَنِ اقْتَصَرَ فِي وُقُوفِهِ عَلَى اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، أَوِ النَّهَارِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ دُونَ اللَّيْلِ، فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ دَلِيلًا: عَدَمُ لُزُومِ الدَّمِ. أَمَّا الْمُقْتَصِرُ عَلَى اللَّيْلِ فَلِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ صَحِيحٌ. وَفِيهِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ: فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. هَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، اهـ. وَلَفَظُ أَحْمَدَ الْمَذْكُورُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّابِتِ: «فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» مُرَتِّبًا ذَلِكَ عَلَى إِتْيَانِهِ عَرَفَةَ، قَبْلَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُقْتَصِرَ عَلَى الْوُقُوفِ لَيْلًا: أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، وَظَاهِرُ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ التَّمَامِ، عَدَمُ لُزُومِ الدَّمِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُعَارِضُهُ مِنْ صَرِيحِ الْكِتَابِ أَوِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 السُّنَّةِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ. وَأَمَّا الْمُقْتَصِرُ عَلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، فَلِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَبَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مُرَتِّبًا لَهُ بِالْفَاءِ عَلَى وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ نَهَارًا يَتِمُّ حَجُّهُ بِذَلِكَ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ التَّمَامِ ظَاهِرٌ، فِي عَدَمِ لُزُومِ الْجَبْرِ بِالدَّمِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ صَرِيحٌ فِي مُعَارَضَةِ ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَدَمُ لُزُومِ الدَّمِ لِلْمُقْتَصِرِ عَلَى النَّهَارِ، هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِدَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا تَرَى. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الِاكْتِفَاءُ بِالْوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ ابْنِ مُضَرِّسٍ الْمَذْكُورِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ نَهَارًا صَادِقٌ بِأَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ. كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلَكِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ، كَالتَّفْسِيرِ لِلْمُرَادِ بِالنَّهَارِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَوَّلِ النَّهَارِ أَحْوَطُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَحُجَّةُ مَالِكٍ: فِي أَنَّ الْوُقُوفَ نَهَارًا لَا يُجْزِئُ إِلَّا إِذَا وَقَفَ مَعَهُ جُزْءًا مِنَ اللَّيْلِ: هِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ مِنْ مَنَاسِكِنَا الْجَمْعَ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَارَضَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّرِيحُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ الَّذِي فِيهِ، وَكَانَ قَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ كَمَا تَرَى. وَاعْلَمْ: أَنَّهُ إِنْ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أَفَاضَ مِنْهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَرَفَةَ فِي لَيْلَةِ جَمْعٍ: أَنَّ وُقُوفَهُ تَامٌّ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي وُقُوفِهِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ الْقَائِلَيْنِ: بِأَنَّ الدَّمَ لَزِمَهُ بِإِفَاضَتِهِ، قَبْلَ اللَّيْلِ وَأَنَّ رُجُوعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْلًا لَا يُسْقِطُ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمَ بَعْدَ لُزُومِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي صِحَّةِ الْوُقُوفِ دُونَ الطَّهَارَةِ، فَيَصِحُّ وُقُوفُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلِيلَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا فِيهِ بِأَنْ تَفْعَلَ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ وُقُوفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِعَرَفَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُقُوفُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَيْسَ فِي وُقُوفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ بِصِحَّتِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ لَهُ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ، وَإِذَا سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ بِدُونِ النِّيَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ فَلَا مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهِ مِنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، كَمَا يَصِحُّ مِنَ النَّائِمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ حَتَّى يَصِحَّ وُقُوفُهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ: الْحَسَنُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِصِحَّتِهِ: عَطَاءٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا صِحَّةُ وُقُوفِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. انْتَهَى مِنْهُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ جَمْعِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ بِمُزْدَلِفَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا: أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ فَقَطْ، وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ جَمِيعَ الْحُجَّاجِ يَجْمَعُونَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَلِكَ فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ فِي مُزْدَلِفَةَ يَقْصُرُونَ الْعِشَاءَ، وَأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ: " أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ "، إِنَّمَا قَالَهُ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ لَا فِي عَرَفَةَ وَلَا فِي مُزْدَلِفَةَ، وَرَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ. ثُمَّ صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَكْعَتَيْنِ بِمِنًى، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ شَيْئًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى: مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ فِي عَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى: الْأَئِمَّةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَعَزَا النَّوَوِيُّ هَذَا الْقَوْلَ لِلْجُمْهُورِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمِيعَ مَنْ مَعَهُ جَمَعُوا وَقَصَرُوا، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ بَعْدَ سَلَامِهِ فِي مِنًى، وَلَا مُزْدَلِفَةَ، وَلَا عَرَفَةَ، بَلْ ذَلِكَ الْإِتْمَامُ فِي مَكَّةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ تَحْدِيدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ لُغَةً تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [4 \ 101] . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ مَا نَصُّهُ: فَلَمَّا أَتَمَّهَا - يَعْنِي الْخُطْبَةَ - يَوْمَ عَرَفَةَ، أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ أَسَرَّ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُصَلِّي جُمُعَةً، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا، وَمَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا بِلَا رَيْبٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِتْمَامِ، وَلَا بِتَرْكِ الْجَمْعِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ "، فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ غَلَطًا بَيِّنًا، وَوَهِمَ وَهْمًا قَبِيحًا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ بِجَوْفِ مَكَّةَ، حَيْثُ كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ مُقِيمِينَ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ، وَيَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ، كَمَا فَعَلُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ سَفَرَ الْقَصْرِ لَا يَتَحَدَّدُ بِمَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَا بِأَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلنُّسُكِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا، وَهُوَ السَّفَرُ. هَذَا مُقْتَضَى السُّنَّةِ وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُلْحِدُونَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَصْرَ وَالْجَمْعَ الْمَذْكُورَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَجْلِ النُّسُكِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُجَّةَ مَنْ قَالُوا بِإِتْمَامِ أَهْلِ مَكَّةَ صَلَاتَهُمْ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَحْدِيدِهِمْ لِلْمَسَافَةِ بِأَرْبَعَةِ بُرُدٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَعَرَفَةُ، وَمُزْدَلِفَةُ، وَمِنًى أَقَلُّ مَسَافَةً مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: وَمَنْ سَافَرَ دُونَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ أَتَمَّ صَلَاتَهُ، هَذَا هُوَ دَلِيلُهُمْ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الصُّعُودَ عَلَى جَبَلِ الرَّحْمَةِ الَّذِي يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا فَضِيلَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي خُصُوصِهِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ كَسَائِرِ أَرْضِ عَرَفَةَ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَكُلُّ أَرْضِهَا سَوَاءٌ إِلَّا مَوْقِفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْوُقُوفُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ مِنَ اسْتِحْبَابِ صُعُودِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ عُرَنَةَ لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَةَ، فَمَنْ وَقَفَ بِعُرَنَةَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ وَمَا يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ وُقُوفَهُ بِعُرَنَةَ يُجْزِئُ وَعَلَيْهِ دَمٌ خِلَافُ التَّحْقِيقِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ مَالِكٍ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَاسْتَحْكَمَ غُرُوبُهَا وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ أَفَاضَ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ الْآيَةَ [2 \ 199] . كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَيْفِيَّةَ إِفَاضَتِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:» أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ «، كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ» ، الْحَدِيثَ، وَقَوْلُ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، يَعْنِي أَنَّهُ يَكُفُّهَا بِزِمَامِهَا عَنْ شِدَّةِ الْمَشْيِ، وَالْمَوْرِكُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثْنِي الرَّاكِبُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ قُدَّامَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ إِذَا مَلَّ مِنَ الرُّكُوبِ. وَضَبَطَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ: وَهُوَ قِطْعَةٌ أَدَمٍ يَتَوَرَّكُ عَلَيْهَا الرَّاكِبُ تُجْعَلُ فِي مُقَدِّمَةِ الرَّحْلِ شِبْهُ الْمِخَدَّةِ الصَّغِيرَةِ، وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُ بِيَدِهِ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ؛ أَيْ: يَأْمُرُهُمْ بِالسَّكِينَةِ مُشِيرًا بِيَدِهِ، وَالسَّكِينَةُ: الرِّفْقُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَقَوْلُ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ: هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَبْلِ فِي حَدِيثِهِ: الرَّمْلُ الْمُسْتَطِيلُ الْمُرْتَفِعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَيَوْمًا بِذِي الْأَرْطَى إِلَى جَنْبٍ مُشْرِفٍ ... بِوَعْسَائِهِ حَيْثُ اسْبَطَرَّتْ حِبَالُهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: يَا لَيْتَنِي قَدْ أَجَزْتُ الْحَبْلَ نَحْوَكُمُ ... حَبْلَ الْمُعَرَّفِ أَوْ جَاوَزْتُ ذَا عَشَرِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا الدَّالُ عَلَى الرِّفْقِ، وَعَدَمِ الْإِسْرَاعِ، وَمَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ أُسَامَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةَ نَصَّ» ، وَالْعَنَقُ بِفَتْحَتَيْنِ: ضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ دُونَ النَّصِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: يَا نَاقَ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا وَالنَّصُّ: أَعْلَى غَايَةِ الْإِسْرَاعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: حَلَفْتُ بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ إِلَى مِنًى ... يَجُوبُ الْفَيَافِيَ نَصُّهَا وَذَمِيلُهَا وَالْفَجْوَةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ [18 \ 17] . وَإِذَا عَلِمْتَ وَقْتَ إِفَاضَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَكَيْفِيَّةَ إِفَاضَتِهِ، فَاعْلَمْ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ فِي الطَّرِيقِ، فَبَالَ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ أَمَامَهُمْ. ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَأَسْبَغَ وُضُوءَهُ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ، وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» ، وَمَنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَبِتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالْقَوْلُ: بِأَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِنَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّ حَجُّهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَأَصْحَابُنَا: وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّهُ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ خَمْسَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورُونَ: فَهُمْ عَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: وَهُوَ مَذْهَبُ اثْنَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ. وَاخْتَارَهُ الْمُحَمَّدَانِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ يَقُولُونَ: إِنْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِهَا تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ قَابَلٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ: بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَشْهُورٌ أَيْضًا، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهَا مَنْزِلٌ مَنْ شَاءَ نَزَلَ بِهِ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ، وَرَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ. فَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ: فَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَلْفَاظَ رِوَايَاتِهِ، وَأَنَّهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ وَلَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ قَبْلَ الصُّبْحِ أَنَّهُ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَاقِفَ بِعَرَفَةَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، قَدْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ قَطْعًا بِلَا شَكٍّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ صَحِيحٌ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ، وَمَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ أَنَّ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ، وَدَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ، وَدَلَالَةَ الْإِيمَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ كُلُّهَا مِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ اخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 الصَّرِيحِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ؟ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَفِي كَلَامِ الْوَحْيِ وَالْمَنْطُوقِ هَلْ ... مَا لَيْسَ بِالصَّرِيحِ فِيهِ قَدْ دَخَلْ وَهُوَ دَلَالَةُ اقْتِضَاءٍ أَنْ يَدُلّ ... لَفْظٌ مَا دُونَهُ لَا يَسْتَقِلّ دَلَالَةُ اللُّزُومِ مِثْلُ ذَاتِ ... إِشَارَةً كَذَاكَ الِايمَاءَاتِ إِلَخْ. وَقَصَدْنَا هُنَا إِيضَاحَ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَضَابِطُ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ هِيَ: أَنْ يُسَاقَ النَّصُّ لِمَعْنًى مَقْصُودٍ: فَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِاللَّفْظِ لُزُومًا لَا يَنْفَكُّ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: فَأَوَّلُ إِشَارَةِ اللَّفْظِ لِمَا ... لَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ لَهُ قَدْ عُلِمَا فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الْمَذْكُورَ لِقَصْدِ بَيَانِ حُكْمِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُ قَاصِدًا بَيَانَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ يَلْزَمُهُ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِاللَّفْظِ وَهُوَ عَدَمُ رُكْنِيَّةِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ إِلَّا فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَدْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ قَطْعًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [2 \ 187] فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ جَوَازِ الْجِمَاعِ فِي لَيْلَةِ الصِّيَامِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِآخِرِ جُزْءٍ مِنْهَا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَدْرُ مَا يَسَعُ الِاغْتِسَالَ، فَيَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْجِمَاعِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا، وَلَفْظُ الْآيَةِ: لَمْ يُقْصَدْ بِهِ صِحَّةُ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ بِهِ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا. وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [46 \ 15] مَعَ قَوْلِهِ: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [31 \ 14] فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ لَمْ يُقْصَدْ بِلَفْظِهِمَا بَيَانُ قَدْرِ أَقَلِّ أَمَدِ الْحَمْلِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ بِهِمَا يَلْزَمُهُ أَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّهُ جَمَعَ الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْفِصَالَ فِي عَامَيْنِ، فَيُطْرَحُ مِنَ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ الَّتِي هِيَ عَامَا الْفِصَالِ، فَيَبْقَى سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 وَمُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لَمْ يُقْصَدْ بِاللَّفْظِ، أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، سَوَاءٌ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ بِمَنْطُوقِهِ أَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ أَنَّهُ نُسُكٌ، وَفِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رُكْنٌ فَهِيَ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ: أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [2 \ 198] قَالُوا: فَهَذَا الْأَمْرُ الْقُرْآنِيُّ الصَّرِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمِنْهَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ، الَّذِي سُقْنَاهُ سَابِقًا، فَإِنَّ فِيهِ: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَكَانَ قَدْ أَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» ، قَالُوا: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُضَرِّسٍ هَذَا: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ» الْحَدِيثَ. يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهَا مَعَهُمْ لَمْ يَتِمَّ حَجَّهُ، وَلَمْ يَقْضِ تَفَثَهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، قَالُوا: وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ حَتَّى يُفِيضَ مِنْهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ النَّاسِ الْإِمَامَ فَلَمْ يُدْرِكْ، قَالُوا: وَلِأَبِي يَعْلَى وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ جَمْعًا فَلَا حَجَّ لَهُ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْسَ بِرُكْنٍ عَنْ أَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ. قَالُوا: أَمَّا الْآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [2 \ 198] ، فَإِنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. قَالُوا: وَقَدْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، فَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْحَجِّ بِإِجْمَاعِهِمْ فَالْمَوْطِنُ الَّذِي يَكُونُ الذِّكْرُ فِيهِ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ فَرْضًا، وَأَجَابُوا عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الْمَذْكُورِ «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ» الْحَدِيثَ. بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَوَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ، وَنَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمْ يُصَلِّهَا مَعَ الْإِمَامِ، حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 فَاتَتْهُ أَنَّهُ حَجُّهُ تَامٌّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَجَابُوا عَنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا الَّتِي قَالَ فِيهَا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ حَتَّى يُفِيضَ مِنْهَا فَقَدْ أَدْرَكَ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ النَّاسِ وَالْإِمَامِ فَلَمْ يُدْرِكْ» اهـ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لَمْ تَثْبُتْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي بَيَانِ تَضْعِيفِ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ جُزْءًا فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَأَنَّ مُطَرِّفًا كَانَ يَهِمُ فِي الْمُتُونِ، قَالَ: وَقَدِ ارْتَكَبَ ابْنُ حَزْمٍ الشَّطَطَ فَزَعَمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الْإِمَامِ: أَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ ابْنُ قُدَامَةَ مُخَالَفَتَهُ هَذِهِ، فَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْإِجْزَاءِ كَمَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ مَعَ حَذْفٍ يَسِيرٍ. وَأَجَابُوا عَنِ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَغَيْرِهِ: بِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ رُكْنٌ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَا مَعْرُوفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى فَوَاتِ كَمَالِ الْحَجِّ لَا فَوَاتِ أَصْلِهِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ تَضْعِيفِ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ يَعْنِي بِهِ مَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْهَا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ الْمَذْكُورِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَعَلَ، وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوا فِي أَنَّهُ نُسُكٌ، يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ صِحَّةَ الْحَجِّ بِدُونِهِ عُلِمَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ: وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ الْمَذْكُورُ سَابِقًا، الدَّالُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، كَمَا أَوْضَحْنَا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ: سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلَا وَاجِبٍ هِيَ: أَنَّهُ مَبِيتٌ، فَكَانَ سُنَّةً كَالْمَبِيتِ بِمِنًى لَيْلَةَ عَرَفَةَ. أَعْنِي: اللَّيْلَةَ التَّاسِعَةَ الَّتِي صَبِيحَتُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدِلَّتِهِمْ فِي الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى عَدَمِ رُكْنِيَّةِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ صَحِيحٌ، وَأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةُ إِشَارَةٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ، فَحَيْثُ وَقَفَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّعْجِيلُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى صَلَاةً إِلَّا بِمِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا. لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ إِجْمَاعًا، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ بِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْمُعْتَادِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِيهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَفْسِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُمَا صَلَاتَانِ يُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا، صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرِ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. فَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَوْلُهُ: وَالْفَجْرِ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، وَإِتْبَاعُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ، صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: قَبْلَ مِيقَاتِهَا يَعْنِي بِهِ: وَقْتَهَا الَّذِي يُصَلِّيهَا فِيهِ عَادَةً، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا تَرَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَكْفِي فِي النُّزُولِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، إِلَى أَنَّ النُّزُولَ بِمُزْدَلِفَةَ بِقَدْرِ مَا يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَتَعَشَّى يَكْفِيهِ فِي نُزُولِ مُزْدَلِفَةَ وَلَوْ أَفَاضَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَطِّ الرِّحَالِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَ مِنْهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَزِمَهُ دَمٌ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ الْفَجْرِ لَزِمَهُ دَمٌ ; لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَمَنْ حَضَرَ الْمُزْدَلِفَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ أَتَى بِالْوُقُوفِ، وَمَنْ تَرَكَهُ وَدَفَعَ لَيْلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ إِلَّا إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيتَ إِلَى الصُّبْحِ ; لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ مُقْنِعًا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مَعَ مَنْ حَدَّدَ بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَلَا مَعَ مَنِ اكْتَفَى بِالنُّزُولِ، وَقِيَاسُهُمُ الْأَقْوِيَاءَ عَلَى الضُّعَفَاءِ قَائِلِينَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّفْعُ بَعْدَ النِّصْفِ مَمْنُوعًا لَمَا رَخَّصَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَعَفَةِ أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَخِّصُ لِأَحَدٍ فِي حَرَامٍ، قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي قِيَاسِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ الَّذِي رُخِّصَ لَهُ لِأَجْلِ ضَعْفِهِ كَمَا تَرَى، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّهُ يَبْقَى بِجَمْعٍ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمْعًا، وَالْمُزْدَلِفَةَ، وَالْمَشْعَرَ الْحَرَامَ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ يُرَادُ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّصَ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ بِقُزَحَ دُونَ بَاقِي الْمُزْدَلِفَةِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا اهـ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ، وَيَقْدَمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ. حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهْ: مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظُّعُنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبِطَةً، فَأَذِنَ لَهَا. حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ. ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَسْمَاءَ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَاهَا كُلَّهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا، مَعَ بَعْضِ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعْنَى. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ: كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُغَلِّسُ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَفِي رِوَايَةِ النَّاقِدِ: نُغَلِّسُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ اهـ وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ، وَالنِّسَاءِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ لَيْلًا كَمَا تَرَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِنَ الضَّعَفَةِ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ الَّذِي يُجْزِئُ فِيهِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ هُوَ ابْتِدَاءُ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 لَيْلَى، وَعِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ يَبْتَدِئُ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ لِلضَّعَفَةِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ اخْتَيَارُ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَجُوزُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ - يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ -، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ، فَأَفَاضَتْ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْيَوْمَ الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عِنْدَهَا انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي إِرْسَالِ أُمِّ سَلَمَةَ فَصَحِيحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ: هَذَا عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ لَمْ أَرَهُ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِيهَا بِدُونِ التَّصْحِيحِ الْمَذْكُورِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ كَوْنِ إِسْنَادِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورِ صَحِيحًا، عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى هَارُونُ الْحَمَّالُ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَطَبَقَتَهُ الثَّانِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ. أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَطَبَقَتَهُ الثَّالِثَةَ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ الْحِزَامِيُّ الْكَبِيرُ، وَهُوَ صَدُوقٌ يَهِمُ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَبَاقِي الْإِسْنَادِ هِشَامٌ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ وَصِحَّتُهُ ظَاهِرَةٌ، فَالِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ رِجَالِهِ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَبَعْضَ رِجَالِهِ أَخْرَجَ لَهُ الْجَمِيعُ فَظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ ضَعَّفَهُ قَائِلًا: إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ مَتْنًا وَسَنَدًا، وَمِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةَ ظَاهِرُهَا الصِّحَّةُ. وَتَعْتَضِدُ بِمَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَدَّمَنِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ قَدَّمَ مِنْ أَهْلِهِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ، قَالَتْ: فَرَمَيْتُ بِلَيْلٍ، ثُمَّ مَضَيْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّيْتُ بِهَا الصُّبْحَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مِنًى، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ تُقَوِّي الرِّوَايَةَ الْأُولَى عَنْ عَائِشَةَ. وَلَمَّا سَاقَ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ قَالَ: قُلْتُ: سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا هُوَ الدِّمَشْقِيُّ الْخَوْلَانِيُّ، وَيُقَالُ: ابْنُ دَاوُدَ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: عَنْ أَحْمَدَ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ: ضَعِيفٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمَذْكُورَةُ لَا تَقِلُّ عَنْ أَنْ تُعَضِّدَ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ قَبْلَهَا، وَسُلَيْمَانُ الْمَذْكُورُ وَثَّقَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْخَوْلَانِيُّ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ أَيْضًا: قُلْتُ: أَمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْخَوْلَانِيُّ، فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ صَدُوقٌ، وَقَالَ فِيهِ فِي التَّقْرِيبِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْخَوْلَانِيُّ أَبُو دَاوُدَ الدِّمَشْقِيُّ: سَكَنَ دَارِيَّا صَدُوقٌ مِنَ السَّابِعَةِ. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ رِوَايَتَهُ لَا تَقِلُّ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَاضِدًا لِغَيْرِهَا. هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ أَجَازَ رَمْيَ الْجَمْرَةِ قَبْلَ الصُّبْحِ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ رَمْيُهَا، إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَاهَا وَقْتَ الضُّحَى. وَقَالَ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ". وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِضَعَفَةِ أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ". وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " قَدَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ - أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - عَلَى حُمُرَاتٍ فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: أَيْ بَنِيَّ، لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ "، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: اللَّطْحُ الضَّرْبُ اللَّيِّنُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَصَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ ; صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: بِجَوَازِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِلضَّعَفَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُ رَمْيُهَا إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. قَالَ فِيهِ: قَالَتْ: يَا بُنَيَّ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهْ: مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظُّعُنِ " اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ صَرِيحٌ أَنَّ أَسْمَاءَ رَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، بَلْ بِغَلَسٍ، وَهُوَ بَقِيَّةُ الظَّلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا وَصَرَّحَتْ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَذِنَ فِي ذَلِكَ لِلظُّعُنِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْأَقْوِيَاءِ الذُّكُورِ كَمَا تَرَى. وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَيْضًا، فَإِنَّ فِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى التَّرْخِيصِ لِلضَّعَفَةِ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا تَرَى، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: إِنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الذُّكُورَ الْأَقْوِيَاءَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَنَّ الضَّعَفَةَ وَالنِّسَاءَ لَا يَنْبَغِي التَّوَقُّفُ فِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ بَعْدَ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ، وَابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا الصَّرِيحَيْنِ فِي التَّرْخِيصِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا رَمْيُهُمْ أَعْنِي الضَّعَفَةَ وَالنِّسَاءَ، قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ: يَقْتَضِي مَنْعَهُ. وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: هِيَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ النَّصَّيْنِ إِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ جَمَعَتْ بَيْنَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَجَعَلُوا لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 وَقْتَيْنِ: وَقْتَ فَضِيلَةٍ، وَوَقْتَ جَوَازٍ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى وَقْتِ الْفَضِيلَةِ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ: عَلَى وَقْتِ الْجَوَازِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الذُّكُورُ الْأَقْوِيَاءُ فَلَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا السُّنَّةِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رَمْيِهِمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْخِيصِ فِي ذَلِكَ كُلُّهَا فِي الضَّعَفَةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الْأَقْوِيَاءِ الذُّكُورِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قِيَاسَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ الَّذِي رَخَّصَ لَهُ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهِ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدَحْ ... إِبْدَاءُ مُخْتَصٍّ بِالْأَصْلِ قَدْ صَلَحْ أَوْ مَانَعٍ فِي الْفَرْعِ ... . . . إِلَخْ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: إِبْدَاءُ مُخْتَصٍّ بِالْأَصْلِ قَدْ صَلَحَ ; لِأَنَّ مُعْتَرِضَ قِيَاسِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُبْدِي وَصْفًا مُخْتَصًّا بِالْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ الضَّعْفُ ; لِأَنَّ الضَّعْفَ الْمَوْجُودَ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّرْخِيصِ الْمَذْكُورِ، لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ الْمَقِيسِ الَّذِي هُوَ الذَّكَرُ الْقَوِيُّ كَمَا تَرَى وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ نَهَارِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ رَمَاهَا فِي وَقْتٍ لَهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَاهَا يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْمَغِيبِ فَقَدْ رَمَاهَا فِي وَقْتٍ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَبًّا لَهَا انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي فَإِنْ فَاتَ يَوْمُ النَّحْرِ وَلَمْ يَرْمِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَرْمِيهَا لَيْلًا وَالَّذِينَ قَالُوا: يَرْمِيهَا لَيْلًا: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رَمْيُهَا لَيْلًا أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ التَّقْرِيبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَوَلَدُهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَآخَرُونَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَةَ أَخٍ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ نُفِسَتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصْفِيَّةُ، حَتَّى أَتَتَا مِنْ بَعْدِ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَنْ تَرْمِيَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئًا. انْتَهَى مِنْهُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى أَنَّ رَمْيَهَا فِي اللَّيْلِ أَدَاءٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 كَصَفِيَّةَ، وَابْنَةِ أَخِيهَا. وَمِمَّنْ قَالَ يَرْمِيهَا لَيْلًا: مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ ; لِأَنَّ مَذْهَبَهُ قَضَاءُ الرَّمْيِ الْفَائِتِ فِي اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ نَسِيَ جَمْرَةً مِنَ الْجِمَارِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ مِنًى حَتَّى يُمْسِيَ؟ قَالَ: لِيَرْمِ أَيَّةَ سَاعَةٍ ذَكَرَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كَمَا يُصَلِّي الصَّلَاةَ، إِذَا نَسِيَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا صَدَرَ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، أَوْ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ انْتَهَى مِنَ الْمُوَطَّإِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ: لِمُخْتَصَرِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّيْلُ قَضَاءٌ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ. لِلرَّمْيِ وَقْتُ أَدَاءٍ، وَوَقْتُ قَضَاءٍ، وَوَقْتُ فَوَاتٍ، فَوَقْتُ الْأَدَاءِ: فِي يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ قَالَ: وَتَرَدَّدَ الْبَاجِيُّ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي يَوْمَ النَّحْرِ هَلْ هِيَ وَقْتُ أَدَاءٍ، أَوْ وَقْتُ قَضَاءٍ؟ وَوَقْتُ الْأَدَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي اللَّيْلِ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ الشِّلْبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ: وَلَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى اللَّيْلِ رَمَاهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّيْلَ تَبَعٌ لِلْيَوْمِ فِي مِثْلِ هَذَا، كَمَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْغَدِ رَمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، انْتَهَى كَرْمَانِيٌّ، انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، لَمْ يَرْمِهَا فِي اللَّيْلِ، وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ رَمْيَهَا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: فَإِنْ أَخَّرَهَا إِلَى اللَّيْلِ، لَمْ يَرْمِهَا، حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَيَعْقُوبُ: يَرْمِيهَا لَيْلًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ارْمِ وَلَا حَرَجَ "، انْتَهَى مِنَ الْمُغْنِي. فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الرَّمْيِ لَيْلًا هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا؟ وَعَلَى جَوَازِهِ هَلْ هُوَ أَدَاءٌ أَوْ قَضَاءٌ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الرَّمْيِ لَيْلًا، اسْتَدَلَّ بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فَيَقُولُ: " لَا حَرَجَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، وَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ فَقَالَ: لَا حَرَجَ "، قَالُوا: قَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَنْ رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَاسْمُ الْمَسَاءِ يَصْدُقُ بِجُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ لَيْلًا رَدُّوا الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَائِلِينَ: إِنَّ مُرَادَ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ يَعْنِي بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِيهِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، الْحَدِيثَ، فَتَصْرِيحُهُ بِقَوْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ فِي النَّهَارِ وَالرَّمْيُ بَعْدَ الْإِمْسَاءِ وَقَعَ فِي النَّهَارِ ; لِأَنَّ الْمَسَاءَ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مَا بَعْدَ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى اللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؛ أَيْ: بَعْدَ دُخُولِ الْمَسَاءِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ يَشْتَدَّ الظَّلَامُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِكَوْنِ الرَّمْيِ الْمَذْكُورِ كَانَ بِاللَّيْلِ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْمَسَاءُ بَعْدَ الظُّهْرِ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ اهـ. قَالُوا: فَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِمْسَاءِ فِيهِ آخِرُ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا اللَّيْلُ، وَإِذًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلرَّمْيِ لَيْلًا، وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ: بِجَوَازِ الرَّمْيِ لَيْلًا عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ. الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا حَرَجَ " بَعْدَ قَوْلِ السَّائِلِ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ يَشْمَلُ لَفْظُهُ نَفْيَ الْحَرَجِ، عَمَّنْ رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى وَخُصُوصُ سَبَبِهِ بِالنَّهَارِ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، وَلَفْظُ الْمَسَاءِ عَامٌّ لِجُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ وَجُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَسَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَاصٌّ بِالنَّهَارِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ صَادِقٌ قَطْعًا، بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بِبَعْضِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّمْيَ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَوْلُ السَّائِلِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا إِلَى اللَّيْلِ ; لِأَنَّ الرَّمْيَ فِيهَا بَعْدَ الزَّوَالِ مَعْلُومٌ فَلَا يَسْأَلُ عَنْهُ صَحَابِيٌّ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 حَدَّثَنَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ أَيَّامَ مِنًى فَيَقُولُ: " لَا حَرَجَ "، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ: " لَا حَرَجَ "، فَقَالَ رَجُلٌ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ: " لَا حَرَجَ " انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَبَقِيَّةُ إِسْنَادِهِ هِيَ بِعَيْنِهَا إِسْنَادُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " أَيَّامَ مِنًى " بِصِيغَةِ الْجَمْعِ صَادِقٌ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ صَادِقٌ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ بِبَعْضِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الرَّمْيِ بَعْدَ الْمَسَاءِ فِيهَا لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا إِلَى اللَّيْلِ كَمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ قِيلَ: صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ تُخَصَّصُ بِيَوْمِ النَّحْرِ الْوَارِدِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْجَمْعُ عَلَى الْمُفْرِدِ نَظَرًا لِتَخْصِيصِهِ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ: أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ يَوْمَ مِنًى بِالْإِفْرَادِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ. سَوَاءٌ كَانَ الْعَامُّ، وَبَعْضُ أَفْرَادِهِ الْمَذْكُورِ بِحُكْمِهِ فِي نَصٍّ وَاحِدٍ أَوْ نَصَّيْنِ. فَمِثَالُ كَوْنِهِمَا فِي نَصٍّ وَاحِدٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [2 \ 238] فَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى بَلِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا وَاجِبَةٌ. وَمِثَالُ كَوْنِهِمَا فِي نَصَّيْنِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْعَامُّ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " مَعَ حَدِيثِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ " الْحَدِيثَ، فَذِكْرُ جِلْدِ الشَّاةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْجُلُودِ الْمَذْكُورَةِ: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ " الْحَدِيثَ، فَجَوَازُ الِانْتِفَاعِ عَامٌّ فِي جِلْدِ الشَّاةِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُهُبِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ ; لِأَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ: وَذِكْرُ مَا وَافَقَهُ مِنْ مُفْرَدِ ... وَمَذْهَبُ الرَّاوِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلِلْمُخَالِفِينَ الْقَائِلِينَ: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ لَيْلًا أَنْ يَرُدُّوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فَيَقُولُوا رِوَايَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 النَّسَائِيِّ الْعَامَّةُ فِي أَيَّامِ مِنًى فِيهَا أَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ فِيهَا فَيَقُولُ: " لَا حَرَجَ " وَأَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ " لَا حَرَجَ "، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْيَوْمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ وَعُمُومُ أَيَّامِ مِنًى صَادِقٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَقَدْ بَيَّنَتْ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ وَقَعَ فِي خُصُوصِ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَرَجَ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِ مِنًى، وَغَايَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَيَّامَ مِنًى عَامٌّ وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَيَّنَتِ الْيَوْمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ: أَنَّهُ أَمَرَ زَوْجَتَهُ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنَةَ أَخِيهَا، بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَرَأَى أَنَّهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرَّمْيَ لَيْلًا جَائِزٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ صَفِيَّةَ وَابْنَةَ أَخِيهَا كَانَ لَهُمَا عُذْرٌ، لِأَنَّ ابْنَةَ أَخِيهَا عُذْرُهَا النِّفَاسُ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ عُذْرُهَا مُعَاوَنَةُ ابْنَةِ أَخِيهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِلَقْطِ الْحَصَيَاتِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ: أَعْنِي السَّبْعَ الَّتِي تُرْمَى بِهَا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ لَقْطَهَا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ مُسْتَحَبٌّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ: " الْقُطْ لِي حَصًى " فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي لَقْطِ الْحَصَيَاتِ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَوْ صَحِيحٍ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ، إِسْنَادُ النَّسَائِيِّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنَّهُمَا رَوَيَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطْلَقًا، وَظَاهِرُ رِوَايَتَيْهِمَا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، لَا الْفَضْلُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي الْأَطْرَافِ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، لَا الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي مُسْنَدِ الْفَضْلِ، وَالْجَمِيعُ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَكُونُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَأَرْسَلَهُ فِي رِوَايَتَيِ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَهُوَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ حُجَّةٌ لَوْ لَمْ يُعْرَفِ الْمُرْسَلُ عَنْهُ فَأَوْلَى بِالِاحْتِجَاجِ، وَقَدْ عُرِفَ هُنَا أَنَّهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّهُ إِذَا أَتَى مِنًى لَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَأْخُذَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 الْحَصَى مِنْ مَنْزِلِهِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلًا يَشْتَغِلُ عَنِ الرَّمْيِ بِلَقْطِهِ إِذَا أَتَى مِنًى، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ الْحَصَى مِنْ غَيْرِ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ; لِأَنَّ اسْمَ الْحَصَى يَقَعُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الْحَصَى الَّذِي يَرْمِي بِهِ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ ; لِأَحَادِيثَ وَارِدَةٍ بِذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا حَصَى الْخَذْفِ الْحَدِيثَ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْخَذْفُ رَمْيُكَ بِحَصَاةٍ، أَوْ نَوَاةٍ تَأْخُذُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْكَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْخَذْفُ بِالْحَصَى الرَّمْيُ بِهِ بِالْأَصَابِعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: " خَذْفُ أَعْسَرَا " اهـ مِنْهُ، وَالشَّاعِرُ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَتَمَامُ الْبَيْتِ: كَأَنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا ... إِذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أَعْسَرَا الْفَرْعُ التَّاسِعُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَخَالَفَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْجُمْهُورَ فَقَالَ: هُوَ رُكْنٌ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَاهَا، وَقَالَ " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ ". الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرْمَى مِنَ الْجَمَرَاتِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَّا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ. الْفَرْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي مَوْقِفِ مَنْ أَرَادَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَتَكُونَ مِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَمَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ كَمَا دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٌ، وَعَطَاءٌ، وَنَافِعٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَافَ الزِّحَامَ فَرَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ اعلم أنه إذا رمى الجمرة يوم النحر وحلق فقد تحلل التحلل الأول، وبه يحل كل شيء كان محظوراً بالإحرام إلا النساء. وعند مَالِكٌ: إِلَّا النِّسَاءَ، وَالصَّيْدَ، وَالطِّيبَ، فَإِنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَكَانَ قَدْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، أَوْ سَعَى بَعْدَ إِفَاضَتِهِ فَقَدْ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الثَّانِيَ، وَبِهِ يَحِلُّ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ، حَتَّى النِّسَاءُ، وَالصَّيْدُ، وَالطِّيبُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَلْقِ، هَلْ هُوَ نُسُكٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؟ فَمَنْ قَالَ: هُوَ نُسُكٌ قَالَ: إِنَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الرَّمْيِ، وَالْحَلْقِ مَعًا، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَلْقَ غَيْرُ نُسُكٍ قَالَ: يَتَحَلَّلُ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ بِمُجَرَّدِ انْتِهَائِهِ مِنْ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ الْآيَةَ [2 \ 196] . الْفَرْعُ الثَّانِي: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَلُّلِ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ: يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، وَالصَّيْدَ، وَالطِّيبَ، وَالطِّيبُ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ بَعْدَ رَمْيِهَا لَا حَرَامٌ، وَإِنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ. وَكَانَ قَدْ سَعَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إِذَا حَلَقَ، أَوْ قَصَّرَ حَلَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ، وَيَحِلُّ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ إِلَّا النِّسَاءَ، وَإِنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ حِلَّ النِّسَاءِ بَعْدَ الطَّوَافِ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ، لَا بِالطَّوَافِ لِأَنَّ الْحَلْقَ هُوَ الْمُحَلِّلُ دُونَ الطَّوَافِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الطَّوَافِ فَإِذَا طَافَ عَمِلَ الْحَلْقُ عَمَلَهُ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أُخِّرَ عَمَلُهُ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِحَاجَتِهِ إِلَى الِاسْتِرْدَادِ، فَإِذَا انْقَضَتْ عَمِلَ الطَّلَاقُ عَمَلَهُ فَبَانَتْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَحْلِقَ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَدَارَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْحَلْقِ، إِلَّا أَنَّ الْحَلْقَ عِنْدَهُمْ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَبَعْدَ النَّحْرِ إِنْ كَانَ الْحَاجُّ يُرِيدُ النَّحْرَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِاثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ هِيَ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقُ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، فَإِذَا فَعَلَ اثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ فَعَلَ الثَّالِثَ مِنْهَا تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الثَّانِيَ، وَبِالْأَوَّلِ يَحِلُّ عِنْدَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، وَبِالثَّانِي تَحِلُّ النِّسَاءُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ، فَالتَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ مِنَ اثْنَيْنِ: هُمَا رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ. وَيَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي بِفِعْلِ الثَّانِي، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هُوَ أَنَّهُ إِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ حَلَقَ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ، وَبِهِ يَحِلُّ عِنْدَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، فَإِنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، حَلَّتْ لَهُ النِّسَاءُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَعَلْقَمَةَ، وَسَالِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْوَطْءَ فِي الْفَرَجِ ; لِأَنَّهُ أَغْلَظُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيُفْسِدُ النُّسُكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْوَطْءِ فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ، وَعَنْ عُرْوَةَ: أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا يَتَطَيَّبُ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْمُغْنِي. وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا حُجَّةُ مَالِكٍ فِي أَنَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ يَحِلُّ بِهِ مَا سِوَى النِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّيْدِ، فَلَمْ أَرَ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنَ النَّقْلِ، إِلَّا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَثَرٌ مَرْوِيٌّ عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ: ذَكَرَ هَذَا الْأَثَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ: وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ. لِأَنَّ مَكْحُولًا لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ فَحَدِيثُهُ عَنْهُ مُنْقَطِعٌ وَمُرْسَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي: التَّمَسُّكُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [5 \ 95] لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ إِحْرَامِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَشْمَلُهُ عُمُومُ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، لِأَنَّهُ لَوْ زَالَ حُكْمُ إِحْرَامِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ الْوَطْءُ. وَأَمَّا حُجَّتُهُ أَعْنِي مَالِكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ وَالطِّيبِ، فَهِيَ مَا رَوَى فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ، وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: إِذَا جِئْتُمْ مِنًى، فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ إِلَّا النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ لَا يَمَسَّ أَحَدٌ نِسَاءً، وَلَا طِيبًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ اهـ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَالِكٍ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: حَدَّثَنَا أَبُو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْبَأَ زَيْدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، وَالصُّبْحَ بِمِنًى، ثُمَّ يَغْدُوَ إِلَى عَرَفَةَ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ حَتَّى يَزُورَ الْبَيْتَ اهـ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي أَنَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ يَحِلُّ بِهِ، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالصَّيْدَ، وَالطِّيبَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الطِّيبَ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ لَا حَرَامٌ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَحَلَقَ: حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ: كَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَفِي لَفْظٍ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ. قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَلْفَاظًا مُتَعَدِّدَةً مُتَقَارِبَةً مَعْنَاهَا وَاحِدٌ. مِنْهَا قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ بِأَطْيَبِ مَا وَجَدْتُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ. قَالَ رَجُلٌ: وَالطِّيبُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا أَنَا فَقَدَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَمِّخُ رَأْسَهُ بِالْمِسْكِ، أَفَطِيبٌ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا: وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُرَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، إِلَّا أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَغَيْرَهُ، قَالُوا: يُقَالُ: إِنَّ الْحَسَنَ الْعُرَنِيَّ لَمْ يَسْمَعِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ حَدِيثَ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ الْمَذْكُورَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُمَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَضَمَّخُ بِالْمِسْكِ. وَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ الْمَذْكُورِ، قَالَ أَحْمَدُ: لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ يُدْرِكْهُ اهـ. وَالْعُرَنِيُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ ثُمَّ نُونٌ: نِسْبَةٌ إِلَى عُرَيْنَةَ بَطْنٍ مِنْ بَجِيلَةَ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَضْعِيفِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّاجَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الزُّهْرِيِّ. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: الْحَجَّاجُ لَمْ يَرَ الزُّهْرِيَّ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ اهـ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ: مِنْ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ بِاثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ: هِيَ الرَّمْيُ، وَالْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ، وَتَحِلُّ النِّسَاءُ بِالثَّالِثِ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ بِوَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ، هُمَا: الرَّمْيُ، وَالطَّوَافُ وَتَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ بِالثَّانِي مِنْهُمَا لَمْ نَعْلَمْ لَهُ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، هَكَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي التَّحَلُّلِ، وَقَدْ دَلَّ النَّصُّ الصَّحِيحُ عَلَى حُصُولِ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، فَجَعَلَ هُوَ الطَّوَافَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ أَنَّ الطِّيبَ يَحِلُّ لَهُ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لُبْسُ الثِّيَابِ، وَقَضَاءُ التَّفَثِ، وَأَنَّ الْجِمَاعَ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالتَّحَلُّلِ الْأَخِيرِ، وَأَمَّا حِلِّيَّةُ الصَّيْدِ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَهِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ، بِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، قَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهَا مِنَ الْكَلَامِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِحِلِّ الصَّيْدِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِالْإِحْرَامِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَّ لَهُ بَعْضُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي أَحْكَامِ الرَّمْيِ اعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِفَاضَةِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى بَعْضَ أَحْكَامِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَبَيَّنَّا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِهِ، وَفِي أَوَّلِ وَقْتِهِ وَآخِرِهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِرَمْيِهَا قَرِيبًا، وَالْآنَ سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمُهِمَّ مِنْ أَحْكَامِ الرَّمْيِ. اعْلَمْ أَنَّ الرَّمْيَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تَعَدُّدِ الدِّمَاءِ فِيهِ، وَعَدَمِ تَعَدُّدِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ لِأَنَّ الْحَجَّ يَتِمُّ قَبْلَهُ، وَيَتَحَلَّلُ صَاحِبُهُ التَّحَلُّلَ الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ، فَيَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، فَحَجَّهُ تَامٌّ إِجْمَاعًا قَبْلَ رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَكِنَّ رَمْيَهَا وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى فِيهَا، وَقَالَ «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَوْصُولًا بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ بِلَفْظِ: وَقَالَ جَابِرٌ: «رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ» ، ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي ((فَتْحِ الْبَارِي)) فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ. الْحَدِيثَ، فَأَعْلَمَهُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ يَرَى قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا، لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ صَرِيحٌ فِي الرَّفْعِ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ يَوْمٍ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، صَاحِبُ الْمَغَازِي، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَالْمُدَلِّسُ إِذَا عَنْعَنَ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَأَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ: الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِمَارَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ» . وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ بِجَوَازِ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَتَرْخِيصَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَوْلَ إِسْحَاقَ: إِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَجْزَأَهُ، كُلُّ ذَلِكَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتِ عَنْهُ الْمُعْتَضِدِ بِقَوْلِهِ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي تَرْخِيصِهِ الْمَذْكُورِ صَاحِبَاهُ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ بِالرَّمْيِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ أَلْبَتَّةَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَيَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَقِفُ، فَيَدْعُو طَوِيلًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَيَرْمِيهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يَقِفُ، فَيَدْعُو طَوِيلًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَيَرْمِيهَا كَذَلِكَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا بَلْ يَنْصَرِفُ إِذَا رَمَى وَهَذَا التَّرْتِيبُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْمَنَاسِكِ عَنْهُ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ مِنْ مَنَاسِكِنَا التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ، حَتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُّ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ اهـ. رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَإِنْ لَمْ يُرَتِّبِ الْجَمَرَاتِ، بِأَنْ بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ الرَّمْيُ مُنَكَّسًا لِأَنَّهُ خَالَفَ هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ عَمْلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ، وَتَنْكِيسُ الرَّمْيِ عَمَلٌ لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا، فَيَكُونُ مَرْدُودًا، وَبِهَذَا قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ سُنَّةٌ، فَإِنْ نَكَّسَ الرَّمْيَ أَعَادَهُ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ لَا تَنْهَضُ. وَعَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ لَوْ بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْأُولَى، أَوْ بَدَأَ بِالْوُسْطَى، وَرَمَى الثَّلَاثَ لَمْ يَجْزِهِ إِلَّا الْأُولَى لِعَدَمِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُسْطَى، وَالْأَخِيرَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيَ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْأَخِيرَةَ، وَلَوْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. ثُمَّ الْأُولَى، ثُمَّ الْوُسْطَى أَعَادَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الرَّمْيِ، لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ، مَعَ الِاخْتِصَارِ، لِعَدَمِ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ. فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَقْرَبَ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَمْيِ الْحَصَاةِ بِقُوَّةٍ، فَلَا يَكْفِي طَرْحُهَا، وَلَا وَضْعُهَا بِالْيَدِ فِي الْمَرْمَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِرَمْيٍ فِي الْعُرْفِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَمْيٌ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الْحَصَاةِ فِي نَفْسِ الْمَرْمَى، وَهُوَ الْجَمْرَةُ الَّتِي يُحِيطُ بِهَا الْبِنَاءُ وَاسْتِقْرَارُهَا فِيهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا إِنْ وَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى، ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْهُ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَأَنَّهَا لَوْ ضَرَبْتَ شَيْئًا دُونَ الْمَرْمَى، ثُمَّ طَارَتْ، وَسَقَطَتْ فِي الْمَرْمَى: أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَاءَتْ فِي مَحْمَلٍ، أَوْ فِي ثَوْبِ رَجُلٍ، فَتَحَرَّكَ الْمَحْمَلُ، أَوِ الرَّجُلُ، فَسَقَطَتْ فِي الْمَرْمَى، فَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ دُونَ الْمَرْمَى، فَأَطَارَتْ حَصَاةً أُخْرَى، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْحَصَاةُ الْأُخْرَى فِي الْمَرْمَى، فَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ. لِأَنَّ الْحَصَاةَ الَّتِي رَمَاهَا لَمْ تَسْقُطْ فِي الْمَرْمَى، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِيهِ الْحَصَاةُ الَّتِي أَطَارَتْهَا، وَأَنَّهَا إِنْ أَخْطَأَتِ الْمَرْمَى، وَلَكِنْ سَقَطَتْ قَرِيبًا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُهُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُجْزِئُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَ إِلَّا بِالْحِجَارَةِ، فَلَا يَنْبَغِي الرَّمْيُ بِالْمَدَرِ، وَالطِّينِ، وَالْمَغْرَةِ، وَالنُّورَةِ، وَالزَّرْنِيخِ، وَالْمِلْحِ، وَالْكُحْلِ، وَقَبْضَةِ التُّرَابِ، وَالْأَحْجَارِ النَّفِيسَةِ: كَالْيَاقُوتِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَالزُّمُرُّدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَ الرَّمْيَ بِذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ الرَّمْيُ بِالْخَشَبِ، وَالْعَنْبَرِ، وَاللُّؤْلُؤِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْأَقْرَبُ أَيْضًا أَنَّ الْحَصَاةَ إِنْ وَقَعَتْ فِي شُقُوقِ الْبِنَاءِ الْمُنْتَصِبِ فِي وَسَطِ الْجَمْرَةِ، وَسَكَنَتْ فِيهَا أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي هَوَاءِ الْمَرْمَى، لَا فِي نَفْسِ الْمَرْمَى خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تُجْزِئُهُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُ الْحَصَى لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَوْ رَمَى بِحَصَاةٍ نَجِسَةٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ لَصِدْقِ اسْمِ الرَّمْيِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ نَصٍّ عَلَى اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 الْحَصَى مَعَ كَرَاهَةِ ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَوْ رَمَى بِحَصَاةٍ قَدْ رَمَى بِهَا أَنَّهَا تُجْزِئُهُ لِصِدْقِ اسْمِ الرَّمْيِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ النَّصِّ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَلَا عَلَى عَدَمِ إِجْزَائِهِ وَلَكِنَّ الْأَحْوَطَ فِي الْجَمِيعِ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَنَّ الْأَوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ ... خِلَافِهِمْ وَلَوْ ضَعِيفًا فَاسْتَبِنْ وَفِي كُتُبِ الْفُرُوعِ هُنَا أَشْيَاءُ تَرَكْنَاهَا لِكَثْرَتِهَا. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْهُ الْجَمْرَةُ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْجَمْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْحَصَاةُ، وَسُمِّيَتِ الْجَمْرَةُ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ الرَّمْيِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا الْمَحَلُّ الَّذِي يُرْمَى فِيهِ بِالْحَصَى، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَحِلُّ فِيهِ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ مِنْ نَوْعِ مَا يُسَمُّونَهُ الْمَجَازَ الْمُرْسَلَ، وَالتَّجْمِيرُ رَمْيُ الْحَصَى فِي الْجِمَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ... وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ ... بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ وَالْمُجَمَّرُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مُضَعَّفًا: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَنَسٍ الْهُذَلِيِّ: لَأَدْرَكَهُمْ شُعْثُ النَّوَاصِي كَأَنَّهُمْ ... سَوَابِقُ حُجَّاجٍ تُوَافِي الْمُجَمَّرَا وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَصْلُ الْجَمْرَةِ مِنَ التَّجَمُّرِ بِمَعْنَى التَّجَمُّعِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: تَجَمَّرَ الْقَوْمُ، إِذَا اجْتَمَعُوا، وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَجَمَرَهُمُ الْأَمْرُ: أَحْوَجَهُمْ إِلَى التَّجَمُّرِ، وَهُوَ التَّجَمُّعُ، وَجَمَرَ الشَّيْءَ: جَمَعَهُ، وَجَمَرَ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ، إِذَا أَطَالَ حَبْسَهُمْ مُجْتَمِعِينَ بِالثَّغْرِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَرَوَى الرَّبِيعُ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَنْشَدَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَجَمَّرْتِنَا تَجْمِيرَ كِسْرَى جُنُودَهُ ... وَمَنَّيْتِنَا حَتَّى نَسِينَا الْأَمَانِيَا وَالْجِمَارُ: الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فَمَنْ مُبْلِغٌ وَائِلًا قَوْمَنَا ... وَأَعْنِي بِذَلِكَ بَكْرًا جَمَارًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 ؛ أَيْ: مُجْتَمِعِينَ، وَعَلَى هَذَا فَاشْتِقَاقُ الْجَمْرَةِ مِنَ التَّجَمُّرِ بِمَعْنَى التَّجَمُّعِ ; لِاجْتِمَاعِ الْحَجِيجِ عِنْدَهَا يَرْمُونَهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْحَصَى يَتَجَمَّعُ فِيهَا، وَقِيلَ: اشْتِقَاقُ الْجَمْرَةِ مَنْ أَجْمَرَ إِذَا أَسْرَعَ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ مُسْرِعِينَ لِرَمْيِهَا. وَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنْ جَمَرْتَهُ إِذَا نَحَّيْتَهُ، وَأَظْهَرُهَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: فِي آخِرِ وَقْتِ الرَّمْيِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ رَمْيِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ إِلَى الْغُرُوبِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَرْمِ رَمَى بِاللَّيْلِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: اللَّيْلُ قَضَاءٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَدَاءٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَهُمْ، وَحُجَجَهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَرْمِي بِاللَّيْلِ، بَلْ يُؤَخِّرُ الرَّمْيَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى فَوَاتِ وَقْتِ الرَّمْيِ بِغُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي هُوَ رَابِعُ يَوْمِ النَّحْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَهُ حَالَتَانِ: الْأُولَى: حُكْمُ الرَّمْيِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي الْيَوْمَ الَّذِي فَاتَهُ الرَّمْيُ فِيهِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالثَّانِيَةُ: الرَّمْيُ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. أَمَّا اللَّيْلُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ، وَالْمَالِكِيَّةَ، وَالْحَنَفِيَّةَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ: يَرْمِي لَيْلًا. وَالْمَالِكِيَّةُ بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: الرَّمْيُ لَيْلًا قَضَاءٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يَتَوَقَّفُ فِي كَوْنِهِ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْبَاجِيِّ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي بَعْدَ الْيَوْمِ تَبَعٌ لَهُ، فَيَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهَا تَبَعًا لِلْيَوْمِ، وَالشَّافِعِيَّةُ لَهُمْ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الرَّمْيِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ الْيَوْمِ، هَلْ هُوَ أَدَاءٌ، أَوْ قَضَاءٌ؟ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى، وَالْحَنَابِلَةُ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَرْمِي لَيْلًا، بَلْ يَرْمِي مِنَ الْغَدِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِيهِ كَلَامَ صَاحِبِ الْمُغْنِي، وَأَمَّا رَمْيُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْهَا، فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ هَلْ هِيَ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ؟ فَالرَّمْيُ فِي جَمِيعِهَا أَدَاءٌ ; لِأَنَّهَا وَقْتٌ لِلرَّمْيِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ، فَإِنْ فَاتَ هُوَ وَلَيْلَتُهُ الَّتِي بَعْدَهُ فَاتَ وَقْتُ رَمْيِهِ، فَيَكُونُ قَضَاءً فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَوْ رَمَى عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي، أَوْ عَنِ الثَّانِي فِي الثَّالِثِ، أَوْ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي فِي الثَّالِثِ، فَلَا شَيْءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ رَمَى فِي وَقْتِ الرَّمْيِ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُهُ دَمٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاتَهُ رَمْيٌ فِيهِ إِلَى الْغَدِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِتَعَدُّدِ الدِّمَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ، أَوْ دَمٌ وَاحِدٌ عَنِ الْيَوْمَيْنِ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِعَدَمِ التَّعَدُّدِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّمْيِ، فَمَنْ رَمَى عَنْ يَوْمٍ مِنْهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: هُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْعَجْلَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ، أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَفِي لَفْظٍ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَاةَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدَاةِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوَطَّإِ مَا نَصُّهُ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي تَأْخِيرِ رَمْيِ الْجِمَارِ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى، ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الْآخَرِ، وَنَفَرُوا. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْحَدِيثَ هُوَ صَرِيحُ مَعْنَاهُ فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى: أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا، وَحَدِيثُ عَاصِمٍ الْعَجْلَانِيِّ هَذَا قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ سُقْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْتَدِلِّينَ بِهِ عَلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَخَّصَ لَهُمْ فِي تَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الثَّانِيَ وَقْتٌ لِرَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ وَقْتُهُ لَفَاتَ بِفَوَاتِ وَقَتِهِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي هُوَ خَامِسُ يَوْمِ النَّحْرِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَمْيَ يَوْمٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ قَضَاءٌ لِقَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ الْقَضَاءُ. فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِطْلَاقَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا فَاتَ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لِلْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ الْآيَةَ [4] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [62 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 200] . فَالْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الْأَدَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ، يُرِيدُ بِالْقَضَاءِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا تَدَارُكًا لِشَيْءٍ عُلِمَ تَقَدَّمَ مَا أَوْجَبَ فِعْلَهُ فِي خُصُوصِ وَقْتِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِهِ، إِنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى اللَّيْلِ فَمَا بَعْدَهُ، أَنَّهُ قَضَاءٌ. يَلْزَمُ بِهِ الدَّمُ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رَمْيَ يَوْمٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ قَضَاءٌ لِعِبَادَةٍ خَرَجَ وَقْتُهَا بِالْكُلِّيَّةِ اسْتِنَادًا لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ عِبَادَةٌ مُوَقَّتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِهَا فِي وَقْتٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ أَجْزَاءِ وَقْتِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مُوَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ يَنْتَهِي بِالْإِجْمَاعِ فِي وَقْتٍ مَعْرُوفٍ، وَيَأْذَنُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِهَا فِي زَمَنٍ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا. فَهَذَا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِ الْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ وَقْتِهَا عُلِمَ أَنَّهَا أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ، وَالْأَدَاءُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ هُوَ إِيقَاعُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا شَرْعًا لِمَصْلَحَةٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْوَقْتُ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالرَّمْيِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِهِ، بَلْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَمْرٌ بِقَضَائِهِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي رَابِعِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ قَضَاءُ الرَّمْيِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ، لَجَازَ الرَّمْيُ فِي رَابِعِ النَّحْرِ وَخَامِسِهِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْقَضَاءُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ: لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فَاتَ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالصَّلَاةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ أَدَاءٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ صَلَّى بَعْضَهَا فِي آخِرِ الضَّرُورِيِّ، وَبَعْضَهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ، فَهِيَ أَدَاءٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» وَعَرَّفَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ الْأَدَاءَ وَالْوَقْتَ وَالْقَضَاءَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِقَوْلِهِ: فِعْلُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ عُيِّنَا ... شَرْعًا لَهَا بِاسْمِ الْأَدَاءِ قُرِنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 وَكَوْنُهُ بِفِعْلِ بَعْضٍ يَحْصُلُ ... لِعَاضِدِ النَّصِّ هُوَ الْمُعَوِّلُ وَقِيلَ مَا فِي وَقْتِهِ أَدَاءُ ... وَمَا يَكُونُ خَارِجًا قَضَاءُ وَالْوَقْتُ مَا قَدَّرَهُ مَنْ شَرَّعَا ... مِنْ زَمَنٍ مُضَيَّقًا مُوَسَّعَا وَعَكْسُهُ الْقَضَا تَدَارُكًا لِمَا ... سَبَقَ الَّذِي أَوْجَبَهُ قَدْ عُلِمَا وَقَوْلُهُ: وَعَكْسُهُ الْقَضَا ; يَعْنِي: أَنَّ الْقَضَاءَ ضِدُّ الْأَدَاءِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا: تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ أَيَّامَ الرَّمْيِ كُلَّهَا كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ مَنْ رَمَى عَنْ يَوْمٍ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرِّعَاءِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ إِلَّا لِعُذْرٍ، فَهُوَ وَقْتٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ كَالْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَمَّا رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ حُكْمَهُ مَعَ رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَوَاحِدٍ مِنْهَا، فَمَنْ أَخَّرَ رَمْيَهُ إِلَى يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَهُوَ كَمَنْ أَخَّرَ يَوْمًا مِنْهَا إِلَى يَوْمٍ، وَعَلَيْهِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِوَقْتِهِ دُونَهَا لِأَنَّهُ يُخَالِفُهَا فِي الْوَقْتِ وَالْعَدَدِ ; لِأَنَّهَا جَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ بِعَكْسِ ذَلِكَ وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَضَى رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا، يَنْوِي تَقْدِيمَ الرَّمْيِ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الثَّانِي، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ رَمْيِ الثَّانِي بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَقْدِيمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَتَأْخِيرِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ كَمَا تَرَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَوَى تَقْدِيمَ الثَّانِي لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ كَالْمُتَلَاعِبِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُجْزِئُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُوجِبُ تَرْكُهُ الدَّمَ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ رَمْيَ حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِمَارِ إِلَى لَيْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَمَا فَوْقَ الْحَصَاةِ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَرَمْيُ الثَّلَاثِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي كَوْنِ الرَّمْيِ لَيْلًا قَضَاءٌ يَتَوَقَّفُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ، إِنْ رَمَى لَيْلًا، وَلَكِنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِ: هُوَ أَنَّ اللَّيْلَ قَضَاءٌ كَمَا قَالَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَاللَّيْلُ قَضَاءٌ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّ الدَّمَ يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ كُلِّهَا، أَوْ رَمْيِ يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَرَمْيُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَرَمْيُ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ يَلْزَمُ فِي تَرْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَمٌ وَاحِدٌ، وَمَا هُوَ أَكْثَرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 مِنْ نِصْفِ رَمْيِ يَوْمٍ عِنْدَهُمْ كَرَمْيِ الْيَوْمِ يَلْزَمُ فِيهِ الدَّمُ، فَلَوْ رَمَى جَمْرَةً وَثَلَاثَ حَصَيَاتٍ مِنْ جَمْرَةٍ، وَتَرَكَ الْبَاقِيَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ; لِأَنَّهُ رَمَى عَشْرَ حَصَيَاتٍ وَتَرَكَ إِحْدَى عَشْرَةَ حَصَاةً، فَإِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ رَمْيِ يَوْمٍ كَأَنْ تَرَكَ جَمْرَةً وَاحِدَةً، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ عِنْدَهُمْ، فَيَلْزَمُهُ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَيَنْقُصَ مَا شَاءَ هَكَذَا يَقُولُ. وَلَا أَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنَ النَّقْلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ يَلْزَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِفَوَاتِ الرَّمْيِ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَلَوْ رَمَاهُ مِنَ الْغَدِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبَاهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ اخْتِلَافٌ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ مِنْ جَمْرَةٍ، فَمَا فَوْقَهَا: لَزِمَهُ دَمٌ لِأَنَّ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَمَا فَوْقَهَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَصَارَ تَرْكُهَا كَتَرْكِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ تَرَكَ حَصَاةً وَاحِدَةً فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ دَمٍ. وَالثَّانِي: مُدٌّ. وَالثَّالِثُ: دِرْهَمٌ. وَحُكْمُ الْحَصَاتَيْنِ كَذَلِكَ، قِيلَ: يَلْزَمُ فِيهَا ثُلُثَا دَمٍ، وَقِيلَ: مُدَّانِ وَقِيلَ دِرْهَمَانِ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّهَا، فَعَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا كَيَوْمٍ وَاحِدٍ، فَاللَّازِمُ دَمٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ قُلْنَا: بِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مُنْفَرِدٌ بِوَقْتِهِ، فَثَلَاثَةُ دِمَاءٍ، وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَرَمَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ كَرَمْيِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَزِمَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا كَيَوْمٍ وَاحِدٍ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُلْنَا: بِانْفِرَادِ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِمُخَالَفَتِهِ لَهَا وَقْتًا وَعَدَدًا، فَإِنْ قُلْنَا: بِالْمَشْهُورِ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ، لَزِمَهُ دَمَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: بِانْفِرَادِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا عَنِ الْآخَرِ بِوَقْتِهِ، لَزِمَهُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ كُلَّهَا كَالشَّعَرَاتِ الثَّلَاثِ، فَلَا يَكْمُلُ الدَّمُ فِي بَعْضِهَا بَلْ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِتَرْكِ جَمِيعِهَا، بِأَنْ يَتْرُكَ رَمْيَ يَوْمٍ، وَعَلَيْهِ فَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةٍ مِنَ الْجِمَارِ، فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ، فِيمَنْ حَلَقَ شَعْرَةً أَظْهَرُهَا: مُدٌّ، وَالثَّانِي: دِرْهَمٌ، وَالثَّالِثُ: ثُلُثُ دَمٍ، فَإِنْ تَرَكَ جَمْرَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَهُوَ لُزُومُ مُدَّيْنِ، أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثُلُثَيْ دَمٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ جَمْرَةٍ، فَعَلَى أَنَّ فِي الْجَمْرَةِ ثُلُثَ دَمٍ يَلْزَمُهُ فِي الْحَصَاةِ جُزْءٌ مِنْ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ دَمٍ، وَعَلَى أَنَّ فِيهَا مُدًّا أَوْ دِرْهَمًا، فَفِي الْحَصَاةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 سُبْعُ مُدٍّ، أَوْ سُبْعُ دِرْهَمٍ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ تَفَاصِيلُ كَثِيرَةٌ، تَرَكْنَاهَا لِطُولِهَا، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ كُلَّهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. لَزِمَهُ دَمٌ، وَعَنْهُ فِي تَرْكِ رَمْيِ الْجَمْرَةِ الْوَاحِدَةِ دَمٌ، وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ فِي الْحَصَاةِ، وَالْحَصَاتَيْنِ وَعَنْهُ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ: دَمًا كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِي ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ: دَمًا كَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ كُلِّ حَصَاةٍ مُدٌّ كَأَحَدِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ مَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الرَّمْيِ، حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ. فَاعْلَمْ أَنَّ دَلِيلَهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، هُوَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا، وَهَذَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَجَاءَ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَلَمْ يَثْبُتْ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا إِلَى آخِرِهِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهَذَا إِسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَرَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَنْبَأَ ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ أَيُّوبَ بْنَ أَبِي تَمِيمَةَ، أَخْبَرَهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا حَدِيثُ: «مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ» فَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لَا مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا قَالَ مَالِكٌ: لَا أَدْرِي قَالَ: تَرَكَ أَمْ نَسِيَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ: مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مَنْ نُسُكِهِ فَلْيُهْرِقْ لَهُ دَمًا وَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، فَكَأَنَّهُ قَالَهُمَا يَعْنِي الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَوْ لَيْسَتْ لِلشَّكِّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بَلْ لِلتَّقْسِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ يُرِيقُ دَمًا سَوَاءٌ تَرَكَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا: «مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ» ، أَمَّا الْمَوْقُوفُ، فَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَالشَّافِعِيُّ عَنْهُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْهُ بِلَفْظِ: «مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا» وَأَمَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 الْمَرْفُوعُ فَرَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بِهِ، وَأَعَلَّهُ بِالرَّاوِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ، وَكَذَا الرَّاوِي عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَقْدِسِيُّ قَالَ: هُمَا مَجْهُولَانِ. انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ. فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ ثَابِتٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اسْتِدْلَالِ الْفُقَهَاءِ بِهِ عَلَى سَائِرِ الدِّمَاءِ الَّتِي قَالُوا بِوُجُوبِهَا غَيْرُ الدِّمَاءِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ، أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَعَبُّدٌ، لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ مِمَّا لِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ، وَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، فَهُوَ فَتْوَى مِنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ لَمْ يُعْلَمْ لَهَا مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَيْرُ أُسْوَةٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي لُزُومِ الدَّمِ بِتَرْكِ جَمْرَةٍ، أَوْ رَمْيِ يَوْمٍ، أَوْ حَصَاةٍ، أَوْ حَصَاتَيْنِ إِلَى آخَرِ مَا تَقَدَّمَ: فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فَمَالِكٌ مَثَلًا الْقَائِلُ: بِأَنَّ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ دَمًا يَقُولُ الْحَصَا الْوَاحِدَةُ دَاخِلَةٌ فِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، فَمَنَاطُ لُزُومِ الدَّمِ مُحَقَّقٌ فِيهَا، لِأَنَّهَا شَيْءٌ مِنْ نُسُكِهِ فَيَتَنَاوَلُهَا قَوْلُهُ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ إِلَخْ، لِأَنَّ لَفْظَةَ شَيْئًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَهِيَ صِيغَةُ عُمُومٍ، وَالَّذِينَ قَالُوا: لَا يَلْزَمُ فِي الْحَصَاةِ، وَالْحَصَاتَيْنِ دَمٌ، قَالُوا: الْحَصَاةُ، وَالْحَصَاتَانِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا نُسُكٌ، بَلْ هُمَا جُزْءٌ مِنْ نُسُكٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالُوا: لَا يَلْزَمُ فِي الْجَمْرَةِ الْوَاحِدَةِ دَمٌ، قَالُوا: رَمْيُ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ نُسُكٌ وَاحِدٌ فَمَنْ تَرَكَ جَمْرَةً فِي يَوْمٍ لَمْ يَتْرُكْ نُسُكًا، وَإِنَّمَا تَرَكَ بَعْضَ نُسُكٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالُوا: لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ قَالُوا: إِنَّ الْجَمِيعَ نُسُكٌ وَاحِدٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ رَاكِبًا إِنْ أَمْكَنَ، وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَاشِيًا فِي الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ إِلَّا الْيَوْمَ الْأَخِيرَ، فَيَرْمِي فِيهِ رَاكِبًا، وَيَنْفِرُ عَقِبَ الرَّمْيِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَرْمِيهِ كُلَّهُ رَاكِبًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ: هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَدْ رَمْى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ رَاكِبًا، وَرَمَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَاشِيًا ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: إِذَا عَجَزَ الْحَاجُّ عَنِ الرَّمْيِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ، هَلْ يُرْمَى عَنِ الصَّبِيِّ، وَالْمَرِيضِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَيَتَحَرَّى الْمَرِيضُ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ، فَيُكَبِّرُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، وَيُهَرِيقُ دَمًا، فَإِنْ صَحَّ الْمَرِيضُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: رَمَى الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ، وَأَهْدَى وُجُوبًا انْتَهَى مِنَ الْمُوَطَّإِ. أَمَّا الرَّمْيُ عَنِ الصِّبْيَانِ فَهُوَ كَالتَّلْبِيَةِ عَنْهُمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَنَا النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ، وَرِجَالُ إِسْنَادِ ابْنِ مَاجَهْ هَذَا ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ إِلَّا أَشْعَثَ، وَهُوَ ابْنُ سَوَّارٍ الْكِنْدِيُّ النَّجَّارُ الْكُوفِيُّ مَوْلَى ثَقِيفٍ فَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَمُسْلِمٌ إِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَهُوَ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِخْرَاجُ مُسْلِمٍ لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ. وَرَوَى الدَّوْرَقِيُّ، عَنْ يَحْيَى: أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَمْ أَجِدْ لِأَشْعَثَ مَتْنًا مُنْكَرًا، وَإِنَّمَا يَغْلَطُ فِي الْأَحَايِينِ فِي الْأَسَانِيدِ وَيُخَالِفُ. وَأَمَّا الرَّمْيُ عَنِ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ غَيْرَ الصِّغَرِ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنَ النَّقْلِ إِلَّا أَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِي الرَّمْيِ، هِيَ غَايَةُ مَا يُقَدَرُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَدِلُّ لِذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصِّبْيَانِ، بِجَامِعِ الْعَجْزِ فِي الْجَمِيعِ وَبَعْضُهُمْ يَقِيسُ الرَّمْيَ عَلَى أَصْلِ الْحَجِّ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الرَّمْيِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي أَصْلِ الْحَجِّ، قَالُوا: وَالرَّمْيُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ اهـ. تَنْبِيهٌ إِذَا رَمَى النَّائِبُ، عَنِ الْعَاجِزِ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُ الْمُسْتَنِيبِ، وَأَيَّامُ الرَّمْيِ بَاقِيَةٌ، فَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّهُ يَقْضِي كُلَّ مَا رَمَاهُ عَنْهُ النَّائِبُ، مَعَ لُزُومِ الدَّمِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا رَمَى عَنْهُ النَّائِبُ ; لِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، فَيَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ، وَلَكِنْ تُنْدَبُ إِعَادَتُهُ، وَهَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إِذَا زَالَ عُذْرُ الْمُسْتَنِيبِ وَأَيَّامُ الرَّمْيِ بَاقٍ بَعْضُهَا: أَنَّهُ يَرْمِي جَمِيعَ مَا رُمِيَ عَنْهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِنَابَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ لِضَرُورَةِ الْعُذْرِ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ وَالْوَقْتُ بَاقٍ بَعْضُهُ، فَعَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 أَنْ يُبَاشِرَ فِعْلَ الْعِبَادَةِ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَيَّامَ الرَّمْيِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَرْخِيصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي عَدَدِ الْحَصَيَاتِ الَّتِي تُرْمَى بِهَا كُلُّ جَمْرَةٍ أَنَّهَا سَبْعُ حَصَيَاتٍ، فَمَجْمُوعُ الْحَصَى سَبْعُونَ حَصَاةً سَبْعٌ مِنْهَا تُرْمَى بِهَا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالثَّلَاثُ وَالسِّتُّونَ الْبَاقِيَةُ تُفَرَّقُ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِحْدَى وَعِشْرُونَ حَصَاةً، لِكُلِّ جَمْرَةٍ سَبْعٌ. وَأَحْوَطُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ حَصَاةً وَاحِدَةً كَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجَمِيعِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ بِخَمْسٍ أَوْ سِتٍّ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَالْأَوْلَى أَلَّا يَنْقُصَ فِي الرَّمْيِ عَنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَإِنْ نَقَصَ حَصَاةً، أَوْ حَصَاتَيْنِ فَلَا بَأْسَ، وَلَا يَنْقُصُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ يَعْنِي أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَعَنْهُ: إِنْ رَمَى بِسِتٍّ نَاسِيًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدَهُ، فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي رَمَيْتُ بِسِتٍّ، أَوْ بِسَبْعٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ عَدَدَ السَّبْعِ شَرْطٌ، وَنَسَبَهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِسَبْعٍ. وَقَالَ أَبُو حَبَّةَ: لَا بَأْسَ بِمَا رَمَى بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْحَصَى، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: صَدَقَ أَبُو حَبَّةَ، وَكَانَ أَبُو حَبَّةَ بَدْرِيًّا. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: سُئِلَ طَاوُسٌ عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ حَصَاةً؟ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِتَمْرَةٍ أَوْ لُقْمَةٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ سَعْدٍ قَالَ سَعْدٌ: رَجَعْنَا مِنَ الْحَجَّةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسِتٍّ وَبَعْضُنَا يَقُولُ: بِسَبْعٍ، فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: سُئِلَ طَاوُسٌ إِلَخْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى، مِنْ طَرِيقِ الْفِرْيَابِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجِمَارَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ. مَعَ قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ ; لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ وَصِحَّتِهِ، وَلِأَنَّ مُقَابِلَهُ لَمْ يَقُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُقَارِبُ دَلِيلَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ مَا رَمَى يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُؤَيِّدُهُ. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ غَرَبَتْ شَمْسُ يَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ بِمِنًى لَزِمَ الْمُقَامَ بِمِنًى، حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَلَا يَنْفِرُ لَيْلًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلْيَقُمْ إِلَى الْغَدِ، حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ» . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لَيْلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ لَزِمَهُ الْبَقَاءُ، حَتَّى يَرْمِيَ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي حُجَّةُ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [2 \ 203] وَلَمْ يَقُلْ فِي يَوْمَيْنِ وَلَيْلَةٍ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ أَنَّ مَنْ نَفَرَ بِاللَّيْلِ فَقَدْ نَفَرَ فِي وَقْتٍ لَا يَجُبْ فِيهِ الرَّمْيُ، بَلْ لَا يَجُوزُ فَجَازَ لَهُ النَّفُرُ كَالنَّهَارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّيْلَةَ الَّتِي بَعْدَ الْيَوْمِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَابِعَةً لَهُ، فَيَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهَا كَالرَّمْيِ فِيهَا وَالنَّفْرِ فِيهَا إِنْ كَانَ يَجُوزُ فِي يَوْمِهَا. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَوِ ارْتَحَلَ مِنْ مِنًى فَغَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَهُوَ سَائِرٌ فِي مِنًى لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ، وَالرَّمْيُ، لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي مِنًى، فَلَمْ يَتَعَجَّلْ مِنْهَا فِي يَوْمَيْنِ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْقَائِلِ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي نَفْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ وَالرَّمْيُ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَيْضًا: أَنَّهُ لَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَهُوَ فِي شُغْلِ الِارْتِحَالِ أَنَّهُ يَبِيتُ، وَيَرْمِي خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ ; لِأَنَّهَا غَرَبَتْ، وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالرَّحِيلِ، وَهُمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ التَّعَجُّلَ جَائِزٌ، لِأَهْلِ مَكَّةَ فَهُمْ فِيهِ كَغَيْرِهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ، إِلَّا لِعُذْرٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [2 \ 203] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 وَهُوَ عُمُومٌ شَامِلٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّأَخُّرَ أَفْضَلُ مِنَ التَّعَجُّلِ ; لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يَتَعَجَّلْ. الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَبِيتِ فِي مِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ بَاتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْهَا أَوْ جُلَّ لَيْلَةٍ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مِنًى. لَزِمَهُ دَمٌ لِأَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ يَبْعَثُ رِجَالًا يُدْخِلُونَ النَّاسَ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَيْضًا، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ. اهـ مِنْهُ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى كَمَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا وَرَاءَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، مِمَّا يَلِي مَكَّةَ لَيْسَ مِنْ مِنًى، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ أَنَّ عَدَمَ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى مَكْرُوهٌ، وَلَوْ بَاتَ بِغَيْرِ مِنًى لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى لِأَجْلِ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَهُمْ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ أَنَّ فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى طَرِيقَتَيْنِ، أَصَحُّهُمَا، وَأَشْهَرُهُمَا فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنَّهُ سُنَّةٌ قَوْلًا وَاحِدًا فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَالدَّمُ وَاجِبٌ فِي تَرْكِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ سَنَةٌ، فَالدَّمُ سُنَّةٌ فِي تَرْكِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عِنْدَهُمُ الدَّمُ، إِلَّا فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ فِي اللَّيَالِي كُلِّهَا، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَأَنَّهَا نُسُكٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَرْكِ الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَهُمْ أَصَحُّهَا أَنَّ فِي تَرْكِ مَبِيتِ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مُدًّا، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ دِرْهَمًا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِيهِ ثُلُثَ دَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحُكْمُ اللَّيْلَتَيْنِ مَعْلُومٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى وَاجِبٌ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا فِي اللَّيَالِي الثَّلَاثِ. فَعَلَيْهِ دَمٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَعَنْهُ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ، وَعَنْهُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيهَا، فَفِيهِ مَا فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَا، قِيلَ: مُدٌّ، وَقِيلَ: دِرْهَمٌ، وَقِيلَ، ثُلُثُ دَمٍ. فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، يَدْخُلُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاتَ بِهَا اللَّيَالِيَ الْمَذْكُورَةَ، وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْ مَنَاسِكِنَا الْبَيْتُوتَةَ بِمِنًى اللَّيَالِيَ الْمَذْكُورَةَ. الثَّانِي: هُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: أَذِنَ لِلْعَبَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ حَدِيثِ التَّرْخِيصِ لِلْعَبَّاسِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ بِمِنًى وَأَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ; لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالرُّخْصَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُقَابِلَهَا عَزِيمَةٌ، وَأَنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ هِيَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا لَمْ يَحْصُلِ الْإِذْنُ وَبِالْوُجُوبِ قَالَ الْجُمْهُورُ: وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ سُنَّةٌ وَوُجُوبُ الدَّمِ بِتَرْكِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَبِيتُ إِلَّا بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْذِ الْوُجُوبِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: هَذَا يَدُلُّ لِمَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالثَّانِي: سُنَّةٌ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَمَنْ أَوْجَبَهُ أَوْجَبَ الدَّمَ فِي تَرْكِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: سُنَّةٌ ; لَمْ يَجِبِ الدَّمُ بِتَرْكِهِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْوُجُوبُ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِهِ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ التَّرْخِيصِ، وَإِنَّمَا فِيهَا التَّعْبِيرُ بِالْإِذْنِ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فِيهَا رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّعْبِيرُ بِالتَّرْخِيصِ: يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كَلَامِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ الْحُجَّاجَ مِنَ الْمَبِيتِ خَارِجَ مِنًى، وَيُرْسِلُ رِجَالًا يُدْخِلُونَهُمْ فِي مِنًى، وَهُوَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَالتَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لِعُذْرٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّرْخِيصُ لِلْعَبَّاسِ مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ، وَالتَّرْخِيصُ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي عَدَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 الْمَبِيتِ وَرَمْيِ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ. الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ: فِي حِكْمَةِ الرَّمْيِ. اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ حِكْمَةَ الرَّمْيِ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ، فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَذَكَرَهُ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ» ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا، وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ صَحِيحٌ إِلَّا عُبَيْدَ اللَّهِ فَضَعَّفَهُ أَكْثَرُهُمْ ضَعْفًا يَسِيرًا، وَلَمْ يُضَعِّفْ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُ كَمَا سَبَقَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا، وَقَالَ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَلَعَلَّهُ اعْتَضَدَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْمَذْكُورُ، هُوَ الْقَدَّاحُ أَبُو الْحُصَيْنِ الْمَكِّيُّ، وَقَدْ وَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ، وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ، وَحَدِيثُهُ هَذَا مَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [2 \ 203] لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ: رَمْيُ الْجِمَارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 203] ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ شُرِعَ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ إِجْمَالِيَّةٌ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَنَاسِكَ، عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فِي الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ تَتْبِعُونَ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنَ السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مَرْفُوعًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَذِكْرُ اللَّهِ الَّذِي يُشْرَعُ الرَّمْيُ لِإِقَامَتِهِ، هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِإِبْرَاهِيمَ فِي عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ، وَرَمْيِهِ، وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [60 \ 4] ، فَكَأَنَّ الرَّمْيَ رَمْزٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 قَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [35 \ 6] وَقَوْلِهِ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ وَالَاهُ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ الْآيَةَ [18 \ 50] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجْمَ بِالْحِجَارَةِ مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْعَدَاوَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فَرْعٌ فِي الْحِكْمَةِ فِي الرَّمْيِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَصْلُ الْعِبَادَةِ الطَّاعَةُ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ فَلَهَا مَعْنًى قَطْعًا ; لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْمُرُ بِالْعَبَثِ، ثُمَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ قَدْ يَفْهَمُهُ الْمُكَلَّفُ، وَقَدْ لَا يَفْهَمُهُ، فَالْحِكْمَةُ فِي الصَّلَاةِ: التَّوَاضُعُ، وَالْخُضُوعُ، وَإِظْهَارُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحِكْمَةُ فِي الصَّوْمِ كَسْرُ النَّفْسِ وَقَمْعُ الشَّهَوَاتِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الزَّكَاةِ: مُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِ، وَفِي الْحَجِّ: إِقْبَالُ الْعَبْدِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ إِلَى بَيْتٍ فَضَّلَهُ اللَّهُ كَإِقْبَالِ الْعَبْدِ إِلَى مَوْلَاهُ ذَلِيلًا. وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا: السَّعْيُ وَالرَّمْيُ، فَكَلَّفَ الْعَبْدَ بِهِمَا لِيَتِمَّ انْقِيَادُهُ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، وَلَا لِلْعَقْلِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَكَمَالُ الِانْقِيَادِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُخْتَصَرَةٌ تَعْرِفُ بِهَا الْحِكْمَةَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ السَّعْيِ وَالرَّمْيِ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى غَيْرُ صَحِيحٍ فِيمَا يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، بَلْ حِكْمَةُ الرَّمْيِ، وَالسَّعْيِ مَعْقُولَةٌ، وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ النُّصُوصِ عَلَى أَنَّهَا مَعْقُولَةٌ، أَمَّا حِكْمَةُ السَّعْيِ: فَقَدْ جَاءَ النَّصُّ الصَّحِيحُ بِبَيَانِهَا، وَذَلِكَ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قِصَّةِ تَرْكِ إِبْرَاهِيمَ هَاجَرَ، وَإِسْمَاعِيلَ فِي مَكَّةَ، وَأَنَّهُ وَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَذْكُورِ: «وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرْفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا» الْحَدِيثَ. وَهَذَا الطَّرَفُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ سُقْنَاهُ بِلَفْظِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَذَلِكَ سَعْيُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 النَّاسِ بَيْنَهُمَا» ، فِيهِ الْإِشَارَةُ الْكَافِيَةُ إِلَى حِكْمَةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ; لِأَنَّ هَاجَرَ سَعَتْ بَيْنَهُمَا السَّعْيَ الْمَذْكُورَ، وَهِيَ فِي أَشَدِّ حَاجَةٍ، وَأَعْظَمِ فَاقَةٍ إِلَى رَبِّهَا، لِأَنَّ ثَمَرَةَ كَبِدِهَا، وَهُوَ وَلَدُهَا إِسْمَاعِيلُ تَنْظُرُهُ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ فِي بَلَدٍ لَا مَاءَ فِيهِ، وَلَا أَنِيسَ، وَهِيَ أَيْضًا فِي جُوعٍ، وَعَطَشٍ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَارِ إِلَى خَالِقِهَا جَلَّ وَعَلَا، وَهِيَ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ تَصْعَدُ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ فَإِذَا لَمْ تَرَ شَيْئًا جَرَتْ إِلَى الثَّانِي فَصَعِدَتْ عَلَيْهِ لِتَرَى أَحَدًا، فَأُمِرَ النَّاسُ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ لَيَشْعُرُوا بِأَنَّ حَاجَتَهُمْ وَفَقْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ كَحَاجَةِ وَفَقْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الضَّيِّقِ، وَالْكَرْبِ الْعَظِيمِ إِلَى خَالِقِهَا وَرَازِقِهَا، وَلِيَتَذَكَّرُوا أَنَّ مَنْ كَانَ يُطِيعُ اللَّهَ كَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُضَيِّعُهُ، وَلَا يُخَيِّبُ دُعَاءَهُ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ظَاهِرَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ الْمَذْكُورِ حِكْمَةَ الرَّمْيِ أَيْضًا فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ حِكْمَةَ السَّعْيِ، وَالرَّمْيِ مَعْرُوفَةٌ ظَاهِرَةٌ خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ اعْلَمْ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ مِيقَاتٌ زَمَانِيٌّ: وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ الْآيَةَ [2 \ 197] ، وَهِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقِيلَ: وَذُو الْحِجَّةِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى فَوَاتِ الْحَجِّ بِعَدَمِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَمِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ، وَالْمَوَاقِيتُ الْمَكَانِيَّةُ خَمْسَةٌ ; أَرْبَعَةٌ مِنْهَا بِتَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَاحِدٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ وَقَّتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ وَقَّتَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَجْمَعُ عَلَى نَقْلِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ: ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْجُحْفَةُ وَهِيَ: مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَرْنُ الْمَنَازِلِ وَهُوَ: مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَلَمْلَمُ وَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ، أَخْرَجَ تَوْقِيتَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْأَرْبَعَةِ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ عَنْهُمْ إِلَّا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيتَ يَلَمْلَمَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ، بَلْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ، وَالِاحْتِجَاجُ بِمَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ مَعْرُوفٌ، أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوَاقِيتَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 فَتَحْصُلُ: أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَالْجُحْفَةَ، وَقَرْنَ الْمَنَازِلِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِ تَوْقِيتِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَنَّ يَلَمْلَمَ اتَّفَقَا أَيْضًا عَلَى إِخْرَاجِ تَوْقِيتِهِ عَنْهُمَا مَعًا، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنَ عُمَرَ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، وَذُو الْحُلَيْفَةِ هُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِآبَارِ عَلِيٍّ، وَقَرْنُ الْمَنَازِلِ هُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ: بِالسَّيْلِ. وَالْجُحْفَةُ خَرَابٌ الْآنَ، وَالنَّاسُ يُحْرِمُونَ مِنْ رَابِغٍ، وَهُوَ قَبْلَهَا بِقَلِيلٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ قَدِيمًا، وَفِيهِ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ: وَلَمَّا أَجَزْنَا الْمِيلَ مِنْ بَطْنِ رَابِغٍ ... بَدَتْ نَارُهَا قَمْرَاءَ لِلْمُتَنَوِّرِ وَأَمَّا الْمِيقَاتُ الْخَامِسُ الَّذِي اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، هَلْ وَقَّتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ وَقَّتَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ: ذَاتُ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَوْقِيتُ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بِتَوْقِيتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: كَوْنُ تَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ، لَيْسَ مَنْصُوصًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ بِتَوْقِيتِ عُمَرَ، هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَالرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ، وَصَحَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَنَّهُ مَنْصُوصٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى مِيقَاتِ ذَاتِ عِرْقٍ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ صَارَتْ مِيقَاتُهُمْ بِتَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: بِتَوْقِيتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ مِنَ السَّلَفِ، طَاوُسٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ: عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرُهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا عَرَفْتَ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَنْ وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ: أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ بِاجْتِهَادٍ مِنْ عُمَرَ فَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ اهـ مِنْهُ. قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَوْقِيتَ ذَاتِ عِرْقٍ بِاجْتِهَادٍ مَنْ عُمَرَ، وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَيْضًا آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ بِتَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يُسْأَلُ عَنِ الْمُهَلِّ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ. وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ: مَنْ يَلَمْلَمَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْجَزْمُ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ بِمُجَرَّدِ هَذَا، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْخُوزِيِّ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ شَكٍّ، لَكِنَّ الْخُوزِيَّ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلَا شَكٍّ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَنْكَرَ عَلَى أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ رِوَايَتَهُ هَذِهِ، وَانْفِرَادَهُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ ثِقَةٌ، وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَعَطَاءٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الِاحْتِجَاجُ بِمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، إِذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: مِنْهَا: أَنْ يَقُولَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، أَوْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا قَدِ اتَّفَقَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَوَاهُ مُرْسَلًا، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَغَيْرِهِ مُتَّصِلًا، وَالْحَجَّاجُ ظَاهِرُ الضَّعْفِ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَقَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ: وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي أَسَانِيدِهِمْ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 جَابِرٍ. وَحَجَّاجٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَنَّ أَحْمَدَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي الرَّفْعِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ وَقَّتَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا هُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَمِنْهَا: مَا فِي إِسْنَادِهِ كَلَامٌ، وَبَعْضُهَا يُقَوِّي بَعْضًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ بَهْرَامَ الْمَدَائِنِيُّ، ثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ أَفْلَحَ يَعْنِي: ابْنَ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» انْتَهَى مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى هِشَامُ بْنُ بَهْرَامَ الْمَدَائِنِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّانِيَةَ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ الْأَزْدِيُّ الْفَهْمِيُّ أَبُو مَسْعُودٍ الْمَوْصِلِيُّ، وَهُوَ ثِقَةُ عَابِدٌ فَقِيهٌ. وَطَبَقَتَهُ الثَّالِثَةَ أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ الْمَدَنِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ صُغَيْرَاءَ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الرَّابِعَةَ، وَالْخَامِسَةَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَهَذَا إِسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثْنَا أَبُو هَاشِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْمُعَافَى، عَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ: الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ: ذَاتَ عِرْقٍ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنًا، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ» ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ ; وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّانِيَةَ هِيَ أَبُو هَاشِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ عَابِدٌ، وَبَاقِي الْإِسْنَادِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ الْآنَ فِي إِسْنَادِ أَبِي دَاوُدَ، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ الْآنَ، فَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَمَتْنِهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِتَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَضْعِيفَ مَنْ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْكَرَ عَلَى أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ ذِكْرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِذَاتِ عِرْقٍ، وَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُسْلِمٍ لِأَنَّ أَفْلَحَ بْنَ حُمَيْدٍ ثِقَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يَضُرُّهُ انْفِرَادُ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ أَيْضًا لِأَنَّهُ ثِقَةٌ، وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ غَرِيبٍ انْفَرَدَ بِهِ ثِقَةٌ، عَنْ ثِقَةٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ، وَعِلْمِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ فِي تَرْجَمَةِ أَفْلَحَ بْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 حُمَيْدٍ الْمَذْكُورِ: وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ صَاعِدٍ: كَانَ أَحْمَدُ يُنْكِرُ عَلَى أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ قَوْلَهُ: وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ: هُوَ عِنْدِي صَالِحٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ أَفْلَحَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ: هُوَ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى كَلَامُ الذَّهَبِيُّ. وَتَرَاهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ لَهُ شَوَاهِدُ مُتَعَدِّدَةٌ. مِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْزِمْ فِيهِ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحْسَبُهُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظَنٌّ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ جَابِرًا رَفَعَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا الظَّنُّ يُقَوِّي الرِّوَايَاتِ، الَّتِي فِيهَا الْجَزْمُ بِالرَّفْعِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنِي زُرَارَةُ بْنُ كَرِيمٍ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو السَّهْمِيَّ، حَدَّثَهُ: قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمِنًى أَوْ بِعَرَفَاتٍ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ النَّاسُ قَالَ: فَتَجِيءُ الْأَعْرَابُ، فَإِذَا رَأَوْا وَجْهَهُ قَالُوا: هَذَا وَجْهٌ مُبَارَكٌ، قَالَ: وَوَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ ; لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُقْعَدُ التَّمِيمِيُّ الْمِنْقَرِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ رُمِيَ بِالْقَدَرِ، وَطَبَقَتَهُ الثَّانِيَةَ: عَبْدُ الْوَارِثِ وَهُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ ذَكْوَانَ الْعَنْبَرِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ التَّنُّورِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ رُمِيَ بِالْقَدَرِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ، وَطَبَقَتَهُ الثَّالِثَةَ: عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ السَّهْمِيُّ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ. ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَطَبَقَتَهُ الرَّابِعَةَ: زُرَارَةُ بْنُ كَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيُّ، وَهُوَ لَهُ رُؤْيَةٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَطَبَقَتَهُ الْخَامِسَةَ: الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو السَّهْمِيُّ الْبَاهِلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ صَحَابِيٌّ، فَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ صَالِحٌ لِأَنْ يَعْتَضِدَ بِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا: أَنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَكَتَ أَبُو دَاوُدَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ إِذَا سَكَتَ عَلَى حَدِيثٍ، فَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ عِنْدَهُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ فِي تَرْجَمَةِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَرَ، وَالْمَذْكُورُ: أَنَّ حَدِيثَهُ هَذَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَمْ يُتَعَقَّبْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ زُرَارَةَ بْنِ كَرِيمٍ بِالسَّنَدِ الَّذِي رَوَاهُ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِشَيْءٍ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 مَسَانِيدِهِمْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ: عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ: لِأَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي الرَّفْعِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ، وَالزَّيْلَعِيِّ، وَابْنِ حَجَرٍ: أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ابْنَ لَهِيعَةَ، وَالْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ مُعْتَبَرٌ بِهَا صَالِحَةٌ لِاعْتِضَادِ غَيْرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ، وَقَالَ: اكْتُبُوا حَدِيثَ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَابْنِ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُمَا حَافِظَانِ. وَقَالَ فِيهِ الثَّوْرِيُّ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْرَفُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ مِنْهُ، وَقَالَ فِيهِ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ أَقْهَرَ عِنْدَنَا لِحَدِيثِهِ مِنْ سُفْيَانَ. وَقَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: هُوَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ عَلَى لِينٍ فِي حَدِيثِهِ. وَقَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا نُقِمَ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ، وَفِيهِ تِيهٌ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَإِ وَالتَّدْلِيسِ اهـ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَلَا شَكَّ فِي الِاعْتِبَارِ بِرِوَايَتِهِ، وَصَلَاحِهَا لِتَقْوِيَةِ غَيْرِهَا، وَابْنُ لَهِيعَةَ لَا شَكَّ فِي أَنَّ رِوَايَتَهُ تُعَضِّدُ غَيْرَهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَرِوَايَةُ الْحَجَّاجِ، وَابْنِ لَهِيعَةَ عَاضِدَةٌ لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ. وَمِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ عَطَاءٌ مُرْسَلًا كَمَا قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَمُرْسَلُ عَطَاءٍ هَذَا فِي تَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ مُحْتَجٌّ بِهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. أَمَّا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، فَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ: أَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُرْسَلِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ إِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمُرْسَلُ عَطَاءٍ هَذَا أَجْمَعَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ الصَّحَابَةُ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَاضِدَةِ، لِأَنَّ تَوْقِيتَ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي بَعْدَ أَنْ سَاقَ بَعْضَ طُرُقِ حَدِيثِ تَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، فَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَرَأَى ضَعْفَ الْحَدِيثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ لَا يَخْلُو مِنْ مَقَالٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ، وَلَا يَضُرُّهَا انْفِرَادُ بَعْضِ الثِّقَاتِ بِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ: هُوَ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْقِيتَ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ بِاجْتِهَادٍ مِنْ عُمَرَ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوصٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ، فَاجْتَهَدَ فَوَافَقَ اجْتِهَادُهُ تَوْقِيتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ وَافَقَهُ الْوَحْيُ فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مِنْهَا لَا شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا، وَلَا عَادَةً. وَأَمَّا إِعْلَالُ بَعْضِهِمْ حَدِيثَ ذَاتِ عِرْقٍ، بِأَنَّ الْعِرَاقَ لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هِيَ غَفْلَةٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ النَّوَاحِي قَبْلَ الْفُتُوحِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا سَتُفْتَحُ، فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَوَاقِيتَ الْخَمْسَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا مَوَاقِيتُ أَيْضًا لِكُلِّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَهُوَ يُرِيدُ النُّسُكَ حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَفِي لَفْظِ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ مَوْضِعِ سُكْنَاهُ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا: «فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ» ، وَفِي لَفْظٍ: «وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ» ، كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَاللَّفْظَانِ الْأَخِيرَانِ مِنْهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ، يُهِلُّونَ مِنْهَا» ، وَفِي لَفْظٍ: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ» ، وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَكِّيَّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 مَوْضِعٍ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَوْ خَارِجًا عَنْ مَكَّةَ وَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ الصَّرِيحِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا إِهْلَالُ الْمَكِّيِّ بِالْعُمْرَةِ، فَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ، وَيُحْرِمُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ. قَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ: الْوَقْتُ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْحَرَمُ فِي الْحَجِّ، وَالْحِلُّ فِي الْعُمْرَةِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي فِي الْكَلَامِ عَلَى مِيقَاتِ الْمَكِّيِّ: وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِنَ الْحِلِّ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى مِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ: وَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا جَعَلَ مَكَّةَ مِيقَاتًا لِلْعُمْرَةِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يَرَى إِحْرَامَهُمْ مِنْ مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ، حَيْثُ قَالَ: بَابُ مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ عِنْدَهُ مِنْهُ الْمُطْلَقُ لِلتَّرْجَمَةِ هِيَ قَوْلُهُ: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» فَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: بَابُ مُهَلُّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِيرَادُهُ لِذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ كَلَامِهِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ دَلِيلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عُمُومُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. الَّذِي فِيهِ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ بِلَفْظِهِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُ الْعُمْرَةِ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ، وَهُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَاسْتَدَلُّوا بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ بِعَائِشَةَ فِي عُمْرَتِهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى التَّنْعِيمِ، وَهُوَ أَدْنَى الْحِلِّ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْإِهْلَالُ مِنْ مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ سَائِغًا لَأَمَرَهَا بِالْإِهْلَالِ مِنْ مَكَّةَ، وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ عَائِشَةَ آفَاقِيَّةٌ وَالْكَلَامُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ لَا فِي الْآفَاقِيِّينَ، وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْحَدِيثَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 الصَّحِيحَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ مَرَّ بِمِيقَاتٍ لِغَيْرِهِ كَانَ مِيقَاتًا لَهُ، فَيَكُونُ مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عُمْرَتِهِمْ هُوَ مِيقَاتُ عَائِشَةَ فِي عُمْرَتِهَا ; لِأَنَّهَا صَارَتْ مَعَهُمْ عِنْدَ مِيقَاتِهِمْ. الدَّلِيلُ الثَّانِي: هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَنَوْعُ الِاسْتِقْرَاءِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَأَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ الَّذِي لَيْسَ بِتَامٍّ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِإِلْحَاقِ الْفَرْدِ بِالْأَغْلَبِ فَهُوَ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ. وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ الْمَذْكُورُ هُوَ: أَنْ تُتْبَعَ الْأَفْرَادُ، فَيُؤْخَذُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْهَا، مَا عَدَا الصُّورَةَ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الصُّورَةَ الْمُتَنَازَعَ فِيهَا حُكْمُهَا حُكْمُ الصُّوَرِ الْأُخْرَى الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلَّ نِزَاعٍ. وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ أَعْنِي تَتَبُّعَ أَفْرَادِ النُّسُكِ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ مِنْ حَجٍّ، أَوْ قِرَانٍ، أَوْ عُمْرَةٍ غَيْرَ صُورَةِ النِّزَاعِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، حَتَّى يَكُونَ صَاحِبُ النُّسُكِ زَائِرًا قَادِمًا عَلَى الْبَيْتِ مِنْ خَارِجٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ الْآيَةَ [22 \ 27] . فَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَوِ الْقِرَانِ مِنْ مَكَّةَ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَاتٍ: وَهِيَ فِي الْحِلِّ، وَالْآفَاقِيُّونَ يَأْتُونَ مِنَ الْحِلِّ لِحَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ، فَجَمِيعُ صُوَرِ النُّسُكِ غَيْرَ صُورَةِ النِّزَاعِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَيُعْلَمُ بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ أَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْجَمْعِ أَيْضًا بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَإِلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْجُزْئِيِّ ... عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْكُلِّيِّ فَإِنْ يَعُمَّ غَيْرَ ذِي الشِّقَاقِ ... فَهْوَ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ إِلَخْ وَقَوْلُهُ: فَإِنْ يَعُمَّ. . . الْبَيْتَ: يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ إِذَا عَمَّ الصُّوَرَ كُلَّهَا غَيْرَ صُورَةِ النِّزَاعِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ بِلَا خِلَافٍ، وَالشِّقَاقُ الْخِلَافُ. فَقَوْلُهُ: غَيْرَ ذِي الشِّقَاقِ؛ أَيْ: غَيْرَ مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ لَهُمُ التَّمَتُّعُ، وَلَا الْقِرَانُ، فَالْعُمْرَةُ فِي التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَإِنَّمَا لَهُمْ أَنْ يَحُجُّوا بِلَا خِلَافٍ وَالْعُمْرَةُ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ تَمَتُّعٍ، وَلَا قِرَانٍ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُلِّ مَنْ لَا يَرَوْنَ عُمْرَةَ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَمِمَّنْ قَالَ: لَا تَمَتُّعَ، وَلَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَنَقَلَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ رَأْيُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي صَحِيحِهِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي أَهْلِ مَكَّةَ هَلْ لَهُمْ تَمَتُّعٌ، أَوْ قِرَانٌ، أَوْ لَا؟ هُوَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 فِي مَرْجِعِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَالَّذِينَ قَالُوا: لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ، وَقِرَانٌ كَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْهَدْيِ، وَالصَّوْمِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذَا تَمَتَّعَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلَا صَوْمَ، وَالَّذِينَ قَالُوا: لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، قَالُوا: الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ [2 \ 196] ؛ أَيْ: ذَلِكَ التَّمَتُّعُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا تَمَتُّعَ لَهُ، وَالْقِرَانُ دَاخِلٌ فِي اسْمِ التَّمَتُّعِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ زَعَمُوا أَنَّ فِي الْآيَةِ بَعْضَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، مِنْهَا التَّعْبِيرُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ الْآيَةَ ; لِأَنَّ اللَّامَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَنَا لَا فِيمَا عَلَيْنَا، وَالتَّمَتُّعُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ، وَأَنْ لَا نَفْعَلَهُ بِخِلَافِ الْهَدْيِ، فَهُوَ عَلَيْنَا وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْهَدْيِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْإِشَارَةِ بَيْنَ اللَّامِ وَالْكَافِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْبُعْدِ وَالتَّمَتُّعُ أَبْعَدُ فِي الذِّكْرِ مِنَ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ: بِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْهَدْيُ، وَالصَّوْمُ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْقَرِيبِ إِشَارَةُ الْبَعِيدِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مُعْمَرَ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ذَلِكَ الْكِتَابُ [2] ؛ أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ. لِأَنَّ الْكِتَابَ قَرِيبٌ، وَلِذَا تَكْثُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِإِشَارَةِ الْقَرِيبِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَقَوْلِهِ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ الْآيَةَ [65 \ 92] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ عَلَى الْقَرِيبِ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ: فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكًا أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحَ يَأْطِرُ مَتْنُهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا فَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَفْسِهِ إِشَارَةَ الْبَعِيدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ نَفْسِهِ قَالُوا: وَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [7 \ 17] ؛ أَيْ: فَعَلَيْهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ [17 \ 109] ؛ أَيْ: عَلَى الْأَذْقَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْهَدْيِ وَالصَّوْمِ مَشْرُوعٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَقْرَبُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا، وَيَقْرِنُوا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ هَدْيٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الْآيَةَ [2 \ 196] عَامٌّ بِلَفْظِهِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِمُخَصَّصٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ; لِاحْتِمَالِ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ، لَا إِلَى التَّمَتُّعِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، وَأَنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِرْسَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ أَخِيهَا لِتُحْرِمَ بِعُمْرَتِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَهُوَ نَصٌّ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ أَرْسَلَهَا مَعَ أَخِيهَا لِتِلْكَ الْعُمْرَةِ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُهَا بِعُمْرَةٍ، وَهِيَ نُسُكٌ وَعِبَادَةٌ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لِعَامَّةِ النَّاسِ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، فَعُمْرَتُهَا الْمَذْكُورَةُ نُسُكٌ قَطْعًا، وَالْحَالَةُ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَدَاءِ ذَلِكَ النُّسُكِ عَلَيْهَا لَا شَكَّ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا فِيمَا قَامَ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بِالْخُصُوصِ، وَقِصَّةُ عُمْرَةِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ سَلَكَ إِلَى الْحَرَمِ طَرِيقًا لَا مِيقَاتَ فِيهَا فَمِيقَاتُهُ الْمَحَلُّ الْمُحَاذِي، لِأَقْرَبِ الْمَوَاقِيتِ إِلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ تَوْقِيتِ عُمَرَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ لِمُحَاذَاتِهَا قَرْنَ الْمَنَازِلِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ النَّسَائِيِّ أَنَّ الْجُحْفَةَ مِيقَاتٌ لِأَهْلِ مِصْرَ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَعَلَيْهِ فَمِيقَاتُ أَهْلِ مِصْرَ مَنْصُوصٌ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ، وَمِصْرَ مَثَلًا إِذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَمِيقَاتُهُمْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا إِحْرَامَهُمْ إِلَى مِيقَاتِهِمُ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ الْجُحْفَةُ، أَوْ مَا حَاذَاهَا. لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ. وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاوَزَ مِيقَاتَهُ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهُوَ يُرِيدُ النُّسُكَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، وَدَلِيلُهُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا: «مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا» ، قَالُوا: وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهُوَ يُرِيدُ النُّسُكَ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، وَهُوَ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ إِنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَهُوَ لَمْ يُحْرِمْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْ إِحْرَامَهُ إِلَّا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَأَنَّهُ إِنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَأَحْرَمَ فِي حَالِ مُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا لِإِحْرَامِهِ بَعْدَ الْمِيقَاتِ، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ إِحْرَامِهِ مُجَاوِزًا لِلْمِيقَاتِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِمَّنْ أَرَادَ النُّسُكَ، وَمَفْهُومُهُ صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَمُرَّ إِنْسَانٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ، وَلَا دُخُولَ مَكَّةَ أَصْلًا كَالَّذِي يَمُرُّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَاصِدًا الشَّامَ أَوْ نَجْدًا مَثَلًا وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا الْإِحْرَامُ، وَأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: مِمَّنْ أَرَادَ النُّسُكَ دَالًا عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْرَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَالثَّانِيَةُ: هِيَ أَنْ يَمُرَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أُخْرَى. وَهَذِهِ الصُّورَةُ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ النُّسُكِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا كَانَ دُخُولُهُ مَكَّةَ لِغَرَضٍ غَيْرِ النُّسُكِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: فِي بَابِ دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا. فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَفِيمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ دُخُولُهَا خِلَافٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: الْوُجُوبُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِثْنَاءِ ذَوِي الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَكْثَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ: أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَإِذَا عَلِمْتَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِلَّا لِلْمُتَرَدِّدِينَ عَلَيْهَا كَثِيرًا كَالْحَطَّابِينَ، وَذَوِي الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ مَنْ نَذَرَ دُخُولَ مَكَّةَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ. قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَجِبْ بِنَذْرِ الدُّخُولِ كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، ثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا يَدْخُلُ مَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا إِلَّا بِإِحْرَامٍ، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا. انْتَهَى مِنَ الْبَيْهَقِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إِلَّا مُحْرِمًا. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِلَّا الْحَطَّابِينَ، وَالْعَمَّالِينَ، وَأَصْحَابَ مَنَافِعِهَا. وَفِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو فِيهِ ضَعْفٌ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ: أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عَبَّاسٍ يَرُدُّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ. اهـ مِنْهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ دُخُولَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ اللَّازِمِ لَهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِلَا إِحْرَامٍ لِمَنْ لَمْ يُرِدْ نُسُكًا، فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ: بَابُ دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِهْلَالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَطَّابِينَ وَغَيْرَهُمْ. ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمَذْكُورَ سَابِقًا وَفِيهِ: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» الْحَدِيثَ، وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ الْحَجَّ، وَالْعُمْرَةَ لَا إِحْرَامَ عَلَيْهِ، وَلَوْ دَخَلَ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ خَصَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 الْإِحْرَامَ بِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ إِلَى مَكَّةَ لِغَيْرِ قَصْدِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ» انْتَهَى مِنْهُ، فَقَوْلُ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَزَادَ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ الدُّهْنِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ» وَقَالَ قُتَيْبَةُ: «دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ» وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَلَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى الْمِنْبَرِ. انْتَهَى مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، وَفِي بَعْضِهَا: أَنَّهُ دَخَلَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ جَمَعُوا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَوَّلَ دُخُولِهِ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْعِمَامَةُ بَعْدَ إِزَالَةِ الْمِغْفَرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: خَطَبَ النَّاسَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ ; لِأَنَّ الْخُطْبَةَ إِنَّمَا كَانَتْ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ تَمَامِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَجَمَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ كَانَتْ مَلْفُوفَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِغْفَرِ وِقَايَةً لِرَأْسِهِ مِنْ صَدَإِ الْحَدِيدِ، فَأَرَادَ أَنَسٌ بِذِكْرِ الْمِغْفَرِ كَوْنَهُ دَخَلَ مُتَهَيِّئًا لِلْحَرْبِ، وَأَرَادَ جَابِرٌ بِذِكْرِ الْعِمَامَةِ كَوْنَهُ دَخَلَ غَيْرَ مُحْرِمٍ انْتَهَى مَحَلُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 الْغَرَضِ مِنْهُ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: (وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ) وَصَلَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِقُدَيْدٍ - يَعْنِي بِضَمِّ الْقَافِ - جَاءَهُ خَبَرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَرَجَعَ، فَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ اهـ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ فِي جَامِعِ الْحَجِّ بِلَفْظِ: جَاءَهُ خَبَرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ يَدُلُّ عَنِ الْفِتْنَةِ، وَبَاقِي اللَّفْظِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا: أَنَّ مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ لِغَرَضٍ غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ، وَلَوْ أَحْرَمَ كَانَ خَيْرًا لَهُ ; لِأَنَّ أَدِلَّةَ هَذَا الْقَوْلِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: خَصَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْرَامَ بِمَنْ أَرَادَ النُّسُكَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدْ نُسُكًا فَلَا إِحْرَامَ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ بِدُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَدُخُولِ ابْنِ عُمَرَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ دُخُولَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ لَا تَنْهَضُ بِهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْتَصُّ حُكْمُهُ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ بِأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَتَقْرِيرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: فِي حُكْمِ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنِ الْمِيقَاتِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ عَنِ الْمِيقَاتِ مِمَّنْ يُرِيدُ حَجًّا، أَوْ عُمْرَةً، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلِيلَهُ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَهَّلَ مِنَ الْفُرْعِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفُرْعَ وَرَاءَ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي هُوَ ذُو الْحُلَيْفَةِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، عَلَى أَنَّهُ وَصَلَ الْفُرْعَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ فَطَرَأَتْ عَلَيْهِ نِيَّةُ النُّسُكِ بِالْفُرُعِ، فَأَهَّلَ مِنْهُ، وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِمَّنْ رَوَى الْمَوَاقِيتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْإِحْرَامُ مِنْ مَوْضِعٍ فَوْقَ الْمِيقَاتِ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِهِ وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، أَوِ الْإِحْرَامُ مِنْ بَلَدِهِ إِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الْمِيقَاتِ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ السَّلَفِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 وَالْخَلْفِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَمِمَّا فَوْقَهُ. وَحَكَى الْعَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِمَّا فَوْقَ الْمِيقَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِمَّا قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَيُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ فِي حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي هُوَ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَحْرَمَ مَعَهُ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ بَعْدَهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلُ الْفَضْلِ فَتَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْرَامَ فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَإِحْرَامُهُ مِنَ الْمِيقَاتِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، لَا مِمَّا فَوْقَهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: يَكُونُ الْإِحْرَامُ مِمَّا فَوْقَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُحَنَّسَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْأَخْنَسِيِّ، عَنْ جَدَّتِهِ حُكَيْمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ أَيَّتَهُمَا قَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: يَرْحَمُ اللَّهُ وَكِيعًا أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَعْنِي إِلَى مَكَّةَ. انْتَهَى مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا بِتَفْسِيرِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِقَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] قَالَا: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَهَلَّ مِنْ إِيلِيَاءَ. وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَرَدَّ الْمُخَالِفُونَ اسْتِدْلَالَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَآخَرُونَ وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَبِأَنَّ تَفْسِيرَ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلْآيَةِ، وَفِعْلَ ابْنِ عُمَرَ كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَفْعَالَهُ فِي حَجَّتِهِ تَفْسِيرٌ لِآيَاتِ الْحَجِّ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَإِحْرَامُهُ مِنَ الْمِيقَاتِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا هُو الْاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ فِيهِ فَضْلٌ لَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ لِبَيَانِ جَوَازِهِ. فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ الْجَوَازَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُهَلَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» . الثَّانِي: أَنَّ بَيَانَ الْجَوَازِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ فِعْلُهُ، فَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ يَسِيرَةً عَلَى أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ بَيَانًا لِلْجَوَازِ وَيُدَاوِمُ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَدَاوَمَ عَلَى الثَّلَاثِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَ الْجَوَازِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ اشْتُهِرَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ بِحَيْثُ يَخَافُ أَنْ يُظَنَّ وُجُوبُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ دَلِيلٍ صَرِيحٍ صَحِيحٍ فِي مُقَابَلَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَإِنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ إِسْنَادَهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِسْنَادَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ. الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ الْإِحْرَامِ مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ فِيهِ فَضِيلَةٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً هِيَ تَبْيِينُ قَدْرِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَكَرِّرِ فِي حَجَّتِهِ، وَعُمْرَتِهِ، فَكَانَ فِعْلُهُ الْمُتَكَرِّرُ أَفْضَلَ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ جَاءَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ; لِأَنَّ لَهُ مَزَايَا عَدِيدَةً مَعْرُوفَةً، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَلَا شَكَّ: أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ ; إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَتَفْضِيلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ كَانَ فَضْلُ الْمَكَانِ سَبَبًا لِلْإِحْرَامِ فِيهِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ لَأَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ، وَأَكْمَلُ مِنْ غَيْرِهِ. الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: فِي حُكْمِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَى مِيقَاتِهِ الزَّمَانِيِّ، الَّذِي هُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا. اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَتْ: لَا يُعْتَقَدُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَكْثَرُ مَنْ قَالَ بِهَذَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ لَا حَجٍّ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَحْمَدَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَنْعَقِدُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالُكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ قَالُوا: فَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [2 \ 189] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ; وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي إِفْسَادِهَا، فَلَمْ تُخَصَّ بِوَقْتٍ كَالْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يَصِحُّ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُ الْأَفْعَالِ فِيهِ ; وَهُوَ شَوَّالٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِزَمَانٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ ضَرْبَانِ تَوْقِيتُ مَكَانٍ وَزَمَانٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ إِحْرَامُهُ عَلَى مِيقَاتِ الْمَكَانِ صَحَّ، فَكَذَا الزَّمَانُ قَالُوا: وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ لَكِنِ اخْتَلَفْنَا، هَلْ يَنْعَقِدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً؟ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا لَمَا انْعَقَدَ عُمْرَةً. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمِنَ الْعَجِيبِ عِنْدِي أَنْ يَسْتَدِلَّ عَالِمٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّ آيَةَ: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ لَيْسَ مَعْنَاهَا: أَنَّ كُلَّ شَهْرٍ مِنْهَا مِيقَاتٌ لِلْحَجِّ، وَلَكِنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ إِنَّمَا تُعْلَمُ بِحِسَابِ جَمِيعِ الْأَشْهُرِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ وَقْتُ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الَّتِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي مُقَابَلَةِ آيَةٍ مُحْكَمَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ صَرِيحَةٍ فِي تَوْقِيتِ الْحَجِّ بِأَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [2 \ 197] فَتَجَاهُلُ هَذَا النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ، وَمُعَارَضَتُهُ بِمَا رَأَيْتَ مِنَ الْغَرَائِبِ كَمَا تَرَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَجَّ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ زَمَنِهِ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ لَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَانْقِلَابُ إِحْرَامِهِ عُمْرَةً لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ الْمُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا هَدْيًا أَنْ يَقْلِبُوا حَجَّهُمُ الَّذِي أَحْرَمُوا بِهِ عُمْرَةً، وَبِأَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ لِلْحَجِّ بِعُمْرَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي بَيَانِ أَوَّلِ وَقْتِهَا وَوَقْتِ انْتِهَائِهَا وَفِي حُكْمِهَا وَكَيْفِيَّةِ لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا: أَمَّا لَفْظُهَا: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ، إِذَا أَهَلَّ مُحْرِمًا " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ " وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةُ إِلَى قَوْلِهِ: " إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ " وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى لَفْظِ التَّلْبِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ بِأَلْفَاظٍ فِيهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ، وَدُعَاؤُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَكَرِهَ بَعْضُهُمُ: الزِّيَادَةَ، عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ". وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاقْتِصَارُ عَلَى لَفْظِ تَلْبِيَتِهِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ لَا بَأْسَ بِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَهُ بِلَفْظِ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَذْكُورَةِ قَالَ: قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، وَالْعَمَلُ. وَقَالَ مُسْلِمٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَهُ، بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ سَالِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُهِلُّ بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ.، اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَعُرِفَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِأَبِيهِ، اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ فِيهَا مَحْذُورٌ، لَمَا فَعَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا نَصُّهُ: فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ "، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى تَلْبِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِهَا: فَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ: أَنَّهُ أَوَّلُ الْوَقْتِ، الَّذِي يَرْكَبُ فِيهِ مَرْكُوبَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قَالَ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمًا. بَابُ الْإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ، حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ. تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ فِي الْغُسْلِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ، لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ الْحُلَيْفَةِ، فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً وَاضِحَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، مِنْ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْإِحْرَامِ عِنْدَمَا يَرْكَبُ حَالَةَ شُرُوعِهِ فِي السَّيْرِ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي: ذَا الْحُلَيْفَةِ. وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِذَا قِيلَ لَهُ: الْإِحْرَامُ مِنَ الْبَيْدَاءِ قَالَ: الْبَيْدَاءُ الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ، حِينَ قَامَ بِهِ بِعِيرُهُ. وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهُ أَلْفَاظٌ أُخْرَى مُتَعَدِّدَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِكَذِبِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِحْرَامِ مِنَ الْبَيْدَاءِ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِلَفْظِ: فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. الْحَدِيثَ، وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِلَفْظِ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا، حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ: حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ، وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، الْحَدِيثَ. وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ مُحْرِمًا حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً مِنْ مَنْزِلِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْبَيْدَاءَ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَدَأَ إِهْلَالَهُ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً فَسَمِعَهُ قَوْمٌ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَعَادَ تَلْبِيَتَهُ فَسَمِعَهُ آخَرُونَ لَمْ يَسْمَعُوا تَلْبِيَتَهُ الْأُولَى فَحَدَّثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا سَمِعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَحْرَمَ فِي مُصَلَّاهُ فَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ عُمَرَ، حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَجَزْمُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَا أَهَلَّ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُهِلَّ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ، فَالْأَحَادِيثُ مُتَّفِقَةٌ وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ خَاصٌّ بِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 لَمْ يُلَبِّ قَبْلَ وُصُولِهِ الْبَيْدَاءَ، وَهَذَا الْجَمْعُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": فَائِدَةُ الْبَيْدَاءِ هَذِهِ فَوْقَ عَلَمَيْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، لِمَنْ صَعِدَ مِنَ الْوَادِي، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ وَغَيْرُهُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَوَّلَ وَقْتِ التَّلْبِيَةِ، وَأَنَّهُ وَقْتُ انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ: أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَشْرَعَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حَتَّى يَنْتَهِيَ رَمْيُهُ إِيَّاهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، فَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ، هُوَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الرَّمْيِ ; لِأَنَّ بُلُوغَ الْجَمْرَةِ هُوَ وَقْتُ الشُّرُوعِ فِي الرَّمْيِ. وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْفَضْلِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ " وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ " هُوَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: يُلَبِّي حَتَّى يَنْتَهِيَ رَمْيُهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَنَحْنُ بِجَمْعٍ سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ " الْبَقَرَةِ "، يَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " وَجَمْعٌ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَةَ، وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَسِيَ النَّاسُ أَمْ ضَلُّوا سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ " الْبَقَرَةِ " يَقُولُ فِي هَذَا الْمَكَانِ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَا: سَمِعْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ بِجَمْعٍ: سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ " الْبَقَرَةِ " هَاهُنَا يَقُولُ " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " ثُمَّ لَبَّى وَلَبَّيْنَا مَعَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ، تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي رَمْيِ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ: حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، يُرَادُ بِهِ الشُّرُوعُ فِي رَمْيِهَا، لَا الِانْتِهَاءُ مِنْهُ. وَمِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ: مَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مِنَ التَّكْبِيرِ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَظَرْفُ الرَّمْيِ لَا يَسْتَغْرِقُ غَيْرَ التَّكْبِيرِ، مَعَ الْحَصَاةِ لِتَتَابُعِ رَمْيِ الْحَصَيَاتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ "، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ الْفَضْلِ: أَفَضْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ آخِرِ حَصَاةٍ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُفَسِّرٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، أَتَمَّ رَمْيَهَا، اهـ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا. وَإِذَا عَلِمْتَ الصَّحِيحَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، فَاعْلَمْ أَنَّ فِي وَقْتِ انْتِهَاءِ الرَّمْيِ مَذَاهِبَ لِلْعُلَمَاءِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَعَائِشَةَ: أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَاحَ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهُمَا كَانَا يُلَبِّيَانِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: يُلَبِّي حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، اهـ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَجَعَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَرُوِيَ فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ. حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَغْدُوَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ. فَإِذَا غَدَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ. وَكَانَ يَتْرُكُ فِي الْعُمْرَةِ، إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهَا، إِلَّا إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؛ لِدَلَالَةِ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَدَلَالَةِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ بِمُزْدَلِفَةَ أَيْضًا، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا حُكْمُ التَّلْبِيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا مَعْرُوفًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي ": لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ لِحُكْمِ التَّلْبِيَةِ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ أَرْبَعَةٌ، يُمْكِنُ تَوْصِيلُهَا إِلَى عَشَرَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهَا شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. ثَانِيهَا: وَاجِبَةٌ، وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وَقَالَ: إِنَّهُ وَجَدَ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخَطَّابِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَحَكَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَلَّابِ قَالَ: التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَإِلَّا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الدَّمُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمْ يَجِبْ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عِنْدَهُمْ بِتَرْكِ تَكْرَارِهَا دَمٌ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ. ثَالِثُهَا: وَاجِبَةٌ لَكِنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ، كَالتَّوَجُّهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَبِهَذَا صَدَّرَ ابْنُ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ كَلَامَهُ فِي الْجَوَاهِرِ لَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلَهُ، لَكِنْ زَادَ الْقَوْلَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ مِنَ الذِّكْرِ، كَمَا فِي مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ سَبَّحَ يَنْوِي بِذَلِكَ الْإِحْرَامَ، فَهُوَ مُحْرِمٌ. رَابِعُهَا: أَنَّهَا رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالزُّبَيْرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ قَالُوا: هِيَ نَظِيرَةُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلصَّلَاةِ، وَيُقَوِّيهِ مَا تَقْدَّمَ مِنْ بَحْثِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ حَقِيقَةِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، قَالَ: التَّلْبِيَةُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ كَوْنِهَا رُكْنًا. انْتَهَى مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي ". وَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ التَّلْبِيَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّى كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ: " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ مِنْ مَنَاسِكِنَا التَّلْبِيَةَ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ: أَمَّا كَوْنُهَا مَسْنُونَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ وَاجِبَةً يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهَا، وَتُجْبَرُ بِدَمٍ فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَعْنَى التَّلْبِيَةِ: فَهِيَ مِنْ لَبَّى بِمَعْنَى: أَجَابَ، فَلَفْظَةُ: لَبَّيْكَ مُثَنَّاةٌ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وَتَثْنِيَتُهَا لِلتَّكْثِيرِ: أَيْ إِجَابَةً لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ، وَلُزُومًا لِطَاعَتِكَ، وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ الْبَصْرِيُّ: لَبَّيْكَ: اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُثَنًّى، قَالَ: وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ أَلِفُهُ يَاءً لِاتِّصَالِهَا بِالضَّمِيرِ، كَمَا قُلِبَتْ أَلْفُ لَدَى، وَإِلَى، وَعَلَى فِي حَالَةِ الِاتِّصَالِ بِالضَّمِيرِ فَتَقُولُ: لَدَيْكَ، وَإِلَيْكَ وَعَلَيْكَ بِإِبْدَالِ الْأَلْفِ يَاءً، وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ سُمِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ثُبُوتُ الْيَاءِ مَعَ الْإِضَافَةِ لِلِاسْمِ الظَّاهِرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 لَا الضَّمِيرِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ثَنَّوْا لَبَّيْكَ كَمَا ثَنَّوْا حَنَانَيْكَ: أَيْ تَحَنُّنًا بَعْدَ تَحَنُّنٍّ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى لَبَّيْكَ وَاشْتِقَاقِهَا، فَقِيلَ مَعْنَاهَا: اتِّجَاهِي وَقَصْدِي إِلَيْكَ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَارِي تَلُبُّ دَارَكَ أَيْ تُوَاجِهُهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهَا مَحَبَّتِي لَكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمُ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ، إِذَا كَانَتْ مُحِبَّةً لِوَلَدِهَا عَاطِفَةً عَلَيْهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهَا: إِخْلَاصِي لَكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حُبٌّ لُبَابٌ، إِذَا كَانَ خَالِصًا مَحْضًا، وَمِنْ ذَلِكَ لُبُّ الطَّعَامِ وَلُبَابُهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهَا: أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ، وَإِجَابَتِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَبَّ الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ، وَأَلَبَّ بِهِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَبِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ. وَقِيلَ فِي لَبَّيْكَ: أَيْ قُرْبًا مِنْكَ، وَطَاعَةً، وَالْإِلْبَابُ: الْقُرْبُ، وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ مَعْنَاهُ: أَنَا مُلِبٌّ بَيْنَ يَدَيْكَ أَيْ: خَاضِعٌ. انْتَهَى كَلَامُ عِيَاضٍ، مَعَ تَصَرُّفٍ وَحَذْفٍ يَسِيرٍ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ "، وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدُورُ حَوْلَهُ كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ، وَبَقِيَّةُ أَلْفَاظِ التَّلْبِيَةِ مَعَانِيهَا ظَاهِرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ لَبَّيْكَ مُلَازِمَةٌ لِلْإِضَافَةِ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، وَشَذَّ إِضَافَتُهَا لِلظَّاهِرِ ; كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَشَذَّ أَيْضًا إِضَافَتُهَا لِضَمِيرِ الْغَائِبِ كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: إِنَّكَ لَوْ دَعَوْتَنِي وَدُونِي زَوْرَاءُ ذَاتُ مُتَّزَعٍ بَيُونِ لَقُلْتُ لَبَّيْهِ لِمَنْ يَدْعُونِي. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلرِّجَالِ رَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ بِالتَّلْبِيَةِ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. مِنْ حَدِيثِ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادِ بْنِ سُوَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ» ، اهـ. وَلَفْظُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، أَوْ مَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ بِالْإِهْلَالِ» يُرِيدُ أَحَدَهُمَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ مَعَ الظَّاهِرِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُنَّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ: إِنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِتُسْمِعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَعَلَّلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَفْضَ الْمَرْأَةِ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، بِخَوْفِ الِافْتِتَانِ بِصَوْتِهَا. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى: «فَتْحُ الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ» : وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَلَا يَرْفَعُ حَيْثُ يَجْهَدُ وَيُقْطَعُ صَوْتُهُ، وَالنِّسَاءُ تَقْتَصِرْنَ عَلَى إِسْمَاعِ أَنْفُسِهِنَّ، وَلَا يَجْهَرْنَ كَمَا لَا يَجْهَرْنَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ الْقَاضِي الرُّوْيَانِيُّ: وَلَوْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ لَمْ يَحْرُمْ ; لِأَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، اهـ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الرُّويَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ: لَا يَحْرُمُ لَكِنْ يُكْرَهُ، صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ، وَيَخْفِضُ الْخُنْثَى صَوْتَهُ كَالْمَرْأَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ الرَّخِيمَةُ الصَّوْتِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْتَهَا مِنْ مَفَاتِنِ النِّسَاءِ وَلَا يَجُوزُ لَهَا رَفْعُهُ بِحَالٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّوْتَ الرَّخِيمَ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ وَمَفَاتِنِهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَكْثُرُ ذِكْرُهُ فِي التَّشْبِيبِ بِالنِّسَاءِ، كَقَوْلِ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ: لَهَا بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ ... رَخِيمُ الْحَوَاشِي لَا هُرَاءٌ وَلَا نَزْرُ وَعَيْنَانِ قَالَ اللَّهُ كُونَا فَكَانَتَا ... فَعُولَانِ بِالْأَلْبَابِ مَا تَفْعَلُ الْخَمْرُ فَتَرَاهُ جَعَلَ الصَّوْتَ الرَّخِيمَ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ، كَالْبَشَرَةِ النَّاعِمَةِ، وَالْعَيْنَيْنِ الْحَسَنَتَيْنِ، وَكَقَوْلِ قَعْنَبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ: وَفِي الْخُدُودِ لَوَ أَنَّ الدَّارَ جَامِعَةٌ ... بِيضٌ أَوَانِسُ فِي أَصْوَاتِهَا غُنَنُ فَتَرَاهُ جَعَلَ الصَّوْتَ الْأَغَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَلَا مُخَاطِبًا لِنِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ خَيْرُ أُسْوَةٍ لِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا لِأَنَّ تَلْيِينَ الصَّوْتِ وَتَرْخِيمَهُ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالرِّيبَةِ كَإِبْدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 يُحْسَبْنَ مِنَ الْكَلَامِ زَوَانِيَا ... وَيَصُدُّهُنَّ عَنِ الْخَنَا الْإِسْلَامُ الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّلْبِيَةِ فِي دَوَامِ الْإِحْرَامِ، وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهَا فِي كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ، وَحُدُوثِ أَمْرٍ مِنْ رُكُوبٍ، أَوْ نُزُولٍ، أَوِ اجْتِمَاعِ رِفَاقٍ، أَوْ فَرَاغٍ مِنْ صَلَاةٍ وَعِنْدَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَوَقْتِ السَّحَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تُغَايُرِ الْأَحْوَالِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَيُلَبِّيَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّفَاقِ، وَفِي كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي إِذَا رَأَى رَكْبًا أَوْ صَعِدَ أَكَمَةً أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَفِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَةِ وَآخِرِ اللَّيْلِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَلَمْ يَتَكَلَّمِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْمُهَذَّبِ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ» فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ: هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْمُهَذَّبِ، وَبَيَّضَ لَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسْكَرٍ فِي تَخْرِيجِهِ لِأَحَادِيثِ الْمُهَذَّبِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَاجِيَةَ فِي فَوَائِدِهِ بِإِسْنَادٍ لَهُ إِلَى جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي إِذَا لَقِيَ رَكْبًا» فَذَكَرَهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُلَبِّي رَاكِبًا، وَنَازِلًا، وَمُضْطَجِعًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا هَبَطُوا وَادِيًا أَوْ عَلَوْهُ، وَعِنْدَ الْتِقَاءِ الرِّفَاقِ، وَعِنْدَ خَيْثَمَةَ نَحْوُهُ وَزَادَ: وَإِذَا اسْتَقَلَّتْ بِالرَّجُلِ رَاحِلَتُهُ. انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ التَّلْبِيَةَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَعَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَيَسْتَأْنِسُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ، بَابُ التَّلْبِيَةِ: إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ قَالَ: «أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي» وَقَالَ فِي «الْفَتْحِ» فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّهَا تَتَأَكَّدُ عِنْدَ الْهُبُوطِ كَمَا تَتَأَكَّدُ عِنْدَ الصُّعُودِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِ التَّلْبِيَةِ فِي حَالِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يُلَبِّي فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ الْجَدِيدُ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُقْتَدَى بِهِ يُلَبِّي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 حَوْلَ الْبَيْتِ إِلَّا عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ، وَمِمَّنْ أَجَازَ التَّلْبِيَةَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ: أَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا يُقْتَدَى بِهِ يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ، إِلَّا عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ: أَنَّهُ لَا يُلَبِّي، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرٍ يَخُصُّهُ، فَكَانَ أَوْلَى. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا لَكَ أَنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُلَبِّي خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُغْنِي، وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ. حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَغْدُوَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ. فَإِذَا غَدَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ. وَكَانَ يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ، إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ. انْتَهَى مِنَ «الْمُوَطَّأِ» ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يُلَبِّي، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ انْتَهَى مِنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا خِلَافُ هَذَا، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : أَنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ لَبَّى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ يُلَبِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى، وَمَسْجِدِ نَمِرَةَ بِقُرْبِ عَرَفَاتٍ ; لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ نُسُكٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّلْبِيَةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسَاجِدِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ يُلَبِّي فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ رَفْعًا يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ يُلَبِّي فِي كُلِّ مَكَانٍ فِي الْأَمْصَارِ وَفِي الْبَرَارِي، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعَبْدَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: التَّلْبِيَةُ مَسْنُونَةٌ فِي الصَّحَارِي، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُلَبِّيَ فِي الْمِصْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِيمَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمُحْرِمِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [2 \ 197] وَالصِّيغَةُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 صِيغَةُ خَبَرٍ أُرِيدَ بِهَا الْإِنْشَاءُ: أَيْ فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَفْسُقُ، وَلَا يُجَادِلُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّ الصِّيغَةَ قَدْ تَكُونُ خَبَرِيَّةً، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِنْشَاءُ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا التَّفَاؤُلُ كَقَوْلِكِ: رَحِمَ اللَّهُ زَيْدًا، فَالصِّيغَةُ خَبَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِنْشَاءُ الدُّعَاءِ لَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَمِنْهَا إِظْهَارُ تَأْكِيدِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَإِلْزَامُ ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْآيَةَ [61 \ 10 - 11] : أَيْ آمِنُوا بِاللَّهِ بِدَلِيلِ جَزْمِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ الْآيَةَ [61 \ 12] فَهُوَ مَجْزُومٌ بِالطَّلَبِ الْمُرَادِ بِالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أَيْ: آمِنُوا بِاللَّهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ; كَقَوْلِهِ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [9 \ 14] تَعَالَوْا أَتْلُ الْآيَةَ [6 \ 151] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْمُسَوِّغُ لِكَوْنِ الصِّيغَةِ فِي الْآيَةِ خَبَرِيَّةً، هُوَ إِظْهَارُ التَّأَكُّدِ، وَاللُّزُومِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْإِيمَانِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، لِإِظْهَارِ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ الْمُخْبَرِ عَنْ وُقُوعِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ الْآيَةَ [2 \ 233] ، وَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ الْآيَةَ [2 \ 228] . فَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِالْإِرْضَاعِ، وَالتَّرَبُّصِ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةٍ خَبَرِيَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فَنِّ الْمَعَانِي. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الرَّفَثِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ. وَالثَّانِي: الْكَلَامُ بِذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ الْمُحْرِمُ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَحْلَلْنَا مِنْ إِحْرَامِنَا فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّفَثِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ كَجِمَاعِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [2 \ 187] فَالْمُرَادُ بِالرَّفَثِ فِي الْآيَةِ: الْمُبَاشَرَةُ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّفَثِ عَلَى الْكَلَامِ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: وَرُبَّ أَسْرَابٍ حَجِيجٍ ... كُظَمِ عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْبَيْتَ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ الرَّاجِزُ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا فَقِيلَ لَهُ: أَتَرْفَثُ، وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ: مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ، وَفِي لَفْظِ: مَا قِيلَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ النِّسَاءِ. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْفُسُوقِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وَالْفُسُوقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا: خَوَارِجَ عَنْ جِهَتِهَا الَّتِي كَانَتْ تَقْصِدُهَا. وَالْأَظْهَرُ فِي الْجِدَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمِرَاءُ: أَيْ لَا تُخَاصِمْ صَاحِبَكَ وَتُمَارِهِ حَتَّى تُغْضِبَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ: أَيْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مِرَاءٌ وَلَا خُصُومَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَوْضَحَ أَحْكَامَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ، مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] ، وَمِنْ ذَلِكَ تَغْطِيَةُ الْمُحْرِمِ الذَّكَرِ رَأْسَهُ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ فَمَاتَ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي بَعْضِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَخْمِيرِ الرَّأْسِ، وَفِيهَا النَّهْيُ عَنْ تَخْمِيرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَفِي بَعْضِهَا: النَّهْيُ عَنْ مَسِّهِ بِطِيبٍ، وَفِي بَعْضِهَا: النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَأَنْ يُغَطُّوا وَجْهَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي مَنْعِ تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ الذَّكَرِ رَأْسَهُ أَوْ وَجْهَهُ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُغَطِّي رَأْسَهَا، وَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا، إِلَّا إِذَا خَافَتْ نَظَرَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ ذَلِكَ لُبْسُ كُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٍ بِالْبَدَنِ، أَوْ بَعْضِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُغَطِّي الرَّأْسَ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا: فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُ الْقَمِيصِ، وَلَا الْعِمَامَةِ، وَلَا السَّرَاوِيلِ، وَلَا الْبُرْنُسِ، وَلَا الْقَبَاءِ، وَلَا الْخُفِّ إِلَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا: فَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانُ. وَهَذِهِ أَدِلَّةُ مَنْعِ مَا ذُكِرَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ الْمُحْرِمُ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلِيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ» انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلِيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ سَالِمٍ. وَأَخْرَجَ بَعْضَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. ثُمَّ قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ جَمِيعًا، عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ» يَعْنِي: الْمُحْرِمَ. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ عَمْرٍو: يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، قَالَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى جَوَازِ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ لِلْمُحْرِمِ، الَّذِي لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، كَجَوَازِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ الْمَذْكُورَيْنِ زِيَادَةٌ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَهِيَ جَوَازُ السَّرَاوِيلِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يَجِبُ قَبُولُهَا، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ قَبُولَهَا، وَإِطْلَاقُ الْخُفَّيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ الْمَذْكُورَيْنِ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَطْعِهِمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ; لِوُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا وَسَبَبُهُمَا كَمَا هُنَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ، إِلَّا فِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، وَأَنَّ قَطْعَهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا الْخُفَّ، إِلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 أَلَّا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ» فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَكَذَا، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِ: «وَلَا يَلْبَسُ الْقَبَاءَ» وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ مَحْفُوظَةٌ، انْتَهَى مِنْهُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْقَبَاءِ لِلْمُحْرِمِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ: زَادَ الثَّوْرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَلَا الْقَبَاءَ» ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَهُنَّ أَنْ يَلْبَسْنَ مَا شِئْنَ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ، إِلَّا أَنَّهُنَّ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ أَنْ يَنْتَقِبْنَ، وَلَا أَنْ يَلْبَسْنَ الْقُفَّازَيْنِ ; لِأَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ. . . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَا وَرْسَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَا تَنْتَقِبُ الْمُحْرِمَةُ، وَتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُنَنِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَاهُ. وَزَادَ: «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» . وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ، وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّهُ الْوَرْسُ، وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حَرِيرٍ، أَوْ حُلِيًّا، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَمِيصًا، أَوْ خُفًّا، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ الْمَغَازِي، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَكْثَرُ مَا أُنْكِرَ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ التَّدْلِيسُ، وَإِذَا قَالَ الْمُدَلِّسُ: حَدَّثَنِي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 احْتُجَّ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : حَدِيثُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ النِّقَابِ، وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مُعَصْفَرًا، أَوْ خَزًّا، أَوْ حُلِيًّا، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَمِيصًا، أَوْ خُفًّا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ زَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَنِ النِّقَابِ: «وَمَا مَسَّ الزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ مِنَ الثِّيَابِ وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ ذَلِكَ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ إِلَى قَوْلِهِ «مِنَ الثِّيَابِ» ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ فِي بَدَنِهِ، أَوْ ثِيَابِهِ، وَالطِّيبُ هُوَ مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ، كَالْمِسْكِ، وَالْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالصَّنْدَلِ، وَالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِي مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ مَا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَالْوَرْسُ مِنَ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي الَّذِي وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَوْقَصَتْهُ فَمَاتَ. فَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا يُمَسَّ طِيبًا، الْحَدِيثَ. وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغْسِلُوهُ وَلَا تُقْرِبُوهُ طِيبًا، وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي» ، فَقَوْلُهُ: «وَلَا يُمَسَّ طِيبًا» فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَقَوْلُهُ: «وَلَا تُقْرِبُوهُ طِيبًا» فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، وَكِلْتَاهُمَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ، وَتَرْتِيبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ. قَوْلُهُ: «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ مَنْعِ ذَلِكَ الطِّيبِ كَوْنُهُ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا، وَالدِّلَالَةُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ مِنْ دَلَالَةِ مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. وَمِنْ ذَلِكَ عَقْدُ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَلَا أَنْ يُزَوِّجَ غَيْرَهُ بِوِلَايَةٍ أَوْ وِكَالَةٍ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ غَيْرَهُ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَوْنُ إِحْرَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الْوَلِيِّ مَانِعًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» لِجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ: لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، اهـ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، اهـ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ إِحْرَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوِ الْوَلِيِّ، لَيْسَ مَانِعًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَزْوَ هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ مِنْ عَزْوِ النَّوَوِيِّ لَهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا كَمَا سَتَرَى: مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، هَلْ هُوَ مَانِعٌ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ لَا؟ ، فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ. أَمَّا الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَانِعٌ مِنَ النِّكَاحِ، فَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ، بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ. فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يَحْضُرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَمِيرُ الْحَجِّ. فَقَالَ أَبَانُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَنْكِحِ الْمُحْرِمَ، وَلَا يَنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ» . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ. حَدَّثَنِي نَبِيهُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَكَانَ يَخْطُبُ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ عَلَى ابْنِهِ. فَأَرْسَلَنِي إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ. فَقَالَ: أَلَا أَرَاهُ أَعْرَابِيًّا: «إِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ» ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ عُثْمَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى (ح) ، وَحَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ. قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ مَطَرٍ، وَيَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانِ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ» . وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ» . حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ أَرَادَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 أَنْ يُنْكِحَ ابْنَهُ طَلْحَةَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْحَجِّ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْحَجِّ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُنْكِحَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ. فَأُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: أَلَا أَرَاكَ عِرَاقِيًّا جَافِيًا! إِنِّي سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ» . وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرِ، وَإِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ: أَنَّهُ نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو فَزَارَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَحَدِيثُ عُثْمَانَ الْمَذْكُورُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رَوَاهُ أَيْضًا مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: حَدِيثُ عُثْمَانَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، لَا يَرَوْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ. وَقَالُوا: إِنْ نَكَحَ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ. وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ مَيْمُونَةَ الْمَذْكُورُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» رَوَاهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ فِيمَا بَيْنَهُمَا» . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ رَبِيعَةَ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ» رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ أَيْضًا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ مُرْسَلًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ هَذَا رَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 الْمُسَيَّبِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلُوا عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ؟ فَقَالُوا: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ أَبَا غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا، تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِكَاحَهُ. وَحَدِيثُ أَبِي غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ، هَذَا رَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَوْ يَحُجَّ؟ فَقَالَ: لَا تَتَزَوَّجْهَا، وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمُجِدِّ فِي «الْمُنْتَقَى» . فَهَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَانِعٌ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، وَلِلْبُخَارِيِّ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرَفٍ» ، اهـ. قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] وَهُوَ الْمُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ بِأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَتَقْرِيرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ تَزْوِيجُ الْمُحْرِمِ حَرَامًا لَمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ، قَالُوا: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» وَصِيغَةُ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: «لَا يَنْكِحُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» يُرَادُ بِهَا النَّهْيُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ أَيْ: لَا تَرْفُثُوا، وَلَا تَفْسُقُوا، وَلَا تُجَادِلُوا فِي الْحَجِّ، وَإِيرَادُ الْإِنْشَاءِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَبْلَغُ مِنْ إِيرَادِهِ بِصِيغَةِ الْإِنْشَاءِ ; كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْمَعَانِي. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَهُوَ مُعْتَضِدٌ بِمَا ذَكَرْنَا مَعَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ: يَمْنَعُ إِحْرَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الْوَلِيِّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، بِأَجْوِبَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 وَاعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ نَصَّانِ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَجْوِبَتِهِمْ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَأَبِي رَافِعٍ: «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» وَوَجْهُ الْجَمْعِ فِي ذَلِكَ، هُوَ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ مُحْرِمًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ ذُو الْقِعْدَةِ عَامَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ: «الْمَغَازِي فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» . قَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» انْتَهَى مِنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ كَانَتْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ ذُو الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فِي إِطْلَاقِ الْإِحْرَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِي حُرْمَةٍ لَا تُهْتَكُ كَالدُّخُولِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي «اللِّسَانِ» : وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ: إِذَا دَخَلَ فِي حُرْمَةٍ لَا تُهْتَكُ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِحْرَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ فِي اللِّسَانِ شَاهِدًا لِذَلِكَ - قَوْلُ زُهَيْرٍ: جَعَلْنَ الْقِنَانَ عَنْ يَمِينٍ وَحُزْنَهُ ... وَكَمْ بِالْقِنَانِ مِنْ مُحِلٍّ وَمُحْرِمِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَإِذْ فَتَكَ النُّعْمَانُ بِالنَّاسِ مُحْرِمًا ... فَمَلِيءٌ مِنْ عَوْفِ بْنِ كَعْبٍ سَلَاسِلُهْ وَقَوْلُ الرَّاعِي: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ... وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولًا فَتَفَرَّقَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ عَصَاهُمُ ... شَقَقًا وَأَصْبَحَ سَيْفُهُمْ مَسْلُولًا وَيُرْوَى: فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولًا، فَقَوْلُهُ: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا: أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهُوَ ذُو الْحِجَّةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي حُرْمَةٍ لَا تُهْتَكُ، سَوَاءٌ كَانَتْ زَمَانِيَّةً، أَوْ مَكَانِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، مِنْهُمُ الْأَصْمَعِيُّ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاعِي: مُحْرِمًا فِي بَيْتِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 الْمَذْكُورِ كَوْنُهُ فِي حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَذِمَّتِهِ الَّتِي يَجِبُ حِفْظُهَا، وَيَحْرُمُ انْتِهَاكُهَا وَأَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْقَتْلَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمُحْرِمِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرِ، قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا ... غَادَرُوهُ لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ يُرِيدُ قَتْلَ شِيرَوَيْهِ أَبَاهُ أَبْرُوِيزَ بْنَ هُرْمُزَ، مَعَ أَنَّ لَهُ حُرْمَةَ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدُوهُ بِهِ، حِينَ مَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَحُرْمَةَ الْأُبُوَّةِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ مِنْهُمُ الْقَتْلَ. وَذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: مُحْرِمًا، وَعَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَا ذَكَرَ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَيْنَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَأَبِي رَافِعٍ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ تَفْسِيرَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ كُلَّ الظُّهُورِ، وَأَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَاقٍ، وَالْمَصِيرَ إِلَى التَّرْجِيحِ إِذًا وَاجِبٌ. وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ وَأَبِي رَافِعٍ أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ مَيْمُونَةَ هِيَ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ أَدْرَى بِمَا جَرَى لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ خَبَرَ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ الْمَرْوِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْحَالِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُمَثِّلُونَ لَهُ بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ الْمَذْكُورِ، مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ، بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا تُرَجَّحُ بِهِ رِوَايَةُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ: أَوْ رَاوِيًا بِاللَّفْظِ أَوْ ذَا الْوَاقِعِ ... وَكَوْنَ مَنْ رَوَاهُ غَيْرَ مَانِعِ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَوْ ذَا الْوَاقِعِ: أَيْ يُقَدَّمُ خَبَرُ ذِي الْوَاقِعِ الْمَرْوِيِّ عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ كَخَبَرِ مَيْمُونَةَ، مَعَ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِمَّا يُرَجَّحُ بِهِ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ هُوَ رَسُولُهُ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ مُبَاشِرٌ لِلْوَاقِعَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ تَرْجِيحُ خَبَرِ الرَّاوِي الْمُبَاشِرِ لِمَا رَوَى عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِمَا رَوَى أَعْرَفُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُمَثِّلُونَ لَهُ بِخَبَرِ أَبِي رَافِعٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، قَالَ: وَكُنْتُ الرَّسُولَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ: «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» . وَمِمَّا يَرْجُحُ بِهِ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ مَعًا، عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْ مَيْمُونَةَ، وَأَبَا رَافِعٍ كَانَا بَالِغَيْنِ وَقْتَ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ لَيْسَ بِبَالِغٍ وَقْتَ التَّحَمُّلِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ تَرْجِيحُ خَبَرِ الرَّاوِي الْمُتَحَمِّلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْبَالِغَ أَضْبَطُ مِنَ الصَّبِيِّ لِمَا تَحْمَّلَ، وَلِلِاخْتِلَافِ فِي قَبُولِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 خَبَرِ الْمُتَحَمِّلِ، قَبْلَ الْبُلُوغِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْمُتَحَمِّلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ قَبُولَ خَبَرِ الْمُتَحَمِّلِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِذَا كَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ; لِأَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرْجَحُ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَإِلَى تَقْدِيمِ خَبَرِ الرَّاوِي الْمُبَاشِرِ عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ، وَتَقْدِيمِ خَبَرِ الْمُتَحَمِّلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى خَبَرِ الْمُتَحَمِّلِ قَبْلَهُ. أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّاوِي، بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُرَجِّحُ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ: أَوْ كَوْنَهُ مُبَاشِرًا أَوْ كَلِفًا ... أَوْ غَيْرَ ذِي اسْمَيْنِ لِلْأَمْنِ مِنْ خَفَا فَإِنْ قِيلَ: يُرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِأَنَّهُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ، أَرْجَحُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَهُوَ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ، وَأَرْجَحُ مِمَّا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ غَايَةَ مَا يُفِيدُهُ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ صِحَّةُ الْحَدِيثِ، إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَحْنُ لَوْ جَزَمْنَا بِأَنَّهُ قَالَهُ قَطْعًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ تَرْجِيحِ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَأَبِي رَافِعٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمَا أَعْلَمُ بِحَالِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُ ; لِأَنَّ مَيْمُونَةَ صَاحِبَةُ الْوَاقِعَةِ، وَأَبُو رَافِعٍ هُوَ الرَّسُولُ الْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ. فَلْنَفْرِضْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ ذَلِكَ، وَأَنَّ أَبَا رَافِعٍ وَمَيْمُونَةَ خَلَّفَاهُ، وَهُمَا أَعْلَمُ بِالْحَالِ مِنْهُ ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَعَلُّقًا خَاصًّا بِنَفْسِ الْوَاقِعَةِ لَيْسَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَمِنَ الْمُرَجِّحَاتِ الَّتِي رَجَّحَ بِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ تَزَوُّجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ عَلَى حَدِيثِ تَزَوُّجِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَنَّ الْأَوَّلَ: رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ، وَمَيْمُونَةُ. وَالثَّانِي: رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ، وَمَا رَوَاهُ الِاثْنَانِ أَرْجَحُ مِمَّا رَوَاهُ الْوَاحِدُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْوِيِّ: وَكَثْرَةُ الدَّلِيلِ وَالرِّوَايَةِ ... مُرَجِّحٌ لَدَى ذَوِي الدِّرَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلَكِنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ الْمَذْكُورَ يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، وَلَفْظُهُ: فَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَصَحَّ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَمَنْ رَوَى أَنَّ تَزْوِيجَهَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ - أَكْثَرُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 فَإِنْ قِيلَ: يُرْجَّحُ حَدِيثُهُمْ إِذًا بِالْكَثْرَةِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَثُرُوا فَمَيْمُونَةُ، وَأَبُو رَافِعٍ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِالْوَاقِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَجِّحَاتُ يُرَجَّحُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَضَابِطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ قُوَّةُ الظَّنِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ مَيْمُونَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ نَفْسِهَا، وَأَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ زَوْجِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي هُوَ أَبُو رَافِعٍ أَقْوَى فِي ظَنِّ الصِّدْقِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ غَيْرُهُمَا، وَأَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ: قُطْبُ رَحَاهَا قُوَّةُ الْمَظِنَّهْ ... فَهِيَ لَدَى تَعَارُضٍ مَئِنَّهْ وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَا تَنْهَضُ بِهِ الْحُجَّةُ، عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ هُوَ أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، لَمْ تَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ. وَالْأَظْهَرُ دُخُولُهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْعُمُومَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَحَتُّمِ تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْعُمُومِ الْقَوْلِيِّ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. فَيَكُونُ خَاصًّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّصَّ الْقَوْلِيَّ الْعَامَّ الَّذِي يَشْمَلُ النَّبِيَّ بِظَاهِرِ عُمُومِهِ لَا بِنَصٍّ صَرِيحٍ، إِذَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا يُخَالِفُهُ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُخَصِّصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ الْقَوْلِيِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ خَاصًّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: فِي حَقِّهِ الْقَوْلُ بِفِعْلٍ خُصَّا ... إِنْ يَكُ فِيهِ الْقَوْلُ لَيْسَ نَصًّا فَإِنْ قِيلَ: لَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَلَى مَنْعِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِيهِ وَطْءُ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إِجْمَاعًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ. فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ قَرِينَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ، لَا الْوَطْءُ. الْأُولَى: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ» فَقَوْلُهُ: «وَلَا يُنْكِحُ» بِضَمِّ الْيَاءِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يُزَوِّجُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الْوَطْءُ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا زَوَّجَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَطَلَبَ الزَّوْجُ وَطْءَ زَوْجِهِ فِي حَالِ إِحْرَامِ وَلِيِّهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «وَلَا يُنْكِحُ» لَيْسَ الْوَطْءَ بَلِ التَّزْوِيجَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْقَرِينَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَيْضًا: «وَلَا يَخْطُبُ» ، وَالْمُرَادُ خِطْبَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ طَلَبَ تَزْوِيجَهَا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ بِالْخِطْبَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ أَنْ يُطْلَبَ بِخِطْبَةٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ رَاوِيَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَعْنَاهُ، فَسَّرَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «وَلَا يُنْكِحُ» : أَيْ لَا يُزَوِّجُ ; لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ، هُوَ أَنَّهُ أَرْسَلَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ ابْنَةَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَدِيثَ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ تَفْسِيرَهُ الْحَدِيثَ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِيهِ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّزْوِيجِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ: فَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَوْ يَحُجَّ، قَالَ: لَا تَتَزَوَّجْهَا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، اهـ. فَتَرَاهُ صَرَّحَ بِأَنَّ النِّكَاحَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ التَّزْوِيجُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا: فِي إِسْنَادِهِ أَيُّوبُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَدْ وُثِّقَ، وَكَالْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَبِي غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ: أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكَاحَهُ، اهـ. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ يُفَسِّرُ النِّكَاحَ الْمَمْنُوعَ فِي الْإِحْرَامِ بِالتَّزْوِيجِ وَلَا يَخُصُّهُ بِالْوَطْءِ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا مِنْهُ امْرَأَتَهُ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، فَإِنْ نَكَحَ رُدَّ نِكَاحُهُ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 قَالَ: وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مُوسَى قَالَ: تَزَوَّجْتُ، وَأَنَا مُحْرِمٌ فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبَ فَقَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ، هُوَ أَنَّ إِحْرَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الْوَلِيِّ مَانِعٌ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ ; لِحَدِيثِ عُثْمَانَ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ يُعَارِضُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَأَبِي رَافِعٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا لَكَ أَوْجُهَ تَرْجِيحِهِمَا عَلَيْهِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَهَذَا فِعْلٌ خَاصٌّ لَا يُعَارِضُ عُمُومًا قَوْلِيًّا لِوُجُوبِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ الْقَوْلِيِّ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. أَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَا تَنْهَضُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى تَوْهِيمِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ سَعِيدٍ، لَمْ تُعْرَفْ عَيْنُهُ كَمَا تَرَى، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَقْيِسَةِ كَقِيَاسِ مَنْ أَجَازَ النِّكَاحَ فِي الْإِحْرَامِ، النِّكَاحَ عَلَى شِرَاءِ الْأَمَةِ فِي الْإِحْرَامِ لِقَصْدِ الْوَطْءِ، وَكَقِيَاسِ مَنْ مَنَعَهُ النِّكَاحَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَعْقُبُهُ جَوَازُ التَّلَذُّذِ ; كَالْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ تَرَكْنَاهُ وَتَرَكْنَا مُنَاقَشَتَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَنْصُوصَةِ فَلَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الْقِيَاسِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الطَّرَفَانِ لَا تَنْهَضُ بِهَا حُجَّةٌ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ مَا يَمْتَنِعُ بِالْإِحْرَامِ عَلَى الْمُحْرِمِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَ مُطَلَّقَتَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ مُؤْتَنَفٍ ; لِأَنَّهَا لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى عَقْدٍ، وَلَا صَدَاقٍ، وَلَا إِلَى إِذْنِ الْوَلِيِّ وَلَا الزَّوْجَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» وَجَوَازُ الرَّجْعَةِ فِي الْإِحْرَامِ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَأَصْحَابُهُمْ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا رِوَايَةً عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي شَرْحِهِ قَوْلَ الْخِرَقِيِّ: وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَّجِرَ وَيَصْنَعَ الصَّنَائِعَ، وَيَرْتَجِعَ امْرَأَتَهُ - مَا نَصُّهُ: فَأَمَّا الرَّجْعَةُ: فَالْمَشْهُورُ إِبَاحَتُهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّهَا لَا تُبَاحُ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَجْهُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ وَالرَّجْعَةَ إِمْسَاكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [65 \ 2] فَأُبِيحَ ذَلِكَ كَالْإِمْسَاكِ قَبْلَ الطَّلَاقِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» فِي الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ: أَنَّهُ يُرَاجِعُ امْرَأَتَهُ، إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَيْنِ، أَصَحُّهُمَا: جَوَازُ الرَّجْعَةِ، وَالثَّانِي: مَنْعُهَا فِي الْإِحْرَامِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا عَلَى تَزْوِيجِ وَلِيَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِذَلِكَ الْوَكِيلِ تَزْوِيجُهَا بِالْوَكَالَةِ فِي حَالَةِ إِحْرَامِهِ ; لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الزَّوْجِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ السُّلْطَانِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ بِهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ دَلِيلٌ ; فَالتَّحْقِيقُ مَنْعُ تَزْوِيجِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ، وَلَا دَلِيلَ مَعَهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ أَقْوَى مِنَ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ. بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُسْلِمَ الْخَاصَّ، لَا يُزَوِّجُ الْكَافِرَةَ بِخِلَافِ السُّلْطَانِ، فَلَهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ الْكَافِرَةَ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ لِلشَّاهِدِ الْمُحْرِمِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ ; لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَتَنَاوَلُهُ حَدِيثُ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ» لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالشَّاهِدُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَائِلًا: إِنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ رُكْنٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَمْ تَجُزْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ كَالْوَلِيِّ، وَكَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى النِّكَاحِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 الْفَرْعُ الْخَامِسُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْطُبَ امْرَأَةً، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ، لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ خِطْبَتُهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ، عِنْدَ مُسْلِمٍ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ» فَالظَّاهِرُ أَنَّ حُرْمَةَ الْخِطْبَةِ كَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الصِّيغَةَ فِيهِمَا مُتَّحِدَةٌ، فَالْحُكْمُ بِحُرْمَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ حُرْمَةُ النِّكَاحِ وَحُرْمَةُ وَسِيلَتِهِ الَّتِي هِيَ الْخِطْبَةُ كَمَا تَحْرُمُ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْخِطْبَةَ لَا تَحْرُمُ فِي الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ النَّصِّ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: عَلَى أَنَّ الْمُتَعَاطِفَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ الْآيَةَ [6 \ 141] . قَالُوا: الْأَكْلُ مُبَاحٌ وَإِيتَاءُ الْحَقِّ وَاجِبٌ، لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «وَلَا يَخْطُبُ» فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ، كَقَوْلِهِ قَبْلَهُ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ» . الْفَرْعُ السَّادِسُ: إِذَا وَقَعَ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي حَالِ إِحْرَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الْوَلِيِّ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى فَسْخِهِ بِطَلَاقٍ ; كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآثَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ: أَنَّهُ يُفْسَخُ بِطَلَاقٍ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مَنْ أَجَازَهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ إِذَا وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا فِي التَّزْوِيجِ، ثُمَّ أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا أَوِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْوِكَالَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِذَلِكَ، بَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالْوِكَالَةِ السَّابِقَةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: تَنْفَسِخُ الْوِكَالَةُ بِذَلِكَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا كَانَ حَلَالًا وَالْمُوَكِّلَ مُحْرِمًا، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْحَلَالِ عَقْدُ النِّكَاحِ، قَبْلَ تَحَلُّلِ مُوَكِّلِهِ خِلَافًا لِمَنْ حَكَى وَجْهًا بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ غَلَطٌ. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْإِحْرَامَ يَحْرُمُ بِسَبَبِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ فِي الْفَرْجِ وَمُبَاشَرَتُهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [2 \ 197] وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّفَثَ شَامِلٌ لِلْجِمَاعِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ. وَقَدْ أَرَدْنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ أَنْ نُبَيِّنَ مَا يَلْزَمُهُ لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا جَامَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ: أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 حَجَّهُ يَفْسُدُ بِذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، إِلَّا الْجِمَاعُ خَاصَّةً، وَإِذَا فَسَدَ حَجُّهُ بِجِمَاعِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ: فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ حَجِّهِ هَذَا الَّذِي أَفْسَدَهُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَجَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بَدَنَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ شَاةٌ، وَقَالَ دَاوُدُ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ بَدَنَةٍ وَبَقَرَةٍ وَشَاةٍ، فَإِنْ كَانَ جِمَاعُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَقَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَحَجُّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حَجُّهُ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ بَدَنَةً مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ حَدِيثِ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» وَإِنْ كَانَ جِمَاعُهُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ: فَحَجُّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: تَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ: فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَبَعْدَ الْوُقُوفِ: فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: فِيمَا يَلْزَمُهُ هَلْ هُوَ شَاةٌ، أَوْ بَدَنَةٌ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ حَجَّهُ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَعُمْرَةٌ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُ أَنَّ الْجِمَاعَ لَمَّا كَانَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، لَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْحَجُّ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فِيهِ نَقْصٌ بِسَبَبِ الْجِمَاعِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الثَّانِي، فَكَانَ هَذَا النَّقْصُ عِنْدَهُ يُجْبَرُ بِالْعُمْرَةِ وَالْهَدْيِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي الْحَجِّ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَحَجٌّ قَابِلٌ، قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ إِصَابَتُهُ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِرَ وَيَهْدِيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ، اهـ. وَنَقَلَ الْبَاجِّيُّ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ مَحِلَّ فَسَادِ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْإِفَاضَةِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَطْءُ وَاقِعًا يَوْمَ النَّحْرِ، أَمَّا إِنْ أَخَّرَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَطَوَافَ الْإِفَاضَةِ مَعًا عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَجَامَعَ قَبْلَهُمَا: فَلَا يَفْسُدُ حَجُّهُ: وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيَانِ: هَدْيٌ لِوَطْئِهِ، وَهَدْيٌ لِتَأْخِيرِ رَمْيِ الْجَمْرَةِ انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ خَلِيلٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَأَفْسَدَ مُطْلَقًا كَاسْتِدْعَاءِ مَنِيٍّ، وَإِنْ يَنْظُرْ قَبْلَ الْوُقُوفِ مُطْلَقًا، إِنْ وَقَعَ قَبْلَ إِفَاضَتِهِ وَعَقِبَهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُ وَإِلَّا فَهَدْيٌ، اهـ. فَتَحَصَّلَ: أَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ، عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَبَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَقَبْلَ الثَّانِي: لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا مَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 بِعَرَفَةَ، وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ: أَفْسَدَ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا. وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْجِمَاعِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ كَالْقُبْلَةِ، وَالْمُفَاخَذَةِ، وَاللَّمْسِ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَلْزَمُهُ لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ كُلَّ تَلَذُّذٍ بِمُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ قُبْلَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، إِذَا حَصَلَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَفْسَدَ الْحَجَّ. وَقَدْ بَيَّنَّا قَرِيبًا مَا يَلْزَمُ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ أَدَامَ النَّظَرَ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ فَأَنْزَلَ: فَسَدَ عِنْدَ مَالِكٍ حَجُّهُ، وَلَوْ أَنْزَلَ بِسَبَبِ النَّظْرَةِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ إِدَامَةٍ: لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ. أَمَّا إِذَا تَلَذَّذَ بِالْمَرْأَةِ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَلَمْ يُنْزِلْ فَإِنْ كَانَ بِتَقْبِيلِ الْفَمِ: فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَالْقُبْلَةُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْقُبْلَةِ كَاللَّمْسِ بِالْيَدِ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ إِنْ قَصَدَ بِهِ اللَّذَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهَا بِهِ، فَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ، وَلَا هَدْيَ فِيهِ وَلَوْ قَصَدَ بِهِ اللَّذَّةَ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْإِثْمُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ بِسَبَبِهِ مَذْيٌ فَيَلْزَمُ فِيهِ الْهَدْيُ، وَمَحَلُّ هَذَا عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ الْمُلَاعَبَةِ الطَّوِيلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ الْكَثِيرَةِ فَفِيهَا الْهَدْيُ. فَتَحَصَّلَ: أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فَسَادُ الْحَجِّ بِمُقْدِّمَاتِ الْجِمَاعِ، إِنْ أَنْزَلَ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَفِي الْقُبْلَةِ خَاصَّةً مُطْلَقًا: هَدْيٌ وَكَذَلِكَ كَلُّ تَلَذُّذٍ خَرَجَ بِسَبَبِهِ مَذْيٌ، وَكَذَلِكَ الْمُلَاعَبَةُ الطَّوِيلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ الْكَثِيرَةُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّلَذُّذِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَلَا يَفْسُدُ الْحَجُّ عِنْدَهُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ، أَوِ الْإِنْزَالِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ التَّلَذُّذَ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ كَالْقُبْلَةِ، وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالْمُفَاخَذَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: يَلْزَمُ بِسَبَبِهِ دَمٌ، وَسَوَاءً عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ أَنَزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَلَوْ رَدَّدَ النَّظَرَ إِلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى أَمْنَى، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ أَنَّهُ إِنْ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ: أَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةُ الْأَذَى وَالِاسْتِمْنَاءُ عِنْدَهُ، كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَصَحَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ عَلَيْهِ شَاةً، وَلَوْ رَدَّدَ النَّظَرَ إِلَى امْرَأَتِهِ، حَتَّى أَمْنَى، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ إِنْ وَطِئَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلَمْ يُنْزِلْ: فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ أَنْزَلَ: فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَفِي فَسَادِ حَجِّهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ إِنْ أَنْزَلَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَبِهَا جَزَمَ الْخِرَقِيُّ. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 وَالْحَسَنِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَلَا يَفْسُدُ حَجُّهُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَهِيَ الصَّحِيحَةُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يَجِبُ بِنَوْعِهِ حَدٌّ فَلَمْ يَفْسُدُ الْحَجُّ كَمَا لَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ أَحْمَدَ: مِنْ أَنَّهُ إِنْ أَنْزَلَ تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ: أَيْ سَوَاءٌ قُلْنَا بِفَسَادِ الْحَجِّ، أَوْ عَدَمِ فَسَادِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِلُزُومِ الْبَدَنَةِ فِي ذَلِكَ: الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» . وَإِنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يُنْزِلْ أَوْ أَنْزَلَ جَرَى عَلَى حُكْمِ الْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا. وَإِنْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَصَرَفَ بَصَرَهُ، فَأَمْنَى فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ، حَتَّى أَمْنَى: فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ عِنْدَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ، حَتَّى أَمْنَى فَسَدَ حَجُّهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ بِالْجِمَاعِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ فَوْرًا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْآثَارُ الَّتِي سَتَرَاهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَدِلَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ. وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَيْضًا - أَنَّ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ أُفْسِدَا حَجُّهُمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِذَا أَحْرَمَا بِحَجَّةِ الْقَضَاءِ لِئلا يُفْسِدَا حَجَّةَ الْقَضَاءِ أَيْضًا بِجِمَاعٍ آخَرَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْجِمَاعِ يَلْزَمُهَا مِثْلُ مَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ مِنَ الْهَدْيِ وَالْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدِ وَالْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يَكْفِيهِمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ أَكْرَهَهَا: لَا هَدْيَ عَلَيْهَا. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جِمَاعِ الْمُحْرِمِ، وَمُبَاشَرَتِهِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، فَاعْلَمْ أَنَّ غَايَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [2 \ 197] ، أَمَّا أَقْوَالُهُمْ فِي فَسَادِ الْحَجِّ وَعَدَمِ فَسَادِهِ، وَفِيمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِآثَارٍ مَرْوِيَّةٍ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَلَمْ أَعْلَمْ بِشَيْءٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 مَرْوِيٍّ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا حَدِيثًا مُنْقَطِعًا لَا تَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، أَنْبَأَ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَسَوِيُّ الدَّاوُدِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، ثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، ثَنَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي: ابْنَ سَلَامٍ، عَنْ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ: شَكَّ أَبُو تَوْبَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَسَأَلَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمَا «اقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَأَهْدِيَا هَدْيًا، ثُمَّ ارْجِعَا حَتَّى إِذَا جِئْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَتَفَرَّقَا وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى فَتُقْبِلَانِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَأَتِمَّا نُسُكَكُمَا وَاهْدِيَا» . هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ الْأَسْلَمِيُّ بِلَا شَكٍّ، انْتَهَى مِنَ الْبَيْهَقِيِّ. وَتَرَاهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَانْقِطَاعُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ نُعَيْمٍ الْمَذْكُورَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ. وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي «نَصْبِ الرَّايَةِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ - مَا نَصُّهُ: وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ نُعَيْمٍ مَجْهُولٌ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ ثِقَةٌ. وَقَدْ شَكَّ أَبُو تَوْبَةَ، وَلَا يُعْلَمُ عَمَّنْ هُوَ مِنْهُمَا، وَلَا عَمَّنْ حَدَّثَهُمْ بِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَهُوَ لَا يَصِحُّ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَسَأَلَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمَا: «أَتِمَّا حَجَّكُمَا، ثُمَّ ارْجِعَا، وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى، فَإِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا، فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا، وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ أَتِمَّا نُسُكَكُمَا وَاهْدِيَا» انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَفِي هَذَا أَنَّهُ أَمَرَهُمَا بِالتَّفَرُّقِ فِي الْعَوْدَةِ، لَا فِي الرُّجُوعِ. وَحَدِيثُ الْمَرَاسِيلِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا بِابْنِ لَهِيعَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ مِنْ «نَصْبِ الرَّايَةِ» لِلزَّيْلَعِيِّ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَ فِيهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ الْمُنْقَطِعَ سَنَدُهُ تَبَيَّنَ: أَنَّ عُمْدَةَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا عَلَى الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَلَاغًا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سَأَلُوا عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ؟ فَقَالُوا: يَنْفُذَانِ يَمْضِيَانِ لِوَجْهِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ. قَالَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 عَنْهُ -: وَإِذَا أَهَلَّا بِالْحَجِّ مِنْ عَامِ قَابِلٍ تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا، اهـ. وَهَذَا الْأَثَرُ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا كَمَا تَرَى. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبَ يَقُولُ: مَا تَرَوْنَ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ الْقَوْمُ شَيْئًا. فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَبَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِلَى عَامِ قَابِلٍ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لِيَنْفُذَا لِوَجْهِهِمَا فَلْيُتِمَّا حَجَّهُمَا الَّذِي أَفْسَدَاهُ، فَإِذَا فَرَغَا رَجَعَا، فَإِنْ أَدْرَكَهُمَا حَجُّ قَابِلٍ فَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ وَالْهَدْيُ، وَيُهِلَّانِ مِنْ حَيْثُ أَهَلَّا بِحَجِّهِمَا الَّذِي أَفْسَدَاهُ وَيَتَفَرَّقَانِ، حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا. قَالَ مَالِكٌ: يَهْدِيَانِ جَمِيعًا بَدَنَةً بَدَنَةً. قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي الْحَجِّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَحَجُّ قَابِلٍ، فَإِنْ كَانَتْ إِصَابَتُهُ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِرَ، وَيَهْدِيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَالَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاءٌ دَافِقٌ. قَالَ: وَيُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا الْمَاءُ الدَّافِقُ، إِذَا كَانَ مِنْ مُبَاشَرَةٍ، فَأَمَّا رَجُلٌ ذَكَرَ شَيْئًا حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ دَافِقٌ، فَلَا أَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ مَاءٌ دَافِقٌ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْقُبْلَةِ إِلَّا الْهَدْيِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يُصِيبُهَا زَوْجُهَا، وَهِيَ مُحْرِمَةٌ مِرَارًا فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَهِيَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُطَاوِعَةٌ: إِلَّا الْهَدْيُ وَحَجٌّ قَابِلٌ، إِنْ أَصَابَهَا فِي الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَهَا فِي الْعُمْرَةِ، فَإِنَّمَا عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي أُفْسِدَتْ وَالْهَدْيُ، اهـ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ، وَهُوَ بِمِنًى، قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ يَعْتَمِرُ وَيَهْدِي. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ فِي مُحْرِمٍ بِحَجَّةٍ أَصَابَ امْرَأَتَهُ: يَعْنِي وَهِيَ مُحْرِمَةٌ؟ قَالَ: يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 قَابِلٍ مِنْ حَيْثُ كَانَا أَحْرَمَا، وَيَفْتَرِقَانِ حَتَّى يُتِمَّا حَجَّهُمَا، قَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ: وَعَلَيْهِمَا بَدَنَةٌ، إِنْ أَطَاعَتْهُ، أَوِ اسْتَكْرَهَهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمَا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ، اهـ. وَهَذَا الْأَثَرُ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ عَطَاءً لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا: أَنْ مُجَاهِدًا سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ، يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَجِّهِمَا، ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَلَالًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَإِذَا كَانَ مَنْ قَابِلٍ حَجَّا وَأَهْدَيَا، وَتَفَرَّقَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: اقْضِيَا نُسُكَكُمَا، وَارْجِعَا إِلَى بَلَدِكُمَا، فَإِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ فَاخْرُجَا حَاجَّيْنِ، فَإِذَا أَحْرَمْتُمَا فَتَفَرَّقَا، وَلَا تَلْتَقِيَا حَتَّى تَقْضِيَا نُسُكَكُمَا، وَاهْدِيَا هَدْيًا. وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ أَهِلَّا مِنْ حَيْثُ أَهْلَلْتُمَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، اهـ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَسْأَلُهُ عَنْ مُحْرِمٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ؟ فَأَشَارَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ فَسَلْهُ. قَالَ شُعَيْبٌ: فَلَمْ يَعْرِفْهُ الرَّجُلُ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بَطَلَ حَجُّكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ وَاصْنَعْ مَا يَصْنَعُونَ، فَإِذَا أَدْرَكْتَ قَابِلًا، فَحَجٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَنَا مَعَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ، قَالَ شُعَيْبٌ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَنَا مَعَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: قَوْلِي مِثْلُ مَا قَالَا، اهـ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَتَرَى هَذَا الْأَثَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَنْهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةً، وَفِي بَعْضِهَا: أَنَّهُمَا تَكْفِيهِمَا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَهَذِهِ الْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَبَعْضِ خِيَارِ التَّابِعِينَ هِيَ عُمْدَةُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ إِذَا جَامَعَ مِرَارًا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَاهُ هَدْيٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ كَفَّرَ لَزِمَتْهُ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي كَفَّارَةٌ أُخْرَى، كَمَا أَنَّهُ إِنْ زَنَى مِرَارًا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ كَفَاهُ حَدٌّ وَاحِدٌ إِجْمَاعًا، وَإِنْ زَنَى بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ حَدٌّ آخَرُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ مُطْلَقًا: مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَعَطَاءٌ. وَالْأَصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ بَدَنَةٌ، وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ بَعْدَ ذَلِكَ شَاةٌ. وَعَنْ أَبِي ثَوْرٍ: تَلْزَمُهُ بِكُلِّ مَرَّةٍ بَدَنَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. فَدَمٌ وَاحِدٌ وَإِلَّا فَدَمَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ؟ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ: أَنَّ الْعَمْدَ وَالنِّسْيَانَ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَسَادِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْقَدِيمُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنْ وَطِئَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِمَاعَ الْمُفْسِدَ لِلْحَجِّ هُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وَالْغُسْلِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي كَلَامِ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي الدُّبُرِ كَالْجِمَاعِ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ فِعْلِ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ أَفْسَدَا حَجَّهُمَا، وَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي حِجَّةِ الْقَضَاءِ. لَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَظَاهِرُ الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ، وَعَنْ مَالِكٍ: يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ، وَلَا يُنْتَظَرُ مَوْضِعُ الْجِمَاعِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَظْهَرُ. وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ: أَنَّ التَّفْرِيقَ الْمَذْكُورَ وَاجِبٌ وَهُوَ قَوْلٌ أَوْ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ وَجْهٌ أَيْضًا عَنِ الْحَنَابِلَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» وَنَقْلَهَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَطَاءٍ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَفْتَرِقَانِ قِيَاسًا عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُمَا إِذَا قَضَيَا الْيَوْمَ الَّذِي أَفْسَدَاهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْهَدْيِ الَّذِي عَلَى الْمُفْسِدِ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: بَدَنَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمُ ابْنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَغَيْرُهُمْ. وَلَمْ نَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْبَدَنَةِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْبَدَنَةِ كَفَتْهُ شَاةٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَقَرَةً فَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَخْرَجَ بِقِيمَةِ الْبَدَنَةِ طَعَامًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفْسِدَ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ إِذَا قَضَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ، كَأَنْ يَكُونَ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ مُفْرِدًا وَيَقْضِيهِ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، وَيَقْضِيهِ قَارِنًا فَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُفْرِدًا فِي الْحَجِّ الَّذِي أَفْسَدَهُ وَقَضَاهُ قَارِنًا فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّهُ جَاءَ بِقَضَاءِ الْحَجِّ مَعَ زِيَادَةِ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ قَارِنًا فِي الْحَجِّ الَّذِي أَفْسَدَهُ ثُمَّ قَضَاهُ مُفْرِدًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّمَ اللَّازِمَ لَهُ بِسَبَبِ الْقِرَانِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِفْرَادِهِ فِي الْقَضَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : إِذَا وَطِئَ الْقَارِنُ، فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ، وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِمَا، وَتَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ لِلْوَطْءِ، وَشَاةٌ بِسَبَبِ الْقِرَانِ، فَإِذَا قَضَى لَزِمَتْهُ أَيْضًا شَاةٌ أُخْرَى، سَوَاءٌ قَضَى قَارِنًا، أَمْ مُفْرِدًا لِأَنَّهُ تَوَجَّبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ قَارِنًا، فَإِذَا قَضَى مُفْرِدًا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ وَطِئَ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ، وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِمَا وَالْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ شَاتَانِ: شَاةٌ لِإِفْسَادِ الْحَجِّ، وَشَاةٌ لِإِفْسَادِ الْعُمْرَةِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، فَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَذَبْحُ شَاةٍ، وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ فَتَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ بِسَبَبِهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمِمَّنْ قَالَ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ وَاحِدٌ: عَطَاءٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْحَكَمُ: يَلْزَمُهُ هَدْيَانِ انْتَهَى مِنْ «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمُفْسِدَيْنِ حَجَّهُمَا بِالْجِمَاعِ تَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ، إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً لَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَوْجَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكُ وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيًا، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ كَانَ قَبْلَ عَرَفَةَ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُجْزِئُهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَالثَّانِيَةُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ: لَزِمَهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ. الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: إِذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ طَوَافِهِ: فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا وَالْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ، فَإِنْ كَانَ جِمَاعُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ السَّعْيِ فَعُمْرَتُهُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا، وَالْقَضَاءُ وَالدَّمُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ شَاةٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَضَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ جَامَعَ الْمُعْتَمِرُ بَعْدَ أَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ تَفْسُدْ عُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، فَسَدَتْ، وَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا وَالْقَضَاءُ وَدَمٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جِمَاعُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْحَلْقِ، فَلَمْ يَقُلْ بِفَسَادِ عُمْرَتِهِ إِلَّا الشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَحْفَظُ هَذَا عَنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ دَمٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعْلَى. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ. وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الْمُحْرِمَةَ الَّتِي أَكْرَهَهَا زَوْجُهَا عَلَى الْوَطْءِ حَتَّى أَفْسَدَ حَجَّهَا أَوْ عُمْرَتَهَا بِذَلِكَ، أَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ اللَّازِمَةَ لَهَا بِسَبَبِ حَجَّةِ الْقَضَاءِ مِنْ نَفَقَاتِ سَفَرِهَا فِي الْحَجِّ، كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْهَدْيِ اللَّازِمِ لَهَا كُلَّهُ عَلَى الزَّوْجِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ بَانَتْ مِنْهُ، وَنَكَحَتْ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَاجِزًا لِفَقْرِهِ صَرَفَتْ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، إِنْ أَيْسَرَ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَعَطَاءٍ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ تَكَالِيفِ حَجَّةِ الْقَضَاءِ فِي مَالِهَا لَا فِي مَالِ الزَّوْجِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ الشِّلْبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ، شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ فِي «شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ» : أَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ نَائِمَةً، أَوْ جَامَعَهَا صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ، فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَلَا تَرْجِعُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَزِمَهَا عَلَى الْمُكْرِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَزِمَهَا فِيمَا بَيْنَهَا، وَبَيْنَ اللَّهِ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَيْهِ كَرَجُلٍ أُكَرِهَ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 النَّذْرِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، فَإِذَا أَدَّى مَا لَزِمَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ، كَذَلِكَ هُنَا انْتَهَى إِتْقَانِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. انْتَهَى كَلَامُ الشِّلْبِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ حَاشِيَتِهِ الْمَذْكُورَةِ: ثُمَّ إِذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً حَتَّى فَسَدَ حَجُّهَا وَلَزِمَهَا دَمٌ، هَلْ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ، عَنْ أَبِي شُجَاعٍ: لَا، وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ: نَعَمْ، اهـ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا لُزُومُ ذَلِكَ لِزَوْجِهَا الَّذِي أَكْرَهَهَا، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ جِدًّا ; لِأَنَّ سَبَبَهُ هُوَ جِنَايَتُهُ بِالْجِمَاعِ، الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ شَرْعًا، وَمَنْ تَسَبَّبَ فِي غَرَامَةِ إِنْسَانٍ بِفِعْلِ حَرَامٍ، فَإِلْزَامُهُ تِلْكَ الْغَرَامَةَ لَا شَكَّ فِي ظُهُورِ وَجْهِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصُّهُ: وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً عَلَى الْجِمَاعِ، فَلَا هَدْيَ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَهْدِيَ عَنْهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّهُ جِمَاعٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ حَالَ الْإِكْرَاهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي الصِّيَامِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَهْدِيَ عَنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ ; لِأَنَّ إِفْسَادَ الْحَجِّ وُجِدَ مِنْهُ فِي حَقِّهَا، فَكَانَ عَلَيْهِ لِإِفْسَادِهِ حَجَّهَا هَدْيٌ قِيَاسًا عَلَى حَجِّهِ، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ ثَبَتَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْهَدْيَ عَلَيْهَا، وَيَتَحَمَّلُهُ الزَّوْجُ عَنْهَا، فَلَا يَكُونُ رِوَايَةً ثَالِثَةً. انْتَهَى مِنْهُ. وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ مِنْهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ ; كَمَا بَيَّنَهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» . كَمَا إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً لَهُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَكَالِيفَ حَجَّةِ الْقَضَاءِ، وَكُلَّ مَا سَبَّبَهُ الْوَطْءُ الْمَذْكُورُ ; لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ. الْفَرْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كَانَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا ; لِأَنَّ النَّفْلَ مِنْهُمَا يَصِيرُ فَرْضًا بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ فِي هَذَا الْفَرْعِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ، فَأَفْسَدَهُ أَيْضًا بِالْجِمَاعِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَزِمَهُ قَضَاءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَيَقَعُ الْقَضَاءُ عَنِ الْحَجِّ الْأَوَّلِ أَيِ: الَّذِي أَفْسَدَهُ أَوَّلًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِمَّا يُمْنَعُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ حَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ ; لِقَوْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] ، فَإِنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ لِأَجْلِ مَرَضٍ، أَوْ أَذًى، كَكَثْرَةِ الْقُمَّلِ فِي رَأْسِهِ، فَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى مَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [2 \ 196] . وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا ; لِأَنَّ لَفْظَةَ «أَوْ» فِي قَوْلِهِ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ حَرْفُ تَخْيِيرٍ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الصِّيَامَ الْمَذْكُورَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَمَا سِوَى هَذَا فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي، فَحُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً» ؟ قُلْتُ: لَا. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ قَالَ: «هُوَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ:» كَأَنَّ هَوَامَّ رَأْسِكَ تُؤْذِيكَ «؟ فَقُلْتُ: أَجَلْ. قَالَ:» فَاحْلِقْهُ، وَاذْبَحْ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ «رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ» فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوِ انْسُكْ شَاةً، فَحَلَقْتُ رَأْسِي ثُمَّ نَسَكْتُ» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ:» لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ «؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ «وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:» وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ: «يُؤْذِيكَ هَوَامَّكَ» ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، أَوِ احْلِقْ» قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ «وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يَهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَبَعْضُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ غَيْرُهَا بِمَعْنَاهَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ: مُبِيِّنَةٌ غَايَةَ الْبَيَانِ آيَةَ الْفِدْيَةِ، مُوَضِّحَةٌ: أَنَّ الصِّيَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ فِيهَا ثَلَاثَةُ آصُعٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَأَنَّ النُّسُكَ فِيهَا مَا تَيَسَّرَ شَاةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْآيَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَنَافِعٍ: أَنَّ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةَ عَلَى عَشْرَةِ مَسَاكِينَ - خِلَافُ الصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: مِنْ أَنَّهُ يُجْزِئُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ الْبُرِّ خَاصَّةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْبُرِّ كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ مَثَلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ صَاعٍ كَامِلٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ - خِلَافُ الصَّوَابِ أَيْضًا لِمُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا. وَأَنَّ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ أَوَّلًا النُّسُكُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نُسُكًا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ - خِلَافُ الصَّوَابِ أَيْضًا، لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ وَاضِحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي التَّخْيِيرِ. وَمِنْ أَصَرَحِهَا فِي التَّخْيِيرِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً، وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ» ، اهـ. فَصَرَاحَةُ هَذَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَرَى. وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمًا، فَآذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ» انْتَهَى مِنَ «الْمُوَطَّأِ» . وَقَوْلُهُ: «أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ» صَرِيحٌ فِي التَّخْيِيرِ كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَالرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ لِصَرَاحَةِ لَفْظَةِ، أَوْ فِي التَّخْيِيرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا حُكْمَهُ الْآنَ: هُوَ حَلْقُ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَمَّا حَلْقُ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَوْ شَعْرِ بَاقِي الْجَسَدِ غَيْرِ الرَّأْسِ، فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وَاعْلَمْ أَنَّ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النُّسُكَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ: بَقَرَةٌ، يُجَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ، وَالْجَوَابَ عَنْهَا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَخْبَرَهُ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ فِي رَأْسِهِ أَذًى، فَحَلَقَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَهْدِيَ هَدْيًا بَقَرَةً. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» بَعْدَ أَنْ أَشَارَ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: هَذَا وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَلَقَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رَأْسَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَفْتَدِيَ فَافْتَدَى بِبَقَرَةٍ. وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: افْتَدَى كَعْبٌ مِنْ أَذًى كَانَ فِي رَأْسِهِ، فَحَلَقَهُ - بِبَقَرَةٍ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قِيلَ لِابْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: مَا صَنَعَ أَبُوكَ حِينَ أَصَابَهُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ؟ قَالَ: ذَبْحَ بَقَرَةً. انْتَهَى مِنَ «الْفَتْحِ» . ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُورُ عَلَى نَافِعٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبٍ، وَقَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهَا، مِنْ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ كَعْبٌ وَفَعَلَهُ إِنَّمَا هُوَ شَاةٌ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ ذَبَحَ شَاةً لِأَذًى كَانَ أَصَابَهُ، وَهَذَا أَصْوَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاعْتَمَدَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَقَالَ: أَخَذَ كَعْبٌ بِأَرْفَعِ الْكَفَّارَاتِ، وَلَمْ يُخَالِفِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ ذَبْحِ الشَّاةِ، بَلْ وَافَقَهُ، وَزَادَ. فَفِيهِ: أَنَّ مَنْ أَفْتَى بِأَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَرْفَعِهَا، كَمَا فَعَلَ كَعْبٌ. قُلْتُ: هُوَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِمَا قَدَّمْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْهُ الرِّوَايَاتِ الْمَقْضِيَّةَ: أَنَّ النُّسُكَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَقَرَةٌ، وَأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: عَدَمُ ثُبُوتِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ بِالْبَقَرَةِ، وَمُعَارَضَتُهَا بِمَا هُوَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مِنْ أَنَّ النُّسُكَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ شَاةٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ ثَابِتَةٌ، فَهِيَ لَا تُعَارِضُ الرِّوَايَاتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 الصَّحِيحَةَ الدَّالَّةَ، عَلَى أَنَّ النُّسُكَ الْمَذْكُورَ: شَاةٌ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّازِمَ هُوَ الشَّاةُ، وَالتَّطَوُّعُ بِالْبَقَرَةِ تَطَوُّعٌ بِأَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ. وَلَا مَانِعَ مِنَ التَّطَوُّعِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمَهُ: هُوَ حَلْقُ الرَّأْسِ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، أَوْ أَذًى فِي الرَّأْسِ كَكَثْرَةِ الْقَمْلِ فِيهِ، كَمَا هُوَ مَوْضُوعُ آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا. أَمَّا إِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَلْقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَلْزَمُهُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ فِي الْعَمْدِ بِلَا عُذْرٍ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْفِدْيَةِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ، أَوِ الْأَذَى فِي الرَّأْسِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا فِي الْإِثْمِ، فَإِنَّ الْمَعْذُورَ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ الْإِثْمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَعَنِ الْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ حَلَقَ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَاحْتَجُّوا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُذْرِ بِالنِّسْيَانِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ حَلَقَ لِعُذْرٍ وَمَنْ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ حَلَقَهُ لِعُذْرٍ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وِفَاقًا لِلْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ حَلَقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا أَعْلَمُ لِأَقْوَالِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا وَاضِحًا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ فِدْيَةَ غَيْرِ الْمَعْذُورِ كَفِدْيَةِ الْمَعْذُورِ، فَاحْتَجُّوا، بِأَنَّ الْحَلْقَ إِتْلَافٌ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِهِ وَهُوَ مَعْذُورٌ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ، اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَأَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهِ مَقْنَعٌ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ قَالُوا: فَرَتَّبَ الْفِدْيَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْعُذْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ، لَا يَكُونُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْعُذْرِ خَاصَّةً. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَجِلَّاءِ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ: يَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ: عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا يَلْزَمُ الْحَنَفِيَّةَ احْتِجَاجُ الشَّافِعِيَّةِ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَعَمْ نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَلَكِنْ نَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُكْمِ الْحَالِقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لَا بِنَفْيِ الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا بِإِثْبَاتِهَا، وَقَدْ ظَهَرَ لَنَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنِ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ، اهـ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ صِيَامَ الْفِدْيَةِ لَهُ أَنْ يَصُومَهُ حَيْثُ شَاءَ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي النُّسُكِ، وَالصَّدَقَةِ أَيْضًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُمَا حَيْثُ شَاءَ ; لِأَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى أَشْبَهُ بِالْكَفَّارَةِ مِنْهَا بِالْهَدْيِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ لِلْفِدْيَةِ مَحَلًّا مُعَيَّنًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهَا نُسُكًا وَلَمْ يُسَمِّهَا هَدْيًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ بِالنُّسُكِ الْمَذْكُورِ الْهَدْيَ، فَيَجْرِيَ عَلَى حُكْمِ الْهَدْيِ، فَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ، كَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَخْتَصُّ النُّسُكُ الْمَذْكُورُ بِالْحَرَمِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي حَلَقَهُ بَعْضَ شَعْرِ رَأْسِهِ لَا جَمِيعَهُ، أَوْ كَانَ شَعْرَ جَسَدِهِ أَوْ بَعْضَهُ، لَا شَعْرَ الرَّأْسِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا إِنَّمَا ذَكَرَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ: حَلْقَ الرَّأْسَ، وَظَاهِرُهَا حَلْقُ جَمِيعِهِ لَا بَعْضِهِ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا فِي مُسْتَنَدَاتِ أَقْوَالِهِمْ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ ضَابِطَ مَا تَلْزَمُ بِهِ فِدْيَةُ الْأَذَى مِنَ الْحَلْقِ هُوَ حُصُولُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ تَرَفُّهٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ بِهِ أَذًى. أَمَّا حَلْقُ الْقَلِيلِ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ بِهِ تَرَفُّهٌ، وَلَا إِمَاطَةُ أَذًى، فَيَلْزَمُ فِيهِ التَّصَدُّقُ بِحَفْنَةٍ: وَهِيَ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمُ الظُّفْرُ الْوَاحِدُ لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى، وَقَتْلُ الْقَمْلَةِ أَوِ الْقَمَلَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا سَمِعْتُ بِحَدٍّ فِيمَا دُونَ إِمَاطَةِ الْأَذَى أَكْثَرَ مِنْ حَفْنَةٍ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ قَالَ فِي قَمْلَةٍ أَوْ قَمَلَاتٍ: حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَالْحَفْنَةُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَفِي الظُّفْرُ الْوَاحِدُ، لَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى حَفْنَةٌ، اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّ حَلْقَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا تَلْزَمُ فِيهِ فِدْيَةُ الْأَذَى كَامِلَةً، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الثَّلَاثَ: يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَكَانَ حَلْقُهَا كَحَلْقِ الْجَمِيعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّهَا الْمَذْهَبُ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي. أَمَّا حَلْقُ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ الشَّعْرَتَيْنِ فَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا عِنْدَ مُحَقِّقِيهِمْ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ: أَنَّهُ يَجِبُ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُدٌّ وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ مُدَّانِ. الثَّانِي: يَجِبُ فِي شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ دِرْهَمٌ، وَفِي شَعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ. الثَّالِثُ: يَجِبُ فِي شَعْرَةٍ ثُلُثُ دَمٍ وَفِي شَعْرَتَيْنِ ثُلُثَاهُ. الرَّابِعُ: أَنْ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ دَمًا كَامِلًا. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ كَامِلَةً فِي أَرْبَعِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْخِرَقِيُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا. أَمَّا مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَهُوَ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ، أَوْ شَعْرَتَانِ بِحَسَبِ الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَفِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ: مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ: مُدَّانِ، وَعَنْهُ أَيْضًا فِي كُلِّ شَعْرَةٍ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ، أَوْ رُبُعَ لِحْيَتِهِ، أَوْ حَلَقَ عُضْوًا كَامِلًا كَرَقَبَتِهِ، أَوْ عَانَتِهِ أَوْ أَحَدِ إِبِطَيْهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: لَزِمَتْهُ فِدْيَةُ الْأَذَى، إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ: لَزِمَهُ دَمٌ، وَيَلْزَمُ عِنْدَهُ فِي حَلْقِ أَقَلَّ مِمَّا ذُكِرَ كَحَلْقِ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ الرَّأْسِ، أَوْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ كَامِلٍ صَدَقَةٌ، وَالصَّدَقَةُ عِنْدَهُمْ: نِصْفُ صَاعٍ مَنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مَنْ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ قَبْضَةً مِنْ طَعَامٍ كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَأَمَّا حَلْقُ شَعْرِ الْبَدَنِ غَيْرَ الرَّأْسِ، فَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ: أَنَّهُ إِنْ حَلَقَ عُضْوًا كَامِلًا فَفِيهِ الْفِدْيَةُ أَوِ الدَّمُ، وَإِنْ حَلَقَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ، فَفِيهِ الصَّدَقَةُ، وَأَنَّ حُكْمَ اللِّحْيَةِ عِنْدَهُ كَحُكْمِ الرَّأْسِ، وَحَلْقُ الرُّبُعِ فِيهِمَا كَحَلْقِ الْجَمِيعِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْجَسَدِ غَيْرَ الرَّأْسِ كَحُكْمِ حَلْقِ الرَّأْسِ، فَتَلْزَمُ الْفِدْيَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ، وَفِي الشَّعْرَةِ، أَوِ الشَّعْرَتَيْنِ مِنَ الْجَسَدِ عِنْدَهُمُ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَشَعْرَ بَدَنِهِ مَعًا، لَزِمَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ: فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، خِلَافًا لِأَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ الْقَائِلِ: يَلْزَمُهُ فِدْيَتَانِ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُخَالِفٌ لِشَعْرِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّ النُّسُكَ يَتَعَلَّقُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ، فَيَلْزَمُ حَلْقُهُ، أَوْ تَقْصِيرُهُ بِخِلَافِ شَعْرِ الْبَدَنِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فِي النُّسُكِ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ: فَأَجْزَأَتْ لَهُمَا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَشَعْرُ الرَّأْسِ وَشَعْرُ الْبَدَنِ حُكْمُهُمَا عِنْدَهُ سَوَاءٌ. وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمَانِ، إِذَا حَلَقَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الرَّأْسِ، وَالْجَسَدِ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ مُنْفَرِدًا عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِ الْأَنْمَاطِيِّ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ ; لِأَنَّ الرَّأْسَ يُخَالِفُ الْبَدَنَ، بِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهِ دُونَ الْبَدَنِ، وَلَنَا أَنَّ الشَّعْرَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْبَدَنِ، فَلَمْ تَتَعَدَّدِ الْفِدْيَةُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ كَسَائِرِ الْبَدَنِ، وَكَاللِّبَاسِ، وَدَعْوَى الِاخْتِلَافِ تَبْطُلُ بِاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَشْفُ الرَّأْسِ، دُونَ غَيْرِهِ، وَالْجَزَاءُ فِي اللُّبْسِ فِيهِمَا وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا: وَإِنْ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَتَيْنِ، وَمِنْ بَدَنِهِ شَعْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ شَعْرَ الْبَدَنِ كَشَعْرِ الرَّأْسِ، فَإِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ بَدَنِهِ مَا فِيهِ تَرَفُّهٌ، أَوْ إِمَاطَةُ أَذًى: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَالتَّصَدُّقُ بِحَفْنَةٍ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. وَسُئِلَ مَالِكٌ: عَنِ الْمُحْرِمِ يَتَوَضَّأُ فَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي أَنْفِهِ لِمُخَاطٍ يَنْزِعُهُ، أَوْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، أَوْ يَرْكَبُ دَابَّتَهُ، فَيَحْلِقُ سَاقَهُ الْإِكَافُ أَوِ السَّرْجُ؟ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ، وَهَذَا خَفِيفٌ، وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْحَطَّابِ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ: وَتَسَاقُطُ شَعْرٍ لِوُضُوءٍ أَوْ رُكُوبٍ، اهـ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي شَعْرِ الْجَسَدِ. فَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا مُسْتَنَدًا مِنْ نَصِّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ قَاسُوا شَعْرَ الْجَسَدِ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ قَدْ يَحْصُلُ بِحَلْقِهِ التَّرَفُّهُ، وَالتَّنَظُّفُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ فِي حَلْقِ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ يُشْبِهُ بَعْضَ أَنْوَاعِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ فِي حُكْمِ قَصِّ الْمُحْرِمِ أَظَافِرَهُ أَوْ بَعْضَهَا وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَصَاعِدًا: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا، لِإِمَاطَةِ أَذًى عَنْهُ: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ أَيْضًا، وَإِنْ قَلَّمَهُ لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى: لَزِمَهُ إِطْعَامُ حَفْنَةٍ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَفِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ لَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى حَفْنَةٌ، مَا نَصُّهُ: أَمَّا لَوْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَلَمْ أَرَ فِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالتَّوْضِيحِ، وَابْنِ فَرْحُونَ فِي شَرْحِهِ، لَا وَمَنَاسِكِهِ وَابْنِ عَرَفَةَ، وَالتَّادِلِيِّ، وَالطَّرَّازِ وَغَيْرِهِمْ خِلَافًا فِي لُزُومِ الْفِدْيَةِ، وَلَمْ يُفَصِّلُوا كَمَا فَصَّلُوا فِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ الظُّفْرَ إِذَا انْكَسَرَ جَازَ أَخْذُهُ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ الْكَسْرِ لَا يَنْمُو فَهُوَ كَحَطَبِ شَجَرِ الْحَرَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ حُكْمَ الْأَظْفَارِ كَحُكْمِ الشِّعْرِ، فَإِنْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَصَاعِدًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَامِلَةٌ، وَأَظْفَارُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا أَوْ ظُفْرَيْنِ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ فِيمَنْ حَلَقَ شَعْرَةً وَاحِدَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصَحَّهَا عِنْدَهُمْ أَنَّ فِي الشَّعْرَةِ مُدًّا، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ: مُدَّيْنِ، وَبَاقِي الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ مُوَضَّحٌ قَرِيبًا وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْأَظْفَارِ كَمَذْهَبِهِ فِي الشَّعْرِ، فَفِي أَرْبَعَةِ أَظْفَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ، وَحُكْمُ الظُّفْرِ الْوَاحِدِ كَحُكْمِ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَحُكْمُ الظُّفْرَيْنِ كَحُكْمِ الشَّعْرَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا قَرِيبًا. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَوْ قَصَّ أَظْفَارَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ جَمِيعًا بِمَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ وَاحِدَةٍ كَامِلَةً فِي مَجْلِسٍ، أَوْ رِجْلٍ كَذَلِكَ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَإِنْ قَطَعَ مَثَلًا خَمْسَةَ أَظْفَارٍ ثَلَاثَةً مِنْ يَدٍ وَاثْنَانِ مِنْ رِجْلٍ، أَوْ يَدٍ أُخْرَى، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَنْ كُلِّ ظُفْرٍ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَابِ الْفِدْيَةِ: أَنَّ مَا كَانَ لِعُذْرٍ فَفِيهِ فِدْيَةُ الْأَذَى الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ الدَّمُ، كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا لَوْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 قَصَّ أَظْفَارَ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ رِجْلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ، وَالْأُخْرَى فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ: يَتَعَدَّدُ الدَّمُ، حَتَّى إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَلْزَمَهُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ لِلرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ، إِذَا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دَمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الْمَجَالِسُ إِلَّا إِذَا تَخَلَّلَتِ الْكَفَّارَةُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَوْ قَصَّ أَظَافِرَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّدَقَةُ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ الدَّمُ بِقَصِّ ثَلَاثَةِ أَظْفَارٍ مِنَ الْيَدِ أَوْ مِنَ الرِّجْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ، وَالثَّلَاثَةُ أَكْثَرُ مِنَ الْبَاقِي بَعْدَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَمْسَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِأَخْذِهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَنْهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِفِدْيَةٍ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ قَوْلَ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لَهُ أَنْ يَقُصَّ أَظْفَارَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّصِّ، وَفِي اعْتِبَارِ دَاوُدَ فِي الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ اعْتِبَارُهُ فِي الْإِجْمَاعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَلَنَا أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ إِزَالَتُهُ لِأَجْلِ التَّرَفُّهِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَعَدَمُ النَّصِّ فِيهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ. كَشَعْرِ الْبَدَنِ مَعَ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَالْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْأَظْفَارِ كَالْحُكْمِ فِي فِدْيَةِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ، فِي أَرْبَعَةٍ مِنْهَا دَمٌ. وَعَنْهُ فِي ثَلَاثَةٍ دَمٌ، وَفِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ وَفِي الظُّفْرَيْنِ: مُدَّانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ كَذَلِكَ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ فِي حُكْمِ قَصِّ الْمُحْرِمِ أَظْفَارَهُ، وَمَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَعْلَمُ لِأَقْوَالِهِمْ مُسْتَنَدًا مِنَ النُّصُوصِ، إِلَّا مَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ، مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ، أَمَّا لُزُومُ الْفِدْيَةِ، فَلَمْ يَدَّعِ فِيهِ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْ تَفْسِيرِ آيَةِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ كَمَنْعِهِ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ الْآيَةَ [22 \ 29] . قَالَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» : وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قَالَ: «يَعْنِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 بِالتَّفَثِ: وَضْعَ إِحْرَامِهِمْ مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ، وَقَصِّ الْأَظْفَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ» . وَقَالَ أَيْضًا: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: التَّفَثُ: حَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَالْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، اهـ. وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَإِنْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ بِغَيْرِهِ. وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى: أَنَّ الْأَظْفَارَ كَالشَّعْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ بِـ «ثُمَّ» عَلَى نَحْرِ الْهَدَايَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ نَحْرِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ وَقَصَّ الْأَظَافِرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّحْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. كَمَا بَيَّنَّاهُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَيُؤَيِّدُ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ الدَّالَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: التَّفَثُ فِي الْمَنَاسِكِ: مَا كَانَ مِنْ نَحْوِ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَالشَّارِبِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَالْعَانَةِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَنَحْرِ الْبُدْنِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ شِعْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» : التَّفَثُ مُحَرَّكَةٌ فِي الْمَنَاسِكِ: الشَّعَثُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَحْوِ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَالشَّارِبِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَكَتِفِ الشَّعِثِ وَالْمُغْبَرِّ، اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : التَّفَثُ: نَتْفُ الشَّعْرِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، إِلَخْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى التَّفَثِ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ غَرِيبَةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيهَا شِعْرًا، وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خُبْرًا، لَكِنِّي تَتَبَّعْتُ التَّفَثَ لُغَةً فَرَأَيْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَالَ: إِنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ وَأَخْذُ الشَّارِبِ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَّا النِّكَاحَ، وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ شِعْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْعَيْنِ» : التَّفَثُ: هُوَ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ، وَالذَّبْحُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَالشَّارِبِ، وَالْإِبِطِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ، وَلَا أَرَاهُمْ أَخَذُوهُ إِلَّا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَفَثَ الرَّجُلُ: إِذَا كَثُرَ وَسَخُهُ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 حَلَقُوا رُءُوسَهُمْ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا ... وَلَمْ يُسِلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قُطْرُبٌ هُوَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ، وَهَذِهِ صُورَةُ إِلْقَاءِ التَّفَثِ لُغَةً، إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: مَا حَكَاهُ عَنْ قُطْرُبٍ، وَذَكَرَ مِنَ الشِّعْرِ قَدْ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَذَكَرَ بَيْتًا آخَرَ فَقَالَ: قَضَوْا تَفَثًا وَنَحْبًا ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَجْدٍ وَمَا انْتَظَرُوا عَلِيًا وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَأَصْلُ التَّفَثِ فِي اللُّغَةِ: الْوَسَخُ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ تَسْتَقْذِرُهُ: مَا أَتْفَثَكَ أَيْ: مَا أَوْسَخَكَ وَأَقْذَرَكَ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: سَاخِينَ آبَاطَهُمْ لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا ... وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَاخِينَ آبَاطَهُمُ. . الْبَيْتَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: سَخَا يَسْخُو سَخْوًا إِذَا سَكَنَ مِنْ حَرَكَتِهِ: يَعْنِي: أَنَّهُمْ سَاكِنُونَ عَنِ الْحَرَكَةِ إِلَى آبَاطِهِمْ بِالْحَلْقِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: . . . لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا ... وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا الْفَرْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ، مَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلْبُوسِ، وَسَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَبِسَ شَيْئًا مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ مُخْتَارًا عَامِدًا، أَثِمَ بِذَلِكَ، وَلَزِمَتْهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ قَصُرَ زَمَانُ اللُّبْسِ أَوْ طَالَ، لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ عِنْدَهُمْ لِلُزُومِ الْفِدْيَةِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَاللُّبْسُ الْحَرَامُ الْمُوجِبُ لِلْفِدْيَةِ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُعْتَادُ فِي كُلِّ مَلْبُوسٍ، فَلَوِ الْتَحَفَ بِقَمِيصٍ أَوْ قَبَاءٍ، أَوِ ارْتَدَى بِهِمَا، أَوِ ائْتَزَرَ سَرَاوِيلَ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لُبْسًا لَهُ فِي الْعَادَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَمَنْ لَفَّقَ إِزَارًا مِنْ خِرَقٍ وَطَبَقَتِهَا وَخَاطَهَا: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوِ الْتَحَفَ بِقَمِيصٍ أَوْ بِعَبَاءَةٍ أَوْ إِزَارٍ وَنَحْوِهَا وَلَفَّهَا عَلَيْهِ طَاقًا أَوْ طَاقَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَا فِدْيَةَ، وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 قَالَهُ النَّوَوِيُّ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمُصْحَفَ وَحَمَائِلَ السَّيْفِ، وَأَنْ يَشُدَّ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ فِي وَسَطِهِ، وَيَلْبَسَ الْخَاتَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا كُلِّهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً، إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَكَرِهَهُمَا، وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ مَوْلَاهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ كَوْنِ جَوَازِ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ فِي وَسَطِهِ، هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ - فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ: مَنْعُ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ، فَوْقَ الْإِزَارِ مُطْلَقًا، وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ. أَمَّا شَدُّ الْمِنْطَقَةِ مُبَاشِرَةً لِلْجِلْدِ تَحْتَ الْإِزَارِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ حِفْظَ نَفَقَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا تَحْتَ الْإِزَارِ، لِضَرُورَةِ حِفْظِ النَّفَقَةِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَشَدُّ الْمِنْطَقَةِ لِغَيْرِ النَّفَقَةِ تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا، عِنْدَ أَحْمَدَ. وَالْهِمْيَانُ قَرِيبٌ مِمَّا تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْيَوْمَ: بِالْكَمَرِ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ: وَشَدُّ مِنْطَقَةٍ لِنَفَقَتِهِ عَلَى جِلْدِهِ. قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي «شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ» : الْمِنْطَقَةُ: الْهِمْيَانُ، وَهُوَ مِثْلُ الْكِيسِ تُجْعَلُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ، اهـ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشَدِّ الْمِنْطَقَةِ لِحِفْظِ النَّفَقَةِ، وَمَا فِي «الْمُغْنِي» مَنْ رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَرْفُوعُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَفِي إِسْنَادِهِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَهُ فِي: «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» ، وَقَالَ فِي: «التَّقْرِيبِ» فِي يُوسُفَ الْمَذْكُورِ: تَرَكُوهُ، وَكَذَّبُوهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ اللُّبْسَ الْحَرَامَ عَلَى الْمُحْرِمِ، تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ اللَّحْظَةِ وَالزَّمَنِ الطَّوِيلِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ جَزَمَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ اللَّازِمَ فِي ذَلِكَ هُوَ فِدْيَةُ الْأَذَى الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ. وَدَلِيلُهُمُ الْقِيَاسُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُمْ طَرِيقَانِ غَيْرَ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ إِحْدَاهُمَا، وَذَكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِيضَاحِ، وَآخَرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُتَمَتِّعِ، فَيَلْزَمُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ قَوَّمَهُ دَرَاهِمَ، وَقَوَّمَ الدَّرَاهِمَ طَعَامًا، ثُمَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ كَالْحَلْقِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّرَفُّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ شَاةٍ، وَبَيْنَ تَقْوِيمِهَا، وَيُخْرِجُ قِيمَتَهَا طَعَامًا، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. الثَّالِثُ: تَجِبُ شَاةٌ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا، لَزِمَهُ الطَّعَامُ بِقِيمَتِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ كَالْمُتَمَتِّعِ. انْتَهَى مِنَ النَّوَوِيِّ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ اللُّبْسَ الْحَرَامَ تَلْزَمُ فِيهِ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَهَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ بِقَلِيلِ اللُّبْسِ وَكَثِيرِهِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ: لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ سَتْرُ وَجْهِهِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَيَاضِ الَّذِي وَرَاءَ الْآذَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَعْنِي جَوَازَ سَتْرِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ كَرَأْسِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ أَرْجَحُ عِنْدِي كَمَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ، فَمَاتَ: «لَا وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ» وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ إِحْرَامَ الرَّجُلِ مَانِعٌ مِنْ سَتْرِ وَجْهِهِ، وَمَا أَوَّلَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَيْسَ بِمُقْنِعٍ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَجِلَّاءِ الَّذِينَ خَالَفُوا ظَاهِرَهُ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَالْآثَارُ الَّتِي رَوَوْهَا عَنْ عُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، لَا يُعَارَضُ بِهَا الْمَرْفُوعُ الصَّحِيحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالظَّاهِرُ لَنَا: أَنَّ مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: مِنْ جَوَازِ لُبْسِ الْمُحْرِمَةِ الْقُفَّازَيْنِ - خِلَافُ الصَّوَابِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ: «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ صَحِيحٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ يُخَالِفُهُ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، مِنَ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْمَرْأَةِ الْخُلْخَالَ وَالسُّوَارَ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَالظَّاهِرُ: جَوَازُ ذَلِكَ: وَلَا دَلِيلَ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 أَمَّا لُبْسُ الرَّجُلِ الْقُفَّازَيْنِ، فَلَمْ يُخَالِفْ فِي مَنْعِهِ أَحَدٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا طَلَى الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِطِينٍ، أَوْ حِنَّاءٍ أَوْ مَرْهَمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ كَانَ ثَخِينًا سَاتِرًا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ سَاتِرًا وَلَوْ تَوَسَّدَ وِسَادَةً، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوِ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ أَوِ اسْتَظَلَّ بِمَحْمَلٍ، أَوْ هَوْدَجٍ، فَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: جَائِزٌ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ، سَوَاءٌ مَسَّ الْمَحْمَلُ رَأْسَهُ أَمْ لَا، وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ إِنْ مَسَّ الْمَحْمَلُ رَأَسَهُ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ. وَضَابِطُ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ هُوَ: أَنْ يَسْتُرَ مِنْ رَأْسِهِ قَدْرًا يُقْصَدُ سَتْرُهُ، لِغَرَضٍ كَشَدِّ عِصَابَةٍ وَإِلْصَاقِ لُصُوقٍ لِشَجَّةٍ وَنَحْوِهَا، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ شَدَّ خَيْطًا عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَلَوْ جُرِحَ الْمَحْرِمُ فَشَدَّ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهَا سَتْرُهُ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا، وَلَهَا سَتْرُ وَجْهِهَا عَنِ الرِّجَالِ، وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تُسْدِلَ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا مُتَجَافِيًا عَنْهُ لَا لَاصِقًا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ وَيَشُدَّ عَلَيْهِ خَيْطَانِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِثْلَ الْحُجْزَةِ، وَيُدْخِلَ فِيهَا التِّكَّةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْإِزَارِ، لَا يَسْتَمْسِكُ إِلَّا بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لَهُ جَعْلُ حُجْزَةٍ فِي الْإِزَارِ، وَإِدْخَالُ التِّكَّةِ فِيهَا ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَالسَّرَاوِيلِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمُ الْأَوَّلُ، وَالْأَخِيرُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ بِمَنْعِ عَقْدِ الْإِزَارِ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. أَمَّا عَقْدُ الرِّدَاءِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَلُّهُ بِخِلَالٍ، وَرَبْطُ طَرَفِهِ إِلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ بِخَيْطٍ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَوَجْهُ تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ أَنَّ الْإِزَارَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ، وَلَوْ حَمَلَ الْمُحْرِمُ عَلَى رَأْسِهِ زِنْبِيلًا، أَوْ حِمْلًا، فَفِي ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ السَّتْرَ كَمَا لَا يُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ فِي مَتَاعٍ، اهـ. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ عَقْدِ الْإِزَارِ، وَمَنْعِ عَقْدِ الرِّدَاءِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنْ يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ مِنْدِيلًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ حَبْلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَعْقِدْهُ فَإِنْ عَقَدَهُ مُنِعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا أَدْخَلَ بَعْضَ ذَلِكَ الَّذِي شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ فِي بَعْضِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : قَالَ أَحْمَدُ فِي مُحْرِمٍ حَزَمَ عِمَامَةً عَلَى وَسَطِهِ لَا تَعْقِدْهَا، وَيُدْخِلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ طَاوُسٌ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَدْ شَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ، فَأَدْخَلَهَا هَكَذَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِضَرُورَةِ الْعَمَلِ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُقَّ أَسْفَلَ رِدَائِهِ نِصْفَيْنِ، وَيَعْقِدَ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى سَاقٍ ; لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَلُزُومُ الْفِدْيَةِ ; لِأَنَّهُ كَالسَّرَاوِيلِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، اهـ. وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ لُبْسَ الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ، مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ تَلْزَمُ بِهِ الْفِدْيَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِنْ لَبِسَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ لَزِمَتْهُ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَيَسْتَوِي عِنْدَهُمُ: الْخِيَاطَةُ وَالْعَقْدُ وَالتَّزَرُّرُ وَالتَّخَلُّلُ وَالنَّسْخُ عَلَى هَيْئَةِ الْمَخِيطِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ اللُّبْسِ، مِنْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ يَطُولَ زَمَنُهُ كَيَوْمٍ كَامِلٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ انْتِفَاعِهِ بِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. أَمَّا إِذَا لَبِسَ الْمُحْرِمُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِلُبْسِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، وَلَمْ يَدُمْ لُبْسُهُ لَهُ يَوْمًا كَامِلًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْحِزَامَ ; لِأَجْلِ الْعَمَلِ خَاصَّةً، وَلَا يَعْقِدُهُ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْفِرَ عِنْدَ الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ. وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْفَارِ لِلرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالِاسْتِثْفَارُ: شَدُّ الْفَرْجِ بِخِرْقَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَوْثَقُ طَرَفَاهَا إِلَى شَيْءٍ مَشْدُودٍ عَلَى الْوَسَطِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ثَفَرِ الدَّابَّةِ، الَّذِي يُجْعَلُ تَحْتَ ذَنَبِهَا، أَوْ مِنْ ثَفَرِ الدَّابَّةِ بِمَعْنَى: فَرْجِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: جَزَى اللَّهُ عَنَّا الْأَعْوَرَيْنِ مَلَامَةَ ... وَفَرْوَةَ ثَفَرَ الثَّوْرَةِ الْمُتَضَاجِمِ فَقَوْلُهُ: ثَفَرَ الثَّوْرَةِ يَعْنِي: فَرْجِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فَرْوَةِ، وَالْمُتَضَاجِمُ الْمَائِلُ وَهُوَ مَخْفُوضٌ بِالْمُجَاوَرَةِ ; لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلثَّفَرِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ. وَفَرْوَةُ: اسْمُ رَجُلٍ جَعَلَهُ فِي الْخُبْثِ، وَالْحَقَارَةِ كَأَنَّهُ فَرْجُ بَقَرَةٍ مَائِلٍ. وَسَتْرُ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَسَتْرِ رَأْسِهِ: تَلْزَمُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، إِنْ سَتَرَ ذَلِكَ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا كَالْمَخِيطِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا لَوْ سَتَرَهُ بِطِينٍ أَوْ جِلْدِ حَيَوَانٍ يُسْلَخُ، فَيُلْبَسُ، وَلَا يَمْنَعُ عِنْدَهُمْ لُبْسُ الْمَخِيطِ، إِذَا اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ غَيْرِ الْمَخِيطِ، كَأَنْ يَجْعَلَ الْقَمِيصَ إِزَارًا أَوْ رِدَاءً ; لِأَنَّهُ إِذَا ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ مَثَلًا، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 حَتَّى يُحِيطَ بِهِ ; لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالَ الرِّدَاءِ، وَلَا بَأْسَ عِنْدَهُمْ بِاتِّقَاءِ الشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ بِالْيَدِ يَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ. وَلَهُ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ مِنْ غُبَارٍ، أَوْ جِيفَةٍ مَرَّ بِهَا. وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَهُمْ، إِنْ مَرَّ عَلَى طِيبٍ وَتَلْزَمُ عِنْدَهُمُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ الْقَبَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي كُمِّهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا إِذَا أَدْخَلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ، وَأَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُظَلِّلَ الْمُحْرِمُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ وَجْهِهِ بِعَصًا فِيهَا ثَوْبٌ فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى، وَفِيهِ قَوْلٌ عِنْدَهُمْ: بَعْدَ لُزُومِ الْفِدْيَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي التَّظْلِيلِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَوْبٍ يَقِيهِ الْحَرَّ، وَهُوَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ: يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ، فَالسُّنَّةُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَرْفَعَ فَوْقَ رَأْسِهِ شَيْئًا يَقِيهِ مِنَ الْمَطَرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ فَوْقَهُ شَيْئًا يَقِيهِ مِنَ الْبَرْدِ. وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لِدُخُولِهِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَذَى مِنَ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَالْمَطَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْفِدْيَةَ الْمَذْكُورَةَ مَنْدُوبَةٌ لَا وَاجِبَةٌ. وَمَا يَذْكُرُهُ الْمَالِكِيَّةُ، مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ أَوْ يُمْنَعُ وَأَنَّ ذَلِكَ تَلْزَمُ فِيهِ الْفِدْيَةُ - خِلَافُ التَّحْقِيقِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ مِنْ غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا فِدْيَةٍ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْفِدْيَةُ تَلْزَمُهُ لِبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِظْلَالِ بِالْخِبَاءِ، وَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْفُسْطَاطِ وَالشَّجَرَةِ، وَأَنْ يَرْمِيَ عَلَيْهَا ثَوْبًا. وَعَنْ مَالِكٍ مَنْعُ إِلْقَاءِ الثَّوْبِ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَأَجَازَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ قِيَاسًا عَلَى الْخَيْمَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاعْلَمْ: أَنَّ الِاسْتِظْلَالَ بِالثَّوْبِ عَلَى الْعَصَا عِنْدَهُمْ إِذَا فَعَلَهُ وَهُوَ سَائِرٌ لَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِ، وَلُزُومِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ نَازِلٌ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ أَشَرْنَا لَهُ قَرِيبًا. وَالْحَقُّ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ مَا ثَبَتَتْ فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى رَأْيِ مُجْتَهِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدٍ حُجَّةً عَلَى سُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صَحَّ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا: إِذَا وَجَدْتُمْ قَوْلِي يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَاتَّبِعُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّمْسِ. الْحَدِيثَ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ: فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخُطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ، يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ الرَّاكِبِ بِثَوْبٍ مَرْفُوعٍ فَوْقَهُ يَقِيهِ حَرَّ الشَّمْسِ. وَالنَّازِلُ أَحْرَى بِهَذَا الْحُكْمِ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الرَّاكِبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَرْفُوعُ لَا يُعَارَضُ بِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَقَوْلِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا، وَلَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ الضَّعِيفِ فِي مَنْعِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: حَمْلُ الْمُحْرِمِ زَادَهُ عَلَى رَأْسِهِ فِي خَرَجٍ أَوْ جِرَابٍ إِنْ كَانَ فَقِيرًا تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، أَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِبُخْلِهِ بِأُجْرَةِ الْحَمْلِ، وَهُوَ غَنِيٌّ، أَوْ لِأَجْلِ تِجَارَةٍ بِالْمَحْمُولِ، فَلَا يَجُوزُ، وَتَلْزَمُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِبْدَالُ ثَوْبِهِ الَّذِي أَحْرَمَ فِيهِ بِثَوْبٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ، وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الِاسْتِرَاحَةَ مِنَ الْهَوَامِّ الَّتِي فِيهِ، إِلَّا أَنْ يَنْقُلَ الْهَوَامَّ مِنْ جَسَدِهِ، أَوْ ثَوْبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي يُرِيدُ طَرْحَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَطَرْحِهِ لَهَا. قَالَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَسْلُ ثَوْبِهِ الَّذِي أَحْرَمَ فِيهِ، إِلَّا لِنَجَاسَةٍ فِيهِ، فَيَجُوزُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ فَقَطْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ أَيْضًا، لِأَجْلِ الْوَسَخِ، فَلَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِالنَّجَاسَةِ ; لِأَنَّ الْوَسَخَ مُبِيحٌ لِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَوْفَ أَنْ يَقْتُلَ بِغَسْلِهِ إِيَّاهُ بَعْضَ الدَّوَابِّ الَّتِي فِي الثَّوْبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ، فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِغَسْلِهِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِنَجَاسَةٍ أَوْ وَسَخٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَعْصِبَ الْمُحْرِمُ عَلَى جُرْحِهِ خِرَقًا، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِذَلِكَ. وَقَالَ التُّونُسِيُّ: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: صَغِيرُ خِرَقِ التَّعْصِيبِ وَالرَّبْطِ كَكَبِيرِهَا، وَرَوَى مُحَمَّدٌ: رُقْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ كَبِيرَةٌ فِيهَا الْفِدْيَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَالِكِيِّ: أَوْ لَصَقَ خِرْقَةً كَدِرْهَمٍ - أَنَّ الْخِرْقَةَ الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَقَالَ شَارِحُهُ الْحَطَّابُ: انْظُرْ إِذَا كَانَ بِهِ جُرُوحٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَلْصَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا خِرْقَةً، دُونَ الدِّرْهَمِ، وَالْمَجْمُوعُ كَدِرْهَمٍ، أَوْ أَكْثَرَ. وَظَاهِرُ مَا فِي التَّوْضِيحِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَسَمِعَ ابْنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 الْقَاسِمِ: لَا بَأْسَ، وَلَا فِدْيَةَ فِي جَعْلِ فَرْجِهِ فِي خِرْقَةٍ عِنْدَ النَّوْمِ، فَإِنْ لَفَّهَا عَلَى ذَكَرِهِ لِبَوْلٍ، أَوْ مَذْيٍ افْتَدَى. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَجْعَلَ الْقُطْنَ فِي أُذُنَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى ; لِأَنَّ كَشْفَ الْأُذُنِ وَاجِبٌ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْطِيَتُهَا بِالْقُطْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ عَلَى صُدْغِهِ قِرْطَاسًا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لَعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ عَصْبُ رَأْسِهِ بِعِصَابَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى. وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ لُبْسُ الْمَصْبُوغِ بِغَيْرِ طِيبٍ، لِمَنْ يَقْتَدِي بِهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ لَوْنُ الصَّبْغِ يُشْبِهُ لَوْنَ صَبْغِ الطِّيبِ: وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ: شَدُّ نَفَقَتِهِ بِعَضُدِهِ أَوْ فَخِذِهِ أَوْ سَاقِهِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ شَدَّ عَضُدَهُ، أَوْ سَاقَهُ، أَوْ فَخِذَهُ بِمَا يُحِيطُ بِهِ لِغَيْرِ نَفَقَةٍ أَوْ لِنَفَقَةِ غَيْرِهِ افْتَدَى. وَإِنْ شَدَّ نَفَقَتَهُ، وَجَعَلَ مَعَهَا نَفَقَةً لِغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ، فَإِنْ فَرَغَتْ نَفَقَتُهُ أَلْقَى الْمِنْطَقَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا كَانَ يَشُدُّهُ لِحِفْظِهَا وَرَدَّ نَفَقَةَ غَيْرِهِ إِلَى رَبِّهَا فَوْرًا، وَإِنْ تَرَكَ رَدَّهَا إِلَيْهِ افْتَدَى، وَإِنْ ذَهَبَ صَاحِبُهَا، وَهُوَ عَالِمٌ افْتَدَى، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. انْتَهَى مِنَ الْمَوَّاقِ. وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: كَبُّ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ عَلَى الْوِسَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ غَمْسُ رَأْسِهِ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَطْعَمَ شَيْئًا، قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَنَقَلْنَاهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ وَالْحَطَّابِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ إِطْعَامَ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ شَعَرٌ يَكُونُ فِيهِ الْقَمْلُ. أَمَّا مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ الْقَمْلُ فَلَا يُكْرَهُ غَمْسُ رَأْسِهِ فِي الْمَاءِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، قَالَهُ اللَّخْمِيُّ، وَصَاحِبُ الطِّرَازِ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْحَطَّابِ. وَغَسْلُ الرَّأْسِ لِجَنَابَةٍ: لَا خِلَافَ فِيهِ. أَمَّا غَسْلُهُ لِغَيْرِ جَنَابَةٍ بَلْ لِلتَّبَرُّدِ وَنَحْوِهِ: فَفِيهِ عِنْدَهُمْ قَوْلَانِ: بِالْجَوَازِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالْجَوَازُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَبِسَ اللُّبْسَ الْحَرَامَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ دَمٌ، إِلَّا إِذَا لَبِسَهُ يَوْمًا كَامِلًا ; لِأَنَّ الْيَوْمَ الْكَامِلَ مَظِنَّةُ الِانْتِفَاعِ بِاللُّبْسِ، مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إِنْ لَبِسَهُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّمِ بِحِسَابِهِ، اهـ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَفِيهِ عِنْدَهُمْ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَفِيهِ الدَّمُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَلْزَمُ بِهِ الْفِدْيَةُ فِي اللُّبْسِ الْحَرَامِ مِنْ نَوْعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوِ اتَّشَحَ بِهِ، أَوِ اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ، فَلَا بَأْسَ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: تَغْطِيَةُ رُبْعِ الرَّأْسِ كَتَغْطِيَةِ جَمِيعِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْأَكْثَرُ وَدَوَامُ لُبْسِ الْمَخِيطِ عِنْدَهُمْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَابْتِدَائِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَلَهُ - يَعْنِي الْمُحْرِمَ - أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمُصْحَفَ وَحَمَائِلَ السَّيْفِ وَأَنَّ يَشُدَّ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ فِي وَسَطِهِ، وَيَلْبَسَ الْخَاتَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا كُلِّهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَكَرِهَهُمَا وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ مَوْلَاهُ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا نَاقَشْنَاهُ فِي كَلَامِهِ وَبَيَّنَّا: أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ لَا يُجِيزُونَ شَدَّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ، إِلَّا تَحْتَ الْإِزَارِ مُبَاشِرًا جِلْدَهُ لِخُصُوصِ النَّفَقَةِ، وَأَنَّ شَدَّ الْهِمْيَانِ فَوْقَ الْإِزَارِ فِيهِ عِنْدَهُمُ الْفِدْيَةُ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ تَحْتَ الْإِزَارِ لِغَيْرِ حِفْظِ النَّفَقَةِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ تَلْزَمُ عِنْدَهُ الْفِدْيَةُ فِي شَدِّ الْمِنْطَقَةِ لِغَيْرِ حِفْظِ النَّفَقَةِ: أَيْ وَلَوْ كَانَ لِوَجَعٍ بِظَهْرِهِ، وَسَنُتَمِّمُ الْكَلَامَ هُنَا. أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لُبْسَ الْخَاتَمِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلْمُحْرِمِ، فَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِمَنْعِ لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْخَاتَمَ وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ لُبْسِهِ وَمَنْعِهِ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: مُشَبَّهًا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْمُحْرِمِ كَخَاتَمٍ، مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَفِي الْخَاتَمِ قَوْلَانِ، فَحَمَلَهُمَا فِي التَّوْضِيحِ عَلَى الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ: الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ مَنْعُهُ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْإِحَاطَةِ بِالْإِصْبَعِ الْمُحِيطِ، وَفِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ: لَا بَأْسَ بِهِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَنْعِ يَقُولُ: بِالْفِدْيَةِ، وَالْقَائِلَ بِالْجَوَازِ يَقُولُ بِسُقُوطِ الْفِدْيَةِ. انْتَهَى مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: تَنْبِيهٌ: وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْخَاتَمِ، اهـ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا كُلِّهِ - فِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا تَقَلُّدُ حَمَائِلِ السَّيْفِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ يُلْجِئُهُ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ لَهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، فَإِنْ تَقَلَّدَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ: يَنْزِعُهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 الْمَوَّاقِ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي سَيْفٍ، وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ، اهـ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يَنْزِعُهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقَلُّدُ السَّيْفِ اخْتِيَارًا عِنْدَهُ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ، أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: وَيَتَقَلَّدُ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» فِي شَرْحِهِ لِكَلَامِ الْخِرَقِيِّ: فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ «الْحَجِّ» : بَابُ لُبْسِ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلَاحَ وَافْتَدَى، وَلَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحًا إِلَّا فِي الْقِرَابِ» انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تُوبِعَ فِي لُبْسِ السِّلَاحِ لِلضَّرُورَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَاضَاهُمْ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحًا إِلَّا فِي الْقِرَابِ، أَنَّهُ صَالَحَ كُفَّارَ مَكَّةَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ مُعْتَمِرًا عَامَ سَبْعٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ السُّيُوفَ إِلَّا فِي أَغْمَادِهَا، وَالْقِرَابُ غِمْدُ السَّيْفِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْمُحْرِمِ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ لِلْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: «فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ السِّلَاحُ إِلَّا السَّيْفُ فِي الْقِرَابِ» الْحَدِيثَ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: «لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحٌ إِلَّا فِي الْقِرَابِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَيْضًا: «وَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ» فَسَأَلُوهُ: مَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ؟ فَقَالَ: «الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ» وَالْجُلُبَّانُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا أَلْفٌ ثُمَّ نُونٌ: هُوَ قِرَابُ السَّيْفِ وَيُطْلَقُ عَلَى أَوْعِيَةِ السِّلَاحِ، وَيُرْوَى بِتَسْكِينِ اللَّامِ، وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَهُوَ شِبْهُ الْجِرَابِ مِنَ الْأُدْمِ يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مَغْمُودًا. وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : وَالْقِرَابُ غِمْدُ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِمَا وَجَمْعُهُ قُرُبٌ أَيْ: بِضَمَّتَيْنِ، وَفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ: قِرَابُ السَّيْفِ: جَفْنُهُ وَهُوَ وِعَاءٌ يَكُونُ فِيهِ السَّيْفُ بِغِمْدِهِ، وَحِمَالَتِهِ، اهـ وَالْقِرَابُ كَكِتَابٍ، وَمِنْ جَمْعِهِ عَلَى قُرُبٍ بِضَمَّتَيْنِ قَوْلُهُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِلَيْكَ رِحَالَ الْقَوْمِ وَالْقُرُبَا يَعْنِي: ضُمِّي إِلَيْكَ رِحَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، فِي أَوْعِيَتِهِ. وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ: اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ دَخَلُوا مَكَّةَ مُحْرِمِينَ عَامَ سَبْعٍ وَهُمْ مُتَقَلِّدُو سُيُوفِهِمْ فِي أَغْمَادِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِلَّةِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُوثَقُ بِعُهُودِهِمْ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَقَلَّدُوهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا حَمَلُوا السِّلَاحَ مَعَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ فِي أَوْعِيَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَتَقَلَّدُوهُ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَلَا حُجَّةَ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى تَقَلُّدِ الْمُحْرِمِ حَمَائِلَ السَّيْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: قَدْ بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ. اعْلَمْ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَأَحْمَدَ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يُطَيِّبَ جَسَدَهُ كُلَّهُ أَوْ عُضْوًا مِنْهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِنْ فَعَلَهُ قَصْدًا يَأْثَمُ بِهِ، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِلَّا إِذَا طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا، مِثْلَ الرَّأْسِ، وَالْفَخِذِ، وَالسَّاقِ، فَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ، كَتَمْرٍ وَشَعِيرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ، كَاللِّبَاسِ، وَالتَّطَيُّبِ، لَا لِعُذْرٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَتُجْزِئُهُ شَاةٌ وَإِنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ فِدْيَةُ الْأَذَى الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ طِيبًا كَثِيرًا: لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ لَزِمَهُ بِحَسَبِهِ مِنَ الدَّمِ فَإِنْ طَيَّبَ ثُلُثَ الْعُضْوِ، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ دَمٍ مَثَلًا، وَهَكَذَا، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ طَيَّبَ رُبُعَ عُضْوٍ: لَزِمَهُ الدَّمُ كَامِلًا كَحَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَحَلْقِ جَمِيعِهِ. وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ فِي تَطْيِيبِ بَعْضِ الْعُضْوِ عِنْدَهُمْ. وَظَاهِرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ طِيبًا كَثِيرًا عَلَى بَعْضِ عُضْوٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّدَقَةُ. وَصَحَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطِّيبُ قَلِيلًا فَالْعِبْرَةُ بِالْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالْعِبْرَةُ بِالطِّيبِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَسَّ طِيبًا بِإِصْبَعِهِ، فَأَصَابَهَا كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ طَيَّبَ شَارِبَهُ كُلَّهُ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ لِحْيَتِهِ، أَوْ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنِ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ مُطَيَّبٍ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهُ الْأَنْفُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَفِي مَنَاسِكِ الْكِرْمَانِيِّ: لَوْ طَيَّبَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ فِي أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ يُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَإِنْ بَلَغَ عُضْوًا: فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ، وَلَوْ شَمَّ طِيبًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا مُجَمَّرًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَجْمَرَ ثَوْبَهُ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ كَثِيرًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ انْتَهَى مِنْ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ طَيَّبَ أَعْضَاءَهُ كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَذْبَحْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَاخْتِلَافٍ فِي الْجِمَاعِ، اهـ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ: وَالْحِنَّاءُ عِنْدَهُمْ طِيبٌ، فَلَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ، لَزِمَهُ الدَّمُ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» . قَالُوا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ فِي «الْمَعْرِفَةِ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ فَحَاصِلُهُ: أَنَّ الطِّيبَ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ، أَمَّا الْمُذَكَّرُ فَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ، وَيَخْفَى أَثَرُهُ: كَالرَّيْحَانِ، وَالْيَاسَمِينِ، وَالْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُؤَنَّثُ: فَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ، وَيَبْقَى أَثَرُهُ: كَالْمِسْكِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْمُذَكَّرُ فَيُكْرَهُ شَمُّهُ وَالتَّطَيُّبُ بِهِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي مَسِّهِ، وَالتَّطَيُّبِ بِهِ وَلَوْ غَسَلَ يَدَيْهِ بِمَاءِ الْوَرْدِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الطِّيبِ الْمُذَكَّرِ، خِلَافًا لِابْنِ فَرْحُونَ فِي مَنَاسِكِهِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ مَاءَ الْوَرْدِ فِيهِ الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّ أَثَرَهُ يَبْقَى، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الطِّيبَ الْمُذَكَّرَ لَا فِدْيَةَ فِي اسْتِعْمَالِهِ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ. وَأَمَّا مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ الطَّيِّبِ الرِّيحِ وَلَا يُقْصَدُ التَّطَيُّبُ بِهِ، كَالشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ، وَالزَّنْجَبِيلِ، وَالْإِذْخَرِ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 عِنْدَهُمْ، فَهُوَ كَرِيحِ الْفَوَاكِهِ الطَّيِّبَةِ كَالتُّفَّاحِ وَاللَّيْمُونِ، وَالْأُتْرُجِّ وَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ شَمَّهُ لِلْمُحْرِمِ، وَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ بِحِنَّاءٍ، أَوْ خَضَّبَتِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا أَوْ رِجْلَيْهَا، أَوْ طَرَّفَتْ أَصَابِعَهَا بِحِنَّاءٍ ; فَالْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ وَاجِبَةٌ فِي ذَلِكَ. وَأَمَا مُؤَنَّثُ الطِّيبِ: كَالْمِسْكِ، وَالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ، فَإِنَّ التَّطَيُّبَ بِهِ عِنْدَهُمْ حَرَامٌ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ. وَمَعْنَى التَّطَيُّبِ بِالطِّيبِ عِنْدَهُمْ: إِلْصَاقُهُ بِالثَّوْبِ، أَوْ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِقَ بِهِ رِيحُ الطِّيبِ دُونَ عَيْنِهِ بِجُلُوسِهِ فِي حَانُوتِ عَطَّارٍ، أَوْ فِي بَيْتٍ تَجَمَّرَ سَاكِنُوهُ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ مَعَ كَرَاهَةِ تَمَادِيهِ فِي حَانُوتِ الْعَطَّارِ أَوِ الْبَيْتِ الَّذِي تَجَمَّرَ سَاكِنُوهُ، هَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَإِنْ مَسَّ الطِّيبَ الْمُؤَنَّثَ افْتَدَى عِنْدَهُمْ، وَجَدَ رِيحَهُ أَوْ لَا، لَصِقَ بِهِ أَوْ لَا، وَيُكْرَهُ شَمُّ الطِّيبِ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ: إِذَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ، وَطَالَ زَمَنُهُ حَتَّى ذَهَبَ رِيحُهُ بِالْكُلِّيَّةِ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلْمُحْرِمِ، مَا دَامَ لَوْنُ الصَّبْغِ بَاقِيًا وَلَكِنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ لِانْقِطَاعِ رِيحِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَقْيَسُ الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ الَّتِي مُنِعَ مِنْ أَجْلِهَا زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنِ اكْتَحَلَ عِنْدَهُمْ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، فَالْفِدْيَةُ، وَلَوْ لِضَرُورَةٍ مَعَ الْجَوَازِ لِلضَّرُورَةِ وَبِمَا لَا طِيبَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ وَلِغَيْرِهَا، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورُهَا: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَى الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ. وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النَّبَاتَ الَّذِي تُسْتَطَابُ رَائِحَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، كَنَبَاتِ الصَّحْرَاءِ مِنَ الشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ، وَالْخُزَامَى وَالْفَوَاكِهِ كُلِّهَا مِنَ الْأُتْرُجِّ، وَالتُّفَّاحِ وَغَيْرِهِ، وَمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِغَيْرِ قَصْدِ الطِّيبِ، كَالْحِنَّاءِ وَالْعُصْفُرِ، وَهَذَا النَّوْعُ مُبَاحٌ شَمُّهُ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ: أَنْ يَشُمَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ مِنَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يُقْصَدُ لِلطِّيبِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، كَالرَّيْحَانِ، وَالنَّرْجِسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِي هَذَا النَّوْعِ لِلْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ كَالَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحُسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ شَمُّهُ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ ; لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِهَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّيْحَانِ: لَيْسَ مِنْ آلَةِ الْمُحْرِمِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَتَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، فَأَشْبَهَ الْعُصْفُرَ. انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا النَّوْعُ إِذَا اسْتَعْمَلَهُ، وَشَمَّهُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْوَرْدِ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَمِّهِ ; لِأَنَّهُ زَهْرٌ كَزَهْرِ سَائِرِ الشَّجَرِ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا، وَالَّذِي قَبْلَهُ رِوَايَتَيْنِ، وَالْأَوْلَى تَحْرِيمُهُ ; لِأَنَّهُ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الزَّعْفَرَانَ وَالْعَنْبَرَ. قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ: إِنَّ الْعَنْبَرَ ثَمَرُ شَجَرٍ وَكَذَلِكَ الْكَافُورُ. انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وفي المغني أيضاً: وإن مس من الطيب ما يعلق بيده كالغالية، وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه فعليه الفدية، لأنه مستعمل للطيب، وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق، وقطع الكافور والعنبر، فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب، فإنه شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود، فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا اهـ من المغني. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا: فَكُلُّ مَا صُبِغَ بِزَعْفَرَانٍ، أَوْ وَرْسٍ، أَوْ غُمِسَ فِي مَاءِ وَرْدٍ، أَوْ بُخِّرَ بِعُودٍ، فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ وَلَا الْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَلَا النَّوْمُ عَلَيْهِ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ لُبْسَهُ، وَمَتَى لَبِسَهُ أَوِ اسْتَعْمَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ رَطْبًا يَلِي بَدَنَهُ أَوْ يَابِسًا يُنْفَضُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَلَا ; الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَطَيِّبٍ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَإِنِ انْقَطَعَتْ رَائِحَةُ الثَّوْبِ؛ لِطُولِ الزَّمَنِ عَلَيْهِ أَوْ لِكَوْنِهِ صُبِغَ بِغَيْرِهِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَفُوحُ لَهُ رَائِحَةٌ إِذَا رُشَّ فِيهِ الْمَاءُ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِزَوَالِ الطِّيبِ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، إِلَّا أَنْ يُغْسَلَ، وَيَذْهَبَ لَوْنُهُ ; لِأَنَّ عَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ فِي الْحَالِ لَكِنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا رُشَّ فِيهِ الْمَاءُ فَاحَ رِيحُهُ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ بِدَلِيلِ أَنَّ رَائِحَتَهُ تَظْهَرُ عِنْدَ رَشِّ الْمَاءِ فِيهِ. وَالْمَاءُ لَا رَائِحَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الصِّبْغِ الَّذِي فِيهِ. فَأَمَّا إِنْ فَرَشَ فَوْقَ الثَّوْبِ ثَوْبًا صَفِيقًا يَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالْجُلُوسِ، وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَهُمَا ثِيَابُ بَدَنِهِ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ كَمَنْعِهِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَدَنِهِ. انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وَأَمَّا الْعُصْفُرُ: فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ بِطِيبٍ، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَشَمِّهِ، وَلَا بِمَا صُبِغَ بِهِ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُنَّ كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ» وكرهه مالك إذا كان ينتفض في بدنه، ولم يوجب فيه فدية، وَمَنَعَ مِنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَشَبَّهُوهُ بِالْوَرْسِ، وَالْمُزَعْفَرِ ; لِأَنَّهُ صِبْغٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ فَأَشْبَهَ ذَلِكَ، اهـ. وَالْأَظْهَرُ: أَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُ الْمُحْرِمِ وَلَا غَيْرِهِ لِلْمُعَصْفَرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعُصْفُرَ: لَيْسَ بِطِيبٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، وَيَلْبَسْنَ الْمُعَصْفَرَ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ» . وَقَالَ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» : رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، اهـ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» أَيْضًا: وَلَا بَأْسَ بِالْمَصْبُوغِ بِالْمَغْرَةِ ; لِأَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِطِينٍ لَا بِطِيبٍ، وَكَذَلِكَ الْمَصْبُوغُ بِسَائِرِ الْأَصْبَاغِ، سِوَى مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، إِلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَصْبُوغُ بِالرَّيَاحِينِ: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّيَاحِينِ فِي نَفْسِهَا، فَمَا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ مُنِعَ مِنْ لُبْسِ الْمَصْبُوغِ بِهِ إِذَا ظَهَرَتْ رَائِحَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ قَلِيلِ الطِّيبِ وَكَثِيرِهِ، وَلَا بَيْنَ قَلِيلِ اللُّبْسِ وَكَثِيرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ تَعَمُّدِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَبَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ لِذَلِكَ نَاسِيًا، فَإِنْ فَعَلَهُ مُتَعَمِّدًا أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِزَالَةُ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَوْرًا، وَإِنْ تَطَيَّبَ، أَوْ لَبِسَ نَاسِيًا: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَيَخْلَعُ اللِّبَاسَ، وَيَغْسِلُ الطِّيبَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُتَطَيِّبَ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَوِي عَمْدُهُ وَنِسْيَانُهُ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْجِمَاعُ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ، وَحَلْقُ الرَّأْسِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ نَقَلَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ يَسْتَوِي عَمْدُهَا وَنِسْيَانُهَا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَيَلْزَمُهُ غَسْلُ الطِّيبِ، وَخَلْعُ اللِّبَاسِ ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَحْظُورًا، فَيَلْزَمُهُ إِزَالَتُهُ، وَقَطْعُ اسْتَدَامَتِهِ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي غَسْلِ الطِّيبِ بِحَلَالٍ لِئَلَّا يُبَاشِرَ الْمُحْرِمُ الطِّيبَ بِنَفْسِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي رَأَى عَلَيْهِ طِيبًا أَوْ خَلُوقًا: «اغْسِلْ عَنْكَ الطِّيبَ» وَلِأَنَّهُ تَارِكٌ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَغْسِلُهُ بِهِ، مَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ، أَوْ حَكَّهُ بِتُرَابٍ، أَوْ وَرَقٍ أَوْ حَشِيشٍ ; لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ. وَهَذَا نِهَايَةُ قُدْرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا احْتَاجَ إِلَى الْوُضُوءِ، وَغَسْلِ الطِّيبِ، وَمَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِي إِلَّا أَحَدَهُمَا: قَدَّمَ غَسْلَ الطِّيبِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْحَدَثِ ; لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي إِبْقَاءِ الطِّيبِ، وَفِي تَرْكِ الْوُضُوءِ إِلَى التَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَطْعِ رَائِحَةِ الطِّيبِ بِغَيْرِ الْمَاءِ فَعَلَ وَتَوَضَّأَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِزَالَةِ الطِّيبِ قَطْعُ رَائِحَتِهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ، وَالْوُضُوءُ، بِخِلَافِهِ انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا خُلَاصَةُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ عِنْدَهُ: هُوَ أَنْ يُلْصِقَ الطِّيبَ بِبَدَنِهِ، أَوْ مَلْبُوسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي ذَلِكَ الطِّيبِ. فَلَوْ طَيَّبَ جُزْءًا مِنْ بَدَنِهِ بِغَالِيَةٍ، أَوْ مِسْكٍ مَسْحُوقٍ، أَوْ مَاءِ وَرْدٍ: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِلْصَاقُ بِظَاهِرِ الْبَدَنِ أَوْ بَاطِنِهِ، فَإِنْ أَكَلَهُ أَوِ احْتَقَنَ بِهِ، أَوِ اسْتَعَطَ، أَوِ اكْتَحَلَ أَوْ لَطَّخَ بِهِ رَأْسَهُ، أَوْ وَجْهَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ بَدَنِهِ أَثِمَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا الْحُقْنَةُ وَالسَّعُوطُ فَفِيهِمَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِمَا. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِمَا، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مُبَخَّرًا بِالطِّيبِ، أَوْ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالطِّيبِ، أَوْ عَلَقَ بِنَعْلِهِ طِيبٌ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ عَبِقَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ عَيْنِهِ، بِأَنْ جَلَسَ فِي دُكَّانِ عَطَّارٍ أَوْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَهِيَ تُبَخَّرُ أَوْ فِي بَيْتٍ يُبَخَّرُ سَاكِنُوهُ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْمَوْضِعَ لِاشْتِمَامِ الرَّائِحَةِ، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ قَصَدَهُ لِاشْتِمَامِهَا فَفِي كَرَاهَتِهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا: يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ، وَالثَّانِي: لَا يُكْرَهُ، وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. قَالَهُ: النَّوَوِيُّ ثُمَّ قَالَ: وَلَوِ احْتَوَى عَلَى مَجْمَرَةٍ فَتَبَخَّرَ بِالْعُودِ بَدَنُهُ أَوْ ثِيَابُهُ: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ يُعَدُّ اسْتِعْمَالًا لِلطِّيبِ، وَلَوْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، فَإِنْ عَلِقَ بِيَدِهِ لَوْنُهُ وَرِيحُهُ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ هَكَذَا يَكُونُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ عَيْنِهِ، لَكِنْ عَبِقَتْ بِهِ الرَّائِحَةُ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأَوْسَطِ: لَا تَجِبُ ; لِأَنَّهَا عَنْ مُجَاوَرَةٍ فَأَشْبَهَ مَنْ قَعَدَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَهِيَ تُبَخَّرُ، وَالثَّانِي: تَجِبُ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ وَالْقَدِيمِ ; لِأَنَّهَا عَنْ مُبَاشَرَةٍ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ الطِّيبَ يَابِسٌ فَمَسَّهُ، فَعَلِقَ بِيَدِهِ فَفِي الْفِدْيَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَأَمَّا إِنْ مَسَّ الطِّيبَ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ رَطْبٌ وَكَانَ قَاصِدًا مَسَّهُ، فَعَلِقَ بِيَدِهِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ شَدَّ مِسْكًا أَوْ كَافُورًا، أَوْ عَنْبَرًا فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ أَوْ جُبَّتِهِ: وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ، وَلَوْ شَدَّ الْعُودَ فَلَا فِدْيَةَ ; لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَطَيُّبًا، بِخِلَافِ شَدِّ الْمِسْكِ، وَلَوْ شَمَّ الْوَرْدَ فَقَدْ تَطَيَّبَ عِنْدَهُمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَمَّ مَاءَ الْوَرْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا عِنْدَهُمْ، بَلِ اسْتِعْمَالُ مَاءِ الْوَرْدِ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنْ يَصُبَّهُ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَلَوْ حَمَلَ مِسْكًا، أَوْ طِيبًا غَيْرَهُ فِي كِيسٍ، أَوْ خِرْقَةٍ مَشْدُودًا، أَوْ قَارُورَةٍ مُصَمَّمَةِ الرَّأْسِ، أَوْ حَمَلَ الْوَرْدَ فِي وِعَاءٍ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَشُمُّهُ قَصْدًا: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ حَمَلَ مِسْكًا فِي قَارُورَةٍ غَيْرِ مَشْقُوقَةٍ: فَلَا فِدْيَةَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ كَانَتِ الْقَارُورَةُ مَشْقُوقَةً، أَوْ مَفْتُوحَةَ الرَّأْسِ، فَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 الشَّافِعِيِّينَ: تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَخَالَفَ الرَّافِعِيُّ قَائِلًا: إِنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ تَطَيُّبًا، وَلَوْ جَلَسَ عَلَى فِرَاشٍ مُطَيَّبٍ أَوْ أَرْضٍ مُطَيَّبَةٍ، أَوْ نَامَ عَلَيْهَا مُفْضِيًا إِلَيْهَا بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ. وَلَوْ فَرَشَ فَوْقَهُ ثَوْبًا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، أَوْ نَامَ: لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ. وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ رَقِيقًا كُرِهَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ دَاسَ بِنَعْلِهِ طِيبًا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ خَفِيَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ لِطُولِ الزَّمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ تَفُوحُ عِنْدَ رَشِّهِ بِالْمَاءِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ بَقِيَ لَوْنُ الطِّيبِ دُونَ رِيحِهِ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَلَوْ صَبَّ مَاءَ وَرْدٍ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، حَتَّى ذَهَبَ رِيحُهُ وَلَوْنُهُ: لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. فَلَوْ ذَهَبَتِ الرَّائِحَةُ، وَبَقِيَ اللَّوْنُ، أَوِ الطَّعْمُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فِيهِ زَعْفَرَانٌ أَوْ طِيبٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الطِّيبَ إِنِ اسْتُهْلِكَ فِي الطَّعَامِ، حَتَّى ذَهَبَ لَوْنُهُ، وَرِيحُهُ وَطَعْمُهُ: فَلَا فِدْيَةَ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ، وَرِيحُهُ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ فَقَطْ: وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّهُ يُعَدُّ طِيبًا، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَحْدَهُ، فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ الْأَصَحُّ مِنْهُمَا: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ وَالْقَدِيمِ. الثَّانِي: تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأَوْسَطِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ قَطْعًا، وَإِنْ بَقِيَ الطَّعْمُ وَحْدَهُ فَفِيهِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ طُرُقٍ أَصَحُّهَا: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ قَطْعًا: كَالرَّائِحَةِ، وَالثَّانِي: فِيهِ طَرِيقَانِ بِلُزُومِهَا وَعَدَمِهِ، وَالثَّالِثُ: لَا فِدْيَةَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ. وَحَكَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقًا رَابِعًا: وَهُوَ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ قَطْعًا وَلَوْ كَانَ الْمُحْرِمُ أَخْشَمَ لَا يَجِدُ رَائِحَةَ الطِّيبِ، وَاسْتَعْمَلَ الطِّيبَ: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ، بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ كَمَا لَوْ نَتَفَ شَعْرَ لِحْيَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ شُعُورِهِ الَّتِي لَا يَنْفَعُهُ نَتْفُهَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمُتَوَلِّي، وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ، اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لُزُومُ الْفِدْيَةِ لِلْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَجِدُ رِيحَ الطِّيبِ، إِذَا اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ، مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ هِيَ: أَنَّ الْمُعَلَّلَ بِالْمَظَانِّ لَا يَتَخَلَّفُ بِتَخَلُّفِ حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ مَظِنَّةُ وُجُودِ حِكْمَةِ الْعِلَّةِ، فَلَوْ تَخَلَّفَتْ فِي صُورَةٍ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ لُزُومِ الْحُكْمِ كَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَقَطَعَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ فِي لَحْظَةٍ فِي سَفِينَةٍ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ وَالْفِطَرُ فِي رَمَضَانَ بِسَفَرِهِ، هَذَا الَّذِي لَا مَشَقَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ الرُّخْصَةُ عُلِّقَ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ، وَهُوَ سَفَرُ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مَثَلًا وَالْمُعَلَّلُ بِالْمَظَانِّ لَا تَتَخَلَّفُ أَحْكَامُهُ بِتَخَلُّفِ حُكْمِهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَمَا عَقَدَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 إِنْ عُلِّلَ الْحُكْمُ بِعِلَّةٍ غَلَبَ وَجُودُهَا اكْتُفِيَ بِذَا عَنِ الطَّلَبِ لَهَا بِكُلِّ صُورَةٍ. . . . . . إِلَخْ وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ يَجِدُ رِيحَ الطِّيبِ، فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِالْأَغْلَبِ الَّذِي هُوَ وُجُودُهُ رِيحَ الطِّيبِ، فَلَوْ تَخَلَّفَتِ الْحِكْمَةُ فِي الْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَجِدُ رِيحَ الطِّيبِ لَمْ يَتَخَلَّفِ الْحُكْمُ لِإِنَاطَتِهِ بِالْمَظِنَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ مَعَ تَخَلُّفِ حِكْمَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَادِحِ الْمُسَمَّى بِالْكَسْرِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ: وَالْكَسْرُ قَادِحٌ وَمِنْهُ ذَكَرَا ... تَخَلُّفَ الْحِكْمَةِ عَنْهُ مَنْ دَرَى وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْشَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْكَسْرَ بِتَخَلُّفِ الْحِكْمَةِ عَنْ حُكْمِهَا، لَا يَقْدَحُ فِي الْمُعَلَّلِ بِالْمَظَانِّ، كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ: هِيَ الْفَائِدَةُ الَّتِي صَارَ بِسَبَبِهَا الْوَصْفُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، فَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَثَلًا حُكْمٌ وَالْإِسْكَارُ هُوَ عِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْعَقْلِ مِنَ الِاخْتِلَالِ: هِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا صَارَ الْإِسْكَارُ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَقَدْ عَرَّفَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي الْحِكْمَةَ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا الْوَصْفُ جَرَى ... عِلَّةَ حُكْمٍ عِنْدَ كُلِّ مَنْ دَرَى وَعِلَّةُ الرُّخْصَةِ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ: هِيَ السَّفَرُ، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي صَارَ السَّفَرُ عِلَّةً بِسَبَبِهَا هِيَ: تَخْفِيفُ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسَافِرِ مَثَلًا، وَهَكَذَا. وَاعْلَمْ: أَنَّ عُلَمَاءَ الشَّافِعِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الطِّيبِ الَّذِي يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ: أَنَّ يَكُونَ مُعْظَمُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّطَيُّبَ، وَاتِّخَاذُ الطِّيبِ مِنْهُ، أَوْ يَظْهَرَ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ. هَذَا ضَابِطُهُ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ فَصَّلُوهُ فَقَالُوا: الْأَصْلُ فِي الطِّيبِ: الْمِسْكُ، وَالْعَنْبَرُ، وَالْكَافُورُ، وَالْعُودُ، وَالصَّنْدَلُ، وَالذَّرِيرَةُ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَهُمْ قَالُوا: وَالْكَافُورُ صُنْعُ شَجَرٍ مَعْرُوفٍ. وَأَمَّا النَّبَاتُ الَّذِي لَهُ رَائِحَةٌ فَأَنْوَاعٌ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 مِنْهَا: مَا يُطْلَبُ لِلتَّطَيُّبِ، وَاتِّخَاذِ الطِّيبِ مِنْهُ كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ، وَالْخِيرَى، وَالزَّعْفَرَانِ، وَالْوَرْسِ وَنَحْوِهَا، فَكُلُّ هَذَا طِيبٌ. وَعَنِ الرَّافِعِيِّ وَجْهٌ شَاذٌّ فِي الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْخِيرَى: أَنَّهَا لَيْسَتْ طِيبًا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَمِنْهَا: مَا يُطْلَبُ لِلْأَكْلِ وَالتَّدَاوِي غَالِبًا، كَالْقَرَنْفُلِ وَالدَّارَصِينِيِّ، وَالْفُلْفُلِ، وَالْمَصَصْكَى، وَالسُّنْبُلِ وَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ كُلُّ هَذَا وَشِبْهُهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَيَجُوزُ أَكْلُهُ وَشَمُّهُ وَصَبْغُ الثَّوْبِ بِهِ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ سَوَاءٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إِلَّا الْقَرَنْفُلَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ عِنْدَهُمْ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ عِنْدَهُمْ. وَمِنْهَا: مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُرَادُ لِلطِّيبِ كَنَوْرِ أَشْجَارِ الْفَوَاكِهِ كَالتُّفَّاحِ، وَالْمِشْمِشِ، وَالْكُمِّثْرَى، وَالسَّفَرْجَلِ، وَكَالشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ، وَشَقَائِقِ النُّعْمَانِ وَالْإِذْخَرِ، وَالْخُزَامَى، وَسَائِرِ أَزْهَارِ الْبَرَارِي، فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ بِطِيبٍ فَيَجُوزُ أَكْلُهُ وَشَمُّهُ، وَصَبْغُ الثَّوْبِ بِهِ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، بِلَا خِلَافٍ. وَمِنْهَا: مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ: كَالنَّرْجِسِ، وَالْآسِ، وَسَائِرِ الرَّيَاحِينِ وَفِي هَذَا النَّوْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طِيبٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ طِيبٌ مُوجِبٌ لِلْفِدْيَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْقَدِيمُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، اهـ وَالْحِنَّاءُ وَالْعُصْفُرُ لَيْسَا بِطِيبٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ خِلَافًا عِنْدَهُمْ فِي الْحِنَّاءِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ الْأَدْهَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا دُهْنٌ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا فِيهِ طِيبٌ، كَالزَّيْتِ، وَالشَّيْرَجِ، وَالسَّمْنِ، وَالزُّبْدِ، وَدُهْنِ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهَا. فَهَذَا لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، إِلَّا فِي الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، فَيَحْرُمُ عِنْدَهُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا بِلَا خِلَافٍ، وَفِيهِ: الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّهُ إِزَالَةٌ لِلشَّعَثِ، إِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلَعَ لَا يَنْبُتُ الشِّعْرُ فِي رَأْسِهِ فَدَهَنَ رَأْسَهُ، أَوْ أَمَرَدَ فَدَهَنَ ذَقْنَهُ: فَلَا فِدْيَةَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ، بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ فَدَهَنَهُ بِمَا ذُكِرَ، فَفِيهِ عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ إِنْ نَبَتَ جَمَّلَهُ ذَلِكَ الدُّهْنُ، الَّذِي جُعِلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَحْلُوقٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ ; لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ بِهِ شَعَثٌ. وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 بِرَأْسِهِ شَجَّةٌ فَجَعَلَ هَذَا الدُّهْنَ فِي دَاخِلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ شَعْرَ رَأْسِهِ: فَلَا فِدْيَةَ، بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ طَلَى شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِلَبَنٍ جَازَ: وَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ السَّمْنُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدُهْنٍ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ، وَالشَّحْمُ، وَالشَّمْعُ عِنْدَهُمْ، إِذَا أُذِيبَا كَالدُّهْنِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ تَرْجِيلُ شِعْرِهِ بِهِمَا. الضَّرْبُ الثَّانِي: دُهْنٌ هُوَ طِيبٌ، وَمِنْهُ: دُهْنُ الْوَرْدِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ. وَمِنْهُ: دُهْنُ الْبَنَفْسَجِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ نَفْسَ الْبَنَفْسَجِ: لَا فِدْيَةَ فِيهِ، فَدُهْنُهُ أَوْلَى، وَعَلَى أَنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ، فَدُهْنُهُ كَدُهْنِ الْوَرْدِ، وَالْأَدْهَانُ كَثِيرَةٌ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ كَدُهْنِ الْبَانِ وَالزَّنْبَقِ، وَهُوَ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ وَالْكَاذِيِّ وَهُوَ دُهْنٌ، وَنَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، وَالْخِيرَى، وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ وَيُقَالُ لِلنُّحَاسِيِّ: خَيْرِي الْبَرِّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْأَدْهَانَ الْمَذْكُورَةَ، وَنَحْوَهَا طِيبٌ، تَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الْفِدْيَةُ. وَاعْلَمْ: أَنَّ مَحَلَّ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الطِّيبِ: إِذَا كَانَ اسْتَعْمَلَهُ عَامِدًا، فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ عَلَيْهِ، لَزِمَتْهُ الْمُبَادَرَةُ بِإِزَالَتِهِ بِمَا يَقْطَعُ رِيحَهُ، وَكَوْنُ الْأَوْلَى أَنْ يَسْتَعِينَ فِي غَسْلِهِ بِحَلَالٍ وَتَقْدِيمِهِ غَسْلَهُ عَلَى الْوُضُوءِ، إِنْ لَمْ يَكْفِ الْمَاءُ، إِلَّا أَحَدَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَا عَنِ الْحَنَابِلَةِ، بِخِلَافِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُمْ عَلَى غَسْلِ الطِّيبِ وَلَوْ لَصَقَ بِالْمُحْرِمِ طِيبٌ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَصَى وَلَا تَتَكَرَّرُ بِهِ الْفِدْيَةُ وَالِاكْتِحَالُ عِنْدَهُمْ بِمَا فِيهِ طِيبٌ حَرَامٌ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ اكْتَحَلَ بِهِ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. وَأَمَّا الِاكْتِحَالُ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ كُرِهَ عِنْدَهُمْ: كَالْإِثْمِدِ، وَإِنْ كَانَ بِمَا لَا زِينَةَ فِيهِ: كَالتُّوتِيَا الْأَبْيَضِ فَلَا كَرَاهَةَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ: وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَبَخَّرَ، أَوْ يَجْعَلَهُ فِي ثَوْبِهِ، أَوْ بَدَنِهِ، وَسَوَاءً كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يَنْقُضُ الطِّيبُ، أَمْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَبَخَّرَ بِالْعُودِ، وَالنَّدِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنَ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى ظَاهِرِ ثَوْبِهِ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي بَاطِنِهِ، وَكَانَ الثَّوْبُ لَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 يَنْقُصُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَنْقُصُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ انْتَهَى مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا لِصَرِيحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْ ثَوْبٍ مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَكُلُّ هَذِهِ الصُّوَرِ يَصْدُقُ فِيهَا: أَنَّهُ مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِمَا، كَمَا أَوْضَحْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُتَبَخِّرُ بِالْعُودِ مُتَطَيِّبٌ عُرْفًا، وَالْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحْرِمِ لِلطِّيبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: أَنَّ الزَّيْتَ، وَالشَّيْرَجَ، وَالسَّمْنَ، وَالزُّبْدَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْأَدْهَانِ غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ، لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَدَنِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْهِنَ بِهَا أَعْضَاءَهُ الظَّاهِرَةَ: كَالْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَيَجُوزُ دَهْنُ الْبَاطِنَةِ: وَهِيَ مَا يُوَارَى بِاللِّبَاسِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَقَوْلِنَا فِي السَّمْنِ وَالزُّبْدِ، وَخَالَفَنَا فِي الزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَقَالَ: يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنِ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ: فَلَا فِدْيَةَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، سَوَاءٌ دَهَنَ يَدَيْهِ أَوْ رَأْسَهُ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ دَهْنُ رَأْسِهِ، وَلِحْيَتِهِ، وَبَدَنِهِ بِدُهْنٍ غَيْرِ مُطَيِّبٍ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِهَذَا حَدِيثٌ جَاءَ بِذَلِكَ: فَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» : أَخْبَرَنَا أَبُو ظَاهِرٍ الْفَقِيهُ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قِرَاءَةً عَلَيْهِمَا، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ إِمْلَاءً قَالُوا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، أَنْبَأَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ فَرْقَدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُقَتَّتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ» يَعْنِي: غَيْرَ مُطَيَّبٍ، لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ يُوسُفَ تَفْسِيرَهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَرَوَاهُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ شَاذَانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ فَرْقَدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ انْتَهَى مِنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ، وَقَدْ تَشَقَّقَتْ أَرْجُلُهُمْ فَقَالَ: ادْهِنُوهَا. وَفَرْقَدٌ الْمَذْكُورُ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ، هُوَ فَرْقَدُ بْنُ يَعْقُوبَ السَّبَخِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ: أَبُو يَعْقُوبَ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ. وَلَكِنَّهُ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ عَابِدٌ، لَكِنَّهُ لَيِّنُ الْحَدِيثِ كَثِيرُ الْخَطَأِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ الزَّاهِدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُقَتَّتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَفَرْقَدٌ غَيْرُ قَوِيٍّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ فَرْقَدٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. وَقَوْلُهُ: غَيْرِ مُقَتَّتٍ: أَيْ غَيْرِ مُطَيَّبٍ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَفِي «الْقَامُوسِ» : وَزَيْتٌ مُقَتَّتٌ طُبِخَ بِالرَّيَاحِينِ أَوْ خُلِطَ بِأَدْهَانٍ طَيِّبَةٍ، وَاحْتِجَاجُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى جَوَازِ دَهْنِ جَمِيعِ الْبَدَنِ غَيْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ بِالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَنَحْوِهِمَا فِيهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ، لِضَعْفِ فَرْقَدٍ الْمَذْكُورِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَبَيْنِ سَائِرِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّ الِادِّهَانَ فِيهِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِمَا سِوَى الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، اهـ. وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ الِادِّهَانَ بِغَيْرِ الطِّيبِ ; لِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُوا شُعْثًا غُبْرًا» وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِزَالَةُ الشَّعَثِ، وَلَا التَّنْظِيفُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ الزَّيْتَ وَالشَّحْمَ وَالسَّمْنَ. قَالَ: وَأَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَهُ دَهْنُ بَدَنِهِ بِالزَّيْتِ وَالشَّحْمِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: الْحِنَّاءُ لَيْسَ بِطِيبٍ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ: وَلَا فِدْيَةَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْخِضَابَ بِالْحِنَّاءِ: يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ طِيبٌ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَإِذَا لَبِسَ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا: فَلَا فِدْيَةَ، وَالْعُصْفُرُ: لَيْسَ بِطِيبٍ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 وَجَابِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَعَطَاءٍ، وَقَالَ: وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَمِمَّنْ تَبِعَهُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ نَفَضَ عَلَى الْبَدَنِ: وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا وَجَبَتْ صَدَقَةٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا فِي تَحْرِيمِ الرَّيَاحِينِ قَوْلَانِ: الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا، وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا، وَأَبَا حَنِيفَةَ يَقُولَانِ: يَحْرُمُ وَلَا فِدْيَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتُلِفَ فِي الْفِدْيَةِ، عَنْ عَطَاءٍ وَأَحْمَدَ، وَمِمَّنْ جَوَّزَهُ وَقَالَ: هُوَ حَلَالٌ لَا فِدْيَةَ فِيهِ: عُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: جَوَازُ جُلُوسِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ الْعَطَّارِ: وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: وَأَوْجَبَ عَطَاءٌ فِيهِ الْفِدْيَةَ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ. انْتَهَى مِنْهُ. وَاعْلَمْ: أَنَّ الْمُحْرِمَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، فَإِنْ كَانَ إِتْلَافًا كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالْقَلْمِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ. وَإِنْ كَانَ اسْتِمْتَاعًا مَحْضًا: كَالتَّطَيُّبِ، وَاللِّبَاسِ، وَدَهْنِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَالْقُبْلَةِ، وَسَائِرِ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ: فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا: فَلَا فِدْيَةَ فِي الْأَصَحِّ أَيْضًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهَذَا قَالَ: عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ. وَقَالَ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَقَاسُوهُ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْمَ الْمُجَامِعِ نَاسِيًا وَأَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ فِيهِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي مَسْأَلَةِ الطِّيبِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ النُّقُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاعْلَمْ: أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى مَنْعِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، اخْتِلَافًا مِنْ نَوْعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ مَثَلًا: الرَّيْحَانُ وَالْيَاسَمِينُ، كِلَاهُمَا طِيبٌ فَمَنَاطُ تَحْرِيمِهِمَا، عَلَى الْمُحْرِمِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ كَوْنُهُمَا طِيبًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 فَيُخَالِفُهُ الْآخَرُ، وَيَقُولُ: مَنَاطُ التَّحْرِيمِ، لَيْسَ مَوْجُودًا فِيهِمَا ; لِأَنَّهُمَا لَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا الطِّيبُ، فَلَيْسَا بِطِيبٍ وَهَكَذَا. وَاعْلَمْ: أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى لُزُومِ الْفِدْيَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، وَلَا دَلِيلَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ يَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ قَاسُوا الطِّيبَ عَلَى حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْفِدْيَةِ فِيهِ، إِنْ وَقَعَ لِعُذْرٍ فِي آيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [2 \ 196] . وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْفِدْيَةَ اللَّازِمَةَ كَفِدْيَةِ الْأَذَى وَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ حِكَمُ الْأَصْلِ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اتِّفَاقِ الْفَرْعِ الْمَقِيسِ، وَالْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، إِنْ كَانَ التَّطَيُّبُ، أَوِ اللُّبْسُ لِعُذْرٍ ; لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْعُذْرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُطْلَقًا كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. فَتَحَصَّلَ: أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ فِدْيَةَ الطِّيبِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَاللُّبْسِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، كَفِدْيَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصَةِ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى، وَقَدَّمْنَا الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُقْتَضَى الْأُصُولِ، لِوُجُوبِ اتِّفَاقِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْحُكْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: فِي ذِكْرِ أَشْيَاءَ مِمَّا ذُكِرَ وَرَدَتْ فِيهَا نُصُوصٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ: فَمِنْ ذَلِكَ الْعُصْفُرِ وَقَدْ رَأَيْتُ فِي النُّقُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُحْرِمِ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمُصَرِّحَ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ النِّسَاءِ لَهُ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، وَفِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُدَلِّسْ فِيهِ إِلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا فِيهِ، وَالظَّاهِرُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ: أَنَّ الْمُعَصْفَرَ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ، وَإِنْ جَوَّزَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ. وَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ ابْنَ مَعْدَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَخْبَرَهُ قَالَ " رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا "، اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 وَابْنُ مَعْدَانَ الْمَذْكُورُ: هُوَ خَالِدٌ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُبَاشَرَةً، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: " رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: " أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا "؟ قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا قَالَ: " بَلْ أَحْرِقْهُمَا ". وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ تَخْتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ " وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " نَهَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْقِرَاءَةِ وَأَنَا رَاكِعٌ، وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ، وَالْمُعَصْفَرِ " وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ " انْتَهَى مِنْهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ، وَهُمَا عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَرِيحٌ فِي مَنْعِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: " إِنَّهُمَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهُمَا " صَرِيحٌ فِي مَنْعِ لُبْسِهِمَا ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ كَمَا تَقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُ رَتَّبَ النَّهْيَ عَنْهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: " بَلْ أَحْرِقْهُمَا " فَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَنْعِ لُبْسِهِمَا ; لِأَنَّ لُبْسَ الْجَائِزِ لُبْسُهُ، لَا يَسْتَوْجِبُ الْإِحْرَاقَ بِحَالٍ، فَهُوَ نَصٌّ فِي مَنْعِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا، وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَالْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ " الْحَدِيثَ. دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ مَوْجُودًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالتَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ عَلِيٍّ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا فِي مُسْلِمٍ: " نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذَا الْحُكْمِ بِعَلِيٍّ ; لِأَنَّهُ قَالَ: نَهَانِي بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، مَرْدُودٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو عُمُومَ هَذَا الْحُكْمِ، حَيْثُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: " إِنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهُمَا " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ اخْتِصَاصِ هَذَا الْحُكْمِ بِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، بِحَذْفِ مَفْعُولِ نَهَى، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ فِي ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا حَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ مِنْ أَنَّ مِثْلَ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَذَا صِيغَةُ عُمُومٍ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لِلشَّكِّ؟ وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِذَلِكَ: ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الْفِهْرِيُّ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مِثْلِ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَقَضَى بِالشُّفَعَةِ، وَقَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ غَرَرٍ وَكُلَّ شُفَعَةٍ، وَكُلَّ شَاهِدٍ، وَيَمِينٍ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا حَرَّرْنَا أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ، وَنَاقَشْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ رِوَايَةَ " نَهَانِي " الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مُدَّعِي اخْتِصَاصِ هَذَا الْحُكْمِ بِعَلِيٍّ: تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ خِطَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِهِ يَعُمُّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَخِلَافُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ، هَلْ هُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ، خِلَافٌ فِي حَالٍ لَا خِلَافٌ حَقِيقِيٌّ، فَخِطَابُ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صِيغَةُ عُمُومٍ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ لَا يَعُمُّ ; لِأَنَّ اللَّفْظِ لِلْوَاحِدِ لَا يَشْمَلُ بِالْوَضْعِ غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَشْمَلُهُ وَضْعًا، فَلَا يَكُونُ صِيغَةَ عُمُومٍ، وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُوَافِقُونَ: عَلَى أَنَّ حُكْمَ خَطَّابِ الْوَاحِدِ عَامٌّ لِغَيْرِهِ لَكِنْ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ خِطَابِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ. أَمَّا الْقِيَاسُ فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّ قِيَاسَ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ عَلَيْهِ بِجَامِعِ اسْتِوَاءِ الْمُخَاطَبِينَ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالنَّصِّ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ: " إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ إِلَّا كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ ". قَالُوا: وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ: " حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ ". قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ: اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ: " حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ " لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالنِّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ: " إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ " وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْأَلْبَاسِ، عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: " حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ "، وَفِي لَفْظِ: " كَحُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ " لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ: فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْبَيْضَاوِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وَقَالَ فِي الدُّرَرِ كَالزَّرْكَشِيِّ لَا يُعْرَفُ، وَسُئِلَ عَنْهُ الْمِزِّيُّ، وَالذَّهَبِيُّ فَأَنْكَرَاهُ. نَعَمْ يَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، فَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: " مَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ " وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: " إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ " وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَلْزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ الشَّيْخَيْنِ بِإِخْرَاجِهَا ; لِثُبُوتِهَا عَلَى شَرْطِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيِّ فِي شَرْحِ الْوَرَقَاتِ الْكَبِيرِ: " حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ "، لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ، إِلَى آخِرِهِ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَا عَنْهُ، اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ بِقَافَيْنِ مُصَغَّرًا: وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ، وَرُقَيْقَةُ أُمُّهَا: وَهِيَ أُخْتُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ. وَقِيلَ عَمَّتُهَا وَاسْمُ أَبِيهَا بِجَادٌ بِمُوَحَّدَةٍ، ثُمَّ جِيمٍ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيِّ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي " الْمَرَاقِي " بِقَوْلِهِ: خِطَابٌ وَاحِدٌ لِغَيْرِ الْحَنْبَلِيِّ ... مِنْ غَيْرِ رَعْيِ النَّصِّ وَالْقَيْسِ الْجَلِيِّ وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ مَنْعُ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ، وَظَاهِرُ النُّصُوصِ الْإِطْلَاقُ: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ غَيْرِهِ كَمَا رَأَيْتَ، وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا، وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمِ الدَّالِّ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ فِي الْإِحْرَامِ، بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْمَنْعِ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ، وَحَدِيثَ الْجَوَازِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا لِلرِّجَالِ جَائِزًا لِلنِّسَاءِ، وَتَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ. وَمِمَّنِ اعْتَمَدَ هَذَا الْجَمْعَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ حَيْثُ قَالَ: بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهَةِ الْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَالِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَالْمُعَصْفَرِ " وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، انْتَهَى مِنْهُ. فَتَرَاهُ فِي تَرْجَمَةِ الْحَدِيثِ جَعَلَهُ خَاصًّا بِالرِّجَالِ، وَهُوَ عَيْنُ الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَأَشَارَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ يُشِيرُ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَعْنِي النَّوَوِيَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا " مَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا مِنْ لِبَاسِ النِّسَاءِ، وَزِيِّهِنَّ، وَأَخْلَاقِهِنَّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 وَتَفْسِيرُهُ لِلْحَدِيثِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْمُعَصْفَرِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ الْغَازِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: هَبَطْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَنِيَّةٍ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ وَعَلَيَّ رَيْطَةٌ مُضَرَّجَةٌ بِالْعُصْفُرِ فَقَالَ: " مَا هَذِهِ الرَّيْطَةُ عَلَيْكَ؟ " فَعَرَفْتُ مَا كَرِهَ فَأَتَيْتُ أَهْلِي، وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنُّورًا لَهُمْ فَقَذَفْتُهَا فِيهِ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا فَعَلَتِ الرَّيْطَةُ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَلَا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكَ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِلنِّسَاءِ " انْتَهَى مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ، ثُمَّ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَنِيَّةِ أَذَاخِرَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ وَعَلَيَّ رَيْطَةٌ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. كَلَفْظِ أَبِي دَاوُدَ، اهـ. وَجَمَعَ الْخَطَّابِيُّ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ: بِأَنَّ النَّهْيَ فِيمَا صُبِغَ مِنَ الثِّيَابِ بَعْدَ النَّسْجِ، وَأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى مَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ نَقَلَ هَذَا الْجَمْعَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " عَنِ الْخَطَّابِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذَا الْجَمْعُ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَأُبِيحَ لِلنِّسَاءِ وَمُنِعَ لِلرِّجَالِ، كَالْحَرِيرِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَاتَّضَحَ أَنَّ الظَّاهِرَ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ أَنَّ الْمُعَصْفَرَ: لَا يَحِلُّ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ، وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْهُ الْعُمُومُ، وَكَوْنُهُ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ قَرِينَةً عَلَى التَّعْمِيمِ، إِلَّا أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ تُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُصَرِّحَةِ، بِجَوَازِهِ لِلنِّسَاءِ كَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ وَمَا فَسَّرَ بِهِ النَّوَوِيُّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ وَحَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَكَوْنُهُ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ: لَا يُنَافِي أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ. دُونَ النِّسَاءِ، كَمَا قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ: " إِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ " مَعَ إِبَاحَتِهَا لِلنِّسَاءِ. وَالَّذِينَ أَبَاحُوا لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا، احْتَجُّوا بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " قَالَ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ حُلَّةً حَمْرَاءَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ " انْتَهَى مِنْهُ فَانْظُرْهُ. وَالَّذِينَ مَنَعُوهُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ اسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ، وَعَضَّدُوا الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ بِآثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَاتِ الْمُشَبَّعَاتِ، وَهِيَ مُحْرِمَةٌ لَيْسَ فِيهَا زَعْفَرَانٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ شَارِحُهُ الزَّرْقَانِيُّ: وَكَذَلِكَ جَاءَ عَنْ أُخْتِهَا. رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ، وَهِيَ مُحْرِمَةٌ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ انْتَهَى مِنْهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ نَحْوَ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْهَا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ أَبُو أُسَامَةَ، وَحَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ فَرَوَوْهُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ. انْتَهَى مِنَ السُّنَنِ الْكُبْرَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا عَنْ نَافِعٍ أَنَّ نِسَاءَ ابْنِ عُمَرَ كُنَّ يَلْبَسْنَ الْمُعَصْفَرَ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ: أَنَّ مَكْحُولًا قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَوْبٍ مُشَبَّعٍ بِعُصْفُرٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَأُحْرِمُ فِي هَذَا؟ قَالَ: " لَكِ غَيْرُهُ؟ " قَالَتْ: لَا. قَالَ: " فَأَحْرِمِي فِيهِ " ثُمَّ سَاقَ سَنَدَهُ بِهِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ، وَذُكِرَ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ ثِيَابَ الطِّيبِ وَتَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ لَا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا " وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُوَرَّدَةَ بِالْعُصْفُرِ الْخَفِيفِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ "، وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ: كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، وَيَلْبَسْنَ الْمُعَصْفَرَ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ. قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، حَدَّثَنِي بُدَيْلٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمْشَّقَةَ، وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ " انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ، لَمَّا أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُصْفُرَ طِيبٌ، وَلِذَلِكَ نَهَيْتُ عَنِ الْمُعَصْفَرِ، إِذْ لَوْ كَانَ النَّهْيُ لِكَوْنِهِ زِينَةً نَهَيْتُ عَنْ ثَوْبِ الْعَصْبِ ; لِأَنَّهُ فِي الزِّينَةِ فَوْقَ الْمُعَصْفَرِ، وَالْعَصْبُ بُرُودُ الْيَمَنِ يُعْصَبُ غَزْلُهَا: أَيْ تُطْوَى، ثُمَّ تُصْنَعُ مَصْبُوغًا، ثُمَّ تُنْسَجُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى مِنَ الْمَنْعِ ثَوْبَ الْعَصْبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ خَالَفَتْ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدَنَا تَحْرِيمُ الْعَصْبِ مُطْلَقًا، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ، فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: " وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسُّ طِيبًا " الْحَدِيثَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: " كُنَّا نَنْهَى أَنْ نَحِدَّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ ". الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: " وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَطَيَّبُ وَلَا تَلْبَسُ مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ " الْحَدِيثَ. وَالْمُمَشَّقَةُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الْمَصْبُوغَةُ بِالْمَشْقِ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَهُوَ الْمَغْرَةُ، وَالْعُصْفُرُ بِالضَّمِّ: نَبَاتٌ يُصْبَغُ بِهِ وَبِرُزِّهُ هُوَ الْقُرْطُمُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَنْعَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، مِنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ الْمَذْكُورِ، لَيْسَ لِكَوْنِهِ طِيبًا كَمَا ظَنَّهُ صَاحِبُ الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ، بِدَلِيلِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، مَعَ جَوَازِ الطِّيبِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِلزِّينَةِ: وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُ الْعَصْبِ فَوْقَهُ فِي الزِّينَةِ ; لِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَمْنُوعَةٌ فِي الْعِدَّةِ، مِنَ الطِّيبِ، وَالتَّزَيُّنِ، فَإِبَاحَةُ الْعَصْبِ لَهَا تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ رُتْبَتِهِ فِي الزِّينَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْ ذَلِكَ الْحِنَّاءُ، قَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، هَلْ هِيَ طِيبٌ أَوْ لَا؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 آثَارًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِطِيبٍ، وَقَدَّمْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ كُنَّ يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ يَعْقُوبَ بْنَ عَطَاءٍ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قِيلَ لَهَا: مَا تَقُولِينَ فِي الْحِنَّاءِ وَالْخِضَابِ؟ قَالَتْ: كَانَ خَلِيلِي لَا يُحِبُّ رِيحَهُ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ كَالدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ: " فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الطِّيبَ وَلَا يُحِبُّ رِيحَ الْحِنَّاءِ " انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا حَاصِلُ مُسْتَنَدِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَقَالَ صَاحِبُ " الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ الْبَيْهَقِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا: وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُ هَذَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي " التَّمْهِيدِ ": ذَكَّرَ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ، عَنْ أُمِّهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: " لَا تَطَيَّبِي وَأَنْتِ مُحْرِمَةٌ وَلَا تَمَسِّي الْحِنَّاءَ، فَإِنَّهُ طِيبٌ ". وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ عَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنَوَرِيُّ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْحِنَّاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ: وَفِي الْحَدِيثِ: " سَيِّدُ رَيَاحِينِ الْجَنَّةِ الْفَاغِيَةِ " قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ نَوْرُ الْحِنَّاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الْفَاغِيَةُ " انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ. وَقَالَ النَّجْمُ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ بُرَيْدَةَ: " سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ، وَسَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ، وَسَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ " انْتَهَى مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِيهِ: " سَيِّدُ رَيَاحِينِ الْجَنَّةِ الْفَاغِيَةُ، هِيَ نَوْرُ الْحِنَّاءِ " وَقِيلَ: نَوْرُ الرَّيْحَانِ. وَقِيلَ: نَوْرُ كُلِّ نَبْتٍ مِنْ أَنْوَارِ الصَّحْرَاءِ، الَّتِي لَا تُزْرَعُ. وَقِيلَ: فَاغِيَةُ كُلِّ نَبْتٍ نَوْرُهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُعْجِبُهُ الْفَاغِيَةُ "، اهـ. وَفِي " الْقَامُوسِ ": وَالْفَاغِيَةُ نَوْرُ الْحِنَّاءِ أَوْ يُغْرَسُ غُصْنُ الْحِنَّاءِ مَقْلُوبًا فَيُثْمِرُ زَهْرًا أَطْيَبَ مِنَ الْحِنَّاءِ، فَذَلِكَ الْفَاغِيَةُ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ وَأَكْثَرُ أَنْوَاعِ الطِّيبِ لَمْ تَثْبُتْ فِي خُصُوصِهَا نُصُوصٌ، وَمِنْهَا: مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْوَرْسِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَكَالذَّرِيرَةِ وَالْمِسْكِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْأَنْوَاعِ: هَلْ هُوَ طِيبٌ، أَوْ لَيْسَ بِطِيبٍ؟ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 الْفَرْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي التَّطَيُّبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ قَبْلَهُ بِحَيْثُ يَبْقَى أَثَرُ الطِّيبِ، وَرِيحُهُ أَوْ عَيْنُهُ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِالْإِحْرَامِ، هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتَ الطِّيبِ غَيْرُ مُحْرِمٍ، وَالدَّوَامُ عَلَى الطِّيبِ، لَيْسَ كَابْتِدَائِهِ كَالنِّكَاحِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، مَعَ إِبَاحَةِ الدَّوَامِ عَلَى نِكَاحٍ مَقْعُودٍ، قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ وُجُودَ رِيحِ الطِّيبِ، أَوْ عَيْنِهِ، أَوْ أَثَرِهِ فِي الْمُحْرِمِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ كَابْتِدَائِهِ لِلتَّطَيُّبِ ; وَلِأَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ حَالَ الْإِحْرَامِ بِالطِّيبِ، مَعَ أَنَّ الطِّيبَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ، فَقَالَ جَمَاهِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الطِّيبَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ مُسْتَحَبٌّ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُهُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَائِشَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ، اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": وَبِهِ قَالَ خَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ مِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى آخِرِهِ، كَمَا فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ". وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَيَتَطَيَّبُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ خَاصَّةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَبْقَى عَيْنُهُ كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ، أَوْ أَثَرُهُ كَالْعُودِ وَالْبَخُورِ وَمَاءِ الْوَرْدِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعُرْوَةَ، وَالْقَاسِمِ، وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ التَّطَيُّبُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ غَسْلُهُ حَتَّى يَذْهَبَ أَثَرُهُ وَرِيحُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": وَقَالَ آخَرُونَ بِمَنْعِهِ مِنْهُمُ: الزَّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، اهـ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": وَقَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُكْرَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، اهـ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَكَانَ عَطَاءٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، اهـ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ وَمُنَاقَشَتُهَا وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْهَا. أَمَّا الَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ: فَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ التَّمِيمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ: أَنْ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرِنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِعْرَانَةِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبٌ، وَقَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: " أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ " فَأُوتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: " اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ " قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الْإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَسْلِ الطِّيبِ الَّذِي تَضَمَّخَ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَأَمَرَ بِإِنْقَائِهِ كَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّ الطِّيبَ فِي بَدَنِهِ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْجُبَّةِ، دُونَ الْبَدَنِ لَكَفَى نَزْعُ الْجُبَّةِ كَمَا تَرَى، خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ تَرْجَمَةُ الْحَدِيثِ الَّذِي تَرْجَمَهُ بِهَا الْبُخَارِيُّ، وَهِيَ قَوْلُهُ: بَابُ غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ. وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْإِسْنَادِ: قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مِثْلِهِ مُسْتَوْفًى وَبَيَّنَّا أَنَّهُ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ مَوْصُولٌ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَوْ مُعَلَّقٌ ; لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ: فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: يَعْنِي عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ، أَوْ قَالَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: كَيْفَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، وَوَدِدْتُ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَالَ عُمَرُ: تَعَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْوَحْيَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: كَغَطِيطِ الْبِكْرِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ، اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ " انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ غَسْلَ ذَلِكَ وَإِنْقَاءَهُ مِنْ بَدَنِهِ ; لِأَنَّ مَا فِي الْجُبَّةِ مِنَ الْخَلُوقِ، وَالصُّفْرَةِ يَزُولُ بِخَلْعِهَا كَمَا تَرَى. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فُرُّوخَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهَا خَلُوقٌ أَوْ قَالَ: أَثَرُ صُفْرَةٍ. فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ قَالَ: وَأُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنْ أَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، قَالَ: فَقَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ؟ قَالَ: فَرَفَعَ عُمَرُ طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: كَغَطِيطِ الْبِكْرِ. قَالَ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ : اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ " أَوْ قَالَ: " أَثَرَ الْخَلُوقِ - وَاخْلَعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّكَ ". وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ يَعْلَى قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ - يَعْنِي جُبَّةً - وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ فَقَالَ: إِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيَّ هَذَا، وَأَنَا مُتَضَمِّخٌ بِخَلُوقٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟ " قَالَ: أَنْزِعُ عَنِّي هَذِهِ الثِّيَابَ، وَأَغْسِلُ عَنِّي هَذَا الْخَلُوقَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ " وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ يَعْلَى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ " وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ يَعْلَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ قَدْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَى فَقَالَ: " انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ ". وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ يَعْلَى أَيْضًا قَالَ: " انْزِعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ الَّذِي بِكَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا كُنْتَ فَاعِلًا فِي حَجِّكَ " انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. قَالُوا: فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ ثَلَاثًا، وَإِنْقَاؤُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَا صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ إِزَالَةِ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ، الَّذِي تَلَبَّسَ بِهِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: " أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِحُنَيْنٍ، وَعَلَى الْأَعْرَابِيِّ قَمِيصٌ، وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَهْلَلَتُ بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انْزِعْ قَمِيصَكَ، وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفْرَةَ عَنْكَ، وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَفْعَلُ فِي حَجَّتِكَ "، اهـ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا قَالُوا: يَعْتَضِدُ حَدِيثُ يَعْلَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ، وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ، فَقَالَ: مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مِنْكَ لَعَمْرُ اللَّهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ طَيَّبَتْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لِتَرْجِعَنَّ فَلَتَغْسِلَنَّهُ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنِ الصَّلْتِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ، وَإِلَى جَنْبِهِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَقَالَ عُمَرُ: مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ؟ فَقَالَ كَثِيرٌ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَأَرَدْتُ أَلَّا أَحْلِقَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَاذْهَبْ إِلَى شَرَبَةٍ فَادْلُكْ رَأْسَكَ، حَتَّى تُنَقِّيَهُ، فَفَعَلَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ. قَالَ مَالِكٌ: الشَّرَبَةُ حَفِيرٌ تَكُونُ عِنْدَ أَصْلِ النَّخْلَةِ. انْتَهَى مِنَ " الْمُوَطَّأِ ". قَالُوا: فَفِعْلُ هَذَا الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ مُطَابِقٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَذَكَرَ الزَّرْقَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ ": أَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ أَيْضًا ذَلِكَ عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، كَمَا أَنْكَرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَكَثِيرٍ الْمَذْكُورَيْنِ، قَالَ: فَهَذَا عُمَرُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى صَحَابِيَّيْنِ، وَتَابِعِيٍّ كَبِيرٍ الطِّيبَ بِمَحْضَرِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ صَحَابَةً وَغَيْرَهُمْ، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى رَجُلًا قَدْ تَطَيَّبَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ بِطِينٍ، اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْتَشِرَ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، فَقَالَ: " مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا، لَأَنْ أُطْلَى بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ ". هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَفِيهِ بَعْدَهُ رَدُّ عَائِشَةَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَحَدِيثُ يَعْلَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَالْآثَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهَا مَا لَمْ نَذْكُرْهُ هُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ، وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ فِي مَنْعِ التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَوُجُوبِ غَسْلِهِ، وَإِنْقَائِهِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ: الْكَرَاهَةُ لَا التَّحْرِيمُ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ التَّطَيُّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَبَعْضِ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ مُتَّصِلًا بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَقُولُ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحِرْمِهِ، حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ، لِحِرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وَفِي النِّهَايَةِ: الذَّرِيرَةُ: نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مَجْمُوعٌ مِنْ أَخْلَاطٍ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي تَلْخِيصِهِ لِلنِّهَايَةِ: وَقِيلَ هِيَ فُتَاتُ قَصَبٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": هِيَ فُتَاتُ قَصَبٍ طَيِّبٍ، يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " أَنَّ الذَّرِيرَةَ قَصَبٌ يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ كَقَصَبِ النِّشَابِ أَحْمَرُ يُتَدَاوَى بِهِ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِأَيِّ شَيْءٍ طَيَّبْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ إِحْرَامِهِ؟ قَالَتْ: بِأَطْيَبِ الطِّيبِ، وَفِي لَفْظٍ: بِأَطْيَبِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، ثُمَّ يُحْرِمُ. وَفِي لَفْظٍ: بِأَطْيَبِ مَا وَجَدْتُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا قَالَتْ: لَكَأَنِي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُهِلُّ. وَفِي لَفْظٍ: وَهُوَ يُلَبِّي. وَالْأَلْفَاظُ الْمُمَاثِلَةُ لِهَذَا مُتَعَدِّدَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطْيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا بَلَغَهَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ: لَأَنْ أُطْلَى بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَتْ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا، اهـ. كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. قَالُوا فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُهُ بَاقِيًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ، بَلْ وَلَوْ بَقِيَ عَيْنُهُ وَرِيحُهُ ; لِأَنَّ رُؤْيَتَهَا وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، قَالُوا: وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ، تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ خُصُوصِيَّةِ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ صَاحِبُ نَصْبِ الرَّايَةِ: وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ رُئِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُحْرِمًا، وَعَلَى رَأْسِهِ مِثْلَ الرُّبِّ مِنَ الْغَالِيَةِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ صُبْحٍ: رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَفِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ مِنَ الطِّيبِ مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَعَدَّ مِنْهُ رَأْسَ مَالٍ. انْتَهَى مِنْهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ، وَهَذِهِ الْآثَارُ: حُجَّةُ مَنْ قَالَ: بِالتَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ يَبْقَى بَعْدَ الْإِحْرَامِ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحُجَجَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ مُنَاقَشَةُ أَقْوَالِهِمْ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ تَطَيَّبَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَهُ، فَذَهَبَ الطِّيبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 قَالُوا: وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا " فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَطَيَّبَ لِمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِ ثُمَّ زَالَ بِالْغُسْلِ بَعْدَهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَهَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْأُخْرَى، وَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ طِيبٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا: ثُمَّ أَصْبَحَ يَنْضَحُ طِيبًا: أَيْ قَبْلَ غُسْلِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَنَّ ذَلِكَ الطِّيبَ كَانَ ذَرِيرَةً وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبُهُ الْغُسْلُ، قَالُوا: وَقَوْلُهَا: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ، الْمُرَادُ بِهِ: أَثَرُهُ لَا جِرْمُهُ قَالَهُ: الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ عَيْنَ الطِّيبِ بَقِيَتْ. وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ التَّطَيُّبَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا: أَنَّ الدَّوَامَ عَلَى الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَابْتِدَاءِ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ، بِجَامِعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِرِيحِ الطِّيبِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قَالُوا: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ ذَلِكَ التَّطَيُّبَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لِعَامَّةِ النَّاسِ لَمَا أَنْكَرَهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْمَنَاسِكِ وَجَلَالَتِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ. وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَّا مَا أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلَمَا أَنْكَرَهُ الزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ مَعَ عِلْمِهِمَا بِالْمَنَاسِكِ. وَمِنْهَا: أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الطِّيبِ، لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ، وَحَدِيثَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: يَقْتَضِي مَنْعَ ذَلِكَ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ تَرْكَ مُبَاحٍ أَهْوَنُ مِنِ ارْتِكَابِ حَرَامٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ حَدِيثَ يَعْلَى مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِهِ الصَّرِيحِ فِي الْأَمْرِ بِإِزَالَةِ الطِّيبِ، وَإِنْقَائِهِ مِنَ الْبَدَنِ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ يَعُمُّ حُكْمُهُ الْجَمِيعَ لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي التَّكْلِيفِ، وَالْعُمُومُ الْقَوْلِيُّ لَا يُعَارِضُهُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ سَابِقًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ ": فِي حَقِّهِ الْقَوْلُ بِفِعْلٍ خُصَّا ... إِنْ يَكُ فِيهِ الْقَوْلُ لَيْسَ نَصَّا فَهَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا أَجَابَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ التَّطَيُّبِ، عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ كَرَاهَتِهِ. وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ ذَلِكَ كُلِّهِ قَالُوا: دَعْوَى أَنَّ التَّطَيُّبَ لِلنِّسَاءِ لَا الْإِحْرَامَ، يَرُدُّهُ صَرِيحُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهَا: طَيَّبْتُهُ لَا لِإِحْرَامِهِ، يَرُدُّهُ صَرِيحُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهَا: طَيَّبْتُهُ لِإِحْرَامِهِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ اللَّامَ لِلتَّوْقِيتِ، خِلَافُ الظَّاهِرِ قَالُوا: وَادِّعَاءُ أَنَّ الطِّيبَ زَالَ بِالْغُسْلِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ تَرُدُّهُ الرِّوَايَاتُ الصَّرِيحَةُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ ; لِأَنَّ الْوَبِيصَ فِي اللُّغَةِ: الْبَرِيقُ، وَاللَّمَعَانُ، وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 وَصْفٌ وُجُودِيٌّ، وَالْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ: لَا يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِ الْمَوْجُودُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطِّيبَ الْمَوْصُوفَ بِالْوَبِيصِ مَوْجُودٌ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ عَيْنَ الطِّيبِ بَقِيَتْ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْجُنَيْدِ الدَّامَغَانِيُّ: ثِنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَدَّثَتْهَا قَالَتْ: " كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ. فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالسُّكِّ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَنْهَانَا " انْتَهَى مِنْهُ وَالسُّكُّ بِضَمِّ السِّينِ، وَتَشْدِيدِ الْكَافِ: نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ، يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الطِّيبِ، وَيُسْتَعْمَلُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَإِسْنَادُهُ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا الْحُسَيْنُ بْنُ الْجُنَيْدِ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: مُسْتَقِيمُ الْأَمْرِ فِيمَا يَرْوِي، اهـ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ فِيهِ: فِي " تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ ": قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ ". وَقَالَ: مِنْ أَهْلِ سِمَنَانَ: مُسْتَقِيمُ الْأَمْرِ فِيمَا يَرْوِي. قُلْتُ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدَانَ الْعَابِدِيُّ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْجُنَيْدِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَالَ: مَسْلَمَةُ بْنُ الْقَاسِمِ ثِقَةٌ انْتَهَى مِنْهُ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ فِيهِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ بَقَاءِ عَيْنِ الطِّيبِ فِي الْمُحْرِمِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، إِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِلطِّيبِ، قَبْلَ الْإِحْرَامِ. قَالَ فِي " الْقَامُوسِ ": وَالسُّكُّ بِالضَّمِّ طِيبٌ، يُتَّخَذُ مِنَ الرَّامَكِ مَدْقُوقًا مَنْخُولًا مَعْجُونًا بِالْمَاءِ، وَيُعْرَكُ شَدِيدًا، وَيُمْسَحُ بِدُهْنِ الْخَيْرِيِّ لِئَلَّا يَلْصَقَ بِالْإِنَاءِ، وَيُتْرَكُ لَيْلَةً ثُمَّ يُسْحَقُ السُّكُّ وَيُلْقَمُهُ وَيُعْرَكُ شَدِيدًا وَيُقَرَّصُ وَيُتْرَكُ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يُثْقَبُ بِمِسَلَّةٍ وَيُنْظَمُ فِي خَيْطِ قِنَّبٍ، وَيُتْرَكُ سُنَةً، وَكُلَّمَا عَتِقَ طَابَتْ رَائِحَتُهُ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالرَّامِكُ كَصَاحِبٍ: شَيْءٌ أَسْوَدُ يَخْلِطُ بِالْمِسْكِ، وَيَفْتَحُ انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كُنَّ يُضَمِّدْنَ بِهِ جِبَاهَهُنَّ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَعْجُونًا، قَبْلَ أَنْ يَقْرُصَ وَيَجِفَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي " اللِّسَانِ ": وَالسُّكُّ ضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ يُرَكَّبُ مِنْ مِسْكٍ وَرَامَكٍ، وَقَالَ فِي " اللِّسَانِ " أَيْضًا ابْنُ سِيدَهْ: وَالرَّامِكُ وَالرَّامَكُ وَالْكَسْرُ أَعْلَى شَيْءٌ أَسْوَدٌ كَالْقَارِ يُخْلَطُ بِالْمِسْكِ فَيُجْعَلُ سُكًّا، قَالَ: إِنَّ لَكَ الْفَضْلَ عَلَى صُحْبَتِي ... وَالْمِسْكُ قَدْ يَسْتَصْحِبُ الرَّامِكَا وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِ التَّطَيُّبِ الْمَذْكُورِ خَاصًّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا نَصٌّ فِي عَدَمِ خُصُوصِ ذَلِكَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَضَّدُوهُ بِالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ قَالُوا: وَإِنْكَارُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ لَا يُعَارِضُ الْمَرْفُوعَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ صَحَابِيٍّ، مَعَ أَنَّهُمْ خَالَفَهُمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِ حَدِيثِ يَعْلَى، كَالْعُمُومِ الْقَوْلِيِّ، فَلَا يُعَارِضُهُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ يُخَصَّصُ بِهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ التَّطَيُّبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، لَيْسَ خَاصًّا بِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ آنِفًا. وَقَوْلُهَا فِي الصَّحِيحِ: " طَيَّبْتُهُ بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ ". صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا شَارَكَتْهُ فِي مُلَامَسَةِ ذَلِكَ الطِّيبِ، كَمَا تَرَى. وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِ حَدِيثِ يَعْلَى: دَالًّا عَلَى الْمَنْعِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: دَالًّا عَلَى الْجَوَازِ. وَالدَّالُّ عَلَى الْمَنْعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ عَلَى الْجَوَازِ، بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا جُهِلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا. أَمَّا إِذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْمُتَأَخِّرِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ، وَقِصَّةُ يَعْلَى وَقَعَتْ بِالْجِعْرَانَةِ عَامَ ثَمَانٍ بِلَا خِلَافٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَامَ عَشْرٍ وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّصَّيْنِ إِذَا تَعَارَضَا وَعُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فَهُوَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِ الدَّوَامِ عَلَى الطِّيبِ كَابْتِدَائِهِ بِأَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ عَقْدِهِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الدَّوَامِ عَلَى نِكَاحٍ، وَقَدْ عَقَدَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بَعْدَ عَقْدِهِ الزَّوْجَانِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَا كُلُّ دَوَامٍ كَالِابْتِدَاءِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَانِعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ الْمَانِعُ لِلدَّوَامِ وَالِابْتِدَاءِ مَعًا كَالرَّضَاعِ، فَإِنَّ الرَّضَاعَ مَانِعٌ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا مَانِعٌ مِنَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ فَلَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَةً غَيْرَ مَحْرَمٍ مِنْهُ فِي حَالِ الْعَقْدِ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّ هَذَا الرَّضَاعَ الطَّارِئَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ مَانِعٌ مِنَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 لِوُجُوبِ فَسْخِ ذَلِكَ النِّكَاحِ بِذَلِكَ الرَّضَاعِ الطَّارِئِ عَلَيْهِ، وَكَالْحَدَثِ فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنِ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، مَانِعٌ مِنَ الدَّوَامِ عَلَيْهَا إِذَا طَرَأَ فِي أَثْنَائِهَا. وَالثَّانِي: هُوَ الْمَانِعُ لِلدَّوَامِ فَقَطْ دُونَ الِابْتِدَاءِ، كَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ بِمُوجِبِهِ، وَلَيْسَ مَانِعًا مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدٍ جَدِيدٍ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِمُوجِبِهِ. وَالثَّالِثُ: هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ دُونَ الدَّوَامِ، كَالنِّكَاحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِحْرَامِ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ مَانِعٌ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ مَانِعًا مِنَ الدَّوَامِ عَلَى عَقْدٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَالِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنَ النِّكَاحِ فِي حَالِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَيْسَ مَانِعًا مِنَ الدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا وُطِئَتِ امْرَأَتُهُ بِشُبْهَةٍ، فَلَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى عَقْدِ زَوَاجِهَا الْأَوَّلِ، قَالُوا: وَمِنْ هَذَا الطِّيبِ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ مَانِعٌ مِنِ ابْتِدَائِهِ، وَلَيْسَ مَانِعًا مِنَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، كَالنَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ وَإِلَى تَعْرِيفِ الْمَانِعِ وَأَقْسَامِهِ، أَشَارَ فِي " الْمَرَاقِي " بِقَوْلِهِ: مَا مِنْ وُجُودِهِ يَجِيءُ الْعَدَمُ ... وَلَا لُزُومٌ فِي انْعِدَامٍ يُعْلَمُ بِمَانِعٍ يَمْنَعُ لِلدَّوَامِ ... وَالِابْتِدَا أَوْ آخِرِ الْأَقْسَامِ أَوْ أَوَّلُ فَقَطْ عَلَى نِزَاعٍ ... كَالطُّولِ الِاسْتِبْرَاءِ وَالرَّضَاعِ هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَتُهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الطِّيبَ جَائِزٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ بَقِيَتْ رِيحُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ; لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ، وَالْأَخْذُ بِآخِرِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ عَامَ عَشْرٍ، وَحَدِيثُ يَعْلَى عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ عَامُ ثَمَانٍ، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ بَعْدَ حَدِيثِ يَعْلَى بِسَنَتَيْنِ، هَذَا مَا ظَهَرَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ طَيَّبَ ثَوْبَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَهُ الدَّوَامُ عَلَى لُبْسِهِ كَتَطْيِيبِ بَدَنِهِ، وَأَنَّهُ إِنْ نَزَعَ عَنْهُ ذَلِكَ الثَّوْبَ الْمُطَيَّبَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ لُبْسَهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ صَارَ كَالَّذِي ابْتَدَأَ الطِّيبَ فِي الْإِحْرَامِ، فَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَكَذَلِكَ إِنْ نَقَلَ الطِّيبَ الَّذِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 تَلَبَّسَ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، مِنْ مَوْضِعِ بَدَنِهِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، فَهُوَ ابْتِدَاءُ تَطَيُّبٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، الَّذِي نَقَلَهُ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَعَمَّدَ مَسَّهُ بِيَدِهِ أَوْ نَحَّاهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ كُلَّ تِلْكَ الصُّوَرِ فِيهَا ابْتِدَاءُ تَلَبُّسٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالطِّيبِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. أَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ عَرِقَ فَسَالَ الطِّيبُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ فِعْلِهِ. وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ فِي بَدَنِهِ، أَوْ ثَوْبِهِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا نَزَعَ ثَوْبَهُ لَا يَعُودُ إِلَى لُبْسِهِ، فَإِنْ عَادَ فَهَلْ عَلَيْهِ فِي الْعَوْدِ فِدْيَةٌ، يَحْتَمِلُ أَنْ نَقُولَ: لَا فِدْيَةَ ; لِأَنَّ مَا فِيهِ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْعَفْوِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْزِعْهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّهُ لُبْسٌ جَدِيدٌ وَقَعَ بِثَوْبٍ مُطَيَّبٍ. انْتَهَى مِنَ الْحَطَّابِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: فِي أَحْكَامِ أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ: كَالنَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ لِلْمُحْرِمِ، وَغَسْلِ الرَّأْسِ، وَالْبَدَنِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ قَتْلِهِ بِغَسْلِهِ رَأَسَهُ قَمْلًا، وَالْحِجَامَةِ، وَحَكِّ الْجَسَدِ، وَالرَّأْسِ وَتَقْرِيدِ الْبَعِيرِ، وَتَضْمِيدِ الْعَيْنِ بِالصَّبْرِ وَنَحْوِهِ، وَالسِّوَاكِ. أَمَّا النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ فِيمَا أَعْلَمُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ، وَيَدَّهِنَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يَشُمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ، وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينِ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا انْتَهَى مِنْهُ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ عَنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ، قَدْ قَدَّمْنَاهَا كُلَّهَا وَأَوْضَحْنَا مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، إِلَّا النَّظَرَ فِي الْمِرْآةِ الَّذِي هُوَ غَرَضُنَا مِنْهَا الْآنَ. وَكَوْنُ عَائِشَةَ لَمْ تَرَ بَأْسًا بِالتُّبَّانِ، لِلَّذِينِ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا، وَالتُّبَّانُ كَرُمَّانٍ، سَرَاوِيلُ صَغِيرٌ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ الْمُغْلَّظَةَ، وَإِبَاحَةُ عَائِشَةَ لِلتُّبَّانِ لِلَّذِينِ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ: بِجَوَازِ الِاسْتِثْفَارِ لِلرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ: " أَنَّهُ طَافَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ " خَصَّصَ الْمَالِكِيَّةُ، جَوَازَ شَدِّ الْحِزَامِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 عَلَى الْبَطْنِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ بِضَرُورَةِ الْعَمَلِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي جَوَازِ نَظَرِ الْمُحْرِمِ فِي الْمِرْآةِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": أَنَّهُ نُقِلَتْ كَرَاهَتُهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا أُحِبُّ نَظَرَ الْمُحْرِمِ فِي الْمِرْآةِ، فَإِنْ نَظَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ. وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ، قَالَ: وَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: بِالْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى مِنَ النَّوَوِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ مُجَرَّدَ نَظَرِ الْمُحْرِمِ فِي الْمِرْآةِ لَا بَأْسَ بِهِ، مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، كَنَظَرِ الْمَرْأَةِ فِيهَا لِتَكْتَحِلَ بِمَا فِيهِ طِيبٌ أَوْ زِينَةٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي " الْفَتْحِ " أَيْضًا: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ رَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا حَجَّتْ، وَمَعَهَا غِلْمَانٌ لَهَا، وَكَانُوا إِذَا شَدُّوا رَحْلَهَا يَبْدُو مِنْهُمُ الشَّيْءُ، فَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا التَّبَابِينَ فَيَلْبَسُوهَا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ: يَشُدُّونَ هَوْدَجَهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَحَلْتُ الْبَعِيرَ أَرْحَلُهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْمُضَارِعِ، وَالْمَاضِي رَحْلًا بِمَعْنَى: شَدَدْتُ الرَّحْلَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: رَحَلَتْ سُمَيَّةُ غَدْوَةً أَجَمَالَهَا ... غَضْبَى عَلَيْكَ فَمَا تَقُولُ بَدَا لَهَا وَقَوْلُ الْمُثَقِّبِ الْعَبْدِيِّ وَهُوَ عَائِذُ بْنُ مِحْصَنٍ: إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ وَالْهَوْدَجُ: مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ النِّسَاءِ مَعْرُوفٌ، وَمَا ذَكَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِنَّمَا رَخَّصَتْ فِي الْتُّبَّانِ، لِمَنْ يَرْحَلُ هَوْدَجَهَا، لِضَرُورَةِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ، وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا غَسْلُ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ لِجَنَابَةٍ كَاحْتِلَامٍ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِرِفْقٍ لِئَلَّا يَقْتُلَ بَعْضَ الدَّوَابِّ فِي رَأْسِهِ وَاغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ، وَغَسْلُهُ رَأْسَهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ: لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلَّمَا خَالَفَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الِاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةَ بِالْحَكِّ بَأْسًا. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ. وَقَالَ ابْنُ حَجْرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَكَأَنَّهُ خَصَّ الرَّأْسَ بِالسُّؤَالِ ; لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ الشِّعْرِ الَّذِي يُخْشَى انْتِتَافُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَدَنِ غَالِبًا، وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ كَلَفْظِ الْبُخَارِيِّ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ. مِنْهَا: جَوَازُ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ، وَغَسْلِهِ رَأْسَهُ، وَإِمْرَارِ الْيَدِ عَلَى شِعْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْتِفُ شَعْرًا إِلَى آخِرِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ: بِجَوَازِ غَسْلِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ غَسْلُ الْبَدَنِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اغْتِسَالُ الْمُحْرِمِ بِالْمَاءِ وَالِانْغِمَاسُ فِيهِ، فَجَائِزٌ لَا يُعْرَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، خِلَافٌ فِيهِ، لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ السَّابِقِ: أَمَّا دُخُولُ الْحَمَّامِ وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ فَجَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِإِزَالَةِ الْوَسَخِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِخَطْمِيٍّ؛ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ عَنْ بَعِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَرِهَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمَالِكٌ: غَسْلُ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ مُبَاحٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا جَوَازَ غَسْلِ الرَّأْسِ بِالْمَاءِ وَحْدَهُ، عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَرَاهَةِ غَمْسِ الرَّأْسِ فِي الْمَاءِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ بِذَلِكَ بَعْضَ دَوَابِّ الرَّأْسِ. وَقَالَ صَاحِبُ " اللِّسَانِ ": وَالْخَطْمِيُّ: ضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ، بِغَسْلٍ بِهِ، وَفِي الصَّحَاحِ: يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ، وَمَنْ قَالَ: خِطْمِيٌّ بِكَسْرِ الْخَاءِ فَقَدْ لَحَنَ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ، فَإِنْ دَخَلَهُ، وَتَدَلَّكَ، وَأَلْقَى الْوَسَخَ: افْتَدَى. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: أَرَى أَنْ يَفْتَدِيَ، وَلَوْ لَمْ يَتَدَلَّكْ ; لِأَنَّ الشَّأْنَ فِيمَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ أَنَّ الشَّعَثَ يَذْهَبُ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَدَلَّكْ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ. فَتَحَصَّلَ: أَنَّ مُطْلَقَ الْغُسْلِ الَّذِي لَا تَنْظِيفَ فِيهِ لَا خِلَافَ فِيهِ إِلَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّهُ كَانَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، إِلَّا مِنِ احْتِلَامٍ ". وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " أَنَّهُ غَسَلَ رَأَسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَأَمَرَ يَعْلَى بْنَ مُنْيَةَ: أَنْ يَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ أَيْ: عُمَرَ الْمَاءَ، وَقَالَ: اصْبُبْ، فَلَنْ يَزِيدَهُ الْمَاءُ إِلَّا شَعَثًا ". وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ جَوَازُهُ، وَأَنَّ إِزَالَةَ الْوَسَخِ بِالتَّدَلُّكِ فِي الْحَمَّامِ، وَغَسْلَ الرَّأْسِ بِالْخَطْمِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فِيهِ خِلَافٌ كَمَا رَأَيْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: مِنَ التَّدَلُّكِ وَإِزَالَةِ الْوَسَخِ لَا شَيْءَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ عَنْ بَعِيرِهِ، وَمَاتَ، وَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ: بِأَنَّهُ يَبْعَثُ مُلَبِّيًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ. وَاحْتَجَّ مِنْ مَنْعِ إِزَالَةِ الْوَسَخِ: بِأَنَّ الْوَسَخَ مِنَ التَّفَثِ وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ التَّفَثِ: لَا تَجُوزُ قَبْلَ وَقْتِ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا "، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ " وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا مُجَرَّدُ الْغَسْلِ الَّذِي لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شَعَثًا كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا التَّدَلُّكُ فِي الْحَمَّامِ، وَغَسْلِ الرَّأْسِ بِالْخَطْمِيِّ، فَلَا نَصَّ فِيهِ، وَالْأَحْسَنُ تَرْكُهُ احْتِيَاطًا، وَأَمَّا لُزُومُ الْفِدْيَةِ فِيهِ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ دَلِيلًا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا حُكْمُ مَنْ قَتَلَ بِغَسْلِهِ رَأْسَهُ قَمْلًا، فَلَا أَعْلَمُ فِي خُصُوصِ قَتْلِ الْمُحْرَمِ الْقَمْلَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَوْ قَمَلَاتٍ أَطْعَمَ مِلْءَ يَدٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّعَامِ كَفَّارَةً لِذَلِكَ، وَإِنْ قَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً: أَطْعَمَ شَيْئًا قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ فَدَاهَا بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ الْقَمْلُ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ، لَمْ يُكْرَهْ لَهُ أَنْ يُنَحِّيَهُ ; لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ قَتْلَ الْقَمْلِ لَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ أَنَّ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إِبَاحَةُ قَتْلِهِ ; لِأَنَّهُ يُؤْذِي، وَالْأُخْرَى مَنْعُ قَتْلِهِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَرَفُّهًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْقَمْلَ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَأَخْذُهُ مِنَ الرَّأْسِ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَتْلُهُ يَجُوزُ لَمَا صَبَرَ عَلَى أَذَاهُ، وَلَتَسَبَّبَ فِي التَّفَلِّي ; لِإِزَالَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيمَنْ آذَاهُ الْقَمْلُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ إِنْ لَمْ يُرِدِ الْحَلْقَ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى لُزُومِ شَيْءٍ فِي قَتْلِ الْقَمْلِ، مَعَ أَنَّهُ يُؤْذِي أَشَدَّ الْإِيذَاءِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كِلَاهُمَا: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ إِنَّمَا لَزِمَتْ بِسَبَبِ حَلْقِ الرَّأْسِ، مَعَ كَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْقَمْلِ، فَلَوْ كَانَتِ الْفِدْيَةُ تَلْزَمُ مِنْ قَتْلِ الْقَمْلِ، وَإِزَالَتِهِ، لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ظَاهِرُهُ: أَنَّ الْأَذَى الَّذِي بِرَأْسِهِ مِنَ الْقَمْلِ وَنَحْوِهِ: كَالْمَرَضِ فِي إِبَاحَةِ الْحَلْقِ، وَأَنَّ الْفِدْيَةَ لَزِمَتْ بِسَبَبِ الْحَلْقِ لَا بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَلَا بِسَبَبِ إِزَالَةِ الْقَمْلِ، وَكَذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 ظَاهِرُ حَدِيثِ كَعْبٍ، حَيْثُ أَمَرَهُ بِالْحَلْقِ وَالْفِدْيَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ مِنْ أَجْلِ الْحَلْقِ لَا غَيْرُهُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقَمْلَ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَهُوَ كَالْبَرَاغِيثِ وَالْبَعُوضِ، وَلَيْسَ الْقَمْلُ بِمَأْكُولٍ، وَلَيْسَ بِصَيْدٍ. قَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي ": وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هِيَ أَهْوَنُ مَقْتُولٍ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ مُحْرِمٍ أَلْقَى قَمْلَةً، ثُمَّ طَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا؟ قَالَ: تِلْكَ ضَالَّةٌ لَا تُبْتَغَى. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً، قَالَ: يُطْعِمُ شَيْئًا فَعَلَى هَذَا أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ قَتَلَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ إِسْحَاقُ: تَمْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ التَّقْدِيرَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّقْرِيبِ لِأَقَلِّ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ. انْتَهَى مِنَ " الْمُغْنِي ". وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا أَقْوَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ قَتْلَ الْقَمْلِ فِيهِ تَرَفُّهٌ لِلْمُحْرِمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْحِجَامَةُ: إِنْ دَعَتْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا لِلْمُحْرِمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْفِدْيَةِ، إِنِ احْتَجَمَ. أَمَّا جَوَازُهَا لِضَرُورَةٍ فَهُوَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ: وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: احْتَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنِي طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا. حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مُخَلَّدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيَيْ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ ". انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الطِّبِّ "، بَابِ الْحَجْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِحْرَامِ: قَالَهُ ابْنُ بُحَيْنَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ ". وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الطِّبِّ " أَيْضًا: بَابِ الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُحَيْنَةَ، يُحَدِّثُ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ بِلَحْيَيْ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ " وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ " وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ: لَحْيَيْ جَمَلٍ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ " انْتَهَى مِنْهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ: أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، عَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِلَفْظِ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ". وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا حَدِيثَ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْمَذْكُورَ بِلَفْظِ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَسَطَ رَأْسِهِ "، اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ وَهُمَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُحَيْنَةَ: صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ إِنْ دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةُ وَجَعٍ. وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ فِيهِ أَنَّ الْحِجَامَةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ فِي الرَّأْسِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": وَخَالَفَ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ قَالَ: " احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ ". وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ، حَكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، فَأَرْسَلَهُ وَسَعِيدٌ أَحْفَظُ مِنْ مَعْمَرٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ، وَالْجُمَعُ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ، وَاضِحٌ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تَعَارُضَ فِيهِ، وَأَنَّهُ احْتَجَمَ مَرَّةً فِي الرَّأْسِ، وَمَرَّةً عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " بِلَحْيَيْ جَمَلٍ " هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَسُكُونِ الْحَاءِ وَيَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: بِيَاءَيْنِ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَجَمَلٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالْمِيمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ، أَنَّهُ اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَقَالَ فِي " الْفَتْحِ ": قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: هِيَ بُقْعَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ عَقَبَةُ الْجَحْفَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ السُّقْيَا، اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَامُوسِ ": وَلِحَى جَمَلٍ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَإِلَى الْمَدِينَةِ أَقْرَبُ. وَزَعَمَ صَاحِبُ " الْقَامُوسِ ": أَنَّ السُّقْيَا بِالضَّمِّ: مَوْضِعٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ، وَوَادِي الصَّفْرَاءِ، وَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ فَكَّيِ الْجَمَلِ الَّذِي هُوَ ذَكَرُ الْإِبِلِ، وَأَنَّ فَكَّهُ كَانَ هُوَ آلَةَ الْحِجَامَةِ، فَهُوَ غَلَطٌ لَا شَكَّ فِيهِ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يُبْقَى مَعَهَا شَكٌّ فِي جَوَازِ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي بِهِ وَجَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْحِجَامَةِ. أَمَّا مَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهَا لَهُ فِي الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ، إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ قَطَعَ الشَّعْرَ حِينَئِذٍ، لَكِنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ لِقَطْعِ الشِّعْرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ هُ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي الْحِجَامَةِ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ قَطْعِ شِعْرِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ الْحِجَامَةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَلْعَ شَعْرٍ، فَهِيَ حَرَامٌ لِتَحْرِيمِ قَطْعِ الشِّعْرِ وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ فِيهِ، فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: وَلَا فِدْيَةَ فِيهَا، وَوَافَقَ الْجُمْهُورُ سَحْنُونَ، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ كَرَاهَتُهَا، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: فِيهَا الْفِدْيَةُ. دَلِيلُنَا: أَنَّ إِخْرَاجَ الدَّمِ لَيْسَ حَرَامًا فِي الْإِحْرَامِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ: مِنْ كَرَاهَةِ الْحِجَامَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لَا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلَّا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ " وَفِيهِ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا إِنْ أَدَّتْ إِلَى قَطْعِ شَعْرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهَا أَنَّهَا حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ شَعْرٍ، فَقَدَ وَجَّهَ الْمَالِكِيَّةُ كَرَاهَتَهَا الْمَذْكُورَةَ، عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ عُمَرَ بِأَمْرَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِخْرَاجَ الدَّمِ مِنَ الْحَاجِّ، قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِهِ، كَمَا كُرِهَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ، مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ أَخَفُّ مِنَ الْحِجَامَةِ، قَالُوا: فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُ الْمَجِيزِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِخْرَاجِ الدَّمِ فِي الْإِحْرَامِ، لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِالْحُرْمَةِ، بَلْ بِالْكَرَاهَةِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى عُلِمَتْ. قَالَهُ: الزُّرْقَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ ". وَمُرَادُهُمْ أَنَّ ضَعْفَهُ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ مِنْهُ، قَدْ يُؤَدِّي إِلَى عَجْزِهِ عَنْ إِتْمَامِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْحِجَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْعَادَةِ، بِشَدِّ الزُّجَاجِ وَنَحْوِهِ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْعَقْدِ وَالشَّدِّ عَلَى جَسَدِهِ. قَالَهُ: الشَّيْخُ سَنَدٌ. وَقَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ عَاطِفًا عَلَى مَا يُكْرَهُ: وَحِجَامَةٌ بِلَا عُذْرٍ - مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَتَجُوزُ، فَإِنْ لَمْ يُزِلْ بِسَبَبِهَا شَعْرًا، وَلَمْ يَقْتُلْ قَمْلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَزَالَ بِسَبَبِهَا شَعْرًا: فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَذَكَرَ ابْنُ بَشِيرٍ قَوْلًا بِسُقُوطِهَا قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَهُوَ غَرِيبٌ، وَإِنْ قَتَلَ قَمْلًا، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، فَالْفِدْيَةُ، وَإِلَّا أَطْعَمَ حَفْنَةً مِنْ طَعَامٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ بَشِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاسْتَغْرَبَهُ خَلِيلٌ فِي التَّوْضِيحِ بِسُقُوطِ الْفِدْيَةِ مُطْلَقًا. وَلَوْ أَزَالَ بِسَبَبِ الْحِجَامَةِ شَعْرًا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَلَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ قُوَّةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ: " بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ، لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ افْتَدَى لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّعْرِ مِنْ أَجْلِ الْحِجَامَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِدْيَةٌ، لِبَيَّنَهَا لِلنَّاسِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ. لَا يَنْهَضُ كُلَّ النُّهُوضِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، لَا فِي حَلْقِ بَعْضِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِهِ: لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ تَلْزَمُ بِحَلْقِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى ذَلِكَ، وَفِي الْأُخْرَى: إِلَى لُزُومِهَا بِأَرْبَعِ شَعَرَاتٍ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى لُزُومِهَا بِحَلْقِ الرُّبُعِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى لُزُومِهَا بِحَلْقِ مَا فِيهِ تَرَفُّهٌ، أَوْ إِمَاطَةُ أَذًى، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي حَلْقِ بَعْضِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 الرَّأْسِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى لُزُومِ الْفِدْيَةِ، فِي مَنْ أَزَالَ شَعْرًا قَلِيلًا ; لِأَجْلِ تَمَكُّنِ آلَةِ الْحِجَامَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْوَجَعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ إِزَالَةَ الشَّعْرِ عَنْ مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ لَا فِدْيَةَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ قَالَا: فِي ذَلِكَ صَدَقَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا: أَنَّ الصَّدَقَةَ عِنْدَهُمْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ كَامِلٌ مِنْ غَيْرِهِ كَتَمْرٍ وَشَعِيرٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَلَقَ الشَّعْرَ لِأَجْلِ تَمَكُّنِ آلَةِ الْحِجَامَةِ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَدْرِ مَا تَلْزَمُ بِهِ الْفِدْيَةُ، مِنْ حَلْقِ الشَّعْرِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَأَنَّ عَدَمَ لُزُومِهَا عِنْدَنَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ قَوِيٌّ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَشِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَحْلِقْ بِالْحِجَامَةِ شَعْرًا، فَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَتَفْصِيلَهُمْ بَيْنَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَحَادِيثِ الْحِجَامَةِ الْمَذْكُورَةِ، عَلَى جَوَازِ الْفَصْدِ، وَرَبْطِ الْجُرْحِ، وَالدُّمَّلِ، وَقَلْعِ الضِّرْسِ، وَالْخِتَانِ، وَقَطْعِ الْعُضْوِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّدَاوِي، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَحْظُورٌ: كَالطِّيبِ، وَقَطْعِ الشَّعْرِ. وَأَمَّا الْحَكُّ فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ شَعْرٌ كَالرَّأْسِ، وَكَانَ بِرِفْقٍ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ بِهِ نَتْفُ بَعْضِ الشَّعْرِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِقُوَّةٍ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ نَتْفُ بَعْضِ الشَّعْرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَكِّ. وَلَمْ أَعْلَمْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنَّمَا فِيهِ بَعْضُ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا. وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُ عَنِ الْمُحْرِمِ، أَيَحُكُّ جَسَدَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَلْيَحْكُكْهُ، وَلْيَشْدُدْ، وَلَوْ رُبِطَتْ يَدَايَ، وَلَمْ أَجِدْ إِلَّا رِجْلِي لَحَكَكْتُ، اهـ. وَأَمَّا نَزْعُ الْقُرَادِ وَالْحَلَمَةِ مِنْ بَعِيرِهِ، فَقَدْ أَجَازَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ: أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْرَدُ بَعِيرًا لَهُ فِي طِينٍ بِالسُّقْيَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَأَنَا أَكْرَهُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 " الْمُوَطَّأِ " عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْزِعَ الْمُحْرِمُ حَلَمَةً، أَوْ قُرَادًا عَنْ بَعِيرِهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: يَقْرَدُ بَعِيرَهُ: أَيْ يَنْزِعُ عَنْهُ الْقُرَادَ وَيَرْمِيهِ. وَأَمَّا تَضْمِيدُ الْعَيْنِ بِالصَّبْرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا طِيبَ فِيهِ لِضَرُورَةِ الْوَجَعِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى تَضْمِيدِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهَا بِمَا فِيهِ طِيبٌ. أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى جَوَازِ تَضْمِيدِ الْعَيْنِ بِالصَّبْرِ وَنَحْوِهِ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَلَلٍ اشْتَكَى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَيْنَيْهِ، فَلَمَّا كُنَّا بِالرَّوْحَاءِ اشْتَدَّ وَجَعُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يَسْأَلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنِ اضْمِدْهُمَا بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ضَمَّدَهُمَا بِالصَّبْرِ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ مُسْلِمٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ رَمِدَتْ عَيْنُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَحِّلَهَا، فَنَهَاهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُضَمِّدَهَا بِالصَّبْرِ، وَحَدَّثَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا السِّوَاكُ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَرَبْطِ جُرْحِهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ التَّادَلِيُّ فِي مَنَاسِكِ ابْنِ الْحَاجِّ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَسَوَّكَ، وَإِنْ دَمِيَ فَمُهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الشَّيْخُ: رَوَى مُحَمَّدٌ وَالْعُتْبِيُّ: لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَسَوَّكَ، وَلَوْ أَدْمَى فَاهُ انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ الْقَاضِي الزِّينَةَ مَنْعُ السِّوَاكِ بِالْجَوْزَاءِ وَنَحْوِهِ. انْتَهَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَطَّابِ. فَصْلٌ فِيمَا تَتَعَدَّدُ فِيهِ الْفِدْيَةُ وَنَحْوُهَا وَمَا لَا يَتَعَدَّدُ فِيهِ ذَلِكَ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ يَدْخُلُ فِي مَسْأَلَةٍ كَبِيرَةٍ، يَذْكُرُهَا عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ، وَهِيَ: هَلِ الْأَمْرُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَوْ لَا؟ وَهِيَ ذَاتُ وَاسِطَةٍ وَطَرَفَيْنِ، طَرَفٌ يَتَعَدَّدُ فِيهِ اللَّازِمُ بِلَا خِلَافٍ، وَطَرَفٌ لَا يَتَعَدَّدُ فِيهِ، بِلَا خِلَافٍ، وَوَاسِطَةٌ: هِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَهَذَا الْبَحْثُ أَعَمُّ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَلَكِنْ إِذَا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، رَجَعْنَا إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 مَسْأَلَتِنَا، فَذَكَرْنَا فِيهَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدِلَّتِهِمْ، وَنَاقَشْنَاهَا. وَالْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ: هِيَ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ، وَاتَّحَدَ مُوجَبُهَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، هَلْ يَتَعَدَّدُ الْمُوجَبُ نَظَرًا لِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ أَوْ لَا يَتَعَدَّدُ نَظَرًا لِاتِّحَادِهِ فِي نَفْسِهِ؟ وَأَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجُمْلَةِ الشَّيْخُ مَيَّارَةُ فِي «التَّكْمِيلِ» بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَعَدَّدْ سَبَبٌ وَالْمُوجَبُ ... مُتَّحِدٌّ كَفَى لَهُنَّ مُوجَبٌ كَنَاقِضٍ سَهْوٍ وُلُوغٍ وَالْفِدَا ... حِكَايَةُ حَدِّ تَيَمُّمٍ بَدَا وَذَا الْكَثِيرِ وَالتَّعَدُّدِ وَرَدْ ... بِخُلْفٍ أَوْ وُفْقٍ بِنَصٍّ مُعْتَمَدْ فَقَوْلُهُ: الْمُوجَبُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَقَوْلُهُ كَنَاقِضٍ يَعْنِي: أَنَّ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ إِنْ تَعَدَّدَتْ كَمَنْ بَالَ مَرَّاتٍ. أَوْ بَالَ وَنَامَ وَقَبَّلَ، فَإِنَّهُ يَكْفِي لِجَمِيعِهَا وُضُوءٌ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ الْجَنَابَةُ، إِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْبَابُهَا بِوَطْءٍ مَرَّاتٍ، وَإِنْزَالٍ بِلَذَّةٍ، وَاحْتِلَامٍ، وَانْقِطَاعِ حَيْضٍ، فَإِنَّهُ يَكْفِي لِجَمِيعِ ذَلِكَ غُسْلٌ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: سَهْوٌ يَعْنِي: أَنَّ مَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، يَكْفِيهِ لِجَمِيعِهَا سُجُودُ سَهْوٍ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: وُلُوغٌ يَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ وُلُوغُ الْكَلْبِ فِي الْإِنَاءِ بِأَنْ وَلَغَ فِيهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً أَوْ دَلَفَتْ فِيهِ كِلَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَإِنَّهُ يَكْفِي لِجَمِيعِ ذَلِكَ غَسْلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ عَلَى نَحْوِ مَا فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يَتَعَدَّدُ الْغَسْلُ بِتَعَدُّدِ الْوُلُوغِ. وَقَوْلُهُ: وَالْفِدَا يَعْنِي: أَنَّ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ مُوجِبُ الْفِدْيَةِ، كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا مُطَيَّبًا تَكْفِيهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ. قَوْلُهُ: حِكَايَةٌ يَعْنِي: أَنَّ مَنْ سَمِعَ أَذَانَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، يَكْفِيهِ حِكَايَةُ أَذَانِ وَاحِدٍ، وَلَا تَتَعَدَّدُ حِكَايَةُ الْأَذَانِ لِتَعَدُّدِ الْمُؤَذِّنِينَ. وَقَوْلُهُ: حَدٌّ يَعْنِي: أَنَّ مَنْ زَنَى مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَكْفِي حَدُّهُ حَدًّا وَاحِدًا، وَلَا يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ بِتَعَدُّدِ الزِّنَى مَثَلًا. أَمَّا إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ زَنَى بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِزِنَاهُ الْوَاقِعِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ. وَقَوْلُهُ: تَيَمُّمٌ يَعْنِي: أَنَّ الْجُنُبَ مَثَلًا الَّذِي حُكْمُهُ التَّيَمُّمُ، إِذَا أَرَادَ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِيهِ يَكْفِيهِ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 وَقَوْلُهُ: وَذَا الْكَثِيرِ يَعْنِي: أَنَّ الْكَثِيرَ فِي فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ تَعَدُّدِ الْمُوجَبِ الَّذِي تَعَدَّدَتْ أَسْبَابُهُ. وَقَوْلُهُ: وَالتَّعَدُّدُ وَرَدَ بِخُلْفٍ، أَوْ وُفْقٍ يَعْنِي: أَنَّ تَعَدُّدَ الْمُوجَبِ، لِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ وَارِدٌ فِي الشَّرْعِ، وَتَارَةً يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَى تَعَدُّدِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَقَوْلُهُ: أَوْ وُفْقٍ يَعْنِي: بِالْوُفْقِ الِاتِّفَاقُ، وَمُرَادُهُ بِهِ الْإِجْمَاعُ. وَقَدْ نَظَّمَ الْعَلَوِيَّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ شَرْحِ مَرَاقِي السُّعُودِ» مَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ سَبَبِهِ إِجْمَاعًا، وَمَا يَتَعَدَّدُ بِخِلَافٍ فِي شَرْحِهِ ; لِقَوْلِهِ فِي «الْمَرَاقِي» : أَوِ التَّكَرُّرُ إِذَا مَا عُلِّقَا ... بِشَرْطٍ أَوْ بِصِفَةٍ تَحَقَّقَا فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا تَعَدَّدَ بِوُفْقِ غِرَّهْ ... أَوْ دِيَةٍ وَمَهْرِ غَصْبِ الْحُرَّهْ عَقِيقَةٌ وَمَهْرُ مَنْ لَمْ تَعْلَمْ ... وَالثُّلُثُ مِنْ بَعْدِ الْخُرُوجِ فَاعْلَمْ وَالْخُلْفُ فِي صَاعِ الْمُصَرَّاةِ وَفِي ... كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَنْ نَسَى يَفِي وَهَدْيُ مَنْ نَذَرَ نَحْرَ وَلَدِهِ ... غُسْلٌ إِنَّ الْوَلْغَ يُرَى بِعَدَدِهِ حِكَايَةُ الْمُؤَذِّنِينَ وَسُجُودُ ... تِلَاوَةٍ وَبَعْدَ تَكْفِيرٍ يَعُودُ قَذْفُ جَمَاعَةٍ وَثُلُثٍ قَبْلَ أَنْ ... يُخْرِجَ ثُلُثًا قَالَهُ مَنْ قَدْ فَطِنْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عَلَا ... لِقَصْدِ تَأْسِيسِ مَنِ الَّذِي ائْتَلَى وَحَاصِلُ كَلَامِهِ فِي نَظْمِهِ: أَنَّ الَّذِي يَتَعَدَّدُ إِجْمَاعًا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ مَنْ ضَرَبَ بَطْنَ حَامِلٍ، فَأَسْقَطَتْ جَنِينَيْنِ مَثَلًا، يَتَعَدَّدُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا مِنْ غُرَّةٍ أَوْ دِيَةٍ عَلَى مَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، وَهَذَا مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا تَعَدَّدَ بِوُفْقٍ غُرَّةٌ أَوْ دِيَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مِنْ غَصَبَ حُرَّةً فَزَنَى بِهَا مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ مَهْرُهَا بِتَعَدُّدِ الزِّنَى بِهَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ وُلِدَ لَهُ تُوأَمَانِ لَزِمَتْهُ عَقِيقَتَانِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ مَنْ وُطِئَتْ مَرَّاتٍ وَهِيَ غَيْرُ عَالِمَةٍ كَالنَّائِمَةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّدُ لَهَا الْمَهْرُ بِتَعَدُّدِ الْوَطْءِ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ ثُلُثَ مَالِهِ فَأَخْرَجَهُ ثُمَّ نَذَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُلُثَهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَمُرَادُهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 بِهَذَا وَاضِحٌ مِنَ النَّظْمِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْمَذْكُورَاتِ، لَا يَخْلُو مِنْ خِلَافٍ. أَمَّا مَا ذَكَرَ تَعَدُّدَهُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، فَهُوَ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: صَاعُ الْمُصَرَّاةِ يَعْنِي: صَاعَ التَّمْرِ الَّذِي يَرُدُّهُ مَعَ الْمُصَرَّاةِ إِذَا حَلَبَهَا، هَلْ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الشِّيَاهِ الْمُصَرَّاةِ، أَوْ يَكْفِي عَنْ جَمِيعِهَا صَاعٌ وَاحِدٌ، وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ التَّعَدُّدُ. الثَّانِيَةُ: إِذَا ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَاتِهِ الْأَرْبَعِ، هَلْ تَتَعَدَّدُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِتَعَدُّدِهِنَّ، أَوْ تَكْفِي كَفَارَةٌ وَاحِدَةٌ؟ وَالثَّالِثَةُ: إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ نَذْرُ ذَبْحِ وَلَدِهِ، بِأَنْ نَذَرَ أَنَّهُ يَذْبَحُ اثْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهِ، وَقُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، هَلْ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأَوْلَادِ الْمَنْذُورِ ذَبْحُهُمْ، أَوْ يَكْفِي هَدْيٌ وَاحِدٌ؟ وَالرَّابِعَةُ: تَعَدُّدُ وُلُوغِ الْكِلَابِ فِي الْإِنَاءِ، هَلْ يَتَعَدَّدُ الْغَسْلُ سَبْعًا بِتَعَدُّدِ الْوُلُوغِ، أَوْ يَكْفِي غَسْلُهُ سَبْعًا مَرَّةً وَاحِدَةً؟ وَالْخَامِسَةُ: حِكَايَةُ أَذَانِ الْمُؤَذِّنِينَ. وَالسَّادِسَةُ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ، إِذَا كَرَّرَ آيَةَ السُّجُودِ مِرَارًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، هَلْ يَكْفِي سُجُودٌ وَاحِدٌ أَوْ لَا؟ وَالسَّابِعَةُ: إِذَا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، ثُمَّ كَفَّرَ مِنْ حِينِهِ، ثُمَّ جَامَعَ مَرَّةً أُخْرَى فِي نَفْسِ الْيَوْمِ، هَلْ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ أَوْ لَا؟ وَالثَّامِنَةُ: إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً، هَلْ يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ بِتَعَدُّدِهِمْ، أَوْ يَكْفِي حَدٌّ وَاحِدٌ؟ وَالتَّاسِعَةُ: إِذَا نَذَرَ ثُلُثَ مَالِهِ، ثُمَّ نَذَرَ ثُلُثًا آخَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ هَلْ يَلْزَمُهُ النَّذْرُ فِي الثُّلُثَيْنِ، أَوْ يَكْفِي وَاحِدٌ؟ وَالْعَاشِرَةُ: إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، وَقَصَدَ بِكُلِّ يَمِينٍ التَّأْسِيسَ لَا التَّأْكِيدَ، هَلْ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِ الْأَيْمَانِ، أَوْ تَكْفِي كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مُرَادِهِ بِالْأَبْيَاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمُتَّفَقَ عَلَى تَعَدُّدِهَا وَالْمُخْتَلَفَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ بِكَثِيرٍ، فَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَى التَّعَدُّدِ فِيهَا، وَلَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ صَادَ ظَبْيَيْنِ مَثَلًا، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ إِجْمَاعًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ يَكْفِي جَزَاءٌ وَاحِدٌ، لَا يَصِحُّ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مِثْلًا لِلِاثْنَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، إِنَّمَا تُعْرَفُ فُرُوعُهَا بِالتَّتَبُّعِ، فَقَدْ يَكْفِي مُوجَبٌ وَاحِدٌ مَعَ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ إِجْمَاعًا، كَتَعَدُّدِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَأَسْبَابِ الْجَنَابَةِ، وَتَعَدُّدِ سَبَبِ الْحَدِّ كَالزِّنَى، وَقَدْ يَتَعَدَّدُ إِجْمَاعًا كَالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِي تَعَدُّدِهِ، وَعَدَمِ تَعَدُّدِهِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّيْخُ مَيَّارَةُ فِي «التَّكْمِيلِ» . فَإِذَا عَلِمْتَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلِمْتَ أَنَّهَا عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى مَسْأَلَةِ: الْأَمْرُ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارُ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ؟ فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدِلَّتُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَهِيَ مَا تَعَدَّدُ فِيهِ الْفِدْيَةُ وَنَحْوُهَا، بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا، وَمَا لَا تَتَعَدَّدُ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ تَعَدُّدَ اللَّازِمِ فِي الْجِمَاعِ بِتَعَدُّدِ الْجِمَاعِ، وَعَدَمِ تَعَدُّدِهِ قَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ، وَاسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ. أَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ. حَاصِلُهُ: أَنَّ الْجِمَاعَ لَا يَتَعَدَّدُ الْهَدْيُ اللَّازِمُ فِيهِ بِتَعَدُّدِهِ، سَوَاءٌ جَامَعَ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْهَدْيِ عَنِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْجِمَاعِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَقَلْمِ الْأَظَافِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَارَةً تَكْفِي عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، عَنِ الْجَمِيعِ، وَتَارَةً تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا. أَمَّا مُوجِبَاتُ عَدَمِ تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ، فَهِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ثَلَاثَةٌ. الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ فَعَلَ أَسْبَابَ الْفِدْيَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ بَعْضَهَا بِالْقُرْبِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ وَحَلَقَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ فَعَلَ بَعْضَهَا قَرِيبًا مِنْ بَعْضٍ، وَالْقَوْلُ الَّذِي خَرَّجَهُ اللَّخْمِيُّ بِالتَّعَدُّدِ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ، لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ فِعْلَ جَمِيعِهَا، بِأَنْ يَنْوِيَ اللُّبْسَ وَالتَّطَيُّبَ وَالْحَلْقَ فَتَلْزَمَهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ غَيْرَ قَرِيبٍ مِنْهُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فَعَلَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ظَانًّا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، كَالَّذِي يَطُوفُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فِي عُمْرَتِهِ، ثُمَّ يَسْعَى، وَيَحِلُّ وَيَفْعَلُ مَحْظُورَاتٍ مُتَعَدِّدَةً، وَكَالَّذِي يَرْفُضُ إِحْرَامَهُ ظَانًّا أَنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ رَفْضُهُ، فَيَفْعَلُ بَعْدَ رَفْضِهِ مَحْظُورَاتٍ مُتَعَدِّدَةً، وَكَمَنَ أَفْسَدَ إِحْرَامَهُ بِالْوَطْءِ، ثُمَّ فَعَلَ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ ظَانًّا أَنَّ الْإِحْرَامَ تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ بِالْفَسَادِ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ صُوَرِ ظَنِّ الْإِبَاحَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ مُحَرَّمَاتِهِ أَوْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 بَعْضِهَا. وَأَمَّا مَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْفِدْيَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مُتَرَتِّبَةً بَعْضَهَا بَعْدَ بَعْضٍ، غَيْرَ قَرِيبٍ مِنْهُ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ بِكُلِّ مَحْظُورٍ فِدْيَةٌ، وَلَوْ كَثُرَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَحْظُورَاتُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، كَمَنْ كَرَّرَ التَّطَيُّبَ، أَوْ كَرَّرَ اللُّبْسَ، أَوْ كَرَّرَ الْحَلْقَ فِي أَوْقَاتٍ غَيْرِ مُتَقَارِبَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرْبَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، أَوْ مِنْ أَنْوَاعٍ كَمَنْ لَبِسَ مَخِيطًا، ثُمَّ تَطَيَّبَ، ثُمَّ حَلَقَ، فَإِنَّ الْفِدْيَةَ تَتَعَدَّدُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُ قَرِيبًا مِنْ بَعْضٍ، أَوْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى لُبْسِ قَمِيصٍ، ثُمَّ احْتَاجَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى لُبْسِ سَرَاوِيلَ، فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّ مَحَلَّ السَّرَاوِيلِ كَانَ يَسْتُرُهُ الْقَمِيصُ قَبْلَ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ. أَمَّا إِنِ احْتَاجَ إِلَى السَّرَاوِيلِ أَوَّلًا، ثُمَّ احْتَاجَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْقَمِيصِ، فَفِدْيَتَانِ ; لِأَنَّ الْقَمِيصَ يَسْتُرُ مِنْ أَعْلَى بَدَنِهِ شَيْئًا مَا كَانَ يَسْتُرُهُ السَّرَاوِيلُ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ وَعَدَمِهِ فِي تَعَدُّدِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ مُوجِبُ الْفِدْيَةِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ فِدْيَةُ الْأَذَى إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَدَمٌ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ تَعَدَّدَتِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَتَعَدَّدُ إِلَّا إِذَا كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي، فَلَوْ لَبِسَ قَمِيصًا وَقَبَاءً وَسَرَاوِيلَ وَخُفَّيْنِ يَوْمًا كَامِلًا لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ أَوْ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَصَارَتْ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَامَ عَلَى لُبْسِ ذَلِكَ أَيَّامًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ يَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ، وَيَلْبَسُهُ بِالنَّهَارِ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا دَمٌ وَاحِدٌ، إِلَّا إِذَا نَزَعَهُ عَلَى عَدَمِ التَّرْكِ، ثُمَّ لَبِسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ ; لِأَنَّ اللُّبْسَ الْأَوَّلَ انْفَصَلَ عَنِ الثَّانِي بِالْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ، وَكَذَا لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا لِلضَّرُورَةِ وَلَبِسَ خُفَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَفِدْيَةٌ ; لِأَنَّ السَّبَبَ اخْتَلَفَ فَلَا يُمْكِنُ التَّدَاخُلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَيَّبَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَفْدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَإِنْ كَانَ تَطْيِيبُ أَعْضَائِهِ فِي مَجَالِسَ تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ أَوِ الدَّمُ بِتَعَدُّدِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي طَيَّبَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَذْبَحْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُ الْفِدْيَةِ، كَمَنْ تَطَيَّبَ، وَلَبِسَ مَخِيطًا أَوْ تَطَيَّبَ، وَغَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا مَثَلًا، تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ، أَوِ الدَّمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَجْلِسَيْنِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَعَدُّدِ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِتَعَدُّدِ الصَّيْدِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ لِمُخَالَفَتِهِ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ مَحْظُورَاتٍ مُتَعَدِّدَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ حَلَقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، أَوْ لِبَسَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، أَوْ تَطَيَّبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا تَتَعَدَّدُ الْفِدْيَةُ بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ، الَّتِي هِيَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَمَحِلُّ هَذِهِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، قَبْلَ الْفِعْلِ الثَّانِي. فَلَوْ تَطَيَّبَ مَثَلًا، ثُمَّ افْتَدَى ثُمَّ تَطَّيْبَ بَعْدَ الْفِدْيَةِ لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ أُخْرَى ; لِتَطَيُّبِهِ بَعْدَ أَنِ افْتَدَى. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِثْلَ أَنْ لَبِسَ لِلْبَرْدِ، ثُمَّ لَبِسَ لِلْحَرِّ، ثُمَّ لَبِسَ لِلْمَرَضِ فَكَفَّارَاتٌ، وَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ فِيمَنْ لَبِسَ قَمِيصًا وَجُبَّةً وَعِمَامَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. قُلْتُ لَهُ: فَإِنِ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً، ثُمَّ بَرِئَ، ثُمَّ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً، قَالَ: هَذَا الْآنَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» ، ثُمَّ قَالَ: وَعَنِ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا، وَعَنْهُ لَا يَتَدَاخَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَتَدَاخَلُ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَرَّرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَفَّارَاتٌ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ حُكْمُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلَنَا أَنَّ مَا يَتَدَاخَلُ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ عَقِبَ بَعْضٍ، يَجِبُ أَنْ يَتَدَاخَلَ، وَإِنْ تَفَرَّقَ كَالْحُدُودِ وَكَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ: فِدْيَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي دَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَحْظُورَاتُ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَأَنْ حَلَقَ، وَلَبِسَ، وَتَطَيَّبَ، وَوَطِئَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِدْيَةٌ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ فِي الطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَالْحَلْقِ فِدْيَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِذَا حَلَقَ ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى الطِّيبِ أَوْ إِلَى قَلَنْسُوَةٍ أَوْ إِلَيْهِمَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا فِدْيَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ لَبِسَ الْقَمِيصَ، وَتَعَمَّمَ، وَتَطَيَّبَ فَعَلَ ذَلِكَ جَمِيعًا: فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وَلَنَا أَنَّهَا مَحْظُورَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَجْنَاسِ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ أَجْزَاؤُهَا كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَعَكْسُهُ مَا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وَهَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْمَحْظُورَاتِ تَنْقَسِمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اسْتِهْلَاكٍ، كَالْحَلْقِ، وَالْقَلْمِ، وَالصَّيْدِ وَإِلَى اسْتِمْتَاعٍ، وَتَرَفُّهٍ كَالطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، وَمُقْدِمَاتِ الْجِمَاعِ فَإِذَا فَعَلَ مَحْظُورَيْنِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اسْتِهْلَاكًا، وَالْآخَرُ اسْتِمْتَاعًا، فَيُنْظَرَ: إِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، كَالْحَلْقِ، وَلُبْسِ الْقَمِيصَ تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، كَمَنْ أَصَابَتْ رَأَسَهُ شَجَّةٌ، وَاحْتَاجَ إِلَى حَلْقِ جَوَانِبِهَا، وَسَتَرَهَا بِضِمَادٍ، وَفِيهِ طِيبٌ، فَفِي تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا تَعَدُّدُهَا. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِهْلَاكًا وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ الصَّيْدُ. فَتَتَعَدَّدُ الْفِدْيَةُ بِتَعَدُّدِهِ، بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ فَدَى عَنِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، أَوِ اخْتَلَفَا كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ، دُونَ الْآخَرِ كَالصَّيْدِ وَالْحَلْقِ فَتَتَعَدَّدَ بِلَا خِلَافٍ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُقَابَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمِثْلِهِ، فَيُنْظَرُ إِنِ اخْتَلَفَ نَوْعُهُمَا كَحَلْقٍ وَطِيبٍ أَوْ لِبَاسٍ وَحَلْقٍ، تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَوْ وَالَى فِي مَكَانٍ أَوْ مَكَانَيْنِ بِفِعْلَيْنِ أَمْ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا فَوَجْهَانِ عِنْدَهُمُ، الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ مِنْهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ فِدْيَتَانِ، وَإِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ. فَإِنْ كَرَّرَ الْحَلْقَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ - لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَنْ يَحْلِقُ رَأْسَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الْحَلْقِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَوَضَعَ الطَّعَامَ، وَجَعَلَ يَأْكُلُ لُقْمَةً لُقْمَةً مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَلْقُ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَفِيهِ عِنْدُهُمْ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَتَعَدَّدُ الْفِدْيَةُ فَتُفْرَدُ كُلُّ مَرَّةٍ بِحُكْمِهَا، فَإِنْ كَانَ حَلَقَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وَجَبَ لِكُلِّ مَرَّةٍ فِدْيَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَعْرَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ، فَفِيهَا الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 الْأَرْبَعَةُ: وَهِيَ أَنَّهُ قِيلَ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُدٌّ. وَقِيلَ: دِرْهَمٌ. وَقِيلَ: ثُلُثُ دَمٍ. وَقِيلَ: دَمٌ كَامِلٌ وَحُكْمُ الشَّعْرَتَيْنِ مَعْرُوفٌ مِنْ هَذَا كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: بِالتَّعَدُّدِ، وَعَدَمِهِ، وَعَدَمُ التَّعَدُّدِ: هُوَ الْقَدِيمُ، وَالتَّعَدُّدُ: هُوَ الْجَدِيدُ. وَإِنْ حَلَقَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَمْكِنَةٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَفِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ طَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا، أَنَّهُ يُفْرِدُ كُلَّ شَعْرَةٍ بِحُكْمِهَا، وَفِيهَا الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ الْمَاضِيَةُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: هُوَ تَفْرِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ، بِالتَّدَاخُلِ وَعَدَمِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ: لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ ; لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ قَطَعَ الشَّعَرَاتِ الثَّلَاثَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ قُلْنَا: بِعَدَمِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ، فَلِكُلِّ شَعْرَةِ حُكْمُهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ. وَلَوْ أَخَذَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ بَدَنِهِ. فَفِيهِ عِنْدَهُمْ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا: لُزُومُ الْفِدْيَةِ، كَمَا لَوْ أَخَذَهَا مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا لَوْ أَزَالَهَا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، أَوْ أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَيَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْأَظْفَارِ عِنْدَهُمْ كَحُكْمِ الشِّعْرِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اسْتِمْتَاعًا، فَإِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ بِأَنْ تَطَيَّبَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الطِّيبِ أَوْ لَبِسَ أَنْوَاعًا مِنَ الثِّيَابِ كَعِمَامَةٍ وَقَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ، وَخُفٍّ أَوِ اسْتَعْمَلَ نَوْعًا وَاحِدًا مَرَّاتٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَهُ تَكْفِيرٌ عَنِ الْأَوَّلِ فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ تَكْفِي لِلْجَمِيعِ، وَإِنْ تَخَلَّلَهُ تَكْفِيرٌ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ لِلثَّانِي أَيْضًا، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَكَانَيْنِ، أَوْ زَمَانَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ تَخَلَّلَهُمَا تَكْفِيرٌ: وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ لِلثَّانِي أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا تَكْفِيرٌ فَقَوْلَانِ، الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْجَدِيدُ: تَعَدُّدُ الْفِدْيَةِ، وَالْقَدِيمُ: تَتَدَاخَلُ، وَلَا تَتَعَدَّدُ وَإِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ، بِأَنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَوْ فَعَلَهُمَا مَعًا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٍ عِنْدَهُمْ. أَصَحُّهَا: تَعَدُّدُ الْفِدْيَةِ لِاخْتِلَافِ نَوْعِ السَّبَبِ. الثَّانِي: تَجِبُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّهُمَا اسْتِمْتَاعٌ، فَيَتَدَاخَلَانِ، لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ. الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، فَإِنِ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا بِأَنْ أَصَابَتْهُ شَجَّةٌ، وَاحْتَاجَ فِي مُدَاوَاتِهَا إِلَى طِيبٍ وَسِتْرِهَا. لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَّحِدِ السَّبَبُ: فَفِدْيَتَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 الْجِمَاعِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْمَ تَعَدُّدِ الْجِمَاعِ، وَفِيهِ لِلشَّافِعِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا: تَجِبُ بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ: بَدَنَةٌ، وَبِالثَّانِي: شَاةٌ. وَالثَّانِي: تَجِبُ بِكُلِّ جِمَاعٍ بَدَنَةٌ. الثَّالِثُ: تَكْفِي بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ عَنِ الْجَمِيعِ. الرَّابِعُ: إِنْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، قَبْلَ الْجِمَاعِ الثَّانِي وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ لِلثَّانِي: وَهِيَ شَاةٌ فِي الْأَصَحِّ، وَبَدَنَةٌ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ كَفَتْهُ بَدَنَةٌ عَنْهُمَا. وَالْخَامِسُ: إِنْ طَالَ الزَّمَانُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ أَوِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ: وَجَبَتْ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِلثَّانِي، وَفِيهَا الْقَوْلَانِ. وَإِلَّا فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ وَطِئَ مَرَّةً ثَالِثَةً وَرَابِعَةً، أَوْ أَكْثَرَ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ، الْأَظْهَرُ: تَجِبُ لِلْأَوَّلِ بَدَنَةٌ، وَلِكُلِّ جِمَاعٍ بَعْدَ ذَلِكَ شَاةٌ. وَالثَّانِي: تَجِبُ بِكُلِّ جِمَاعٍ بَدَنَةٌ إِلَى آخِرِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَلْنَكْتَفِ هُنَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْحَجِّ هَذِهِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَمَسْأَلَةَ الصَّيْدِ وَجَزَائِهِ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَشْجَارِ الْحَرَمَيْنِ، وَنَبَاتِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَصَيْدِ وَجٍّ - قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، وَأَحْكَامُ الْهَدْيِ سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مِنْ سُورَةِ «الْحَجِّ» هَذِهِ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ، وَعَدَمِ تَعَدُّدِهَا، إِذَا تَعَدَّدَتْ أَسْبَابُهَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فِيمَا نَعْلَمُ، وَاخْتِلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ نَوْعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ. اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَشْهَدُوا [22 \ 28] : هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ: وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ الْآيَةَ [22 \ 27] : أَيْ إِنْ تُؤَذِّنْ فِيهِمْ يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا، لِأَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا: أَيْ يَحْضُرُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِحُضُورِهِمُ الْمَنَافِعَ: حُصُولُهَا لَهُمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وَقَوْلُهُ: مَنَافِعَ جَمْعُ مَنْفَعَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذِهِ الْمَنَافِعَ مَا هِيَ. وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ بَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ دُنْيَوِيٌّ، وَمَا هُوَ أُخْرَوِيٌّ، أَمَّا الدُّنْيَوِيٌّ فَكَأَرْبَاحِ التِّجَارَةِ، إِذَا خَرَجَ الْحَاجُّ بِمَالِ تِجَارَةٍ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يُحْصُلُ لَهُ الرِّبْحُ غَالِبًا، وَذَلِكَ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ. وَقَدْ أَطْبَقَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [2 \ 198] أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ إِثْمٌ وَلَا حَرَجٌ، إِذَا ابْتَغَى رِبْحًا بِتِجَارَةٍ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، مِنْ أَدَاءِ مَنَاسِكِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِيهِ بَيَانٌ لِبَعْضِ الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ «الْحَجِّ» هَذِهِ وَهَذَا نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ. وَمِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَا يُصِيبُونَهُ مِنَ الْبُدْنِ وَالذَّبَائِحِ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا ; كَقَوْلِهِ فِي الْبُدْنِ: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ. وَقَوْلُهُ: فَكُلُوا مِنْهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ، وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ أَيْضًا لِبَعْضِ الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ «الْحَجِّ» هَذِهِ. وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَةُ «الْبَقَرَةِ» عَلَى مَا فَسَّرَهَا بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَاخْتَارَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَوَجَّهَ اخْتِيَارَهُ لَهُ، بِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ: أَنَّ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ «الْحَجِّ» غُفْرَانَ ذُنُوبِ الْحَاجِّ، حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمٌ إِنْ كَانَ مُتَّقِيًا رَبَّهُ فِي حَجِّهِ بِامْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [2 \ 203] أَنَّ الْحَاجَّ يَرْجِعُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمٌ، سَوَاءٌ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ تَأَخَّرَ إِلَى الثَّالِثِ، وَلَكِنَّ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ هَذَا مَشْرُوطٌ بِتَقْوَاهُ رَبَّهُ فِي حَجِّهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ اتَّقَى الْآيَةَ: أَيْ وَهَذَا الْغُفْرَانُ لِلذُّنُوبِ، وَحَطُّ الْآثَامِ إِنَّمَا هُوَ لِخُصُوصِ مَنِ اتَّقَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ غَيْرُ هَذَا. وَمِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مَعْنَاهَا: أَنَّهُ يَغْفِرُ لِلْحَاجِّ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ، سَوَاءٌ تَعَجَّلَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 يَوْمَيْنِ، أَوْ تَأَخَّرَ: عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَامِرٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا قَالَ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَمَنْ تَعَجَّلَ مِنْ أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ، فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، يَحُطُّ اللَّهُ ذُنُوبَهُ إِنْ كَانَ قَدِ اتَّقَى فِي حَجِّهِ، فَاجْتَنَبَ فِيهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِاجْتِنَابِهِ، وَفَعَلَ فِيهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَأَطَاعَهُ بِأَدَائِهِ عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنْ حُدُودِهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهُنَّ، فَلَمْ يَنْفِرْ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي، حَتَّى نَفَرَ مِنْ غَدِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِتَكْفِيرِ اللَّهِ مَا سَلَفَ مِنْ آثَامِهِ، وَإِجْرَامِهِ إِنْ كَانَ اتَّقَى اللَّهَ فِي حَجِّهِ بِأَدَائِهِ بِحُدُودِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى تَأْوِيلَاتِهِ: لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَأَنَّهُ قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» . وَسَاقَ ابْنُ جَرِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَسَانِيدِهِ أَحَادِيثَ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ فَفِي لَفْظٍ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَابَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الْجَنَّةِ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ عُمَرَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ الْخَبَثَ، أَوْ خَبَثَ الْحَدِيدِ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا قَضَيْتَ حَجَّكَ فَأَنْتَ مِثْلُ مَا وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِذِكْرِ جَمِيعِهَا الْكِتَابُ مِمَّا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ مَنْ حَجَّ، فَقَضَاهُ بِحُدُودِهِ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي حَجِّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُوَضِّحُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ ذُنُوبِهِ، مَحْطُوطَةً عَنْهُ آثَامُهُ، مَغْفُورَةً أَجْرَامُهُ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ فِي الْمَوْضُوعِ. وَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَعَجُّلِهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَأَخُّرِهِ ; لِأَنَّ التَّأَخُّرَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِثْمٌ، حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ أَنْ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ: التَّعَجُّلُ لَا يَجُوزُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: التَّأَخُّرُ لَا يَجُوزُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 فَمَعْنَى الْآيَةِ: النَّهْيُ عَنْ تَخْطِئَةِ الْمُتَأَخِّرِ الْمُتَعَجِّلِ كَعَكْسِهِ: أَيْ لَا يُؤَثِّمَنَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ، لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ أَعْنِي الطَّبَرِيَّ بَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْحَاجَّ يَخْرُجُ مَغْفُورًا لَهُ، كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ تَأَخَّرَ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ رَبْطَ نَفْيِ الْإِثْمِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالتَّعَجُّلِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الْآيَةِ، رَبْطَ الْجَزَاءِ بِشَرْطِهِ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّعَجُّلِ وَالتَّأَخُّرِ، وَلَكِنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي أَقَامَهَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَ فِيهَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَتَشْهَدُ لَهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ الْقُرْآنِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ، وَقَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّقَى، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ» ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، هُوَ الَّذِي اتَّقَى. وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْجَالِبُ لِلَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّقَى وَمَا مَعْنَاهَا؟ قِيلَ: الْجَالِبُ لَهَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ مَعْنَى: حَطَطْنَا ذُنُوبَهُ، وَكَفَّرْنَا آثَامَهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى: جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ لِمَنِ اتَّقَى فِي اللَّهِ حَجَّهُ، وَتَرَكَ ذِكْرَ «جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ» اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّهُ كَأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ فَقَالَ: لِمَنِ اتَّقَى أَيْ هَذَا لِمَنِ اتَّقَى، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الصِّفَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ ; لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَلَكِنَّهَا فِيمَا زَعَمَ مِنْ صِلَةِ قَوْلٍ مَتْرُوكٍ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ مَا قُلْنَا: مِنْ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى، وَقَامَ قَوْلُهُ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ مَقَامَ الْقَوْلِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مَعْنَى فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَنَّ الْحَاجَّ يُغْفَرُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ، فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمٌ، فَغُفْرَانُ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ هَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَعَلَيْهِ فَقَدْ بَيَّنَتْ آيَةُ «الْبَقَرَةِ» هَذِهِ بَعْضَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْحَجِّ» ، وَقَدْ أَوْضَحَتِ السُّنَّةُ هَذَا الْبَيَانَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ; كَحَدِيثِ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وَحَدِيثِ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» ، وَمِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ يُبَيِّنْهَا الْقُرْآنُ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ أَهْلَ السَّمَاءِ» الْحَدِيثَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ يُبَيِّنْهَا الْقُرْآنُ تَيَسُّرُ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، فِي أَمَاكِنَ مُعَيَّنَةٍ لِيَشْعُرُوا بِالْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِتُمْكِنَ اسْتِفَادَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فِيمَا يَهُمُّ الْجَمِيعَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَبِدُونِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ، فَهُوَ تَشْرِيعٌ عَظِيمٌ مِنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. قَوْلُهُ: وَيَذْكُرُوا مَنْصُوبٌ بِحَذْفِ النُّونِ ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْصُوبِ بِـ «أَنِ» الْمُضْمَرَةِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ. وَإِيضَاحُ الْمَعْنَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا ; لِأَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِإِرَاقَةِ دِمَاءِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، مَعَ ذِكْرِهِمُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عِنْدَ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقَرُّبَ بِالنَّحْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، إِنَّمَا هُوَ الْهَدَايَا لَا الضَّحَايَا ; لِأَنَّ الضَّحَايَا لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْأَذَانِ بِالْحَجِّ، حَتَّى يَأْتِيَ الْمُضَحُّونَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْهَدَايَا عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْحَاجَّ بِمِنًى لَا تَلْزَمُهُ الْأُضْحِيَةُ وَلَا تُسَنُّ لَهُ، وَكُلُّ مَا يَذْبَحُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَهُوَ يَجْعَلُهُ هَدْيًا لَا أُضْحِيَةً. وَقَوْلُهُ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ أَيْ عَلَى نَحْرِ وَذَبْحِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ; لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِدِمَائِهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْوَى مِنْهُمْ، فَهُوَ يَصِلُ إِلَى رَبِّهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [22 \ 37] ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْهَا؛ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [6 \ 119] ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ الْحَرَمَ الْمَكِّيَّ مَنْسَكًا تُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ تَقْرُّبًا إِلَى اللَّهِ، وَيُذْكَرُ عَلَيْهَا عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا اسْمُ اللَّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِكُلِّ أُمَّةٍ أَوْ لَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [22 \ 34] . وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ الْأَذَانِ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، لِيَأْتُوا مُشَاةً، وَرُكْبَانًا تَقَرُّبَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ بِدِمَاءِ الْأَنْعَامِ، ذَاكِرِينَ عَلَيْهَا اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا، وَأَنَّ الْآيَةَ أَقْرَبُ إِلَى إِرَادَةِ الْهَدْيِ مِنْ إِرَادَةِ الْأُضْحِيَةِ، فَدُونَكَ تَفْصِيلَ أَحْكَامِ الْهَدَايَا الَّتِي دَعَوْا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْهَا. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْهَدْيَ قِسْمَانِ: هَدْيٌ وَاجِبٌ، وَهَدْيٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ تَطَوَّعَ بِهِ صَاحِبُهُ تَقَرُّبًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُذْبَحُ فِيهَا، وَيُذْكَرُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ فِيهَا - لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ. وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ غَيْرَ اثْنَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْكَثِيرَةِ بَاطِلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْهَا اثْنَانِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَذِكْرُهُمُ اللَّهَ عَلَيْهَا يَعْنِي: التَّسْمِيَةَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا. فَاتَّضَحَ أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ والقولان المعول عليهما دون سائر الأقوال الأخرى أحدهما: أنها يوم النحر، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَذْبَحُ الْهَدْيَ، وَلَا الْأُضْحِيَةَ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى، الَّذِي هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا الْقَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: وَهُوَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيَّامُ النَّحْرِ: يَوْمُ الْأَضْحَى، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: اخْتَلَفُوا كَمْ أَيَّامُ النَّحْرِ. فَقَالَ مَالِكٌ: ثَلَاثَةٌ، يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، يَوْمُ النَّحْرِ، وَثَلَاثَةٌ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يَوْمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 أَضْحَى. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا أَضْحَى بَعْدَ انْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدِي فِي هَذِهِ إِلَّا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ. وَالْآخَرُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالشَّامِيِّينَ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَرْوِيَّانِ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِمَا خَالَفَهُمَا ; لِأَنَّ مَا خَالَفَهُمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي قَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنَ فَمَتْرُوكٌ لَهُمَا، اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : فِي وَقْتِ ذَبْحِ الْهَدْيِ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ كَدِمَاءِ الْجُبْرَانِ. فَعَلَى الصَّحِيحِ لَوْ أَخَّرَ الذَّبْحَ، حَتَّى مَضَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ، فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ وَاجِبًا: لَزِمَهُ ذَبْحُهُ، وَيَكُونُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَقَدْ فَاتَ الْهَدْيُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ ذَبَحَهُ كَانَ شَاةَ لَحْمٍ لَا نُسُكًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنِ الرَّافِعِيِّ: أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ كِتَابِهِ فِي بَابِ صِفَةِ الْحَجِّ، جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الصَّوَابِ فِي بَابِ الْهَدْيِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْقَوْلُ بِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بَعْدَهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; لِأَنَّ عَدَمَ الِاخْتِصَاصِ يَجْعَلُ زَمَنَ النَّحْرِ مُطْلَقًا، لَيْسَ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ، وَهَذَا يَرُدُّهُ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَجَعْلُ ظَرْفِهِ أَيَّامًا مَعْلُومَاتٍ يَرُدُّ الْإِطْلَاقَ فِي الزَّمَنِ رَدًّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، اهـ. وَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ: أَيَّامُ الرَّمْيِ الَّتِي هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَمَا تَرَى، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ فَمَذْهَبُنَا: أَنَّهَا الْعَشْرُ الْأَوَائِلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى آخَرِ يَوْمِ النَّحْرِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَعَزَا ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَعَلَّقَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى فَضْلِ الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: تَفْسِيرُ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فِي آيَةِ الْحَجِّ هَذِهِ: بِأَنَّهَا الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ، لَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ، وَبَعْضِ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ مَنْ ذَكَرْنَا. وَالدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى بُطْلَانِهِ أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهَا أَيَّامُ النَّحْرِ بِقَوْلِهِ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ ذِكْرُهُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا عِنْدَ ذَبْحِهَا تَقَرُّبًا إِلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا الْعَشَرَةُ الْمَذْكُورَةُ، يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا أَيَّامَ نَحْرٍ، وَأَنَّهُ لَا نَحْرَ بَعْدَهَا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ بَاطِلٌ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّ النَّحْرَ فِي التِّسْعَةِ الَّتِي قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ وَالنَّحْرُ فِي الْيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ عِنْدَ مَنْ ذَكَرْنَا، فَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ فَالْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمَعْلُومَاتُ أَرْبَعَةٌ: يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّهَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ، انْتَهَى مِنَ النَّوَوِيِّ. وَقَدْ سَكَتَ عَلَى كَلَامِ صَاحِبِ «الْبَيَانِ» : وَهُوَ بَاطِلٌ بُطْلَانًا وَاضِحًا ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ الْعَشَرَةُ الْأُوَلُ، لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الذَّبْحِ فِيمَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ آخِرُهَا، وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الذَّبْحِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فِي جَمِيعِ التِّسْعَةِ الْأُوَلِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ، هِيَ ظَرْفُ الذَّبْحِ ; كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْعَشَرَةُ كَانَتِ الْعَشَرَةُ هِيَ ظَرْفُ الذَّبْحِ. فَلَا يَجُوزُ فِيمَا قَبْلَهَا وَلَا مَا بَعْدَهَا، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي جَمِيعِهَا، وَبُطْلَانُ هَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ السَّابِقِ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: فَائِدَةُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ جَوَازُ النَّحْرِ فِيهِ، وَفَائِدَةُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَعْدُودٌ انْقِطَاعُ الرَّمْيِ فِيهِ. وَقَالَ: وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ أَحْمَدُ، وَدَاوُدُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 لَهَا مَعْلُومَاتٌ لِلْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا. قَالَ: وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ وَاحِدٌ. قُلْتُ: وَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيْبِ وَالْعَبْدَرِيُّ، وَخَلَائِقُ - إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخِلَافُ الْمَشْهُورِ عَنْهُ. فَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ الْعَشْرِ كُلِّهَا كَمَذْهَبِنَا، وَهُوَ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا، كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاحْتَجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَرَادَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ: تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبْحِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَلَمَّا خُولِفَ بَيْنَ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ فِي الِاسْمِ دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا، وَعَلَى مَا يَقُولُ الْمُخَالِفُونَ يَتَدَاخَلَانِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَابُ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ: وُجُودُ الذَّبْحِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، بَلْ يَكْفِي وُجُودُهُ فِي آخِرِهَا وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. قَالَ الْمُزَنِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [71 \ 16] ، وَلَيْسَ هُوَ نُورًا فِي جَمِيعِهَا، بَلْ فِي بَعْضِهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ فِي الْآيَةِ الذِّكْرُ عَلَى الْهَدَايَا، وَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ لِمَنْ رَأَى هَدْيًا أَوْ شَيْئًا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْعَشْرِ أَنْ يُكَبِّرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ مَنْ قَالَ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 وَأَنَّ الْأَجْوِبَةَ الَّتِي أَجَابُوا بِهَا عَنِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ، لَا يَنْهَضُ شَيْءٌ مِنْهَا لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ، أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ ظَرْفُ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ، فَتَفْسِيرُهَا بِأَنَّهَا الْعَشَرَةُ الْأُوَلُ، يَلْزَمُهُ جَوَازُ الذَّبْحِ فِي جَمِيعِهَا، وَعَدَمُ جَوَازِهِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ كَمَا تَرَى. وَزَعْمُ الْمُزَنِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا - ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْقَمَرِ كَوْكَبًا وَاحِدًا وَالسَّمَاوَاتِ سَبْعًا طِبَاقًا - قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا دُونَ السِّتِّ الْأُخْرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ ظَرْفٌ لِذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الذَّبَائِحِ، وَلَيْسَ هُنَا قَرِينَةٌ تُخَصِّصُهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. فَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِهَا، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مَوْجُودًا هُنَا. وَتَفْسِيرُهُمْ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا، بِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ رَأَى هَدْيًا أَوْ شَيْئًا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْعَشْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّكْبِيرَ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي تَفْسِيرِهَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّذْكِيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مُقْتَرِنًا بِهِ: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ الْآيَةَ [22 \ 28] . وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْآيَةَ [6 \ 121] . وَقَوْلُهُ: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْآيَةَ [6 \ 109] ، وَتَدَاخُلُ الْأَيَّامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُغَايَرَتِهَا ; لِأَنَّ الْأَعَمَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ مُتَغَايِرَانِ إِجْمَاعًا مَعَ تَدَاخُلِهِمَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. وَمِمَّا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ الْعَشَرَةُ الْمَذْكُورَةُ: أَنَّ كَوْنَهَا الْعَشَرَةَ الْمَذْكُورَةَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ الذَّبْحِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ لِجَوَازِ الذَّبْحِ فِي الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ، بَلْ وَالثَّالِثَ عَشَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الَّتِي هِيَ أَيَّامُ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ. وَحَكَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 203] ، وَأَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَالْيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَالْخِلَافُ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ، هَلْ هُوَ مِنْهَا كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ، وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهَا. وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 وَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي تَرْجِيحِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا مَا نَصُّهُ: وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْأَكْلِ مِنَ النُّسُكِ، فَوْقَ ثَلَاثٍ» وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ يَحْرُمُ فِيهِ الْأَكْلُ، ثُمَّ نُسِخَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ، وَبَقِيَ وَقْتُ الذَّبْحِ بِحَالِهِ، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ لَا يَجِبُ فِيهِ الرَّمْيُ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الذَّبْحُ كَالَّذِي بَعْدَهُ. وَمِمَّا رَجَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ مِنْهَا: أَنَّهُ يُؤَدِّي فِيهِ بَعْضَ الْمَنَاسِكِ: وَهُوَ الرَّمْيُ، إِذَا لَمْ يَتَعَجَّلْ فَهُوَ كَسَابِقِيهِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهَا ثَلَاثَةٌ، أَوْ أَرْبَعَةٌ: أَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ: أَيْ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ، عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، الَّتِي هِيَ زَمَنُ الذَّبْحِ. فَاعْلَمْ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي لَيَالِيهَا، هَلْ يَجُوزُ فِيهَا الذَّبْحُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ النُّسُكِ لَيْلًا، فَإِنْ ذَبَحَهُ لَيْلًا لَمْ يُجْزِ، وَتَصِيرُ شَاةَ لَحْمٍ لَا نُسُكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى جَوَازِ الذَّبْحِ لَيْلًا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَنْ أَحْمَدَ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لَيْلًا: أَنَّ اللَّهَ خَصَّصَهُ بِلَفْظِ الْأَيَّامِ فِي قَوْلِهِ: فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ قَالُوا: وَذِكْرُ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَهُ: أَنَّ الْأَيَّامَ تُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مَا يَشْمَلُ اللَّيَالِيَ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْأَيَّامِ أَحْوَطُ، لِمُطَابَقَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا عَلِمْتَ وَقْتَ نَحْرِ الْهَدْيِ، وَأَنَّ الْهَدْيَ نَوْعَانِ: وَاجِبٌ، وَغَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا. أَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ: فَهُوَ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: هَدْيٌ وَاجِبٌ بِالنَّذْرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [22 \ 29] ، وَهَدْيٌ وَاجِبٌ بِغَيْرِ النَّذْرِ، وَهُوَ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 أَحَدُهُمَا: الْهَدْيُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْهَدْيُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ قَاسُوهُ عَلَى الْهَدْيِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: هَدْيُ التَّمَتُّعِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْقِرَانُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَاءَ عَنْهُمُ التَّصْرِيحُ، بِأَنَّ اسْمَ التَّمَتُّعِ فِي الْآيَةِ صَادِقٌ بِالْقِرَانِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَاضِحًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَالصَّحَابَةُ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَبِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ. وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ الْمَذْكُورُ مَنْصُوصٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [2 \ 196] . الثَّانِي: دَمُ الْإِحْصَارِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [2 \ 196] . الثَّالِثُ: دَمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ الْآيَةَ [5 \ 95] . الرَّابِعُ: دَمُ فِدْيَةِ الْأَذَى الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [2 \ 196] ، وَهَذِهِ الدِّمَاءُ الْأَرْبَعَةُ اثْنَانِ مِنْهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهُمَا: دَمُ الْفِدْيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [2 \ 196] كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَالثَّانِي: جَزَاءُ الصَّيْدِ، فَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ مُسْتَوْفًى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا الْآيَةَ [5 \ 95] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى التَّخْيِيرِ فِيهِمَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَوَاحِدٌ مِنَ الدِّمَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ إِجْمَاعًا، وَهُوَ دَمُ التَّمَتُّعِ الشَّامِلِ لِلْقِرَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [2 \ 196] ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا التَّرْتِيبَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ الْآيَةَ [2 \ 196] . وَالرَّابِعُ: مِنَ الدِّمَاءِ الْمَذْكُورَةِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمَنْ قَالَ: لَهُ بَدَلٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ قَالَ: هُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَمَنْ قَالَ: لَا بَدَلَ لَهُ فَالْأَمْرُ عَلَى قَوْلِهِ وَاضِحٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ تَعَدُّدٌ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ أَوْ عَدَمَهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ دَمُ الْإِحْصَارِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [2 \ 196] . وَالْحَاصِلُ: أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ الدِّمَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، بِغَايَةِ الْإِيضَاحِ، وَالِاسْتِيفَاءِ، فَدَمُ الْفِدْيَةِ قَدَّمْنَاهُ فِي مَبَاحِثِ آيَةِ «الْحَجِّ» الَّتِي هِيَ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [22 \ 27] . فِي جُمْلَةِ مَسَائِلِ الْحَجِّ، الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَدَمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [5 \ 95] . وَدَمُ الْإِحْصَارِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وَأَمَّا هَدْيُ التَّمَتُّعِ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا فِيهِ إِيضَاحٌ، وَسَنُبَيِّنُهُ الْآنَ. أَمَّا التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَلَّ مَنْ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ بَيَّنُوا أَنَّهُ يَشْمَلُ الْقِرَانَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عُمْرَةٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ حَقِيقَتَيْهِمَا اخْتِلَافٌ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اشْتَرَطُوا لِوُجُوبِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ شُرُوطًا: مِنْهَا: مَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ كَالْمُفْرِدِ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ قَوْلِ طَاوُسٍ: إِنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، كَمَا لَا يَخْفَى سُقُوطُ قَوْلِ الْحَسَنِ: إِنَّ مَنِ اعْتَمَرَ بَعْدَ النَّحْرِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ: قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ نَظَرًا إِلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ نَظَرًا إِلَى وُقُوعِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ نُسُكٌ لَا تَتِمُّ الْعُمْرَةُ بِدُونِهِ، وَلِكِلَيْهِمَا وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَلَا نَصَّ فِيهِمَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَنُقِلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبِي عِيَاضٍ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ طَاوُسٍ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنَ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، وَإِنْ طَافَ الْأَرْبَعَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ; لِأَنَّ الْعُمْرَةَ صَحَّتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَفْسَدَهَا، فَأَشْبَهَ إِذَا أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحُجَّ فِي نَفْسِ تِلْكَ السَّنَةِ، الَّتِي اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْهَا. أَمَّا إِذَا كَانَ حَجُّهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى: فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا لَمْ يَحُجُّوا مِنْ عَامِهِمْ ذَلِكَ، لَمْ يُهْدُوا، قَالَ: وَلِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا يَجِبُ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لَمْ يَتْرُكِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِنَّهُ إِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَتْ مَكَّةُ مِيقَاتَهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَعَادَ فَقَدْ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ» : الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ حَسَنٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ قَوْلِ الْحَسَنِ: إِنَّهُ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى بَلَدِهِ، أَوْ مَا يُمَاثِلُهُ فِي الْمَسَافَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفِي فِي هَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مِيقَاتِهِ فَيُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْهُ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتَفِي بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمُ لِلْحَجِّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ، وَالْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنْ مُنْتَهَى ذَلِكَ السَّفَرِ مُسْقِطٌ لِدَمِ التَّمَتُّعِ، إِلَّا أَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، ثُمَّ يُنْشِئَ سَفَرًا لِلْحَجِّ وَيُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَكْفِيهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ يُسَافِرَ مَسَافَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 مُسَاوِيَةً لِمَسَافَةِ بَلَدِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْفِي عِنْدَهُ سَفَرُ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَكْفِيهِ أَنْ يَرْجِعَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى مِيقَاتِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَهُمْ مُفَصَّلَةً، وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [2 \ 196] قَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، إِلَّا أَنَّ غَيْرَهُمْ تَرَفَّهُوا بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ لِلْحَجِّ، بَعْدَ السَّفَرِ لِلْعُمْرَةِ، وَإِنْ سَافَرَ لِلْحَجِّ بَعْدَ الْعُمْرَةِ زَالَ السَّبَبُ، فَسَقَطَ الدَّمُ بِزَوَالِهِ، وَعَضَّدُوا ذَلِكَ بِآثَارٍ رَوَوْهَا، عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [2 \ 196] وَنَاقَشْنَا أَدِلَّتَهُمَا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَاهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ وَافَقَهُ: أَنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى نَفْسِ التَّمَتُّعِ وَأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا مُتْعَةَ لَهُمْ أَصْلًا، فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى حُكْمِ التَّمَتُّعِ، وَهُوَ لُزُومُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، لَا نَفْسُ التَّمَتُّعِ، فَاسْتِدْلَالُ الْأَئِمَّةِ بِهَا عَلَى الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَمَا تَرَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي مَرْجِعِ الْإِشَارَةِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى. وَالْأَحْوَطُ عِنْدِي: إِرَاقَةُ دَمِ التَّمَتُّعِ، وَلَوْ سَافَرَ؛ لِعَدَمِ صَرَاحَةِ دَلَالَةِ الْآيَةِ فِي إِسْقَاطِهِ، وَلِلِاحْتِمَالِ الْآخَرِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي الْمُرَادِ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، قَدْ يُطْلَقُ كَثِيرًا وَيُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَمَنْ عَلَى مَسَافَةٍ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَهُوَ كَالْحَاضِرِ، وَلِذَا تُسَمَّى صَلَاتُهُ إِنْ سَافَرَ مِنَ الْحَرَمِ، إِلَى تِلْكَ الْمَسَافَةِ صَلَاةَ حَاضِرٍ، فَلَا يَقْصُرُهَا، لَا صَلَاةَ مُسَافِرٍ، حَتَّى يُشْرَعَ لَهُ قَصْرُهَا فَظَهَرَ دُخُولُهُ فِي اسْمِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِمَكَّةَ، وَمَنْ خَصَّهُ بِالْحَرَمِ، وَمَنْ عَمَّمَهُ فِي كُلِّ مَا دُونُ الْمِيقَاتِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: مَا قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ. قَالَ: لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، فَافْتَقَرَ إِلَى نِيَّةِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَعَلَى الِاشْتِرَاطِ الْمَذْكُورِ فَمَحِلُّ نِيَّةِ التَّمَتُّعِ هُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ، مَا لَمْ يَفْرَغْ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ كَالْخِلَافِ فِي وَقْتِ نِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ نِيَّتُهُ مَا لَمْ يَفْرَغْ مِنَ الصَّلَاةِ الْأُولَى، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَيْهِ فَلَوِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ لَا يَنْوِي الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ بَدَا لَهُ أَنْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَا دَمَ تَمَتُّعٍ عَلَيْهِ، وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ الْمَذْكُورُ عَزَاهُ صَاحِبُ «الْإِنْصَافِ» لِلْقَاضِي، وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَى عَدَمَ الِاشْتِرَاطِ بِـ «قِيلَ» ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَارَهُ «الْمُصَنِّفُ» ، وَ «الشَّارِحُ» ، وَقَدَّمَهُ فِي «الْمُحَرَّرِ وَالْفَائِقِ» ، وَالظَّاهِرُ سُقُوطُ هَذَا الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ مَتَى حَجَّ بَعْدَ أَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، لِظَاهِرِ عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَتَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ، بَلْ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدَّمِ: أَنَّهُ تَرَفَّهَ بِإِسْقَاطِ سَفَرِ الْحَجِّ، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الشَّرْطُ السَّادِسُ: هُوَ مَا اشْتَرَطَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ كَوْنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمَذْكُورَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، كَأَنْ يَعْتَمِرُ بِنَفْسِهِ وَيَحُجُّ بِنَفْسِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ يَحُجُّ شَخْصٌ، وَيَعْتَمِرُ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ. أَمَّا إِذَا حَجَّ عَنْ شَخْصٍ، وَاعْتَمَرَ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ، أَوِ اعْتَمَرَ عَنْ شَخْصٍ، وَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَوِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَحَجَّ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ، فَهَلْ يَلْزَمُ دَمُ التَّمَتُّعِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مُؤَدِّيَ النُّسُكَيْنِ شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ لَا يَلْزَمُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْحَجَّ وَقَعَ عَنْ شَخْصٍ وَالْعُمْرَةَ وَقَعَتْ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ فَهُوَ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ شَخْصَانِ فَحَجَّ أَحَدُهُمَا، وَاعْتَمَرَ الْآخَرُ، وَإِذًا فَلَا تَمَتُّعَ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ نَظَرًا إِلَى اتِّحَادِ فَاعِلِ النُّسُكِ، وَمُقَابِلُهُ الْمَرْجُوحُ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْحَجَّ عَنْ شَخْصٍ، وَالْعُمْرَةَ عَنْ آخَرَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُودِ الْخِلَافِ وَتَرْجِيحِ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ. قَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، فِي عِدَّةِ شُرُوطِ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ، وَفِي شَرْطِ كَوْنِهِمَا عَنْ وَاحِدٍ تَرَدَّدٌ، مَا نَصُّهُ: ذَكَرَ ابْنُ شَاسٍ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَكُونُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 بِهَا مُتَمَتِّعًا: أَنْ يَقَعَ النُّسُكَانِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ: ابْنُ عَرَفَةَ لَا أَعْرِفُ هَذَا، بَلْ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ مَنِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَتَمَتُّعٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: أَشَارَ بِالتَّرَدُّدِ لِتَرَدُّدِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي النَّقْلِ، فَالَّذِي نَقَلَهُ صَاحِبُ النَّوَادِرِ وَابْنُ يُونُسَ وَاللَّخْمِيُّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْأَشْهَرُ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِمَا عَنْ وَاحِدٍ، وَحَكَى ابْنُ شَاسٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ قَالَ فِي «التَّوْضِيحِ» : لَمْ يَعْزُهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَحْكِ صَاحِبُ النَّوَادِرِ وَابْنُ يُونُسَ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي الْمُوَازِيَةِ أَنَّهُ تَمَتُّعٌ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي مَنَاسِكِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ خَلِيلٍ: وَلَمْ أَرَ فِي ابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِ، إِلَّا الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الدَّمِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَشَرْطُ ابْنِ شَاشٍ كَوْنُهُمَا عَنْ وَاحِدٍ، وَنَقَلَ ابْنُ حَاجِبٍ: لَا أَعْرِفُهُ، بَلْ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ مَنِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ عَنْ غَيْرِهِ مُتَمَتِّعٌ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنَ التَّرَدُّدِ صَحِيحٌ. لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَعَادَتُهُ أَنْ يُشِيرَ بِالتَّرَدُّدِ لِمَا لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ فِي مَنْسِكِهِ الْكَبِيرِ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقَعَ النُّسُكَانِ عَنْ وَاحِدٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمَوَّازِ، عَنْ مَالِكٍ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْهُمُ الْبَاجِيُّ، وَالطَّرْطُوشِيُّ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ شَرَطَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّهُ الْأَشْهَرُ مِنْ مَذْهَبٍ مَالِكٍ، وَتَبِعَ ابْنَ الْحَاجِبِ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ الْأَشْهَرُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ الْقَرَافِيَّ فِي الذَّخِيرَةِ ذَكَرَ مَا سِوَى هَذَا الشَّرْطِ، وَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَ الْجَوَاهِرِ زَادَ هَذَا الشَّرْطَ، وَلَمْ يَعْزُهُ لِغَيْرِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَطَّابِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ النُّقُولِ الَّتِي نَقَلَهَا أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ النُّسُكَيْنِ عَنْ وَاحِدٍ: هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَفِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا، هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ النُّسُكَيْنِ عَنْ وَاحِدٍ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ؟ وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَزَاهُ فِي «الْإِنْصَافِ» لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ، قَالَ مِنْهُمُ الْمُنْصِفُ، وَالْمَجْدُ، قَالَهُ: الزَّرْكَشِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْفُرُوعِ، وَعَزَا مُقَابِلَهُ لِصَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ النُّسُكَيْنِ، عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، وَقَوْلُ مَنِ اشْتَرَطَهُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يُحِلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَلِّهِ مِنْهَا صَارَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 قَارِنًا، كَمَا وَقَعَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. الشَّرْطُ الثَّامِنُ: هُوَ مَا اشْتَرَطَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ كَوْنِهِ لَا يُعَدُّ مُتَمَتِّعًا، حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ صَارَ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ ; لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدُ الْحَرَامِ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الشَّرْطِ. قَالَ صَاحِبُ «الْإِنْصَافِ» : لَمَّا ذُكِرَ هَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ وَالْحُلْوَانِيُّ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي التَّذْكِرَةِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَالرِّعَايَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ قَصْرٍ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَلْ دَمُ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ. وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ: يَلْزَمُهُ دَمَانِ، دَمُ الْمُتْعَةِ وَدَمُ الْإِحْرَامِ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُقِمْ وَلَمْ يَنْوِهَا بِهِ، وَلَيْسَ بِسَاكِنٍ، وَرَدُّوا مَا قَالَهُ الْقَاضِي. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ بَعْدَ كَلَامِهِ هَذَا مُتَّصِلًا بِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّارِحُ: وَلَوْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِعُمْرَةٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَاعْتَمَرَ مِنَ التَّنْعِيمِ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ نُصَّ عَلَيْهِ، وَفِي نَصِّهِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِيجَابِ الدَّمِ فِي الصُّورَةِ الْأَوْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِدُخُولِهِمَا صَرِيحًا فِي عُمُومِ آيَةِ التَّمَتُّعِ، كَمَا تَرَى. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعِ مِنَ الْهَدْيِ، وَالصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْهَدْيِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ عَنْ بَعْضِ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ، بِأَنَّ الْقِرَانَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ التَّمَتُّعِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَكِلَا النُّسُكَيْنِ فِيهِ تَمَتُّعٌ لُغَةً ; لِأَنَّ التَّمَتُّعَ مِنَ الْمَتَاعِ أَوِ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ أَوِ النَّفْعُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقَفْتُ عَلَى قَبْرٍ غَرِيبٍ بِقَفْرَةٍ ... مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ جَعَلَ اسْتِئْنَاسَهُ بِقَبْرِهِ مَتَاعًا لِانْتِفَاعِهِ بِذَلِكَ الِاسْتِئْنَاسِ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ، انْتَفَعَ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ وَانْتَفَعَ الْقَارِنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِانْدِرَاجِ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْقِرَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ بِحَسْبِ مَدْلُولِ لَفْظِهَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْغَايَةَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ تَدُلُّ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 ذَلِكَ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا قَالُوا: هُوَ مُلْحَقٌ بِهِ فِي حُكْمِهِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَعَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعَ، عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، إِلَّا مَنْ شَذَّ شُذُوذًا لَا عِبْرَةَ بِهِ. وَلَيْسَ كُلُّ خِلَافٍ جَاءَ مُعْتَبَرًا إِلَّا خِلَافًا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ قَالَ فِي «الْإِنْصَافِ» : وَسَأَلَهُ - يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - ابْنُ مُشَيْشٍ: الْقَارِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ وُجُوبًا؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ وُجُوبًا، وَإِنَّمَا شَبَّهُوهُ بِالْمُتَمَتِّعِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ، فَتَتَوَجَّهُ مِنْهُ رِوَايَةُ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ. انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ مُخَالِفٌ لِمَا زَعَمُوهُ رِوَايَةً، وَأَنَّ الْقَارِنَ كَالْمُتَمَتِّعِ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا نَعْلَمُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ خِلَافًا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، سُئِلَ عَنِ الْقَارِنِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَجَرَّ بِرِجْلِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمْ. انْتَهَى مِنْهُ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْعَبْدَرِيَّ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرَيْجٍ. وَالتَّحْقِيقُ خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعَ. وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ: «فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَزْوَاجِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى» : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ دَمِ الْقِرَانِ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ قَارِنَةً. انْتَهَى مِنْهُ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عَلَيْهِ دَمٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً، عَلَى التَّحْقِيقِ فَتِلْكَ الْبَقَرَةُ دَمُ قِرَانٍ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، مِنْ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ فَلْيُهْرِقْ دَمًا» لَمْ أَعْرِفْ لَهُ أَصْلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ إِنْ كَانَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: عَلَيْهِ دَمٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْقَطَ الدَّمَ عَنِ الْمُتَمَتِّعِ، وَهَذَا لَيْسَ مُتَمَتِّعًا، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، فَإِنَّنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ، إِنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى النَّصِّ عَلَى التَّمَتُّعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الْفَرْعُ أَصْلَهُ. انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَارِنَ كَالْمُتَمَتِّعِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ. فَقَدِ انْتَفَعَ بِإِسْقَاطِ عَمَلِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَلُزُومُ الدَّمِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ دَمُ الْقِرَانِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فِي أَنَّ الْقَارِنَ إِنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَحَاضِرُوا الْمَسْجِدِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، وَذِي طَوًى. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَشَرْطُ دَمِهِمَا عَدَمُ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ أَوْ ذِي طُوًى. . . إِلَخْ، مَا نَصُّهُ: وَذُو طُوًى هُوَ مَا بَيْنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ مِنْهَا إِلَى مَقْبَرَةِ مَكَّةَ الْمُسَمَّاةِ بِالْمَعْلَاةِ، وَالثَّنِيَّةُ الْأُخْرَى الَّتِي إِلَى جِهَةِ الزَّاهِرِ وَتُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ بَيْنَ الْحَجُونَيْنِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ دُونَ الْمِيقَاتَ: لَا تُشْرَعُ لَهُمُ الْعُمْرَةَ أَصْلًا فَلَا تَمَتُّعَ لَهُمْ وَلَا قِرَانَ، بِنَاءً عَلَى رُجُوعِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِنَفْسِ التَّمَتُّعِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ إِنْ تَمَتَّعُوا أَوْ قَرَنُوا أَسَاءُوا وَانْعَقَدَ إِحْرَامُهُمْ، وَلَزِمَهُمْ دَمُ الْجَبْرِ، وَهَذَا الدَّمُ عِنْدَهُمْ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ صَاحِبُهُ مِنْهُ، بِخِلَافِ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ دَمُ نُسُكٍ، يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا مُتْعَةَ لَهُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ رَأْيُ الْبُخَارِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ: أَلَّا يَرْجِعَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ مَسَافَةِ مِثْلِهِ، أَوْ يُسَافِرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هُنَاكَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَرَدْنَا أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 نَذْكُرَ هُنَا حُكْمَ الْقَارِنِ إِذَا أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ، أَوْ سَافَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِذَلِكَ كَالتَّمَتُّعِ أَوْ لَا؟ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، إِنْ رَجَعَ وَحَجَّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَارِنًا. وَقَالَ صَاحِبُ «الْإِنْصَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَارِنِ: لَا يَلْزَمُ الدَّمُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَالَهُ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ سَافَرَ سَفَرَ قَصْرٍ أَوْ إِلَى الْمِيقَاتِ، إِنْ قُلْنَا بِهِ، كَظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي لُزُومَهُ ; لِأَنَّ اسْمَ الْقِرَانِ بَاقٍ بَعْدِ السَّفَرِ، بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ انْتَهَى مِنْهُ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ السَّفَرَ بَعْدَ وُصُولِ مَكَّةَ، لَا يُسْقِطُ دَمَ الْقِرَانِ، وَأَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّهُ يُسْقِطُهُ إِلْحَاقًا لَهُ بِالتَّمَتُّعِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : لَوْ دَخَلَ الْقَارِنُ مَكَّةَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ قُلْنَا الْمُتَمَتِّعُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْمَ الْقِرَانِ لَا يَزُولُ بِالْعَوْدِ، بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَدَخَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ طَوَافِهِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَهُوَ قَارِنٌ. قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْفَوَاتِ: إِنْ قُلْنَا إِذَا أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَجَعَ سَقَطَ الدَّمُ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَالِكِيِّ أَنَّ السَّفَرَ لَا يُسْقِطُ دَمَ الْقِرَانِ وَالْحَاصِلُ: أَنَّا بَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي السَّفَرِ بَعْدَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِ مَكَّةَ، هَلْ يُسْقِطُ دَمَ الْقِرَانِ أَوْ لَا؟ وَبَيَّنَّا قَوْلَ صَاحِبِ «الْإِنْصَافِ» أَنَّ سُقُوطَهُ بِالسَّفَرِ، هُوَ مُقْتَضَى قِيَاسِهِ عَلَى التَّمَتُّعِ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ لَا يُسْقِطُهُ السَّفَرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَحْوَطَ عِنْدَنَا أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ لَا يُسْقِطُهُ السَّفَرُ ; لِتَصْرِيحِ الْقُرْآنِ بِوُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، وَعَدَمِ صَرَاحَةِ الْآيَةِ فِي سُقُوطِهِ بِالسَّفَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لُزُومَ الدَّمِ لِلْقَارِنِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ اكْتَفَى عَنِ النُّسُكَيْنِ بِعَمَلِ أَحَدِهِمَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْقِرَانِ، أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي حَجِّهِ إِلَى عَرَفَةَ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يَلْزَمُ الْمَكِّيَّ إِنْشَاءُ إِحْرَامِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ وَكَذَلِكَ الْآفَاقِيُّ، إِذَا كَانَ فِي مَكَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ قَارِنًا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْقِرَانِ مِنْ مَكَّةَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُحْرِمُ بِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لِمَا بَيَّنَّا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا عَرَفْتَ الشُّرُوطَ الَّتِي بِهَا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَاعْلَمْ أَنَا أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ مَا يُجْزِئُ فِيهِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَأَقَلُّهُ شَاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً، وَأَعْلَاهُ بَدَنَةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سُبْعَ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ يَكْفِي، فَلَوِ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ مِنَ الْمُتَمَتِّعِينَ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ وَذَبَحُوهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ; كَحَدِيثِ جَابِرٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: «اشْتَرَكْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» ، فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيُشْتَرَكُ فِي الْبَقَرَةِ مَا يُشْتَرَكُ فِي الْجَزُورِ؟ فَقَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) ، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى. وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: «حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «اشْتَرَكْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ» فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيُشْتَرَكُ فِي الْبَدَنَةِ مَا يُشْتَرَكُ فِي الْجَزُورِ؟ قَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ، وَحَضَرَ جَابِرٌ الْحُدَيْبِيَةَ، قَالَ: «نَحَرْنَا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَدَنَةً اشْتَرَكْنَا كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ، وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ حُجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَأَمَرَنَا إِذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنَّا فِي الْهَدِيَّةِ» ; وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنَّ يُحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ نَشْتَرِكُ فِيهَا» . انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ: عَلَى أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ يَكْفِي فِيهِ الِاشْتِرَاكُ بِالسَّبْعِ فِي بَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. أَمَّا الشَّاةُ وَالْبَدَنَةُ كَامِلَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 فَإِجْزَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ الْمُتْعَةِ؟ فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْهَدْيِ فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ. الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ: أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ: يَعْنِي بِهِ مَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَاتُ الْمَذْكُورَةُ الصَّحِيحَةُ. عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ كِلْتَاهُمَا تَكْفِي عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الْمُتَمَتِّعِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» ، ثُمَّ قَالَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ كَانَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا، وَسَوَاءٌ كَانُوا كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ فِي الِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ بِالْهَدْيِ، وَعَنْ زُفَرَ مِثْلُهُ بِزِيَادَةٍ: أَنْ تَكُونَ أَسْبَابُهُمْ وَاحِدَةً، وَعَنْ دَاوُدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ، دُونَ الْوَاجِبِ، وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا انْتَهَى مِنْهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سُبْعَ الْبَدَنَةِ وَسُبْعَ الْبَقَرَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّاةِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي لِمَالِكٍ، مِنْ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ، لَا يَصِحُّ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ، إِنَّمَا كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ كَانُوا مُحْصَرِينَ. وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ خَالَفَ فِيهِ أَبُو جَمْرَةَ عَنْهُ ثِقَاتِ أَصْحَابِهِ، فَرَوَوْا عَنْهُ أَنَّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: شَاةٌ، ثُمَّ سَاقَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ مَرْدُودَةٍ. أَمَّا دَعْوَى أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ إِنَّمَا كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ كَانُوا مُحْصَرِينَ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، بِمَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي مُسْلِمٍ الَّتِي سُقْنَاهَا بِأَلْفَاظِهَا: أَنَّهُمُ اشْتَرَكُوا الِاشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا فِي حَجِّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَجِّهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ حَجَّةً غَيْرَهَا. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، عِنْدَ مُسْلِمٍ الَّتِي سُقْنَاهَا بِأَلْفَاظِهَا آنِفًا التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحَجَّةِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ أَلْفَاظِ مُسْلِمٍ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا دَعْوَى مُخَالَفَةِ أَبِي جَمْرَةَ فِي ذِكْرِهِ الِاشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَ ثِقَاتِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ أَيْضًا، بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، حَيْثُ قَالَ: وَلَيْسَ بَيْنَ رِوَايَةِ أَبِي جَمْرَةَ، وَرِوَايَةِ غَيْرِهِ مُنَافَاةٌ ; لِأَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِمْ ذِكْرَ الِاشْتِرَاكِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الشَّاةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الشَّاةِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ اخْتِصَاصَ الْهَدْيِ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا، إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 أَنْ قَالَ: وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَخْبَارُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الطَّعْنِ فِي رِوَايَةِ مَنْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَوْثِيقِهِ، وَهُوَ أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّشْرِيكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ رُجُوعَ ابْنِ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، عَنْ أَحْمَدَ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّ الْبَدَنَةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ سَبْعَةٍ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ عَشَرَةٍ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَوَّاهُ وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ فَعَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ» ، الْحَدِيثَ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّاةَ: لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: «أَوْ شَاةٌ» هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهُمْ، وَرُوِيَا بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) : إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَوَافَقَهُمَا الْقَاسِمُ، وَطَائِفَةٌ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ لَهُ: أَظُنُّ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [22 \ 36] فَذَهَبُوا إِلَى تَخْصِيصِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُدْنِ، قَالَ: وَيَرُدُّ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [5 \ 95] وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ هَدْيٍ. قُلْتُ: قَدِ احْتَجَّ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَدْيُ شَاةٌ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا تُقِرُّونَ بِهِ، مَا فِي الظَّبْيِ؟ قَالُوا: شَاةٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ. اهـ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «أَهْدَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً غَنَمًا» ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ عَنْهَا صَرِيحٌ فِي تَسْمِيَةِ الْغَنَمِ هَدْيًا كَمَا تَرَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ فِي هَدْيِ التَّمَتُّعِ، الَّذِي نَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: أَنَّهُ شَاةٌ، أَوْ بَدَنَةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ. وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ سُبْعُ الْبَدَنَةِ وَسُبْعُ الْبَقَرَةِ، عَنِ الْمُتَمَتِّعِ الْوَاحِدِ، وَتَكْفِي الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةِ مُتَمَتِّعِينَ لِثُبُوتِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصٌّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ يُقَاوِمُهَا، وَرِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ الْبَدَنَةَ تَكْفِي فِي الْهَدْيِ، عَنْ سَبْعَةٍ أَخَصُّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْبَعِيرَ فِي الْقِسْمَةِ يَعْدِلُ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ» ; لِأَنَّ هَذَا فِي الْقِسْمَةِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي خُصُوصِ الْهَدْيِ، وَالْأَخَصُّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» فِي شَرْحِ حَدِيثِ رَافِعٍ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِلَفْظٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَعَجَّلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَّمَ فَعَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَّدَ مِنْهَا بَعِيرٌ» ، الْحَدِيثَ. وَنَصُّ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ قِيمَةَ الْغَنَمِ إِذْ ذَاكَ، فَلَعَلَّ الْإِبِلَ كَانَتْ قَلِيلَةً، أَوْ نَفِيسَةً، وَالْغَنَمُ كَانَتْ كَثِيرَةً، أَوْ هَزِيلَةً بِحَيْثُ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَعِيرِ عَشْرَ شِيَاهٍ، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَاعِدَةَ فِي الْأَضَاحِيِّ، مِنْ أَنَّ الْبَعِيرَ يُجْزِئُ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ فِي قِيمَةِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ الْمُعْتَدِلَيْنِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْقِسْمَةُ، فَكَانَتْ وَاقِعَةَ عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْدِيلُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ نَفَاسَةِ الْإِبِلِ، دُونَ الْغَنَمِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» وَالْبَدَنَةُ تُطْلَقُ عَلَى النَّاقَةِ، وَالْبَقَرَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الْأَضْحَى فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَقَرَةِ تِسْعَةٌ، وَفِي الْبَدَنَةِ عَشَرَةٌ» فَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ هَذَا. وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ فِي هَذَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْبَعِيرَ بِسَبْعٍ مَا لَمْ يَعْرِضْ عَارِضٌ مِنْ نَفَاسَةٍ، وَنَحْوِهَا، فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيمَا عَدَا مَا طُبِخَ وَأُرِيقَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، الَّتِي كَانُوا غَنِمُوهَا، وَيُحْتَمَلُ إِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ تَعَدَّدَتْ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، أُتْلِفَ فِيهَا اللَّحْمُ لِكَوْنِهِ كَانَ قُطِّعَ لِلطَّبْخِ، وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ رَافِعٍ طُبِخَتِ الشِّيَاهُ صِحَاحًا مَثَلًا، فَلَمَّا أُرِيقَ مَرَقُهَا ضُمَّتْ إِلَى الْغَنَمِ لِتُقَسَّمَ، ثُمَّ يَطْبُخُهَا مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي انْحِطَاطِ قِيمَةِ الشِّيَاهِ، عَنِ الْعَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وَكَوْنُ اللَّحْمِ رُدَّ لِيَطْبُخَهُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مَرَّةً أُخْرَى، غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَدِيثُ رَافِعٍ الْمَذْكُورُ: أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ: الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، وَلَفْظُ الْمُرَادِ مِنْهُ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا فَعَجِلَ الْقَوْمُ فَأَغْلُوا بِهَا الْقُدُورَ فَأَمَرَ بِهَا فَكُفِئَتْ، ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَخَصَّ شَيْءٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَصْرَحَهُ فِيهِ، وَأَوْضَحَهُ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ، الَّذِي ذَكَرْنَا رِوَايَتَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ. أَمَّا حَدِيثُ رَافِعٍ، فَهُوَ فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ لَا فِي الْهَدْيِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي الضَّحَايَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ مِنْهُ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَكْفِيهِ سُبْعُ بَدَنَةٍ، وَأَنَّ النَّصَّ الصَّرِيحَ الْوَارِدَ بِذَلِكَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ، عَلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ عُشْرُ بَدَنَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَدِلَّةَ الْقَوْلَيْنِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَعْيِينِ الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ فِي هَدْيِ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَأَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ أَنَّ أَقَلَّهُ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ، وَأَنَّ إِجْزَاءَ الْبَدَنَةِ الْكَامِلَةِ، لَا نِزَاعَ فِيهِ. فَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَوَقْتِ نَحْرِهِ، وَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَقْوَالِهِمْ وَأَدِلَّتُهَا، وَمَا يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ مِنْهَا. أَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لَا يَجِبُ وُجُوبًا تَامًّا إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ; لِأَنَّ ذَبْحَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَلِذَا لَوْ مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ يَوْمَ النَّحْرِ، قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، لَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ مِنْ تَرِكَتِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ وُجُوبُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ كُنْتُ قُلْتُ فِي نَظْمِي فِي فُرُوعِ مَالِكٍ، وَفِي الْفَرَائِضِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يَخْرُجُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، قَبْلَ مِيرَاثِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرْتُ قَضَاءَ دُيُونِهِ: وَأَتْبِعَنْ دَيْنَهُ بِهَدْيِ تَمَتُّعٍ ... إِنْ مَاتَ بَعْدَ الرَّمْيِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى: وَدَمُ التَّمَتُّعِ يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَأَجْزَأَ قَبْلَهُ، قَدِ اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ بِالْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَصَاحِبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: سَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ مَاتَ، يَعْنِي الْمُتَمَتِّعَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ. ابْنُ رُشْدٍ: لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْوَقْتِ، الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِيهِ نَحْرُهُ، وَهُوَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ. ابْنُ عَرَفَةَ: قُلْتُ: ظَاهِرُهُ لَوْ مَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِهِ: لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ خِلَافُ نَقْلِ النَّوَادِرِ، عَنْ كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَنْ سَمَاعِ عِيسَى: مَنْ مَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَمْ يَرْمِ فَقَدْ لَزِمَهُ الدَّمُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: فَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ: يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ يُوهِمُ وُجُوبَهُ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ وُقُوفِهِ، وَلَا أَعْلَمُ فِي سُقُوطِهِ خِلَافًا. وَلِعَبْدِ الْحَقِّ، عَنِ ابْنِ الْكَاتِبِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: مَنْ مَاتَ بَعْدَ وُقُوفِهِ، فَعَلَيْهِ الدَّمُ. انْتَهَى مِنَ الْحَطَّابِ. فَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ مَاتَ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَفِيهِ قَوْلٌ بِلُزُومِهِ، إِنْ مَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَأَضْعَفُهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، إِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. أَمَّا لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ مِنْ عَامَّةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ، إِلَّا جَوَازُ إِشْعَارِهِ وَتَقْلِيدِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَشْعَرَهُ، أَوْ قَلَّدَهُ قَبْلَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، كَانَ هَدْيَ تَطَوُّعٍ، فَلَا يُجْزِئُ عَنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، فَلَوْ قَلَّدَهُ، وَأَشْعَرَهُ بَعْدَ إِحْرَامِ الْحَجِّ أَجْزَأَهُ ; لِأَنَّهُ قَلَّدَهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ: أَيْ بَعْدَ انْعِقَادِ الْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لَوْ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ قَبْلَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَخَّرَ ذَبْحَهُ إِلَى وَقْتِهِ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَأَجْزَأَ قَبْلَهُ أَيْ: أَجْزَأَ الْهَدْيُ الَّذِي تَقَدَّمَ تَقْلِيدُهُ، وَإِشْعَارُهُ عَلَى إِحْرَامِ الْحَجِّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُجْزِئَ هُوَ نَحْرُهُ قَبْلَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ وَقْتِ النَّحْرِ. فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا. قَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ قَوْلَ خَلِيلٍ «وَأَجْزَأَ قَبْلَهُ» مَا نَصُّهُ: ابْنُ عَرَفَةَ يُجْزِئُ تَقْلِيدُهُ، وَإِشْعَارُهُ بَعْدَ إِحْرَامِ حَجِّهِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا قَبْلَهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَدَمُ التَّمَتُّعِ يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ وَأَجْزَأَ قَبْلَهُ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ إِنَّمَا يُنْحَرُ بِمِنًى، إِنْ وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ، أَوْ بِمَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي فَمَا فَائِدَةُ الْوُجُوبِ هُنَا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 قُلْتُ: يَظْهَرُ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ، وَإِشْعَارِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبِ الْهَدْيُ حِينَئِذٍ مَعَ كَوْنِهِ يَتَعَيَّنُ بِالتَّقْلِيدِ، لَكَانَ تَقْلِيدُهُ إِذْ ذَاكَ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَلَا يُجْزِئُ إِلَّا إِذَا قُلِّدَ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ أَيْضًا: وَالْحَاصِلُ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمَا قَبْلَ وُجُوبِهِمَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ. فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ لِلْحُكْمِ بِوُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ فَائِدَةٌ تَعُمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ مَا قَلَّدَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْوُجُوبِ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وُجُوبًا غَيْرَ مُتَحَتِّمٍ ; لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ بِالْمَوْتِ، وَالْفَوَاتِ، فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ تَحَتَّمَ الْوُجُوبُ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. كَمَا نَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَوْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُتَحَتِّمٍ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ وَطَلَاقِهَا فَإِنْ وَطِئَ تَحَتَّمَ الْوُجُوبُ وَلَزِمَتِ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ، أَوْ طَلَّقَهَا إِلَى أَنْ قَالَ: بَلْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ إِنَّمَا يُنْحَرُ بِمِنًى، إِنْ وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ، أَوْ بِمَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ نَحْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَنُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ شَاهِدَةٌ لِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمَعُونَةِ: وَلَا يَجُوزُ نَحْرُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَلْقَ، لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ، لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَهُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ. وَقَالَ فِي «التَّلْقِينِ» : الْوَاجِبُ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ هَدْيٌ يَنْحَرُهُ بِمِنًى، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَهُ مِثْلُهُ فِي مُخْتَصَرِ عُيُونِ الْمَجَالِسِ، ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَا يَجُوزُ الْهَدْيُ عِنْدَ مَالِكٍ، حَتَّى يَحُلَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ: مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْهَدْيَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّحَلُّلِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ انْتَهَى مِنْهُ. وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِنَحْوِ هَذَا كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عِنْدَ مَالِكٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ بِجَوَازِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا جَوَازُ إِشْعَارِ الْهَدْيِ وَتَقْلِيدِهِ بَعْدَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، لَا شَيْءَ آخَرَ، فَمَا نُقِلَ عَنْ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَحْرِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ كُلُّهُ غَلَطٌ. إِمَّا مِنْ تَصْحِيفِ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ وَجَعْلِ النَّحْرِ بَدَلَ ذَلِكَ غَلَطًا، وَإِمَّا مِنَ الْغَلَطِ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، فَاعْرِفْ هَذَا التَّحْقِيقَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِغَيْرِهِ. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ فِيهِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: وَقْتُ وُجُوبِهِ هُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [2 \ 196] ، وَهَذَا قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً فَوُجُودُ أَوَّلِهِ كَافٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [3 \ 187] ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَوُجِّهَ فِي الْمُغْنِي هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ لَا يُعْلَمُ أَيُتِمُّ حَجَّهُ أَوْ لَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْفَوَاتُ، فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ، وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ وُجُوبُهُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. وَعَنْ أَبِي الْخَطَّابِ يَجِبُ إِذَا طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : فَأَمَّا وَقْتُ إِخْرَاجِهِ فَيَوْمُ النَّحْرِ، وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لِأَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ ذَبْحُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ، وَمَعَهُ هَدْيٌ قَالَ: يَنْحَرُ بِمَكَّةَ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ يَنْحَرُهُ لَا يَضِيعُ أَوْ يَمُوتُ أَوْ يُسْرَقُ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ: وَإِنْ قَدِمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَنْحَرْهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ بِمِنًى ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ قَدِمُوا فِي الْعَشْرِ، فَلَمْ يَنْحَرُوا، حَتَّى نَحَرُوا بِمِنًى، وَمَنْ جَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ نَحَرَهُ عَنْ عُمْرَتِهِ، وَأَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَكَانَ قَارِنًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَسَتَرَى مَا يَرُدُّ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ صَاحِبُ «الْإِنْصَافِ» : يَلْزَمُ دَمُ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ، وَرَدَّ مَا نَقَلَ عَنْهُ خِلَافَهُ إِلَيْهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْبُلْغَةِ، وَقَدَّمَهُ فِي «الْهِدَايَةِ» وَ «الْمُسْتَوْعِبِ» وَ «الْخُلَاصَةِ» ، وَ «التَّلْخِيصِ» ، وَ «الْفُرُوعِ» ، وَ «الرِّعَايَتَيْنِ» ، وَ «الْحَاوِيَيْنِ» ، وَعَنْهُ يَلْزَمُ الدَّمُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْمَذْهَبِ، وَ «مَسْبُوكِ الذَّهَبِ» وَعَنْهُ يَلْزَمُ الدَّمُ بِالْوُقُوفِ وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالشَّارِحُ اخْتِيَارَ الْقَاضِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَعَلَّهُ فِي الْمُجَرَّدِ وَأَطْلَقَهَا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْكَافِي، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهَا، وَكَذَا قَالَ فِي «الْمُغْنِي» وَ «الشَّرْحِ» ، وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي «الْوَاضِحِ» : يَجِبُ دَمُ الْقِرَانِ بِالْإِحْرَامِ. قَالَ فِي «الْفُرُوعِ» : كَذَا قَالَ، وَعَنْهُ يَلْزَمُ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِنِيَّةِ التَّمَتُّعِ، إِذْ قَالَ فِي «الْفُرُوعِ» : وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا، مَا إِذَا مَاتَ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ، يَخْرُجُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: فَائِدَةُ الرِّوَايَاتِ إِذَا تَعَذَّرَ الدَّمُ، وَأَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَى الصَّوْمِ، فَمَتَى يَثْبُتُ الْعُذْرُ فِيهِ الرِّوَايَاتُ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْإِنْصَافِ» : هَذَا الْحُكْمُ الْمُتَقَدِّمُ فِي لُزُومِ الدَّمِ. وَأَمَّا وَقْتُ ذَبْحِهِ فَجَزَمَ فِي «الْهِدَايَةِ» ، وَ «الْمَذْهَبِ» ، وَ «مَسْبُوكِ الذَّهَبِ» ، وَ «الْمُسْتَوْعِبِ» ، وَ «الْخُلَاصَةِ» ، وَ «الْهَادِي» ، وَ «التَّلْخِيصِ» ، وَ «الْبُلْغَةِ» ، وَ «الرِّعَايَتَيْنِ» ، وَ «الْحَاوِيَيْنِ» وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ. قَالَ فِي «الْفُرُوعِ» : وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجُوزُ قَبْلَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ ذَكَرَ صَاحِبُ «الْإِنْصَافِ» ، عَنْ بَعْضِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَبْحِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ رَدَّهُ، وَرَدُّهُ الَّذِي ذَكَرَ هُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا رَدَّهُ بِهِ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْبَحُوا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قَارَنُهُمْ وَمُتَمَتِّعُهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ جَزَمَ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَ «النَّظْمِ» ، وَ «الْحَاوِي» ، وَ «الْفَائِقِ» وَغَيْرِهِمْ أَنَّ وَقْتَ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَقْتُ دَمِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ «يَجُوزُ لَهُ نَحْرُهُ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَأَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الصَّوْمِ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ» وَحَمَلَ رِوَايَةَ ابْنَ مَنْصُورٍ بِذَبْحِهِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى وُجُوبِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ إِنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ وَمَعَهُ هَدْيٌ: يَنْحَرُهُ لَا يَضِيعُ، أَوْ يَمُوتُ، أَوْ يُسْرَقُ. قَالَ فِي «الْفُرُوعِ» : وَهَذَا ضَعِيفٌ. قَالَ فِي «الْكَافِي» : وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ نَحَرَهُ، وَإِنْ قَدِمَ بِهِ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَنْحَرْهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ بِمِنًى، اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْإِنْصَافِ» . وَقَدْ رَأَيْتُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ بِتَحْدِيدِ وَقْتِ الْوُجُوبِ يُبْنَى عَلَيْهَا لُزُومُ الْهَدْيِ فِي تَرِكَتِهِ، إِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَتَحَقَّقَ وَقْتُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ، إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ اسْتِلْزَامُ جَوَازِ الذَّبْحِ ; لِأَنَّهُمْ يُفْرِدُونَ وَقْتَ الذَّبْحِ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ، عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 وَأَنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ جَوَازُ ذَبْحِهِ بِإِحْرَامِ الْمُتْعَةِ. وَرِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ: جَوَازُ ذَبْحِهِ إِنْ قَدِمَ بِهِ. قَبْلَ الْعَشْرِ، كِلَاهُمَا ضَعِيفٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ، وَالتَّعْلِيلُ بِخَوْفِ الْمَوْتِ وَالضَّيَاعِ وَالسَّرِقَةِ مُنْتَقَضٌ بِمَا إِذَا قَدِمَ بِهِ فِي الْعَشْرِ ; لِأَنَّ الْعَشْرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ فِيهَا، أَوْ يَضِيعَ، أَوْ يُسْرَقَ كَمَا تَرَى وَالتَّحْدِيدُ بِنَفْسِ الْعَشْرِ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ، فَبُطْلَانُهُ وَاضِحٌ لِعَدَمِ اعْتِضَادِهِ بِشَيْءٍ غَيْرِ احْتِمَالِ الْمَوْتِ وَالضَّيَاعِ وَالسَّرِقَةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْهَدْيِ الَّذِي قُدِّمَ بِهِ فِي الْعَشْرِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كِلَيْهِمَا السَّلَامَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ، هُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَجِبُ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَاتٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَأَمَّا وَقْتُ جَوَازِ ذَبْحِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، قَالُوا: لِأَنَّ الذَّبْحَ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ، فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ وُجُوبِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ، فَجَازِ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، كَالزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ، أَمَّا جَوَازُ ذَبْحِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ ذَبْحَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، بِلَا خِلَافٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا نَقْلَ النَّوَوِيِّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِهِ هُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، أَمَّا وَقْتُ نَحْرِهِ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ: يَوْمُ النَّحْرِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ قَدَّمَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَيَنْبَغِي تَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَوَقْتِ النَّحْرِ ; لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ، فِيمَا لَوْ مَاتَ الْمُحْرِمُ هَلْ يُخْرَجُ الْهَدْيُ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَتَعَيَّنُ بِهِ وَقْتُ ثُبُوتِ الْعُذْرِ الْمُجِيزِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، جَوَازُ الذَّبْحِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِالْإِحْرَامِ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، لَا يَتَعَيَّنُ لُزُومُ الدَّمِ ; لِأَنَّهُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْمُتَمَتِّعِ: فَلَا دَمَ تَمَتُّعٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ. كَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وَقْتِ ذَبْحِ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَدُونَكَ أَدِلَّتُهُمْ، وَمُنَاقَشَتُهَا، وَبَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ مِنْهَا. اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ: كَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ جَاءَ بِهِ صَاحِبُهُ قَبْلَ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ فَقَدِ احْتَجُّوا، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ. أَمَّا رِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: بِجَوَازِ تَقْدِيمِ ذَبْحِهِ، إِنْ قَدِمَ بِهِ صَاحِبُهُ، قَبْلَ الْعَشْرِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا تَضْعِيفَ صَاحِبِ «الْفُرُوعِ» لَهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا لَا مُسْتَنَدَ لَهَا ; لِأَنَّ مُسْتَنَدَهَا مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةٍ ثَابِتَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ: إِنَّهُ يَجُوزُ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، فَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَرَى أَنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ لَهُ سَبَبَانِ، وَهُمَا الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ انْعَقَدَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ فِي الْجُمْلَةِ فَجَازَ الْإِتْيَانُ بِالْمُسَبَّبِ، كَوُجُوبِ قَضَاءِ الْحَائِضِ أَيَّامَ حَيْضِهَا مِنْ رَمَضَانَ ; لِأَنَّ انْعِقَادَ السَّبَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ وُجُودُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَفَى فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ تَتَوَفَّرِ الْأَسْبَابُ الْأُخْرَى، وَلَمْ تَنْتَفِ الْمَوَانِعُ ; لِأَنَّ قَضَاءَ الصَّوْمِ فَرْعٌ عَنْ وُجُوبٍ سَابِقٍ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ ذَكَرُوا لِمَذْهَبِهِمْ أَدِلَّةً. مِنْهَا أَنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ حَقٌّ مَالِيٌّ، يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ: هُمَا الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ. فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَقَبْلَ حُلُولِ الْحُلُولِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قَالُوا: قَوْلُهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، أَيْ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَبِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا، فَوَجَبَ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى التَّمَتُّعِ: وَقَدْ وُجِدَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [2 \ 187] ، فَالصِّيَامُ يَنْتَهِي بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَكَذَلِكَ التَّمَتُّعُ، يَحْصُلُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الْحَجِّ وَهُوَ الْإِحْرَامُ. وَمِنْهَا أَنَّ شُرُوطَ التَّمَتُّعِ وُجِدَتْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فَوُجِدَ التَّمَتُّعُ، وَذَبْحُ الْهَدْيِ مُعَلَّقٌ عَلَى التَّمَتُّعِ، وَإِذَا حَصَلَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ حَصَلَ الْمُعَلِّقُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وَمِنْهَا أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، يَجُوزُ تَقْدِيمُ بَعْضِهِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ الْآيَةَ [2 \ 196] ، وَتَقْدِيمُ الْبَدَلِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ، فَجَازَ بَعْدَ وُجُوبِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ كَدَمِ فِدْيَةِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. وَمِنْهَا ظَوَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدْ يُفْهَمُ مِنْهَا الذَّبْحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَأَمَرَنَا إِذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنَّا فِي الْهَدِيَّةِ» ، وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ ذَبْحِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلٌ. . . إِلَى آخَرِ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ النَّضِرِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، ثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَثُرَتِ الْقَالَةُ مِنَ النَّاسِ، فَخَرَجْنَا حُجَّاجًا، حَتَّى لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَنْ نَحِلَّ إِلَّا لَيَالٍ قَلَائِلُ، أَمَرَنَا بِالْإِحْلَالِ. . . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْحَابِهِ غَنَمًا فَأَصَابَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ تَيْسٌ فَذَبَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ أَمَرَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فَقَامَ تَحْتَ يَدَيْ نَاقَتِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصْرُخْ، أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ تَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا» ، إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ مِنْ أَلْفَاظِ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا، وَفِيهِ أَيْضًا زِيَادَةُ أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ اهـ. وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَأَصَابَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ تَيْسٌ فَذَبَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمَّا وَقَفَ بِعَرَفَةَ» إِلَخْ. قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ، أَنَّ ذَبْحَ سَعْدٍ لِتَيْسِهِ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ ذَبْحِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَغَيْرُهُ مِمَّا زَعَمُوهُ أَدِلَّةً تَرَكْنَاهُ لِوُضُوحِ سُقُوطِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي سُقُوطِهِ إِلَى دَلِيلٍ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ، فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ نَحْرِ الْهَدْيِ: هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَارِنًا كَمَا قَدَّمْنَا، مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِذَا بَدَأَ إِحْرَامَهُ قَارِنًا، أَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَتْ أَزْوَاجُهُ كُلُّهُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، إِلَّا عَائِشَةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، وَلَمْ يَنْحَرْ عَنْ نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ، إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُتَمَتِّعِينَ، وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَالْقَارِنِينَ الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ، لَمْ يَنْحَرْ أَحَدٌ مِنْهُمُ أَلْبَتَّةَ، قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى عَمَلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مِنَ الْخُلَفَاءِ: أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَ تَمَتُّعِهِ، أَوْ قِرَانِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ الْوُجُوبُ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً لَا فَرْضًا ; لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا شَخْصِيًّا، فَلَا عُمُومَ لَهُ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُ هَيْئَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كُلُّهَا جَائِزَةً، وَلَمْ يَنْسَخِ الْأَخِيرُ مِنْهَا الْأَوَّلَ، وَإِذًا فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ، مَعَ جَوَازِ الذَّبْحِ قَبْلَهُ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: هُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، مِنْ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ بَيَانًا لِنَصٍّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، إِنْ كَانَ الْفِعْلُ الْمُبَيِّنُ وَاجِبًا كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فَقَطْعُهُ السَّارِقَ مِنَ الْكُوعِ مُبَيِّنًا بِهِ الْمُرَادَ مِنَ الْيَدِ فِي قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ، يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْقِطَعُ مِنْ غَيْرِ الْكُوعِ، وَأَفْعَالُهُ فِي جَمِيعِ مَنَاسِكَ الْحَجِّ مُبَيِّنَةٌ لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَجِّ، وَمِنْ ذَلِكَ الذَّبَائِحُ، وَأَوْقَاتُهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْمُبَيَّنَةِ بِالسُّنَّةِ ; وَلِذَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، وَإِذَا يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي فِعْلِهِ فِي نَوْعِهِ وَزَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ قَوْلٌ مِنْهُ أَعَمُّ مِنَ الْفِعْلِ كَبَيَانِهِ أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ، وَأَنَّ مُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ، وَأَنَّ مِنًى كُلَّهَا مَنْحَرٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِنَفْسِ مَحَلِّ مَوْقِفِهِ أَوْ نَحْرِهِ. قَالَ صَاحِبُ " جَمْعِ الْجَوَامِعِ "، عَاطِفًا عَلَى مَا تُعْرَفُ بِهِ جِهَةُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوبٍ أَوْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 نَدْبٍ مَا نَصُّهُ: وَوُقُوعُهُ بَيَانًا. . . إِلَخْ. يَعْنِي أَنَّ وُقُوعَ الْفِعْلِ بَيَانًا لِنَصٍّ مُجْمَلٍ إِنْ كَانَ مَدْلُولُ النَّصِّ وَاجِبًا، فَالْفِعْلُ الْمُبَيَّنُ بِهِ ذَلِكَ النَّصُّ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ. سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ الْمُبَيِّنُ لِلنَّصِّ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَيَانًا قَرِينَةً أَوْ قَوْلًا. قَالَ شَارِحُهُ صَاحِبُ " الضِّيَاءِ اللَّامِعِ "، مَا نَصُّهُ: الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ إِمَّا بِقَرِينَةِ حَالٍ مِثْلِ الْقَطْعِ مِنَ الْكُوعِ، فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ، وَإِمَّا بِقَوْلٍ مِثْلِ قَوْلِهِ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَمْ تُبَيَّنْ صِفَاتُهَا فَبَيَّنَهَا بِفِعْلِهِ، وَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ بَيَانٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا فَجَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَالصَّلَاةِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَاتِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ يَجِبُ حَمْلُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا، عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ: مَسْأَلَةُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَضَحَ فِيهِ أَمْرُ الْجِبِلَّةِ، كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، أَوْ تَخْصِيصُهُ، كَالضُّحَى، وَالْوِتْرِ، وَالتَّهَجُّدِ، وَالْمُشَاوَرَةِ، وَالتَّخْيِيرِ، وَالْوِصَالِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ فَوَاضِحٌ، وَمَا سِوَاهُمَا إِنْ وَضَحَ أَنَّهُ بَيَانٌ بُقُولٍ أَوْ قَرِينَةٍ مِثْلِ: صَلُّوا، وَخُذُوا، وَكَالْقَطْعِ مِنَ الْكُوعِ وَالْغَسْلِ إِلَى الْمَرَافِقِ، اعْتُبِرَ اتِّفَاقًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: اعْتُبِرَ اتِّفَاقًا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُبَيَّنُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَاجِبًا، فَالْفِعْلُ الْمُبَيَّنُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ الْمُبَيَّنَ بِحَسْبِ الْمُبِيِّنِ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْعَضُدُ: فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِنَصٍّ عَلَى جِهَتِهِ مِنَ الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ اعْتُبِرَ عَلَى جِهَةِ الْمُبَيِّنِ مِنْ كَوْنِهِ خَاصًّا وَعَامًّا اتِّفَاقًا، وَمَعْرِفَةُ كَوْنِهِ بَيَانًا إِمَّا بُقُولٍ، وَإِمَّا بِقَرِينَةٍ، فَالْقَوْلُ نَحْوُ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، وَ " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَالْقَرِينَةُ مِثْلُ: أَنْ يَقَعَ الْفِعْلُ بَعْدَ إِجْمَالٍ، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ، دُونَ الْمِرْفَقِ وَالْعَضُدِ بَعْدَ مَا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَالْغَسْلُ إِلَى الْمَرَافِقِ، بِإِدْخَالِ الْمَرَافِقِ، أَوْ إِخْرَاجِهَا بَعْدَ مَا نَزَلَتْ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [5 \ 6] انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُبَيِّنَ لِنَصٍّ دَالٍّ عَلَى وَاجِبٍ، يَكُونُ وَاجِبًا ; لِأَنَّ الْبَيَانَ بِهِ بَيَانٌ لِوَاجِبٍ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ "، بِقَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَبِالنَّصِّ يُرَى ... وَبِالْبَيَانِ وَامْتِثَالٍ ظَهَرَا وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَبِالْبَيَانِ. وَقَالَ فِي شَرْحِهِ " نَشْرِ الْبُنُودِ " فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 وَبِالْبَيَانِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُبَيَّنِ انْتَهَى مِنْهُ. وَهُوَ وَاضِحٌ - وَالْمُبَيَّنُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ - فِي آيَاتِ الْحَجِّ، وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا، وَهَدْيَ التَّمَتُّعِ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا، فَالْفِعْلُ الْمُبَيِّنُ لَهُمَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْأُصُولِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ذَبْحَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ قَارِنٌ، وَذَبْحَهُ عَنْ أَزْوَاجِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُنَّ مُتَمَتِّعَاتٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَارِنَةٌ: فِعْلٌ مُبَيِّنٌ لِنَصٍّ وَاجِبٍ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ فِي نَوْعِ الْفِعْلِ، وَلَا فِي زَمَانِهِ، وَلَا فِي مَكَانِهِ إِلَّا فِيمَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ، كَغَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي ذُبِحَ فِيهِ مِنْ مِنًى ; لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ مِنًى كُلَّهَا نَحْرٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الزَّمَنَ كُلَّهُ وَقْتُ نَحْرٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، مِنْ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ ; لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ مِنْ لُحُوقِ الْإِثْمِ، إِذْ عَلَى احْتِمَالِ النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ لَا يَقْتَضِي تَرْكُ الْفِعْلِ إِثْمًا، وَعَلَى احْتِمَالِ الْوُجُوبِ يَقْتَضِي التُّرْكُ الْإِثْمَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَبْحَثِ أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: وَكُلُّ مَا الصِّفَةُ فِيهِ تُجْهَلُ ... فَلِلْوُجُوبِ فِي الْأَصَحِّ يُجْعَلُ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ لِمَرَاقِي السُّعُودِ الْمُسَمَّى نَشْرَ الْبُنُودِ: يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْهُولَ الصِّفَةِ - أَيْ مَجْهُولَ الْحُكْمِ - فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَوْنُهُ لِلْوُجُوبِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَالْأَبْهَرِيُّ، وَابْنُ الْقَصَّارِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الضِّيَاءِ اللَّامِعِ ": وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ، وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادَ، وَقَالَ بِهِ الْأَبْهَرِيُّ، وَابْنُ الْقَصَّارِ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [33 \ 21] ، قَالُوا: مَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَهُ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَلْزُومُ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَلَازِمُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ. وَقَالُوا أَيْضًا: وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ عَلَى عَدَمِ الْأُسْوَةِ فَتَكُونُ الْأُسْوَةُ وَاجِبَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنَ الْأُسْوَةِ اتِّبَاعَهُ فِي أَفْعَالِهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ، قَالُوا: وَمَا فَعَلَهُ فَقَدْ آتَانَاهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ لَنَا بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [3 \ 31] ، وَمِنِ اتِّبَاعِهِ التَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ، قَالُوا: وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي لِلْوُجُوبِ. وَمِنْهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْوَطْءِ، بِدُونِ إِنْزَالٍ سَأَلُوا عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّهَا هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَا ذَلِكَ، فَاغْتَسَلَا فَحَمَلُوا ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْغُسْلُ مِنَ الْوَطْءِ بِدُونِ إِنْزَالٍ عَلَى الْوُجُوبِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، خَلَعُوا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ: لِمَ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ، فَخَلَعْنَا نِعَالَنَا، فَحَمَلُوا مُطْلَقَ فِعْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، فَخَلَعُوا لَمَّا خَلَعَ، وَأَقَرَّهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ حُكْمُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، لَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ خَلْعِهِ أَنْ يَخْلَعُوا، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّهُمْ عَلَى خَلْعِ نِعَالِهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ فِي بَاطِنِهِمَا قَذَرًا وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ ثَابِتَةٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ ". وَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ فِي " الْمُنْتَقَى " بَعْدَ أَنْ قَالَ الْمَجْدُ فِي " الْمُنْتَقَى ": رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، انْتَهَى الْحَدِيثُ. أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَاخْتَلَفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ وَرَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ الْمَوْصُولَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ حُكْمُهُ مِنْ وُجُوبٍ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، بَلْ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ إِلَى آخِرِ أَقْوَالِهِمْ، نَاقَشُوا الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا مُنَاقَشَةً مَعْرُوفَةً فِي الْأُصُولِ، قَالُوا: قَوْلُهُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] ، أَيْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ [59 \ 7] ، فَهِيَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا فِي مُطْلَقِ الْفِعْلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ: (وَمَا آتَاكُمُ) ، بِالْأَمْرِ تَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَذِكْرُ النَّهْيِ بَعْدَهُ لَا يُعَيِّنُهُ وَقَالُوا: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي إِنَّمَا يَكُونُ الِاتِّبَاعُ وَاجِبًا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ وَاجِبٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ فِعْلُهُ مَنْدُوبًا فَالِاتِّبَاعُ فِيهِ مَنْدُوبٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْفِعْلَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ بِالِاتِّبَاعِ إِلَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ. أَمَّا لَوْ كَانَ فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، وَفَعَلَتْهُ الْأُمَّةُ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الِاتِّبَاعُ بِذَلِكَ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [33 \ 21] ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْأُسْوَةُ إِذَا كَانَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، وَفَعَلَتْهُ أُمَّتُهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، بَلْ لَا بُدَّ فِي الْأُسْوَةِ مِنْ عِلْمِ جِهَةِ الْفِعْلِ، الَّذِي فِيهِ التَّأَسِّي، قَالُوا: وَخَلْعُهُمْ نِعَالَهُمْ لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ دَاخِلٌ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " ; لِأَنَّ خَلْعَ النِّعَالِ كَأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ هَيْئَةِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا أَخَذُوا وُجُوبَ الْغُسْلِ مِنَ الْفِعْلِ، الَّذِي أَخْبَرَتْهُمْ بِهِ عَائِشَةُ ; لِأَنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، أَوْ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [5 \ 6] ، وَالْفِعْلُ الْمُبَيِّنُ لِإِجْمَالِ النَّصِّ لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَالُوا: وَالِاحْتِيَاطُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَلْزَمُ ; لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا فِيمَا ثَبُتَ وُجُوبُهُ أَوْ كَانَ وُجُوبُهُ هُوَ الْأَصْلَ كَلَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، إِنْ حَصَلَ غَيْمٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ عَادَةً، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ، كَمَا لَوْ حَصَلَ الْغَيْمُ الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ: فَلَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمُ الشَّكِّ، وَلَا يُحْتَاطُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ وُجُوبٌ وَلَمْ يَكُنْ وَجُوبُهُ هُوَ الْأَصْلَ، إِلَى آخِرِ أَدِلَّتِهِمْ وَمُنَاقَشَاتِهَا. فَلَمْ نُطِلْ بِجَمِيعِهَا الْكَلَامَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي [3 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [59 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [33 \ 21] ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُقْنِعَةً بِنَفْسِهَا فِي الْمَوْضُوعِ، فَلَا تَقِلُّ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَاضِدَةً لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِهِ الْبَيَانُ، وَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا: وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ ذَبْحُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ يَوْمَ النَّحْرِ، هُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَلَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا بِوَجْهٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ حَجِّهِمْ فِي عُمْرَةٍ، وَأَنْ يَحِلُّوا مِنْهَا الْحِلَّ كُلَّهُ، ثُمَّ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ، وَتَأَسَّفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَقَالَ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً "، وَفِي تِلْكَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ: التَّصْرِيحُ بِأَمْرِهِمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْحَجَّ فِي الْعُمْرَةِ، كَمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: بِأَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ. أَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ، فَلَوْ كَانَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ يَجُوزُ ذَبْحُهُ بَعْدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ لَجَعَلَ الْحَجَّ عُمْرَةً، وَأَحَلَّ مِنْهَا، وَنَحَرَ الْهَدْيَ بَعْدَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا. وَلَكِنَّ الْمَانِعَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ عَدَمُ جَوَازِ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالْحَلْقُ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْإِحْلَالُ دُونَهُ مُعَلَّقٌ عَلَى بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، كَمَا قَالَ: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] . وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الثَّابِتِ عَنْهُ أَنَّ مَحِلَّهُ: مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ، عَلَى أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] . وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [22 \ 28] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ نَحْرِهَا تَقَرُّبًا لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [22 \ 29] ، وَمِنْ قَضَاءِ تَفَثِهِمُ: الْحَلْقُ، أَوِ التَّقْصِيرُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ وَأَمَرَ بِذَلِكَ "، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " مُسْتَوْفًى، وَلَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ، عَلَى النَّحْرِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ الْوَاقِعِ مِنْ ذَلِكَ فِي حَجَّتِهِ، أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ " الْحَجِّ " عَلَى أَنَّ كُلَّ هَدْيٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَجِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّمَتُّعُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَنَّ وَقْتَ ذَبْحِهِ مُخَصَّصٌ بِأَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [22 \ 27 - 28] ; لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَذِّنْ فِيهِمْ بِالْحَجِّ، يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا ; لِأَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَتَقَرَّبُوا بِدِمَاءِ الْأَنْعَامِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَنْعَامَ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، وَيُسَمَّى عَلَيْهَا اللَّهُ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا، أَنَّهَا أَظْهَرُ فِي الْهَدَايَا مِنَ الضَّحَايَا ; لِأَنَّ الضَّحَايَا لَا تَحْتَاجُ أَنْ يُؤْذَنَ فِيهَا لِلْمُضَحِّينَ، لِيَأْتُوا رِجَالًا وَرُكْبَانًا، وَيَذْبَحُوا ضَحَايَاهُمْ كَمَا تَرَى، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ إِلَّا سَوْقُ الْهَدْيِ، وَأَنَّ الْهَدْيَ لَوْ كَانَ يَجُوزُ ذَبْحُهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ، لَأَحَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَذَبَحَ هَدْيَ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا، أَوْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، كَمَا يَقُولُ مَنْ ذَكَرْنَا: أَنَّهُ جَائِزٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا مُوَضَّحًا بِأَسَانِيدِهِ، وَسَنُعِيدُ طَرَفًا مِنْهُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَتَحَلَّلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أُهِلُّ حَتَّى أَنْحَرَهُ " انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُهُ: " حَتَّى أَنْحَرَ "، يَعْنِي: يَوْمَ النَّحْرِ، فَلَوْ جَازَ نَحْرُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ قَبْلَ ذَلِكَ، لَأَحَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَنَحَرَ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلَّ حَتَّى أَنْحَرَ ". وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ: " إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ ". وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهَا: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ حَفْصَةُ: قُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَحِلَّ؟ قَالَ: " إِنِّي لَبَدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلَّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي " اهـ. فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي مَعَهُ مَانِعٌ مِنَ الْحِلِّ، وَلَوْ كَانَ النَّحْرُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ جَائِزًا لَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ نَحَرَ، وَفِيهِ أَنَّ أَزْوَاجَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَمَتِّعَاتٌ، وَقَدْ نَحَرَ عَنْهُنَّ الْبَقَرَ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَقُولُ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَزْوَاجِهِ "، قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِسَائِهِ ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 حَجَّتِهِ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَرَكْنَا ذِكْرَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، هَلْ ذَبَحَ عَنْ جَمِيعِهِنَّ بَقَرَةً وَاحِدَةً، أَوْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَقَرَةً، كَمَا جَاءَ بِهِ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَائِشَةَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ، وَأَمْثَالُهَا الْكَثِيرَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا: تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ عَمَّنْ تَمَتَّعَ مِنْ أَزْوَاجِهِ، وَمَنْ قَرَنَ فِي خُصُوصِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ فَعَلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَانَ قَارِنًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ يَعْتَمِرَ، وَيَحِلَّ مِنْهَا، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ، كَمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفِعْلِ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: بِأَنَّ الْمَانِعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ سَوْقُ الْهَدْيِ، فَلَوْ كَانَ الْهَدْيُ يَجُوزُ نَحْرُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِتَحَلَّلَ وَنَحَرَ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، وَفِعْلُهُ هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَبَيَّنَ بِفِعْلِهِ أَنَّ بُلُوغَهُ مَحَلَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَمَنْ أَجَازَ ذَبْحَ هَدْيِ التَّمَتُّعِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَدْ خَالَفَ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَيِّنَ لِإِجْمَالِ الْقُرْآنِ، وَخَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ صَحِيحٍ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا بِهِ إِجْمَالَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، كَمَا تَرَى. فَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ كَافَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَحْرُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. فَدُونَكَ الْأَجْوِبَةَ الَّتِي أُجِيبَ بِهَا عَنْ أَدِلَّةِ الْمُخَالِفِينَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ ذَبْحِهِ عِنْدَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، أَوْ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ. أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ لَهُ سَبَبَانِ، فَجَازِ بِأَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ، بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَقَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِكَوْنِهِ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ، وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ مِنَ الْقَوَادِحِ الْمُجْمَعِ عَلَى الْقَدْحِ بِهَا، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُخَالِفًا لِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، وَهَذَا الْقِيَاسُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي هِيَ النَّحْرُ يَوْمَ النَّحْرِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَعُرِفَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فَسَادُ الِاعْتِبَارِ بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ: وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوِ اجْمَاعٍ دَعَا ... فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ شُرُوطَ التَّمَتُّعِ وُجِدَتْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فَوُجِدَ التَّمَتُّعُ بِوُجُودِ شُرُوطِهِ، وَذَبْحُ الْهَدْيِ مُعَلَّقٌ عَلَى وُجُودِ التَّمَتُّعِ فِي الْآيَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، حَصَلَ الْمُعَلَّقُ، مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 الْأَوَّلُ أَنَّ وُجُودَ التَّمَتُّعِ لَمْ يُحَقَّقْ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ بِسَبَبٍ عَائِقٍ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقْتَهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ، لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّمَتُّعُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ وُجُودُ حَقِيقَةِ التَّمَتُّعِ الَّتِي عُلِّقَ عَلَى وُجُودِهَا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. الثَّانِي أَنَّ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ بِالتَّمَتُّعِ لَهُ مَحَلٌّ مُعَيَّنٌ، لَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِهِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ الثَّابِتِ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَقَوْلِهِ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي» الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَنَّ مَحِلَّهُ هُوَ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ بَعْضِهِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، فَجَازَ تَقْدِيمُ الْهَدْيِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، قِيَاسًا عَلَى بَدَلِهِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيَاسٌ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي فَعَلَهَا مُبَيِّنًا بِهَا الْقُرْآنَ. وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ قَرِيبًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ فَوَارِقٍ تَمْنَعُ مِنْ إِلْحَاقِ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ. مِنْهَا أَنَّ الْهَدْيَ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَبْحِهِ قَضَاءُ التَّفَثِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي ذَبْحِ الْهَدَايَا: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [22 \ 29] ، وَهَذَا الْحُكْمُ الْمَوْجُودُ فِي الْأَصْلِ مُنْتَفٍ عَنِ الْفَرْعِ ; لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ تَفَثٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُنْتَفٍ عَنِ الْفَرْعِ، وَهُوَ الصَّوْمُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا يُؤَدَّى جُزْؤُهُ الْأَكْبَرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [2 \ 196] ، وَهَذَا مُنْتَفٍ عَنِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْهَدْيُ، فَلَا يُفْعَلُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ كَمَا تَرَى. وَاسْتِدْلَالُهُمْ: بِأَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ، فَجَازَ بَعْدَ وُجُوبِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قِيَاسًا عَلَى فِدْيَةِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّا قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمْ مُنَاقِشَةً دَقِيقَةً فِي هَدْيِ التَّمَتُّعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 هَلْ هُوَ دَمُ جُبْرَانٍ، أَوْ دَمُ نُسُكٍ كَالْأُضْحِيَّةِ؟ فَعَلَى أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَسُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ، وَعَلَى أَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ، فَقِيَاسُهُ عَلَى فِدْيَةِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ يَمْنَعُهُ أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ صَحِيحٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ هَدْيُ التَّمَتُّعِ، وَالْعُلَمَاءُ إِنَّمَا أَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ الْمَنْصُوصِ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى حُكْمٍ مُثْبَتٍ بِالْقِيَاسِ فِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ. فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَصٍّ، أَوِ اتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ، كَأَنْ تَقُولَ هُنَا: مَنْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ فِي إِحْرَامِهِ، لَزِمَتْهُ فِدْيَةُ الْأَذَى، قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ الْآيَةَ [2 \ 196] ، بِجَامِعِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، ثُمَّ تَقُولُ: ثَبَتَ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِدْيَةً فَتَجْعَلُ الطِّيبَ وَاللِّبَاسَ الثَّابِتَ حُكْمُهَا بِالْقِيَاسِ أَصْلًا ثَانِيًا، فَتَقِيسُ عَلَيْهِمَا هَدْيَ التَّمَتُّعِ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ دَمُ جُبْرَانٍ، وَكَأَنْ تَقُولَ: يَحْرُمُ الرِّبَا فِي الذُّرَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ بِجَامِعِ الِاقْتِيَاتِ، وَالِادِّخَارِ، أَوِ الْكَيْلِ مَثَلًا، ثُمَّ تَقُولُ: ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي الذُّرَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبُرِّ، فَتَجْعَلُ الذُّرَةَ أَصْلًا ثَانِيًا، فَتَقِيسُ عَلَيْهَا الْأُرْزَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَعَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ بِهِ الْقِيَاسُ، فَسُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَحُكْمُ الْأَصْلِ قَدْ يَكُونُ مُلْحَقَا ... لِمَا مِنِ اعْتِبَارِ الْأَدْنَى حُقِّقَا فَهُوَ قِيَاسٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ أَصْلًا، وَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ أَيْضًا ; لِمُخَالَفَتِهِ لِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قَائِلِينَ: إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا، فَيَجِبُ الْهَدْيُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ ; لِأَنَّ اسْمَ التَّمَتُّعِ يَحْصُلُ بِهِ، وَالْهَدْيُ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [2 \ 187] ، مَرْدُودٌ أَيْضًا. أَمَّا كَوْنُ التَّمَتُّعِ يُوجَدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَالْهَدْيُ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ وُجُودُهُ بِوُجُودِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا رَدَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ بِإِيضَاحٍ قَرِيبًا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهِ يَعْنُونَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ جُعِلَ فِيهِ الْحَجُّ غَايَةً بِحَرْفِ الْغَايَةِ الَّذِي هُوَ (إِلَى) ، فَيَجِبُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ ذَبْحُ الْهَدْيِ بِأَوَّلِ الْغَايَةِ، وَهُوَ الْحَجُّ وَأَوَّلُهُ الْإِحْرَامُ، فَيَجِبُ الذَّبْحُ بِالْإِحْرَامِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ، فَإِنَّ حُكْمَ إِتْمَامِ الصِّيَامِ يَنْتَهِي بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ لِإِتْمَامِهِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَلَا يَلْزَمُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِأَوَّلِ مَا جُعِلَ غَايَةً. وَمِنَ النُّصُوصِ الَّتِي لَمْ يَتَعَلَّقِ الْحُكْمُ بِهَا فَأَوَّلُ مَا جُعِلَ غَايَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [2 \ 230] ، فَنِكَاحُهَا زَوْجًا غَيْرَهُ جُعِلَ غَايَةً لِعَدَمِ حَلِّيَّتِهَا لَهُ، مَعَ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْغَايَةِ الَّذِي هُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِ آخِرِ الْغَايَةِ: وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّعَلُّقَ بِأَوَّلِ الْغَايَةِ: لَا يَلْزَمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ الثَّابِتَةَ عَنْهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَفْهُومِ قَوْلِهِ: بَيَّنَتْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ، لَا يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْغَايَةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِآخِرِهَا وَهُوَ الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْحَرْ هَدْيَ تَمَتُّعٍ، وَلَا قِرَانٍ إِلَّا بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَفِعْلُهُ فِيهِ الْبَيَانُ الْكَافِي لِلْمُرَادِ مِنَ الْغَايَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ الْآيَةَ [33 \ 21] ، فَفِعْلُهُ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ; لِأَنَّهُ ذَبَحَ عَنْ أَزْوَاجِهِ الْمُتَمَتِّعَاتِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ الْمُتَمَتِّعِينَ بِذَلِكَ، وَخَيْرُ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ الْقُرْآنِ السُّنَّةُ، وَاللَّهُ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ الْآيَةَ [6 \ 44] ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَيِّنُ الْمَنَاسِكَ بِأَفْعَالِهِ، مُوَضِّحًا لِذَلِكَ الْمُرَادِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَجَازَ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ; فَالْحَلْقُ لَا يَجُوزُ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْقُرْآنِ، وَالْحَلْقُ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَالْهَدْيُ لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَلِذَا لَمْ يَأْذَنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّتِهِ لِمَنْ سَاقَ هَدْيًا أَنْ يَحِلَّ وَيَحْلِقَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: «فَأَمَرَنَا إِذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نَهْدِيَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 وَيَجْتَمِعُ النَّفَرُ مِنَّا فِي الْهَدِيَّةِ» . وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ مَرْدُودٌ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْقَلْبِ ; لِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ الْقَلْبِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ: «وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ» . وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ «وَذَلِكَ» رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالْهَدِيَّةِ، وَالِاشْتِرَاكِ فِيهَا، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ حِينَ إِحْلَالِهِمْ مِنْ حَجِّهِمْ ; وَذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ يَوْمَ النَّحْرِ ; لِأَنَّهُ لَا إِحْلَالَ مِنْ حَجٍّ أَلْبَتَّةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَالْغَرِيبُ مِنَ الشَّيْخِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ ذَبْحِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْلَالِ مِنَ الْحَجِّ، وَهُوَ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى وُقُوعِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا سَهْوٌ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ ذَهَبَ ذِهْنُهُ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ حِينَ تَحَلُّلِهِمْ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَظَنَّ أَنَّ اسْمَ الْحَجِّ لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَصْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فَفَسَخُوهُ فِي عُمْرَةٍ، فَلَمَّا أَحَلُّوا مِنْهَا صَارُوا كَأَنَّهُمْ مُحِلُّونَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي فَسَخُوهُ فِيهَا، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَحْرَمُوا بِهِ لَمَّا فَسَخُوهُ فِي عُمْرَةٍ زَالَ اسْمُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَصَارَ الْإِحْلَالُ مِنْ عُمْرَةٍ لَا مِنْ حَجٍّ كَمَا تَرَى، فَحَمْلُ لَفْظِ الْإِحْلَالِ مِنَ الْحَجِّ عَلَى الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ حَمْلٌ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ، عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَسْبَ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَلَوْ سَلَّمْنَا جَدَلِيًّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ بِالْإِحْلَالِ مِنَ الْحَجِّ: هُوَ الْإِحْلَالُ مِنَ الْعُمْرَةِ الَّتِي فَسَخُوا فِيهَا الْحَجَّ كَمَا هُوَ رَأْيُ النَّوَوِيِّ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ بِالْهَدْيِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ ذَبَحُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بَلِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَذْبَحُوا شَيْئًا مِنْ هَدَايَاهُمْ، قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ الْحَاكِمِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْحَابِهِ غَنَمًا فَأَصَابَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ تَيْسٌ فَذَبَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ» ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْبَحْهُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، كَمَا فَعَلَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ. وَجَاءَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فَصَارَتْ رِوَايَةُ أَحْمَدَ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ يَوْمَ النَّحْرِ، مُفَسِّرَةً لِرِوَايَةِ الْحَاكِمِ. قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» ، مَا نَصُّهُ: «بَابُ تَفْرِقَةِ الْهَدْيِ» : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ غَنَمًا يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَصْحَابِهِ وَقَالَ:» اذْبَحُوا لِعُمْرَتِكُمْ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْكُمْ «فَأَصَابَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ تَيْسٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ ذَبْحَهُمْ عَنْ عُمْرَتِهِمْ، إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْحَاكِمُ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ، وَلَقَدْ صَدَقَ الْهَيْثَمِيُّ فِي أَنَّ رِجَالَهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيِّ الْأَعْوَرِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مُجَالِدٍ، وَهُوَ تِرْمِذِيُّ الْأَصْلِ سَكَنَ بَغْدَادَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْمِصِّيصَةِ، أَخْرَجَ لَهُ الْجَمِيعُ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : ثِقَةٌ ثَبْتٌ، لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَقَالَ فِيهِ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ نُقَّادِ رِجَالِ الْحَدِيثِ، كَانَ ثِقَةً صَدُوقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ حِينَ رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ إِنَّمَا أَخَذَ عَنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَغْدَادَ قَبْلَ الْمِصِّيصَةِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنَ الْمِصِّيصَةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَمَاتَ بِهَا وَاخْتِلَاطُهُ فِي رُجُوعِهِ الْأَخِيرِ كَمَا يَعْلَمُهُ مَنْ نَظَرَ تَرْجَمَتَهُ فِي كُتُبِ الرِّجَالِ، وَحَجَّاجٌ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْجَمِيعُ وَهُوَ ثِقَةٌ فَقِيهٌ فَاضِلٌ مَعْرُوفٌ وَكَانَ يُدَلِّسُ وَيُرْسِلُ، وَلَكِنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صَرَّحَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ أَحْمَدَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَجَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، فَظَهَرَ صِحَّةُ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَهُ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ رَأَيْتُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَدِلَّةَ مَنْ قَالَ: بِجَوَازِ ذَبْحِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَمَنْ قَالَ: بِجَوَازِهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَأَدِلَّةَ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَمُنَاقَشَتَهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَدِلَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَوْضَحْنَاهَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ قَرِيبًا. مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ فَعَلَ فَلَمْ يَذْبَحْ عَنْ أَزْوَاجِهِ الْمُتَمَتِّعَاتِ وَلَا عَنْ عَائِشَةَ الْقَارِنَةِ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ هُوَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ الْمُتَمَتِّعِينَ بِأَمْرِهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْأُمَّةِ، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ مَنَاسِكَنَا، وَمِنْ مَنَاسِكِنَا وَقْتُ ذَبْحِ الْهَدَايَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَدْيٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَجِّ أَنَّ ذَبْحَهُ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، لَا فِي أَيَّامٍ مَجْهُولَاتٍ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 قَالَ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [22 \ 27 - 28] ; لِأَنَّ مَضْمُونَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَذِّنْ فِيهِمْ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ حُجَّاجًا مُشَاةً وَرُكْبَانًا ; لِأَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: أَيْ وَلِيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِدِمَاءِ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، ذَاكِرِينَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّذْكِيَةِ. فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّقَرُّبَ بِدِمَاءِ الْأَنْعَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا دَعَوْا إِلَى الْحَجِّ مِنْ أَجْلِهِ، أَنَّهُ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ لَا فِي زَمَنٍ مُطْلَقٍ مَجْهُولٍ كَمَا تَرَى. وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ، وَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلَ وَقْتِهَا، فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَقْتَ تَذْكِيَتِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَيُوَضِّحُ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا تَقَرُّبًا لِلَّهِ تَعَالَى بِدِمَائِهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ أَيْ ذَكُّوهَا قَائِمَةً صَوَافَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْجُلٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ بَيَّنَ أَنَّ الْهَدْيَ لَهُ مَحِلٌّ مَعْرُوفٌ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ بِحَلْقِ الرَّأْسِ، قَبْلَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا مِنْ أَصْحَابِهِ بِفَسْخِ حَجِّهِ فِي عُمْرَةٍ، وَالْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَتَأَسَّفَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَانِعَ لَهُ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَلُّلُ، وَحَلْقُ الرَّأْسِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَمِنَ الضَّرُورِيِّ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ لَوْ كَانَ يَجُوزُ ذَبْحُهُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ، أَوِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ، وَيَذْبَحُ هَدْيَهُ عِنْدَمَا تَحَلَّلَ مِنْهَا، فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا ذَابِحًا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ، أَوْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِامْتِنَاعِ هَذَا وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ قَلَّدَ هَدْيَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ فِي الْحَجِّ - وَيَدْخُلُ فِيهَا الذَّبْحُ وَوَقْتُهُ - كُلِّهَا بَيَانٌ لِإِجْمَالِ آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَمَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ [3 \ 97] . وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا أَنَّ أَفْعَالَهُ فِي الْحَجِّ، بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا اتِّفَاقَ الْأُصُولِيِّينَ، عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ نَصٍّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ: أَنَّهُ وَاجِبٌ إِلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ ذَبْحِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ كَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِعْلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِآيَةِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَبَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْحُجَّاجِ - الَّذِينَ يَزْعُمُونَ التَّقَرُّبَ بِالْهَدْيِ يَوْمَ النَّحْرِ - مِنْ ذَبْحِ الْغَنَمِ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ مِنًى لَا يَقْدِرُ الْفُقَرَاءُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَالتَّمَكُّنِ مِنْهَا، وَتَرْكِهَا مَذْبُوحَةً لَيْسَ بِقُرْبِهَا فَقِيرٌ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَتَضِيعُ تِلْكَ الْغَنَمُ بِكَثْرَةٍ وَتَنْتَفِخُ وَيَنْتَشِرُ نَتَنُ رِيحِهَا فِي أَقْطَارِ مِنًى، حَتَّى يَعُمَّ أَرْجَاءَهَا النَّتَنُ كَأَنَّهُ نَتَنُ الْجِيَفِ، أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الطَّاعَةِ. وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ بَسَطَ اللَّهُ يَدَهُ إِقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ فَسَادٌ وَأَذِيَّةٌ لِسَائِرِ الْحُجَّاجِ بِالْأَرْوَاحِ الْمُنْتِنَةِ، وَإِضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَإِفْسَادٌ لَهُ بِاسْمِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَدَوَاءُ ذَلِكَ الدَّاءِ الْمُنْتَشِرِ فِي مِنًى كُلَّ سَنَةٍ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ مُهْدٍ وَكُلُّ مُضَحٍّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِيصَالُ لَحْمِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى الْفُقَرَاءِ، فَعَلَيْهِ إِذَا ذَبَحَهَا أَنْ يُؤَجِّرَ مَنْ يَسْلَخُهَا طَرِيَّةً حِينَ ذَبْحِهَا أَوْ يَسْلَخُهَا هُوَ، وَيَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِأُجْرَةٍ، حَتَّى يُوصِلَهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [22 \ 28] ، وَيَقُولُ: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [22 \ 36] وَلَا يُمْكِنُهُ إِطْعَامُ أَحَدٍ مِمَّنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِطْعَامِهِمْ إِلَّا بِإِيصَالِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَلَوِ اجْتَهَدَ فِي إِيصَالِهِ إِلَيْهِمْ، لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يَدَهُ أَنْ يُعِينَ الْحُجَّاجَ الْمُتَقَرِّبِينَ بِالدِّمَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْإِيصَالِ إِلَى الْفُقَرَاءِ بِالطُّرُقِ الْكَفِيلَةِ بِتَيْسِيرِ ذَلِكَ كَتَهْيِئَةِ عَدَدٍ ضَخْمٍ مِنَ الْعَامِلِينَ لِلْإِيجَارِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى سَلْخِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا طَرِيَّةً، وَحَمْلِ لُحُومِهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَكَتَعَدُّدِ مَوَاضِعِ الذَّبْحِ فِي أَرْجَاءِ مِنًى، وَفِجَاجِ مَكَّةَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ الْمُعِينَةِ عَلَى إِيصَالِ الْحُقُوقِ لِمُسْتَحِقِّيهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْحَرَمِ هُمُ الْمَوْجُودُونَ فِيهِ وَقْتَ نَحْرِ الْهَدَايَا مِنَ الْآفَاقِيِّينَ، وَحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنْ ذَبَحَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ فُقَرَاءُ، وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الذَّبِيحَةِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَسَّرَ لَهُمُ الْأَكْلَ مِنْهَا بِطَرِيقٍ لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ أَطْعَمَهُمْ بِالْفِعْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [2 \ 196] . وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (فِي الْحَجِّ) : أَيْ فِي حَالَةِ التَّلَبُّسِ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنِ اسْمِ الْحَجِّ هُوَ الدُّخُولُ فِي نَفْسِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْحَجِّ أَشْهُرُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [2 \ 297] وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عِنْدِي ; لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ زَمَنُ الْحَجِّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ. وَحَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفًا عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا وَعَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْرِمَ بِحَجِّهِ، قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُتِمَّ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ; لِأَنَّ صَوْمَهُ لَا يَجُوزُ. وَكَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْحَاجِّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَاسْتَحَبَّ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السَّبْعَةَ إِنَّمَا يَصُومُهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، وَوُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصُومُهَا فِي طَرِيقِهِ فِي رُجُوعِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمُرَادَ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ وَالْأَيَّامَ السَّبْعَةَ: لَا يَجُبِ التَّتَابُعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةَ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ صَوْمُهَا، وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهَا يَجُوزُ صَوْمُهَا مُطْلَقًا، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ وَسُقُوطُهُ. أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا لِلْمُتَمَتِّعِ، وَلَا غَيْرِهِ فَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ "، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْهُ زِيَادَةٌ: " وَذِكْرِ اللَّهِ ". وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَنَادَى: " أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ". وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " فَنَادَيَا " انْتَهَى مِنْهُ. قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَابِيَّانِ: هُمَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَنُبَيْشَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهُذَلِيُّ، فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ فِي الْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَجَازَ صَوْمَهَا مُطْلَقًا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: إِنَّهَا الْأَيَّامُ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِهِنَّ، وَأَمَرَ بِفِطْرِهِنَّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ": أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي فَاتَهُ صَوْمُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَهِيَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ: بَابُ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هُشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي كَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَا: لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ. انْتَهَى مِنْهُ. قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالتَّرْخِيصِ فِي صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ، الَّذِي لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي رَوَاهَا الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، لَمْ يُرَخَّصْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ فِي " الْفَتْحِ ": وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَلَامٍ عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالطَّحَاوِيُّ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ سَلَامٍ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ طَرِيقَ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الطُّرُقُ الْمُصَرِّحَةُ بِالرَّفْعِ، بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، وَنُهِينَا عَنْ كَذَا، هَلْ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: إِنْ أَضَافَهُ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَإِلَّا فَلَا. وَاخْتُلِفَ فِي التَّرْجِيحِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُضِفْهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ رُخِّصَ لَنَا فِي كَذَا، وَعُزِمَ عَلَيْنَا أَلَّا نَفْعَلَ كَذَا، كُلٌّ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، فَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ فَغَايَةُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَلَامٍ، أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمَعْنَى. لَكِنْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَخَذَاهُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فِي الْحَجِّ) ، يَعُمُّ مَا قَبْلَ النَّحْرِ، وَمَا بَعْدَهُ، فَتَدْخُلُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ بِمَرْفُوعٍ بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُمَا، عَمَّا فَهِمَاهُ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ تَعَارَضَ عُمُومُ الْآيَةِ الْمُشْعِرُ بِالْإِذْنِ، وَعُمُومُ الْحَدِيثِ الْمُشْعِرُ بِالنَّهْيِ، وَفِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْمُتَوَاتِرِ بِعُمُومِ الْآحَادِ نَظَرٌ لَوْ كَانَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا، فَكَيْفَ وَفِي كَوْنِهِ مَرْفُوعًا نَظَرٌ، فَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» وَتَرَاهُ فِيهِ يَجْعَلُ: أُمِرْنَا وَنُهِينَا، وَرُخِّصَ لَنَا وَعُزِمَ عَلَيْنَا، كُلَّهَا سَوَاءً فِي الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ: هَلْ لَهَا حُكْمُ الرَّفْعِ أَوِ الْوَقْفِ؟ وَمِمَّنْ قَالَ: بِصَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ: ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَعُرْوَةُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ عَدَمَ صَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ لَهَا: الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مَسْأَلَةُ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ، يَظْهَرُ لِي فِيهَا أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ، يَتَرَجَّحُ فِيهَا عَدَمُ جَوَازِ صَوْمِهَا وَبِالنَّظَرِ إِلَى صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ يَتَرَجَّحُ فِيهَا جَوَازُ صَوْمِهَا، وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ عَدَمَ صَوْمِهَا: دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، كَمَا قَدَّمْنَا وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كَوْنَهَا: «أَيَّامَ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» . مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ صَوْمِهَا، فَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ فِي الْمُتَمَتِّعِ، الَّذِي لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَفِي غَيْرِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 وَلَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ صَوْمِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ، الَّذِي لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الطَّحَاوِيِّ مِنْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخَذَا جَوَازَ صَوْمِهَا مِنْ ظَاهِرِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَالظَّاهِرُ سُقُوطُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَاجَّ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقِ: أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْحَجِّ مِنَ النِّسَاءِ، وَالصَّيْدِ، وَالطِّيبِ، وَكُلِّ شَيْءٍ. فَقَدْ زَالَ عَنْهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَصَارَ حَلَالًا حِلًّا تَامًّا كُلَّ التَّمَامِ. وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْحَجِّ، فَإِنْ صَامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَقَدَ صَامَهَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ، وَقَضَى مَنَاسِكَهُ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا رَفَثَ فِي الْحَجِّ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ فِيهَا الرَّفَثُ بِالْجِمَاعِ فَمَا دُونَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّافِثَ فِيهَا لَيْسَ فِي الْحَجِّ، وَأَمَّا الرَّمْيُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَهُوَ مِنَ السُّنَنِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ تَابِعَةً لَهُ، وَكَذَلِكَ النَّحْرُ فِيهَا إِنْ لَمْ يَنْحَرْ يَوْمَ النَّحْرِ. أَمَّا كَوْنُهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْحَجِّ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنْهُ، وَفَرَاغِهِ مِنْهُ، حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ عُمُومُ الْآيَةِ، فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ هُوَ جَوَازُ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ، الَّذِي لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ; لِأَنَّ الْمَشْهُورَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، أَوْ رُخِّصَ لَنَا فِي كَذَا، أَوْ أُحِلَّ لَنَا كَذَا لَهُ كُلُّهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ الثَّانِي: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا مِنْ نَوْعِ الْمَرْفُوعِ، وَالْمُسْنَدِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ مُطْلَقَ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ بِظَاهِرِهِ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَقْرِيبِهِ: الثَّانِي قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، أَوْ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، أَوْ أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشْفِعَ الْأَذَانَ وَمَا أَشْبَهَهُ، كُلُّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَهُ انْتَهَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ أَوْ ... نَحْوَ أُمِرْنَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ وَلَوْ بَعْدَ النَّبِيِّ قَالَهُ بِأَعْصُرٍ ... عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَفِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مُنَاقَشَاتٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفَةٌ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَنْ ضُمِّنَ الْحَدِيثُ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ حَدِيثِ نُبَيْشَةَ، وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَوْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صَوْمِهَا، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الطَّحَاوِيِّ، فَلَا مَانِعَ مِنْ تَخْصِيصِ عُمُومِهَا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ التَّحْقِيقَ، جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْمُتَوَاتِرِ، بِأَخْبَارِ الْآحَادِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ، وَالْبَيَانُ يَجُوزُ بِكُلِّ مَا يُزِيلُ اللَّبْسَ، وَلِذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ بَيَانِ الْمُتَوَاتِرِ، بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، كَتَخْصِيصِ عُمُومِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [4 \ 24] ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ بِحَدِيثِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا» ، وَهُوَ خَبَرُ آحَادٍ، وَقَدْ أَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَكَذَلِكَ أَجَازَ الْجُمْهُورُ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوقِ بِالْمَفْهُومِ كَتَخْصِيصِ عُمُومِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» ، وَهُوَ مَنْطُوقٌ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي حَدِيثِ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُبَيَّنَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمُبَيَّنِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ فِي السَّنَدِ، وَفِي الدَّلَالَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَبَيْنَ الْقَاصِرِ مِنْ حَيْثُ السَّنَدْ ... أَوِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُعْتَمَدْ وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا، وَذَكَرْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَقَدْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَ النَّاظِرِ عَدَمُ صَوْمِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ عَدَمَ صَوْمِهَا مَرْفُوعٌ رَفْعًا صَرِيحًا، وَصَوْمُهَا مَوْقُوفٌ لَفَظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْمَرْفُوعُ صَرِيحًا أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنَ الْمَرْفُوعِ حُكْمًا. وَالثَّانِي أَنَّ الْجَوَازَ وَالنَّهْيَ، إِذَا تَعَارَضَا قُدِّمَ النَّهْيُ ; لِأَنَّ تَرْكَ مُبَاحٍ أَهْوَنُ مِنِ ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَقَدْ يَحْتَجُّ الْمُخَالِفُ، بِأَنَّ دَلِيلَ الْجَوَازِ خَاصٌّ بِالْمُتَمَتِّعِ، وَدَلِيلَ النَّهْيِ عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ أَخَّرَ صَوْمَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، عَنْ يَوْمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 عَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهَا، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَصُومُهَا إِنَّمَا يَخْرُجُ وَقْتُهَا بِانْتِهَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهَلْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نَصًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِيهَا فَيَصُومُ عَشَرَةً، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا، هَلْ يُفَرِّقُهَا فَيَفْصِلُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ، بِمِقْدَارِ مَا وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَدَاءِ، لَوْ لَمْ تَفُتْ فِي وَقْتِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الثَّلَاثَةِ عَلَى السَّبْعَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ، فَلَمْ يَسْقُطْ كَتَرْتِيبِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ تَفْرِيقُهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا مُتَوَالِيَةً، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ وَجَبَ بِحُكْمِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَقَدْ فَاتَ، فَسَقَطَ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْ أَوْقَاتُهَا، فَإِنَّهَا تُقْضَى مُتَوَالِيَةً لَا مُتَفَرِّقَةً عَلَى أَوْقَاتِهَا حَسَبَ الْأَدَاءِ لَوْ لَمْ تَفُتْ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ فِي الصَّوْمِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَعَدَمُهُ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالُوا: بِلُزُومِ قَضَاءِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا. فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا دَمَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ ; لِأَنَّهُ قَضَى مَا فَاتَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ دَمٌ مَعَ الْقَضَاءِ ; لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ، وَجَزَمَ بِهِ الْخِرَقِيُّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَضَاءُ، وَلَا دَمَ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا دَمَ مَعَ الْقَضَاءِ بِحَالٍ. وَقِيلَ: لَا تُقْضَى الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، وَيَلْزَمُ الدَّمُ لِسُقُوطِ قَضَائِهَا بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ السَّبْعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلثَّلَاثَةِ الَّتِي سَقَطَتْ، وَيَتَعَيَّنُ الدَّمُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَآخِرُ وَقْتِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ: إِنَّ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْهَدْيِ يَجُوزُ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَوْمِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَهُ: أَنْ يُؤَخِّرَهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، فَيَصُومَ السَّابِعَ، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ. وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَرْوِي هَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعِنْدَ أَحْمَدَ: يَجُوزُ صَوْمُهَا، عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَعَنْهُ: إِذَا حَلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْحَجِّ يُرَادُ بِهِ: أَشْهُرُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا عَدَمَ ظُهُورِهِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا إِلَّا بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَحِبُّ إِنْهَاءَهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ إِلَى يَوْمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 النَّحْرِ، أَفْطَرَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَصَامَ عِنْدَ مَالِكٍ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْهَا، حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ وَلَهُ بِهِ مَالٌ لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِالْهَدْيِ، إِلَى الْحَرَمِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصِّيَامَ ; لِيُهْدِيَ مِنْ بَلَدِهِ، وَفِي صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِلْمُتَمَتِّعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: قَوْلَانِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: رِوَايَتَانِ فِيهِمَا. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ صَوْمَهَا. وَأَنَّ مَالِكًا يُجِيزُهُ وَيَكْفِي عِنْدَهُ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ الرُّجُوعُ مِنْ مِنًى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ صَوْمَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ. فَمَا يُرْوَى عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، لِمُخَالَفَتِهِ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ. وَلَفْظُهُ: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» الْحَدِيثَ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» ، فَلَفْظَةُ: «إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [2 \ 196] ، وَإِذَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: تَفْسِيرُ الرُّجُوعِ فِي الْآيَةِ بِرُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ» ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ السَّبْعَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ، لَا فِي رُجُوعِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا فِي طَرِيقِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَا، بَلْ صَرِيحُهَا، وَالْعُدُولُ عَنِ النَّصِّ بِلَا دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّهُ إِنْ صَامَ السَّبْعَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، فَمَا قَالَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مِنْ أَنَّهُ يَرَى إِجْزَاءَهَا لَا وَجْهَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بِمُقْتَضَى النُّصُوصِ، وَقَالَ لَا تُجْزِئُ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ مَنْ قَدَّمَهَا قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَدْ خَالَفَ لَفْظَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ لَفْظٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي مَعْرِضِ تَفْسِيرِ آيَةِ: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ وَالْعُدُولُ عَنْ لَفْظِهِ الصَّرِيحِ، الْمُبَيِّنِ لِمَعْنَى الْقُرْآنِ. لَوْ قِيلَ: بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فَاعِلَهُ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْهَدْيِ فِي حَجِّهِ يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ وَلَوْ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ عَجَزَ وَابْتَدَأَ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ، بَعْدَ أَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْهَا أَوْ يَوْمَيْنِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ بِوَجْهٍ جَائِزٍ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْهَدْيِ، وَاسْتِحْبَابُ الِانْتِقَالِ إِلَى الْهَدْيِ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ. وَمِمَّنْ وَافَقَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَحَمَّادٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْمُزَنِيِّ: إِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ، قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ، فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَقِيلَ: مَتَى قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ صَامَ أَوْ لَمْ يَصُمْ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِهَا، إِلَى مَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الَّتِي هِيَ: هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرُ الْمُؤَقَّتُ الْقَضَاءَ، إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ، أَوْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ [19 \ 59] . فَعَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَضَاءِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ وَقْتِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ لِعُمُومِ حَدِيثِ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ بِعَدَمِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِقَضَاءِ التَّفَثِ ; لِأَنَّ الدَّمَ مُسَوِّغٌ لِقَضَاءِ التَّفَثِ، مِمَّنْ عِنْدَهُ هَدْيٌ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصَّوْمِ قُدِّمَ لِيَنُوبَ عَنِ الدَّمِ فِي تَسْوِيغِ قَضَاءِ التَّفَثِ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ: لَا يَظْهَرُ الْقَضَاءُ، وَلَا يَبْعُدُ لُزُومُ الدَّمِ لِلْإِخْلَالِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا لُزُومُ صَوْمِ السَّبْعَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: لُزُومُهُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ مُطْلَقًا: وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ فَلَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ، إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ، يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. فَجَعْلُ الدَّمِ بَدَلًا مِنْهُ إِنْ فَاتَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِهَا، لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِصَرِيحِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ. تَنْبِيهٌ إِذَا أَخَّرَ الْحَاجُّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مَثَلًا، فَهَلْ يُجْزِئُهُ حِينَئِذٍ صَوْمُ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي الْحَجِّ، لِبَقَاءِ رُكْنٍ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرَّفَثُ إِلَى النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي الْحَجِّ، أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ صَوْمُهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ وَقْتَ الطَّوَافِ، الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» قَدْ فَاتَ؟ وَهَذَا التَّأْخِيرُ مُخَالِفٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 لِلسُّنَّةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَبِنَحْوِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» ، قَائِلًا: إِنَّ تَأْخِيرَ الطَّوَافِ بَعِيدٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي الْحَجِّ) وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهًا آخَرَ غَيْرَ هَذَا. وَإِنْ مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ الْعَاجِزُ، عَنِ الصَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَتَصَدَّقُ عَمَّا أَمْكَنَهُ صَوْمُهُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: يُهْدِي عَنْهُ. وَقِيلَ: لَا هَدْيَ عَنْهُ، وَلَا إِطْعَامَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ، حَتَّى قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الْهَدْيِ؟ ; لِأَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا لَزِمَ لِلْعَجْزِ عَنِ الْهَدْيِ، وَقَدْ زَالَ بِوُجُودِهِ، وَهَذَا إِنْ وَقَعَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ. أَمَّا إِنْ وُجِدَ الْهَدْيُ، بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَلَا نَصَّ فِيهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ صَوْمَ السَّبْعَةِ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ وَقْتٌ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ، بِغَيْرِ النَّذْرِ مَعَ كَوْنِهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ. أَمَّا الدِّمَاءُ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَاسَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَمِنْهَا: دَمُ الْفَوَاتِ. فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ، وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ، وَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ: أَنْ يُحِلَّا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعَا حَلَالًا ثُمَّ يَحُجَّانِ عَامًا قَابِلًا، وَيُهْدِيَانِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَقَدْ قَاسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دَمَ الْفَوَاتِ عَلَى دَمِ التَّمَتُّعِ حَيْثُ قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَوْلُ عَمَرَ «ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ» ، لَا يَظْهَرُ فِي الْفَوَاتِ ; لِأَنَّ الْفَوَاتَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ كَانَ عَاقَهُ عَائِقٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ، بِحَيْثُ لَوْ سَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَحِينَئِذٍ قَدْ يَصُومُهَا وَكَأَنَّهُ فِي الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْفَوَاتُ فِعْلًا، وَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ مُحَقَّقًا وُقُوعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَوَجْهُ قِيَاسِ: دَمِ الْفَوَاتِ عَلَى دَمِ التَّمَتُّعِ، حَتَّى صَارَ بَدَلُهُ مِنَ الصَّوْمِ كَبَدَلِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» قَائِلًا: إِنَّ هَدْيَ التَّمَتُّعِ، إِنَّمَا وَجَبَ لِلتَّرَفُّهِ بِتَرْكِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ وَقَضَائِهِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ دَمُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِجَامِعِ أَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ مَا اقْتَضَاهُ إِحْرَامُهُ، فَصَارَ كَالتَّارِكِ لِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَلَا يَظْهَرُ عِنْدِي كُلَّ الظُّهُورِ. ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَلْحَقْتُمُوهُ بِهَدْيِ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ، إِذْ هُوَ حَلَالٌ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ. قُلْنَا: الْهَدْيُ فِيهِمَا سَوَاءٌ. وَأَمَّا الْبَدَلُ، فَإِنَّ الْإِحْصَارَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى الْبَدَلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ قِيَاسًا، فَقِيَاسُ هَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى فَرْعِهِ، عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ هَاهُنَا مِثْلُ الصِّيَامِ عَنْ دَمِ الْإِحْصَارِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ صِيَامَ الْإِحْصَارِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حِلِّهِ، وَهَذَا يَجُوزُ فِعْلُهُ قَبْلَ حِلِّهِ وَبَعْدَهُ، وَهُوَ أَيْضًا مُفَارِقٌ لِصَوْمِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ فِي الْمُتْعَةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ آخِرَهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ فَوَاتِ عَرَفَةَ. وَالْخِرَقِيُّ إِنَّمَا جَعَلَ الصَّوْمَ عَنْ هَدْيِ الْفَوَاتِ مِثْلَ الصَّوْمِ عَنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ أَيْضًا: كُلُّ دَمٍ وَجَبَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ، كَدَمِ الْقِرَانِ وَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالرَّمْيِ، وَالْمَبِيتِ لَيَالِيَ مِنًى بِهَا، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ. فَالْوَاجِبُ فِيهِ: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ بَدَنَةٌ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ الْمُنْتَشِرِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ، كَصِيَامِ الْمُتْعَةِ. كَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَوَاهُ عَنْهُمُ الْأَثْرَمُ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الصَّحَابَةِ خِلَافُهُمْ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، فَيَكُونُ بَدَلُهُ مَقِيسًا عَلَى بَدَلِ دَمِ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقَوِّمُ الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، فَتَكُونُ مُلْحَقَةً بِالْبَدَنَةِ الْوَاجِبَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَيُقَاسُ عَلَى فِدْيَةِ الْأَذَى مَا وَجَبَ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ، يُتَرَفُّهُ بِهِ كَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَاللُّبْسِ، وَالطِّيبِ وَكُلِّ اسْتِمْتَاعٍ مِنَ النِّسَاءِ: كَالْوَطْءِ فِي الْعُمْرَةِ، أَوْ فِي الْحَجِّ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى فِدْيَةِ الْأَذَى مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَيُلْحَقُ بِهِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِامْرَأَةٍ وَقَعَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تُقَصِّرَ: عَلَيْكِ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. انْتَهَى بِطُولِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ لَا نَصَّ فِيهَا، مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمُحْصَرِ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ هَلْ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بَدَلًا عَنْهُ. وَأَقْوَالَ مَنْ قَالُوا: يَلْزَمُهُ الْبَدَلُ فِي الْبَدَلِ، هَلْ هُوَ الصَّوْمُ، أَوِ الْإِطْعَامُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: هُوَ قِيَاسُ دَمِ الْفَوَاتِ عَلَى دَمِ التَّمَتُّعِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنَّ الْخِرَقِيَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَاسَهُ عَلَى دَمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ فَجَعَلَ الصَّوْمَ عَنْ دَمِ الْفَوَاتِ، كَالصَّوْمِ عَنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَأَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ أَيْضًا، قِيَاسُ كُلِّ دَمٍ وَجَبَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ عَلَى دَمِ التَّمَتُّعِ. فَيَصُومُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ كَدَمِ الْقِرَانِ، وَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ لَيَالِيَ مِنًى بِهَا. وَطَوَافِ الْوَدَاعِ. وَكَذَلِكَ قِيَاسُ صَوْمِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْبَدَنَةِ فِي حَالِ إِفْسَادِ حَجِّهِ بِالْجِمَاعِ، فَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ قِيَاسًا عَلَى التَّمَتُّعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا نَقْلَ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» لِذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَعَدَمَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ. وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: تَقْوِيمُ بَدَنَةِ الْمُجَامِعِ الْعَاجِزِ بِالدَّرَاهِمِ، فَيَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ. وَأَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ: قِيَاسُ كُلِّ دَمٍ وَجَبَ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ، كَاللُّبْسِ، وَالطِّيبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى فِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قِيَاسَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَلَى فِدْيَةِ الْأَذَى: مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ. يُخَصِّصُهُ بِمَا فُعِلَ لِلْعُذْرِ، وَيُوجِبُ الدَّمَ دُونَ غَيْرِهِ، فِيمَا فُعِلَ مِنْ ذَلِكَ لَا لِعُذْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي دَمِ الْفَوَاتِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: قِيَاسُهُ عَلَى دَمِ التَّمَتُّعِ، فِي التَّرْتِيبِ، وَالتَّقْدِيرِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَدَمِ التَّمَتُّعُ أَيْضًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَدَمِ الْجِمَاعِ فِي الْأَحْكَامِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا شَاةٌ، وَالْجِمَاعُ بَدَنَةٌ لِاشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْمَ الْمُجَامِعِ الْعَاجِزِ عَنِ الْبَدَنَةِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَاذَا يَلْزَمُهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الدَّمِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِ تَرْكِ بَعْضِ الْمَأْمُورَاتِ كَالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالرَّمْيِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِلَى الْغُرُوبِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَبِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ هُوَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: أَنَّهُ كَدَمِ التَّمَتُّعُ أَيْضًا فِي التَّرْتِيبِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 وَالتَّقْدِيرُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ، صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ قَوَّمَ شَاةَ الْهَدْيِ دَرَاهِمَ، وَاشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَرَكْنَاهُمَا لِضَعْفِهِمَا وَشُذُوذِهِمَا، كَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الدَّمِ اللَّازِمِ. بِسَبَبِ الِاسْتِمْتَاعِ: كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ أَنَّ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا. وَقَدَّمْنَا أَنَّ أَصَحَّهَا أَنَّهُ كَفِدْيَةِ الْأَذَى الْمَنْصُوصَةِ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ. وَدَمُ الْجِمَاعِ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طُرُقٌ وَاخْتِلَافٌ مُنْتَشِرٌ، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ بَدَنَةٌ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ عَجَزَ فَسَبْعُ شِيَاهٍ، فَإِنْ عَجَزَ قَوَّمَ الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ بِطَعَامٍ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقِيلَ: إِنْ عَجَزَ عَنِ الْغَنَمِ قَوَّمَ الْبَدَنَةَ وَصَامَ، فَإِنْ عَجَزَ أَطْعَمَ، فَيُقَدِّمُ الصِّيَامَ عَلَى الْإِطْعَامِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهَا. وَقِيلَ: لَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، بَلْ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْغَنَمِ ثَبَتَ الْفِدَاءُ فِي ذِمَّتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ، وَالْبَقَرَةِ، وَالْغَنَمِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا، فَالْإِطْعَامُ ثُمَّ الصَّوْمُ. وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ، وَالْبَقَرَةِ، وَالشِّيَاهِ، وَالْإِطْعَامِ، وَالصِّيَامِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ جَلِيٍّ. وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ: إِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ صِيَامٍ وَدَمٍ لَا يَجِبُ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْوَحْيُ فَهُوَ عَفْوٌ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ هُوَ قِيَاسُ الطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى فِدْيَةِ الْأَذَى كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا دَمُ الْفَوَاتِ وَالْفَسَادِ، وَتَرْكِ الرَّمْيِ وَتَعَدِّي الْمِيقَاتِ، وَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَقِيسُ بَدَلَهُ عَلَى بَدَلِ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا يَصُومُ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ عِنْدَهُمُ الْمُتَمَتِّعُ، وَالْقَارِنُ وَمُتَعَدِّي الْمِيقَاتِ، وَمُفْسِدُ الْحَجِّ وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ. وَأَمَّا مَنْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِتَرْكِ جَمْرَةٍ أَوِ النُّزُولِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَيَصُومُ مَتَى شَاءَ ; لِأَنَّهُ يَقْضِي فِي غَيْرِ حَجٍّ، فَيَصُومُ فِي غَيْرِ حَجٍّ. اهـ مِنَ الْمَوَّاقِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَسَائِلِ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْحَجِّ: بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَدَّدُ فِيهَا الدَّمُ، وَبَعْضُ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَتَعَدَّدُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، مَعَ عَدَمِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الدِّمَاءَ إِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَدَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ حَجُّهُ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَتَرَكَ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَتَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى، أَنَّهُ تَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا مَعَ اخْتِلَافِهَا. أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ الْمُتَعَدِّدَةُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، كَأَنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ، ثُمَّ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ آخَرَ أَوْ بَاتَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى فِي غَيْرِ مِنًى ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ، فَلِلتَّعَدُّدِ وَجْهٌ وَلِلِاتِّحَادِ وَجْهٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ ثُمَّ كَرَّرَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا هَدْيُ تَمَتُّعٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَقَلَّ الْهَدْيِ وَاجِبًا كَانَ لِلتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ شَاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ، كَسُبْعِ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِي الِاشْتِرَاكِ فِيهِ لِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ الصَّحِيحَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، فَيَكُونُ قَارِنًا، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ مَا لَمْ يَفْتَتِحِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَإِنِ افْتَتَحَ الطَّوَافَ: فَفِي جَوَازِ إِدْخَالِهِ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ، خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَيَكُونُ قَارِنَا، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: هُوَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، بَلْ جَوَازُهُ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ، وَيَصِيرُ قَارِنًا وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مِصْرَ، وَنُقِلَ مَنْعُهُ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ لَقِيَهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُحْرِمَ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَلَّا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، إِلَّا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِأَمْرِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَحَلُّ هَذَا إِنْ كَانَ وَاجِدًا هَدْيَ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، اسْتُحِبَّ لَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ ; لِيَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ آخِرَهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَقَوْلَ مَنْ كَرِهَ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَاسْتَحَبَّ انْتِهَاءَهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ تَنْبِيهٌ إِذَا فَرَغَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَكَانَ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا فَإِنَّ لَهُ التَّحَلُّلَ التَّامَّ، فَلَهُ مَسُّ الطِّيبِ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالنِّسَاءِ، وَكُلُّ شَيْءِ حَرُمَ عَلَيْهِ بِإِحْرَامِهِ، فَإِنْ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ التَّحَلُّلَ أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي التَّمَتُّعِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [2 \ 196] ، وَلَا يَمْنَعُهُ سَوْقُ الْهَدْيِ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِحْلَالُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِحَدِيثِ: حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ " وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَخِّرُ ذَبْحَ هَدْيِ تَمَتُّعِهِ، حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَالِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ حَفْصَةَ الْمَذْكُورِ لَا يَنْهَضُ كُلَّ النُّهُوضِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا، فَحَدِيثُهَا لَيْسَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ النِّزَاعَ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ يُرِيدُ التَّحَلُّلَ مِنْهَا. وَالْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ. هَلْ يَمْنَعُهُ سَوْقُ الْهَدْيِ مِنَ التَّحَلُّلِ؟ وَحَدِيثُ حَفْصَةَ فِي الْقِرَانِ، وَالْقِرَانُ لَيْسَ مَحَلَّ نِزَاعٍ، وَقَوْلُهَا: وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ. تَعْنِي: عُمْرَتَهُ الْمَقْرُونَةَ مَعَ الْحَجِّ، لَا عُمْرَةً مُفْرَدَةً بِإِحْرَامٍ دُونَ الْحَجِّ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَكَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا عُمْرَةً مُفْرَدَةً الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُفْرَدَةً لَكَانَ لَهُ الْإِحْلَالُ مِنْهَا مُطْلَقًا، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ: " لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ " ; لِأَنَّهُ سَاقَهُ لِقِرَانٍ لَا لِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ عَنِ الْحَجِّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيَحْلِلْ، وَمَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَتَحَلَّلْ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ ". فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا مُسْلِمٌ قَبْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَبَعْدَهَا قَالَتْ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا "، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْأُولَى وَيَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ ; لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ فَصَحَّتِ الرِّوَايَاتُ. انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّ رِوَايَةَ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي قَالَ: إِنَّهَا يَجِبُ تَأْوِيلُهَا بِتَفْسِيرِهَا بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْأُخْرَى فِيهَا مَا لَفْظُهُ: " وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ " ; لِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ كُلَّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ مُفْرِدًا، وَلَمْ يَسُقْ هَدْيًا أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ فِي عُمْرَةٍ، وَيَحِلَّ مِنْهَا الْحِلَّ كُلَّهُ، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهَا: وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُتِمَّ حَجَّتَهُ: يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وَتَفْسِيرُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ. وَقَوْل مَنْ قَالَ: إِنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي عُمْرَتِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا حَتَّى يَنْحَرَ يَوْمَ النَّحْرِ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ لِدُخُولِهِ فِي ظَاهِرِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] ، وَهَذَا الْمُعْتَمِرُ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي سَاقَ مَعَهُ هَدْيَ التَّمَتُّعِ إِنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلْنَكْتَفِ هُنَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِغَيْرِ النَّذْرِ. أَمَّا الْهَدْيُ الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ: وَهُوَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَيَنْحَرَهُ وَيُفَرِّقَهُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ وَهُوَ قَارِنٌ، وَيَكْفِي لِدَمِ الْقِرَانِ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ، بَلْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَقِيَّةُ الْمِائَةِ تَطَوُّعٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَا يُهْدِيهِ سَمِينًا حَسَنًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ الْآيَةَ [22 \ 32] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَعْظِيمُهَا الِاسْتِسْمَانُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِعْظَامُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [22 \ 36] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَقَلَّ الْهَدْيِ شَاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّهَا الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهِيَ: الْجَمَلُ، وَالنَّاقَةُ، وَالْبَقَرَةُ، وَالثَّوْرُ، وَالنَّعْجَةُ، وَالْكَبْشُ، وَالْعَنْزُ، وَالتَّيْسُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْهَدْيَ وَالْإِطْعَامَ يَخْتَصُّ بِهِمَا فُقَرَاءُ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، وَأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَكَانٌ دُونَ مَكَانٍ، مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الطَّعَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ ". وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ، وَتَفْرِيقُهُ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ جَوَازَ الذَّبْحِ فِي الْحِلِّ، إِنْ كَانَ تَفْرِيقُ اللَّحْمِ فِي الْحَرَمِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْبُدْنَ يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا، وَإِشْعَارُهَا فَيُقَلِّدُهَا نَعْلَيْنِ. وَمَعْنَى إِشْعَارِهَا: هُوَ جَرْحُهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا، وَيُسْلَتُ الدَّمُ عَنْهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِشْعَارَ فِي صَفْحَةِ السَّنَامِ الْيُمْنَى، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ الْقَائِلِ: إِنَّهُ فِي الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْإِشْعَارَ الْمَذْكُورَ سُنَّةٌ لِثُبُوتِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ: بِالنَّهْيِ عَنْهُ، مُعَلِّلًا: بِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ النَّخَعِيِّ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْوَارِدَةَ بِالْإِشْعَارِ تُخَصِّصُ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ مُثْلَةٌ، فَهُوَ جَرْحٌ لِمَصْلَحَةٍ: كَالْفَصْدِ وَالْخِتَانِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْكَيِّ، وَالْوَسْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْهَدْيَ مِنَ الْغَنَمِ يُسَنُّ تَقْلِيدُهُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الْجُمْهُورَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى غَنَمًا فَقَلَّدَهَا " وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا تُقَلَّدُ بِالنِّعَالِ لِضَعْفِهَا، وَإِنَّمَا تُقَلَّدُ بِنَحْوِ عُرَى الْقِرَبِ، وَلَا تُشْعَرُ الْغَنَمُ إِجْمَاعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَعَمِلَ بِهِ ; لِأَنَّهُ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِشْعَارُ الْبَقَرِ إِنْ كَانَ لَهُ سَنَامٌ لَا نَصَّ فِيهِ، وَقَاسَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِشْعَارِ الْإِبِلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ وَتَلْطِيخِ الْهَدْيِ بِالدَّمِ، هُوَ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ هَدْيٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا أُشْعِرَ وَقُلِّدَ تَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ، وَرُبَّمَا شَرَدَ فَيُعْرَفُ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيُرَدُّ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْبَقَرِ، فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ: إِشْعَارُهُ إِنْ كَانَ لَهُ سَنَامٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْحِكْمَةُ فِي تَقْلِيدِهِ النَّعْلَيْنِ أَنَّ الْمُنْتَعِلَ عِنْدَهُمْ كَالرَّاكِبِ لِكَوْنِ النَّعْلِ تَقِي صَاحِبَهَا الْأَذَى مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالشَّوْكِ، وَالْقَذَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَأَنَّ الْمُهْدِيَ خَرَجَ لِلَّهِ عَنْ مَرْكُوبِهِ الْحَيَوَانِيِّ، وَغَيْرِ الْحَيَوَانِيِّ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ قَلَّدُوا الْبَقَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ; حَيْثُ قَالَ: بَابُ فَتْلِ الْقَلَائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ حَفْصَةَ الْمُتَقَدِّمَ، وَفِيهِ قَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي ". الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهْدِي مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ ". . . الْحَدِيثَ، فَتَرَى الْبُخَارِيَّ قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ هَذِهِ: بَابُ فَتْلِ الْقَلَائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ. وَتَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ صَحِيحَةٌ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِي فِي الْحَدِيثِ: الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ مَعًا فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْإِبِلَ خَاصَّةً فَالْبَقَرُ فِي مَعْنَاهَا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْغَنَمَ كُلُّهَا تُقَلَّدُ إِنْ كَانَتْ هَدْيًا، وَأَنَّ الْغَنَمَ لَا تُشْعَرُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَنَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ ثَابِتَةٌ بِإِشْعَارِ الْإِبِلِ، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ سَنَامٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ أَهْدَى إِلَى الْحَرَمِ هَدْيًا وَهُوَ مُقِيمٌ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ بِحَاجٍّ وَلَا مُعْتَمِرٍ، لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِإِرْسَالِ الْهَدْيِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى مَا خَالَفَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ، حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، قَالَتْ: عَمْرَةُ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنْ فِيهِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَ عَائِشَةَ ابْنُ زِيَادٍ. وَالصَّوَابُ: مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهَا يَسْأَلُهَا هُوَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَعْرُوفُ بِزِيَادِ ابْنِ أَبِيهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ كَوْنِهِ ابْنَ زِيَادٍ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ يَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى قَوْلِ كُلِّ عَالِمٍ، وَلَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ، وَأَقَامَ فِي بَلَدِهِ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِإِرْسَالِ هَدْيِهِ، وَأَنَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَإِنْ زَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَعَلِيٍّ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمُجَاهِدٍ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى أَقْوَالِ كُلِّ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مِنْ أَنَّهُ لَا يَجْتَنِبُ إِلَّا الْجِمَاعَ لَيْلَةَ جَمْعٍ: وَهِيَ لَيْلَةُ النَّحْرِ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ ; لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ، الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ ضَعِيفٌ، كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي " الْفَتْحِ "، فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ "، عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ لِمَا بَيَّنَتْ بِهِ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَجَعَ النَّاسُ عَنْ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ النُّسُكَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَيْءٌ، خِلَافًا لِمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ، وَخِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَأَمَّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَلَّدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ ; لِأَنَّ إِيجَابَ الْإِحْرَامِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ الْمِيقَاتَ وَأَرَادَ مُجَاوَزَتَهُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْهَدْيِ أَنْ يَجْمَعَ بِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَلَوِ اشْتَرَاهُ مِنْ مَنًى وَنَحَرَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى الْحِلِّ أَجْزَأَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا هَدْيَ إِلَّا مَا أُحْضِرَ عَرَفَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْهَدْيِ أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَا أَنْ يَقِفَهُ بِعَرَفَةَ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَرَى الْهَدْيَ إِلَّا مَا عُرِّفَ بِهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُذْبَحُ هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ بِمِنًى، إِلَّا إِذَا وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَقِفْ بِهِ بِعَرَفَةَ ذَبَحَهُ فِي مَكَّةَ، وَلَا بُدَّ عِنْدَهُ فِي الْهَدْيِ أَنْ يَجْمَعَ بِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي الْحَرَمِ لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ إِلَى الْحِلِّ وَالرُّجُوعُ بِهِ إِلَى الْحَرَمِ وَذَبْحُهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ جَمْعِ الْهَدْيِ، بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ; لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِذَلِكَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْهَدْيِ نَفْعُ فُقَرَاءِ الْحَرَمِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ مَعَهُ مِنْ بَلَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَشِرَاؤُهُ مِنَ الطَّرِيقِ أَفْضَلُ مِنْ شِرَائِهِ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ أَصْلًا بَلِ اشْتَرَاهُ مِنْ مِنًى جَازَ، وَحَصَلَ الْهَدْيُ اهـ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُهْدِ هَدْيًا إِلَّا جَامِعًا بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ يُسَاقُ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنَ الطَّرِيقِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ أَفْضَلُ، وَلَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. أَمَّا كَوْنُهُ لَا يُجْزِئُ بِدُونِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا دَلِيلَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ شَرْعًا حَاصِلٌ، وَلَوْ لَمْ يَجْمَعِ الْهَدْيُ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ، وَجَمْعُ هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرِ الْجِبِلِّيِّ، فَلَا يَتَمَحَّضُ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ ; لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْهَدْيِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ الَّتِي قَدِمَ بِهَا عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ تَيَسَّرَ لَهُ وَجُودُهَا هُنَاكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ. فَحُصُولُ الْهَدْيِ فِي الْحِلِّ يُشْبِهُ الْوَصْفَ الطَّرْدِيَّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ مَصْلَحَةً كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْمُهْدِيَ إِنِ اضْطُرَّ لِرُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ فِي الطَّرِيقِ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: " ارْكَبْهَا ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا وَيْلَكَ " فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ " هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا " فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ: " ارْكَبْهَا "، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ: " ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ " فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ " وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لَهُ رُكُوبُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُ. وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْكَبُهُ إِلَّا إِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَوْجَبَ رُكُوبَهَا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ وَلِمُخَالَفَةِ مَا كَانَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ مِنْ إِهْمَالِ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا عِنْدِي فِي رُكُوبِ الْهَدْيِ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ: هُوَ أَنَّهُ إِنْ دَعَتْهُ ضَرُورَةٌ لِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّ أَخَصَّ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَصْرَحُهَا فِيهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا ". وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا " اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ رُكُوبَ الْهَدْيِ إِنَّمَا يَجُوزُ بِالْمَعْرُوفِ، إِذَا أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، فَإِنْ زَالَتِ الضَّرُورَةُ بِوُجُودِ ظَهْرٍ يَرْكَبُهُ غَيْرِ الْهَدْيِ تَرَكَ رُكُوبَ الْهَدْيِ، فَهَذَا الْقَيْدُ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ تُقَيَّدُ بِهِ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْقَيْدِ ; لِوُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَا سِيَّمَا إِنِ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا. أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: بِوُجُوبِ رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَهِيَ ظَاهِرَةُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْكَبْ هَدْيَهُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ أَجَازَ الرُّكُوبَ مُطْلَقًا، فَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَيْلَكَ ارْكَبْهَا "، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [22 \ 33] ، عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَلَا تَنْهَضُ بِهِ الْحُجَّةُ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ تَدْعُوهُ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَهُوَ أَخَصُّ نَصٍّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ شُرْبَ مَا فَضَلَ مِنْ لَبَنِهَا، عَنْ وَلَدِهَا لَا بَأْسَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى وَلَدِهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْ رَكِبَهَا الرُّكُوبَ الْمُبَاحَ لِلضَّرُورَةِ وَنَقَصَهَا ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ النَّقْصِ يَتَصَدَّقُ بِهَا. وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنِ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِصَاحِبِ الْبَدَنَةِ " ارْكَبْهَا "، وَهِيَ مُقَلَّدَةٌ نَعْلًا، وَقَدْ صَرَّحَ لَهُ تَصْرِيحًا مُكَرَّرًا بِأَنَّهَا بَدَنَةٌ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَلْ تِلْكَ الْبَدَنَةُ مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا. وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ: وَنَزِّلَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ ... مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ مَسْأَلَةٌ: فِي حُكْمِ الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بَعْدَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الصَّوَابَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ مَنْ بُعِثَ مَعَهُ هَدْيٌ إِلَى الْحَرَمِ فَعَطِبَ فِي الطَّرِيقِ، قَبْلَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ: أَنَّهُ يَنْحَرُهُ ثُمَّ يَصْبُغُ نَعْلَيْهِ فِي دَمِهِ، وَيَضْرِبُ بِالنَّعْلِ الْمَصْبُوغِ بِالدَّمِ صَفْحَةَ سَنَامِهَا ; لِيَعْلَمَ مَنْ مَرَّ بِهَا أَنَّهَا هَدْيٌ وَيُخَلِّي بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا هُوَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ الْمُرَافِقِينَ لَهُ فِي سَفَرِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا لَفْظُهُ: " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسِتَّ عَشْرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فِيهَا، قَالَ: فَمَضَى ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أَبْدَعَ عَلَيٍّ مِنْهَا؟ قَالَ: " انْحَرْهَا، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَيْهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اجْعَلْهُ عَلَى صَفْحَتِهَا، وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ "، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُولُ: " إِنْ عَطِبَ شَيْءٌ مِنْهَا فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا صَفْحَتَهَا وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ "، انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أَبْدَعَ مِنْهَا؟ : هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَإِسْكَانِ الْبَاءِ، وَكَسْرِ الدَّالِ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ كَلَّ وَأَعْيَا حَتَّى وَقَفَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، فَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ. لَا يُلْتَفَتُ مَعَهُ إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ رُفْقَتَهُ لَهُمُ الْأَكْلُ مَعَ جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ الصَّحِيحِ، وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلَّةَ مَنْعِهِ وَمَنْعِ رُفْقَتِهِ: هُوَ سَدُّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَتَوَصَّلُ هُوَ أَوْ بَعْضُ رُفْقَتِهِ إِلَى نَحْرِهِ، بِدَعْوَى أَنَّهُ عَطِبَ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ لَهُ فِي ذَلِكَ لِلطَّمَعِ فِي أَكْلِ لَحْمِهِ ; لِأَنَّهُ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ، وَهُمْ يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ لِلْأَغْنِيَاءِ، بَلْ لِلْفُقَرَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مَعَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 بِهَدْيٍ فَقَالَ: " إِنْ عَطِبَ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ " اهـ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: " وَبَيْنَ النَّاسِ "، يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ سَائِقَ الْهَدْيِ وَرُفْقَتَهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ أَصَحُّ وَأَخَصُّ، وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ أَخْرَجَ السَّائِقَ وَرُفْقَتَهُ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ أَصْحَابِ السُّنَنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ تَفَاصِيلَ فِي حُكْمِ مَا عَطِبَ مِنَ الْهَدْيِ، قَبْلَ نَحْرِهِ بِمَحِلِّ النَّحْرِ، سَنَذْكُرُ أَرْجَحَهَا عِنْدَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ لِلْأَقْوَالِ وَالْحُجَجِ ; لِأَنَّ مَسَائِلَ الْحَجِّ أَطَلْنَا عَلَيْهَا الْكَلَامَ طُولًا يَقْتَضِي الِاخْتِصَارَ فِي بَعْضِهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْهَدْيَ إِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا تَطَوُّعٌ، وَالْوَاجِبُ إِمَّا بِالنَّذْرِ، أَوْ بِغَيْرِهِ، وَالْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ، إِمَّا مُعَيَّنٌ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ بِغَيْرِ النَّذْرِ كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَالدِّمَاءَ الْوَاجِبَةَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ، وَالْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ فِي ذِمَّتِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرٌ أَنْ أَهْدِيَ هَدْيًا، أَنَّ لِجَمِيعِ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ. الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ سَاقَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْهَدْيِ يَنْوِي بِهِ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعِينَهُ بِالْقَوْلِ، كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا الْهَدْيُ سُقْتُهُ أُرِيدُ بِهِ أَدَاءَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ عَلَيَّ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنْ يَسُوقَهُ يَنْوِي بِهِ الْهَدْيَ الْمَذْكُورَ مَعَ تَعْيِينِهِ بِالْقَوْلِ، فَإِنْ نَوَاهُ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ بِالْقَوْلِ ; فَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ فِي ضَمَانِهِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إِلَّا بِذَبْحِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَلِذَا إِنْ عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ مِنْ أَكْلٍ وَبَيْعٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِأَدَاءِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي عَطِبَ ; لِأَنَّهُ عَطِبَ فِي ضَمَانِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَمَلَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَصْدِ دَفْعِهِ إِلَيْهِ، فَتَلِفَ قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُ إِلَيْهِ: فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الدِّينِ بِغَيْرِ التَّالِفِ ; لِأَنَّهُ تَلِفَ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ تَعَيَّبَ الْهَدْيُ الْمَذْكُورُ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ سَلِيمًا وَيَفْعَلُ بِالَّذِي تَعَيَّبَ مَا شَاءَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي مِلْكِهِ، وَضَمَانِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْطَبْ، وَلَمْ يَتَعَيَّبْ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّةِ إِهْدَائِهِ عَنِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ لَا يَنْقُلُ مِلْكَهُ عَنْهُ، وَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ لَازِمٌ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ نَمَاءَهُ. وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا نَوَاهُ وَعَيَّنَهُ بِالْقَوْلِ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا هُوَ الْهَدْيُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 الْوَاجِبُ عَلَيَّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ كَذَلِكَ. فَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْرَأَ الذِّمَّةُ، فَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مَا دَامَ سَلِيمًا، وَإِنْ عَطِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَلَّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَادَ الْوُجُوبُ إِلَى ذِمَّتِهِ. فَيَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ ; لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ أَوْ فَعَلَ بِهِ مَا شَاءَ ; لِأَنَّ الْهَدْيَ لَازِمٌ فِي التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ إِنْ عَطِبَ ذِمَّتَهُ، وَهَذَا الَّذِي عَطِبَ صَارَ كَأَنَّهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ لَا حَقَّ فِيهِ لِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ حَقَّهُمْ بَاقٍ فِي الذِّمَّةِ، فَلَهُ بَيْعُهُ وَأَكْلُهُ، وَكُلُّ مَا شَاءَ. وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ مَالِكٍ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلَا يَبِيعُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَذَبَحَهُ وَسُرِقَ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحْمَدَ. قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوصِلِ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَذْبَحْهُ. وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ كَمَا لَوْ فَرَّقَهُ. وَدَلِيلُ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّفْرِقَةُ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَلَّى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ. وَلِذَلِكَ لَمَّا نَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَاتِ قَالَ: " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ ". انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ " الْمُغْنِي ". وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِذَبْحِهِ: حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ إِنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ، لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ ذَبْحِهِ وَبَيْنَ بَقَائِهِ حَيًّا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [22 \ 28] ، وَيَقُولُ: وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [22 \ 36] ، وَالْآيَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى لُزُومِ التَّفْرِقَةِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ يَقْتَسِمُونَهُ تَفْرِقَةٌ ضِمْنِيَّةٌ ; لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُتَيَسِّرٌ لَهُمْ كَإِعْطَائِهِمْ إِيَّاهُ بِالْفِعْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْهَدْيَ الْمَذْكُورَ إِنْ تَعَيَّبَ فِي الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ نَحْرُهُ، وَنَحْرُ هَدْيٍ آخَرَ غَيْرِ مَعِيبٍ لَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ، إِذْ لَا مُوجِبَ لِتَعَدُّدِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا وَاحِدٌ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ إِلَى اللَّهِ لَا يَحْسُنُ انْتِفَاعُهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ. وَأَمَّا الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، كَأَنْ يَقُولَ: نَذَرْتُ لِلَّهِ إِهْدَاءَ هَذَا الْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَلَا يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ عَطِبَ أَوْ سُرِقَ: لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ ; لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إِذًا تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، لَا بِذِمَّةِ الْمُهْدِي. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، سَوَاءً عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بَلَغَ مَحِلَّهُ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا: رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ مَا عَطِبَ بِالطَّرِيقِ مِنَ الْهَدْيِ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ سَلِيمًا فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ الْأَكْلَ مِنْهُ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ سَلِيمًا، وَقِيلَ: يُلْزَمُ الَّذِي عَطِبَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 وَالسَّلِيمَ مَعًا لِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ، وَأَنَّ مَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ فِيهِ بِعَيْنِ الْهَدْيِ كَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ لِلْمَسَاكِينِ، لَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ، وَلَا الْأَكْلُ مِنْهُ إِذَا عَطِبَ وَلَا بَعْدَ نَحْرِهِ، إِنْ بَلَغَ مَحِلَّهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ هَدْيٍ جَازَ الْأَكْلُ مِنْهُ لِلْمُهْدِي لَهُ، أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَكُلَّ هَدْيٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ إِطْعَامُهُ إِلَّا لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمْ إِطْعَامُ الذِّمِّيِّينَ مِنْهُ. وَسَتَأْتِي تَفَاصِيلُ مَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ: فَكُلُوا مِنْهَا الْآيَةَ [22 \ 28] . وَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ أُلْقِيَتْ قَلَائِدُهُ فِي دَمِهِ، وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ سَائِقٌ مُرْسَلٌ مَعَهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ ; لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ: فَهُوَ أَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَلَهُ ذَبْحُهُ، وَأَكْلُهُ، وَبَيْعُهُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ وَلَوْ قَلَّدَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلَّا نِيَّةُ ذَبْحِهِ وَالنِّيَّةُ لَا تُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهُ، حَتَّى يَذْبَحَهُ بِمَحِلِّهِ، فَلَوْ عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ فَلِمُهْدِيهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَأَكْلٍ وَإِطْعَامٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي مِلْكِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ إِذَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُهْدِيهِ الْأَكْلُ مِنْهُ وَلَا لِغَنِيٍّ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ الْفُقَرَاءُ. وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ إِذَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ، لَا يَجُوزُ لِمُهْدِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ: هُوَ أَنَّ الْإِذْنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ، جَاءَ النَّصُّ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، أَمَّا قَبْلَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ فَلَمْ يَأْتِ الْإِذْنُ بِأَكْلِهِ، وَوَجْهُ خُصُوصِ الْفُقَرَاءِ بِهِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ صَدَقَةً ; لِأَنَّ كَوْنَهُ صَدَقَةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُتْرَكَ لِلسِّبَاعِ تَأْكُلُهُ. هَكَذَا قَالُوا: وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ إِذَا عَيَّنَ هَدْيًا بِالْقَوْلِ، أَوِ التَّقْلِيدِ، وَالْإِشْعَارِ ثُمَّ ضَلَّ ثُمَّ نَحَرَ هَدْيًا آخَرَ مَكَانَهُ، ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانَ ضَالًّا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ صَارَ هَدْيًا لِلْفُقَرَاءِ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّهُ لِمِلْكِهِ، مَعَ وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ عَيَّنَ بَدَلًا مِنْهُ، ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّ، فَإِنَّهُ يَنْحَرُهُمَا مَعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَفَعَلَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِنَا فِيمَا إِذَا تَعَيَّبَ الْهَدْيَ، فَأَبْدَلَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ مَا شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا ; لِأَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ عَطِبَ الْمُعَيَّنُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّهَا أَهْدَتْ هَدْيَيْنِ، فَأَضَلَّتْهُمَا، فَبَعَثَ إِلَيْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ هَدْيَيْنِ فَنَحَرَتْهُمَا، ثُمَّ عَادَ الضَّالَّانِ فَنَحَرَتْهُمَا، وَقَالَتْ: هَذِهِ سُنَّةُ الْهَدْيِ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ اللَّهِ بِهِمَا بِإِيجَابِهِمَا، أَوْ ذَبْحِ أَحَدِهِمَا وَإِيجَابِ الْآخَرِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْمُغْنِي» . وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ. وَالْأَحْوَطُ: ذَبْحُ الْجَمِيعِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْهَدْيَ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِالنَّذْرِ مِنَ الْأَصْلِ، بِأَنْ قَالَ: نَذَرْتُ إِهْدَاءَ هَذَا الْهَدْيِ بِعَيْنِهِ أَوْ مُعَيَّنًا تَطَوُّعًا، إِذَا رَآهُ صَاحِبُهُ فِي حَالَةٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ سَيَمُوتُ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ ذَكَاتُهُ، وَإِنْ فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى مَاتَ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ; لِأَنَّهُ كَالْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ. أَمَّا لَوْ مَاتَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، أَوْ ضَلَّ أَوْ سُرِقَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلٌ عَنْهُ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْحَقُّ بِذِمَّتِهِ بَلْ بِعَيْنِ الْهَدْيِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: إِنْ لَزِمَهُ بَدَلُهُ بِتَفْرِيطِهِ أَنَّهُ يَشْتَرِي هَدْيًا مِثْلَهُ، وَيَنْحَرُهُ بِالْحَرَمِ بَدَلًا عَنِ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ، وَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، فَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا نَصَّ فِي ذَلِكَ وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا هُنَا مِنْ أَحْكَامِ الْهَدْيِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَفْصِيلُ مَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْهَدَايَا. تَنْبِيهٌ قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ نَحْرَ الْهَدْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَالتَّقْصِيرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَاجَّ مُفْرِدًا كَانَ أَوْ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا إِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَنَحَرَ مَا مَعَهُ مِنَ الْهَدْيِ: فَعَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ وَأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ: «وَالْمُقَصِّرِينَ» فِي الرَّابِعَةِ، أَوِ الثَّالِثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. فَدَلَّ دُعَاؤُهُ لِلْمُحَلِّقِينَ بِالرَّحْمَةِ مِرَارًا: عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ فَاعِلُهُ دُعَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَدَلَّ تَأْخِيرُ الدُّعَاءِ لِلْمُقَصِّرِينَ إِلَى الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ أَنَّ التَّقْصِيرَ مَفْضُولٌ، وَأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَالتَّقْصِيرُ مَعَ كَوْنِهِ مَفْضُولًا: يُجْزِئُ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [48 \ 27] ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا: التَّقْصِيرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «حَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ» ، وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ وَحَدِيثَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: «وَالْمُقَصِّرِينَ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ مُجْزِئٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَكْفِي فِي الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: يَكْفِي فِيهِمَا حَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا أَوْ تَقْصِيرُهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَلْقٌ أَوْ تَقْصِيرٌ ; لِأَنَّ الثَّلَاثَ جَمْعٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكْفِي حَلْقُ رُبُعِ الرَّأْسِ، أَوْ تَقْصِيرُ رُبُعِهِ بِقَدْرِ الْأُنْمُلَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُمَا: يَجِبُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، أَوْ تَقْصِيرُ جَمِيعِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي التَّقْصِيرِ تَتَبُّعُ كُلِّ شَعْرَةٍ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَكْفِيهِ قَدْرُ الْأُنْمُلَةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: يُقَصِّرُهُ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ أُصُولِ الشِّعْرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، أَوْ تَقْصِيرُ جَمِيعِهِ، وَلَا يَلْزَمُ تَتَبُّعُ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي التَّقْصِيرِ ; لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً كَبِيرَةً، بَلْ يَكْفِي تَقْصِيرُ جَمِيعِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ مَجْمُوعَةً أَوْ مُفَرَّقَةً، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي الرُّبُعُ، وَلَا ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 بَعْضَ رُءُوسِكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أَيْ: رُءُوسَكُمْ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَظَاهَرُهُ حَلْقُ الْجَمِيعِ أَوْ تَقْصِيرُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» . فَمَنْ حَلَقَ الْجَمِيعَ أَوْ قَصَّرَهُ تَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ أَوْ عَلَى رُبُعِ الرَّأْسِ، لَمْ يَدَعْ مَا يَرِيبُهُ، إِذْ لَا دَلِيلَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَّقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَأَعْطَى شَعْرَ رَأْسِهِ لِأَبِي طَلْحَةَ لِيُفَرِّقَهُ عَلَى النَّاسِ. وَفِعْلُهُ فِي الْحَلْقِ بَيَانٌ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَلْقِ كَقَوْلِهِ: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا كَانَ بَيَانًا لِنَصٍّ مُجْمَلٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ حُكْمٍ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمُبَيِّنَ لِذَلِكَ النَّصِّ وَاجِبٌ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. تَنْبِيهٌ آخَرُ اعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِ الْحَلْقِ أَفْضَلَ مِنَ التَّقْصِيرِ، إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً. أَمَّا النِّسَاءُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ حَلْقٌ وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ. وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا: وُجُوبُ تَقْصِيرِ الْمَرْأَةِ جَمِيعَ رَأْسِهَا وَيَكْفِيهَا قَدْرُ الْأُنْمُلَةِ ; لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَقْصِيرٌ مِنْ غَيْرِ مُنَافَاةٍ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ شَعْرَ الْمَرْأَةِ مِنْ جَمَالِهَا، وَحَلْقَهُ مُثْلَةٌ وَتَقْصِيرُهُ جِدًّا إِلَى قُرْبِ أُصُولِ الشِّعْرِ نَقْصٌ فِي جَمَالِهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النِّسَاءَ لَا حَلْقَ عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَتَكِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» . حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيُّ ثِقَةٌ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» ، فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 حَسَنٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «نَصْبِ الرَّايَةِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ: قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: هَذَا ضَعِيفٌ وَمُنْقَطِعٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَانْقِطَاعُهُ مِنْ جِهَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ صَفِيَّةَ، فَلَمْ يُعْلَمْ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ ثِقَةٌ، يُكْنَى أَبَا يَعْقُوبَ، وَهَذَا غَيْرُ كَافٍ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبِي إِسْرَائِيلَ، فَذَاكَ رَجُلٌ تَرَكَهُ النَّاسُ لِسُوءِ رَأْيِهِ. وَأَمَّا ضَعْفُهُ: فَإِنَّ أُمَّ عُثْمَانَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ لَا يُعْرَفُ حَالُهَا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «نَصْبِ الرَّايَةِ» لِلزَّيْلَعِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ: فِي أَنَّ عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرَ لَا الْحَلْقَ، أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْحَسَنُ. فَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَصْوَبُ مِمَّا نَقَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ ضَعِيفٌ وَمُنْقَطِعٌ، فَقَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ: وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَإِنَّ أُمَّ عُثْمَانَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ لَا يُعْرَفُ حَالُهَا فِيهِ قُصُورٌ ظَاهِرٌ جِدًّا ; لِأَنَّ أُمَّ عُثْمَانَ الْمَذْكُورَةَ مِنَ الصَّحَابِيَّاتِ الْمُبَايِعَاتِ، وَقَدْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَدَعْوَى أَنَّهَا لَا يُعْرَفُ حَالُهَا ظَاهِرَةُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ: أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ سُفْيَانَ الْقُرَشِيَّةُ الشَّيْبِيَّةُ الْعَبْدَرِيَّةُ، أُمُّ بَنِي شَيْبَةَ الْأَكَابِرِ، كَانَتْ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ. رَوَتْ عَنْهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسَافِعٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْهَا. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْإِصَابَةِ» : أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ سُفْيَانَ، وَالِدَةُ بَنِي شَيْبَةَ الْأَكَابِرِ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ. قَالَهُ أَبُو عُمَرَ إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثًا رَوَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْإِصَابَةِ» ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ: حَدِيثًا أَخْرَجَهُ، وَفِيهِ أَنَّ أُمَّ عُثْمَانَ بِنْتَ سُفْيَانَ هِيَ أُمُّ بَنِي شَيْبَةَ الْأَكَابِرِ، وَقَدْ بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» : أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ سُفْيَانَ. وَيُقَالُ: بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ: هِيَ أُمُّ وَلَدِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ. رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَتْ عَنْهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلُّهُمْ عُدُولٌ بِتَزْكِيَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَهُمْ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 هَذَا الْمَوْضِعِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَطَّانِ: إِنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُهَا قُصُورٌ مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا تَرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ تَوْثِيقَ أَبِي دَاوُدَ لِأَبِي يَعْقُوبَ غَيْرُ كَافٍ، وَأَنَّ أَبَا يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَ، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَذَاكَ رَجُلٌ تَرَكَهُ النَّاسُ لِسُوءِ رَأْيِهِ. فَجَوَابُهُ أَنَّ أَبَا يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاسْمُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ وَثَّقَهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ. وَقَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي «الْمِيزَانِ» : حَافِظٌ شَهِيرٌ. قَالَ: وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَالَ صَالِحُ جَزَرَةُ صَدُوقٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا يَقُولُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، بَلْ يَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ. وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: قَالَ عَبْدُوسٌ النَّيْسَابُورِيُّ: كَانَ حَافِظًا جِدًّا لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ أَحَدٌ فِي الْحِفْظِ وَالْوَرَعِ وَاتُّهِمَ بِالْوَقْفِ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ ثِقَاتِ الْمُسْلِمِينَ، مَا كَتَبَ حَدِيثًا قَطُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا مَا خَطَّهُ هُوَ فِي أَلْوَاحِهِ أَوْ كِتَابِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: ثِقَةٌ مَأْمُونٌ أَثْبَتُ مِنَ الْقَوَارِيرِيِّ وَأَكْيَسُ، وَالْقَوَارِيرِيُّ ثِقَةٌ صَدُوقٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ إِسْحَاقَ، وَذَكَرَ غَيْرَ هَذَا مِنْ ثَنَاءِ ابْنِ مَعِينٍ عَلَيْهِ، وَتَفْضِيلِهِ عَلَى بَعْضِ الثِّقَاتِ الْمَعْرُوفِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثِقَةٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْعَقْلِ، وَثَنَاءُ أَئِمَّةِ الرِّجَالِ عَلَيْهِ فِي الْحِفْظِ، وَالْعَدَالَةِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ وَإِنَّمَا نَقَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَيَسْكُتُ عِنْدَهَا وَلَا يَقُولُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمِنْ هُنَا جَعَلُوهُ وَاقِفِيًّا، وَتَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِهِ، كَمَا قَالَ فِيهِ صَالِحُ جَزَرَةُ: صَدُوقٌ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَيَقِفُ. وَقَالَ السَّاجِيُّ: تَرَكُوهُ لِمَوْضِعِ الْوَقْفِ، وَكَانَ صَدُوقًا. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ وَاقِفِيٌّ مَشْئُومٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ حَدِيثٍ كَيِّسًا. وَقَالَ السَّرَّاجُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانُ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، أَلَا قَالُوا كَلَامُ اللَّهِ وَسَكَتُوا. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فَقَالَ: ثِقَةٌ. قَالَ عُثْمَانُ: لَمْ يَكُنْ أَظْهَرَ الْوَقْفَ حِينَ سَأَلْتُ يَحْيَى عَنْهُ وَيَوْمَ كَتَبْنَا عَنْهُ كَانَ مَسْتُورًا، وَقَالَ عَبْدُوسٌ النَّيْسَابُورِيُّ: كَانَ حَافِظًا جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْحِفْظِ وَالْوَرَعِ، وَكَانَ لَقِيَ الْمَشَايِخَ فَقِيلَ: كَانَ يُتَّهَمُ بِالْوَقْفِ قَالَ: نَعَمِ اتُّهِمَ وَلَيْسَ بِمُتَّهَمٍ. وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: نَاظَرْتُهُ فَقَالَ: لَمْ أَقُلْ عَلَى الشَّكِّ، وَلَكِنِّي أَسْكُتُ كَمَا سَكَتَ الْقَوْمُ قَبْلِي. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ثِقَتِهِ، وَأَمَانَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 يَتَّهِمُونَهُ بِالْوَقْفِ، وَقَدْ رَأَيْتُ قَوْلَ مَنْ نَفَى عَنْهُ التُّهْمَةَ، وَقَوْلَ مَنْ نَاظَرَهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَمْ أَقُلْ عَلَى الشَّكِّ. وَلَكِنِّي سَكَتُّ كَمَا سَكَتَ الْقَوْمُ قَبْلِي، وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَدِي بِمَنْ لَمْ يَخُضْ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا حَكَى الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ قَوْلَ السَّاجِيِّ: إِنَّهُمْ تَرَكُوا الْأَخْذَ عَنْهُ لِمَكَانِ الْوَقْفِ، قَالَ بَعْدَهُ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: قَلَّ مَنْ تَرَكَ الْأَخْذَ عَنْهُ اهـ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى قَبُولِهِ، فَحَدِيثُهُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي وَثَّقَهُ تَعْتَضِدُ بِالرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا، وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ فِيهَا: «بَلَغَنِي عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ» تُفَسِّرُهُ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ مَنْ بَلَّغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ. فَإِنْ قِيلَ: ابْنُ جُرَيْجٍ رَوَى عَنْهُ بِالْعَنْعَنَةِ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَالرِّوَايَةُ بِالْعَنْعَنَةِ لَا تُقْبَلُ مِنَ الْمُدَلِّسِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْرِيحِهِ، بِمَا يَدُلُّ عَلَى السَّمَاعِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ هُوَ الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ، وَمَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مُوَضَّحًا مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مَعَ اعْتِضَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْأُخْرَى وَاعْتِضَادِهَا بِغَيْرِهَا. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي «نَصْبِ الرَّايَةِ» : بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ الْقَطَّانِ فِي تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي تَقْصِيرِ النِّسَاءِ، وَعَدَمِ حَلْقِهِنَّ الَّذِي نَاقَشْنَا تَضْعِيفَهُ لَهُ كَمَا رَأَيْتُ مَا نَصُّهُ: وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِهِ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي الْمُحْرِمَةِ: تَأْخُذُ مِنْ شِعْرِهَا قَدْرَ السَّبَّابَةِ. انْتَهَى، وَلَيْثٌ هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى مِنْ «نَصْبِ الرَّايَةِ» . فَتَبَيَّنَ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّ عَلَى النِّسَاءِ الْمُحْرِمَاتِ إِذَا أَرَدْنَ قَضَاءَ التَّفَثِ التَّقْصِيرَ، لَا الْحَلْقَ أَنَّهُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، كَمَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ اعْتِضَادَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَابِعَةِ لَهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 الزَّيْلَعِيِّ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْبَزَّارِ وَيَعْتَضِدُ عَدَمُ حَلْقِ النِّسَاءِ رُءُوسَهُنَّ بِخَمْسَةِ أُمُورٍ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. الْأَوَّلُ: الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ حَلْقِهِنَّ فِي الْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ الْحَلْقُ يَجُوزُ لَهُنَّ لِشُرِعَ فِي الْحَجِّ. الثَّانِي: أَحَادِيثُ جَاءَتْ بِنَهْيِ النِّسَاءِ عَنِ الْحَلْقِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِنَا، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالرِّجَالِ، وَهُوَ حَرَامٌ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُثْلَةٌ وَالْمُثْلَةُ لَا تَجُوزُ. أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَلَّا حَلْقَ عَلَى النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ، وَيُكْرَهُ لَهُنَّ الْحَلْقُ ; لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي حَقِّهِنَّ، وَفِيهِ مُثْلَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا تُقَصِّرُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: تُقَصِّرُ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ مِثْلَ الْأُنْمُلَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُقَصِّرُ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ، وَقَالَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ: إِنْ كَانَتْ عَجُوزًا مِنَ الْقَوَاعِدِ أَخَذَتْ نَحْوَ الرُّبُعِ، وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً فَلْتُقَلِّلْ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَأْخُذُ مِنْ جَمِيعِ قُرُونِهَا أَقَلَّ جُزْءٍ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ بَعْضِ الْقُرُونِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَتَرَاهُ نَقَلَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ: لَا حَلْقَ عَلَيْهِنَّ فِي الْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ الْحَلْقُ يَجُوزُ لَهُنَّ لَأُمِرْنَ بِهِ فِي الْحَجِّ ; لِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ فَسَأَنْقُلُهَا بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الزَّيْلَعِيِّ، فِي «نَصْبِ الرَّايَةِ» ; لِأَنَّهُ جَمَعَهَا فِيهِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ قَالَ: فَنَهْيُ النِّسَاءِ عَنِ الْحَلْقِ فِيهِ أَحَادِيثُ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَجِّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الزِّينَةِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» ، انْتَهَى. ثُمَّ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ بِهِ، عَنْ خِلَاسٍ عَنِ النَّبِيِّ مُرْسَلًا، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا انْتَهَى، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: هَذَا حَدِيثٌ يَرْوِيهِ هَمَّامُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ، وَخَالَفَهُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فَرَوَيَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مُرْسَلًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُعَلَّى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيِّ: ثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» ، انْتَهَى. قَالَ الْبَزَّارُ: وَمُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيُّ رَوَى عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَحَادِيثَ، لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَقَالَ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: إِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ «الضُّعَفَاءِ» : يَرْوِي عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَقْلُوبَاتِ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، إِذَا تَفَرَّدَ حَدِيثٌ آخَرُ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا رَوْحُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، ثَنَا أَبِي، عَنْ وَهْبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» انْتَهَى. قَالَ الْبَزَّارُ: وَوَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ لَا نَعْلَمُهُ رَوَى غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ إِلَّا عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، وَرَوْحٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّيْلَعِيِّ فِي «نَصْبِ الرَّايَةِ» . وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنْ حَلْقِ رَأْسِهَا، عَنْ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ: يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا تَعْتَضِدُ بِمَا تَقَدَّمَ، وَبِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا كَوْنُ حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ نِسَاءِ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَهُوَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، لَا يَكَادُ يُخَالِفُ فِيهِ إِلَّا مُكَابِرٌ، فَالْقَائِلُ: بِجَوَازِ الْحَلْقِ لِلْمَرْأَةِ قَائِلٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ، فَالْحَدِيثُ يَشْمَلُ عُمُومُهُ الْحَلْقَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمَةِ بِلَا شَكٍّ، وَإِذَا لَمْ يُبَحْ لَهَا حَلْقُهُ فِي حَالِ النُّسُكِ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْأَحْوَالِ أَوْلَى، وَأَمَّا كَوْنُ حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا تَشَبُّهًا بِالرِّجَالِ، فَهُوَ وَاضِحٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَالِقَةَ رَأْسَهَا مُتَشَبِّهَةٌ بِالرِّجَالِ ; لِأَنَّ الْحَلْقَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ دُونَ الْإِنَاثِ عَادَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي لَعْنِ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَأَمَّا كَوْنُ حَلْقِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ مُثْلَةً، فَوَاضِحٌ ; لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهَا مِنْ أَحْسَنِ أَنْوَاعِ جَمَالِهَا وَحَلْقُهُ تَقْبِيحٌ لَهَا وَتَشْوِيهٌ لِخِلْقَتِهَا، كَمَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ السَّلِيمُ، وَعَامَّةُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مَحَاسِنَ النِّسَاءِ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَكَلَامِهِمْ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَرْأَةِ الْأَسْوَدَ مِنْ أَحْسَنِ زِينَتِهَا لَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِهِمْ وَهُوَ فِي أَشْعَارِهِمْ مُسْتَفِيضٌ اسْتِفَاضَةً يَعْلَمُهَا كُلُّ مِنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٍ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا مِنْهُ أَمْثِلَةً قَلِيلَةً تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 وَفَرْعٍ يَزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ ... أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَى ... تَضِلُّ الْمَدَارِي فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ فَتَرَاهُ جَعَلَ كَثْرَةَ شَعْرِ رَأْسِهَا وَسَوَادَهُ وَطُولَهُ مِنْ مَحَاسِنِهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ: غِرَاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُهَا ... تَمْشِي الْهُوَيْنَا كَمَا يَمْشِي الْوَجِي الْوَحِلُ فَقَوْلُهُ: فَرْعَاءُ يَعْنِي أَنَّ فَرْعَهَا أَيْ شَعْرَ رَأْسِهَا تَامٌّ فِي الطُّولِ وَالسَّوَادِ وَالْحُسْنِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: تَقُولُ يَا أُمَّتَا كُفِّي جَوَانِبَهُ ... وَيْلِي بَلِيتُ وَأَبْلَى جِيدِيَ الشَّعْرُ مِثْلُ الْأَسَاوِدِ قَدْ أَعْيَا مَوَاشِطَهُ ... تَضِلُّ فِيهِ مَدَارِيهَا وَتَنْكَسِرُ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَثْرَةُ الشَّعْرِ وَسَوَادُهُ مِنَ الْجَمَالِ عِنْدَهُمْ، لَمَا تَعِبُوا فِي خِدْمَتِهِ هَذَا التَّعَبَ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الشَّاعِرُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَفَرْعٌ يَصِيرُ الْجِيدَ وَحْفٌ كَأَنَّهُ ... عَلَى اللَّيْثِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُصِيرُ الْجِيدَ أَيْ يُمِيلُ الْعُنُقَ لِكَثْرَتِهِ، وَقَدْ بَالَغَ مَنْ قَالَ: بَيْضَاءُ تَسْحَبُ مِنْ قِيَامٍ فَرْعَهَا وَتَغِيبُ فِيهِ وَهُوَ وَجْفٌ أَسْحَمُ فَكَأَنَّهَا فِيهِ نَهَارٌ سَاطِعٌ وَكَأَنَّهُ لَيْلٌ عَلَيْهَا مُظْلِمُ وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ، وَقَصَدْنَا مُطْلَقَ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْمَرْأَةِ شَعْرَ رَأْسِهَا نَقْصٌ فِي جَمَالِهَا، وَتَشْوِيهٌ لَهَا، فَهُوَ مُثْلَةٌ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْعُرْفَ الَّذِي صَارَ جَارِيًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، بِقَطْعِ الْمَرْأَةِ شَعْرَ رَأْسِهَا إِلَى قُرْبِ أُصُولِهِ سُنَّةٌ أَفِرِنْجِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَاءُ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الِانْحِرَافَاتِ الَّتِي عَمَّتِ الْبَلْوَى بِهَا فِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَالسَّمْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ عَنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا، وَتَقْصِيرِهَا إِيَّاهُ، فَمَا دَلَّ عَلَى الْحَلْقِ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْخَامِسِ، مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ: ثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ أَبَا فَزَارَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَبَنَى بِهَا وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ، فَدَفَنَهَا فِي الظُّلَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا، فَنَزَلْنَا قَبْرَهَا أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا وَضَعْنَاهَا فِي اللَّحْدِ مَالَ رَأْسُهَا فَأَخَذْتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 رِدَائِي فَوَضَعْتُهُ تَحْتَ رَأْسِهَا فَاجْتَذَبَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَلْقَاهُ وَكَانَتْ قَدْ حَلَقَتْ رَأْسَهَا فِي الْحَجِّ فَكَانَ رَأْسُهَا مُحْجَمًا» . انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ «نَصْبِ الرَّايَةِ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَيْمُونَةَ حَلَقَتْ رَأْسَهَا، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا فَعَلَتْهُ، وَأَمَّا التَّقْصِيرُ فَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعِ، فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجَنَابَةِ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرَ الصَّاعِ، فَاغْتَسَلَتْ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ، وَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا. قَالَ: وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ. اهـ مِنْ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» . فَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ أَنَّ فِيهِ أَنَّ رَأْسَهَا كَانَ مُحْجَمًا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ الْمَذْكُورَ لِضَرُورَةِ الْمَرَضِ، لِتَتَمَكَّنَ آلَةُ الْحَجْمِ مِنَ الرَّأْسِ، وَالضَّرُورَةُ يُبَاحُ لَهَا مَا لَا يُبَاحُ بِدُونِهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [6 \ 119] . وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ فَعَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْوَفْرَةَ أَطْوَلُ مِنَ اللِّمَّةِ الَّتِي هِيَ مَا أَلَمَّ بِالْمَنْكِبَيْنِ مِنَ الشِّعْرِ، فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ مَا نَزَلَ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ طَوِيلٌ طُولًا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : وَالْوَفْرَةُ أَشْبَعُ، وَأَكْثَرُ مِنَ اللِّمَّةِ. وَاللِّمَّةُ مَا يُلِمُّ بِالْمَنْكِبَيْنِ مِنَ الشَّعْرِ. قَالَهُ: الْأَصْمَعِيُّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ النَّوَوِيِّ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مِنْ أَنَّهَا لَا تُجَاوِزُ الْأُذُنَيْنِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْوَفْرَةُ: الشَّعْرُ الْمُجْتَمِعُ عَلَى الرَّأْسِ، أَوْ مَا سَالَ عَلَى الْأُذُنَيْنِ مِنْهُ أَوْ مَا جَاوَزَ شَحْمَةَ الْأُذُنِ، ثُمَّ الْجُمَّةُ، ثُمَّ اللِّمَّةُ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صَحَّاحِهِ: وَالْوَفْرَةُ: الشَّعْرُ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، ثُمَّ الْجُمَّةُ ثُمَّ اللِّمَّةُ: وَهِيَ الَّتِي أَلَمَّتْ بِالْمَنْكِبَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي «اللِّسَانِ» : وَالْوَفْرَةُ: الشَّعْرُ الْمُجْتَمِعُ عَلَى الرَّأْسِ، وَقِيلَ: مَا سَالَ عَلَى الْأُذُنَيْنِ مِنَ الشَّعْرِ. وَالْجَمْعُ وِفَارٌ. قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: كَأَنَّ وِفَارَ الْقَوْمِ تَحْتَ رِحَالِهَا إِذَا حُسِرَتْ عَنْهَا الْعَمَائِمُ عُنْصُلُ وَقِيلَ: الْوَفْرَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْجُمَّةِ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا غَلَطٌ إِنَّمَا هِيَ وَفْرَةٌ، ثُمَّ جُمَّةٌ، ثُمَّ لِمَّةٌ، وَالْوَفْرَةُ: مَا جَاوَزَ شَحْمَةَ الْأُذُنَيْنِ، وَاللِّمَّةُ: مَا أَلَمَّ بِالْمَنْكِبَيْنِ. التَّهْذِيبَ، وَالْوَفْرَةُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 الْجُمَّةُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا بَلَغَتِ الْأُذُنَيْنِ، وَقِيلَ: الْوَفْرَةُ الشَّعْرَةُ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، ثُمَّ الْجُمَّةُ، ثُمَّ اللِّمَّةُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْوَفْرَةُ شَعْرُ الرَّأْسِ، إِذَا وَصَلَ شَحْمَةَ الْأُذُنِ. انْتَهَى مِنَ «اللِّسَانِ» . فَالْجَوَابُ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا قَصَّرْنَ رُءُوسَهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَتَجَمَّلْنَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَمِنْ أَجْمَلِ زِينَتِهِنَّ شَعْرُهُنَّ. أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَهُنَّ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِنَّ لَا تُشَارِكُهُنَّ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَاءِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ أَمَلِهِنَّ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا مِنَ التَّزْوِيجِ، وَيَأْسُهُنَّ مِنْهُ الْيَأْسَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِطَهُ طَمَعٌ، فَهُنَّ كَالْمُعْتَدَّاتِ الْمَحْبُوسَاتِ بِسَبَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَوْتِ. قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [33 \ 53] ، وَالْيَأْسُ مِنَ الرِّجَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّرْخِيصِ فِي الْإِخْلَالِ بِأَشْيَاءَ مِنَ الزِّينَةِ، لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ نِسَاءَ الْعَرَبِ إِنَّمَا كُنَّ يَتَّخِذْنَ الْقُرُونَ، وَالذَّوَائِبَ، وَلَعَلَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلْنَ هَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَرْكِهِنَّ التَّزَيُّنَ، وَاسْتِغْنَائِهِنَّ عَنْ تَطْوِيلِ الشِّعْرِ وَتَخْفِيفًا لِمُؤْنَةِ رُءُوسِهِنَّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ كَوْنِهِنَّ فَعَلْنَهُ، بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا فِي حَيَاتِهِ. كَذَا قَالَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ وَلَا يُظَنُّ بِهِنَّ فِعْلُهُ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَخْفِيفِ الشُّعُورِ لِلنِّسَاءِ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَخْفِيفِ الشُّعُورِ لِلنِّسَاءِ، فِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَاسُ عَلَيْهِنَّ غَيْرُهُنَّ ; لِأَنَّ قَطْعَ طَمَعِهِنَّ فِي الرِّجَالِ بِالْكُلِّيَّةِ خَاصٌّ بِهِنَّ دُونَ غَيْرِهِنَّ، وَهُوَ قَدْ يُبَاحُ لَهُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الزِّينَةِ مَا لَا يُبَاحُ لِغَيْرِهِ حَتَّى إِنَّ الْعَجُوزَ مِنْ غَيْرِهِنَّ لَتُزَيَّنُ لِلْخُطَّابِ، وَرُبَّمَا تَزَوَّجَتْ ; لِأَنَّ كُلَّ سَاقِطَةٍ لَهَا لَاقِطَةٌ. وَقَدْ يُحِبُّ بَعْضُهُمُ الْعَجُوزَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: أَبَى الْقَلْبُ إِلَّا أُمَّ عَمْرٍو وَحُبَّهَا عَجُوزًا وَمَنْ يُحْبِبْ عَجُوزًا يُفَنَّدِ كَثَوْبِ الْيَمَانِي قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ وَرُقْعَتُهُ مَا شِئْتَ فِي الْعَيْنِ وَالْيَدِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَوْ أَصْبَحَتْ لَيْلَى تَدِبُّ عَلَى الْعَصَا لَكَانَ هَوَى لَيْلَى جَدِيدًا أَوَائِلُهْ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (مِنْهَا) . رَاجِعٌ إِلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [22 \ 28] ، وَهَذَا الْأَكْلُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هُنَا مِنْهَا وَإِطْعَامُ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ مِنْهَا، أُمِرَ بِنَحْوِهِ فِي خُصُوصِ الْبُدْنِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ الْآيَةَ [22 \ 36] ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى: الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنْ جَمِيعِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الصَّادِقُ بِالْبُدْنِ، وَبِغَيْرِهَا، وَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ أَنَّ الْبُدْنَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الْأُولَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ عَامٌّ، ثُمَّ يَرِدَ نَصٌّ آخَرُ يُصَرِّحُ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي عُمُومِهِ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ. وَفِي الْآيَةِ الْعَامَّةِ هُنَا أَمْرٌ بِالْأَكْلِ، وَإِطْعَامِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَفِي الْآيَةِ الْخَاصَّةِ بِالْبُدْنِ: أَمْرٌ بِالْأَكْلِ، وَإِطْعَامِ الْقَانِعِ وَالْمُعْتَرِّ. وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ مَبْحَثَانِ. الْأَوَّلُ: حُكْمُ الْأَكْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَتَيْنِ، هَلْ هُوَ الْوُجُوبُ لِظَاهِرِ صِيغَةِ الْأَمْرِ، أَوِ النَّدْبُ وَالِاسْتِحْبَابُ؟ الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِيمَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ لِصَاحِبِهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَذَاهِبُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ فِي الْآيَتَيْنِ: لِلِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّدْبِ، لَا لِلْوُجُوبِ، وَالْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ عَنِ الْوُجُوبِ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ: هِيَ مَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ هَدَايَاهُمْ فَرُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: فَكُلُوا إِنْ شِئْتُمْ وَلَا تُحَرِّمُوا الْأَكْلَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْأَكْلِ غَرِيبٌ، وَعَزَا لِلْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَكُلُوا مِنْهَا: أَمَرٌ مَعْنَاهُ: النَّدْبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ، أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِهِ وَأُضْحِيَّتِهِ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْأَكْثَرِ مَعَ تَجْوِيزِهِمُ الصَّدَقَةَ بِالْكُلِّ، وَأَكْلَ الْكُلِّ وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ، فَأَوْجَبَتِ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَكَلُّوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا» ، قَالَ الْكِيَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهِ، وَلَا التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَ جَمِيعِهِ لَا وَجْهَ لِحِلِّيَّتِهِ، بَلْ وَلَا بَيْعَ بَعْضِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا: وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ مِنَ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَكُلُوا مِنْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ دَلَّا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ: تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنِ الْوُجُوبِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] . وَأَوْضَحْنَا جَمِيعَ أَدِلَّةِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، مِنْهَا آيَةُ «الْحَجِّ» الَّتِي ذَكَرْنَا عِنْدَهَا مَسَائِلَ الْحَجِّ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ وَتَأْكِيدِهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَأَمَرَ بِقِطْعَةِ لَحْمٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَأَكَلَ مِنْهَا وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا» . وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَلَّا تَبْقَى وَاحِدَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ إِلَّا وَقَدْ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ شَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْهَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّخْيِيرِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاكْتَفَى بِالْأَكْلِ مِنْ بَعْضِهَا، وَشَرِبَ مَرَقَهُ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ فَالْأَظْهَرُ فِيهِ الْوُجُوبُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ: تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا لِصَارِفٍ عَنْهُ، وَقَدْ أُمِرَ بِالْأَكْلِ مِنَ الذَّبَائِحِ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ صَارِفٌ عَنِ الْوُجُوبِ وَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِحَسْبَ الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهَا أَدِلَّةُ الْوَحْيِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِهِمَا. وَقِيلَ: بِاسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ، وَوُجُوبِ الْإِطْعَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ: لَا تَحْدِيدَ لِلْقَدْرِ الَّذِي يَأْكُلُهُ وَالْقَدَرِ الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَيَأْكُلُ مَا شَاءَ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا شَاءَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَتَصَدَّقُ بِالنِّصْفِ، وَيَأْكُلُ النِّصْفَ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [22 \ 28] ، قَالَ: فَجَزَّأَهَا نِصْفَيْنِ، نِصْفٌ لَهُ وَنِصْفٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، يَأْكُلُ الثُّلُثَ وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ، وَيُهْدِي الثُّلُثَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [22 \ 36] ، فَجَزَّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُلُثٌ لَهُ، وَثُلُثٌ لِلْقَانِعِ، وَثُلُثٌ لِلْمُعْتَرِّ. هَكَذَا قَالُوا وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 وَالْبَائِسُ: هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الْبُؤْسُ، وَهُوَ الشِّدَّةُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صَحَّاحِهِ: وَبَئِسَ الرَّجُلُ يَبْأَسُ بُؤْسًا وَبَئِيسَا: اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، فَهُوَ بَائِسٌ وَأَنْشَدَ أَبُو عَمْرٍو: لِبَيْضَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ تَذُقْ ... بَئِيسًا وَلَمْ تَتْبَعْ حَمُولَةَ مُجْحِدِ وَهُوَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ انْتَهَى مِنْهُ. يَعْنِي أَنَّ الْبَئِيسَ فِي الْبَيْتِ لَفْظُهُ لَفْظُ الْوَصْفِ، وَمَعْنَاهُ الْمَصْدَرُ، وَالْفَقِيرُ مَعْرُوفٌ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ إِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وَإِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، وَعَلَى قَوْلِهِمْ: فَالْفَقِيرُ هُنَا يَشْمَلُ الْمِسْكِينَ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ مَعَهُ هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ، بِأَنَّهُمَا إِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، وَمَعْلُومٌ خِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ أَيُّهُمَا أَشَدُّ فَقْرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ وَنَاقَشْنَاهَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُ: إِنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ مِنَ الْمِسْكِينِ، وَأَنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ الْآيَةَ [18 \ 79] ، قَالُوا: فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ، مَعَ أَنَّ عِنْدَهُمْ سَفِينَةً عَامِلَةً لِلْإِيجَارِ. وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ مِنَ الْفَقِيرِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْمِسْكِينِ: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [90 \ 16] ، قَالُوا: ذَا مَتْرَبَةٍ: أَيْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ. حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ لَصِقَ بِالتُّرَابِ مِنَ الْفَقْرِ، لَيْسَ لَهُ مَأْوًى إِلَّا التُّرَابَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي لَا يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ لِبَاسٌ، وَلَا غَيْرُهُ انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَعَضَّدُوا هَذَا بِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْفَقِيرَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مَالٌ لَا يَكْفِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَاعِي نُمَيْرٍ: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ فَسَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ أَنَّ لَهُ حَلُوبَةً قَدْرَ عِيَالِهِ. وَقَدْ نَاقَشْنَا أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاقَشَةً تُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، فَأَغْنَانَا ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمَبْحَثُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهَذِهِ مَذَاهِبُهُمْ وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَصْحَابُهُ إِلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ جَمِيعِ الْهَدْيِ وَاجِبِهِ وَتَطَوُّعِهِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: جَزَاءَ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةَ الْأَذَى، وَالنَّذْرَ الَّذِي هُوَ لِلْمَسَاكِينِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: كُلُّ هَدْيٍ وَاجِبٌ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 الذِّمَّةِ، عَنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ فَسَادٍ أَوْ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ، أَوْ تَعَدِّي مِيقَاتٍ، أَوْ تَرْكِ النُّزُولِ بِعَرَفَةَ نَهَارًا، أَوْ تَرْكِ النُّزُولِ بِمُزْدَلِفَةَ أَوْ تَرْكِ رَمْيِ الْجِمَارِ أَوْ أَخَّرَ الْحَلْقَ يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ وَبَعْدَهُ. أَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةُ الْأَذَى فَيُؤْكَلُ مِنْهُمَا قَبْلَ بُلُوغِهِمَا مَحِلَّهُمَا، وَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُمَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا النَّذْرُ الْمَضْمُونُ إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ لِلْمَسَاكِينِ: فَإِنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا مُعَيَّنًا، وَلَمْ يُسَمِّهِ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ قَلَّدَهُ، وَأَشْعَرَهُ مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ قَبْلَهُ وَإِنْ عَيَّنَ النَّذْرَ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ نَوَى ذَلِكَ حِينَ التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَيَّنَ لِلْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ مُطْلَقًا، عِنْدَ مَالِكٍ وَأَنَّ النَّذْرَ الْمَضْمُونَ لِلْمَسَاكِينِ، حُكْمُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حُكْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى فَيَمْتَنِعُ الْأَكْلُ مِنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، وَيَجُوزُ قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ بَاقِي فِي الذِّمَّةِ حَتَّى يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَأَمَّا النَّذْرُ الْمَضْمُونُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ لِلْمَسَاكِينِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرٌ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِنَحْرِ هَدْيٍ، فَلَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْأَكْلُ مِنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ، وَبَعْدَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ إِنْ عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ، لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَوْضَحْنَا دَلِيلَ ذَلِكَ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْأَكْلِ مِنَ الْهَدَايَا، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَكْلِ مِنَ الضَّحَايَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ اللَّخْمِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُلَّ هَدْيٍ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ: جَازَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ مَنْ شَاءَ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَكُلُّ هَدْيٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُطْعِمُهُ فَقِيرًا، لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَالْكَفَّارَةِ. وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إِطْعَامَ الذِّمِّيِّ مِنَ الْهَدَايَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، أَمَّا إِذَا عَطِبَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ، قَبْلَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَلَا يَأْكُلُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، بَلْ يَأْكُلُهُ الْفُقَرَاءُ. هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهُوَ أَنَّ الْهَدْيَ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَالْأَكْلُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْأَكْلِ بِقَوْلِهِ: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [22 \ 36] . قَالُوا: فَجَعَلَهَا لَنَا وَمَا هُوَ لِلْإِنْسَانِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَرْكِهِ، وَأَكْلِهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّا حَيْثُ قُلْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ: يَجُوزُ الْأَكْلُ، فَإِنَّا نَعْنِي: الْإِذْنَ فِي الْأَكْلِ الصَّادِقِ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَبِالْوُجُوبِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْخِلَافِ، فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 وَاسْتِحْبَابِهِمَا، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِإِيجَابِ الْإِطْعَامِ دُونَ الْأَكْلِ، وَكُلُّ هَدْيٍ وَاجِبٍ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَالنَّذْرِ، وَجَمِيعِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ: لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْوَاجِبِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ، إِلَّا هَدْيَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ بِالتَّعْيِينِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا نَحَرَهُ تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنَّ يُوجِبَهُ، هَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنَ الْمَنْذُورِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَاهُمَا. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ ; لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ بَدَلٌ وَالنَّذْرُ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَأْكُلُ أَيْضًا مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ; لِأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّهِ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ فِيهِ فَأَشْبَهَ التَّطَوُّعَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَأْكُلُ مِنْ وَاجِبٍ ; لِأَنَّهُ هَدْيٌ وَاجِبٌ بِالْإِحْرَامِ فَلَمْ يَجُزِ الْأَكْلُ مِنْهُ كَدَمِ الْكَفَّارَةِ. انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . فَقَدْ رَأَيْتُ مَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، وَإِنَّمَا خِلَافُهُمْ فِي اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ مِنْهُ، أَوْ وُجُوبِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَنَّهُ أَهْدَى مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنْهَا تَطَوُّعٌ، وَقَدْ أَكَلَ مِنْهَا وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِمَّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَبَحَ عَنْهُنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقَرًا وَدَخَلَ عَلَيْهِنَّ بِلَحْمِهِ وَهُنَّ مُتَمَتِّعَاتٌ، وَعَائِشَةُ مِنْهُنَّ قَارِنَةٌ وَقَدْ أَكَلْنَ جَمِيعًا مِمَّا ذَبَحَ عَنْهُنَّ فِي تَمَتُّعِهِنَّ وَقِرَانِهِنَّ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. أَمَّا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدِّمَاءِ فَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ فَكُلُوا مِنْهَا لِأَنَّهُ لِتَرْكِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ، فَهُوَ بِالْكَفَّارَاتِ أَشْبَهُ، وَعَدَمُ الْأَكْلِ مِنْهُ أَظْهَرُ وَأَحْوَطُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. مَسْأَلَةٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَنَا فِي الْهَدْيِ وَأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ظَاهِرُهَا أَنَّهَا فِي الْهَدْيِ، وَلَمَّا كَانَ عُمُومُهَا قَدْ تَدْخُلُ فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ، أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نُشِيرَ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ بِاخْتِصَارٍ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ فِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ: أُضْحِيَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَإِضْحِيَّةُ بِكَسْرِهَا، وَجَمْعُهُمَا أَضَاحِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَضَحِيَّةٌ، وَجَمْعُهَا ضَحَايَا، وَأَضْحَاةٌ وَجَمْعُهَا: أَضْحَى كَأَرْطَاةَ، وَأَرْطَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [108 \ 2] ، عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وَأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَانْحَرْ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهَا فِيهِ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ، قَالَ: كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ. حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ "، وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ. حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ "، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ تَابَعَهُ وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " ضَحِّ بِهِ أَنْتَ "، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " ضَحَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ ". وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، قَالَ: " ضَحَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ". وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، وَيَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ ". انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " ضَحَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ". وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ وَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا قَالَ: وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَيَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ". وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ حَيْوَةُ: أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ فَأَتَى بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: " يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: " اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ "، فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: " بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ "، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ كَثِيرَةٌ، مَعْرُوفَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِهَا، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي حَقِّ الْمُوسِرِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَبِلَالٌ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُوسِرِ إِلَّا الْحَاجَّ بِمِنًى. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ بِالْأَمْصَارِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجِبُهَا عَلَى مُقِيمٍ يَمْلِكُ نِصَابًا. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، عَلَى الْمُوسِرِ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: هِيَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ إِنْ تَرَكَهَا بِلَا عُذْرٍ، لَمْ يَأْثَمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ". وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَبِلَالٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالنَّوَوِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَةٌ وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي "، عَنْ مَالِكٍ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةِ خِلَافَ مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبُهُ هُوَ مَا نَقَلَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ: مِنْ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلَكِنَّهَا عِنْدَهُ لَا تُسَنُّ عَلَى خُصُوصِ الْحَاجِّ بِمِنًى ; لِأَنَّ مَا يَذْبَحُهُ هَدْيٌ لَا أُضْحِيَّةَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ آيَةَ " الْحَجِّ " لَا تَخْلُو مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا رَأَيْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ، فَهَذِهِ أَدِلَّةُ أَقْوَالِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهَا، وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْهَا، عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ. أَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهَا، وَاللَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [33 \ 21] . وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إِنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ تُعْلَمْ جِهَتُهُ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ غَيْرِهِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ. وَأَوْضَحْنَا أَدِلَّةَ ذَلِكَ. وَذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ " مَرَاقِي السُّعُودِ " ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ فِي مَبْحَثِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَكُلُّ مَا الصِّفَةُ فِيهِ تُجْهَلُ ... فَلِلْوُجُوبِ فِي الْأَصَحِّ يُجْعَلُ وَذَكَرْنَا مُنَاقَشَةَ الْأَقْوَالِ فِيهِ فِي الْحَجِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ: سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِيَّ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: " مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ " اهـ. قَالُوا قَوْلُهُ: " فَلْيُعِدْ "، وَقَوْلُهُ: " فَلْيَذْبَحْ " كِلَاهُمَا صِيغَةُ أَمْرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَجَرِّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ، يَدُلُّ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 الْوُجُوبِ، وَبَيَّنَّا أَدِلَّةَ ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَرَجَّحْنَاهُ بِالْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوَاضِحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الْآيَةَ [24 \ 63] . وَقَوْلُهُ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [20 \ 93] ، فَسَمَّى مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةً، وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ الْآيَةَ [33 \ 36] ، فَجَعَلَ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رَسُولِهِ مَانِعًا مِنَ الِاخْتِيَارِ، مُوجِبًا لِلِامْتِثَالِ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمُ "، الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا، وَحَدِيثُ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: " مَنْ كَانَ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ نُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ "، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ فِي حَدِيثِهِ وَاضِحَةٌ، كَمَا بَيَّنَّا دَلَالَتَهَا عَلَى الْوُجُوبِ آنِفًا. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَزِيدُ، (ح) وَثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، ثَنَا بِشْرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَامِرٍ أَبِي رَمْلَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مِخْنَفُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: وَنَحْنُ وُقُوفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً أَتَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ: الَّتِي يَقُولُ عَنْهَا النَّاسُ: الرَّجَبِيَّةُ " انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ الْمَخْرَجِ ; لِأَنَّ أَبَا رَمْلَةَ مَجْهُولٌ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَجْهُولٌ. قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ ": عَامِرٌ أَبُو رَمْلَةَ شَيْخٌ لِابْنِ عَوْنٍ لَا يُعْرَفُ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي " الْمِيزَانِ ": عَامِرٌ أَبُو رَمْلَةَ شَيْخٌ لِابْنِ عَوْنٍ فِيهِ جَهَالَةٌ لَهُ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أُضْحِيَّةً، وَعَتِيرَةً ". قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَصَدَّقَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ لِجَهَالَةِ عَامِرٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَوْنٍ انْتَهَى مِنْهُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ "، فِي حَدِيثِ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، خِلَافَ التَّحْقِيقِ كَمَا تَرَى. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الْعَتِيرَةُ: مَنْسُوخَةٌ هَذَا خَبَرٌ مَنْسُوخٌ انْتَهَى مِنْهُ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنِ النَّاسِخَ، وَلَا دَلِيلَ النَّسْخِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ; لِأَنَّ أَبَا رَمْلَةَ مَجْهُولٌ كَمَا رَأَيْتَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى وُجُوبِهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا ". قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَرَجَّحَ الْأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي ": وَأَقْرَبُ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ لِوُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفْعُهُ: " مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا "، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْإِيجَابِ انْتَهَى مِنْهُ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ أَوْجَبَهَا: مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أُنْفِقَتِ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ نَحِيرَةِ يَوْمِ عِيدٍ "، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْخُوزِيِّ وَلَيْسَا بِقَوِيَّيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ عَائِذِ اللَّهِ الْمُجَاشِعِيِّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: " سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ " (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ) ، قَالُوا: مَا لَنَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ؟ قَالَ: " بَلْ كُلُّ قَطْرَةٍ حَسَنَةٌ "، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: عَائِذُ اللَّهِ الْمُجَاشِعِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَأَبُو دَاوُدَ هَذَا ضَعِيفٌ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَسَخَ الْأَضْحَى كُلَّ ذَبْحٍ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ، وَالزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ "، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى ضَعْفِهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَسْتَدِينُ وَأُضَحِّي؟ قَالَ: " نَعَمْ، فَإِنَّهُ دَيْنٌ مَقْضِيٌّ "، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَضَعَّفَاهُ قَالَا: وَهُوَ مُرْسَلٌ اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَضْعِيفِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّرْغِيبِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ عُمْدَةُ مَنْ قَالَ: بِوُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، وَاسْتِدْلَالُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ: يَوْمَ الْأَضْحَى قَائِلًا: إِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ لَا تُحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهِ بِلَا شَكٍّ، وَلَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِيهِ بِيَقِينٍ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً لَا يَخْفَى سُقُوطُهُ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقَعُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَلَا تَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَقْوَى أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبِ بْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ، مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِالْإِعَادَةِ، وَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَذْبَحْ بِالذَّبْحِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْحَدِيثَ الْمُخْتَلَفَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ: " فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا "، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْأُضْحِيَّةِ مُخَالَفَةٌ غَيْرُ هَيِّنَةٍ، لِمَنْعِ صَاحِبِهَا مِنْ قُرْبِ الْمُصَلَّى وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا أَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يُوَجِّهُهُ بِأَنَّ أَدَاءَهَا لَهُ أَسْبَابٌ تَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَكْفِي دَلِيلًا ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ عَجَزَ عَنْهُ الْمُكَلَّفُ، يَسْقُطُ عَنْهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، فَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسُّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا "، قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرْفَعُهُ. قَالَ: لَكِنِّي أَرْفَعُهُ اهـ وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مُسْلِمٍ: " إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَعِنْدَهُ أُضْحِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا وَلَا يُقَلِّمَنَّ ظُفْرًا ". وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ " اهـ. كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ زَوْجِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَوْكُولَةٌ إِلَى إِرَادَةِ الْمُضَحِّي، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا كَانَتْ كَذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ التَّضْحِيَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، " وَأَرَادَ " فَجَعَلَهُ مُفَوَّضًا إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَقَالَ: فَلَا يَمَسَّ مِنْ شِعْرِهِ، حَتَّى يُضَحِّيَ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " أَيْضًا: وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا، يَعْنِي لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ، وَالْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الضُّحَى "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَرَّحَ بِضَعْفِهِ وَلِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ طُرُقٌ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنَ الضَّعْفِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّوَوِيُّ. ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَصَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ، مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ وُجُوبَهَا اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي ": قَالَ ابْنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 حَزْمٍ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَصَحَّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهَا مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا: الْمَجْدُ فِي " الْمُنْتَقَى " بِحَدِيثَيْنِ، وَلَا تَظْهَرُ دَلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدِي كُلَّ الظُّهُورِ. قَالَ فِي " الْمُنْتَقَى ": بَابُ مَا احْتُجَّ بِهِ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا، بِتَضْحِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُمَّتِهِ: عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ " أَتَى بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ فَقَالَ: " بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي ". وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ لِلنَّاسِ أُوتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ "، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ: " هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ " فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعًا الْمَسَاكِينَ، وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا " فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُضَحِّي قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغُرْمَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، اهـ مِنَ " الْمُنْتَقَى ". وَقَالَ شَارِحُهُ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْحَدِيثَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَنَّ تَضْحِيَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُمَّتِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ تُجْزِئُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُضَحِّ، سَوَاءً كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْأُضْحِيَّةِ أَوْ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ، بِأَنَّ حَدِيثَ: " عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ "، يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ يَجِدُونَهَا، فَيَكُونُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ تَضْحِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غَيْرِ الْوَاجِدِينَ مِنْ أُمَّتِهِ وَلَوْ سَلِمَ الظُّهُورُ الْمُدَّعَى، فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ; لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ مَنْ لَمْ يُضَحِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا ضَحَّى عَنْهُ غَيْرُهُ، فَلَا يَكُونُ عَدَمُ وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأُمَّةِ مُسْتَلْزِمًا، لِعَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَصْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمُ انْتَهَى مِنْ " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ". وَقَدْ رَأَيْتَ أَدِلَّةَ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، وَالْقَائِلِينَ بِالسُّنَّةِ. وَالْوَاقِعُ فِي نَظَرِنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدِلَّةِ الطَّرَفَيْنِ، دَلِيلٌ جَازِمٌ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارِضِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَا عَلَى عَدَمِهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَبِإِعَادَةِ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْوُجُوبُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ. فَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي ظَاهِرُهُ: تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى إِرَادَةِ الْمُضَحِّي، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنِ الْوُجُوبِ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، وَكِلَا الدَّلِيلَيْنِ لَا يَخْلُو مِنِ احْتِمَالٍ، وَحَدِيثُ: " مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا "، رَجَّحَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ وَقْفَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 فِي الْإِيجَابِ وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ عَنْ دَلَالَةِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيُعِدْ، وَقَوْلِهِ: فَلْيَذْبَحْ وَقَالَ: لَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ، لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهَا أَوْ مَنْ أَوْقَعَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ خَطَأً أَوْ جَهْلًا، فَبَيَّنَ لَهُ وَجْهَ تَدَارُكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ". قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي لَمْ تَتَّضِحْ فِيهِ دَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ إِيضَاحًا بَيِّنًا أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ، فَلَا يَتْرُكُ الْأُضْحِيَّةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ "، فَلَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا لِقَادِرٍ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ أَدَاءَهَا هُوَ الَّذِي يَتَيَقَّنُ بِهِ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَوَّلُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ وُجُوبَهَا خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَا تَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ، وَقَدِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ بِهِ الْحَاجَّ بِمِنًى، قَالُوا: لَا تُسَنُّ لَهُ الْأُضْحِيَّةُ ; لِأَنَّ مَا يَذْبَحُهُ هَدْيٌ لَا أُضْحِيَّةٌ، وَخَالَفَهُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ نَظَرًا لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ فِي الْحَاجِّ وَغَيْرِهِ، وَلِبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُصَرِّحَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لِلْحَاجِّ بِمِنًى. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الْأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفٍ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ، وَهِيَ تَبْكِي» . الْحَدِيثَ وَفِيهِ: «فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ» اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ» ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ فَقَالَتْ: «وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ» اهـ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. قَالُوا: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِبَقَرٍ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى» ، وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لِلْحَاجِّ بِمِنًى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا عِنْدِي فِي هَذَا الْفَرْعِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَا تُسَنُّ لِلْحَاجِّ بِمِنًى، وَأَنَّ مَا يَذْبَحُهُ هَدْيٌ لَا أُضْحِيَّةٌ، وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا لَا تَنْهَضُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَوَجْهُ كَوْنِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَرْجَحَ فِي نَظَرِنَا هُنَا مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، هُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُخَالِفُ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ سَالِمًا مِنَ الْمُعَارِضِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مَا يَذْبَحُهُ الْحَاجُّ بِمِنًى: هَدْيٌ لَا أُضْحِيَّةٌ، هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا الْآيَةَ [22 \ 27 - 28] ، فِيهِ مَعْنَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا لِحِكَمٍ مِنْهَا: شُهُودُهُمْ مَنَافِعَ لَهُمْ، وَمِنْهَا ذِكْرُهُمُ اسْمَ اللَّهِ: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، عِنْدَ ذَبْحِهَا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ، وَالَّذِي يَكُونُ مِنْ حُكْمِ التَّأْذِينِ فِيهِمْ بِالْحَجِّ، حَتَّى يَأْتُوا مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَيَشْهَدُوا الْمَنَافِعَ وَيَتَقَرَّبُوا بِالذَّبْحِ، إِنَّمَا هُوَ الْهَدْيُ خَاصَّةً دُونَ الْأُضْحِيَّةِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَحِّي: أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَهُ مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا وَلَا يَحْتَاجُ فِي التَّقَرُّبِ بِالْأُضْحِيَّةِ إِلَى إِتْيَانِهِمْ مُشَاةً وَرُكْبَانًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. فَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الْهَدْيِ، دُونَ الْأُضْحِيَّةِ، وَمَا كَانَ الْقُرْآنُ أَظْهَرَ فِيهِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ، أَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «أَنَّهُ ضَحَّى بِبَقَرٍ عَنْ نِسَائِهِ يَوْمَ النَّحْرِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ» ، فَلَا تَنْهَضُ بِهِ الْحُجَّةُ ; لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُنَّ مُتَمَتِّعَاتٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْبَقَرَ هَدْيٌ وَاجِبٌ، وَهُوَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ عَائِشَةَ مِنْهُنَّ قَارِنَةٌ وَالْبَقَرَةَ الَّتِي ذُبِحَتْ عَنْهَا هَدْيُ قِرَانٍ، سَوَاءً قُلْنَا: إِنَّهَا اسْتَقَلَّتْ بِذَبْحِ بِقَرَّةٍ عَنْهَا وَحْدَهَا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، أَوْ كَانَ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهَا فِي بَقَرَةٍ، كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ: ضَحَّى، بَلْ فِيهَا: أَهْدَى، وَفِيهَا: ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ، وَفِيهَا: نَحَرَ عَنْ نِسَائِهِ، فَلَفْظُ ضَحَّى مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِلْجَزْمِ، بِأَنَّ مَا ذُبِحَ عَنْهُنَّ مِنَ الْبَقَرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى هَدْيُ تَمَتُّعٍ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ عَائِشَةَ، وَهَدْيُ قِرَانٍ: بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مَعَ مَالِكٍ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : فِي بَابِ ذِبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 بَعْدَ ذِكْرِهِ رِوَايَةَ: ضَحَّى الْمَذْكُورَةَ، مَا نَصُّهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّصَرُّفَ مِنَ الرُّوَاةِ ; لِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ ذَكَرَ النَّحْرَ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ، فَإِنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ، كَانَ عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: أَهْدَى، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ هَدْيُ التَّمَتُّعِ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: لَا ضَحَايَا عَلَى أَهْلِ مِنًى انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةً، قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ صَلَاةَ الْعِيدِ، فَإِنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تُجْزِئُهُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا شَاتُهُ الَّتِي ذَبَحَهَا شَاةُ لَحْمٍ يَأْكُلُهَا هُوَ وَمَنْ شَاءَ. وَلَيْسَتْ بِشَاةِ نُسُكٍ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» اهـ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَيْضًا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدِ» الْحَدِيثَ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» اهـ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى» ، الْحَدِيثَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنَ الرِّوَايَاتِ بِمَعْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَكَوْنُ الْأُضْحِيَّةِ الْمَذْبُوحَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ: لَا تُجْزِئُ صَاحِبَهَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا عَنْ جُنْدَبٍ وَالْبَرَاءِ وَأَنَسٍ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ صَلَاةَ الْعِيدِ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، هُوَ إِمَامُ الصَّلَاةِ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ إِمَامُ الصَّلَاةِ غَيْرَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِمَامُ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ: أَنَّهَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ سَوَاءً كَانَ إِمَامُ الصَّلَاةِ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ أَوْ غَيْرَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ بِمَحَلٍّ لَا تُقَامُ فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ، أَنَّهُ يَتَحَرَّى بِذَبْحِ أُضْحِيَّتِهِ قَدْرَ مَا يُصَلِّي فِيهِ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ عَادَةً، ثُمَّ يَذْبَحُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ مَا نُحِرَ قَبْلَ نَحْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ لِإِجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ نَحْرِ الْإِمَامِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: فِي سِنِّ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي تُجْزِئُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّنَّ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مُسِنَّةً، فَإِنْ تَعَسَّرَتِ الْمُسِنَّةُ أَجْزَأَتْهُ جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَمَا فَوْقَهَا. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالضَّأْنِ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ. وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ فَمَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً: أَنَّهُ يُجْزِئُ سَوَاءً وُجِدَ غَيْرُهُ أَوْ لَا، وَحَكَوْا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُجْزِئُ. وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُمَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَفْضَلِ، وَتَقْدِيرُهُ: يُسْتَحَبُّ لَكُمْ أَنْ لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَةُ ضَأْنٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ جَذَعَةِ الضَّأْنِ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ بِحَالٍ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجَوِّزُونَ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ، مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ. وَابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِحْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ: مَا لَهُ سَنَةٌ تَامَّةٌ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، وَقِيلَ: ابْنُ عَشَرَةٍ. حَكَاهُ الْقَاضِي، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ بَيْنِ شَابَّيْنِ، فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَرِمَيْنِ فَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : ثُمَّ الْجَذَعُ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 أَصَحِّ الْأَوْجُهِ إِلَى آخِرِ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» . وَتَقَدَّمَ نَقْلُهَا عَنْهُ آنِفًا. وَقَالَ أَيْضًا: وَأَمَّا الثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ. وَرَوَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ الَّذِي اسْتَكْمَلَ سِتَّ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنْ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةِ سِنِّ الثَّنِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ سَنَةٍ، وَأَمَّا الثَّنِيُّ مِنَ الْبَقَرِ فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ، وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ. وَرَوَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَلَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ فِيهِ عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ. وَالثَّانِي: مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الثَّنِيَّ هُوَ الْمُسِنُّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» فِي الْجَذَعِ: هُوَ مِنَ الْإِبِلِ مَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْمَعْزِ: مَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: الْبَقَرُ فِي الثَّالِثَةِ، وَمِنَ الضَّأْنِ: مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ، وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَالِفُ بَعْضَ هَذَا فِي التَّقْدِيرِ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» أَيْضًا: الثَّنِيَّةُ مِنَ الْغَنَمِ مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْإِبِلِ: فِي السَّادِسَةِ وَالذَّكَرُ ثَنِيٌّ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَا دَخَلَ مِنَ الْمَعْزِ فِي الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ فِي الثَّالِثَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» ، فِي الْمُسِنَّةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْمُسِنِّ، إِذَا أَثْنَيَا، وَيُثْنِيَانِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صَحَّاحِهِ: الْجَذَعُ قَبْلَ الثَّنِيِّ وَالْجَمْعُ جِذْعَانٌ وَجِذَاعٌ، وَالْأُنْثَى: جَذَعَةٌ، وَالْجَمْعُ: جَذَعَاتٌ، تَقُولُ مِنْهُ لِوَلَدِ الشَّاةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِوَلَدِ الْبَقَرِ وَالْحَافِرِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَلِلْإِبِلِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ: أَجْذَعَ، وَالْجَذَعُ اسْمٌ لَهُ فِي زَمَنٍ لَيْسَ بِسِنٍّ تَنْبُتُ وَلَا تَسْقُطُ، وَقَدْ قِيلَ: فِي وَلَدِ النَّعْجَةِ: إِنَّهُ جَذَعٌ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ انْتَهَى مِنْهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: وَالثَّنِيَّةُ: النَّاقَةُ الطَّاعِنَةُ فِي السَّادِسَةِ، وَالْبَعِيرُ: ثَنِيٌّ، وَالْفَرَسُ: الدَّاخِلَةُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالشَّاةُ: فِي الثَّالِثَةِ كَالْبَقَرَةِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ الثَّابِتَ فِيهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمُسِنَّةٍ، وَأَنَّهَا إِنْ تَعَسَّرَتْ فَجَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ، فَمَنْ ضَحَّى بِمُسِنَّةٍ، أَوْ بِجَذَعَةٍ مِنَ الضَّأْنِ عِنْدَ تَعَسُّرِهَا فَضَحِيَّتُهُ مُجْزِئَةٌ إِجْمَاعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ مَذَاهِبُهُمْ وَأَدِلَّتُهَا. فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّ الْمُجْزِئَ فِي الضَّحِيَّةِ: جَذَعُ الضَّأْنِ، وَثَنِيُّ الْمَعْزِ وَالْبَقَرِ، وَالْإِبِلِ. وَجَذَعُ الضَّأْنِ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا أَكْمَلَ سَنَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَثَنِيُّ الْمَعْزِ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا أَكْمَلَ سَنَةً، وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ دُخُولًا بَيِّنًا، فَالدُّخُولُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، دُخُولًا بَيِّنًا هُوَ الْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ جَذَعِ الضَّأْنِ، وَثَنِيِّ الْمَعْزِ. وَدَلِيلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْهُمْ فِي سِنِّ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّ جَذَعَ الضَّأْنِ عِنْدَهُمْ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَذَعَةِ الضَّأْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَى إِجْزَائِهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ الثَّنِيَّ إِجْزَاؤُهُ مُطْلَقٌ، وَتَحْدِيدُهُمْ لَهُ فِي الْمَعْزِ بِمَا دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ دُخُولًا بَيِّنًا مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَالثَّنِيُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبَقَرِ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ وَالْأُنْثَى وَالذَّكَرُ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ. وَالثَّنِيُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ: ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذُّكُورَةَ، وَالْأُنُوثَةَ فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا، وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، لَا أَثَرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحُكْمِ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الثَّنِيَّ مِنَ الْبَقَرِ: ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ابْنُ ثَلَاثٍ وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ابْنُ خَمْسٍ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ، فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرٌ. . . سَلَّمْنَا أَنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْجَذَعِ الذَّكَرِ ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنِ الْأُنْثَى الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ، لَا يَذْبَحُهَا، إِلَّا مَنْ تَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ الْمُسِنَّةُ، الَّتِي هِيَ الثَّنِيَّةُ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» . فَالْجَوَابُ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَذَعَةَ مِنَ الضَّأْنِ: لَا تُجْزِئُ إِلَّا عِنْدَ تَعَسُّرِ الْمُسِنَّةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْجَذَعَ الذَّكَرَ مِنَ الضَّأْنِ: لَا يُجْزِئُ سَوَاءً عَسُرَ وُجُودُ الْمُسِنَّةِ، أَوْ لَمْ يَعْسُرْ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَالَفُوا ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ: مِنْ أَنَّ الْجَذَعَ الذَّكَرَ مِنَ الضَّأْنِ: لَا يُجْزِئُ مُطْلَقًا ; لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا مَا نَصُّهُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَمَا فَوْقَهَا وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 الضَّأْنِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالضَّأْنِ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ فَمَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً: أَنَّهُ يُجْزِئُ، سَوَاءً وُجِدَ غَيْرُهُ أَوْ لَا، وَحَكَوْا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: تُجْزِئُ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُمَا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالْأَفْضَلِ وَتَقْدِيرُهُ: يُسْتَحَبُّ لَكُمْ أَلَّا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَةُ ضَأْنٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ جَذَعَةِ الضَّأْنِ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ بِحَالٍ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجَوِّزُونَ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ، وَابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ: يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِحْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنِ: لَا تُجْزِئُ إِلَّا إِذَا تَعَسَّرَ وُجُودُ الْمُسِنَّةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً» ، نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنْ ذَبْحِ غَيْرِ الْمُسِنَّةِ، الَّتِي هِيَ الثَّنِيَّةُ. وَالنَّهْيُ: يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، إِلَّا إِذَا وُجِدَ صَارِفٌ عَنْهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنِ: لَا تُجْزِئُ إِلَّا عِنْدَ تَعَسُّرِ الْمُسِنَّةِ كَمَا تَرَى، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحُ بَقِيَّةِ هَذَا الْبَحْثِ بَعْدَ ذِكْرِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمُنَاقَشَةِ أَدِلَّتِهِمْ، وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْجَذَعَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا مِنَ الضَّأْنِ خَاصَّةً، وَالْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْجَذَعَةُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، وَأَمَّا غَيْرُ الضَّأْنِ: فَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ مِنْهُ إِلَّا الثَّنِيَّةُ، أَوِ الثَّنِيُّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاللُّغَةِ فِي سَنِّ الْجَذَعِ، وَالثَّنِيِّ وَالْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّ جَذَعَ الْمَعْزِ يُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَلَطٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَهُوَ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ خَاصَّةً، وَبِالثَّنِيِّ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ وَهُوَ الْمَعْزُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ. وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرَحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ» ، مَا نَصُّهُ: وَالْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ مَا تَمَّتْ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ: أَنَّهُ ابْنُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّنِيُّ مِنَ الضَّأْنِ، وَالْمَعْزِ ابْنُ سَنَةٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ: ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ: ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَفِي الْقُرْبِ: الْجَذَعُ مِنَ الْبَهَائِمِ قَبْلَ الثَّنِيِّ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْإِبِلِ قَبْلَ السَّنَةِ الْخَامِسَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الْخَيْلِ فِي الرَّابِعَةِ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ لِسَنَةٍ، وَمِنَ الضَّأْنِ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ. انْتَهَى مِنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وَالْأَصَحُّ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي سَنِّ الْجَذَعِ وَالثَّنِيِّ عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَأَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْجَذَعُ إِلَّا مِنَ الضَّأْنِ خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ: إِلَّا الثَّنِيُّ، وَالْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ عِنْدَهُمْ: مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَدَخَلَ فِي السَّابِعِ، وَثَنِيُّ الْمَعْزِ عِنْدَهُمْ: إِذَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ، وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ، وَثَنِيُّ الْبَقَرِ عِنْدَهُمْ: إِذَا تَمَّتْ لَهُ سَنَتَانِ، وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ، وَثَنِيُّ الْإِبِلِ عِنْدَهُمْ: إِذَا تَمَّتْ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ. قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَقَالَ أَيْضًا «قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَبُو زِيَادٍ الْكِلَابِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الْخَامِسَةُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ، وَأَلْقَى ثَنِيَّتَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ ثَنِيٌّ، وَنَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ ثَنِيًّا ; لِأَنَّهُ أَلْقَى ثَنِيَّتَيْهِ. وَأَمَّا الْبَقَرَةُ فَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:» لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً «وَمُسِنَّةُ الْبَقَرِ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ، وَقَالَ وَكِيعٌ: الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ يَكُونُ ابْنَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ. انْتَهَى كَلَامُ» الْمُغْنِي «. وَقَدْ عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي السِّنِّ الَّتِي تُجْزِئُ ضَحِيَّةً مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِجْزَاءِ جَذَعِ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ بَعْضِ الِاخْتِلَافِ، الَّذِي رَأَيْتَ فِي سَنِّ الْجَذَعِ وَالثَّنِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي: هُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ: الْجَذَعُ إِلَّا مِنَ الضَّأْنِ خَاصَّةً، وَمِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ وَهُوَ الْمَعْزُ، وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ: لَا يُجْزِئُ إِلَّا الثَّنِيُّ. فَمَا فَوْقَهُ. وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ فِي الْهَدَايَا، وَالْأَضَاحِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ «، أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِحَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالْأَفْضَلِ يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ عَنْ ظَاهِرِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: هِيَ أَحَادِيثُ أُخَرُ جَاءَتْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ يُجْزِئُ، وَظَاهِرُهَا وَلَوْ كَانَ الْمُضَحِّي قَادِرًا عَلَى الْمُسِنَّةِ، وَسَنَذْكُرُهَا هُنَا بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي» الْمُنْتَقَى «; لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:» نِعْمَ أَوْ نِعْمَتِ الْأُضْحِيَّةُ: الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ «وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أُمِّ بِلَالٍ بِنْتِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:» يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ ضَحِيَّةً «. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ:» إِنَّ الْجَذَعَ يُوَفِّي مِمَّا تُوَفِّي مِنْهُ الثَّنِيَّةُ «وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:» ضَحَّيْنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ «اهـ. بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي» الْمُنْتَقَى «. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَتَصْلُحُ بِمَجْمُوعِهَا لِلِاحْتِجَاجِ، وَتَعْتَضِدُ بِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ. وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: عَلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ لَا يُجْزِئُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ:» ضَحِّ بِجَذَعَةٍ مِنَ الْمَعْزِ وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ «، دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ جَذَعَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ:» ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنَ الْمَعْزِ وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ «. حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ عَامِرٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو بُرْدَةَ، قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ. قَالَ: «اذْبَحْهَا وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ» انْتَهَى مِنْهُ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . وَكَذَلِكَ هِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورِ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: «ضَحِّ بِهَا وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ: «وَلَا تُجْزِئُ جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . وَالرِّوَايَاتُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي التَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ جَذَعَةٍ مِنَ الْمَعْزِ وَصَرَّحَ: بِأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهُ مَعْرُوفَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَذَعَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ. فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ رُدَّ قَوْلُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، الْمُصَرِّحِ بِأَنَّ جَذَعَةَ الْمَعْزِ لَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ. فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ:» ضَحِّ بِهِ أَنْتَ «، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ الْمَذْكُورِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:» قَسَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا ضَحَايَا فَأَصَابَنِي جَذَعٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي جَذَعٌ، فَقَالَ: «ضَحِّ بِهِ» انْتَهَى مِنْهُ. وَرِوَايَاتُ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِجَذَعِ الْمَعْزِ ; لِأَنَّ الْعَتُودَ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى وَلَدِ الْمَعْزِ، وَالرِّوَايَاتُ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ جَذَعٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» : وَالْعَتُودُ مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ إِذَا قَوِيَ وَرَعَى، وَأَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ. وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 فِيهِ الدَّلَالَةُ الصَّرِيحَةُ عَلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِجَذَعِ الْمَعْزِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ ذَكَرَ زِيَادَةً فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعُقْبَةَ: «وَلَا رُخْصَةَ فِيهَا لِأَحَدٍ بَعْدَكَ» ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي رَوَى بِهَا الْبَيْهَقِيُّ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ صَحِيحَةٌ وَإِنْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ تَضْعِيفَهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَا وَقَعَ لِأَبِي بُرْدَةَ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَزِيدُهُ إِشْكَالًا، أَنَّ التَّرْخِيصَ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِجَذَعِ الْمَعْزِ وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَمَاعَةٍ آخَرِينَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ عَتُودًا جَذَعًا، فَقَالَ:» ضَحِّ بِهِ «. فَقُلْتُ: إِنَّهُ جَذَعٌ أَفَأُضَحِّي؟ قَالَ:» نَعَمْ ضَحِّ بِهِ «، فَضَحَّيْتُ بِهِ، لَفْظُ أَحْمَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَفِي الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:» أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ جَذَعًا مِنَ الْمَعْزِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَلِأَبِي يَعْلَى، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا جَذَعٌ مِنَ الضَّأْنِ مَهْزُولٌ، وَهَذَا جَذَعٌ مِنَ الْمَعْزِ سَمِينٌ، وَهُوَ خَيْرُهُمَا أَفَأُضَحِّي بِهِ؟ قَالَ: «ضَحِّ بِهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ الْخَيْرَ» ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» . وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ إِشْكَالًا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَافِظَ فِي «الْفَتْحِ» تَصَدَّى لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ بَعْدَ سَوْقِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَبَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي بُرْدَةَ وَعُقْبَةَ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، ثُمَّ تَقَرَّرَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ، وَاخْتَصَّ أَبُو بُرْدَةَ وَعُقْبَةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ: لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ شَارَكُوا أَبَا بُرْدَةَ وَعُقْبَةَ فِي ذَلِكَ، وَالْمُشَارَكَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي مُطْلَقِ الْإِجْزَاءِ لَا فِي خُصُوصِ مَنْعِ الْغَيْرِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمَقْصُودُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي التَّضْحِيَةِ بِجَذَعِ الْمَعْزِ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» إِلَّا لِأَبِي بُرْدَةَ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، لَا إِشْكَالَ فِي مَسْأَلَتِهِمْ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا قَبْلَ تَقَرُّرِ الشَّرْعِ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ جَذَعِ الْمَعْزِ، فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ. وَقَدْ تَصَدَّى لِحِلِّهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» أَيْضًا، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ ذَلِكَ صَدَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ تَكُونُ خُصُوصِيَّةُ الْأَوَّلِ نُسِخَتْ بِثُبُوتِ الْخُصُوصِيَّةِ لِلثَّانِي، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي السِّيَاقِ اسْتِمْرَارُ الْمَنْعِ لِغَيْرِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 صَرِيحًا انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، فَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ أَصَحُّ مَخْرَجًا، انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا الْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي السِّيَاقِ اسْتِمْرَارُ الْمَنْعِ غَلَطٌ مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بَلْ وَقَعَ فِي السِّيَاقِ التَّصْرِيحُ بِاسْتِمْرَارِ الْمَنْعِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، صَرِيحٌ فِي اسْتِمْرَارِ مَنْعِ الْإِجْزَاءِ عَنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ «لَنْ» ، تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَنِ، فَهِيَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ عَنْ غَيْرِهِ، فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَنِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: «عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَمَا تَرَى. وَالصَّوَابُ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ لَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَةَ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، فِيهِ أَصَحُّ سَنَدًا مِنْ زِيَادَةٍ نَحْوِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى حَدِيثِ عُقْبَةَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كَلَامِهِ الْأَخِيرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ لَفْظَةَ: لَنْ: لَا تَدُلُّ عَلَى تَأْبِيدِ النَّفْيِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «الْمُغْنِي» فِي الْكَلَامِ عَلَى لَنْ: وَلَا تُفِيدُ تَوْكِيدَ النَّفْيِ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيَ فِي كَشَّافِهِ، وَلَا تَأْبِيدَهُ خِلَافًا لَهُ فِي أُنْمُوذَجِهِ، وَكِلَاهُمَا دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ، قِيلَ: وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ، لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ فِي: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [19 \ 26] ، وَلَكَانَ ذِكْرُ الْأَبَدِ فِي: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [2 \ 95] ، تَكْرَارًا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ بِإِفَادَةِ لَنِ: التَّأْبِيدَ يَجِبُ رَدُّهُ ; لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِحَالَةُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَاعِمًا أَنَّ قَوْلَهُ لِمُوسَى: لَنْ تَرَانِي [7 \ 143] ، تُفِيدُ فِيهِ لَفْظَةُ لَنْ تَأْبِيدَ النَّفْيِ، فَلَا يَرَى اللَّهَ عِنْدَهُ أَبَدًا لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ مُعْتَزِلِيٌّ مَعْرُوفٌ بَاطِلٌ تَرُدُّهُ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِي ثُبُوتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَوْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَقْلًا فِي الدُّنْيَا لَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [7 \ 143] ; لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ الْمُحَالَ فِي حَقِّ خَالِقِهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا فِي الدُّنْيَا ثَابِتَةُ الْوُقُوعِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِفَادَةُ لَنِ التَّأْبِيدَ الَّتِي زَعَمَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْآيَةِ تَرُدُّهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ فِي الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ تُفِيدَ لَنِ التَّأْبِيدَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُعَارِضْهَا فِيهِ نَصٌّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي إِفَادَةِ لَنْ تَأْبِيدَ النَّفْيِ حَيْثُ لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَعَدَمِ إِفَادَتِهَا لِذَلِكَ، فَعَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهَا تُفِيدُ التَّأْبِيدَ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، يَدُلُّ عَلَى تَأْبِيدِ نَفْيِ الْإِجْزَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى عَدَمِ اقْتِضَائِهَا التَّأْبِيدَ، فَلَا تَقُلْ عَنِ الظُّهُورِ فِيهِ، حَتَّى يَصْرِفَ عَنْهُ صَارِفٌ، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، كَالْمُتَعَذَّرِ فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ، وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ: أَرْجَحُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي السِّنِّ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ إِلَّا بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ بِأَنْوَاعِهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [22 \ 28] ، فَلَا تُشْرَعُ التَّضْحِيَةُ بِالظِّبَاءِ وَلَا بِبَقَرَةِ الْوَحْشِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ مَثَلًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَلَا تُجْزِئُ بِالْمُتَوَلِّدِ مِنَ الظِّبَاءِ وَالْغَنَمِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ مِنْ أَنَّ بَقَرَةَ الْوَحْشِ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالظَّبْيَ عَنْ وَاحِدٍ، خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَعَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ أَنَّ وَلَدَ الْبَقَرَةِ الْإِنْسِيَّةِ يُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ وَحْشِيًّا وَعَنْ أَبِي ثَوْرٍ: يُجْزِئُ إِنْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ بَيْنِ مَا يُجْزِئُ، وَمَا لَا يُجْزِئُ، لَا يُجْزِئُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْحَاظِرِ عَلَى الْمُبِيحِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا خَالَفَ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْأَحْوَطُ أَنْ لَا يُضَحِّيَ إِلَّا بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ; لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الْأُضْحِيَّةِ: الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ الشَّاةُ، وَالضَّأْنُ، أَفْضَلُ مِنَ الْمَعْزِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِبَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَوْنِ الْأَفْضَلِ: الْبَدَنَةَ، ثُمَّ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ شَاةَ الضَّأْنِ، ثُمَّ شَاةَ الْمَعْزِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَدَاوُدَ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَفْضَلُهَا الْغَنَمُ ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْإِبِلُ. قَالَ: وَالضَّأْنُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَعْزِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وَإِنَاثُهَا أَفْضَلُ مِنْ فُحُولِ الْمَعْزِ، وَفُحُولُ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ إِنَاثِ الْمَعْزِ، وَإِنَاثُ الْمَعْزِ خَيْرٌ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: الْإِبِلُ أَفْضَلُ مِنَ الْبَقَرِ. فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَفْضَلِ مَا يُضَحَّى بِهِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ قَالُوا الْبَدَنَةُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ الشَّاةُ احْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا أَنَّ الْبَدَنَةَ أَعْظَمُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَالْبَقَرَةَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّاةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الْآيَةَ [22 \ 32] . وَمِنْهَا مَا قَدَّمْنَا ثَابِتًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَقَرَةَ وَالْبَدَنَةَ كِلْتَاهُمَا تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدْيِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَعْدِلُ سَبْعَ شِيَاهٍ. وَكَوْنُهَا تَعْدِلُ سَبْعَ شِيَاهٍ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ شَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، غَيْرَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ» ، اهـ. قَالُوا: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ، عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ، ثُمَّ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: عَلَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْغَنَمِ أَفْضَلُ: بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُضَحِّي بِالْغَنَمِ لَا بِالْإِبِلِ، وَلَا بِالْبَقَرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ بِتَضْحِيَتِهِ بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، وَتَضْحِيَتِهِ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، وَكُلُّهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا أَسَانِيدَهَا وَمُتُونَهَا. قَالُوا: وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُضَحِّي مُكَرِّرًا ذَلِكَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، إِلَّا بِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. فَلَوْ كَانَتِ التَّضْحِيَةُ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَفَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْأَفْضَلَ. قَالُوا فَإِنْ قِيلَ: أَهْدَى فِي حَجَّتِهِ الْإِبِلَ، وَلَمْ يُهْدِ الْغَنَمَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ أَهْدَى الْغَنَمَ أَيْضًا فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِبِلَ أَفْضَلُ فِي الْهَدْيِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا أَفْضَلُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ لَا يُنْكِرُونَ أَفْضَلِيَّةَ الْإِبِلِ فِي الْهَدْيِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْغَنَمَ أَفْضَلُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فَضْلٌ مِنْ جِهَةٍ ; فَالْإِبِلُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ كَثْرَةُ لَحْمِهَا، وَالْغَنَمُ أَفْضَلُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ، وَأَلَذُّ. وَعِنْدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 الْمَالِكِيَّةِ: فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُرَاعِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النُّسُكِ، وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرٌ. لَكِنَّ دَلِيلَ الْمَالِكِيَّةِ أَخَصُّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُضَحِّ إِلَّا بِالْغَنَمِ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَا جَاءَ عَنْهُ مِنْ تَفْضِيلِ الْبَدَنَةِ، ثُمَّ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ الْكَبْشِ الْأَقْرَنِ، لَمْ يَأْتِ فِي خُصُوصِ الْأُضْحِيَّةِ. وَلَكِنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُصُوصِ الْأُضْحِيَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] . وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا مِنَ النَّظَرِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ أَجَابُوا عَنْ دَلِيلِ مَالِكٍ بِأَنَّ تَضْحِيَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَنَمِ، لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَنَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَدَنَةٌ وَلَا بَقَرَةٌ، وَإِنَّمَا تَيَسَّرَتْ لَهُ الْغَنَمُ هَكَذَا قَالُوا. وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَكَرُّرُ تَضْحِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَمِ، وَقَدْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِهِ الْغَنَمَ دُونَ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ إِلَّا الْغَنَمُ سَنَةً، فَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ غَيْرُهَا فِي سَنَةٍ أُخْرَى. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِالْجَزُورِ أَحْيَانًا وَبِالْكَبْشِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْجَزُورَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الزُّرْقَانِيَّ فِي «شَرْحِ الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَا نَصُّهُ: وَحَدِيثُ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِالْجَزُورِ أَحْيَانًا، وَبِالْكَبْشِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْجَزُورَ» . ضَعِيفٌ. فِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، وَفِيهِ مَقَالٌ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الضَّحَايَا الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ» انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تُقَوِّيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى التَّضْحِيَةِ بِالْكَبْشَيْنِ الْأَقْرَنَيْنِ، أَوِ الْكَبْشِ الْأَقْرَنِ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَجَازُوا اشْتِرَاكَ سَبْعَةِ مُضَحِّينَ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ، بِأَنْ يَشْتَرُوهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يُهْدُوا بِهَا، أَوْ يُضَحُّوا بِهَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ سُبْعُهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ بِذَلِكَ فِي الْهَدْيِ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْهَدْيِ، وَالْأُضْحِيَّةِ. وَخَالَفَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الْجُمْهُورَ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ ذَبْحُ بَدَنَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَلَا بَقَرَةٍ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا وَاحِدٌ فَيُشْرِكُ غَيْرَهُ مَعَهُ فِي الْأَجْرِ. أَمَّا اشْتِرَاكُهُمْ فِي مِلْكِهَا، فَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ لَا فِي الْأُضْحِيَّةِ وَلَا فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ، وَكَذَلِكَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ خِلَافًا لِأَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَمَلَ أَحَادِيثَ اشْتِرَاكِ السَّبْعَةِ فِي الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ، عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَجْرِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ وَاحِدًا، وَيُشْرِكُ غَيْرَهُ مَعَهُ فِي الْأَجْرِ لَا فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْمِلْكِ. وَأَجَازَ مَالِكٌ لِلرَّجُلِ: أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، وَيُشْرِكَ مَعَهُ أَهْلَهُ فِي الْأَجْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَبَحَ كَبْشًا وَقَالَ: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاكُ مَالِكِينَ فِي شَاةِ الْأُضْحِيَّةِ، أَمَّا كَوْنُ الْمَالِكِ وَاحِدًا فَيُضَحِّي عَنْ نَفْسِهِ بِالشَّاةِ وَيَنْوِي اشْتِرَاكَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَعَهُ فِي الْأَجْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَتَأَدَّى بِهِ الشِّعَارُ الْإِسْلَامِيُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يخُتَلَفَ فِيهِ ; لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ عَلَيْهِ، كَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَغَيْرِهِ، كَحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ: كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ، حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ، فَصَارَ كَمَا تَرَى. قَالَ فِي «الْمُنْتَقَى» : رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ شَارِحُهُ فِي «النَّيْلِ» : وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالِاشْتِرَاكُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَجْرِ فِي الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَصِحُّ وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ شُرُوطًا ثَلَاثَةً. وَهِيَ سُكْنَاهُمْ مَعَ الْمُضَحِّي، وَقَرَابَتُهُمْ مِنْهُ، وَإِنْفَاقُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَبَرُّعًا. وَلَا أَعْلَمُ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ مُسْتَنَدًا مِنَ الْوَحْيِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بِهَا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فِي مُسَمَّى الْأَهْلِ، وَأَنَّ أَهْلَ الرَّجُلِ هُمْ مَا اجْتَمَعَ فِيهِمُ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ، وَلَا تُسَاعِدُ عَلَى الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي جَمِيعِ النُّسُكِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ بِاشْتِرَاكِ كُلِّ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي الْحَجِّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْأَجْرِ لَا فِي الرَّقَبَةِ، وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّضْحِيَةِ بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْمُضَحِّي وَأَهْلِهِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَكَرِهَ ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا اثْنَانِ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُمَا انْتَهَى مِنْهُ. وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ: حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَأَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، بِمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ، عِنْدَ مُسْلِمٍ الْمُقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِقَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا أَنْ يُقَلِّمَ شَيْئًا مِنْ أَظْفَارِهِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، حَتَّى يُضَحِّيَ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: تَحْرِيمُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا، وَلَا يُقَلِّمَنَّ ظُفْرًا» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهَا، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَا يَمَسُّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا» وَفِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ النَّهْيُ عَنْ حَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ إِلَّا لِصَارِفٍ عَنْهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ: إِنَّ الْحَلْقَ وَتَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ ; لِأَنَّ الْمُضَحِّيَ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْرِيمُ أَظْهَرُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» ، وَالتَّحْرِيمُ الْمَذْكُورُ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ فِي كِتَابِهِ الرَّقْمِ، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَحَكَى الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ لِخَلِيلٍ، عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ: تَحْرِيمَ الْحَلْقِ، وَتَقْلِيمَ الْأَظَافِرِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمُرِيدِ التَّضْحِيَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: بِالتَّحْرِيمِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ; لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُقَلِّدُهَا بِيَدِهِ» ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ وَاللِّبَاسُ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ حَلْقُ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُضَحِّيَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَأَظْهَرُ شَيْءٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَصْرَحُ وَأَخَصُّهُ فِيهِ: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : مَذْهَبُنَا أَنَّ إِزَالَةَ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ فِي الْعَشْرِ لِمَنْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ: مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، حَتَّى يُضَحِّيَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُكْرَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَحْمَدُ، وَرَبِيعَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ: يَحْرُمُ، وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَحَكَى عَنْهُ الدَّارِمِيُّ يَحْرُمُ فِي التَّطَوُّعِ، وَلَا يَحْرُمُ فِي الْوَاجِبِ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ أَخَصَّهُمَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ: وَهُوَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 الْفَرْعُ الثَّامِنُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِجْزَاءِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَظَاهِرُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ ذُكُورَ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ إِنَاثِهَا ; لِتَضْحِيَتِهِ بِالْكَبْشِ دُونَ النَّعْجَةِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: بِأَفْضَلِيَّةِ الذُّكُورِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِنَاثِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ فِي غَيْرِ ذَكَرِ الضَّأْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي ذَكَرِ الضَّأْنِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أُنْثَاهُ. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْعَ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ مَنْسُوخٌ. فَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ ادِّخَارَ لَحْمِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَمَنَعَ الْمُضَحِّيَ بِأَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَصَارَ الْأَكْلُ وَالِادِّخَارُ مِنْهَا مُبَاحًا مُطْلَقًا. وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ طَرَفًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَنْعِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَعَلَى نَسْخِهِ وَإِبَاحَةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا الْعَامَ الْمَاضِيَ؟ قَالَ: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا» ، وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَرِيبًا مِنْ لَفْظِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ مِنْ لُحُومِ نُسُكِنَا بَعْدَ ثَلَاثٍ» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ فَلَا تَأْكُلُوا» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ» ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَأْكُلُ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ. وَفِي لَفْظٍ: بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقَدٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ فَقَالَتْ: صَدَقَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَقُولُ: دَفَّ أَهْلُ أَبِيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ صُفْرَةَ الْأَضْحَى زَمَنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» ادَّخِرُوا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ «، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الْأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيُجْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ فَقَالَ:» إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا «. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: «كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثٍ فِي مِنًى، فَأَرْخَصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «كُلُوا وَتَزَوَّدُوا» ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَالَ جَابِرٌ: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: كُنَّا لَا نُمْسِكُ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَزَوَّدَ مِنْهَا، وَنَأْكُلَ يَعْنِي: فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ: كُنَّا نَتَزَوَّدُهَا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، لَا تَأْكُلُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ» ، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ لَهُمْ عِيَالًا وَحَشَمًا وَخَدَمًا فَقَالَ: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَاحْبِسُوا وَادَّخِرُوا» ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: شَكَّ عَبْدُ الْأَعْلَى. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِيَّةً، ثُمَّ قَالَ:» يَا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لَهُمْ هَذِهِ «، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ» . وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» انْتَهَى مِنْهُ. فَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّابِتَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ فِي مُسْلِمٍ، وَبَعْضُهَا فِي الْبُخَارِيِّ فِيهَا الدَّلَالَةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ أَنَّ تَحْرِيمَ الِادِّخَارِ، وَالْأَكْلِ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ، فَوْقَ ثَلَاثٍ: أَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: تَعْلِيلُ ذَلِكَ النَّهْيِ الْمُوَقَّتِ بِمَجِيءِ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْبَادِيَةِ، وَهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ بِالدَّافَّةِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» : الدَّافَّةُ الْقَوْمُ يَسِيرُونَ جَمَاعَةً سَيْرًا لَيْسَ بِالشَّدِيدِ. يُقَالُ لَهُمْ: يَدِفُّونَ دَفِيفًا، وَالدَّافَّةُ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَرِدُونَ الْمِصْرَ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عِنْدَ الْأَضْحَى، فَنَهَاهُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ، لِيُفَرِّقُوهَا وَيَتَصَدَّقُوا بِهَا، فَيَنْتَفِعَ أُولَئِكَ الْقَادِمُونَ بِهَا. انْتَهَى مِنَ «النِّهَايَةِ» . تَنْبِيهٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: بِاشْتِرَاطِ انْعِكَاسِ الْعِلَّةِ فِي صِحَّتِهَا ; لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ: هِيَ وُجُودُ دَافَّةِ فُقَرَاءِ الْبَادِيَةِ، الَّذِينَ دَفُّوا عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا زَالَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ زَالَ الْحُكْمُ مَعَهَا، وَدَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَ عِلَّتِهِ فِي الْعَدَمِ، هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِانْعِكَاسِهَا. وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَحَلَّ الْقَدْحِ فِي الْعِلَّةِ بِعَدَمِ انْعِكَاسِهَا فِيمَا إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَاحِدَةً، لَا إِنْ كَانَتْ لَهُ عِلَلٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلَا يَقْدَحُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِعَدَمِ الْعَكْسِ ; لِأَنَّهُ إِذَا انْعَدَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْعِلَّةِ الْأُخْرَى، كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، لِنَقْضِ الْوُضُوءِ مَثَلًا. فَإِنَّ الْبَوْلَ يَكُونُ مَعْدُومًا وَعِلَّةُ النَّقْضِ ثَابِتَةٌ بِخُرُوجِ الْغَائِطِ، وَهَكَذَا. وَكَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهَا عِلَّةً وَاحِدَةً لَا بُدَّ أَيْضًا فِي الْقَدْحِ فِيهَا، بِعَدَمِ الْعَكْسِ مِنْ عَدَمِ وُرُودِ دَلِيلٍ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ ذَهَابِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ، مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا بِعَدَمِ الْعَكْسِ، كَالرَّمَلِ فِي الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ مِنَ الطَّوَافِ، فَإِنَّ عِلَّتَهُ هِيَ أَنْ يَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَقْوِيَاءُ وَلَمْ تُضْعِفْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ قَدْ زَالَتْ مَعَ أَنَّ حُكْمَهَا وَهُوَ الرَّمَلُ فِي الْأَشْوَاطِ الْمَذْكُورَةِ بَاقٍ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى بَقَائِهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَعْدُومَةٌ قَطْعًا زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ بِقَوْلِهِ: وَعَدَمُ الْعَكْسِ مَعَ اتِّحَادٍ ... يَقْدَحُ دُونَ النَّصِّ بِالتَّمَادِي الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: هُوَ نَسْخُ الْأَمْرِ بِالْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ، عَنْ عِيَاضٍ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَسْخِ الْأَمْرِ بِالْفَرَعِ، وَالْعَتِيرَةِ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: اسْتِحْبَابُ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ قَالَ: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 وَالدَّلِيلُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ نَسْخُهُمَا: هُوَ ثُبُوتُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ح) ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» ، زَادَ ابْنُ رَافِعٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانَ يَنْتِجُ لَهُمْ فَيَذْبَحُونَهُ اهـ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ مِنْ طَرِيقَيْهِ كَمَا تَرَى. وَفِيهِ: تَصْرِيحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ لَا فَرَعَ. وَالْعَتِيرَةُ وَالْفَرَعُ بِالْفَاءِ وَالرَّاءِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ بَعْدُهُمَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، جَاءَ تَفْسِيرُهُ، عَنِ ابْنِ رَافِعٍ كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ فِيمَا رَأَيْتُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ وَآخَرُونَ: الْفَرَعُ هُوَ أَوَّلُ نِتَاجِ الْبَهِيمَةِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ، وَلَا يَمْلِكُونَهُ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي الْأُمِّ، وَكَثْرَةِ نَسْلِهَا، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ كَثِيرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: هُوَ أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ: وَهِيَ طَوَاغِيتُهُمْ. وَكَذَا جَاءَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ النِّتَاجِ لِمَنْ بَلَغَتْ إِبِلُهُ مِائَةً يَذْبَحُونَهُ. وَقَالَ شِمْرٌ: قَالَ أَبُو مَالِكٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَتْ إِبِلُهُ مِائَةً قَدَّمَ بِكْرًا فَنَحَرَهُ لِصَنَمِهِ، وَيُسَمُّونَهُ الْفَرَعَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْعَتِيرَةُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ فَهِيَ: ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَجَبٍ، وَيُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةَ أَيْضًا، وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا صَرِيحٌ فِي نَسْخِ الْأَمْرِ بِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» نَفْيٌ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ، فِيمَا يَظْهَرُ كَقَوْلِهِ: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [2 \ 197] ، أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَعْمَلُوا عَمَلَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَبْحِ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الصِّيغَةَ نَافِيَةٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ مَطْلُوبَانِ شَرْعًا، وَنَسْخُهُمَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَمَا رَأَيْتَ. وَمَنْ زَعَمَ بَقَاءَ مَشْرُوعِيَّتِهِمَا، وَاسْتِحْبَابَهُمَا فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَلَى ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ حَاصِلَهَا بِوَاسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ ; لِأَنَّهُ جَمَعَهَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَقَالَ مِنْهَا: حَدِيثُ نُبَيْشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، فَقَالَ: «اذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ، وَبَرُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَطْعِمُوا» ، قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُفْرِعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: «فِي كُلِّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 سَائِمَةٍ فَرَعٌ تَغْذُوهُ مَاشِيَتُكَ حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْتَهُ فَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ: السَّائِمَةُ مِائَةٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَرَعَةِ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ وَاحِدَةٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ شَاةً شَاةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: حَدِيثُ عَائِشَةَ صَحِيحٌ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الرَّاوِي: أَرَاهُ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْفَرَعِ، فَقَالَ: «الْفَرَعُ حَقٌّ، وَإِنْ تَرَكُوهُ حَتَّى يَكُونَ بِكْرًا أَوِ ابْنَ مَخَاضٍ أَوِ ابْنَ لَبُونٍ، فَتُعْطِيهِ أَرْمَلَةً أَوْ تَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ فَيَلْزَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ وَتَكْفَأَ إِنَاءَكَ وَتُولِهَ نَاقَتَكَ» ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفَرَعُ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ حِينَ يُولَدُ وَلَا شِبَعَ فِيهِ» ، وَلِذَا قَالَ: «تَذْبَحُهُ، فَيَلْزَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ» ، وَفِيهِ أَنَّ ذَهَابَ وَلَدِهَا يَدْفَعُ لَبَنَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: «خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكْفَأَ» يَعْنِي: أَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّكَ كَفَأْتَ إِنَاءَكَ وَأَرَقْتَهُ. وَأَشَارَ بِهِ إِلَى ذَهَابِ اللَّبَنِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ يَفْجَعُهَا بِوَلَدِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: «وَتُولِهَ نَاقَتَكَ» فَأَشَارَ بِتَرْكِهِ، حَتَّى يَكُونَ ابْنَ مَخَاضٍ، وَهُوَ ابْنُ سَنَةٍ، ثُمَّ يَذْهَبُ وَقَدْ طَابَ لَحْمُهُ وَاسْتَمْتَعَ بِلَبَنِ أُمِّهِ، وَلَا تَشُقُّ عَلَيْهَا مُفَارَقَتُهُ ; لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهَا. هَذَا كَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ، أَوْ قَالَ: بِمِنًى، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْعَتِيرَةِ؟ فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ عَتَرَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ» ، وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنَّا كُنَّا نَذْبَحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ذَبَائِحَ فِي رَجَبٍ، فَنَأْكُلُ مِنْهَا، وَنُطْعِمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا بَأْسَ بِذَلِكَ» ، وَعَنْ أَبِي رَمْلَةَ، عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ هَلْ تَدْرِي مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى الرَّجَبِيَّةَ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ الْمَخْرَجِ ; لِأَنَّ أَبَا رَمْلَةَ مَجْهُولٌ، هَذَا مُخْتَصَرُ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى حَدِيثِ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ الْمُقْتَضِي: أَنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ: أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً، وَقَدْ عَلِمْتَ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِيهِمَا: النَّسْخُ، وَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ الْمُصَرِّحَ بِذَلِكَ أَصَحُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى النَّسْخِ فِي ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ عِيَاضٍ. وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يَتَقَرَّبُونَ بِهِمَا [لِطَوَاغِيتِهِمَا] ، وَلِلْمُخَالِفِ أَنَّ يَقُولَ فِي هَذَا الْأَخِيرِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِهِمَا لِلَّهِ وَيَتَصَدَّقُونَ بِلُحُومِهِمَا. وَلَمْ نَسْتَقْصِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ، لِطُولِ الْكَلَامِ فِي مَوْضُوعِ آيَاتِ الْحَجِّ هَذِهِ. الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَعِيبَةَ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَلَا تُجْزِئُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ، بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضَلَعُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي» ، وَالَّتِي لَا تُنْقِي هِيَ الَّتِي لَا مُخَّ فِيهَا ; لِأَنَّ النِّقْيَ بِكَسْرِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَسُكُونِ الْقَافِ الْمُخُّ. فَقَوْلُ الْعَرَبِ: أَنْقَتْ تُنْقِي إِنْقَاءً: إِذَا كَانَ لَهَا مُخٌّ وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ يَرْثِي أَخَاهُ: يَبِيتُ النَّدَى يَا أُمَّ عَمْرٍو ضَجِيعَهُ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُنْقِيَاتِ حَلُوبُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلَا يَسْرِقُ الْكَلْبُ السَّرُوقُ نِعَالَنَا ... وَلَا يَنْتَقِي الْمُخَّ الَّذِي فِي الْجَمَاجِمِ وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» : وَالْكَسِيرُ: الَّتِي لَا تُنَقَّى، أَيِ الَّتِي لَا مُخَّ فِيهَا لِضَعْفِهَا وَهُزَالِهَا. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «الْبَيِّنُ ضَلَعُهَا» أَيْ: عَرَجُهَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَالضَّلَعُ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَاللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ وَلَا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ» . قَالَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى» : وَرَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمُرَادُهُ بِالْخَمْسَةِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ: أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْمُقَابَلَةُ وَالْمُدَابَرَةُ: كِلْتَاهُمَا بِفَتْحِ الْبَاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُقَابَلَةُ: هِيَ الَّتِي قُطِعَ شَيْءٌ مِنْ مُقَدَّمِ أُذُنِهَا وَلَمْ يَنْفَصِلْ، بَلْ بَقِيَ لَاصِقًا بِالْأُذُنِ مُتَدَلِّيًا، وَالْمُدَابَرَةُ: هِيَ الَّتِي قُطِعَ شَيْءٌ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا عَلَى نَحْوِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 مَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَالْخَرْقَاءُ: الَّتِي فِي أُذُنِهَا خَرْقٌ مُسْتَدِيرٌ، وَالشَّرْقَاءُ: مَشْقُوقُ الْأُذُنِ اهـ. وَضَابِطُ مَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ هُوَ مَا يُنْقِصُ اللَّحْمَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَمْيَاءَ لَا تُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ. وَاخْتَلَفُوا فِي ذَاهِبَةِ الْقَرْنِ وَمَكْسُورَتِهِ فَمَذْهَبُنَا: أَنَّهَا تُجْزِئُ. قَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ مَكْسُورَةَ الْقَرْنِ، وَهُوَ يَدْمَى لَمْ تُجْزِهِ، وَإِلَّا فَتُجْزِئُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ قَرْنِهَا لَمْ تُجْزِهِ، سَوَاءً دَمِيَتْ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصْفِ أَجْزَأَتْهُ. وَأَمَّا مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، فَمَذْهَبُنَا: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، سَوَاءً قُطِعَ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ قُطِعَ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ لَمْ تُجْزِهِ، وَإِلَّا فَتُجْزِئُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قُطِعَ أَكْثَرُ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ تُجْزِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ أُذُنِهَا: أَجْزَأَتْ، وَأَمَّا مَقْطُوعَةُ بَعْضِ الْأَلْيَةِ: فَلَا تُجْزِئُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: إِنْ بَقِيَ الثُّلُثُ أَجْزَأَتْ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنْ بَقِيَ أَكْثَرُهَا أَجْزَأَتْ، وَقَالَ دَاوُدُ: تُجْزِئُ بِكُلِّ حَالٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هُنَاكَ رِوَايَاتٍ أُخَرَ لَمْ يَذْكُرْهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ وَلَمْ نَسْتَقْصِ هُنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ بَابَ الْأُضْحِيَّةِ جَاءَ فِي هَذَا الْكِتَابِ اسْتِطْرَادًا، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي آيَاتِ الْحَجِّ طَالَ كَثِيرًا ; وَلِذَلِكَ اكْتَفَيْنَا هُنَا بِهَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْأَضَاحِيِّ. مَسْأَلَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْعُمْرَةُ قَرِينَةَ الْحَجِّ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] ، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [2 \ 158] ، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [2 \ 196] ، أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَا حُكْمَ الْعُمْرَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ اسْتِطْرَادًا، وَالْعُمْرَةُ فِي اللُّغَةِ الزِّيَارَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... مَغْزًى بَعِيدًا مِنْ بَعِيدٍ وَخَبَرْ وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: زِيَارَةُ بَيْتِ اللَّهِ لِلنُّسُكِ الْمَعْرُوفِ الْمُتَرَكِّبِ مِنْ إِحْرَامٍ، وَطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا، وَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهَا وَعَدَمُ إِتْمَامِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. أَمَّا حُكْمُ اسْتِئْنَافِ فِعْلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمْرِ كَالْحَجِّ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ أَصْلًا، وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّهَا فَرْضٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً: الشَّافِعِيُّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَسْرُوقٌ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَضْرَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُدُ. وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْعُمْرِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَتَجِبُ الْعُمْرَةُ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعُمْرَةِ: هَلْ هِيَ فَرْضٌ فِي الْعُمْرِ، أَوْ سُنَّةٌ؟ فَدُونَكَ أَدِلَّتَهُمْ، وَمُنَاقَشَتَهَا بِاخْتِصَارٍ مَعَ بَيَانِ مَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ مِنْهَا. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْعُمْرَةُ فَرْضٌ فِي الْعُمْرِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ الْعَقِيلِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى وَهُوَ أَنَّهُ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ، فَقَالَ:» حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ «، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَمَحَلُّ الدَّلِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ:» وَاعْتَمِرْ «; لِأَنَّهُ صِيغَةُ أَمْرٍ بِالْعُمْرَةِ، مَقْرُونَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْحَجِّ، فَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ كَمَا أَوْضَحْنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِي إِيجَابِ الْعُمْرَةِ حَدِيثًا أَجْوَدَ مِنْ هَذَا وَلَا أَصَحَّ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْآيَةَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِتْمَامِهَا فِي الْآيَةِ ابْتِدَاءُ فِعْلِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، لَا إِتْمَامُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْهَا: وُجُوبُ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ إِلَى حُكْمِ ابْتِدَاءِ فِعْلِهَا. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى وُجُوبِهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ:» الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ، لَا يَضُرُّكَ أَيَّهُمَا بَدَأْتَ «اهـ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ: مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثٍ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ:» وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ «، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَرَوَاهُ الْمَجْدُ فِي» الْمُنْتَقَى «، بِلَفْظٍ قَالَ:» يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ» ، الْحَدِيثَ. وَأَنَّهُ قَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» ، ثُمَّ قَالَ الْمَجْدُ: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَوْزَقِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْمُخَرَّجِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» . وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى وُجُوبِهَا: مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» ، اهـ. قَالَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى» : رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمِنْ أَجْوِبَةِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ حَدِيثًا أَجْوَدَ فِي إِيجَابِ الْعُمْرَةِ مِنْهُ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ الْعَقِيلِيِّ، الَّذِي فِيهِ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» ، أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: «وَاعْتَمِرْ» ، وَارِدَةٌ بَعْدَ سُؤَالِ أَبِي رَزِينٍ، وَقَدْ قَرَّرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْوَارِدَةَ بَعْدَ الْمَنْعِ أَوِ السُّؤَالِ: إِنَّمَا تَقْتَضِي الْجَوَازَ لَا الْوُجُوبَ ; لِأَنَّ وُقُوعَهَا فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنِ الْجَوَازِ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى الْجَوَازِ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي آيَاتِ الْحَجِّ هَذِهِ، وَأَجَابُوا عَنْ آيَةِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: الْإِتْمَامُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» ، الْحَدِيثَ. بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُسْلِمٍ الْمَكِّيَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : ثُمَّ هُوَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا، عَلَى زَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِسْنَادُهُ أَصَحُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، عَنْ عَطَاءٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَ: لَيْسَ بِصَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَأَجَابُوا عَمَّا جَاءَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ» ، بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعُمْرَةِ وَهِيَ أَصَحُّ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ زِيَادَةَ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: هُوَ مَا ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» ، فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَنَصُّ كَلَامِهِ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ وُقُوعَ الْعُمْرَةِ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ: يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، فَيُقَالُ: لَيْسَ كُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْإِسْلَامِ وَاجِبًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: حَدِيثُ شُعَبِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أُمُورٍ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، انْتَهَى مِنْهُ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: بِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» ، بِأَنَّ لَفْظَةَ: «عَلَيْهِنَّ» : لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْوُجُوبِ، فَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِإِرَادَةِ الْوُجُوبِ وَالسُّنَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ، لَزِمَ طَلَبُ الدَّلِيلِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ وَقَدْ دَلَّ دَلِيلٌ خَارِجٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ خَارِجٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ، وَمُنَاقَشَةُ مُخَالِفِيهِمْ لَهُمْ. أَمَّا الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ لَا فَرْضٌ، فَقَدِ احْتَجُّوا أَيْضًا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: «لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوْلَى لَكَ» ، وَقَالَ صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ جَابِرٍ بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَبُو صَالِحٍ: لَيْسَ هُوَ ذَكْوَانُ السَّمَّانُ، بَلْ هُوَ: أَبُو صَالِحٍ مَاهَانُ الْحَنَفِيُّ، كَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَجُّ جِهَادٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَحَجَّةٍ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَأَجْرُهُ كَعُمْرَةٍ» . هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ مَنْ قَالُوا: بِأَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَأَجَابَ مُخَالِفُوهُمْ عَنْ أَدِلَّتِهِمْ، قَالُوا: أَمَّا حَدِيثُ سُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَأَنَّهُ أَجَابَهُ: بِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَنَّهُ إِنِ اعْتَمَرَ تَطَوُّعًا، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَتَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ لَهُ مَرْدُودٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ: الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى تَضْعِيفِ الْحَجَّاجِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» : وَفِي تَصْحِيحِهِ نَظَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَجْلِ الْحَجَّاجِ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَلَّا يُغْتَرَّ بِكَلَامِ التِّرْمِذِيِّ فِي تَصْحِيحِهِ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ شَيْءٌ ثَابِتٌ: أَنَّهَا تَطَوُّعٌ. وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْذُوبٌ بَاطِلٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ، وَقَالَ كَذَلِكَ: رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ انْتَهَى مِنْهُ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَجِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ، الَّتِي ذَكَرْنَا فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُحْتَجٌّ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَحَجَّةٍ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ غَيْرِ مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ كَعُمْرَةٍ» ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْحَقُّ عَدَمُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ ; لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ، لَا يُنْتَقَلُ عَنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَثْبُتُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَلَا دَلِيلَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مَعَ اعْتِضَادِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ: بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اقْتِصَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَجِّ فِي حَدِيثِ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» ، وَاقْتِصَارُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [3 \ 97] ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَا احْتَجَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ رَأَيْتُ الشَّوْكَانِيَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 رَجَّحَ عَدَمَ الْوُجُوبِ بِمُوَافَقَتِهِ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ بِمُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ: تَرْجِيحُ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ عَلَى أَدِلَّةِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُولِ يُرَجِّحُونَ الْخَبَرَ النَّاقِلَ عَنِ الْأَصْلِ: عَلَى الْخَبَرِ الْمُبْقِي عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ: وَنَاقِلٌ وَمُثْبِتٌ وَالْآمِرُ بَعْدَ النَّوَاهِي ثُمَّ هَذَا الْآخَرُ عَلَى إِبَاحَةِ. . . إِلَخْ. لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَنَاقِلٌ» أَنَّ الْخَبَرَ النَّاقِلَ عَنِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ الْمُبْقِي عَلَيْهَا. وَعَزَاهُ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى: «نَشْرُ الْبُنُودِ لِلْجُمْهُورِ» ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ. الثَّانِي أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: رَجَّحُوا الْخَبَرَ الدَّالَّ عَلَى الْوُجُوبِ، عَلَى الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ: هُوَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، الْمَذْكُورِ آنِفًا: ثُمَّ هَذَا الْآخَرُ. . . . عَلَى إِبَاحَةِ إِلَخْ ; لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْآخَرِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الْإِبَاحَةِ: هُوَ الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى الْأَمْرِ، فَالْأَوَّلُ الدَّالُّ عَلَى النَّهْيِ ; لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ، مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، ثُمَّ الدَّالُّ عَلَى الْأَمْرِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ، ثُمَّ الدَّالُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَيَشْمَلُ غَيْرَ الْوَاجِبِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْنُونَ وَالْمَنْدُوبُ ; لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي عَدَمِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّكَ إِنْ عَمِلْتَ بِقَوْلِ مَنْ أَوْجَبَهَا فَأَدَّيْتَهَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ بَرِئَتْ ذِمَّتُكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا، وَلَوْ مَشَيْتَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلَمْ تُؤَدِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ بَقِيتَ مُطَالَبًا بِوَاجِبٍ عَلَى قَوْلِ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وَيَقُولُ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» ، وَهَذَا الْمُرَجَّحُ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا قَبْلَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْعُمْرَةِ إِلَّا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. فَلَا تَنْبَغِي الْعُمْرَةُ فِيهَا حَتَّى تَغْرُبَ شَمْسُ الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ، عَلَى مَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ «عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» . وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ: «حَجَّةً مَعِي» . الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَجَبٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَطْعًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، إِلَّا أَرْبَعَ عُمَرٍ. الْأُولَى: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، مِنْ عَامِ سِتٍّ، وَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَحَلَّ وَنَحَرَ مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ وَلَا سَعْيٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الثَّانِيَةُ: عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَامَ سَبْعٍ: وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَجْهَ تَسْمِيَتِهَا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَأَوْضَحْنَاهُ. الثَّالِثَةُ: عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ عَامِ ثَمَانٍ، بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ عَامَ ثَمَانٍ. الرَّابِعَةُ: الْعُمْرَةُ الَّتِي قَرَنَهَا، مَعَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ وَلْنَكْتَفِ هُنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُمْرَةِ ; لِأَنَّ غَالِبَ أَحْكَامِهَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِنَا عَلَى مَسَائِلِ الْحَجِّ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [22 \ 29] . صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيفَاءِ بِالنَّذْرِ، كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، عَلَى الْأَصَحِّ، إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى لُزُومِ الْإِيفَاءِ بِالنَّذْرِ: أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ هُوَ، وَالْخَوْفُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِنْ أَسْبَابِ الشُّرْبِ مِنَ الْكَأْسِ الْمَمْزُوجَةِ بِالْكَافُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [76 \ 5 - 6] ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى بَعْضِ أَسْبَابِ ذَلِكَ، فَقَالَ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [76 \ 7] ، فَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ مَمْدُوحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ آيَةُ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي وُجُوبِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ الْآيَةَ [2 \ 270] . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْبَيَانَ بِالْقُرْآنِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ أَتْمَمْنَاهُ بِالْبَيَانِ بِالسُّنَّةِ. وَلِذَلِكَ سَنُبَيِّنُ هُنَا مَا تَقْتَضِيهِ السُّنَّةُ مِنَ النَّذْرِ الَّذِي يَجِبُ الْإِيفَاءُ بِهِ، وَالَّذِي لَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ بِهِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْأَمْرَ الْمَنْذُورَ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ حَالَتَانِ: الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ فِيهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 وَالثَّانِيَةُ: أَلَّا يَكُونَ فِيهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ مُنْقَسِمٌ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ. وَالثَّانِي: مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فِي ذَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّاعَةِ كَالْمُبَاحِ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِمَادُهُ بِالدَّلِيلِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ إِنْ كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَجَبَ الْإِيفَاءُ بِهِ، سَوَاءً كَانَ فِي نَدْبٍ كَالَّذِي يَنْذُرُ صَدَقَةً بِدَرَاهِمَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ يَنْذُرُ ذَبْحَ هَدْيٍ تَطَوُّعًا أَوْ صَوْمَ أَيَّامٍ تَطَوُّعًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ، يَجِبُ بِالنَّذْرِ، وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ إِنْ تَعَلَّقَ النَّذْرُ بِوَصْفٍ، كَالَّذِي يَنْذُرُ أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيفَاءُ بِذَلِكَ. أَمَّا لَوْ نَذَرَ الْوَاجِبَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَا أَثَرَ لِنَذْرِهِ ; لَأَنَّ إِيجَابَ اللَّهِ لِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ إِيجَابِهِ بِالنَّذْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْذُورُ مَعْصِيَةً لِلَّهِ: فَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا نَهْيَ فِيهِ، وَلَا أَمْرَ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيفَاءِ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ وَعَلَى مَنْعِهِ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي وُجُوبِ الْإِيفَاءِ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ، وَمَنْعِ الْإِيفَاءِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، قَدْ دَلَّ عَلَى لُزُومِ الْإِيفَاءِ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ، وَمَنْعِهِ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى عَدَمِ الْإِيفَاءِ بِنَذْرِ الْأَمْرِ الْجَائِزِ: هُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بَرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَذْرِهِ مِنْ جِنْسِ الطَّاعَةِ، وَهُوَ الصَّوْمُ أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِتْمَامِهِ، وَفَاءً بِنَذْرِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرِهِ مُبَاحًا لَا طَاعَةً، كَتَرْكِ الْكَلَامِ، وَتَرْكِ الْقُعُودِ، وَتَرْكِ الِاسْتِظْلَالِ، أَمَرَهُ بِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّا لَمْ نَذْكُرْ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ هُنَا لِلِاخْتِصَارِ، وَلِوُجُودِ الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا نَذْرَ لِشَخْصٍ فِي التَّقَرُّبِ بِشَيْءٍ لَا يَمْلِكُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ مَا نَصُّهُ: وَأُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ، فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَأَتَتِ الْإِبِلَ، فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ، فَلَمْ تَرْغُ قَالَ: وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا، ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ وَنَذَرُوا بِهَا فَطَلَبُوهَا، فَأَعْجَزَتْهُمْ قَالَ: وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا. فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ، رَآهَا النَّاسُ فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» ، الْحَدِيثَ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» ، وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي «بُلُوغِ الْمَرَامِ» : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَرَدْمٍ عِنْدَ أَحْمَدَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، هَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؟ وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ: هُوَ حَدِيثُ نَذْرِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَسْتَظِلُّ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَذْكُورِ آنِفًا: أَنَّهُ لَا يَفِي بِهَذَا النَّذْرِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، مُوَضَّحًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ فِي قِصَّةِ أَبِي إِسْرَائِيلَ: هَذِهِ أَوْضَحُ الْحُجَجِ لِلْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، عَلَى مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً، أَوْ مَا لَا طَاعَةَ فِيهِ. فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لَمَّا ذَكَرَهُ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الَّذِي لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ يُونُسَ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» اهـ، وَظَاهِرُهُ شُمُولُهُ لِلنَّذْرِ الَّذِي لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهِ، فَحَمَلَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ اللَّجَاجِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِنْسَانٌ يُرِيدُ الِامْتِنَاعَ مِنْ كَلَامِ زِيدٍ مَثَلًا: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا مَثَلًا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ، أَوْ غَيْرُهَا، فَيُكَلِّمُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا، وَحَمَلَهُ مَالِكٌ وَكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى النَّذْرِ الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّذْرِ، وَقَالُوا: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي جَمِيعِ الْمَنْذُورَاتِ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَلَا يَخْفَى بَعْدَ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، فَهُوَ أَمْرٌ جَازِمٌ مَانِعٌ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِيفَاءِ بِهِ، وَبَيْنَ شَيْءٍ آخَرَ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرٌ، أَنَّهُ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: النَّذْرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 الْمُطْلَقُ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ صَاحِبُهُ مَا نَذَرَهُ بَلْ أَطْلَقَهُ، وَالْبَيَانُ يَجُوزُ بِكُلِّ مَا يَزِيدُ الْإِيهَامَ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ شُرْبَ الْعَسَلِ عَلَى نَفْسِهِ فِي قِصَّةِ مُمَالَأَةِ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [66 \ 1] ، قَالَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [66 \ 2] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: بِلُزُومِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ، وَالْأَقْوَالُ فِيمَنْ حَرَّمَ زَوْجَتَهُ، أَوْ جَارِيَتَهُ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَغَيْرُ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ لَا يَحْرُمُ بِالتَّحْرِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْخِلَافُ فِي لُزُومِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَعَدَمِ لُزُومِهَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ لُزُومُهَا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: لَا يَلْزَمُ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، أَمَّا تَحْرِيمُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ، فَفِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا مَعْرُوفَةً فِي مَحَلِّهَا، وَأَجْرَاهَا عَلَى الْقِيَاسِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ لُزُومُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ حَرَامٌ، وَالظِّهَارُ نَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ كَفَّارَتَهُ الْمَنْصُوصَةَ فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» . أَمَّا نَذْرُ اللَّجَاجِ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ، بِأَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَالْمُرَادُ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ: النَّذْرُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَمْرٍ لَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، بِأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِهِ شَيْئًا، أَوْ يَحُثَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَلَّمْتَ زَيْدًا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَدَقَةُ مَالِي أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ، فَهَذَا يَمِينٌ حُكْمُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ فَيَتَخَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِ الْمَنْذُورِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَيُسَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ، وَالْغَضَبِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْوَفَاءُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا شَيْءَ فِي الْحَلِفِ بِالْحَجِّ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَالْحَكَمِ: لَا شَيْءَ فِي الْحَلِفِ بِصَدَقَةِ مَالِهِ ; لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَلْزَمُ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ لِحُرْمَةِ الِاسْمِ، وَهَذَا مَا حَلَفَ بِاسْمِ اللَّهِ وَلَا يَجِبُ مَا سَمَّاهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْقُرْبَةِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ عَلَى طَرِيقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 الْعُقُوبَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ ; لِأَنَّهُ نَذْرٌ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ كَنَذْرِ الْبِرِّ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَلَنَا مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْجَوْزَجَانِيُّ فِي الْمُتَرْجِمِ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ وَالْهَدْيِ، أَوْ جَعَلَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ يَمِينٌ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ، فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ: إِنْ عُدْتَ تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ، فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكِ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَكَلِّمْ أَخَاكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَفِيمَا لَا تَمْلِكُ» ، اهـ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْ عُمَرَ. قَالَهُ بَعْضُهُمْ: وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدٍ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِ سَعِيدٍ مِنْ عُمَرَ، وَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ نَقْبَلْ سَعِيدًا، عَنْ عُمَرَ، فَمَنْ يُقْبَلُ. وَالظَّاهِرُ سَمَاعُهُ مِنْ عُمَرَ كَمَا صَدَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَاحِبُ «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» ، وَعَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، وَحَدِيثُ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ: إِمَّا مُتَّصِلٌ، وَإِمَّا مُرْسَلٌ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَلَكِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ مَالَهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ إِنْ كَلَّمَ ذَا قَرَابَةٍ. فَقَالَتْ: يُكَفِّرُ عَنِ الْيَمِينِ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ اهـ. وَلَفْظُ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» : فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ، وَلَيْسَ فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ فَتْوَاهَا هَذِهِ فِي نَذْرِ لَجَاجٍ بَلِ الَّذِي فِيهِ: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ بَابُهَا وَهُوَ بِرَاءٍ مَكْسُورَةٍ، فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ فَجِيمٌ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ: حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي لِمَا ذَكَرْنَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا شَيْءَ فِيهِ. وَأَمَّا نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا خِلَافَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 أَنَّهُ حَرَامٌ، وَأَنَّ الْوَفَاءَ بِهِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» ، وَنَفْيُ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ أَثَرِهِ، فَإِذَا انْتَفَى النَّذْرُ مِنْ أَصْلِهِ انْتَفَتْ كَفَّارَتُهُ ; لِأَنَّ التَّابِعَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْمَتْبُوعِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الصِّيغَةَ فِي قَوْلِهِ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» ، خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءُ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَإِذَا فَسَدَ الْمَنْذُورُ بِالنَّهْيِ بَطَلَ مَعَهُ تَأْثِيرُهُ فِي الْكَفَّارَةِ. قَالُوا: وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الْكَفَّارَةِ. قَالُوا: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِأَنَّهُ: «لَا نَذْرَ إِلَّا فِيمَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» . قَالَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى» : رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «إِنَّمَا النَّذْرُ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ مُنَاقَشَاتٌ تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةَ كَفَّارَةً بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ. مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، قَالَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى» : رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْخَمْسَةِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو مَعْمَرٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ قَالَ: ثَنَا وَهْبٌ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمَعْنَاهُ. وَإِسْنَادُهُ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ شَبُّوَيْهِ، يَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يَعْنِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حَدَّثَ أَبُو سَلَمَةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: أَفْسَدُوا عَلَيْنَا هَذَا الْحَدِيثَ، قِيلَ لَهُ: وَصَحَّ إِفْسَادُهُ عِنْدَكَ، وَهَلْ رَوَاهُ غَيْرُ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ؟ قَالَ: أَيُّوبُ كَانَ أَمْثَلَ مِنْهُ، يَعْنِي: أَيُّوبَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 أَرْقَمَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّمَا الْحَدِيثُ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَرْقَمَ وَهِمَ فِيهِ، وَحَمَلَهُ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَأَرْسَلَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى بَقِيَّةُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِإِسْنَادِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ مِثْلَهُ اهـ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِهِ. وَفِيهِ سُوءُ ظَنٍّ كَثِيرٌ بِالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ حَذَفَ مِنْ إِسْنَادِ الْحَدِيثِ وَاسِطَتَيْنِ: وَهُمَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَرْسَلَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَكَذَلِكَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ، لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَمِمَّا يُقَوِّي سُوءَ الظَّنِّ الْمَذْكُورَ بِالزُّهْرِيِّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَرْقَمَ الَّذِي حَذَفَهُ مِنَ الْإِسْنَادِ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، فَحَذْفُ الْمَتْرُوكِ. وَرِوَايَةُ حَدِيثِهِ عَمَّنْ فَوْقَهُ مِنَ الْعُدُولِ مِنْ تَدْلِيسِ التَّسْوِيَةِ، وَهُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ التَّدْلِيسِ وَأَقْبَحُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّدْلِيسِ قَادِحٌ فِيمَنْ تَعَمَّدَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَنَّ الثَّوْرِيَّ وَالْأَعْمَشَ كَانَا يَفْعَلَانِ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّدْلِيسِ مُجَابٌ عَنْهُ بِأَنَّهُمَا لَا يُدَلِّسَانِ إِلَّا عَمَّنْ هُوَ ثِقَةٌ عِنْدَهُمَا. وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا. وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَكُونَ الزُّهْرِيُّ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِسُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ مَعَ اتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لُزُومَ الْكَفَّارَةِ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، جَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ، لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ كَلَامٍ. وَقَدْ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «الرَّوْضَةِ» : حَدِيثُ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ. قَالَ الْحَافِظُ: قُلْتُ: قَدْ صَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، فَأَيْنَ الِاتِّفَاقُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ تَرَكْنَا تَتَبُّعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَمُنَاقَشَتَهَا اخْتِصَارًا. وَالْأَحْوَطُ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ. فَمَنْ أَخْرَجَ كَفَّارَةً عَنْ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ، وَمَنْ لَمْ يُخْرِجْهَا بَقِيَ مُطَالَبًا بِهَا عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ، وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ نَذَرَ شَيْئًا مِنَ الطَّاعَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، فَلَوْ نَذَرَ مَثَلًا أَنْ يَحُجَّ، أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْمَشْيِ: جَازِ لَهُ الرُّكُوبُ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَشْيِ، وَإِنْ قَدِرَ عَلَى الْمَشْيِ: لَزِمَهُ. وَفِي حَالَةِ رُكُوبِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ، وَاللَّهُ يَقُولُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، فَقَدْ عَجَزَ عَمَّا نَذَرَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ غَيْرُ مَا نَذَرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ هَدْيٌ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ". وَلَا يُجْزِئُهُ الْمَشْيُ إِلَّا فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْيَ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ: هُوَ الْمَشْيُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ النَّاذِرُ حَمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ. وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ فِيهِ لِنَذْرِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ رَكِبَ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَفْتَى بِهِ عَطَاءٌ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتِ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ، وَتَهْدِيَ هَدْيًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ ; وَلِأَنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي الْإِحْرَامِ فَلَزِمَهُ هَدْيٌ، كَتَارِكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَا: يَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ، بَلْ وَيَرْكَبُ مَا مَشَى، وَيَمْشِي مَا رَكِبَ وَنَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَادَ، فَقَالَ: وَيَهْدِي، وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَالثَّانِيَةُ: كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ هَدْيٌ سَوَاءً عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، أَوْ قَدِرَ عَلَيْهِ. وَأَقَلُّ الْهَدْيِ: شَاةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ مَعَ الْعَجْزِ كَفَّارَةٌ بِحَالٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ مَشْيًا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ مَعَ الْعَجْزِ شَيْءٌ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ " الْمُغْنِي ". وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ شَيْئًا، وَعَجَزَ عَنْهُ، فَهَذِهِ أَدِلَّةُ أَقْوَالِهِمْ نَقَلْنَاهَا مُلَخَّصَةً بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي " الْمُنْتَقَى " ; لِأَنَّهُ جَمَعَهَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. أَمَّا مَنْ قَالَ: تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَدِ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُطِقْهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ " اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ ": فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ الْحُفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ، اهـ. كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ كُرَيْبٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكِ شَيْئًا ; لِتَخْرُجْ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْفِيرِ عَنِ الْيَمِينِ: هُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ الْمَعْرُوفَةُ، وَلَقَدْ صَدَقَ الشَّوْكَانِيُّ فِي أَنَّ رِجَالَ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورِ رِجَالُ الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ، ثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِمَتْنِهِ، فَطَبَقَةُ إِسْنَادِهِ الْأُولَى حَجَّاجُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ، وَهُوَ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ الَّذِي أَكْثَرَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنَ الْإِخْرَاجِ لَهُ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَطَبَقَتُهُ الثَّانِيَةُ: أَبُو النَّضْرِ، وَهُوَ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مِقْسَمٍ اللِّيثِيُّ الْبَغْدَادِيُّ خُرَاسَانِيُّ الْأَصْلِ، وَلَقَبُهُ قَيْصَرُ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، أَخْرَجَ لَهُ الْجَمِيعُ. وَطَبَقَتُهُ الثَّالِثَةُ هِيَ: شَرِيكٌ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَرِيكٍ النَّخَعِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ الْقَاضِي. أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ " أَنَّ مُسْلِمًا إِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ كَثِيرٌ بَيْنَ مُثْنٍ وَذَاكِرٍ غَيْرَ ذَلِكَ، وَطَبَقَتُهُ الرَّابِعَةُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَطَبَقَتُهُ الْخَامِسَةُ: كُرَيْبُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْهَاشِمِيُّ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ثِقَةٌ، وَأَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُ الْجَمِيعُ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ عَلَى مَنْ نَذَرَ نَذْرًا، وَلَمْ يُطِقْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً، غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ "، اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي " الْمُنْتَقَى ". قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حَسَّنَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 التِّرْمِذِيُّ وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي دَاوُدَ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدِهِ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَزْكِيَتَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَنْ أُخْتٍ لَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَقَالَ: " مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ". حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ، مَوْلًى لِبَنِي ضَمْرَةَ، وَكَانَ أَيَّمَا رَجُلٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الرُّعَيْنِيَّ، أَخْبَرَهُ بِإِسْنَادِ يَحْيَى، وَمَعْنَاهُ، اهـ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، فَكِتَابَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ إِلَى ابْنِ جُرَيْجٍ فِي ابْنِ زَحْرٍ الْمَذْكُورِ. وَكَانَ أَيَّمَا رَجُلٍ فِيهِ أَعْظَمُ تَزْكِيَةٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فَكَانَ أَيَّمَا رَجُلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَفَاضِلِ الرِّجَالِ وَالتَّفْضِيلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ، كَمَا تَرَى وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الرَّاعِي: فَأَوْمَأْتُ إِيمَاءً خَفِيًّا لِحَبْتَرٍ ... فَلِلَّهِ عَيْنَا حَبْتَرٍ أَيِّمَا فَتًى وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "، فِي ابْنِ زَحْرٍ الْمَذْكُورِ: صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُمُ: الْمُثْنِي، وَمِنْهُمُ الْقَادِحُ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّ عَلَيْهِ بَدَنَةً: هِيَ مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ وَشَكَا إِلَيْهِ ضَعْفَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ أُخْتِكَ فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ: قَالَ الْحَافِظُ فِي " التَّلْخِيصِ ": إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ عَلَيْهِ هَدْيًا هِيَ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ وَتَهْدِيَ هَدْيًا. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 هَذَا الْحَدِيثِ: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَلُزُومُ الْهَدْيِ الْمَذْكُورِ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَفَسَّرَ الْهَدْيَ: بِبَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ شَاةٍ، إِنْ لَمْ تَجِدْ غَيْرَهَا. هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ شَيْئًا، وَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ. وَالْقَوْلُ بِالْهَدْيِ وَالْقَوْلُ بِالْبَدَنَةِ، يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْبَدَنَةَ هَدْيٌ، وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ النَّاسِ فِي أَسَانِيدِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَحْوَطُهَا فِيمَنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، الَّذِي نَذَرَهُ فِي الْحَجِّ: الْبَدَنَةُ ; لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ، أَنْ تَلْزَمَ الْبَدَنَةُ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ الْهَدْيُ وَالصَّوْمُ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ ; لِأَنَّ كُلَّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ إِجْزَاءِ شَيْءٍ آخَرَ. فَحَدِيثُ لُزُومِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ الْبَدَنَةِ، وَحَدِيثُ الْهَدْيِ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ الصَّوْمِ مَثَلًا وَهَكَذَا. وَقَدْ عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ كَلَامٍ. وَظَاهِرُ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، وَيَقُولُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] ، وَيَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا الْآيَةَ [2 \ 286] قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: نَعَمْ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. الْآيَةَ [2 \ 286] . الْفَرْعُ الرَّابِعُ: فِي حُكْمِ الْإِقْدَامِ عَلَى النَّذْرِ، مَعَ تَعْرِيفِهِ لُغَةً وَشَرْعًا. اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يَنْبَغِي، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ، إِنْ كَانَ قُرْبَةً كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ، إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ ". وَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّذْرِ فَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ". وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَأْتِي ابْنُ آدَمَ النَّذْرَ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ ; فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 قَبْلُ "، اهـ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ ابْتِدَاءُ فِعْلِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ وَيَقُولُ: " إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشَّحِيحِ ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ". وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تَنْذُرُوا، فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يَرُدُّ مِنَ الْقَدَرِ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ". وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَرِّبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ قَدَّرَهُ لَهُ، وَلَكِنَّ النَّذْرَ يُوَافِقُ الْقَدَرَ فَيُخْرِجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ "، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: فِيهِ الدَّلَالَةُ الصَّرِيحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى النَّذْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [76 \ 5 - 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [2 \ 27] ، وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ الْآيَةَ [22 \ 29] وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ "، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ ذَمِّ الَّذِينَ لَمْ يُوفُوا بِنُذُورِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، حَدَّثَنَا زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ: " ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ "، اهـ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي إِثْمِ الَّذِينَ لَا يُوفُونَ بِنَذْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَالَّذِينِ يَخُونُونَ، وَلَا يُؤْتَمَنُونَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا: فِيهِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ النَّذْرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ: كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْإِقْدَامِ عَلَى النَّذْرِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى جَوَازِ نَذْرِ الْمَنْدُوبَاتِ إِلَّا الَّذِي يَتَكَرَّرُ دَائِمًا كَصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ. وَنُقِلَ نَحْوُهُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، وَجَزَمَ بِهِ عَنْهُمُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْخِلَافِ عَنْهُمْ، وَالْجَزْمِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ. وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ فِي أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّتِهَا، وَكَرَاهَتُهُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ". وَجَزَمَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي ": بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ لِي فِي طَرِيقِ إِزَالَةِ هَذَا الْإِشْكَالِ، الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ نَذْرَ الْقُرْبَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مُعَلَّقٌ عَلَى حُصُولِ نَفْعٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا، أَوْ إِنْ نَجَّانِيَ اللَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ الْمَخُوفِ، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَقَرُّبًا خَالِصًا بِنَذْرِ كَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ النَّذْرَ فِيهِ لَمْ يَقَعْ خَالِصًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، بَلْ بِشَرْطِ حُصُولِ نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ وَذَلِكَ النَّفْعُ الَّذِي يُحَاوِلُهُ النَّاذِرُ هُوَ الَّذِي دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ فِيهِ غَالِبٌ عَلَى النَّذْرِ وَأَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ نَذْرُ الْقُرْبَةِ الْخَالِصُ مِنِ اشْتِرَاطِ النَّفْعِ فِي النَّذْرِ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 التَّرْغِيبُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُوفِينَ بِهِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الطَّيِّبَةِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَالَتْ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ نَفْسَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فِيهَا قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ، دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنْ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ، وَلَا يُقَدِّمُ شَيْئًا، وَلَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَكَوْنُهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ النَّاذِرَ أَرَادَ بِالنَّذْرِ جَلْبَ نَفْعٍ عَاجِلٍ، أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ عَاجِلٍ فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ نَذْرَ النَّاذِرِ لَا يَرُدُّ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ مَا كَانَ يُرِيدُهُ النَّاذِرُ بِنَذْرِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْرِجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ الشَّيْءَ الَّذِي نَذَرَ وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا ذَكَرْنَا. الثَّانِي أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ وَهَذَا جَمْعٌ مُمْكِنٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاضِحٌ تَنْتَظِمُ بِهِ الْأَدِلَّةُ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا خِلَافٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ النَّاذِرَ الْجَاهِلَ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ يَرُدُّ عَنْهُ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ. وَقَدْ قَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ نَجَّانِي مِنْ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ كَذَا، قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ، فَكَيْفَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّصَّ الصَّحِيحَ دَلَّ عَلَى هَذَا، فَدَلَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ أَوَّلًا، كَمَا ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ " نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْبَخِيلَ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا نَذَرَ إِخْرَاجَهُ، وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ أَوَّلًا، وَلَا غَرَابَةَ فِي هَذَا ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ قَدْ يَكُونُ لَهُ جِهَتَانِ. فَالنَّذْرُ الْمَنْذُورُ لَهُ جِهَةٌ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْ أَجْلِهَا ابْتِدَاءً، وَهِيَ شَرْطُ حُصُولِ النَّفْعِ فِيهِ، وَلَهُ جِهَةٌ أُخْرَى هُوَ قُرْبَةٌ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَهُوَ إِخْرَاجُ الْمَنْذُورِ تَقَرُّبًا لِلَّهِ وَصَرْفُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّذْرَ فِي اللُّغَةِ النَّحْبُ وَهُوَ مَا يَجْعَلُهُ الْإِنْسَانُ نَحْبًا وَاجِبًا عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ إِلْزَامُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهَا، فَيَجْعَلُهُ وَاجِبًا عَلَيْهَا وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: الْتِزَامُ الْمُكَلَّفِ قُرْبَةً لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " النِّهَايَةِ ": يُقَالُ: نَذَرْتُ أَنْذِرُ وَأَنْذُرُ نَذْرًا إِذَا أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي شَيْئًا تَبَرُّعًا مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي أَحَادِيثِهِ ذِكْرُ النَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِهِ وَتَحْذِيرٌ عَنِ التَّهَاوُنِ بِهِ بَعْدَ إِيجَابِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الزَّجْرُ عَنْهُ حَتَّى لَا يُفْعَلَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ حُكْمِهِ، وَإِسْقَاطُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذْ كَانَ بِالنَّهْيِ يَصِيرُ مَعْصِيَةً. فَلَا يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُرُّ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ نَفْعًا، وَلَا يَصْرِفْ عَنْهُمْ ضُرًّا، وَلَا يَرُدُّ قَضَاءً. فَقَالَ: لَا تَنْذُرُوا عَلَى أَنَّكُمْ قَدْ تُدْرِكُونَ بِالنَّذْرِ شَيْئًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَكُمْ، أَوْ تَصْرِفُونَ بِهِ عَنْكُمْ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا نَذَرْتُمْ وَلَمْ تَعْتَقِدُوا هَذَا فَأَخْرِجُوا عَنْهُ بِالْوَفَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي نَذَرْتُمُوهُ لَازِمٌ لَكُمُ، اهـ الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْأَثِيرِ. وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْجَحَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْجَمْعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَالِكِيَّةِ لِلنَّذْرِ شَرْعًا: بِأَنَّهُ الْتِزَامُ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ، وَلَوْ غَضْبَانَ إِلَى آخِرِهِ فِيهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ فِي النَّذْرِ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مَا نَذَرَهُ الْكَافِرُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ قَدْ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَغْوًا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ، لَمَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ "، انْتَهَى مِنْهُ. فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " مَعَ أَنَّهُ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ كَمَا تَرَى، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا أَوَّلَهُ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَعْرِيفِ النَّذْرِ، وَلَوْ غَضْبَانَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي نَذْرِ الْغَضْبَانِ، هَلْ يُلْزَمُ فِيهِ مَا نَذَرَ أَوْ هُوَ مِنْ نَوْعِ اللَّجَاجِ تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَوْضَحْنَا حُكْمَهُ سَابِقًا. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ تَقَرُّبًا لِلَّهِ فِي مَحَلٍّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 مُعَيَّنٍ، فَلَا بَأْسَ بِإِيفَائِهِ بِنَذْرِهِ، بِأَنْ يَنْحَرَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمُعَيَّنِ، إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ بِهِ وَثَنٌ يُعْبَدُ، أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ فِيهِ وَثَنًا يُعْبَدُ، أَوْ عِيدًا مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّحْرُ فِيهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثْنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ، قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: " هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ " انْتَهَى مِنْهُ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ بِمَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ وَثَنٌ يُعْبَدُ أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِسْنَادُ الْحَدِيثِ صَحِيحٌ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ أَنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ، وَسَنَقْتَصِرُ هُنَا عَلَى قَلِيلٍ مِنْهَا اخْتِصَارًا لِصِحَّتِهِ، وَثُبُوتِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ» اهـ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرُ الْحَجِّ، أَنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ أَفْتَيَا بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ عَنِ الْمَيِّتِ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يُصَلِّ مَا نَذَرَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ، وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءٍ فَقَالَ: صَلِّي عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، اهـ مِنَ الْبُخَارِيِّ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمَّتِهِ: أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ، عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا كَانَتْ جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا مَشْيًا إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَمَاتَتْ وَلَمْ تَقْضِهِ، فَأَفْتَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشِيَ عَنْهَا. قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا يَمْشِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، اهـ مِنَ «الْمُوَطَّأِ» . وَقَالَ الزَّرْقَانِيُّ، فِي شَرْحِهِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَنْكَرَ مَالِكٌ الْأَحَادِيثَ فِي الْمَشْيِ إِلَى قُبَاءٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْمَشْيَ إِلَّا إِلَى مَكَّةَ خَاصَّةً. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يَعْنِي: لَا يَعْرِفُ إِيجَابَ الْمَشْيِ لِلْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ. وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعُ، فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْتِي قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَأَنَّ إِتْيَانَهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ. اهـ فِيهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، أَمَّا الصَّوْمُ وَالْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ قَدَّمْنَا مَشْرُوعِيَّتَهُمَا. وَإِنْ خَالَفَ جُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ مَالِكٍ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» أَنْ يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الشَّامِ، أَوْ إِلَى مِصْرَ، أَوْ إِلَى الرَّبَذَةِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ بِطَاعَةٍ، إِنْ كَلَّمَ فُلَانًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِنْ هُوَ كَلَّمَهُ، أَوْ حَنِثَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَاعَةٌ. وَإِنَّمَا يُوَفَّى لِلَّهِ بِمَا لَهُ فِيهِ طَاعَةٌ، اهـ. مِنَ «الْمُوَطَّأِ» . الْفَرْعُ السَّابِعُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ جَمِيعَ مَالِهِ لِلَّهِ لِيُصْرَفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُ يَكْفِيهِ الثُّلُثُ وَلَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ الْجَمِيعِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَالزُّهْرِيِّ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْعُلَمَاءِ عَشَرَةُ مَذَاهِبَ أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا: هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَيَلِيهِ فِي الظُّهُورِ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ كُلُّهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَعَنْ رَبِيعَةَ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ: إِنْ كَانَ كَثِيرًا وَهُوَ أَلْفَانِ تَصَدَّقَ بِعُشْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا وَهُوَ أَلْفٌ تَصَدَّقَ بِسُبْعِهِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ تَصَدَّقَ بِخُمُسِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَتَصَدَّقُ بِالْمَالِ الزَّكَوِيِّ كُلِّهِ، وَعَنْهُ فِي غَيْرِهِ رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ، وَالْبَتِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ: يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَعَنِ اللَّيْثِ: إِنْ كَانَ مَلِيًّا لَزِمَهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَوَافَقَهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَزَادَ: وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا يُخْرِجُ قَدْرَ زَكَاةِ مَالِهِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ أَصْلًا، وَقِيلَ: يَلْزَمُ الْكُلُّ إِلَّا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ، فَكَفَّارَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 يَمِينٍ، وَعَنْ سَحْنُونٍ: يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَجَمَاعَةٍ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَاعْلَمْ: أَنَّ أَكْثَرَهَا لَا يَعْتَضِدُ بِدَلِيلٍ، وَالَّذِي يَعْتَضِدُ بِالدَّلِيلِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا، وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالثُّلُثِ. وَالثَّانِي: لُزُومُ الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ كُلِّهِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ سَحْنُونٍ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا لَا يُضَرُّ بِهِ، أَمَّا الِاكْتِفَاءُ بِالثُّلُثِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُهَا عِنْدَنَا فَقَدْ يَسْتَدِلُّ لَهُ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ عَنِ التَّصَدُّقِ بِالْمَالِ كُلِّهِ، وَفِيهَا أَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: بَابُ إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ، وَالتَّوْبَةِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ فِي حَدِيثِهِ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [9 \ 118] فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» اهـ. فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ كَعْبًا غَيْرُ مُسْتَشِيرٍ بَلْ مُرِيدُ التَّجَرُّدِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ، كَمَا فِي تَرْجَمَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُمْسِكَ بَعْضَ مَالِهِ، وَصَرَّحَ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي يُمْسِكُهُ بِالثُّلُثَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» زَادَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ بِهَذَا السَّنَدِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: «إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَنَصِفُهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَثُلُثُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنِّي سَأَمْسِكُ سَهْمِي فِي خَيْبَرَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ هَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَأَمِنَ تَدْلِيسَهُ ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَإِنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً، قَالَ: «يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ، عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ مِثْلُهُ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَقَدْ رَأَيْتُ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِأَنَّهُ يُجْزِئُهُ الثُّلُثُ عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَازِمٌ غَيْرُ مُسْتَشِيرٍ فَمَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مُسْتَشِيرٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ مَبْدُوءٌ بِجُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، الَّذِي هُوَ إِنَّ الْمَكْسُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، وَاللَّفْظُ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَقُّفِ وَالِاسْتِشَارَةِ، كَمَا تَرَى فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي لُبَابَةَ: إِنَّ الثُّلُثَ يَكْفِي عَنِ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا بِسَبَبِهِ: أَنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا الِاكْتِفَاءُ بِالثُّلُثِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ، فَيَسْتَدِلُّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِيفَائِهِ بِنَذْرِهِ، وَلَوْ أَتَى عَلَى كُلِّ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ مَا قَبْلَهُ أَخَصُّ مِنْهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ. وَأَمَّا قَوْلُ سَحْنُونٍ: يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِمَا لَا يَضُرُّ بِهِ فَيَسْتَدِلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ الْآيَةَ [2 \ 216] ; لِأَنَّ الْعَفْوَ فِي أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، هُوَ مَا لَا يَضُرُّ إِنْفَاقُهُ بِالْمُنْفِقِ، وَلَا يُجْحِفُ بِهِ لِإِمْسَاكِهِ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُ الضَّرُورِيَّةَ، وَهَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الثُّلُثَ مِنَ الْعَفْوِ الَّذِي لَا يُجْحِفُ بِهِ إِنْفَاقُهُ، فَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ كَمَا ذَكَرْنَا وَبَاقِي الْأَقْوَالِ لَا أَعْلَمُ لَهُ دَلِيلًا مُتَّجِهًا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَمَا وَجَّهَ بِهِ تِلْكَ الْأَقْوَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَتَّجِهُ عِنْدِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ النَّصُّ الصَّحِيحُ، عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى مَسْجِدٍ لِيُصَلِّيَ فِيهِ كَمَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، أَوِ الْكُوفَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: لَا يَلْزَمُهُ السَّفَرُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسَاجِدِ، وَلْيُصَلِّ الصَّلَاةَ الَّتِي نَذَرَهَا بِهِ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ بِهِ، وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورُ هُوَ حَدِيثُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» ، وَالْجَارِي عَلَى الْأُصُولِ: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ نَصٌّ صَحِيحٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ السَّفَرَ لِصَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ إِيلِيَاءَ، وَصَلَّاهَا فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَجْزَأَتْهُ، لِأَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: «صَلِّ هَهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: شَأْنَكَ إِذًا» قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْتَ هُنَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ صَلَاةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ» اهـ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ مَسَائِلِ النَّذْرِ لِكَثْرَةِ مَا كَتَبْنَا فِي آيَاتِ سُورَةِ الْحَجِّ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَالنَّذْرُ بَابٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، فَمَنْ أَرَادَ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ مَسَائِلِهِ، فَلْيَنْظُرْهَا فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا عُيُونَ مَسَائِلِهِ الْمُهِمَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. فِي الْمُرَادِ بِالْعَتِيقِ هُنَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَدِيمُ، لِأَنَّهُ أَقْدَمُ مَوَاضِعِ التَّعَبُّدِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِتْقِ فِيهِ الْكَرَمُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْقَدِيمَ عَتِيقًا وَعَاتِقًا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَالْمِسْكِ تَخْلِطُهُ بِمَاءِ سَحَابَةٍ ... أَوْ عَاتِقٍ كَدَمِ الذَّبِيحِ مُدَامِ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْعَاتِقِ الْخَمْرُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي طَالَ مُكْثُهَا فِي دَنِّهَا زَمَنًا طَوِيلًا، وَتُسَمِّي الْكَرِيمَ عِتْقًا وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: قَنْوَاءُ فِي حَرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا عِتْقٌ ... مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ فَقَوْلُهُ: عِتْقٌ مُبِينٌ: أَيْ كَرَمٌ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي: وَيَبِينُ عِتْقُ الْخَيْلِ فِي أَصْوَاتِهَا أَيْ كَرَمُهَا، وَالْعِتْقُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ كَالْعِتْقِ مِنَ الرِّقِّ ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ: أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّ الْعَتِيقَ فِي الْآيَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 بِمَعْنَى الْقَدِيمِ الْأَوَّلِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا الْآيَةَ [3 \ 96] مَعَ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرَيْنِ كِلَاهُمَا حَقٌّ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، عَلَى لُزُومِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلْحَجِّ بِدُونِهِ. الثَّانِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ الطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجِدَارُ الْقَصِيرُ شَمَالَ الْبَيْتِ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْبَيْتِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حِلْيَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [6 \ 145] وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَابُ، أَمَّا مَا قَالَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَيَّنَتِ الْإِجْمَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [22] أَنَّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ الْآيَةَ [5 \ 3] فَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمَائِدَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَآيَةُ الْحَجِّ هَذِهِ نَازِلَةٌ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ بِكَثِيرٍ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحَالَ الْبَيَانُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ بَلِ الْمُبَيِّنُ لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ آيَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ بِمَكَّةَ، فَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِآيَةِ الْحَجِّ الْمَذْكُورَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [5 \ 1] فَيَصِحُّ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الْآيَةَ [5 \ 3] ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ. «مِنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ: أَيْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 عِبَادَتَهَا وَالرِّجْسُ الْقَذَرُ الَّذِي تَعَافُهُ النُّفُوسُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا، وَمَعْنَاهَا عِبَادَةُ كُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَهَذَا الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ هُنَا، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ بِاللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [2 \ 256] وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى مُجْتَنِبِي عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ الْمُنِيبِينَ لِلَّهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَهِيَ مَا يَسُرُّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى الْآيَةَ [39 \ 17] ، وَقَدْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ اجْتِنَابَ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [14 \ 35] وَالْأَصْنَامُ تَدْخُلُ فِي الطَّاغُوتِ دُخُولًا أَوَّلِيًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ، أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِاجْتِنَابِ قَوْلِ الزُّورِ، وَهُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكَادِّعَائِهِمْ لَهُ الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ، وَكُلُّ قَوْلٍ مَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ فَهُوَ زُورٌ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ الزُّورُ مِنَ الِازْوِرَارِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ، وَالِاعْوِجَاجِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ الْآيَةَ [18 \ 17] . وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا، أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ عَامٌّ، ثُمَّ يُصَرَّحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، وَتَقَدَّمَتْ لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ أَمْثِلَتِهِ فِي الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ هَذِهِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا قَالَ: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بَعْضَ أَفْرَادِ قَوْلِ الزُّورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا [25 \ 4] فَصَرَّحَ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مِنَ الظُّلْمِ وَالزُّورِ، وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَيَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [58 \ 2] فَصَرَّحَ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ، مُنْكَرٌ وَزُورٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» اهـ وَقَدْ جَمَعَ تَعَالَى هُنَا بَيْنَ قَوْلِ الزُّورِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [22 - 31] وَكَمَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا هُنَا، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 33] لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ هُوَ قَوْلُ الزُّورِ، وَقَدْ أَتَى مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ قَوْلِ الزُّورِ ; لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ قَدْ يَدْخُلُ فِي قَوْلِ الزُّورِ، كَادِّعَائِهِمُ الشُّرَكَاءَ، وَالْأَوْلَادَ لِلَّهِ، وَكَتَكْذِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّ ذَلِكَ الزُّورُ فِيهِ أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ. وَمَعْنَى حُنَفَاءَ: قَدْ قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ أَيْ وَمَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ فِي هَلَاكٍ، لَا خَلَاصَ مِنْهُ بِوَجْهٍ وَلَا نَجَاةَ مَعَهُ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالَّذِي خَرَّ: أَيْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَمَزَّقَتْ أَوْصَالُهُ، وَصَارَتِ الطَّيْرُ تَتَخَطَّفُهَا وَتَهْوِي بِهَا الرِّيحُ فَتُلْقِيهَا فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ: أَيْ مَحَلٍّ بَعِيدٍ لِشِدَّةِ هُبُوبِهَا بِأَوْصَالِهِ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى لَهُ خَلَاصٌ وَلَا يُطْمَعُ لَهُ فِي نَجَاةٍ، فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ ; لِأَنَّ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لَا يَصِلُ الْأَرْضَ عَادَةً إِلَّا مُتَمَزِّقَ الْأَوْصَالِ، فَإِذَا خَطَفَتِ الطَّيْرُ أَوْصَالَهُ وَتَفَرَّقَ فِي حَوَاصِلِهَا، أَوْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ فَهَذَا هَلَاكٌ مُحَقَّقٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهُ خَلَاصٌ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ الْآيَةَ [5 \ 73] ، وَكَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [7 \ 50] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ [4 \ 48] فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ وَالسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 11] [67 \ 11] أَيْ بُعْدًا لَهُمْ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ هَذَا الْهَلَاكِ الَّذِي لَا خَلَاصَ مِنْهُ بِحَالِ الْوَاقِعِ بِمَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 يُشْرِكُ بِاللَّهِ، إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْإِشْرَاكِ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، أَمَّا مَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [8 \ 38] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ الْآيَةَ [25 \ 68 - 70] وَقَوْلِهِ فِي: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [5 \ 73] ، أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5 \ 74] وَقَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا الْآيَةَ [20 \ 2 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مِنْ شِرْكِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [4 \ 18] فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ، عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [40 \ 84 - 85] وَكَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 90 - 91] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ فَتَخَطَّفُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَصْلُهُ: فَتَتَخَطَّفُهُ الطَّيْرُ بِتَاءَيْنِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَقَرَأَهُ غَيْرُهُ مِنَ السَّبْعَةِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ بِإِسْكَانِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ مُضَارِعُ خَطِفَهُ بِالْكَسْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، قَدْ ذَكَرْنَا قَرِيبًا أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ عَامٌّ، ثُمَّ يُصَرَّحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْفَرْدُ قَطْعِيَّ الدُّخُولِ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ بِمُخَصَّصٍ، وَوَاعَدْنَا بِذِكْرِ بَعْضِ أَمْثِلَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمُرَادُنَا بِذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [22 \ 32] عَامٌّ فِي جَمِيعِ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْبُدْنَ فَرْدٌ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 أَفْرَادِ هَذَا الْعُمُومِ، دَاخِلٌ فِيهِ قَطْعًا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [22 \ 36] فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ تَعْظِيمُ الْبُدْنِ وَاسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمِّنُونَ الْأَضَاحِي، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ دَاخِلَانِ فِي هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 158] وَأَنَّ تَعْظِيمَهَا الْمَنْصُوصَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّهَاوُنِ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي مَبْحَثِ السَّعْيِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَلِكَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْإِعْرَابِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ: أَيْ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ وَأَمْرُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيِ اللَّازِمُ ذَلِكَ أَوِ الْوَاجِبُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اتَّبِعُوا ذَلِكَ أَوِ امْتَثِلُوا ذَلِكَ، وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ زُهَيْرٌ: هَذَا وَلَيْسَ كَمَنْ يَعِي بِخُطَّتِهِ ... وَسَطَ النَّدَى إِذَا مَا قَائِلٌ نَطَقَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْفِعْلَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّعَائِرِ بِحَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا أَيِ الشَّعَائِرَ فَحَذَفَ الْمُضَافَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَى الشَّعَائِرِ، اهـ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ، فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِلَّا بِتَقْدِيرِهَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَاجِعٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى " مِنْ لِيَرْتَبِطَ بِهِ، اهـ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَشِّرَ الْمُخْبِتِينَ: أَيِ الْمُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ الْمُطْمَئِنِّينَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ: أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا ذِكْرَ اللَّهِ، وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ: خَافَتْ مِنَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَأَنْ يُبَشِّرَ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْأَذَى، وَمُتَعَلِّقُ التَّبْشِيرِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ أَيْ بَشِّرْهُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وَكَوْنُهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، يَجْعَلُهُمْ جَدِيرِينَ بِالْبِشَارَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الْآيَةَ [8 \ 2] وَأَمَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ يُبَشِّرَ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مَعَ بَيَانِ بَعْضِ مَا بُشِّرُوا بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [2 \ 155 - 157] . وَاعْلَمْ: أَنَّ وَجَلَ الْقُلُوبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ أَيْ: خَوْفَهَا مِنَ اللَّهِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا -، مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [13 \ 28] وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْوَجَلِ الَّذِي هُوَ الْخَوْفُ عِنْدَ ذِكْرِهِ - جَلَّ وَعَلَا -، مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ بِذِكْرِهِ، وَالْخَوْفُ وَالطُّمَأْنِينَةُ مُتَنَافِيَانِ هُوَ مَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَهُوَ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَكُونُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطُمَأْنِينَتُهُمْ بِذَلِكَ قَوِيَّةٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَتَطَرَّقْهَا الشُّكُوكُ، وَلَا الشُّبَهُ، وَالْوَجَلُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ بِسَبَبِ خَوْفِ الزَّيْغِ عَنِ الْهُدَى، وَعَدَمِ تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [3 \ 8] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [23 \ 60] وَقَالَ تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [39 \ 23] وَلِهَذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ بِأَنْوَاعِهَا الثَّمَانِيَةِ، وَأَمَرَ بِإِطْعَامِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ مِنْهَا، وَأَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْبُدْنِ وَإِطْعَامِ الْقَانِعِ وَالْمُعْتَرِّ مِنْهَا، وَمَا كَانَ مِنَ الْإِبِلِ، فَهُوَ مِنَ الْبُدْنِ بِلَا خِلَافٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَقَرَةِ، هَلْ هِيَ بَدَنَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: أَنَّ الْبَقَرَةَ مِنَ الْبُدْنِ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ بَدَنَةٍ، وَأَظْهَرُهُمَا أَنَّهَا مِنَ الْبُدْنِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْقَانِعِ وَالْمُعْتَرِّ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَقَارِبَةٌ أَظْهَرُهَا عِنْدِي: أَنَّ الْقَانِعَ هُوَ الطَّامِعُ الَّذِي يَسْأَلُ أَنْ يُعْطَى مِنَ اللَّحْمِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ: لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنَ الْقُنُوعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 يَعْنِي أَعَفُّ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ، وَالطَّمَعِ فِيهِمْ، وَأَنَّ الْمُعْتَرَّ هُوَ الَّذِي يَعْتَرِي مُتَعَرِّضًا لِلْإِعْطَاءِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَطَلَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْمَ الْأَكْلِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، وَأَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، قَوْلُهُ كَذَلِكَ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ أَيِ: الْبُدْنَ لَكُمْ تَسْخِيرًا كَذَلِكَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ الَّذِي تُشَاهِدُونَ أَيْ: ذَلَّلْنَاهَا لَكُمْ، وَجَعَلْنَاهَا مُنْقَادَةً لَكُمْ تَفْعَلُونَ بِهَا مَا شِئْتُمْ مِنْ نَحْرٍ وَرُكُوبٍ، وَحَلْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ذَلَّلَهَا لَكُمْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْكُمْ أَلَا تَرَى الْبَعِيرَ، إِذَا تَوَحَّشَ صَارَ صَاحِبُهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَلَا مُتَمَكِّنٍ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ لَعَلَّ تَأْتِي فِي الْقُرْآنِ لِمَعَانٍ أَقْرَبُهَا، اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، الَّذِي هُوَ التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ خُصُوصُ الْخَلْقِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُتَرَجَّى مِنْهُمْ شُكْرُ النِّعَمَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، بِأَنَّهُمْ يَشْكُرُونَهَا أَوْ لَا يُنْكِرُونَهَا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا سَيَكُونُ فَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ - جَلَّ وَعَلَا - إِطْلَاقُ التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ لِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِمَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ الْغَيْبُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [20 \ 44] أَيْ عَلَى رَجَائِكُمَا وَتَوَقُّعِكُمَا أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى، فَمَعْنَى لَعَلَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ، لَا إِلَى الْخَالِقِ - جَلَّ وَعَلَا -، الْمَعْنَى الثَّانِي: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: كُلُّ لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [26 \ 129] قَالَ: فَهِيَ بِمَعْنَى: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِتْيَانُ لَفْظَةِ لَعَلَّ لِلتَّعْلِيلِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا مِرَارًا وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَقُلْتُمْ لَنَا كَفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ يَعْنِي كَفُّوا الْحُرُوبَ لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ، وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ تَسْخِيرَهُ الْأَنْعَامَ لِبَنِي آدَمَ نِعْمَةٌ مِنْ إِنْعَامِهِ، تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. فَاعْلَمْ: أَنَّهُ بَيَّنَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [22 \ 36] وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «يس» : هَذِهِ: أَفَلَا يَشْكُرُونَ كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «الْحَجِّ» : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى قَرِيبًا: كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ الْآيَةَ [22 \ 37] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى شُكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَشُكْرِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ، مِرَارًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا وَالتَّسْخِيرُ: التَّذْلِيلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَدْفَعُ السُّوءَ عَنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا حَقًّا، وَيَكْفِيهِمْ شَرَّ أَهْلِ السُّوءِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ الْآيَةَ [65 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [39 \ 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [9 \ 14 - 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [40 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 173] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا دَالٌ سَاكِنَةٌ مُضَارِعُ دَفَعَ الْمُجَرَّدِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ يَدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا الشَّرَّ وَالسُّوءَ، ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ أَعْظَمُ أَسْبَابِ دَفْعِ الْمَكَارِهِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يُدَافِعُ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَفَتْحِ الدَّالِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَكَسْرِ الْفَاءِ مُضَارِعُ دَافَعَ الْمَزِيدِ فِيهِ أَلِفٌ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ اشْتِرَاكَ فَاعِلَيْنِ فِي الْمَصْدَرِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَدْفَعُ كُلَّ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُدَافِعٌ يَدْفَعُ شَيْئًا. وَالْجَوَابُ: هُوَ مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، نَحْوَ: جَاوَزْتُ الْمَكَانَ بِمَعْنَى جُزْتُهُ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَسَافَرْتُ، وَعَافَاكَ اللَّهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ فَاعَلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: يُدَافِعُ بِمَعْنَى: يَدْفَعُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ يُدَافِعُ فَمَعْنَاهُ: يُبَالِغُ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ كَمَا يُبَالِغُ مَنْ يُغَالِبُ فِيهِ ; لِأَنَّ فِعْلَ الْمُغَالِبِ يَجِيءُ أَقْوَى وَأَبْلَغَ اهـ مِنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 وَجْهُ الْمُفَاعَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْتَعْمِلُونَ كُلَّ مَا فِي إِمْكَانِهِمْ لِإِضْرَارِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِيذَائِهِمْ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَدْفَعُ كَيْدَهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ دَفْعُهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ أَهْلُهَا فِي طُغْيَانٍ شَدِيدٍ، يُحَاوِلُونَ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْمُفَاعَلَةِ، فِي قَوْلِهِ: يُدَافِعُ، وَإِنْ كَانَ - جَلَّ وَعَلَا - قَادِرًا عَلَى إِهْلَاكِهِمْ، وَدَفْعِ شَرِّهِمْ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا وَلَيَغْلِبَنَّ مُغَالِبُ الْغُلَّابِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَفْعُولُ يُدَافِعُ: مَحْذُوفٌ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى: يَدْفَعُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْدِيرَهُ، وَعَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَخِيرًا فَتَقْدِيرُ الْمَفْعُولِ: يُدَافِعُ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَخُصُومَهُمْ فَيَرُدُّ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، صَرَّحَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، وَالْخَوَّانُ وَالْكَفُورُ كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ ; لِأَنَّ الْفَعَّالَ بِالتَّضْعِيفِ وَالْفَعُولَ بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ نَفْيَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَلَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ لَيْسَ بِقَتَّالٍ لِلرِّجَالِ فَقَدْ نَفَيْتَ مُبَالَغَتَهُ، فِي قَتْلِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ قَتْلٌ لِبَعْضِهِمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَالِغْ فِي الْقَتْلِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَإِنَّ الْآيَةَ قَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُبَالِغِينَ فِي الْكُفْرِ وَالْمُبَالِغِينَ فِي الْخِيَانَةِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِمَنْ يَتَّصِفُ بِمُطْلَقِ الْخِيَانَةِ وَمُطْلَقِ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةً فِيهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْخَائِنَ مُطْلَقًا، وَالْكَافِرَ مُطْلَقًا، وَقَدْ أَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَقَالَ فِي الْخَائِنِ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [8 \ 58] وَقَالَ فِي الْكَافِرِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [3 \ 32] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، مُتَعَلِّقُ أُذِنَ مَحْذُوفٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْ: أُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: يُقَاتَلُونَ، وَقَدْ صَرَّحَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أُذِنَ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَدَلَّ قَوْلُهُ: يُقَاتَلُونَ: عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ مِنْهُمْ دُونَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، كَالْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ وَالضَّعِيفِ وَالْعَاجِزِ عَنِ السَّفَرِ لِلْجِهَادِ لِفَقْرِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ الْآيَةَ [24 \ 61] ، وَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [9 \ 91] وَقَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الْبَاءُ فِيهِ سَبَبِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَسْلَكِ النَّصِّ الظَّاهِرِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ كَمَا قَالَ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْجِهَادِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْإِذْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ دَالَّةٌ عَلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ زَائِدَةٍ عَلَى مُطْلَقِ الْإِذْنِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ عَدَمَ الِاقْتِصَارِ، عَلَى الْإِذْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعِظَمِ حِكْمَتِهِ فِي التَّشْرِيعِ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّعَ أَمْرًا شَاقًّا عَلَى النُّفُوسِ كَانَ تَشْرِيعُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ ; لِأَنَّ إِلْزَامَهُ بَغْتَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، عَلَى الَّذِينَ كُلِّفُوا بِهِ قَالُوا فَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِهَا لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْقِتَالَ مَعَ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ الْقَوِيِّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ عَادَةً، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ مَحْدُودًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [3 \ 145] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَشَقَّةَ إِيجَابِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [4 \ 77] وَمَعَ تَعْرِيضِ النُّفُوسِ فِيهِ لِأَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يُنْفَقُ فِيهِ الْمَالُ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [61 \ 11] قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ هَذَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَأَرَادَ اللَّهُ تَشْرِيعَهُ شَرَّعَهُ تَدْرِيجًا، فَأَذِنَ فِيهِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ بِقَوْلِهِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الْآيَةَ [22 \ 39] ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْنَسَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ بِسَبَبِ الْإِذْنِ فِيهِ، أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا الْآيَةَ [2 \ 190] ، وَهَذَا تَدْرِيجٌ مِنَ الْإِذْنِ إِلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الْإِيجَابِ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْنَسَتْ نُفُوسُهُمْ بِإِيجَابِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ إِيجَابًا عَامًّا جَازِمًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [9 \ 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [9 \ 36] وَقَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [48 \ 16] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَقْوَالًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ هَذَا التَّدْرِيجَ الَّذِي ذَكَرْنَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ، وَنَظِيرُهُ شُرْبُ الْخَمْرِ فَإِنَّ تَرْكَهُ شَاقٌّ عَلَى مَنِ اعْتَادَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحَرِّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا تَدْرِيجًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا بَعْضَ مَعَائِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [2 \ 219] ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْنَسَتْ نُفُوسُهُمْ بِأَنَّ فِي الْخَمْرِ إِثْمًا أَكْثَرَ مِمَّا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ، حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى الْآيَةَ [4 \ 43] ، فَكَانُوا بَعْدَ نُزُولِهَا، لَا يَشْرَبُونَهَا إِلَّا فِي وَقْتٍ يَزُولُ فِيهِ السُّكْرُ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ; لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ يَصْحُو فِيهِ السَّكْرَانُ عَادَةً، وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ، وَهَذَا تَدْرِيجٌ مِنْ عَيْبِهَا إِلَى تَحْرِيمِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَمَّا اسْتَأْنَسَتْ نُفُوسُهُمْ بِتَحْرِيمِهَا حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا عَامًّا جَازِمًا بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 90 - 91] وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَالْبَطْنِ شَاقًّا عَلَى النُّفُوسِ، وَأَرَادَ تَعَالَى تَشْرِيعَهُ شَرَّعَهُ تَدْرِيجًا فَخَيَّرَ أَوَّلًا بَيْنَ صَوْمِ الْيَوْمِ وَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [2 \ 184] فَلَمَّا اسْتَأْنَسَتِ النُّفُوسُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْجَبَهُ أَيْضًا إِيجَابًا عَامًّا جَازِمًا بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الْآيَةَ [2 \ 185] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّدْرِيجُ فِي تَشْرِيعِ الصَّوْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاحِلَ كَمَا قَبْلَهُ قَالُوا: أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا صَوْمًا خَفِيفًا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ وَهُوَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ فَرْضَ صَوْمِ رَمَضَانَ شَرَّعَهُ تَدْرِيجًا عَلَى الْمَرْحَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، هَكَذَا قَالَتْهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ يُشِيرُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى وَعْدِهِ لِلنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ، بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ كَمَا قَالَ قَبْلَهُ قَرِيبًا: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [22 \ 38] . وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بِمَا شَاءَ، وَنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ، وَلَكِنَّهُ شَرَعَ الْجِهَادَ لِحِكَمٍ مِنْهَا: اخْتِبَارُ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ، وَغَيْرِ الصَّادِقِ فِيهِ، وَمِنْهَا تَسْهِيلُ نَيْلِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ لِشُهَدَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَصَّلَ أَحَدٌ فَضْلَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى حِكْمَةِ اخْتِبَارِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ وَغَيْرِهِ بِالْجِهَادِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [47 \ 4] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الْآيَةَ [3 \ 179] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [9 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [3 \ 142] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [47 \ 31] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكْمَةِ الِابْتِلَاءِ الْمَذْكُورِ، وَتَسْهِيلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [3 \ 140 - 141] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: «أُذِنَ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الذَّالِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ: أَذِنَ اللَّهُ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ: «يُقَاتَلُونَ» بِفَتْحِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، تَقَدَّمَ مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «بَرَاءَةٌ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [9 \ 74] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَقْسَمَ لَيَنْصُرَنَّ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ مَا شَرَّعَهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَنُصْرَةِ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ وَقَهْرِهِمْ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَتُهُ - جَلَّ وَعَلَا - هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ أَعْدَائِهِ هِيَ السُّفْلَى، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ صِفَاتِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بِنَصْرِهِ لِتَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ فَقَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 مُبَيِّنًا مَنْ أَقْسَمَ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَنْصُرُ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا -: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ الْآيَةَ [22 \ 41] وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: مِنْ أَنَّ مَنْ نَصَرَ اللَّهَ نَصَرَهُ اللَّهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 7 - 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 171 - 173] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [58 \ 21] وَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [24 \ 55] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [22 \ 41] ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وَعْدَ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، إِلَّا مَعَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَالَّذِينَ يُمَكِّنُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُ الْكَلِمَةَ فِيهَا وَالسُّلْطَانَ لَهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَلَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَيْسَ لَهُمْ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِهِ، وَلَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ، بَلْ هُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَلَوْ طَلَبُوا النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ عَمَلِ مَا أُجِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَطْلُبُ الْأُجْرَةَ، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ فَلَا عَقْلَ لَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [22 \ 40] الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ نَصَرُوهُ فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ مَكَّنَ لَهُمْ، وَاسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [24 \ 55] ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَشْمَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكُلَّ مَنْ قَامَ بِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الَّذِي عَامَلَهُ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ التَّكْذِيبِ عُومِلَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَذَلِكَ يُسَلِّيهِ وَيُخَفِّفُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ الْآيَةَ [11 \ 120] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [41 \ 43] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [35 \ 4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ سَبْعَ أُمَمٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا. الْأُولَى: قَوْمُ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [22 \ 42] وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ لَا تَكَادُ تُحْصَى فِي الْقُرْآنِ، لِكَثْرَتِهَا وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الْأَمْثِلَةِ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَكْذِيبِ هَذِهِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 105] وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [54 \ 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الثَّانِيَةُ: عَادٌ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ هُودًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 123] وَقَوْلِهِ: قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [11 \ 53] . الثَّالِثَةُ: ثَمُودُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَكْذِيبَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 141] وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [91 \ 14] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الرَّابِعَةُ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [29 \ 24] وَقَوْلِهِ: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ الْآيَةَ [21 \ 68] ، وَكَقَوْلِهِ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [19 \ 46] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الْخَامِسَةُ: قَوْمُ لُوطٍ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 160] وَقَوْلِهِ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الْآيَةَ [27 \ 56] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. السَّادِسَةُ: أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ شُعَيْبًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [11 \ 95] وَقَوْلِهِ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [11 \ 84 - 87] وَقَوْلِهِ: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ الْآيَةَ [11 \ 91] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. السَّابِعَةُ: مَنْ كَذَّبُوا مُوسَى وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَذَّبُوا مُوسَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 \ 29] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [26 \ 18 - 19] وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [7 \ 132] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [22 \ 44] قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعَ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، بَعْدَ الْإِمْلَاءِ لَهَا وَالْإِمْهَالِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالْغَرَقِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [29 \ 14] وَقَوْلِهِ: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [54 \ 11 - 12] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ [26 \ 120] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِمْلَاءِ وَالْإِمْهَالِ لِعَادٍ أَهْلَكَهُمْ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الْآيَاتِ [69 \ 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [54 \ 41 - 42] وَقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [46 \ 24 - 25] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ ثَمُودَ بِصَيْحَةٍ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا ; كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [11 \ 67] وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ الْآيَةَ [41 \ 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ هُمْ نُمْرُوذُ، وَقَوْمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْعَذَابَ الدُّنْيَوِيَّ الَّذِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [16 \ 26] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِجَعْلِ عَالِي أَرْضِهِمْ سَافِلَهَا، وَأَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَطَرًا مِنْ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ ; تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [11 \ 82] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ أَصْحَابَ مَدْيَنَ بِالصَّيْحَةِ فِي مَوَاضِعَ ; كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [11 \ 94 - 95] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَهْلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُوسَى، وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِالْغَرَقِ كَقَوْلِهِ: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [44 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ الْآيَةَ [20 \ 78] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [10 \ 90] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي بَيَانِ مَا أُهْلِكَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَمُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَلِيلًا مِنْهَا كَالْمِثَالِ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَكْذِيبَ الْأُمَمِ السَّبْعِ لِأَنْبِيَائِهِمْ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [22 \ 44] أَيْ: بِالْعَذَابِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفَاصِيلِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ النَّكِيرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ: كَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ مُنْكَرَهُمْ، الَّذِي هُوَ كُفْرُهُمْ بِي، وَتَكْذِيبُهُمْ رُسُلِي، وَهُوَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُسْتَأْصِلُ الَّذِي بَيَّنَّا وَبَعْدَهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ نَرْجُو اللَّهَ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ الْعَافِيَةَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْخِطُ خَالِقَنَا، وَيَسْتَوْجِبُ عُقُوبَتَهُ، وَالْجَوَابُ إِنْكَارُكَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَجَزَاءُ الْعَمَلِ الْبَالِغِ غَايَةَ الْقُبْحِ بِالنَّكَالِ الْعَظِيمِ جَزَاءَ وِفَاقٍ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ الَّذِي لَا يَضَعُ الْأَمْرَ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يُوقِعُهُ إِلَّا فِي مَوْقِعِهِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ وَرْشٌ وَحْدَهُ عَنْ نَافِعٍ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ الرَّاءِ وَصْلًا فَقَطْ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فِي حَالِ كَوْنِهَا ظَالِمَةً أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبُ رُسُلِهِ، فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْإِهْلَاكِ وَالتَّدْمِيرِ دِيَارُهَا مُتَهَدِّمَةٌ وَآبَارُهَا مُعَطَّلَةٌ، لَا يَسْقِي مِنْهَا شَيْءٌ لِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَقُونَ مِنْهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [65 \ 8 - 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11 \ 102] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11 \ 102] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [22 \ 45] الْعُرُوشُ السُّقُوفُ وَالْخَاوِيَةُ السَّاقِطَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: كَانَ أَبُو حَسَّانَ عَرْشًا خَوَى ... مِمَّا بَنَاهُ الدَّهْرُ دَانٍ ظَلِيلُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ السُّقُوفَ سَقَطَتْ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَيْهَا حِيطَانُهَا عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ الْمَطْلِيُّ بِالشِّيدِ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَقِيلَ الْمَشِيدُ: الرَّفِيعُ الْحَصِينُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [4 \ 78] أَيْ: حُصُونٍ رَفِيعَةٍ مَنِيعَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، وَكَمْ مِنْ بِئْرٍ عَطَّلْنَاهَا بِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا، وَكَمْ مِنْ قَصْرٍ مَشِيدٍ أَخْلَيْنَاهُ مِنْ سَاكِنِيهِ، وَأَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِتِلْكَ الْقُرَى مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهَا. تَنْبِيهٌ يَظْهَرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يَدُلُّ عَلَى تَهَدُّمِ أَبْنِيَةِ أَهْلِهَا، وَسُقُوطِهَا وَقَوْلُهُ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ أَبْنِيَتِهَا قَائِمَةً مُشَيَّدَةً. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ لِي فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ قُصُورَ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ، وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَهَدِّمٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَمِنْهَا مَا هُوَ قَائِمُ بَاقٍ عَلَى بِنَائِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا هَذَا الْجَمْعَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ هُودٍ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [11 \ 100] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مِنْهَا قَائِمًا، وَمِنْهَا حَصِيدًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْقَائِمَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَهَدَّمْ، وَالْحَصِيدَ هُوَ الَّذِي تَهَدَّمَ وَتَفَرَّقَتْ أَنْقَاضُهُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ: وَالنَّاسُ فِي قِسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ ... كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ وَفِي مَعْنَى الْقَائِمِ وَالْحَصِيدِ، أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا هُوَ أَظْهَرُهَا، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «خَاوِيَةٌ» : خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ قَوْلِهِ: خَوَى الْمَكَانُ إِذَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنَّ مَعْنَى: «عَلَى عُرُوشِهَا» : أَنَّ الْأَبْنِيَةَ بَاقِيَةٌ أَيْ: هِيَ خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا قَائِمَةً عَلَى حِيطَانِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْيَةِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى نَفْسِ الْأَبْنِيَةِ، وَتَارَةً عَلَى أَهْلِهَا السَّاكِنِينَ بِهَا، فَالْإِهْلَاكُ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْنَاهَا، وَالظُّلْمُ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ ظَالِمَةٌ: يُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا السَّاكِنُونَ بِهَا وَقَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يُرَادُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [12 \ 82] وَقَالَ فِي أُخْرَى: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [18 \ 77] . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ: أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ مَجَازَ النَّقْصِ، وَمَجَازَ الزِّيَادَةِ، لَيْسَ بِمَجَازٍ حَتَّى عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَائِنٌ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْكَافِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، فَنُونٌ سَاكِنَةٌ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ بَعْدَهَا يَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ فَنُونٌ سَاكِنَةٌ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، فَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ صَحِيحَتَانِ. وَأَبُو عَمْرٍو يَقِفُ عَلَى الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ يَقِفُونَ عَلَى النُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: «أَهْلَكْتُهَا» بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ، وَبَعْدَ النُّونِ أَلِفٌ، وَالْمُرَادُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ التَّعْظِيمُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَقَرَأَ وَرْشٌ وَالسُّوسِيُّ وَ (بِيرٍ) بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 مَسْأَلَةٌ اعْلَمْ أَنَّ كَأَيِّنْ فِيهَا لُغَاتٌ عَدِيدَةٌ أَفْصَحُهَا الِاثْنَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَكَأَيِّنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَائِنٌ بِالْأَلِفِ وَالْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ أَكْثَرُ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِهَا مِنَ السَّبْعَةِ غَيْرُ ابْنِ كَثِيرٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَمَعْنَى كَأَيِّنْ: كَمَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ وَمُمَيِّزُهَا لَهُ حَالَتَانِ: الْأُولَى: أَنْ يُجَرَّ بِمِنْ وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [65 \ 8] وَقَوْلِهِ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ الْآيَةَ [3 \ 146] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [12 \ 105] ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي جَرِّ مُمَيَّزِ كَأَيِّنْ بِمِنْ قَوْلُهُ: وَكَائِنٌ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أُصِيبُ هُوَ الْمُصَابَا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْصَبَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَكَائِنٌ لَنَا فَضْلًا عَلَيْكُمْ وَمِنَّةً ... قَدِيمًا وَلَا تَدْرُونَ مَا مِنْ مُنْعِمِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: اطْرُدِ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِنٌ ... آلِمًا حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: كَكَمْ كَأَيِّنْ وَكَذَا وَيَنْتَصِبْ ... تَمْيِيزُ ذَيْنِ أَوْ بِهِ صِلْ مَنْ تُصِبْ أَمَّا الِاسْتِفْهَامُ بِكَأَيِّنْ فَهُوَ نَادِرٌ وَلَمْ يُثْبِتْهُ إِلَّا ابْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ عُصْفُورٍ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: كَأَيِّنْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ آيَةً فَقَالَ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي كَأَيِّنْ هَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَعَلَى أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَأَيِّ الْمُنَوَّنَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَجْلِ تَرْكِيبِهَا جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالنُّونِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ التَّنْوِينَ لَمَّا دَخَلَ فِي التَّرْكِيبِ أَشْبَهَ النُّونَ الْأَصْلِيَّةَ، وَلِهَذَا رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ نُونًا وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِالْوَقْفِ عَلَى الْيَاءِ لِأَجْلِ اعْتِبَارِ حُكْمِ التَّنْوِينِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ حَذْفُهُ فِي الْوَقْفِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كَأَيِّنْ بَسِيطَةٌ، وَأَنَّهَا كَلِمَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 وَضَعَتْهَا الْعَرَبُ لِلْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ نَحْوَ: كَمْ، إِذْ لَا دَلِيلَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا مُرَكَّبَةٌ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا بَسِيطَةٌ: إِثْبَاتُ نُونِهَا فِي الْخَطِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نُونِ التَّنْوِينِ عَدَمُ إِثْبَاتِهَا فِي الْخَطِّ، وَدَعْوَى أَنَّ التَّرْكِيبَ جَعَلَهَا كَالنُّونِ الْأَصْلِيَّةِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنِ الدَّلِيلِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِتَلَاعُبِ الْعَرَبِ بِهَا فِي تَعَدُّدِ اللُّغَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا خَمْسَ لُغَاتٍ اثْنَتَانِ مِنْهَا قَدْ قَدَّمْنَاهُمَا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ ; لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَالْأُخْرَى قَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَاللُّغَةُ الثَّالِثَةُ فِيهَا: كَأْيِنْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ فَيَاءٌ مَكْسُورَةٌ، وَالرَّابِعَةُ كَيْئِنْ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، الْخَامِسَةُ: كَأَنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ اهـ، وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو حَيَّانَ فِي أَنَّ التَّلَاعُبَ بِلَفْظِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَى هَذِهِ اللُّغَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا بَسِيطَةٌ لَا مُرَكَّبَةٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْبِئْرَ الْمُعَطَّلَةَ، وَالْقَصْرَ الْمَشِيدَ مَعْرُوفَانِ، وَأَنَّهُمَا بِحَضْرَمَوْتَ، وَأَنَّ الْقَصْرَ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَأَنَّ الْبِئْرَ فِي سَفْحِهِ لَا تُقِرُّ الرِّيَاحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيهَا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْبِئْرَ هِيَ: الرَّسُّ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِعَدَنَ بِالْيَمَنِ بِحَضْرَمَوْتَ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: حَضُورُ، وَأَنَّهَا نَزَلَ بِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِمَّنْ آمَنُوا بِصَالِحٍ، وَنَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ وَمَعَهُمْ صَالِحٌ، فَمَاتَ صَالِحٌ، فَسُمِّيَ الْمَكَانُ حَضْرَمَوْتَ ; لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَهُ مَاتَ فَبَنَوْا حَضُورَ وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: الْعَلَسُ بْنُ جُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ أَوْ جَلْهَسُ بْنُ جُلَاسٍ وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ عَامِلًا عَلَيْهِمْ، وَجَعَلُوا وَزِيرَهُ سَنْجَارِيبَ بْنَ سَوَادَةَ، فَأَقَامُوا دَهْرًا، وَتَنَاسَلُوا حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَتِ الْبِئْرُ تَسْقِي الْمَدِينَةَ كُلَّهَا وَبَادِيَتَهَا، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ لَهَا بَكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَنْصُوبَةً عَلَيْهَا، وَرِجَالٌ كَثِيرُونَ مُوَكَّلُونَ بِهَا، وَحِيَاضٌ كَثِيرَةٌ حَوْلَهَا تُمْلَأُ لِلنَّاسِ وَحِيَاضٌ لِلدَّوَابِّ وَحِيَاضٌ لِلْغَنَمِ، وَحِيَاضٌ لِلْبَقَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَاءٌ غَيْرُهَا، وَآلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ مَاتَ مَلِكُهُمْ وَطَلَوْا جُثَّتَهُ بِدُهْنٍ يَمْنَعُهَا مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ دَخَلَ فِي جُثَّتِهِ، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْهُمْ لِيَرَى صَنِيعَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجُثَّةِ حِجَابًا، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يُكَلِّمُهُمْ مِنْ جُثَّةِ الْمَلِكِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى كَفَرُوا بِاللَّهِ تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا اسْمُهُ: حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقَظَةِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَلِكَهُمْ قَدْ مَاتَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَوَعَظَهُمْ وَنَصَحَ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ عِقَابَ رَبِّهِمْ، فَقَتَلُوا نَبِيَّهُمُ الْمَذْكُورَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 السُّوقِ، وَطَرَحُوهُ فِي بِئْرٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَ بِهِمْ عِقَابُ اللَّهِ، فَأَصْبَحُوا وَالْبِئْرُ غَارَ مَاؤُهَا، وَتَعَطَّلَ رِشَاؤُهَا فَصَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَضَجَّ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ حَتَّى مَاتَ الْجَمِيعُ مِنَ الْعَطَشِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْبِئْرَ هِيَ الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كُلُّهُ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [22 \ 48] مَعْنَاهُ: الْإِخْبَارُ بِأَنَّ عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِظُلْمِهِمْ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْ آبَارِهِمْ بَقِيَتْ مُعَطَّلَةً بِهَلَاكِ أَهْلِهَا، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ بَقِيَتْ بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا بِدُونِهِمْ ; لِأَنَّ مُمَيَّزَ كَأَيِّنْ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُفْرَدًا فَمَعْنَاهُ يَشْمَلُ عَدَدًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» وَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ صَالِحٍ بِالشَّامِ فِي بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: عَكَّا فَكَيْفَ يَكُونُ بِحَضْرَمَوْتَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ صَالِحٍ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا مَعْرُوفَةٌ يَمُرُّ بِهَا الذَّاهِبُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهَا فِي طَرِيقِهِ إِلَى تَبُوكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَقْطَعَ صَالِحٌ، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ هَذِهِ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ الْبَعِيدَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجْرِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ يَدْعُوهُ وَيَضْطَرُّهُ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا، أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ; لِأَنَّهُمْ إِذَا سَافَرُوا مَرُّوا بِأَمَاكِنِ قَوْمِ صَالِحٍ، وَأَمَاكِنِ قَوْمِ لُوطٍ، وَأَمَاكِنِ قَوْمِ هُودٍ، فَوَجَدُوا بِلَادَهُمْ خَالِيَةً وَآثَارَهُمْ مُنْطَمِسَةً لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَيُدْرِكُونَ بِعُقُولِهِمْ: أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسَبِّبَ لَهُمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مِثْلَ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ مَرُّوا بِمَسَاكِنِهِمْ خَالِيَةً، قَدْ عَمَّ أَهْلَهَا الْهَلَاكُ، وَتَكُونُ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَبِيِّهِ مِنْ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَمَا أَصَابَهَا مِنَ الْإِهْلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ وَالتَّدْمِيرِ، فَيَحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [47 \ 10] ثُمَّ بَيَّنَ تَهْدِيدَهُ لِكُفَّارِ مَكَّةَ بِمَا فَعَلَ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137 - 138] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 وَكَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الْآيَةَ [15 \ 76] ، وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ [50 \ 14] وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [15 \ 79] ; لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ: أَنَّ دِيَارَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَمُرُّونَ فِيهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّبِيلِ وَالْإِمَامِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا جُمَلًا كَافِيَةً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ: فِي الْقَلْبِ، وَمَحَلَّ السَّمْعِ: فِي الْأُذُنِ، فَمَا يَزْعُمُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الدِّمَاغُ بَاطِلٌ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَرْكَزَ لَهُ أَصْلًا فِي الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّهُ زَمَانِيٌّ فَقَطْ لَا مْكَانِيٌّ فَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى الْآيَةَ [17 \ 72] ، مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْجِيلَ الْعَذَابِ الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ طُغْيَانًا وَعِنَادًا. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [38 \ 16] وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [29 \ 54] وَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ الْآيَةَ [29 \ 53] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [6 \ 57] وَفِي يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [10 \ 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَعْدِ هُنَا: هُوَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 وَالْمَعْنَى: هُوَ مُنْجِزٌ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [29 \ 53] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [11 \ 8] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [10 \ 51] وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْوَعْدِ بِالشَّرِّ. وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [22 \ 72] فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّارِ: وَعَدَهَا اللَّهُ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَعْدُ، وَلَمْ يَقُلْ أَوْعَدَهَا وَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ بِذَلِكَ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «ق» قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [50 \ 28] وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أَنَّ مَا أَوْعَدَ الْكُفَّارَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [50 \ 14] أَيْ: وَجَبَ وَثَبُتَ فَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ وُقُوعِهِ بِحَالٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ [6 \ 128] ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مَا أُوعِدُ بِهِ الْكُفَّارُ لَا يُخْلَفُ بِحَالٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، أَمَّا مَا أُوعِدَ بِهِ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَلَّا يُنَفِّذَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [4 \ 48] . وَبِالتَّحْقِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا: تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْوَعْدِ بِخَيْرٍ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يُخْلِفُهُ اللَّهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ شَرًّا، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ وَإِيعَادٌ، قَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا، وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، وَذَكَرُوا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، فَجَاءَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، هَلْ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ؟ فَقَالَ: لَا، فَذَكَرَ آيَةَ وَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمِنَ الْعَجَمِ أَنْتَ؟ إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ وَالْجَارُ سَطْوَتِي ... وَلَا انْثَنَى عَنْ سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ فَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ إِطْلَاقِ الْوَعْدِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالنَّارِ، وَالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [22 \ 72] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [22 \ 47] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي حُلُولِ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَكَ بِهِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [22 \ 47] فَتَعَلُّقُهُ بِهِ هُوَ الظَّاهِرُ. الثَّانِي: هُوَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُخْلِفَهُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ ادِّعَاءَ جَوَازِ إِخْلَافِهِ، لِأَنَّهُ إِيعَادٌ وَأَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا يُبْطِلُهُ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَوَازُ أَلَّا يَدْخُلَ النَّارَ كَافِرٌ أَصْلًا، لِأَنَّ إِيعَادَهُمْ بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ كَرَمٌ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ مَا أَوْعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ، كَقَوْلِهِ: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [50 \ 28 - 29] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: فَحَقَّ وَعِيدِ [50 \ 14] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] وَمَعْنَى حَقَّ: وَجَبَ وَثَبَتَ، فَلَا وَجْهَ لِانْتِفَائِهِ بِحَالٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ هُنَا وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْيَوْمَ عِنْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ خَلْقُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [32 \ 5] وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ أَنَّ مِقْدَارَ الْيَوْمِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الْآيَةَ [70 \ 4] ، فَآيَةُ الْحَجِّ، وَآيَةُ السَّجْدَةِ مُتَوَافِقَتَانِ تُصَدِّقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْأُخْرَى، وَتُمَاثِلُهَا فِي الْمَعْنَى، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُمَا لِزِيَادَتِهَا عَلَيْهِمَا بِخَمْسِينَ ضِعْفًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 هُنَا مُلَخَّصًا مُخْتَصَرًا، وَنَزِيدُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ حَضَرَ كُلًّا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُهُ فِيهَا، وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، ثُمَّ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ يَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: هُوَ أَحَدُ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيَوْمُ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، هُوَ مِقْدَارُ سَيْرِ الْأَمْرِ وَعُرُوجِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَيَوْمُ الْخَمْسِينَ أَلْفًا، هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ زَمَنِ الْيَوْمِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ، وَحَالِ الْكَافِرِ ; لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخَفُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْهُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [74 \ 9 - 10] اهـ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ صَاحِبُ الْإِتْقَانِ. وَذَكَرْنَا أَيْضًا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [25 \ 24] مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى انْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ ; لِأَنَّ الْمَقِيلَ الْقَيْلُولَةُ أَوْ مَكَانُهَا وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفُ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِانْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى ذَلِكَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ مَا نَصُّهُ: وَأُخِذَ مِنْ ذَلِكَ انْقِضَاءُ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ انْتَهَى مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ مِقْدَارَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [70 \ 4] وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِلَا خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطُولُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيُشِيرُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [25 \ 26] فَتَخْصِيصُهُ عُسْرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالْكَافِرِينَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 لَيْسُوا كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [74 \ 9 - 10] يَدُلُّ بِمَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ عَسِيرٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنَّ سَعِيدًا الصَّوَّافَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُفْرَغَ مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [25 \ 24] وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْمَقِيلَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ كَقَتَادَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي سُرُورٍ وَنِعْمَةٍ، أَنَّهُ يَقْصُرُ عَلَيْهِ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ قَصْرًا شَدِيدًا، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ وَالْبَلَايَا وَالْكُرُوبِ، فَإِنَّ الزَّمَنَ الْقَصِيرَ يَطُولُ عَلَيْهِ جِدًّا، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْثِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرِقْتُ فَبَاتَ لَيْلِي لَا يَزُولُ ... وَلَيْلُ أَخِي الْمُصِيبَةِ فِيهِ طُولُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: فَقِصَارُهُنَّ مَعَ الْهُمُومِ طَوِيلَةٌ ... وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُورِ قِصَارُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: لَيْلَى وَلَيْلِي نَفَى نَوْمِي اخْتِلَافَهُمَا ... فِي الطُّولِ وَالطُّولُ طُوبَى لِي لَوِ اعْتَدَلَا يَجُودُ بِالطُّولِ لَيْلِي كُلَّمَا بَخِلَتْ ... بِالطُّولِ لَيْلَى وَإِنْ جَادَتْ بِهِ بَخِلَا وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أَظْرَفِ مَا قِيلَ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَغْيِيرًا لِمَا فَعَلَتْ ... نَامَتْ وَقَدْ أَسَهَرَتْ عَيْنَيَّ عَيْنَاهَا فَاللَّيْلُ أَطْوَلُ شَيْءٍ حِينَ أَفْقِدُهَا ... وَاللَّيْلُ أَقْصَرُ شَيْءٍ حِينَ أَلْقَاهَا وَقَدْ وَرَدَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِ آيَةِ «الْحَجِّ» ، وَآيَةِ «السَّجْدَةِ» . وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ «الْحَجِّ» ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي عَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ سُمَيْرِ بْنِ نَهَارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ، بِمِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ، قُلْتُ: وَمَا مِقْدَارُ نِصْفِ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَلَاحِمِ مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ» قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [32 \ 5] اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَاقَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْيَوْمِ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ يَقْصُرُ وَيَخِفُّ، حَتَّى يَكُونَ كَنِصْفِ نَهَارٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ تَعُدُّونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَإِلَى قَوْلِهِ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [22 \ 44 - 45] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ: إِنِّي لَسْتُ بِرَبِّكُمْ، وَلَا بِيَدِي هِدَايَتُكُمْ وَلَا عَلَيَّ عِقَابُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنِّي مُخَوِّفٌ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ. وَالْآيَاتُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا ; قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [13 \ 40] وَقَوْلُهُ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [13 \ 7] وَقَوْلُهُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [26 \ 115] وَقَوْلُهُ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [42 \ 48] وَقَوْلُهُ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [34 \ 46] وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُبِينٌ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْوَصْفُ مِنْ أَبَانَ الرُّبَاعِيَّةِ اللَّازِمَةِ الَّتِي بِمَعْنَى بَانَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَبَانَ فَهُوَ مَعْنَى بَانَ، فَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: قَنْوَاءُ فِي حَرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ فَقَوْلُهُ: عِتْقٌ مُبِينٌ أَيْ: كَرَمٌ ظَاهِرٌ وَمِنْ أَبَانَ اللَّازِمَةِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ... لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ يَعْنِي: لَظَهَرَ وَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ وَرَمٌ وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عَدَوْا ... أَبَانَ الْمُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ أَيْ ظَهَرَ: وَبَانَ الْمُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُبِينٌ: اسْمُ أَبَانَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ: مُبِينٌ لَكُمْ فِي إِنْذَارِي كُلَّ مَا يَنْفَعُكُمْ، وَمَا يَضُرُّكُمْ لِتَجْتَلِبُوا النَّفْعَ، وَتَجْتَنِبُوا الضُّرَّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَكُلِّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَعَمِلُوا الْفِعْلَاتِ الصَّالِحَاتِ مِنَ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أَيْ: حَسَنٌ، هُوَ مَا يَرْزُقُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ فِي جَنَّاتِهِ، وَأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 الَّذِينَ عَمِلُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ أَيِ: النَّارِ الشَّدِيدِ حَرُّهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعْدٌ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَوَعِيدٌ لِمَنْ عَصَاهُ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [15 \ 49 - 50] وَقَوْلِهِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ الْآيَةَ [40 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [22 \ 51] قَالَ مُجَاهِدٌ: مُعَاجِزِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: مُثَبِّطِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُعَاجِزِينَ أَيْ مُغَالِبِينَ وَمُشَاقِّينَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ مُعَاجِزِينَ: مُعَانِدِينَ، وَعَنِ الْأَخْفَشِ مُعَاجِزِينَ: مُعَانِدَةً مُسَابِقِينَ، وَعَنِ الزَّجَّاجِ مُعَاجِزِينَ أَيْ: ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَلَّا بَعْثَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ: أَنَّ فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: مُعَاجِزِينَ بِأَلِفٍ بَيْنِ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ اسْمُ فَاعِلِ عَاجَزَهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: مُعَجِّزِينَ بِلَا أَلِفٍ مَعَ تَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ عَجَّزَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُعَاجِزِينَ: هُوَ اقْتِضَاءُ طَرَفَيْنِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُعَدَّلُ عَنْهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْمُفَاعَلَةُ تَقْتَضِي الطَّرَفَيْنِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ، وَاقْتِضَاءُ الْفَاعِلَةِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ. الْأُولَى: هِيَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى مُعَاجِزِينَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُعَاجِزُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ، فَيُحَاوِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِعْجَازَ الْآخَرِ فَالْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، يُحَاوِلُونَ إِعْجَازَ الْكُفَّارِ وَإِخْضَاعَهُمْ لِقَبُولِ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ الْأَنْبِيَاءَ، وَأَتْبَاعَهُمْ، وَيُمَانِعُونَهُمْ، لِيُصَيِّرُوهُمْ إِلَى الْعَجْزِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ظَاهِرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [2 \ 217] وَعَلَيْهِ فَمَفْعُولُ مُعَاجِزِينَ مَحْذُوفٌ: أَيْ مُعَاجِزِينَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ، أَيْ مُغَالِبِينَ لَهُمْ، لِيُعْجِزُوهُمْ عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ مَعْنَى مُعَاجِزِينَ: ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَعْثِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [64 \ 7] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ إِنَّهُمْ قَالُوا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْكُفَّارُ مُعَاجِزِينَ اللَّهَ فِي زَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ زَعْمَهُمْ هَذَا كَاذِبٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ بِحَالٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [9 \ 2] وَقَوْلِهِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [9 \ 3] وَقَوْلِهِ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الْآيَةَ [29 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْجِنِّ» وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا [72 \ 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا ... وَلَيَغْلِبَنَّ مَغَالِبَ الْغُلَّابِ وَمُرَادُهُ بِسَخِينَةَ قُرَيْشٌ يَعْنِي: أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ غَلَبَةَ رَبِّهِمْ، وَاللَّهُ غَالِبُهُمْ بِلَا شَكٍّ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو: مُعْجِزِينَ بِكَسْرِ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، بِلَا أَلِفٍ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى مُعْجِزِينَ أَيْ: مُثَبِّطِينَ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِيمَانِ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَقِيلَ مُعْجِزِينَ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَهُمْ إِلَى الْعَجْزِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَجَّزَهُ بِالتَّضْعِيفِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحَزْمِ، يَعْنُونَ: أَنَّهُ يَحْسَبُونَ الْمُسْلِمِينَ سُفَهَاءَ لَا عُقُولَ لَهُمْ، حَيْثُ ارْتَكَبُوا أَمْرًا غَيْرَ الْحَزْمِ وَالصَّوَابِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي زَعْمِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُنَافِقِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ الْآيَةَ [2 \ 13] وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا [22 \ 51] . اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ السَّعْيَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْأَمْرِ لِإِفْسَادِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا أَيْ: سَعَوْا فِي إِبْطَالِهَا وَتَكْذِيبِهَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَكَهَانَةٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّعْيِ فِي الْفَسَادِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا الْآيَةَ [2 \ 205] وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّعْيِ فِي الْعَمَلِ لِلْإِصْلَاحِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [76 \ 22] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 وَقَوْلُهُ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى الْآيَةَ [80 \ 8 - 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّعْيِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِلَى قَوْلِهِ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 4 - 11] وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [22 - 51] جَاءَ مَعْنَاهَا وَاضِحًا فِي سُورَةِ سَبَأٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [38 \ 4 - 5] فَالْعَذَابُ مِنَ الرِّجْزِ الْأَلِيمِ الْمَذْكُورِ فِي «سَبَأٍ» هُوَ عَذَابُ الْجَحِيمِ الْمَذْكُورُ فِي الْحَجِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، مَعْنَى قَوْلِهِ تَمَنَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رُسُلِ فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي الْبَيْتَيْنِ قَرَأَ وَتَلَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، وَكَوْنُ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَمَنَّى فِي الْآيَةِ مِنَ التَّمَنِّي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ تَمَنِّيهِ إِسْلَامَ أُمَّتِهِ وَطَاعَتَهُمْ لِلَّهِ وَلِرُسُلِهِ، وَمَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ فَعَلَى أَنْ تَمَنَّى بِمَعْنَى: أَحَبَّ إِيمَانَ أُمَّتِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 وَعَلَّقَ أَمَلَهُ بِذَلِكَ، فَمَفْعُولُ أَلْقَى يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْوَسَاوِسِ، وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ حَتَّى لَا يَتِمَّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الرَّسُولِ مَا تَمَنَّى. وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِلْقَاءِ فِي أُمْنِيَّتِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي وَسَاوِسَهُ وَشُبَهَهُ لِيَصُدَّ بِهَا عَمَّا تَمَنَّاهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَصَارَ الْإِلْقَاءُ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ فِيهَا بِالصَّدِّ عَنْ تَمَامِهَا وَالْحَيْلُولَةِ دُونَ ذَلِكَ. وَعَلَى أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ، فَفِي مَفْعُولِ أَلْقَى تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ النَّبِيِّ الشُّبَهَ وَالْوَسَاوِسَ لِيَصُدَّ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَيَتْلُوهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي: فَهُوَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا لِيَظُنَّ الْكُفَّارُ أَنَّهُ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ قَالُوا: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 19 - 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَشَاعَ فِي النَّاسِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى رَجَعَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْمَهُمْ أَسْلَمُوا، فَوَجَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ: بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي زَعَمَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ وَالْكُفْرَ الْبَوَاحَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، يَعْنُونَ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، الَّذِي لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِ سِيَاقِ آيَاتِ «النَّجْمِ» الَّتِي تَخَلَّلَهَا إِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ الْمَزْعُومِ قَرِينَةً قُرْآنِيَّةً وَاضِحَةً عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ بَعْدَ مَوْضِعِ الْإِلْقَاءِ الْمَزْعُومِ بِقَلِيلٍ قَوْلَهُ تَعَالَى، فِي اللَّاتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [53 \ 23] وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ هَذَا السَّبَّ الْعَظِيمَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذِكْرِهِ لَهَا بِخَيْرٍ الْمَزْعُومِ، إِلَّا وَغَضِبُوا، وَلَمْ يَسْجُدُوا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْكَلَامِ الْأَخِيرِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِخْوَانِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَتْبَاعِهِمُ الْمُخْلِصِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ الْآيَةَ [34 \ 21] وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ [14 \ 22] ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ، فَأَيُّ سُلْطَانٍ لَهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] وَقَوْلُهُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [26 \ 221 - 222] ، وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 41 - 42] فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ. مَسْأَلَةٌ. اعْلَمْ: أَنَّ مَسْأَلَةَ الْغَرَانِيقِ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا شَرْعًا، وَدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى بُطْلَانِهَا لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَزَّارُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وَقَعَ فِي وَصْلِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصَارِهِ، لِثُبُوتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَنَّ طُرُقَهَا كُلَّهَا إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ إِلَّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يَرْوِهَا بِهَا أَحَدٌ مُتَّصِلَةً إِلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 أُمَيَّةَ بْنَ خَالِدٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ فِي وَصْلِهَا. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَحْسَبُ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرَى مُتَّصِلًا إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، لَمْ تَرِدْ مُتَّصِلَةً إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَكَّ رَاوِيهِ فِي الْوَصْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ بُطْلَانِهِ فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [69 \ 44] وَقَوْلِهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى الْآيَةَ [53 \ 3] ، وَقَوْلِهِ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [17 \ 74] فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْبَزَّارِ أَنَّهَا لَا تُرْوَى بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، وَعَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَذَكَرَ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ وَأَبْطَلَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَجَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقِرَاءَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةَ النَّجْمِ وَسُجُودُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فَلَا إِشْكَالَ. وَأَمَّا عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثَابِتَةٌ بِثَلَاثَةِ أَسَانِيدَ كُلُّهَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَرَاسِيلُ يَحْتَجُّ بِمِثْلِهَا مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ الطُّرُقَ إِذَا كَثُرَتْ وَتَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، فَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَحْسَنُهَا، وَأَقْرَبُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ تَرْتِيلًا تَتَخَلَّلُهُ سَكَتَاتٌ، فَلَمَّا قَرَأَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 20] قَالَ الشَّيْطَانُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مُحَاكِيًا لِصَوْتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى. . . الْخَ فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ بَرِئٌ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِحْلَتِنَا إِيضَاحًا وَافِيًا، وَاخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، وَفِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، مَعَ اسْتِحَالَةِ الْإِلْقَاءِ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذُكِرَ شَرْعًا، وَمَنْ أَثْبَتَهَا نَسَبَ التَّلَفُّظَ بِذَلِكَ الْكُفْرِ لِلشَّيْطَانِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ نُطْقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَلَوْ سَهْوًا مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْغَرَانِيقُ: الطَّيْرُ الْبِيضُ الْمَعْرُوفَةُ وَاحِدُهَا: غُرْنُوقٌ كَزُنْبُورٍ وَفِرْدَوْسٍ، وَفِيهِ لُغَاتٌ غَيْرُ ذَلِكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ كَالطَّيْرِ الْبِيضِ، فَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لِعَابِدِيهَا قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَكْفَرَهُمْ! وَنَحْنُ وَإِنْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَفْعُولَ الْإِلْقَاءِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ; لِأَنَّ النَّسْخَ هُنَا هُوَ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ، وَمَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَهَذَا كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، لَيْسَ مِمَّا يَقْرَؤُهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ: الشُّكُوكُ وَالْوَسَاوِسُ الْمَانِعَةُ مِنْ تَصْدِيقِهَا وَقَبُولِهَا، كَإِلْقَائِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ، أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ عَلَى اللَّهِ لَيْسَتْ مُنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْإِلْقَاءِ الْمَذْكُورِ امْتِحَانُ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ قَالَ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ 2 \ 53] ثُمَّ قَالَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [22 \ 54] فَقَوْلُهُ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ، أَنَّ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّبِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ فَيُصَدِّقُهُ الْأَشْقِيَاءُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ، وَيُكَذِّبُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ ; كَمَا يَزْعُمُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي إِلْقَائِهِ: فَهَذَا الِامْتِحَانُ لَا يُنَاسِبُ شَيْئًا زَادَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَمَعْنَى نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ: إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. وَمَعْنَى يُحْكِمُ آيَاتِهِ: يُتْقِنُهَا بِالْإِحْكَامِ، فَيُظْهِرُ أَنَّهَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنْهُ بِحَقٍّ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ مُحَاوَلَةُ الشَّيْطَانِ صَدَّ النَّاسِ عَنْهَا بِإِلْقَائِهِ الْمَذْكُورِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يُسَلِّطُ الشَّيْطَانَ فَيَلْقَى فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، فِتْنَةً لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ مُؤْمِنُهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 بِذَلِكَ الِامْتِحَانِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا كَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [74 \ 31] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 143] وَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ أَيْ: لِأَنَّهَا فِتْنَةٌ، كَمَا قَالَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [37 \ 62 - 64] ; لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ الْيَابِسِ، فَكَيْفَ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ الْآيَةَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ، بِأَلْقَى أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّةِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ فِتْنَةً لِلَّذِينِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، خِلَافًا لِلْحَوْفِيِّ الْقَائِلِ: إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِـ «يُحْكِمُ» ، وَابْنِ عَطِيَّةَ الْقَائِلِ: إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِـ «يَنْسَخُ» . وَمَعْنَى كَوْنِهِ: فِتْنَةً لَهُمْ أَنَّهُ سَبَبٌ لِتَمَادِيهِمْ فِي الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعَانِيَ الْفِتْنَةِ فِي الْقُرْآنِ سَابِقًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ، لِيَظْهَرَ بِسَبْكِهِ فِيهَا أَخَالِصٌ هُوَ أَمْ زَائِفٌ، وَأَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا: الْوَضْعُ فِي النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [51 \ 13] أَيْ: يُحْرَقُونَ بِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [85 \ 10] أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَمِنْهَا: الِاخْتِبَارُ وَهُوَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [64 \ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [21 \ 35] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [72 \ 16 - 17] وَمِنْهَا: نَتِيجَةُ الِابْتِلَاءِ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً كَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; كَقَوْلِهِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [2 \ 193] أَيْ: شِرْكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [2 \ 193] وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [8 \ 39] وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، فَالْغَايَةُ فِي الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةٌ لِلْغَايَةِ فِي الْآيَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ الْقُرْآنِ السُّنَّةُ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ هُنَا لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَقَدْ جَاءَتِ الْفِتْنَةُ فِي مَوْضِعٍ بِمَعْنَى الْحُجَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] أَيْ حُجَّتُهُمْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَرَضٌ بِالنِّفَاقِ وَالشَّكِّ وَالْكُفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [2 \ 10] وَقَوْلُهُ هُنَا لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [22 \ 53] أَيْ: كُفْرٌ وَشَكٌّ. وَالثَّانِي: مِنْهُمَا إِطْلَاقُ مَرَضِ الْقَلْبِ عَلَى مَيْلِهِ لِلْفَاحِشَةِ وَالزِّنَى، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [33 \ 32] أَيْ: مَيْلٌ إِلَى الزِّنَى وَنَحْوِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي انْطِوَاءَ الْقَلْبِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَبِيثَةِ: مَرَضًا وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي لُغَتِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: حَافِظٌ لِلْفَرْجِ رَاضٍ بِالتُّقَى ... لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضُ وَقَوْلُهُ هُنَا وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [22 \ 53] قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى سَبَبِ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [2 \ 74] وَآيَةُ الْحَجِّ هَذِهِ تُبَيِّنُ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ هُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَحْيٌ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ الْآيَةَ [22 \ 52] ، يَدُلُّ عَلَى أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْسَلٌ، وَأَنَّهُمَا مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي هُوَ رَسُولٌ أُنْزِلَ إِلَيْهِ كِتَابٌ وَشَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ مَعَ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِهَا نُبُوَّتُهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الرَّسُولِ، هُوَ مَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ قَبْلَهُ، كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يُرْسَلُونَ وَيُؤْمَرُونَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا الْآيَةَ [5 \ 44] وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أَيْ: تَخْشَعَ وَتَخْضَعَ وَتَطْمَئِنَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ، ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَزَالُونَ فِي مِرْيَةٍ، أَيْ: شَكٍّ وَرَيْبٍ مِنْهُ أَيْ: مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أَيْ: فِي شَكٍّ مِمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، أَيِ: الْقِيَامَةُ بَغْتَةً، أَيْ: فَجْأَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ الْيَوْمَ الْعَقِيمَ الْمَذْكُورَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا لَيْلَ لَهُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوعِدُوا بِهِ. اهـ، مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً، وَبِهِ تُعْلَمُ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْقُرْآنِيَّةَ هُنَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الْعَقِيمِ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لَا يَوْمُ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذِكْرَ الْيَوْمِ الْعَقِيمِ، بِقَوْلِهِ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [22 \ 56] ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ أَيْ: يَوْمَ إِذْ تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ، أَوْ يَأْتِيهِمْ عَذَابٌ عَقِيمٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْيَوْمَ الْعَقِيمَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ عَقِيمًا عَلَى الْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُلْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْكُ فِي الدُّنْيَا لَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّ فِي الدُّنْيَا مُلُوكًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ فِيهِ اسْمُ الْمَلِكِ إِلَّا لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَحْدَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْمُلْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخَلْقِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] وَقَوْلِهِ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ الْآيَةَ [25 \ 26] وَقَوْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [6 \ 73] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، إِدْخَالُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الْجَنَّةَ الْمَذْكُورُ هُنَا وَكَوْنُ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمُ الْعَذَابُ الْمُهِينُ: يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [22 \ 56] وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مَعْنَاهُ مِرَارًا بِكَثْرَةٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قُتِلُوا بِأَنْ قَتْلَهُمُ الْكُفَّارُ فِي الْجِهَادِ ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، أَوْ مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ حَتْفَ أَنْفِهِمْ فِي غَيْرِ جِهَادٍ، أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ لَيَرْزُقَنَّهُمْ رِزْقًا حَسَنًا وَأَنَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا ذَكَرْنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا -: أَنَّهُ يَرْزُقُهُمْ رِزْقًا حَسَنًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [3 \ 169] وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يُرْزَقُهُمْ رِزْقٌ حَسَنٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ مَاتُوا فِي قِتَالِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: أَوْ مَاتُوا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [4 \ 100] وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ الرِّزْقَ الْحَسَنَ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرَفًا مِنْهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ قُتِلُوا قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى نُصْرَةِ مَنْ ظُلِمَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ الْآيَةَ [22 \ 60] ، أَيْ: ذَلِكَ النَّصْرُ الْمَذْكُورُ كَائِنٌ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَادِرٌ لَا يَعْجِزُ عَنْ نُصْرَةِ مَنْ شَاءَ نُصْرَتَهُ، وَمِنْ عَلَامَاتِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ: أَنَّهُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أَوْ بِسَبَبِ أَنَّهُ خَالِقُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمُصَرِّفُهَمَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي فِيهِمَا عَلَى أَيْدِي عِبَادِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبَغْيِ وَالِانْتِصَارِ، وَأَنَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ، بَصِيرٌ بِمَا يَفْعَلُونَ أَيْ: وَذَلِكَ الْوَصْفُ بِخَلْقِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَالْإِحَاطَةِ بِمَا يَجْرِي فِيهِمَا، وَالْإِحَاطَةِ بِكُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أَيِ: الثَّابِتُ الْإِلَهِيَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُدَّعَى إِلَهًا غَيْرَهُ بَاطِلٌ وَكُفْرٌ، وَوَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، الَّذِي هُوَ أَعَلَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ وَأَكْبَرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى لِأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَا، بِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ الْآيَةَ [22 \ 61] ، وَلِآخِرِهِ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْآيَةَ [22 \ 62] . وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ: رَاجِعَةٌ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ لِقَوْلِهِ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [22 \ 56] ، إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ كَوْنِ الْمُلْكِ لَهُ وَحْدَهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ الْحَاكِمُ وَحْدَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ الْمُدْخِلُ الصَّالِحِينَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالْمُعَذِّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعَذَابَ الْمُهِينَ، وَالنَّاصِرُ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِسَبَبِ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، مُبَيِّنًا أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِ النَّاسِ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [31 \ 28] . ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [31 \ 29 - 30] فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ فِي «الْحَجِّ» ، وَفِي «لُقْمَانَ» ، وَإِيلَاجُ كُلٍّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْآخَرِ فِيهِ مَعْنَيَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ هُوَ: أَنَّ إِيلَاجَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، إِنَّمَا هُوَ بِإِدْخَالِ جُزْءٍ مِنْهُ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يَطُولُ النَّهَارُ فِي الصَّيْفِ ; لِأَنَّهُ أُولِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ وَيَطُولُ اللَّيْلُ فِي الشِّتَاءِ ; لِأَنَّهُ أُولِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّهَارِ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ. الْمَعْنَى الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِيلَاجَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، هُوَ تَحْصِيلُ ظُلْمَةِ هَذَا فِي مَكَانِ ضِيَاءِ ذَلِكَ، بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ، وَضِيَاءِ ذَلِكَ فِي مَكَانِ ظُلْمَةِ هَذَا كَمَا يُضِيءُ الْبَيْتُ الْمُغْلَقُ بِالسِّرَاجِ، وَيُظْلِمُ بِفَقْدِهِ. ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَأَنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَأَكْثَرُ قَائِلًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [22 \ 62] قَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ الْفَوْقِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، الظَّاهِرُ: أَنَّ «تَرَ» هُنَا مِنْ رَأَى بِمَعْنَى: عَلِمَ ; لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَطَرِ وَإِنْ كَانَ مُشَاهَدًا بِالْبَصَرِ فَكَوْنُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، إِنَّمَا يُدْرَكُ بِالْعِلْمِ لَا بِالْبَصَرِ، فَالرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ. فَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمِ اللَّهَ مُنْزِلًا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أَيْ: ذَاتَ خُضْرَةٍ بِسَبَبِ النَّبَاتِ الَّذِي يُنْبِتُهُ اللَّهُ فِيهَا بِسَبَبِ إِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا مِنْ كَوْنِ إِنْبَاتِ نَبَاتِ الْأَرْضِ، بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [41 \ 39] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41 \ 39] وَكَقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [30 \ 50] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [30 \ 50] ، وَقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا [50 \ 9 - 11] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [50 \ 11] أَيْ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 خُرُوجُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [30 \ 19] وَقَوْلِهِ: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا [50 \ 11] ، كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 \ 57] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. تَنْبِيهٌ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا حِكْمَةُ عَطْفِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ عَلَى الْمَاضِي الَّذِي هُوَ أَنْزَلَ؟ السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا وَجْهُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ مَعَ أَنَّ قَبْلَهَا اسْتِفْهَامًا؟ فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ النُّكْتَةَ فِي الْمُضَارِعِ هِيَ إِفَادَةُ بَقَاءِ أَثَرِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ كَمَا تَقُولُ: أَنْعَمَ عَلَى فُلَانٍ عَامَ كَذَا وَكَذَا، فَأَرُوحُ وَأَغْدُو شَاكِرًا لَهُ، وَلَوْ قُلْتَ: فَغَدَوْتُ وَرُحْتُ، لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَوْقِعَ، هَكَذَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ يُفِيدُ اسْتِحْضَارَ الْهَيْئَةِ الَّتِي اتَّصَفَتْ بِهَا الْأَرْضُ: بَعْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَالْمَاضِي لَا يُفِيدُ دَوَامَ اسْتِحْضَارِهَا ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْقِطَاعَ الشَّيْءِ. أَمَّا الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ ; فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسَبَّبُ الْإِنْزَالِ فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَ، وَالْإِنْزَالُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إِصْبَاحِ الْأَرْضِ مُخْضَرَّةً لَيْسَ فِيهِ اسْتِفْهَامٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاءَ الَّتِي يُنْصَبُ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ إِنْ حُذِفَتْ جَازَ جَعْلُ مَدْخُولِهَا جَزَاءً لِلشَّرْطِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُولَ هُنَا: إِنْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، تُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ; لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا أَثَرَ لَهَا أَلْبَتَّةَ فِي اخْضِرَارِ الْأَرْضِ، بَلْ سَبَبُهُ إِنْزَالُ الْمَاءِ لَا رُؤْيَةُ إِنْزَالِهِ. وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا لَهُ رُفِعَ وَلَمْ يُنْصَبْ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ. قُلْتُ: لَوْ نُصِبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ ; لَأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرُ، إِنْ تَنْصِبْهُ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٌّ تَفْرِيطَهُ، وَإِنْ رَفَعْتَهُ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلشُّكْرِ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، وَتَوْقِيرِ أَهْلِهِ، انْتَهَى مِنْهُ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ ظَانًّا أَنَّهُ أَوْضَحَهُ، وَلَا يَظْهَرُ لِي كُلَّ الظُّهُورِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: فَتُصْبِحُ مَعَ أَنَّ اخْضِرَارَ الْأَرْضِ، قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ صَبِيحَةِ الْمَطَرِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أَيْ: تَصِيرُ مُخْضَرَّةً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَنِيًّا مَثَلًا بِمَعْنَى صَارَ، وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ بَعْضَ الْبِلَادِ تُصْبِحُ فِيهِ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فِي نَفْسِ صَبِيحَةِ الْمَطَرِ. وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَعَلِيٌّ هَذَا فَلَا إِشْكَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَتَعْقِيبُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [23 \ 14] مَعَ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَوْلُهُ: لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَيْ: لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، وَمِنْ لُطْفِهِ بِهِمْ إِنْزَالُهُ الْمَطَرَ وَإِنْبَاتُهُ لَهُمْ بِهِ أَقْوَاتَهُمْ، خَبِيرٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لِخَلْقِهِ مَا فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ السُّفُنَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [45 \ 13] وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاءِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] ، وَكَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [36 \ 41 - 42] وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ وَيَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَتُهْلِكُ مَنْ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَأَذِنَ لِلسَّمَاءِ فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَأَهْلَكَتْ مَنْ عَلَيْهَا ; كَمَا قَالَ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [34 \ 9] ، وَقَدْ أَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ الْآيَةَ [35 \ 41] ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 وَكَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [23 \ 17] عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا: بِأَنَّهُ غَيْرُ غَافِلٍ عَنِ الْخَلْقِ بَلْ حَافِظٌ لَهُمْ مِنْ سُقُوطِ السَّمَاوَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالطَّرَائِقِ عَلَيْهِمْ. تَنْبِيهٌ. هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ [22 \ 65] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [35 \ 41] وَقَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [34 \ 9] وَقَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا، [78 \ 12] وَقَوْلِهِ: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [51 \ 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا الْآيَةَ [21 \ 32] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ مَلَاحِدَةُ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ مَطْمُوسِي الْبَصَائِرِ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ السَّمَاءَ فَضَاءٌ لَا جُرْمٌ مَبْنِيٌّ، أَنَّهُ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ، وَتَكْذِيبٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [22 \ 65] أَيْ: وَمِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ أَنَّهُ أَمْسَكَ السَّمَاءَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُسْقِطْهَا عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ، قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيكُمْ فَهُمَا إِحْيَاءَتَانِ، وَإِمَاتَتَانِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [2 \ 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الْآيَةَ [40 \ 11] . وَنَظِيرُ آيَةِ «الْحَجِّ» الْمَذْكُورَةِ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى، فِي «الْجَاثِيَةِ» : قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [45 \ 26] ، وَكُفْرُ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَاتَهُ مَرَّتَيْنِ، هُوَ الَّذِي دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى اسْتِعْبَادِهِ وَإِنْكَارِهِ مَعَ دَلَالَةِ الْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءَتَيْنِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 بِالْمُحْيِي الْمُمِيتِ، وَعَدَمِ الْكُفْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ الْآيَةَ [2 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ، الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [22 \ 67] ، أَيْ: مُتَعَبَّدًا هُمْ مُتَعَبِّدُونَ فِيهِ ; لِأَنَّ أَصْلَ النُّسُكِ التَّعَبُّدُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْسَكَ كُلِّ أُمَّةٍ فِيهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالذَّبْحِ، فَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ النُّسُكِ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِدُخُولِهِ فِي عُمُومِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ. وَالْآيَةُ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا الْآيَةَ [22 \ 34] وَقَوْلُهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [22 \ 34 وَ 67] فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى، أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ، أَيْ: إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَهُ فِيهَا أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقِ حَقٍّ وَاضِحٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَيْهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، جَاءَ وَاضِحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [28 \ 87] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ الْآيَةَ [42 \ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [16 \ 125] وَأَخْبَرَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِدُعَائِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [23 \ 73] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] وَكَقَوْلِهِ فِي الْأَخِيرِ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [27 \ 79] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا الْآيَةَ [45 \ 18] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [48 \ 2] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِنْ جَادَلَهُ الْكُفَّارُ أَيْ: خَاصَمُوهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 بِالْبَاطِلِ وَكَذَّبُوهُ، أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ تَهْدِيدٌ لَهُمْ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَمَرَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ أَيْ: مِنَ الْكُفْرِ، فَمُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْجَزَاءِ. الثَّانِي: الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى لِلْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا إِعْرَاضُهُ عَنْهُمْ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمْ لَهُ بِالْجِدَالِ الْبَاطِلِ فَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُشِيرَ لَهُ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [10 \ 41] . وَأَمَّا تَهْدِيدُهُمْ فَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [46 \ 8] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [6 \ 147] فَقَوْلُهُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ الْآيَةَ، فِيهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ لِلْمُكَذِّبِينَ، كَمَا قَالَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 15] فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهُمْ إِنَّمَا يُكَذِّبُونَهُ بِالْجِدَالِ، وَالْخِصَامِ بِالْبَاطِلِ. وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] وَقَوْلِهِ: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [29 \ 46] وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَهُ بِمِثْلٍ لِيَحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهِ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا جَاءَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْمَغُ ذَلِكَ الْبَاطِلَ، مَعَ كَوْنِهِ أَحْسَنَ تَفْسِيرًا وَكَشْفًا وَإِيضَاحًا لِلْحَقَائِقِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [25 \ 33] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ ذُبَابٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنَ الذُّبَابِ مَا سَلَبَهُ الذُّبَابُ مِنْهُ، كَالطِّيبِ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ، إِنْ سَلَبَهَا الذُّبَابُ مِنْهُ شَيْئًا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ، وَكَوْنِهِمْ لَمْ يُعَظِّمُوا اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حَيْثُ عَبَدُوا مَعَهُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ، ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [6 \ 91] وَكَقَوْلِهِ فِي الزُّمَرِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [39 \ 67] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَصْطَفِي، أَيْ: يَخْتَارُ رُسُلًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ النَّاسِ فَرُسُلُ النَّاسِ لِإِبْلَاغِ الْوَحْيِ، وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ يُرْسِلُهُمْ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ اصْطِفَائِهِ الرُّسُلَ مِنْهُمَا جَاءَ وَاضِحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي رُسُلِ الْمَلَائِكَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ الْآيَةَ [35 \ 1] . وَقَوْلِهِ فِي جِبْرِيلَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [81 \ 19] وَمِنْ ذِكْرِهِ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ بِغَيْرِ الْوَحْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [6 \ 61] وَكَقَوْلِهِ فِي رُسُلِ بَنِي آدَمَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [6 \ 124] وَقَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْآيَةَ [2 \ 253] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا الْآيَةَ [16 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ، أَيِ: اصْطَفَاكُمْ، وَاخْتَارَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْآيَةَ [3 \ 110] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، الْحَرَجُ: الضِّيقُ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَذِهِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ، لَا عَلَى الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ فِيهَا الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [2 \ 185] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [4 \ 28] وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ خَوَاتِمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] قَالَ اللَّهُ: «قَدْ فَعَلْتُ» فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَعَمْ. وَمِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الرُّخْصَةُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ فِيهِ، وَصَلَاةُ الْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ قَاعِدًا وَإِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ لِلضَّرُورَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الْآيَةَ [6 \ 119] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعَهَا مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هُوَ إِحْدَى الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ، الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ وَهِيَ هَذِهِ الْخَمْسُ. الْأُولَى: الضَّرَرُ يُزَالُ وَمِنْ أَدِلَّتِهَا حَدِيثُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . الثَّانِيَةُ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ: وَهِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ هُنَا وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] وَمَا ذَكَرْنَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ. الثَّالِثَةُ: لَا يُرْفَعُ يَقِينٌ بِشَكٍّ، وَمِنْ أَدِلَّتِهَا حَدِيثُ «مَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ فِي دُبُرِهِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَشُمَّ رِيحًا» ; لِأَنَّ تِلْكَ الطَّهَارَةَ الْمُحَقَّقَةَ لَمْ تُنْقَضْ بِتِلْكَ الرِّيحِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا. الرَّابِعَةُ: تَحْكِيمُ عُرْفِ النَّاسِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ فِي صِيَغِ عُقُودِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ لِهَذِهِ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الْآيَةَ [7 \ 199] . الْخَامِسَةُ: الْأُمُورُ تَبَعُ الْمَقَاصِدِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ حَدِيثُ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي كِتَابِ الِاسْتِدْلَالِ إِلَى هَذِهِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَاتِ بِقَوْلِهِ: قَدْ أُسِّسَ الْفِقْهُ عَلَى رَفْعِ الضَّرَرِ ... وَأَنَّ مَا يَشُقُّ يَجْلِبُ الْوَطَرَ وَنَفَى رَفْعَ الْقَطْعِ بِالشَّكِّ وَأَنْ ... يَحْكُمُ الْعُرْفُ وَزَادَ مَنْ فَطِنَ كَوْنُ الْأُمُورِ تَبَعَ الْمَقَاصِدِ ... مَعَ التَّكَلُّفِ بِبَعْضِ وَارِدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ مِنْ ضِيقٍ، كَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَنْصُوبًا بِمَحْذُوفٍ أَيِ: الْزَمُوا مِلَّةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [22 \ 78] شَامِلًا لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوَامِرِ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [22 \ 77 - 78] ، وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [6 \ 161] وَالدِّينُ الْقَيِّمُ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: شَامِلٌ لِمَا ذُكِرَ كُلُّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا، اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ سَمَّاكُمُ [22 \ 78] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَقَتَادَةُ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ أَيْ: إِبْرَاهِيمُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [2 \ 128] وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَتَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَجِئْنَا بِأَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَرِينَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ غَيْرُ صَوَابٍ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَالَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا، أَيِ: الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُسَمِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرْآنِ، لِنُزُولِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِأَزْمَانٍ طَوِيلَةٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَى هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا فِي السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ، لَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَوْلُهُ هُوَ اجْتَبَاكُمْ، أَيِ: اللَّهُ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، أَيِ: اللَّهُ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ أَيِ: اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَأَقْرَبُ مَذْكُورٍ لِلضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَحَلَّ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ مَحَلُّهُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَهُنَا قَدْ صَرَفَ عَنْهُ صَارِفٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ «وَفِي هَذَا» يَعْنِي الْقُرْآنَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 الْمُرَادَ بِالَّذِي سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ: هُوَ اللَّهُ لَا إِبْرَاهِيمُ، وَكَذَلِكَ سِيَاقُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ نَحْوَ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] يُنَاسِبُهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَمَّاكُمْ أَيِ: اللَّهُ، الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ: أَنَّ الَّذِي سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا: هُوَ اللَّهُ، لَا إِبْرَاهِيمُ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ثُمَّ حَثَّهُمْ وَأَغْرَاهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمُ الْخَلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا نَوَّهَ بِهِ مِنْ ذِكْرِهَا، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ، وَقَدِيمِ الزَّمَانِ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ، تُتْلَى عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ فَقَالَ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ. وَفِي هَذَا رَوَى النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَنْبَأَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ أَنَّ أَخَاهُ زَيْدَ بْنَ سَلَامٍ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي سَلَامٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثِيِّ جَهَنَّمَ» ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى؟ قَالَ: «نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى، فَادْعُوَا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمْ بِهَا الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [2 \ 21] اهـ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، يَعْنِي: إِنَّمَا اجْتَبَاكُمْ، وَفَضَّلَكُمْ وَنَوَّهَ بِاسْمِكُمُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ نُزُولِ كِتَابِكُمْ، وَزَكَّاكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَسَمَّاكُمْ فِيهَا الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ سَمَّاكُمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ. وَقَدْ عُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّكُمْ أُمَّةٌ وَسَطٌ عُدُولٌ خِيَارٌ مَشْهُودٌ بِعَدَالَتِكُمْ، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، حِينَ يُنْكِرُ الْكُفَّارُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، أَنَّهُ بَلَّغَكُمْ، وَقِيلَ: شَهِيدًا عَلَى صِدْقِكُمْ فِيمَا شَهِدْتُمْ بِهِ لِلرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمْ مِنَ التَّبْلِيغِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [2 \ 143] وَقَالَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا الْآيَةَ [48 \ 8] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَح َ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ فَقَالَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [23 \ 1] أَيْ: فَازُوا وَظَفِرُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفَلَاحُ الْمُؤْمِنِينَ مَذْكُورٌ ذِكْرًا كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [33 \ 47] وَقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [23 \ 2] أَصْلُ الْخُشُوعِ: السُّكُونُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَالِانْخِفَاضُ وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ ... وَنُؤًى كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمَ خَاشِعِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: خَشْيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَكُونُ فِي الْقَلْبِ، فَتَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ. وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ الْخُشُوعَ مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا فِي قَوْلِهِ فِي الْأَحْزَابِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ إِلَى قَوْلِهِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [33 \ 35] . وَقَدْ عُدَّ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْخُشُوعِ تَصْعُبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [2 \ 45] وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ خُشُوعِ الْمُصَلِّي: أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي صَلَاتِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، قَالُوا: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ حَيْثُ يَسْجُدُ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيَهْقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [23 \ 2] فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ» اهـ مِنْهُ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [2 \ 144] قَالُوا: فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ، وَذَلِكَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ الْمُنْحَنِيَ بِوَجْهِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، لَيْسَ بِمُوَلٍّ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى أَفْلَحَ: نَالَ الْفَلَاحَ، وَالْفَلَاحُ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقِلَ أَيْ فَازَ مَنْ رُزِقَ الْعَقْلَ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ. وَالثَّانِي: هُوَ إِطْلَاقُ الْفَلَاحِ عَلَى الْبَقَاءِ السَّرْمَدِيِّ فِي النَّعِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ أَيْضًا فِي رَجَزٍ لَهُ: لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ ... لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ يَعْنِي: مُدْرِكَ الْبَقَاءِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، أَوِ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ: لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... وَالْمِسَى وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ. أَيْ لَا بَقَاءَ مَعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَالْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا لِلْفَلَاحِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَسَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي لَفْظَةِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ اللَّغْوِ، وَأَصْلُ اللَّغْوِ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ وَالْهَزْلُ، وَمَا تُوجِبُ الْمُرُوءَةُ تَرْكَهُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [23 \ 3] أَيْ: عَنِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 الشِّرْكَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَالْمَعَاصِي كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ اهـ مِنْهُ. وَمَا أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [25 \ 72] وَمِنْ مُرُورِهِمْ بِهِ كِرَامًا إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ، وَعَدَمُ مُشَارَكَتِهِمْ أَصْحَابَهُ فِيهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ الْآيَةَ [28 \ 55] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، فِي الْمُرَادِ بِالزَّكَاةِ هُنَا وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ، وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِلْأَكْثَرِينَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ هُنَا: زَكَاةُ النَّفْسِ أَيْ: تَطْهِيرُهَا مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ كَالْمُرَادِ بِهَا فِي قَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [91 \ 9 - 10] وَقَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى الْآيَةَ [87 \ 14] ، وَقَوْلِهِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [24 \ 21] وَقَوْلِهِ خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً الْآيَةَ [18 \ 81] وَقَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [41 \ 6 - 7] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ بِثَلَاثِ قَرَائِنَ: الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، بِلَا خِلَافٍ، وَالزَّكَاةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ نَزَلَ قَبْلَ فَرْضِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْمَعْرُوفَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهَا. الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ: أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ أَدَائِهَا بِالْإِيتَاءِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكَاةَ [2 \ 43] وَقَوْلِهِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ [21 \ 73] وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الزَّكَاةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهَا بِالْإِيتَاءِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [23 \ 4] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ: أَفْعَالُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ، وَذَلِكَ أَوْلَى بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي مِنْ أَدَاءِ مَالٍ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ تَكُونُ فِي الْقُرْآنِ عَادَةً مَقْرُونَةً بِالصَّلَاةِ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [2 \ 110] وَقَوْلِهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [2 \ 277] وَقَوْلِهِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ [21 \ 73] وَهَذِهِ الزَّكَاةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فُصِلَ بَيْنَ ذِكْرِهَا، وَبَيْنَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ بِجُمْلَةِ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [23 \ 3] . وَالَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ بِهَا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ، قَالُوا: إِنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ فُرِضَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ هِيَ ذَاتُ النُّصُبِ، وَالْمَقَادِيرِ الْخَاصَّةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [141] وَقَدْ يُسْتَدَلُّ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُزَكَّى بِهَا النُّفُوسُ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، بِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا مَعْنَى الزَّكَاةِ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ شَامِلًا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَيَكُونُ كَالتَّكْرَارِ مَعَهَا، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ وَالِاسْتِقْلَالِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [6 \ 97] وَالَّذِينَ قَالُوا: هِيَ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ قَالُوا: فَاعِلُونَ أَيْ: مُؤَدُّونَ، قَالُوا: وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَصِيحَةٌ، وَمِنْهَا قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزْ ... مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ وَهُوَ وَاضِحٌ، بِحَمْلِ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ بِمَعْنَى التَّزْكِيَةِ لِلْمَالِ ; لِأَنَّهَا فِعْلُ الْمُزَكِّي كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَطْهِيرَ النَّفْسِ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَدَفْعِ زَكَاةِ الْمَالِ كِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْجَنَّةَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ هَا هُنَا: زَكَاةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالدَّنَسِ إِلَى أَنْ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادًا وَهُوَ زَكَاةُ النُّفُوسِ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ زَكَاةِ النُّفُوسِ، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ وَيَخْلُدُونَ فِيهَا حِفْظَهُمْ لِفُرُوجِهِمْ أَيْ: مِنَ اللِّوَاطِ وَالزِّنَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 حِفْظَهُمْ فُرُوجَهُمْ، لَا يَلْزَمُهُمْ عَنْ نِسَائِهِمُ الَّذِينَ مَلَكُوا الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمَتُّعُ بِالسَّرَارِي، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فَرْجَهُ عَنْ زَوْجِهِ أَوْ سُرِّيَّتِهِ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنِ ابْتَغَى تَمَتُّعًا بِفَرْجِهِ، وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ فَهُوَ مِنَ الْعَادِينَ أَيِ: الْمُعْتَدِينَ الْمُتَعَدِّينَ حُدُودَ اللَّهِ، الْمُجَاوِزِينَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ. وَبَيَّنَ مَعْنَى الْعَادِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [26 \ 165 - 166] وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [70 \ 29 - 31] . مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [23 \ 6] مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَنْ وَهِيَ مِنْ صِيغَ الْعُمُومِ، فَآيَةُ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [23 \ 1] وَآيَةُ سَأَلَ سَائِلٌ [70 \ 1] تَدُلُّ بِعُمُومِهَا الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِلَفْظَةِ مَا، فِي قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي التَّسَرِّي بِهِمَا مَعًا لِدُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَبِهَذَا قَالَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُ: وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [4 \ 23] يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى مَنْعِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْأُخْتَيْنِ صِيغَةُ عُمُومٍ، تَشْمَلُ كُلَّ أُخْتَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَتَا بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ وَلِذَا قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا سُئِلَ عَنْ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى يَعْنِي بِالْآيَةِ الْمُحَلِّلَةِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَبِالْمُحَرِّمَةِ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمُهِمَّ مِمَّا ذَكَرْنَا فِيهِ وَنَزِيدُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى زِيَادَتِهِ. وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ، وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ تَعَارُضُهُمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى وَإِيضَاحُهُ أَنَّ آيَةَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ تَنْفَرِدُ عَنْ آيَةِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْأُخْتَيْنِ الْمَجْمُوعِ بَيْنَهُمَا، بِعَقْدِ نِكَاحٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 وَتَنْفَرِدُ آيَةُ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْأَمَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ الْأَمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا بِأُخْتَيْنِ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَعُمُومُ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَعُمُومُ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَعَمَّانِ مِنْ وَجْهٍ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَالرَّاجِحُ مِنْهُمَا، يُقَدَّمُ وَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْآخَرِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ الْعُمُومُ مِنْ وَجْهٍ ظَهَرْ ... فَالْحُكْمُ بِالتَّرْجِيحِ حَتْمًا مُعْتَبَرْ وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مُرَجَّحٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ عَلَى عُمُومِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ: الْأَوَّلُ: مِنْهَا أَنَّ عُمُومَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نَصٌّ فِي مَحَلِّ الْمُدْرَكِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ سُورَةُ النِّسَاءِ: وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ تَحِلُّ مِنْهُنَّ، وَمَنْ لَا تَحِلُّ، وَآيَةُ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ تُذْكَرْ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيمِ النِّسَاءِ، وَلَا تَحْلِيلِهِنَّ بَلْ ذَكَرَ اللَّهُ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا حِفْظَ الْفَرْجِ، فَاسْتَطْرَدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِفْظُهُ عَنِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ أَخْذَ الْأَحْكَامِ مِنْ مَظَانِّهَا أَوْلَى مِنْ أَخْذِهَا، لَا مِنْ مَظَانِّهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ آيَةَ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لَيْسَتْ بَاقِيَةً عَلَى عُمُومِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعِ لَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِجْمَاعًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عُمُومَ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ يُخَصِّصُهُ عُمُومُ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [4 \ 23] وَمَوْطُوءَةُ الْأَبِ لَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إِجْمَاعًا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عُمُومَ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ يُخَصِّصُهُ عُمُومُ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [4 \ 22] ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعَارُضِ الْعَامِّ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، مَعَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ: هُوَ تَقْدِيمُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ، إِلَّا صَفِيَّ الدِّينِ الْهِنْدِيَّ، وَالسُّبْكِيَّ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُخَصَّصَ، اخْتَلَفَ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْبَاقِي، بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: هُوَ مَجَازٌ فِي الْبَاقِي، وَمَا اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ أَوْلَى مِمَّا اخْتُلِفَ فِي حُجِّيَّتِهِ، وَهَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ، أَوْ مَجَازٌ؟ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحَ: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَحَقِيقَةٌ فِيهِ ; الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 لِأَنَّ مُطْلَقَ حُصُولِ الْخِلَافِ فِيهِ يَكْفِي فِي تَرْجِيحِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حُجَّةُ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَالسُّبْكِيِّ، عَلَى تَقْدِيمِ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فَهِيَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَامِّ التَّخْصِيصُ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْلَى، وَأَنَّ مَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ يَبْعُدُ تَخْصِيصُهُ مَرَّةً أُخْرَى، بِخِلَافِ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عُمُومَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ غَيْرُ وَارِدٍ فِي مَعْرِضِ مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ وَعُمُومَ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَارِدٌ فِي مَعْرِضِ مَدْحِ الْمُتَّقِينَ، وَالْعَامُّ الْوَارِدُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اعْتِبَارِ عُمُومِهِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ مُعْتَبَرٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [82 \ 13 - 14] فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ بَرٍّ مَعَ أَنَّهُ لِلْمَدْحِ، وَكُلَّ فَاجِرٍ مَعَ أَنَّهُ لِلذَّمِّ قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: وَمَا أَتَى لِلْمَدْحِ أَوْ لِلذَّمِّ ... يَعُمُّ عِنْدَ جُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ: الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَائِلًا: إِنَّ الْعَامَّ الْوَارِدَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، أَوِ الذَّمِّ لَا عُمُومَ لَهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْحَثُّ فِي الْمَدْحِ وَالزَّجْرِ فِي الذَّمِّ، وَلِذَا لَمْ يَأْخُذِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [9 \ 34] فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِلذَّمِّ، فَلَا تَعُمُّ عِنْدَهُ الْحُلِيَّ الْمُبَاحَ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِمَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ عُمُومِهِ أَوْلَى مِنَ الْمُقْتَرِنِ بِمَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ عُمُومِهِ، عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَالْأَصْلُ فِي الْفُرُوجِ التَّحْرِيمُ، حَتَّى يَدُلُّ دَلِيلٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْعُمُومَ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْلَى مِنَ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ تَرْكَ مُبَاحٍ أَهْوَنُ مِنَ ارْتِكَابِ حَرَامٍ. فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الْخَمْسَةُ يُرَدُّ بِهَا اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى إِبَاحَتِهِ جَمْعَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ: أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَلَكِنَّ دَاوُدَ يَحْتَجُّ بِآيَةٍ أُخْرَى يَعْسُرُ التَّخَلُّصُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ أَنَّهُ إِنْ وَرَدَ اسْتِثْنَاءٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ، أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ يَرْجِعُ لِجَمِيعِهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعَطْفُ ... مِنْ قَبْلِ الِاسْتِثْنَا فَكُلًّا يَقْفُو دُونَ دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ ذِي السَّمْعِ ، إِلَخْ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لِكُلِّ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْوَاقِفُ فِي صِيغَةِ وَقْفِهِ: هُوَ وَقْفٌ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ وَالْفُقَرَاءِ إِلَّا الْفَاسِقَ مِنْهُمْ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْوَقْفِ فَاسِقُ الْجَمِيعِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَائِلُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ، وَلَوْ تَابَ وَأَصْلَحَ، وَصَارَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [24 \ 4 - 5] يَرْجِعُ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ وَهِيَ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا أَيْ: فَقَدْ زَالَ عَنْهُمُ اسْمُ الْفِسْقِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا، فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ بَلْ يَقُولُ: لَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا مُطْلَقًا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ ; لِاخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ أَبُو حَنِيفَةَ أُصُولَهُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [25 \ 68 - 70] ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ. وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَصْلَهُ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ جُمِعَتْ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، الَّتِي هِيَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [25 \ 68] ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ وَالزِّنَى فِي الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ فَشَمَلَتِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مَعَانِيَ الْجُمَلِ قَبْلَهَا، فَصَارَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لَهَا وَحْدَهَا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، عَلَى أَصْلِهِ الْمُقَرَّرِ: مُسْتَلْزِمًا لِرُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ. وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ دَاوُدَ يَحْتَجُّ لِجَوَازِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِقَوْلِهِ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَيَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَقَوْلُهُ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [4 \ 24] يَرْجِعُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِثْنَاءٌ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ احْتِجَاجَ دَاوُدَ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ التَّخَلُّصُ مِنَ احْتِجَاجِ دَاوُدَ هَذَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْجَوَابَ عَنِ اسْتِدْلَالِ دَاوُدَ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: بِالسَّبْيِ خَاصَّةً مَعَ الْكُفْرِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُتَزَوِّجَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الْمُتَزَوِّجَةَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مَعَ الْكُفْرِ فَإِنَّ السَّبْيَ يَرْفَعُ حُكْمَ الزَّوْجِيَّةِ عَنِ الْمَسْبِيَّةِ، وَتَحِلُّ لِسَابِيهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنَكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ وَإِذَا كَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فِي السَّبْيِ خَاصَّةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ; لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مُطْلَقًا، وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَوْضَحْنَا الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْضِهَا، يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 رُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ أَوْ لِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَرُبَّمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ رُجُوعِهِ لِلْأَخِيرَةِ الَّتِي تَلِيهِ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُبَّمَا كَانَ رَاجِعًا لِغَيْرِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي تَلِيهِ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجَمِيعِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْوَقْفُ عَنْ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجَمِيعِ أَوْ بَعْضِهَا الْمُعَيَّنِ، دُونَ بَعْضٍ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مَرْوِيٍّ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْآمِدِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [4 \ 59] وَإِذَا رَدَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى اللَّهِ، وَجَدْنَا الْقُرْآنَ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ أَيْضًا اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ. فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [4 \ 92] فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ لِلدِّيَةِ، فَهِيَ تَسْقُطُ بِتَصَدُّقِ مُسْتَحِقِّهَا بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ لِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ; لِأَنَّ تَصَدُّقَ مُسْتَحِقِّ الدِّيَةِ بِهَا لَا يُسْقِطُ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ [24 \ 4 - 5] فَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [24 \ 4] ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ لَا تُسْقِطُ تَوْبَتُهُ حَدَّ الْقَذْفِ. وَمَا يُرْوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ أَنَّهَا تُسْقِطُهُ، خِلَافُ التَّحْقِيقِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [4 \ 89 - 90] . فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ الْآيَةَ لَا يُرْجِعُ قَوْلًا وَاحِدًا، إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، الَّتِي تَلِيهِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [4 \ 89] ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ أَبَدًا، وَلَوْ وَصَلُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ، وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، بَلْ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ لِلْأَخْذِ وَالْقَتْلِ فِي قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [4 \ 89] وَالْمَعْنَى: فَخُذُوهُمْ بِالْأَسْرِ وَاقْتُلُوهُمْ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ، وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَخْذُهُمْ بِأَسْرٍ، وَلَا قَتْلُهُمْ ; لِأَنَّ الْمِيثَاقَ الْكَائِنَ لِمَنْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ يَمْنَعُ مِنْ أَسْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمْ كَمَا اشْتَرَطَهُ هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ فِي صُلْحِهِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيِّ، وَفِي بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرٍ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُبَّمَا لَمْ يَرْجِعْ لِأَقْرَبِ الْجُمَلِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: الَّذِي هُوَ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 مِنَ الْإِعْجَازِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [4 \ 83] عَلَى مَا قَالَهُ: جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ; لِأَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعُوا الشَّيْطَانَ، كُلًّا بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ كَمَا تَرَى. وَاخْتَلَفُوا فِي مَرْجِعِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَقِيلَ: رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: أَذَاعُوا بِهِ [4 \ 83] وَقِيلَ: رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [4 \ 83] وَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ، لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي رُجُوعِهِ لِغَيْرِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِي الِاسْتِمْرَارِ، عَلَى مِلَّةِ آبَائِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَّا قَلِيلًا كَمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَزَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ وَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَمْثَالِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْنَاهُ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ كُلًّا، قَالَ: وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقِلَّةَ، وَتُرِيدُ بِهَا الْعَدَمَ، وَاسْتَدَلَّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمٍ يَمْدَحُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ: أَشَمُّ نَدِيٌّ كَثِيرُ النَّوَادِي ... قَلِيلُ الْمَثَالِبِ وَالْقَادِحَهْ يَعْنِي: لَا مَثْلَبَةَ فِيهِ، وَلَا قَادِحَةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ كُلَّ الظُّهُورِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقِلَّةَ فِي لُغَتِهَا، وَتُرِيدُ بِهَا الْعَدَمَ كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِأَرْضٍ قَلِيلٍ بِهَا الْكُرَّاثُ وَالْبَصَلُ، يَعْنُونَ لَا كُرَّاثَ فِيهَا وَلَا بَصَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا يُرِيدُ: أَنَّ تِلْكَ الْفَلَاةَ لَا صَوْتَ فِيهَا غَيْرُ بُغَامِ نَاقَتِهِ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَمَا بَأْسٌ لَوْ رَدَّتْ عَلَيْنَا تَحِيَّةً ... قَلِيلًا لَدَى مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ عَابَهَا يَعْنِي لَا عَابَ فِيهَا أَيْ: لَا عَيْبَ فِيهَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَبِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ: أَنَّ الْوَقْفَ عَنِ الْقَطْعِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ، هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَبِدَلَالَتِهَا يَرُدُّ اسْتِدْلَالَ دَاوُدَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي التَّمَتُّعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [23 \ 5 - 6] خَاصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَسَرَّى عَبْدَهَا، وَتَتَمَتَّعَ بِهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي الْجُمُوعِ الْمُذَكَّرَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ; كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ مَمْلُوكَهَا، وَقَالَتْ: تَأَوَّلْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأُتِيَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَأَوَّلَتْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، قَالَ: فَضَرَبَ الْعَبْدَ، وَجَزَّ رَأَسَهُ وَقَالَ: أَنْتِ بَعْدَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ مُنْقَطِعٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهُوَ هَهُنَا أَلْيَقُ وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا عَلَى الرِّجَالِ، مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: تَسَرَّرَتِ امْرَأَةٌ غُلَامَهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَسَأَلَهَا مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: كُنْتُ أَرَاهُ يَحِلُّ لِي بِمِلْكِ يَمِينِي، كَمَا تَحِلُّ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ فِي رَجْمِهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: تَأَوَّلَتْ كِتَابَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَا جَرَمَ، وَاللَّهِ لَا أُحِلُّكِ لِحُرٍّ بَعْدَهُ. عَاقَبَهَا بِذَلِكَ، وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا، وَأَمَرَ الْعَبْدَ أَلَّا يَقْرَبَهَا. وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: أَنَا حَضَرْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ بِغُلَامٍ لَهَا وَضِئٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي اسْتَسْرَرْتُهُ، فَمَنَعَنِي بَنُو عَمِّي عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَنَا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْوَلِيدَةُ فَيَطَؤُهَا، فَإِنَّهُ عَنَى بَنِي عَمِّي فَقَالَ عُمَرُ: أَتَزَوَّجْتِ قَبْلَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا مَنْزِلَتُكِ مِنَ الْجَهَالَةِ لَرَجَمْتُكِ بِالْحِجَارَةِ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِهِ فَبِيعُوهُ إِلَى مَنْ يَخْرُجُ بِهِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهَا اهـ، مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ آيَةَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ الَّتِي هِيَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [23 \ 7] تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ الْمَعْرُوفِ، بِجَلْدِ عَمِيرَةَ، وَيُقَالُ لَهُ الْخَضْخَضَةُ ; لِأَنَّ مَنْ تَلَذَّذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْزَلَ مَنِيَّهُ بِذَلِكَ، قَدِ ابْتَغَى وَرَاءَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ مِنَ الْعَادِينَ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَفِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ [70 \ 1] وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 الْآيَةِ، عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عَمِيرَةَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَى قَوْلِهِ الْعَادُونَ [23 \ 5 - 7] . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ اسْتِدْلَالَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَلَى مَنْعِ جَلْدِ عَمِيرَةَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يُعَارِضُهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَعَ عِلْمِهِ، وَجَلَالَتِهِ وَوَرَعِهِ مِنْ إِبَاحَةِ جَلْدِ عَمِيرَةَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ قَائِلًا: هُوَ إِخْرَاجُ فَضْلَةٍ مِنَ الْبَدَنِ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى إِخْرَاجِهَا فَجَازَ، قِيَاسًا عَلَى الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ، كَمَا قَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لَا أَنِيسَ بِهِ ... فَاجْلِدْ عَمِيرَةَ لَا عَارٌ وَلَا حَرَجُ فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ فِي الْمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا ; لِأَنَّهُ قِيَاسٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَ عُمُومِ الْقُرْآنِ، وَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ رُدَّ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى فَسَادَ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا وَذَكَرْنَا فِيهِ قَوْلَ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ: وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٌ دَعَا ... فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى فَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - قَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ إِلَّا النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَصَرَّحَ بِرَفْعِ الْمَلَامَةِ فِي عَدَمِ حِفْظِ الْفَرْجِ، عَنِ الزَّوْجَةِ، وَالْمَمْلُوكَةِ فَقَطْ ثُمَّ جَاءَ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ شَامِلَةٍ لِغَيْرِ النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، دَالَّةٍ عَلَى الْمَنْعِ هِيَ قَوْلُهُ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [23 \ 7] وَهَذَا الْعُمُومُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ، نَاكِحَ يَدِهِ، وَظَاهِرُ عُمُومِ الْقُرْآنِ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، أَمَّا الْقِيَاسُ الْمُخَالِفُ لَهُ فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ حَرَّمَ جَلْدَ عَمِيرَةَ، وَاسْتِدْلَالَهُمْ بِالْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اسْتَأْنَسُوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ فِي جُزْئِهِ الْمَشْهُورِ، حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سَبْعَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَجْمَعُهُمْ مَعَ الْعَامِلِينَ وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ أَوَّلَ الدَّاخِلِينَ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا وَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 عَلَيْهِ: النَّاكِحُ يَدَهُ، وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالضَّارِبُ وَالِدَيْهِ، حَتَّى يَسْتَغِيثَا، وَالْمُؤْذِي جِيرَانَهُ حَتَّى يَلْعَنُوهُ، وَالنَّاكِحُ حَلِيلَةَ جَارِهِ» اهـ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ لِجَهَالَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ. وَلَكِنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ يَشْهَدُ لَهُ فِي نِكَاحِ الْيَدِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ: جَلَدَ عَمِيرَةَ ; لِأَنَّهُمْ يُكَنُّونَ بِعَمِيرَةَ عَنِ الذَّكَرِ. لَطِيفَةٌ: قَدْ ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الْمُغَفَّلِينَ، أَنَّ مُغَفَّلًا كَانَتْ أُمُّهُ تَمْلِكُ جَارِيَةً تُسَمَّى عَمِيرَةَ فَضَرَبَتْهَا مَرَّةً، فَصَاحَتِ الْجَارِيَةُ، فَسَمِعَ قَوْمٌ صِيَاحَهَا، فَجَاءُوا وَقَالُوا: مَا هَذَا الصِّيَاحُ؟ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُغَفَّلُ: لَا بَأْسَ تِلْكَ أُمِّي كَانَتْ تَجْلِدُ عَمِيرَةَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - صَرَّحَ فِيهَا بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ، وُجُوبُ حِفْظِ الْفَرْجِ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُبْتَغِيَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْعَادِينَ بِقَوْلِهِ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْتَمْتَعَ بِهَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَلَا مَمْلُوكَةً. أَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَهُوَ انْتِفَاءُ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهَا كَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّفَقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَوَرِثَتْ وَاعْتَدَّتْ وَوَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنْهَا لَوَازِمُ الزَّوْجِيَّةِ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ; لِأَنَّ نَفْيَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَلْزُومِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مُبْتَغِيَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنَ الْعَادِينَ الْمُجَاوِزِينَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ مَمْنُوعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ مَعْنَى لَفْظَةِ عَلَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ الْآيَةَ ; لِأَنَّ مَادَّةَ الْحِفْظِ، لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ الثَّانِي فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ بِعَلَى فَقِيلَ: إِنَّ عَلَى بِمَعْنَى: عَنْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ حَافِظُونَ فُرُوجَهُمْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا عَنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَفِظَ قَدْ تَتَعَدَّى بِعْنَ. وَحَاوَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْجَوَابَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَلَى هُنَا فَقَالَ مَا نَصُّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 «عَلَى أَزْوَاجِهِمْ» فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: إِلَّا وَالِينَ، عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَوْ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ قَوْلِكَ: كَانَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةَ، فَمَاتَ عَنْهَا، فَخَلَفَ عَلَيْهَا فُلَانٌ، وَنَظِيرُهُ: كَانَ زِيَادٌ عَلَى الْبَصْرَةِ أَيْ: وَالِيًا عَلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانَةٌ تَحْتَ فُلَانٍ، وَمِنْ ثَمَّةَ سُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ فِي كَافَّةِ الْأَحْوَالِ، إِلَّا فِي تَزَوُّجِهِمْ أَوْ تَسَرِّيهِمْ، أَوْ تَعَلُّقِ عَلَى بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ مَلُومِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُلَامُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَيْ: يُلَامُونَ عَلَى كُلِّ مُبَاشَرَةٍ إِلَّا عَلَى مَا أُطْلِقَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ عَلَيْهِ، أَوْ تَجْعَلُهُ صِلَةً لِحَافِظِينَ مِنْ قَوْلِكَ: احْفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فَرَسِي عَلَى تَضْمِينِهِ، مَعْنَى النَّفْيِ كَمَا ضُمِّنَ قَوْلُهُمْ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ إِلَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى: مَا طَلَبْتُ مِنْكَ إِلَّا فِعْلَكَ. اهـ مِنْهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الظُّهُورِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي تَكَلَّفَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ ظَاهِرٌ فِيهَا الْعُجْمَةُ، وَهِيَ مُتَكَلَّفَةٌ، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ، ضَمَّنَ حَافِظُونَ مَعْنَى: مُمْسِكُونَ أَوْ قَاصِرُونَ، وَكِلَاهُمَا يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [33 \ 37] وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ، وَالْعُقَلَاءُ يُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِمَنْ لَا بِمَا هُوَ أَنَّ الْإِمَاءَ لَمَّا كُنَّ يَتَّصِفْنَ بِبَعْضِ صِفَاتِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ كَبَيْعِهِنَّ وَشِرَائِهِنَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِإِطْلَاقِ لَفْظَةِ مَا عَلَيْهِنَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ، هُوَ مَفْعُولُ ابْتَغَى أَيْ: ابْتَغَى سِوَى ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ مَحْذُوفٌ، وَوَرَاءَ ظَرْفٌ، أَيْ: فَمَنِ ابْتَغَى مُسْتَمْتِعًا لِفَرْجِهِ، وَرَاءَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْفِرْدَوْسَ: أَنَّهُمْ رَاعُونَ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ، أَيْ: مُحَافِظُونَ عَلَى الْأَمَانَاتِ، وَالْعُهُودِ، وَالْأَمَانَةُ تَشْمَلُ: كُلَّ مَا اسْتَوْدَعَكَ اللَّهُ، وَأَمَرَكَ بِحِفْظِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا حِفْظُ جَوَارِحِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَحِفْظُ مَا ائْتُمِنْتَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَالْعُهُودُ أَيْضًا تَشْمَلُ: كُلَّ مَا أُخِذَ عَلَيْكَ الْعَهْدُ بِحِفْظِهِ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ حِفْظِ الْأَمَانَاتِ وَالْعُهُودِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [4 \ 58] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [8 \ 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَأَلَ سَائِلٌ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [70 \ 32] وَقَوْلِهِ فِي الْعَهْدِ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [17 \ 34] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الْآيَةَ [5 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [48 \ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [16 \ 91] وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [21 \ 78] ، وَقَوْلِهِ: رَاعُونَ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِلرَّاعِي، وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى الشَّيْءِ، بِحِفْظٍ أَوْ إِصْلَاحٍ كَرَاعِي الْغَنَمِ وَرَاعِي الرَّعِيَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ: لِأَمَانَتِهِمْ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَالْبَاقُونَ بِأَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْفِرْدَوْسَ: أَنَّهُمْ يُحَافِظُونَ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا تَشْمَلُ إِتْمَامَ أَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَسُنَنِهَا، وَفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ نَيْلِ الْفِرْدَوْسِ أَمَرَ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى الْآيَةَ [2 \ 238] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [70 \ 34] وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [70 \ 22 - 23] وَذَمَّ وَتَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [19 \ 59] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الْآيَةَ [107 \ 54] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ الْآيَةَ [4 \ 142] ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ مَوْضُوعَ كِتَابِنَا بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَلَا نَذْكُرُ غَالِبًا الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، فَنُتَمِّمُ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَاهُ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ، الَّتِي قَدَّمْنَا هُمُ الْوَارِثُونَ، وَحَذَفَ مَفْعُولَ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْوَارِثُونَ ; لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ [23 \ 11] عَلَيْهِ. وَالْفِرْدَوْسُ: أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُهَا، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ نَيْلِ الْفِرْدَوْسِ هُنَا بَاسِمِ الْوِرَاثَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْوِرَاثَةِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [19 \ 63] وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ الْآيَةَ [39 \ 74] فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [19 \ 63] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: عَلَى صَلَاتِهِمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عَلَى صَلَوَاتِهِمْ [23 \ 9] بِالْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، كَانَ صِيغَةَ عُمُومٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أَيْ: بِلَا انْقِطَاعٍ أَبَدًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] وَقَالَ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَطْوَارَ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ وَنَقْلِهِ لَهُ، مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِيَدُلَّ خَلْقُهُ بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ مَعْنَى النذُّطْفَةِ، وَالْعَلَقَةِ، وَالْمُضْغَةِ، وَبَيَّنَّا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمُخَلَّقَةِ، وَغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ، وَالصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحْنَا أَحْكَامَ الْحَمْلِ إِذَا سَقَطَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً هَلْ تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الْحَامِلِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ تَكُونُ الْأَمَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا أَوْ لَا؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَمْلِ السَّاقِطِ، وَمَتَى يَرِثُ، وَيُوَرَّثُ، وَمَتَى يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَاتِ [22 \ 5] ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا مَا لَمْ نُبَيِّنْهُ هُنَالِكَ مَعَ ذِكْرِ الْآيَاتِ الَّتِي لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَمَّا مَعْنَى السُّلَالَةِ: فَهِيَ فُعَالَةٌ مِنْ سَلَلْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: خَلَقَ الْبَرِيَّةَ مِنْ سُلَالَةِ مُنْتِنٍ ... وَإِلَى السُّلَالَةِ كُلِّهَا سَتَعُودُ وَالْوَلَدُ سُلَالَةُ أَبِيهِ كَأَنَّهُ انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيمِ غَضَنْفَرًا ... سُلَالَةُ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ وَبِنَاءُ الِاسْمِ عَلَى الْفُعَالَةِ، يَدُلُّ عَلَى الْقِلَّةِ كَقُلَامَةِ الظُّفْرِ، وَنُحَاتَةِ الشَّيْءِ الْمَنْحُوتِ، وَهِيَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْهُ عِنْدَ النَّحْتِ، وَالْمُرَادُ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُلَالَةِ الطِّينِ: خَلْقُ أَبِيهِمْ آدَمَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى أَطْوَارَ ذَلِكَ التُّرَابِ، وَأَنَّهُ لَمَّا بُلَّ بِالْمَاءِ صَارَ طِيبًا وَلَمَّا خُمِّرَ صَارَ طِينًا لَازِبًا يُلْصَقُ بِالْيَدِ، وَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: طِينًا أَسْوَدَ مُنْتِنًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَسْنُونُ: الْمُصَوَّرُ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ خَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ حَوَّاءَ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [4 \ 1] وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [7 \ 189] وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [39 \ 6] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، كَانَ وُجُودُ جِنْسِ الْإِنْسَانِ مِنْهُمَا عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، فَأَوَّلُ أَطْوَارِهِ: النُّطْفَةُ، ثُمَّ الْعَلَقَةُ، إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَغْلَبَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [23 \ 12] يَعْنِي: بَدْأَهُ خَلْقَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِخَلْقِ آدَمَ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً [23 \ 13] ، أَيْ: بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، الَّذِي هُوَ النَّسْلُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ أَيْ: وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرُ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [32 \ 6 - 9] وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [30 \ 20] وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَطْوَارِ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ، أَمَرَ كُلَّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ الْآيَةَ [86 \ 5 - 6] ، وَقَدْ أَشَارَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِنَقْلِهِ الْإِنْسَانَ فِي خَلْقِهِ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، كَمَا أَوْضَحَهُ هُنَا ; وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [71 \ 13 - 14] وَبَيَّنَ أَنَّ انْصِرَافَ خَلْقِهِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا وَالِاعْتِبَارِ بِهِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّسَاؤُلَ وَالْعَجَبَ، وَأَنَّ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِ قُدْرَتِهِ نَقْلَهُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ، إِلَى الْعَلَقَةِ، وَمِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ إِلَخْ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشُقَّ بَطْنَ أُمِّهِ بَلْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَلَاثِ ظُلُمَاتٍ: وَهِيَ ظُلْمَةُ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ الْمُنْطَوِيَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [39 \ 6] فَتَأَمَّلْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، الَّتِي فَعَلَهَا فِيكُمْ رَبُّكُمْ وَمَعْبُودُكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [3 \ 6] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [22 \ 5] ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكْمَةَ فَقَالَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [22 \ 5] أَيْ: لِنُظْهِرَ لَكُمْ بِذَلِكَ عَظَمَتَنَا، وَكَمَالَ قُدْرَتِنَا، وَانْفِرَادَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [40 \ 67] وَقَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 36 - 40] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَبْهَمَ هَذِهِ الْأَطْوَارَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [70 \ 39] وَذَلِكَ الْإِبْهَامُ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَعَظَمَةِ خَالِقِهِمْ - جَلَّ وَعَلَا -، فَسُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتَهُ، وَمَا أَظْهَرَ بَرَاهِينَ تَوْحِيدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَةِ الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ: أَنَّهُ يَخْلُقُ الْمُضْغَةَ عِظَامًا، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ يُرَكِّبُ بَعْضَ تِلْكَ الْعِظَامِ مَعَ بَعْضٍ، تَرْكِيبًا قَوِيًّا، وَيَشُدُّ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَبْدَعِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ الْآيَةَ [76 \ 28] ، وَالْأَسْرُ: شَدُّ الْعِظَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَتَآسِيرُ السَّرْجِ وَمَرْكَبُ الْمَرْأَةِ السُّيُورُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: وَمَا دَخَلَتْ فِي الْخَدْبِ حَتَّى تَنَقَّضَتْ ... تَآسِيرُ أَعْلَى قَدِّهِ وَتَحَطَّمَا وَفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ: أَسَرَ قَتَبَهُ يَأْسِرُهُ أَسْرًا شَدَّهُ بِالْأَسَارِ وَهُوَ الْقَدُّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسِيرُ، وَكَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَدِّ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَاللُّغَوِيِّينَ: أَسْرَهُمْ أَيْ: خَلْقَهُمْ فِيهِ قُصُورٌ فِي التَّفْسِيرِ ; لِأَنَّ الْأَسْرَ هُوَ الشَّدُّ الْقَوِيُّ بِالْأَسَارِ الَّذِي هُوَ الْقَدُّ، وَهُوَ السَّيْرُ الْمَقْطُوعُ مِنْ جِلْدِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ، الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَشُدُّ بَعْضَ الْعِظَامِ بِبَعْضٍ، شَدًّا مُحْكَمًا مُتَمَاسِكًا كَمَا يَشُدُّ الشَّيْءَ بِالْقَدِّ، وَالشَّدُّ بِهِ قَوِيٌّ جِدًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [23 \ 13] الْقَرَارُ هُنَا: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالْمَكِينُ: الْمُتَمَكِّنُ، وَصَفَ الْقَرَارَ بِهِ لِتَمَكُّنِهِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَضُ لَهُ اخْتِلَالٌ، أَوْ لِتَمَكُّنِ مَنْ يَحِلُّ فِيهِ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْقَرَارُ: الْمُسْتَقِرُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الرَّحِمُ وُصِفَتْ بِالْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا، أَوْ بِمَكَانَتِهَا فِي نَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا مُكِّنَتْ بِحَيْثُ هِيَ وَأُحْرِزَتْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [23 \ 14] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ: خَلْقًا مُبَايِنًا لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مُبَايَنَةً مَا أَبْعَدَهَا حَيْثُ جَعَلَهُ حَيَوَانًا وَكَانَ جَمَادًا، وَنَاطِقًا وَكَانَ أَبْكَمَ، وَسَمِيعًا وَكَانَ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا وَكَانَ أَكْمَهَ وَأَوْدَعَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ، بَلْ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ عَجَائِبُ فِطْرَةٍ، وَغَرَائِبُ حِكْمَةٍ، لَا تُدْرَكُ بِوَصْفِ الْوَاصِفِ، وَلَا بِشَرْحِ الشَّارِحِ، انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي الْخَلْقِ الْآخَرِ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: «هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «خُرُوجُهُ إِلَى الدُّنْيَا» ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ فُرْقَةِ نَبَاتِ شَعْرِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خُرُوجُ الْأَسْنَانِ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَالُ شَبَابِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالصَّحِيحُ، أَنَّهُ عَامٌّ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ مِنَ النُّطْقِ وَالْإِدْرَاكِ، وَتَحْصِيلِ الْمَعْقُولَاتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، اهـ مِنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَمِيعَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ خَلْقًا آخَرَ أَنَّهُ صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً، وَمُضْغَةً، وَعَلَقَةً، وَعِظَامًا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. مَسْأَلَةٌ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ بَيْضَةً، فَأَفْرَخَتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْبَيْضَةَ، وَلَا يَرُدُّ الْفَرْخَ ; لِأَنَّ الْفَرْخَ خَلْقٌ آخَرُ سِوَى الْبَيْضَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مَا غَصَبَ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْغَاصِبُ مَا غَصَبَ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [23 \ 14] وَقَوْلُهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: تَبَارَكَ: فِعْلٌ مَاضٍ لَا يَنْصَرِفُ، وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. اهـ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أَيِ: الْمُقَدِّرِينَ وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْخَلْقَ وَتُرِيدُ التَّقْدِيرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي فَقَوْلُهُ: يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي، أَيْ: يُقَدِّرُ الْأَمْرَ، ثُمَّ لَا يُنَفِّذُهُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ مُخْتَلِفُونَ فِي صِيغَةِ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، هَلْ إِضَافَتُهَا إِضَافَةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ لَفْظِيَّةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ؟ فَمَنْ قَالَ: هِيَ مَحْضَةٌ أَعْرَبَ قَوْلَهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ نَعْتًا لِلَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ غَيْرُ مَحْضَةٍ أَعْرَبَهُ بَدَلًا، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وَقَرَأَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [23 \ 13] وَقَوْلُهُ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَظْمًا: بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَإِسْكَانِ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ فِيهِمَا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: عِظَامًا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الظَّاءِ، وَأَلِفٍ بَعْدَهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ، فَالْمُرَادُ بِالْعَظْمِ: الْعِظَامُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بِإِيضَاحٍ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْمُفْرَدَ إِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ، قَدْ تُطْلِقُهُ الْعَرَبُ، وَتُرِيدُ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَعْرِيفِهِ وَتَنْكِيرِهِ وَإِضَافَتِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَنْشَأَهُمْ خَلْقًا آخَرَ، فَأَخْرَجَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا، ثُمَّ يَكُونُ مُحْتَلِمًا، ثُمَّ يَكُونُ شَابًّا، ثُمَّ يَكُونُ كَهْلًا، ثُمَّ يَكُونُ شَيْخًا، ثُمَّ هَرَمًا أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ مَنْ عُمِّرَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُعَمَّرْ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ يُبْعَثُونَ أَحْيَاءً، يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ الْمَذْكُورَانِ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ نَظِيرٌ آخَرُ ; لِأَنَّهُمَا إِمَاتَتَانِ وَإِحْيَاءَتَانِ ذُكِرَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ هُنَا، وَذُكِرَ الْجَمِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [2 \ 28] وَقَوْلِهِ: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [40 \ 11] كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَالْبَقَرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَلُزُومِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «طَرَائِقَ» وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَقَ النَّعْلَ إِذَا صَيَّرَهَا طَاقًا فَوْقَ طَاقٍ، وَرَكَّبَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» أَيِ: التِّرَاسُ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا طَبَقَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ نَعْلًا لَهُ مُطَارَقَةٌ: وَطِرَاقٌ مِنْ خَلْفِهِنَّ طِرَاقٌ ... سَاقِطَاتٌ تَلْوِي بِهَا الصَّحْرَاءُ يَعْنِي: نِعَالَ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: طَائِرٌ طَرَّاقُ الرِّيشِ، وَمَطْرَقَةٌ إِذَا رَكِبَ بَعْضُ رِيشِهِ بَعْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ يَصِفُ بَازِيًا: أَهْوَى لَهَا أَسْفَعُ الْخَدَّيْنِ مُطْرِقٌ ... رِيشَ الْقَوَادِمِ لَمْ تُنْصَبْ لَهُ الشَّبَكُ وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ بَازِيًا أَيْضًا: طِرَاقُ الْخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ رِيعِهِ ... نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ وَقَوْلُ الْآخَرِ يَصِفُ قَطَاةً: سَكَّاءُ مَخْطُومَةٌ فِي رِيشِهَا طَرْقٌ ... سُودٌ قَوَادِمُهَا كَدَّرَ خَوَافِيَهَا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ سَبْعَ طَرَائِقَ يُوَضِّحُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا الْآيَةَ [71 \ 15] وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ ; لِأَنَّهَا طُرُقُ الْمَلَائِكَةِ فِي النُّزُولِ وَالْعُرُوجِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْكَوَاكِبِ فِي مَسِيرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ ; لِأَنَّ لِكُلِّ سَمَاءٍ طَرِيقَةٌ وَهَيْئَةٌ غَيْرُ هَيْئَةِ الْأُخْرَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: طَرَائِقُ؟ أَيْ مَبْسُوطَاتٌ فَكِلَاهُمَا ظَاهِرُ الْبُعْدِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [23 \ 17] قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ [22 \ 65] ; لِأَنَّ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ لَوْ كَانَ يَغْفُلُ لَسَقَطَتْ فَأَهْلَكَتِ الْخَلْقَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [23 \ 17] بَلْ نَحْنُ الْقَائِمُونَ بِإِصْلَاحِ جَمِيعِ شُئُونِهِمْ، وَتَيْسِيرِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ يَعْنِي: السَّمَاوَاتُ بُرْهَانٌ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [23 \ 16] ; لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، مَعَ عِظَمِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا الْآيَةَ [79 \ 27] . وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [36 \ 81] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَرَاهِينَ الْبَعْثِ الَّتِي هَذَا الْبُرْهَانُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهَا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ هُنَا، وَلَمْ نُوَضِّحْهَا هُنَا لِأَنَّا أَوْضَحْنَاهَا فِيمَا سَبَقَ فِي النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُعَظِّمًا نَفْسَهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُرَادِ بِهَا التَّعْظِيمُ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ فِي الْآبَارِ، وَالْعُيُونِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِهِ لَوْ شَاءَ أَنْ يُذْهِبَهُ فَيَهْلِكُ جَمِيعُ الْخَلْقِ بِسَبَبِ ذَهَابِ الْمَاءِ مِنْ أَصْلِهِ جُوعًا وَعَطَشًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ " بِقَدَرٍ " أَيْ: بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَهُ يَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَلَا يُكَثِّرُهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونَ كَطُوفَانِ نُوحٍ لِئَلَّا يُهْلِكَهُمْ، فَهُوَ يُنْزِلُهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، دُونَ الْمَفْسَدَةِ سُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَعْظَمَهُ وَمَا أَعْظَمَ لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 الْأُولَى: الَّتِي هِيَ كَوْنُهُ: أَنْزَلَهُ بِقَدَرٍ أَشَارَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [15 \ 21] . وَالثَّانِيَةُ: الَّتِي هِيَ إِسْكَانُهُ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي الْأَرْضِ بَيَّنَهَا فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [39 \ 21] وَالْيَنْبُوعُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ وَقَوْلُهُ: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [15 \ 22] عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْحِجْرِ. وَالثَّالِثَةُ: الَّتِي هِيَ قُدْرَتُهُ عَلَى إِذْهَابِهِ أَشَارَ لَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [67] وَيُشْبِهُ مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 70] ; لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ مِلْحًا أُجَاجًا لَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ مِنْهُ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَقَدْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [24 \ 43] فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْوَدْقَ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ الَّذِي هُوَ الْمُزْنُ، وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ وَبَيَّنَ أَنَّ السَّحَابَةَ تَمْتَلِئُ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى تَكُونَ ثَقِيلَةً لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [7 \ 57] فَقَوْلُهُ: ثِقَالًا جَمْعُ ثَقِيلَةٍ، وَثِقَلُهَا إِنَّمَا هُوَ بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [13 \ 12] جَمْعُ سَحَابَةٍ ثَقِيلَةٍ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْمَاءَ فِي الْمُزْنِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ، وَخِلَالُ الشَّيْءِ ثُقُوبُهُ وَفُرُوجُهُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَسْدُودَةٍ، وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُهُ وَيُصَرِّفُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُكْثِرُ الْمَطَرَ فِي بِلَادِ قَوْمٍ سَنَةً، حَتَّى يَكْثُرَ فِيهَا الْخِصْبُ وَتَتَزَايَدَ فِيهَا النِّعَمُ، لِيَبْتَلِيَ أَهْلَهَا فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَهَلْ يَعْتَبِرُونَ بِعِظَمِ الْآيَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَيُقِلُّ الْمَطَرَ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَتَهْلِكُ مَوَاشِيهِمْ مِنَ الْجَدْبِ وَلَا تَنْبُتُ زُرُوعُهُمْ، وَلَا تُثْمِرُ أَشْجَارُهُمْ، لِيَبْتَلِيَهُمْ بِذَلِكَ، هَلْ يَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ. وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ الْإِنْعَامِ الْعَامِّ عَلَى الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ بِالْقَدْرِ الْمُصْلِحِ وَإِسْكَانِ مَائِهِ فِي الْأَرْضِ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ هُمْ، وَأَنْعَامُهُمْ، وَيَنْتَفِعُوا بِهِ أَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [25 \ 48 - 50] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ إِلَّا كُفُورًا الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطَرَ لَمْ يُنَزِّلْهُ مُنَزِّلٌ هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَ بِطَبِيعَتِهِ، فَالْمُنَزِّلُ لَهُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الطَّبِيعَةُ، وَأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ التَّبَخُّرُ، إِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ دَرَجَاتُ الْحَرَارَةِ مِنَ الشَّمْسِ أَوْ الِاحْتِكَاكِ بِالرِّيحِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْبُخَارَ يَرْتَفِعُ بِطَبِيعَتِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ، ثُمَّ يَتَقَاطَرُ، وَأَنَّ تَقَاطُرَهُ ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا فَاعِلَ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَطَرُ. فَيُنْكِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ وَيُنْكِرُونَ دَلَالَةَ إِنْزَالِهِ عَلَى قُدْرَةِ مُنَزِّلِهِ، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا. وَقَدْ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى، هُوَ مُصَرِّفُ الْمَاءِ، وَمُنَزِّلُهُ حَيْثُ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمَعْنَى: مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي: فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ". هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِبُخَارِ كَذَا مُسْنِدًا ذَلِكَ لِلطَّبِيعَةِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالطَّبِيعَةِ وَالْبُخَارِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَطَرِ أَصْلُهُ مِنَ الْبَحْرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ فِعْلَ ذَلِكَ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَمِنْ أَشْعَارِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ ... رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزُرْ كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدْنَ إِذَا ... أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ فَقَوْلُهُ: بَنَاتُ الْبَحْرِ يَعْنِي: الْمُزْنَ الَّتِي أَصْلُ مَائِهَا مِنَ الْبَحْرِ. وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَنَاتِمُ غُرٌّ مَاؤُهُنَّ ثَجِيجُ شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٌ خُضْرٌ لَهُنَّ نَئِيجُ وَلَا شَكَّ أَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا -، هُوَ مُنَزِّلُ الْمَطَرِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ الْآيَةَ [16 \ 11] وَغَيْرَهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ، قَوْلُهُ: شَجَرَةً: مَعْطُوفٌ عَلَى: جَنَّاتٍ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مُسَوِّغَهُ مِرَارًا أَيْ: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ، وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ الْآيَةَ [24 \ 35] ، وَالدُّهْنُ الَّذِي تَنْبُتُ بِهِ: هُوَ زَيْتُهَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [24 \ 35] وَمَعَ الِاسْتِضَاءَةِ مِنْهَا، فَهِيَ صِبْغٌ لِلْآكِلِينَ أَيْ: إِدَامٌ يَأْتَدِمُونَ بِهِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: سِينَاءُ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: تُنْبِتُ بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مُضَارِعُ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: تَنْبُتُ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَضَمِّ الْبَاءِ مُضَارِعُ: نَبَتَ الثُّلَاثِيِّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي حَرْفِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالدُّهْنِ أَيْ: تَنْبُتُ مَصْحُوبَةً بِالدُّهْنِ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنْ زَيْتُونِهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، فَفِي الْبَاءِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ: أَنَّ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيَّ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَاءِ وَقَدْ قَدَّمْنَا النُّكْتَةَ فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ الْآيَةَ [19 \ 25] ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيَّ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو هُنَا: لَازِمَةٌ لَا مُتَعَدِّيَةُ الْمَفْعُولِ، وَأَنْبَتَ تَتَعَدَّى، وَتَلْزَمُ فَمِنْ تَعَدِّيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ الْآيَةَ [16 \ 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [50 \ 9] وَمِنْ لُزُومِهَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَةُ، وَنَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ فَقَوْلُهُ: أَنْبَتَ الْبَقْلُ لَازِمٌ بِمَعْنَى: نَبَتَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي قِرَاءَةِ: (تُنْبِتُ) بِضَمِّ التَّاءِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُضَارِعُ أَنْبَتَ الْمُتَعَدِّي: وَأَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ أَيْ: تُنْبِتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 زَيْتُونَهَا، وَفِيهِ الزَّيْتُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الطُّورُ: هُوَ الْجَبَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَمَّى طُورًا إِذَا كَانَ فِيهِ شَجَرٌ، فَإِنْ عُرِّيَ عَنِ الشَّجَرِ، سُمِّيَ جَبَلًا لَا طُورًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَطُورُ سَيْنَاءَ: هُوَ طُورُ سِنِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ، الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مَقَالٍ، وَقَالَ فِيهِ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ وَابْنُ مَاجَهْ فَقَطْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِهِمَا ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. اهـ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ الْآيَةَ [16 \ 66] مَعَ بَيَانِ أَوْجُهِ الْقِرَاءَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «عَلَيْهَا» رَاجِعٌ إِلَى الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ [23 \ 21] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ خَلْقَهُ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْإِبِلُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهَا هُوَ الْأَغْلَبُ، وَعَلَى الْفُلْكِ: وَهِيَ السُّفُنُ وَلَفْظُ الْفُلْكِ، يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ مِنَ السُّفُنِ، وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ، عَلَى الْأَنْعَامِ وَالسُّفُنِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [40 \ 79 - 80] وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [36 \ 71 - 72] وَقَوْلِهِ فِيهَا وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [16 \ 7] وَقَوْلِهِ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَعًا: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [43 \ 12 - 14] وَقَوْلِهِ فِي السُّفُنِ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [36 \ 41 - 42] وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [22 \ 65] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [16 \ 14] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَهَذَا مِنْ نِعَمِهِ وَآيَاتِهِ، وَقَرَنَ الْأَنْعَامَ بِالْفُلْكِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ الْإِبِلَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: أَلَا خُيِّلَتْ مِنِّي وَقَدْ نَامَ صُحْبَتِي ... فَمَا نَفَرَ التَّهْوِيمَ إِلَّا سَلَامُهَا طَرُوقًا وَجُلَبُ الرَّحْلِ مَشْدُودَةٌ بِهَا ... سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا فَتَرَاهُ سَمَّى نَاقَتَهُ سَفِينَةَ بَرٍّ وَجُلَبُ الرَّحْلِ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ عِيدَانُهُ أَوِ الرَّحْلُ بِمَا فِيهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْلِهِ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي لَهَا بَيَانٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ بَعْدَ إِرْسَالِ نُوحٍ وَالرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ تَتْرَى أَيْ: مُتَوَاتِرِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَكُلُّ مُتَتَابِعٍ مُتَتَالٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ مُتَوَاتِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرٌ ... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا يَعْنِي: مَطَرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ غُبَارَ رِيحٍ مُتَتَابِعًا، وَتَاءُ تَتْرَى مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ، وَأَنَّهُ كُلَّ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى أُمَّةٍ كَذَّبُوهُ فَأَهْلَكَهُمْ، وَأَتْبَعَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي الْإِهْلَاكِ الْمُتْسَأْصِلِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ بُيِّنَتْ آيَةُ اسْتِثْنَاءِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الْإِهْلَاكِ الْمَذْكُورِ. أَمَّا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [34 \ 34] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [43 \ 23] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً الْآيَةَ [7 \ 94 - 95] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. أَمَّا الْآيَةُ الَّتِي بَيَّنَتِ اسْتِثْنَاءَ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [10 \ 98] ، وَظَاهِرُ آيَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّهُمْ آمَنُوا إِيمَانًا حَقًّا، وَأَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِهِ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي الصِّفَاتِ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [37 \ 147 - 148] لِأَنَّ ظَاهِرَ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: فَآمَنُوا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْأُمَمِ الَّتِي نَصَّ عَلَى أَنَّهُ أَهْلَكَهَا وَجَعَلَهَا أَحَادِيثَ سَبَأٌ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ الْآيَةَ [34 \ 19] ، وَقَوْلُهُ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ أَيْ: أَخْبَارًا وَقِصَصًا يُسْمَرُ بِهَا، وَيُتَعَجَّبُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ: وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثُ بَعْدِهِ ... فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: تَتْرًا بِالتَّنْوِينِ: وَهِيَ لُغَةُ كِنَانَةَ، وَالْبَاقُونَ بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ: وَهِيَ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَسَهَّلَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ قَوْلِهِ: جَآءَ أُمَّةٍ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّحْقِيقِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَوْلُهُ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [23 \ 44] مَصْدَرٌ لَا يَظْهَرُ عَامِلُهُ، وَقَدْ بَعُدَ بَعَدًا بِفَتْحَتَيْنِ، وَبُعْدًا بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: هَلَكَ فَقَوْلُهُ: بُعْدًا أَيْ: هَلَاكًا مُسْتَأْصِلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [11 \ 95] قَالَ الشَّاعِرُ: قَلَّ الْغَنَاءُ إِذَا لَاقَى الْفَتَى تَلَفًا ... قَوْلُ الْأَحِبَّةِ لَا تَبْعُدْ وَقَدْ بَعُدَا وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ بُعْدًا وَسُحْقًا وَدَفْرًا أَيْ: نَتِنًا مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ لَا تَظْهَرُ. اهـ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: سَقْيًا وَرَعْيًا، كَقَوْلِ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 نُبِّئْتُ نِعَمًا عَلَى الْهِجْرَانِ عَاتِيَةً ... سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي وَالْأَحَادِيثُ فِي قَوْلِهِ: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» فِي مُفْرَدِهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ حَدِيثٍ كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تُرِيدُ بِالْأَحَادِيثِ جَمْعَ حَدِيثٍ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنَ الْجُمُوعِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: وَحَائِدٍ عَنِ الْقِيَاسِ كُلَّ مَا ... خَالَفَ فِي الْبَابَيْنِ حُكْمًا رَسْمَا يَعْنِي بِالْبَابَيْنِ: التَّكْسِيرَ وَالتَّصْغِيرَ، كَتَكْسِيرِ حَدِيثٍ عَلَى أَحَادِيثَ وَبَاطِلٍ عَلَى أَبَاطِيلَ، وَكَتَصْغِيرِ مَغْرِبٍ، عَلَى مُغَيْرِبَانِ، وَعَشِيَّةً عَلَى عُشَيْشِيَّةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَدِيثِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَحَادِيثَ جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ الَّتِي هِيَ مِثْلُ: أُضْحُوكَةٍ، وَأُلْعُوبَةٍ، وَأُعْجُوبَةٍ بِضَمِّ الْأَوَّلِ، وَإِسْكَانِ الثَّانِي: وَهِيَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ تَلَهِيًّا وَتَعَجُّبًا. وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيْرِ : مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيْضِ وَدَّ جَلِيسُهَا ... إِذَا مَا انْقَضَتْ أُحْدُوثَةٌ لَوْ تُعِيدُهَا وَهَذَا الْوَجْهُ أَنْسَبُ هُنَا لِجَرَيَانِ الْجَمْعِ فِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَجَزَمَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُمْ، وَقْتَ نُزُولِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ: وَهِيَ الْحَلَالُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرُّسُلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [2 \ 172] وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ أَمَرَ فِي زَمَنِهِ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَأْثِيرُ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ فِي الْأَعْمَالِ مَعْرُوفٌ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [23 \ 51] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [2 \ 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» وَهُوَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَنَّ دُعَاءَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْقُرَبِ لَمْ يَنْفَعْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْحَلَالِ وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَلَمْ يَرْكَبْ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَفَسَّرْنَا مَا يَحْتَاجُ مِنْهُمَا إِلَى تَفْسِيرٍ وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَاهُمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [21 \ 92 - 93] وَبَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبَيَّنَّا جَمْعَ مَعَانِي الْأُمَّةِ فِي الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ الْآيَةَ [11 \ 8] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ، أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَذَرَ الْكُفَّارَ أَيْ: يَتْرُكَهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ إِلَى حِينٍ، أَيْ: وَقْتٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقْتُ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ بِقَتْلٍ أَوْ مَوْتٍ، وَصَيْرُورَتُهُمْ إِلَى مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْعَذَابِ الْبَرْزَخِيِّ، وَالْأُخْرَوِيِّ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْحِينِ الْمَذْكُورِ: وَقْتَ قَتْلِهِمْ، أَوْ مَوْتِهِمْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بِغَيْرِ سَنَدٍ. وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى غَمْرَتِهِمْ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; كَقَوْلِ الْكَلْبِيِّ فِي غَمْرَتِهِمْ أَيْ: جَهَالَتِهِمْ. وَقَوْلُ ابْنِ بَحْرٍ: فِي حَيْرَتِهِمْ. وَقَوْلُ ابْنِ سَلَامٍ: فِي غَفْلَتِهِمْ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: فِي ضَلَالَتِهِمْ فَمَعْنَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ، أَمَرَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالْمَعَاصِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَمْرَةُ: الْمَاءُ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَامَةَ فَضُرِبَتْ مَثَلًا لِمَا هُمْ مَغْمُورُونَ فِيهِ مِنْ جَهْلِهِمْ، وَعَمَايَتِهِمْ أَوْ شُبِّهُوا بِاللَّاعِبِينَ فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: لَيَالِي اللَّهْوِ يُطْبِينِي فَأَتْبَعَهُ ... كَأَنَّنِي ضَارِبٌ فِي غَمْرَةٍ لَعِبِ وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [23 \ 54] لِلتَّهْدِيدِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 فَنِّ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ وَفِي فَنِّ الْمَعَانِي فِي مَبْحَثِ الْإِنْشَاءِ، أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا صِيغَةُ أَفْعَلَ التَّهْدِيدُ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [15 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [86 \ 17] وَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [14] وَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [39 \ 8] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، الْآيَةَ [15 \ 3] وَتَكَلَّمْنَا هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ ذَرْهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ، قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّخْفِيفِ فِي هَذِهِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، الَّتِي جَاءَ بِهَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكِتَابِ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ الَّذِي يُحْصِيهَا اللَّهُ فِيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 29] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، الْآيَةَ [18 \ 49] وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [17 \ 13] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى نُطْقِ الْكِتَابِ بِالْحَقِّ: أَنَّ جَمِيعَ الْمَكْتُوبِ فِيهِ حَقٌّ، فَمَنْ قَرَأَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ، كَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ فِي قِرَاءَتِهِ لَهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَتِ الْعَرَبُ اسْمَ الْكَلَامِ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 الْخَطِّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ، حَتَّى هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ، وَالْعَذَابُ الَّذِي أَخَذَهُمْ رَبُّهُمْ بِهِ، قِيلَ: هُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَقِيلَ: الْجُوعُ وَالْقَحْطُ الشَّدِيدُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» فَأَصَابَهُمْ بِسَبَبِ دَعْوَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ، عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ أَخَذَ مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ، وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ أَصْحَابُ النِّعْمَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [73 \ 11 - 13] فَقَوْلُهُ: أُولِي النَّعْمَةِ يُرِيدُ بِهِمُ: الْمُتْرَفِينَ فِي الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ بَعْدَ التَّهْدِيدِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: يَجْأَرُونَ، الْجُؤَارُ: الصُّرَاخُ بِاسْتِغَاثَةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَأَرَ الثَّوْرُ يَجْأَرُ: صَاحَ، فَالْجُؤَارُ كَالْخُوَارِ وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ «عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جُؤَارٌ» [7 \ 148] ، [20 \ 88] بِالْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ، أَيْ: خُوَارٌ، وَجَأَرَ الرَّجُلُ إِلَى اللَّهِ: تَضَرَّعَ بِالدُّعَاءِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُنَعَّمِينَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، إِذَا أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، صَاحُوا مُسْتَصْرِخِينَ مُسْتَغِيثِينَ، يَطْلُبُونَ الْخَلَاصَ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَصُرَاخُهُمْ وَاسْتِغَاثَتُهُمُ الْمُشَارُ لَهُ هُنَا، جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [35 \ 36 - 37] فَقَوْلُهُ: يَصْطَرِخُونَ: يَفْتَعِلُونَ مِنَ الصُّرَاخِ، مُسْتَغِيثِينَ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مِمَّا هُمْ فِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فَهَذَا الصُّرَاخُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَامُّ لِلْمُتْرَفِينَ وَغَيْرِهِمْ، هُوَ الْجُؤَارُ الْمَذْكُورُ عَنِ الْمُتْرَفِينَ هُنَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْجُؤَارُ عَلَى الصُّرَاخِ وَالدُّعَاءِ لِلِاسْتِغَاثَةِ قَوْلُ الْأَعْشَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ ... فَطَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا وَالْجُؤَارُ الْمَذْكُورُ: هُوَ النِّدَاءُ فِي قَوْلِهِ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [38 \ 3] ; لِأَنَّ نِدَاءَهُمْ نِدَاءُ اسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِصْرَاخٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ الْآيَةَ [43 \ 77] ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي يَطْلُبُونَهَا، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالْمَوْتِ مِنْ دَوَامِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، أَجَارَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [25 \ 13 - 14] وَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالثُّبُورِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْهَلَاكِ، وَالْوَيْلُ عَنْ أَنْوَاعِ جُؤَارِهِمْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [23 \ 65] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغَاثُوا لَمْ يُغَاثُوا، وَإِنِ اسْتَرْحَمُوا لَمْ يُرْحَمُوا، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [18 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُتْرَفِينَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا أَخَذَهُمْ رَبُّهُمْ بِالْعَذَابِ، ضَجُّوا وَصَاحُوا وَاسْتَغَاثُوا، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُغَاثُونَ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي، أَيِ: الَّتِي أَرْسَلْتُ بِهَا رُسُلِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ: تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ وَاضِحَةً مُفَصَّلَةً، فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ: تَرْجِعُونَ عَنْهَا الْقَهْقَرَى، وَالْعَقِبُ: مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ، وَالنُّكُوصُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [8 \ 48] وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: زَعَمُوا بِأَنَّهُمْ عَلَى سُبُلِ النَّجَاةِ ... وَإِنَّمَا نَكَصَ عَلَى الْأَعْقَابِ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا: أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [40 \ 11 - 12] فَكُفْرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَحْدَهُ، مِنْ نُكُوصِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ، لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى النُّكُوصِ عَنْهَا، عَلَى أَعْقَابِهِمْ، بَلْ يَكَادُونَ يَبْطِشُونَ بِالَّذِي يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ لَهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [22 \ 72] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَظْهَرُ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ أَوِ الْجُوعُ، وَمِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ الَّذِينَ يَجْأَرُونَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّ جُؤَارَهُمْ مِنْ قِبَلِ إِخْوَانِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ، يَتَضَمَّنُ حَضَّهُمْ، عَلَى تَدَبُّرِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ تَدَبَّرُوهُ تَدَبُّرًا صَادِقًا، عَلِمُوا أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُ وَاجِبٌ وَتَصْدِيقُ مَنْ جَاءَ بِهِ لَازِمٌ، وَقَدْ أَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4 \ 82] وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47 \ 24] وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [23 \ 68] قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَأَنْكَرُوهُ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقِيلَ: أَمْ بِمَعْنَى: بَلْ جَاءَهُمْ مَا لَا عَهْدَ لِآبَائِهِمْ بِهِ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوهُ، وَتَرَكُوا التَّدَبُّرَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَمْ جَاءَهُمْ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَرَّعَهُمْ أَوَّلًا بِتَرْكِ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِأَنَّ مَا جَاءَهُمْ جَاءَ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَيْسَ بِدْعًا، وَلَا مُسْتَغْرَبًا، بَلْ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَعَرِفُوا ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ وَنَجَاةِ مَنْ آمَنَ، وَاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَبَ وَآبَاؤُهُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَعْقَابُهُ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ الْآيَةَ [46 \ 9] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ الْآيَةَ [10 \ 16] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ، أَمِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ بِأَمِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَضَابِطُهَا أَلَّا تَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ تَسْوِيَةٍ نَحْوَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ الْآيَةَ [2 \ 6] أَوْ هَمْزَةٌ مُغْنِيَةٌ، عَنْ لَفْظَةٍ، أَيْ: كَقَوْلِكَ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ أَيْ: أَيُّهُمَا عِنْدَكَ فَالْمَسْبُوقَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 بِإِحْدَى الْهَمْزَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِأَمِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالَّتِي لَمْ تُسْبَقْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُنْقَطِعَةِ كَمَا هُنَا، وَأَمِ الْمُنْقَطِعَةُ تَأْتِي لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: بَلِ الْإِضْرَابِيَّةِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى هَمْزَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهُمَا مَعًا فَتَكُونُ جَامِعَةً بَيْنَ الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي مَعْنَاهَا، خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى: بَلْ فِي قَوْلِهِ: وَبِانْقِطَاعٍ وَبِمَعْنَى بَلْ وَفَتْ ... إِنْ تَكُ مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ خَلَتْ وَمُرَادُهُ بِخُلُوِّهَا مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ: أَلَّا تَسْبِقَهَا إِحْدَى الْهَمْزَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، فَإِنْ سَبَقَتْهَا إِحْدَاهُمَا، فَهِيَ الْمُتَّصِلَةُ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى مُتَضَمِّنًا لِلْإِضْرَابِ عَمَّا قَبْلَهُ إِضْرَابًا انْتِقَالِيًّا، مَعَ مَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، فَتَضَمُّنُ الْآيَةِ الْإِنْكَارَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ: أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ جِنَّةٌ أَيْ: جُنُونٌ يَعْنُونَ: أَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ هَذَيَانُ مَجْنُونٍ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَجْحَدَهُمْ لِلْحَقِّ! وَمَا أَكْفَرَهُمْ! وَدَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ هَذِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ كَذَّبَهَا اللَّهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ [23 \ 70] فَالْإِضْرَابُ بِبَلْ إِبْطَالِيٌّ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ بَلْ هُوَ رَسُولٌ كَرِيمٌ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِي يَعْرِفُ كُلُّ عَاقِلٍ، أَنَّهُ حَقٌّ، وَلَكِنْ عَانَدْتُمْ وَكَفَرْتُمْ لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِكُمْ لِلْحَقِّ، وَمَا نَفَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ الْجُنُونَ صَرَّحَ اللَّهُ بِنَفْيِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [81 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [52 \ 29] وَهَذَا الْجُنُونُ الَّذِي افْتُرِيَ عَلَى آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ، افْتُرِيَ أَيْضًا عَلَى أَوَّلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [23 \ 25] وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إِلَّا قَالَ قَوْمُهُ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، كَأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فَتَوَاصَوْا عَلَى ذَلِكَ لِتَوَاطُؤِ أَقْوَالِهِمْ لِرُسُلِهِمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [51 \ 52 - 53] فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ التَّوَاصِي بِهِ ; لِاخْتِلَافِ أَزْمِنَتِهِمْ، وَأَمْكِنَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الَّذِي جَمَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مُشَابَهَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الطُّغْيَانِ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [2 \ 118] فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ تَشَابُهِ مَقَالَاتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ، هُوَ تَشَابُهُ قُلُوبِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَكَرَاهِيَةِ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [23 \ 70] ذَكَرَ نَحْوَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الْآيَةَ [22 \ 72] وَذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِكَرَاهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ سَمَاعِهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَوَّلِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ بِتَوْحِيدِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَهُوَ نُوحٌ: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [71 \ 7] وَإِنَّمَا جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ خَوْفَ أَنْ يَسْمَعُوا مَا يَقُولُهُ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الْحَقِّ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أُمَّةِ آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ الْآيَةَ [41 \ 26] فَتَرَى بَعْضَهُمْ يَنْهَى بَعْضًا عَنْ سَمَاعِهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِاللَّغْوِ فِيهِ، كَالصِّيَاحِ وَالتَّصْفِيقِ الْمَانِعِ مِنَ السَّمَاعِ لِكَرَاهَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمُحَاوَلَتِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سُؤَالُ مَعْرُوفٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [23 \ 70] يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ، أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْكُفَّارِ، لَيْسُوا كَارِهِينَ لِلْحَقِّ، وَهَذَا السُّؤَالُ وَارِدٌ أَيْضًا عَلَى آيَةِ الزُّخْرُفِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [43 \ 78] . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْكُفَّارِ، كَانُوا لَا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، وَسَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ هُوَ كَرَاهِيَتُهُمْ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّ سَبَبَهُ الْأَنَفَةُ وَالِاسْتِنْكَافُ مِنْ تَوْبِيخِ قَوْمِهِمْ، وَأَنْ يَقُولُوا صَبَؤُوا وَفَارَقُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَنْ وَقَعَ لَهُ هَذَا أَبُو طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَا يَكْرَهُ الْحَقَّ، الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ كَانَ يَشُدُّ عَضُدَهُ فِي تَبْلِيغِهِ رِسَالَتَهُ كَمَا قَدَّمْنَا فِي شِعْرِهِ فِي قَوْلِهِ: اصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ الْأَبْيَاتِ وَقَالَ فِيهَا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينًا وَقَالَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبَ ... لَدَيْنَا وَلَا يَعْنِي بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ: أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ لَهُ مِنَ اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ كَرَاهِيَةَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ الْأَنَفَةُ وَالْخَوْفُ مِنْ مَلَامَةِ قَوْمِهِ أَوْ سَبِّهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ يَقِينًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [24 \ 25] وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [22 \ 6] وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ: هُوَ اللَّهَ عَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى تَشْرِيعِ مَا أَحَبُّوا تَشْرِيعَهُ وَإِرْسَالِ مَنِ اقْتَرَحُوا إِرْسَالَهُ، بِأَنْ جَعَلَ أَمْرَ التَّشْرِيعِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَابِعًا لِأَهْوَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ ; لِأَنَّ أَهْوَاءَهُمُ الْفَاسِدَةَ وَشَهَوَاتِهِمُ الْبَاطِلَةَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَذَلِكَ لِفَسَادِ أَهْوَائِهِمْ، وَاخْتِلَافِهَا. فَالْأَهْوَاءُ الْفَاسِدَةُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا نِظَامُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، بَلْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُتَّبَعَةَ لَفَسَدَ الْجَمِيعُ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ لَا تَصْلُحُ ; لِأَنْ تَكُونَ مُتَّبَعَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [43 \ 31] ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُوَ كَافِرٌ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ الْآيَةَ [43 \ 32] ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [7 \ 100] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [4 \ 53] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ، وَاخْتِلَافُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْحَقَّ لَوِ اتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ الْمُخْتَلِفَةَ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ: الْحَقُّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [23 \ 70] وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنَ الْحَقِّ مُتَّبِعًا لِأَهْوَائِهِمْ، الَّتِي هِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَادِّعَاءُ الْأَوْلَادِ، وَالْأَنْدَادِ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَفَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ هَذَا الْفَرْضَ يَصِيرُ بِهِ الْحَقُّ، هُوَ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ نِظَامُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى شَيْءٍ، هُوَ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ اسْتِقَامَةَ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةِ إِلَهٍ هُوَ الْحَقُّ مُنْفَرِدٌ بِالتَّشْرِيعِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الذِّكْرِ فِي الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذِكْرُهُمْ: فَخْرُهُمْ، وَشَرَفُهُمْ ; لِأَنَّ نُزُولَ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فِيهِ لَهُمْ أَكْبَرُ الْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَعَلَى هَذَا، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [43 \ 44] عَلَى تَفْسِيرِ الذِّكْرِ بِالْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الذِّكْرُ فِي الْآيَةِ: الْوَعْظُ وَالتَّوْصِيَةُ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [3 \ 58] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الذِّكْرُ هُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [37 \ 168 - 169] وَعَلَيْهِ، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [35 \ 42] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا الْآيَةَ [35 \ 42] كَقَوْلِهِ هُنَا، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ، وَكَقَوْلِهِ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [6 \ 157] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ كَثِيرَةٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 الْمُرَادُ بِالْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ هُنَا: الْأَجْرُ وَالْجَزَاءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَا تَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا بَلَّغْتَهُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أُجْرَةً وَلَا جُعْلًا، وَأَصْلُ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ: هُوَ مَا تُخْرِجُهُ إِلَى كُلِّ عَامِلٍ فِي مُقَابَلَةِ أَجْرِهِ، أَوْ جَعْلٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا، فِي مُقَابَلَةِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ لَا يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ عَلَى التَّبْلِيغِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 29] وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ، مَعَ آيَةِ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [42 \ 23] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حُكْمَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ، عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَرَأَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ ابْنُ عَامِرٍ: خَرْجًا فَخَرْجُ رَبِّكَ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِيهِمَا مَعًا، وَحَذْفِ الْأَلِفِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِيهِمَا مَعًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَحَذْفِ الْأَلِفِ فِي الْأَوَّلِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الثَّانِي، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَى الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْنَ مَعْنَاهُمَا فَرْقًا زَاعِمًا أَنَّ الْخَرْجَ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ، وَالْخَرَاجُ: مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُسَاعِدُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [23 \ 72] نَظَرًا إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقِينَ يَرْزُقُ بَعْضَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [4 \ 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ الْآيَةَ [2 \ 233] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَضْلَ رِزْقِ اللَّهِ خَلْقَهُ، عَلَى رِزْقِ بَعْضِ خَلْقِهِ بَعْضِهِمْ كَفَضْلِ ذَاتِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى ذَوَاتِ خَلْقِهِ، وَصِفَاتِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ، لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [22 \ 67] فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، نَاكِبُونَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ، الَّذِي هُمْ نَاكِبُونَ عَنْهُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [23 \ 73] وَمَنْ نَكَبَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، دَخَلَ النَّارَ بِلَا شَكٍّ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [30 \ 16] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَنَاكِبُونَ: عَادِلُونَ عَنْهُ، حَائِدُونَ غَيْرُ سَالِكِينَ إِيَّاهُ وَهُوَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُصَيْبٍ: خَلِيلِيَّ مِنْ كَعْبٍ أَلَمًا هَدَيْتُمَا ... بِزَيْنَبَ لَا تَفْقِدْكُمَا أَبَدًا كَعْبُ مِنَ الْيَوْمِ زُورَاهَا فَإِنَّ رِكَابَنَا ... غَدَاةَ غَدٍ عَنْهَا وَعَنْ أَهْلِهَا نَكْبُ جَمْعُ نَاكِبَةٍ، عَنْهَا أَيْ: عَادِلَةٌ عَنْهَا مُتَبَاعِدَةٌ عَنْهَا، وَعَنْ أَهْلِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِينَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَنْ لَوْ وُجِدَ، كَيْفَ يَكُونُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [6 \ 28] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [23 \ 75] اللَّجَاجُ هُنَا: التَّمَادِي فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ، وَادِّعَاؤُهُمْ لَهُ الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ، وَقَوْلُهُ: يَعْمَهُونَ: يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لَا يُمَيِّزُونَ حَقًّا، مِنْ بَاطِلٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَخَذَ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُنَا: الْعَذَابُ الدُّنْيَوِيُّ كَالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالْمَصَائِبِ، وَالْأَمْرَاضِ وَالشَّدَائِدِ، فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ أَيْ: مَا خَضَعُوا لَهُ، وَلَا ذَلُّوا وَمَا يَتَضَرَّعُونَ أَيْ: مَا يَبْتَهِلُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ مُتَضَرِّعِينَ لَهُ، لِيَكْشِفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ لِشِدَّةِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ مِنَ الِاتِّعَاظِ، وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِمَا يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ مِنْ إِصَابَةِ عَذَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [6 \ 42 - 43] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 الْأَعْرَافِ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 94 - 95] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، قَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحٌ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [16 \ 78] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ إِفْرَادِ السَّمْعِ مَعَ الْجَمْعِ لِلْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، ذَرَأَكُمْ مَعْنَاهُ: خَلَقَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الْآيَةَ [7 \ 179] وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: خَلَقَكُمْ وَبَثَّكُمْ فِي الْأَرْضِ، عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً الْآيَةَ [4 \ 1] وَقَالَ: ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [30 \ 20] وَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ: إِلَيْهِ وَحْدَهُ، تُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً بَعْدَ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ، وَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [23 \ 12 - 16] وَذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - أَيْضًا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [67 \ 23 - 25] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءَتَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الدَّوَاعِي لِلْإِيمَانِ بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [22 \ 26] وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [2 \ 28] ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لَهُ اخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَاعِلُ لَهُ وَهُوَ الَّذِي يَذْهَبُ بِاللَّيْلِ، وَيَأْتِي بِالنَّهَارِ، ثُمَّ يَذْهَبُ بِالنَّهَارِ وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ، وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مِنَنِهِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا بَيَّنَ الْأَمْرَيْنِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الْآيَةَ [28 \ 71 - 73] ، أَيْ: لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَطْلُبُوا مَعَايِشَكُمْ بِالنَّهَارِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْآيَةَ [41 \ 37] وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [36 \ 37] وَقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ [7 \ 54] وَقَوْلِهِ: وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [36 \ 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الْآيَةَ [14 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [10 \ 6] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيْ: تُدْرِكُونَ بِعُقُولِكُمْ أَنَّ الَّذِي يُنْشِئُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُخَالِفُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -، الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَوَّى بِهِ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَفَظَةُ بَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ، مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْثِ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] وَكَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [79 \ 11 - 12] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ كَثِيرَةٌ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ، وَغَيْرِهِمَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَوْرَدْنَا مِنْهَا كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَاتِ [22 \ 5] ، وَأَوْضَحْنَا أَرْبَعَةَ بَرَاهِينَ قُرْآنِيَّةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّطْوِيلِ هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَئِذَا مِتْنَا قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ، بِالِاسْتِفْهَامِ فِي: أَئِذَا مِتْنَا، وَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ، فِي أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، بَلْ قَرَأَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِي الْمَحْذُوفِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِالْعَكْسِ، فَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ، مِنْ أَئِذَا، وَقَرَأَ إِذَا بِدُونِ اسْتِفْهَامٍ، وَأَثْبَتَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي الْمُثْبَتُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ فِيهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا مَعًا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي الْهَمْزَتَيْنِ، فَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُسَهِّلُونَ الثَّانِيَةَ، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَهَا، وَأَدْخَلَ قَالُونُ، وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَلِفًا بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَصْرِ دُونَ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ: مِتْنَا بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ [19 \ 23] وَجْهَ كَسْرِ الْمِيمِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مَاتَ إِلَى تَاءِ الْفَاعِلِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَأَوْضَحْنَا وُجْهَةَ غَايَةٍ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ قَالُوا: إِنَّهُمْ وُعِدُوا بِالْبَعْثِ، وَوُعِدَ بِهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَجْدَادَهُمْ، الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ، وَأَخْبَرَتْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْبَعْثَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 هُمْ وَآبَاؤُهُمْ كَذِبٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ مَا هُوَ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا سَطَّرُوهُ وَكَتَبُوهُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالتُّرَّهَاتِ، وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ، وَقِيلَ: جَمْعُ أُسْطَارَةٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُمْ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [27 \ 67 - 68] ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى الْبَعْثِ، الَّذِي أَنْكَرُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [23 \ 84 - 89] ; لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهَا، وَمَنْ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَمَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِيمَا مَرَّ الْبَرَاهِينَ الْقُرْآنِيَّةَ الْقَطْعِيَّةَ، الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، قَدَّمْنَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَأَوْصَافِ رُبُوبِيَّتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَفْتَرُونَ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [10 \ 31] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَأَوْضَحْنَا دَلَالَةَ تَوْحِيدِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، عَلَى تَوْحِيدِهِ فِي عِبَادَتِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ الْإِيضَاحِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الْمَلَكُوتُ: فَعَلُوتُ مِنَ الْمُلْكِ أَيْ: مَنْ بِيَدِهِ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ، بِمَعْنَى: مَنْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: زِيَادَةُ الْوَاوِ وَالتَّاءِ فِي نَحْوِ: الْمَلَكُوتِ، وَالرَّحَمُوتِ، وَالرَّهَبُوتِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالرَّحْمَةِ، وَالرَّهْبَةِ: تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، أَيْ: هُوَ يَمْنَعُ مَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 شَاءَ مِمَّنْ شَاءَ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْهُ أَحَدًا شَاءَ أَنْ يُهْلِكَهُ أَوْ يُعَذِّبَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ وَحْدَهُ، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَرَاكَ طَفِقْتَ تَظْلِمُ مَنْ أَجَرْنَا ... وَظُلْمُ الْجَارِ إِذْلَالُ الْمُجِيرِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أَيْ: كَيْفَ تُخْدَعُونَ، وَتُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّكُمْ، وَطَاعَتِهِ مَعَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ الْقَاطِعَةِ وَأَدِلَّتِهِ السَّاطِعَةِ، وَقِيلَ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، أَيْ: كَيْفَ يُخَيَّلُ إِلَيْكُمْ: أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ مَا لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ السِّحْرَ هُوَ التَّخْيِيلُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى السِّحْرِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ طه فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [20 \ 69] وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى تُسْحَرُونَ هُنَا: تُخْدَعُونَ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ فَيَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، عَنِ الْحَقِّ كَمَا يُفْعَلُ بِالْمَسْحُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ لِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الذَّالِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْأَوَّلُ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَهَذِهِ اتَّفَقَ جَمِيعُ السَّبْعَةِ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِلَامِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ ; لِأَنَّهَا جَوَابُ الْمَجْرُورِ بِلَامِ الْجَرِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا فَجَوَابُ لِمَنِ الْأَرْضُ، هُوَ أَنْ تَقُولَ: لِلَّهِ، وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي هُوَ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. وَالثَّالِثُ: الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فَقَدْ قَرَأَهُمَا أَبُو عَمْرٍو بِحَذْفِ لَامِ الْجَرِّ وَرَفْعِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَةِ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي جَوَابِ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ بِالرَّفْعِ، أَيْ: رَبُّ مَا ذُكِرَ هُوَ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ جَوَابُ قَوْلِهِ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ. فَالظَّاهِرُ فِي جَوَابِهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ بِالرَّفْعِ، أَيْ: الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو جَارِيَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ، الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَرَأَ الْحَرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرُهُ مِنَ السَّبْعَةِ، بِحَرْفِ الْجَرِّ وَخَفْضِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ كَالْأَوَّلِ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجَرِّ، مَعَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجَوَابَ بِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ: رَبُّهُمَا اللَّهُ، وَإِذًا يُشْكِلُ وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجَرِّ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْرُوفٌ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ مَعْنًى: مَنْ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْعَرْشِ، وَكُلِّ شَيْءٍ فَيُحْسِنُ الْجَوَابَ بِأَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى ... وَرَبُّ الْجِيَادِ الْجُرْدِ قُلْتُ لِخَالِدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ فِيهِ مَعْنَى مَنْ هُوَ مَالِكُهَا، فَحَسُنَ الْجَوَابُ بِاللَّامِ: أَيْ هِيَ لِخَالِدٍ، وَالْمَزَالِفُ: مَزْلَفَةٌ كَمَرْحَلَةٍ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هِيَ كُلُّ قَرْيَةٍ تَكُونُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالرِّيفِ، وَجَمْعُهَا مَزَالِفُ. حب قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ بِقَوْلِهِ: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ لَهُ الْأَوْلَادَ، فَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِظَمِ فِرْيَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَظُهُورِ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ في مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةً، فَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ، عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى الْآيَةَ [16 \ 57 - 58] ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [18 \ 4] ، وَفِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَأَمَّا تَفَرُّدُهُ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ مَعَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَذَكَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [17 \ 42] وَلَمْ نَتَعَرَّضْ لِمَا يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ دَلِيلَ التَّمَانُعِ، لِكَثْرَةِ الْمُنَاقَشَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَإِنَّمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ بِالْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْقُرْآنِيِّ بِهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ، أَيْ: أَنْ تُرِنِي مَا تُوعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، بِأَنْ تُنْزِلَهُ بِهِمْ، وَأَنَا حَاضِرٌ شَاهِدٌ أَرَى نُزُولَهُ بِهِمْ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي فِي جُمْلَةِ الْمُعَذَّبِينَ الظَّالِمِينَ، بَلْ أَخْرِجْنِي مِنْهُمْ، وَنَجِّنِي مِنْ عَذَابِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَهُوَ فِيهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الْآيَةَ [8 \ 33] ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُرِهِ الْعَذَابَ، الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [23 \ 95] وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ، أَنَّهُ إِنْ ذَهَبَ بِهِ قَبْلَ تَعْذِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ مُعَذِّبٌ لَهُمْ وَمُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ إِنْ عَذَّبَهُمْ، وَهُوَ حَاضِرٌ فَهُوَ مُقْتَدِرٌ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [43 \ 41 - 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ، هَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ بِإِيضَاحٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ الْآيَةَ [7 \ 199 - 200] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيْ: بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْخِصَالِ، وَالسَّيِّئَةُ مَفْعُولُ ادْفَعْ وَوَزْنُ السَّيِّئَةِ، فَيْعَلَةٌ أَصْلُهَا: سَيُّوئَةٌ وَحُرُوفُهَا الْأَصْلِيَّةُ السِّينُ وَالْوَاوُ وَالْهَمْزَةُ، وَقَدْ زِيدَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، فَوَجَبَ إِبْدَالُ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ يَاءً وَإِدْغَامُ يَاءِ الْفَيْعَلَةِ الزَّائِدَةِ فِيهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: إِنْ يُسَكَّنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا ... وَاتَّصَلَا وَمِنْ عَرُوضٍ عُرِّيَا فَيَاءُ الْوَاوِ اقْلِبَنَّ مُدْغَمًا ... وَشَذَّ مُعْطَى غَيْرَ مَا قَدْ رَسَمَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَالسَّيِّئَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ السُّوءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ، أَيْ: بِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، وَادِّعَائِهِمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ لِلَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ اللِّينَ وَالصَّفْحَ الْمَطْلُوبَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ بَعْدَ نُزُولِ الْقِتَالِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، دُونَ الْكَافِرِينَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [5 \ 54] وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَصْحَابِهِ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [48 \ 29] وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [9 \ 73] إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ: جَمْعُ هَمْزَةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ فِعْلِ الْهَمْزِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: النَّخْسُ وَالدَّفْعُ، وَهَمَزَاتُ الشَّيَاطِينِ: نَخَسَاتُهُمْ لِبَنِي آدَمَ لِيَحُثُّوهُمْ، وَيَحُضُّوهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، كَمَا أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [19 \ 83] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [43 \ 36 - 37] . وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أَنَّ الْمَعْنَى: أَعُوذُ بِكَ أَنْ يَحْضُرَنِي الشَّيْطَانُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِي كَائِنًا مَا كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [16 \ 98] أَوْ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الشُّؤُونِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا، الظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ «حَتَّى» فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَيُقَالُ لَهَا: حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ الْقَائِلِ: إِنَّهَا غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [23 \ 96] وَلِأَبِي حَيَّانَ الْقَائِلِ: إِنَّ الظَّاهِرَ لَهُ أَنَّ قَبْلَهَا جُمْلَةً مَحْذُوفَةً هِيَ غَايَةٌ لَهُ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا قَبْلَهَا، وَقَدَّرَ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ بِقَوْلِهِ فَلَا أَكُونُ كَالْكُفَّارِ الَّذِينَ تَهْمِزُهُمُ الشَّيَاطِينُ وَيَحْضُرُونَهُمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. وَنَظِيرُ حَذْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ: فَوَاعَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي ... كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ قَالَ: الْمَعْنَى: يَسُبُّنِي النَّاسُ حَتَّى كُلَيْبٌ، فَدَلَّ مَا بَعْدَ حَتَّى عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 وَفِي الْآيَةِ دَلَّ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهَا، انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ، وَلَا يَظْهَرُ عِنْدِي كُلَّ الظُّهُورِ. بَلِ الْأَظْهَرُ عِنْدِي: هُوَ مَا قَدَّمْتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُفَرِّطَ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمَا الْمَوْتُ طَلَبَا الرَّجْعَةَ إِلَى الْحَيَاةِ، لِيَعْمَلَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ الَّذِي يُدْخِلُهُمَا الْجَنَّةَ، وَيَتَدَارَكَا بِهِ مَا سَلَفَ مِنْهُمَا مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيطِ وَأَنَّهُمَا لَا يُجَابَانِ لِذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ الَّذِي هُوَ «كَلَّا» جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الْآيَةَ [63 \ 10 - 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [14 \ 44] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَمَا أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، لِيُصْلِحُوا أَعْمَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [6 \ 27 - 28] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [42 \ 44] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [40 \ 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [35 \ 37] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [34 \ 51 - 53] ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ فَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 يُجَابُونَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَيَوْمَ النُّشُورِ وَوَقْتَ عَرْضِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَوَقْتَ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّ ارْجِعُونِ وَلَمْ يَقُلْ: رَبِّ ارْجِعْنِي بِالْإِفْرَادِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَظْهَرُهَا: أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: ارْجِعُونِ، لِتَعْظِيمِ الْمُخَاطَبِ وَذَلِكَ النَّادِمُ السَّائِلُ الرَّجْعَةَ يُظْهِرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَعْظِيمَهُ رَبَّهُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ غَيْرِهِ: أَلَا فَارْحَمُونِي يَا إِلَهَ مُحَمَّدٍ ... فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَهْلًا فَأَنْتَ لَهُ أَهْلُ وَقَوْلُ الْآخَرِ يُخَاطِبُ امْرَأَةً: وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا وَالنُّقَاخُ: الْمَاءُ الْبَارِدُ. وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ، وَقِيلَ: ضِدُّ الْحَرِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: رَبِّ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: ارْجِعُونِ: خِطَابٌ لِلْمَلَائِكَةِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْوَجْهِ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «إِذَا عَايَنَ الْمُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا نُرْجِعُكَ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: إِلَى دَارِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، فَيَقُولُ: بَلْ قَدِّمُونِي إِلَى اللَّهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُونَ لَهُ: نُرْجِعُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ» . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ: إِنَّهُ جَمَعَ الضَّمِيرَ لِيَدُلَّ عَلَى التَّكْرَارِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا الظَّاهِرُ أَنَّ لَعَلَّ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيِ: ارْجِعُونِ ; لِأَجْلِ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَازِمٍ، بِأَنَّهُ إِذَا رُدَّ لِلدُّنْيَا عَمِلَ صَالِحًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالْحَجِّ الَّذِي كَانَ قَدْ فَرَّطَ فِيهِ وَالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ كَلَّا: كَلِمَةُ زَجْرٍ: وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ الَّتِي طَلَبَهَا لَا يُعْطَاهَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ يَحْتَاجَانِ إِلَى جَوَابٍ مُبَيِّنٍ لِلْمَقْصُودِ مُزِيلٍ لِلْإِشْكَالِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ - أَنَّهُمْ لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، فَيُقَالُ: مَا وَجْهُ نَفْيِ الْأَنْسَابِ بَيْنَهُمْ، مَعَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [80 \ 33 - 36] فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُبُوتُ الْأَنْسَابِ بَيْنَهُمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَتَسَاءَلُونَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَتَسَاءَلُونَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [52 \ 25] وَقَوْلِهِ فِي الصَّافَّاتِ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [37 \ 27] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْأَنْسَابِ انْقِطَاعُ آثَارِهَا، الَّتِي كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَيْهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا، مِنَ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ، وَالنَّفْعِ وَالْعَوَاطِفِ وَالصِّلَاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ لَا يُهِمُّهُ إِلَّا نَفْسُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ حَقِيقَةِ الْأَنْسَابِ، مِنْ أَصْلِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الْآيَةَ [80 \ 34 - 35] . وَإِنَّ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ، وَإِثْبَاتَهُ بَعْدَهُمَا مَعًا، وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا يَظْهَرُ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ. الثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِالصَّعْقِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ وَإِثْبَاتَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَهُوَ عَنِ السُّدِّيِّ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ سُؤَالٌ خَاصٌّ، وَهُوَ سُؤَالُ بَعْضِهِمُ الْعَفْوَ مِنْ بَعْضٍ، فِيمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، لِقُنُوطِهِمْ مِنَ الْإِعْطَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْؤُولُ أَبًا أَوِ ابْنًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجَةً، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ صَاحِبُ الْإِتْقَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ، لِمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ الْآيَةَ [7 \ 8 - 9] ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [18 \ 105] وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، أَيْ: تَحْرِقُهَا إِحْرَاقًا شَدِيدًا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ الْآيَةَ [33 \ 66] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [27 \ 90] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ الْآيَةَ [21 \ 39] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ الْآيَةَ [14 \ 50] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [39 \ 24] وَقَوْلِهِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ الْآيَةَ [18 \ 29] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ: وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [23 \ 104] الْكَالِحُ: هُوَ الَّذِي تَقَلَّصَتْ شَفَتَاهُ حَتَّى بَدَتْ أَسْنَانُهُ، وَالنَّارُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَحْرِقُ شِفَاهَهُمْ، حَتَّى تَتَقَلَّصَ عَنْ أَسْنَانِهِمْ، كَمَا يُشَاهَدُ مَثَلُهُ فِي رَأْسِ الشَّاةِ الْمَشْوِيِّ فِي نَارٍ شَدِيدَةِ الْحَرِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَلَهُ الْمُقَدَّمُ لَا مَثَلَ لَهُ ... سَاعَةَ الشِّدْقِ عَنِ النَّابِ كَلِحُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَالِحُونَ: عَابِسُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، وَأَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيبُوا الرُّسُلَ لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهِمُ الشَّقَاءَ وَهُمْ مُيَسَّرُونَ لِمَا خُلِقُوا لَهُ، فَلِذَلِكَ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. قَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلِهِ هُنَا: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ، وَأَنْذَرَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ، وَلَكِنْ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ شَقَاوَتِهِمُ الْأَزَلِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، لِيَصِيرُوا إِلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ - جَلَّ وَعَلَا -، مِنْ شَقَاوَتِهِمْ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] وَقَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [39 \ 71] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيْضَاحًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] وَقَوْلُهُ: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [11 \ 118 - 119] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ، اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِضَلَالِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ وَلَا النَّدَمُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 11] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ، هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتُنَا وَأَهْوَاؤُنَا، فَسَمَّى اللَّذَّاتِ وَالْأَهْوَاءَ شِقْوَةً ; لِأَنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [4 \ 10] ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ. اهـ، تَكَلُّفٌ مُخَالِفٌ لِلتَّحْقِيقِ. ثُمَّ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ بِقِيلٍ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ حُسْنُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِالْخُلُقِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ هُنَا: قَوْمًا ضَالِّينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 أَيْ: عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى طَرِيقِ النَّارِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: شَقَاوَتُنَا بِفَتْحِ الشِّينِ، وَالْقَافِ وَأَلِفٌ بَعْدَهَا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِكَسْرِ الشِّينِ، وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِيهَا فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا لَا يُرْضِيكَ بَعْدَ إِخْرَاجِنَا مِنْهَا، فَإِنَّا ظَالِمُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُجِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، أَيِ: امْكُثُوا فِيهَا خَاسِئِينَ، أَيْ: أَذِلَّاءَ صَاغِرَيْنِ حَقِيرِينَ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ اخْسَأْ إِنَّمَا تُقَالُ لِلْحَقِيرِ الذَّلِيلِ، كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، فَقَوْلُهُ: اخْسَئُوا فِيهَا، أَيْ: ذِلُّوا فِيهَا مَاكِثِينَ فِي الصَّغَارِ وَالْهَوَانِ. وَهَذَا الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ الَّذِي طَلَبُوهُ قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [5 \ 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [2 \ 167] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ [22 \ 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [32 \ 20] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِطَلَبِ أَهْلِ النَّارِ فَهُنَا قَالُوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَأُجِيبُوا اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ وَفِي السَّجْدَةِ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [32 \ 12] فَأُجِيبُوا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الْآيَةَ [32 \ 13] ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [40 \ 11] فَأُجِيبُوا ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [40 \ 12] وَفِي الزُّخْرُفِ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [43 \ 77] فَأُجِيبُوا إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [43 \ 77] وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [14 \ 44] فَيُجَابُونَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [14 \ 44] وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [35 \ 37] فَيُجَابُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [53 \ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَيْنَ كُلِّ طَلَبٍ مِنْهَا وَجَوَابِهِ أَلْفَ سَنَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا تُكَلِّمُونِ أَيْ: فِي رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ، وَلَا إِخْرَاجِكُمْ مِنَ النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ، وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ. قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، أَنَّ إِنَّ الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِكَ: عَاقِبْهُ إِنَّهُ مُسِئٌ، أَيْ: لِأَجْلِ إِسَاءَتِهِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي، يَدُلُّ فِيهِ لَفْظُ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ، عَلَى أَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي أَدْخَلَتْهُمُ النَّارَ هُوَ اسْتِهْزَاؤُهُمْ، وَسُخْرِيَتُهُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقُولُ: رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، فَالْكُفَّارُ يَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْسِيَهُمْ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ فَيَدْخُلُونَ بِذَلِكَ النَّارَ. وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [83 \ 29 - 30] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الْآيَةَ [6 \ 53] وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِقَارٌ مِنْهُمْ لَهُمْ، وَإِنْكَارُهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِخَيْرٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ الْآيَةَ [7 \ 49] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [46 \ 11] وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِقَارٌ مِنْهُمْ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [23 \ 110] وَالسُّخْرِيُّ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ: مَصْدَرُ سَخِرَ مِنْهُ، إِذَا اسْتَهْزَأَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِقَارِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي يَاءِ النَّسَبِ: زِيَادَةٌ فِي الْفِعْلِ، كَمَا قِيلَ فِي الْخُصُوصِيَّةِ بِمَعْنَى الْخُصُوصِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْيَاءَ الْمُشَدَّدَةَ فِي آخِرِهِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ سُخْرِهِمْ مِنْهُمْ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سُخْرِيًّا بِضَمِّ السِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ سُخْرِيَةُ الْكُفَّارِ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّا، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ: الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ: أَنَّ السِّخْرِيَّ بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَنَّ السُّخْرِيَّ بِضَمِّ السِّينِ مِنَ التَّسْخِيرِ، الَّذِي هُوَ التَّذْلِيلُ وَالْعُبُودِيَّةُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ يُسَخِّرُونَ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بِبِلَالٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي حَرْفُ غَايَةٍ ; لِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ سِخْرِيًّا، أَيْ: لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِهِ، فَكَانَ مَأْوَاهُمُ النَّارَ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَزَى أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي الدُّنْيَا بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: بِمَا صَبَرُوا، أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ، جَزَاهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْفَوْزَ بِجَنَّتِهِ، وَرِضْوَانَهُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَهْزَؤُونَ بِالْكُفَّارِ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَالْكُفَّارُ فِي النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [83 \ 34 - 35] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [7 \ 49] وَقَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [2 \ 212] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ، وَعَلَى قِرَاءَتِهِمَا فَمَفْعُولُ جَزَيْتُهُمْ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: جَزَيْتُهُمْ جَنَّتِي إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ لِاسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ، مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا مَفْعُولٌ بِهِ لِجَزَيْتُهُمْ، أَيْ: جَزَيْتُهُمْ فَوْزَهُمْ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْفَوْزُ نَيْلُ الْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ قَدْرِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا أَجَابُوا بِأَنَّهُمْ لَبِثُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِغَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [20 \ 103] وَالْعَشْرُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [30 \ 55] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 وَالسَّاعَةُ: أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [79 \ 46] وَقَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [10 \ 45] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [46 \ 35] . وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا سَاعَةً وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا عَشْرًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَاهُمْ إِدْرَاكًا، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا، وَأَمْثَلَهُمْ طَرِيقَةً هُوَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مَا لَبِثُوا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [20 \ 103 - 104] فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، أَيِ: الْحَاسِبِينَ، الَّذِينَ يَضْبُطُونَ مُدَّةَ لُبْثِنَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى السِّينِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ: فَاسْأَلْ بِغَيْرِ نَقْلٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ بِفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ قَالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِسُؤَالِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَلَكِ الْمَأْمُورِ بِسُؤَالِهِمْ أَوْ بَعْضِ رُؤَسَاءِ أَهْلِ النَّارِ هَكَذَا قَالَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ صَدَّقَهُمُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي قِلَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [23 \ 114] . لِأَنَّ مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ جِدًّا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ مُدَّتِهِمْ خَالِدِينَ فِي النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْبَاقُونَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ لِلْإِنْكَارِ، وَالْحُسْبَانُ هُنَا مَعْنَاهُ: الظَّنُّ، يَعْنِي: أَظْنَنْتُمْ أَنَّا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ، وَأَنَّكُمْ لَا تُرْجَعُونَ إِلَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ نَزَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - نَفْسَهُ، عَنْ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُمْ عَبَثًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أَيْ تَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَمِنْهُ خَلْقُكُمْ عَبَثًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ إِنْكَارِ الظَّنِّ الْمَذْكُورِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [44 \ 38 - 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 36 - 39] وَقَوْلُهُ: سُدًى، أَيْ: مُهْمَلًا لَا يُحَاسَبُ وَلَا يُجَازَى، وَهُوَ مَحَلُّ إِنْكَارِ ظَنِّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى وَقَوْلُهُ: عَبَثًا: يَجُوزُ إِعْرَابُهُ حَالًا، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنْكَرٌ، أَيْ: إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ فِي حَالِ كَوْنِنَا عَابِثِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ; لِأَجْلِ الْعَبَثِ لَا لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ خَلْقَنَا إِيَّاكُمْ، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَبَثًا: أَيْ مُهْمَلِينَ، وَالْعَبَثُ فِي اللُّغَةِ: اللَّعِبُ، وَيَدُلُّ عَلَى تَفْسِيرِهِ فِي الْآيَةِ بِاللَّعِبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [44 \ 38] وَقَوْلُهُ: الْمَلِكُ الْحَقُّ [23 \ 161] ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ: الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَلِكُ الْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا [16 \ 52] وَإِنَّمَا وُصِفَ عَرْشُهُ بِالْكَرَمِ لِعَظَمَتِهِ وَكِبَرِ شَأْنِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَبَثًا ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ. الْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، وَقَوْلُهُ: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ كَقَوْلِهِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [22 \ 71] ، وَالسُّلْطَانُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهُوَ بِمَعْنَى: الْبُرْهَانُ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ حِسَابَهُ الَّذِي عِنْدَ رَبِّهِ، لَا فَلَاحَ لَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَأَعْظَمُ الْكَافِرِينَ كُفْرًا هُوَ مَنْ يَدْعُو مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، وَنَفْيُ الْفَلَاحِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى هَلَاكِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ مِنْ دُعَاءِ إِلَهٍ مَعَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [51 \ 51] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 88] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا مَنْ عَبَدَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ لَهُ بُرْهَانٌ بِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ ; لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ بُرْهَانٍ عَلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ آخَرَ مَعَهُ، بَلِ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ دَلِيلٌ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، كَوْنَ تَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالذِّكْرِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فَيَرِدُ النَّصُّ ذَاكِرًا لِوَصْفِ الْمُوَافِقِ لِلْوَاقِعِ لِيُطَبَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِذًا لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، بَلْ لِتَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالذِّكْرِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وَصْفٌ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِلَا بُرْهَانٍ، فَذَكَرَ الْوَصْفَ لِمُوَافَقَتِهِ الْوَاقِعَ، لَا لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [3 \ 28] ; لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ وَالُوا الْيَهُودَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَوْلُهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ذِكْرٌ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ لَا لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ، عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 الْمُؤْمِنِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، مَمْنُوعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي ذِكْرِهِ مَوَانِعَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ: أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ ... وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ، الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) . مُوَفَّقُونَ فِي دُعَائِهِمْ ذَلِكَ وَلِذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَأَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعْمُولُ اغْفِرْ وَارْحَمْ حُذِفَ هُنَا، لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [7 \ 155] وَالْمَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذُّنُوبِ بِعَفْوِ اللَّهِ وَحِلْمِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ لَهَا أَثَرٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهَا، وَالرَّحْمَةُ صِفَةُ اللَّهِ الَّتِي اشْتَقَّ لِنَفْسِهِ مِنْهَا اسْمَهُ الرَّحْمَنَ، وَاسْمَهُ الرَّحِيمَ، وَهِيَ صِفَةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي خَلْقِهِ الَّذِينَ يَرْحَمُهُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تُخَالِفُ رَحْمَةَ خَلْقِهِ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ لِذَوَاتِهِمْ، وَصِفَاتِهِمْ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [7 \ 54] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النُّورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ زَانِيَةٍ وَكُلَّ زَانٍ يَجِبُ جَلْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُمَا الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، فَالْمَوْصُولَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا لِلتَّعْرِيفِ لِتَنَاسِي الْوَصْفِيَّةِ، وَأَنَّ مُرْتَكِبَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّانِي، كَإِطْلَاقِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، فَالْعُمُومُ الشَّامِلُ لِكُلِّ زَانِيَةٍ وَكُلِّ زَانٍ، هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ شُمُولُهُ لِلْعَبْدِ، وَالْحُرِّ، وَالْأَمَةِ، وَالْحُرَّةِ، وَالْبِكْرِ، وَالْمُحْصَنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَظَاهِرُهُ أَيْضًا: أَنَّهُ لَا تُغَرَّبُ الزَّانِيَةُ، وَلَا الزَّانِي عَامًا مَعَ الْجَلْدِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ يُخَصَّصُ مَرَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: تَخْصِيصُ حُكْمِ جَلْدِهَا مِائَةً بِكَوْنِهَا حُرَّةً، أَمَّا إِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَإِنَّهَا تُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْحَرَائِرُ وَالْعَذَابُ الْجَلْدُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ الزَّانِيَةِ: مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالْأَمَةُ عَلَيْهَا نِصْفُهُ بِنَصِّ آيَةِ «النِّسَاءِ» هَذِهِ، وَهُوَ خَمْسُونَ ; فَآيَةُ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّانِيَةِ الْأُنْثَى. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ فِي آيَة ِ «النُّورِ» هَذِهِ فَهُوَ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ، بَاقِيَةِ الْحُكْمِ، تَقْتَضِي أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ هُنَا مُخَصَّصٌ بِكَوْنِهَا بِكْرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، بِمَعْنَى أَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ مِنْ قَبْلِ الزِّنَى، وَجَامَعَهَا زَوْجُهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهَا تُرْجَمُ. وَالْآيَةُ الَّتِي خَصَصَتْهَا بِهَذَا الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ، هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا يُجْمَعُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ، بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَإِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ بِدُونِ جَلْدٍ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ، وَإِنَّمَا فِي آيَةِ الرَّجْمِ زِيَادَتُهُ عَلَى الْجَلْدِ، فَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَيْرَ بَعِيدٍ وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ وَمُنَاقَشَةُ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِهِ، وَأَنَّ الَّذِي يُجْلَدُ الْمِائَةَ مِنَ الذُّكُورِ، إِنَّمَا هُوَ الزَّانِي الْبِكْرُ، وَأَمَّا الْمُحْصَنُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ فِي الذَّكَرِ أَيْضًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا فِي الْأُنْثَى. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى. وَعُمُومُ الزَّانِي فِي آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ، مُخَصَّصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى، بِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ خَاصًّا بِالزَّانِي الْحُرِّ، أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ. وَوَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ: إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ فِي تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى بِالرِّقِّ ; لِأَنَّ مَنَاطَ التَّشْطِيرِ الرِّقُّ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُدُودِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْإِمَاءِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، أَنَّ الرِّقَّ مَنَاطُ تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحُدُودِ، فَالْمُخَصِّصُ لِعُمُومِ الزَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ، هُوَ مَا أَفَادَتْهُ آيَةُ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِنْ سَمَّاهُ الْأُصُولِيُّونَ تَخْصِيصًا بِالْقِيَاسِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْصِيصُ آيَةٍ بِمَا فُهِمَ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ رَجْمَ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِحْدَاهُمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا، وَالثَّانِيَةُ: بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، أَمَّا الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ) إِلَى آخِرِهَا ; كَمَا سَيَأْتِي، وَكَوْنُ الرَّجْمِ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: فِي بَابِ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَى إِذَا أَحْصَنَتْ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، إِذْ رَجَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَفِيهِ: أَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَكَوْنُهَا لَمْ تُقْرَأْ فِي الصُّحُفِ، يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهَا، مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا ; كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى، وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَمْلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ. قَالَ سُفْيَانُ: كَذَا حَفِظْتُ: أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، فِي شَرْحِهِ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَوْ الِاعْتِرَافُ، وَقَدْ قَرَأْنَاهَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ) ، وَقَدْ رَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ قَرَأْنَاهَا إِلَى قَوْلِهِ: الْبَتَّةَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ هُوَ الَّذِي حَذَفَ ذَلِكَ عَمْدًا، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ كَرِوَايَةِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ. . .) غَيْرَ سُفْيَانَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَهِمَ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَيُونُسَ، وَمَعْمَرٍ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَعَقِيلٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ مِنَ الْحَجِّ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا بِيَدِي: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ) ، قَالَ مَالِكٌ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ: الثَّيِّبُ وَالثَّيِّبَةُ. وَوَقَعَ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ: لَكَتَبْتُهَا فِي آخِرِ الْقُرْآنِ. وَوَقَعَتْ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَالَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: قَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا: كَتَبَ عُمَرُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، لَكَتَبْتُهُ قَدْ قَرَأْنَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . وَأَخْرَجَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: وَلَقَدْ كَانَ فِيهَا، أَيْ سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، آيَةُ الرَّجْمِ: (الشَّيْخُ) ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ» مِثْلَهُ، إِلَى قَوْلِهِ: «الْبَتَّةَ» . وَمِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: لَقَدْ أَقْرَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةَ الرَّجْمِ، فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ: «الْبَتَّةَ» ، وَزَادَ «بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِزَيْدٍ: أَلَا تَكْتُبْهَا فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: لَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّابَّيْنِ الثَّيِّبَيْنِ يُرْجَمَانِ وَلَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَكْفِيكُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَكْتِبْنِي آيَةَ الرَّجْمِ، فَقَالَ: «لَا أَسْتَطِيعُ» . وَرُوِّينَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِابْنِ الضُّرَيْسِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى وَهُوَ ابْنُ حَكِيمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: لَا تَشُكُّوا فِي الرَّجْمِ فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَهُ فِي الْمُصْحَفِ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَتَيْتَنِي، وَأَنَا أَسْتَقْرِئُهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَدَفَعْتَ فِي صَدْرِي، وَقُلْتَ: اسْتَقْرِئْهُ آيَةَ الرَّجْمِ، وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الْحُمُرِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي رَفْعِ تِلَاوَتِهَا، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ يَكْتُبَانِ فِي الْمُصْحَفِ، فَمَرَّا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ زَيْدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» ، فَقَالَ عُمَرُ: لَمَّا نَزَلَتْ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُلْتُ: أَكْتُبُهَا؟ فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ إِذَا زَنَى، وَلَمْ يُحْصِنْ جُلِدَ، وَأَنَّ الشَّابَّ إِذَا زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ رُجِمَ. فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ السَّبَبُ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا لِكَوْنِ الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ عُمُومِهَا، انْتَهَى بِطُولِهِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ، بَاقِيَةُ الْحُكْمِ، وَأَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ لِآيَةِ الْجَلْدِ، عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلَدِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَكِنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ اسْتِفَادَةِ سَبَبِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْصِيصَ عُمُومِهِ، وَيُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْآيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِهَا تَكُونُ لَهَا أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالتَّعَبُّدِ بِتِلَاوَتِهَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 وَكَالْعَمَلِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهَا بِحِكْمَتِهِ فَتَارَةً يَنْسَخُ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا مِنْ تِلَاوَةٍ، وَتَعَبُّدٍ، وَعَمَلٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ كَآيَةِ عَشْرِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، وَتَارَةً يَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِهَا دُونَ بَعْضٍ، كَنَسْخِ حُكْمِ تِلَاوَتِهَا وَالتَّعَبُّدِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَنَسْخِ حُكْمِهَا دُونَ تِلَاوَتِهَا، وَالتَّعَبُّدِ بِهَا كَمَا هُوَ غَالِبُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ النَّسْخِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَتِهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الْآيَةَ [16 \ 101] ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ. فَآيَةُ الرَّجْمِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِثْبَاتُ حُكْمِهَا، لَا التَّعَبُّدُ بِهَا، وَلَا تِلَاوَتُهَا، فَأُنْزِلَتْ وَقَرَأَهَا النَّاسُ، وَفَهِمُوا مِنْهَا حُكْمَ الرَّجْمِ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ نَسَخَ اللَّهُ تِلَاوَتَهَا، وَالتَّعَبُّدَ بِهَا، وَأَبْقَى حُكْمَهَا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ. فَالرَّجْمُ ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ بَاقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا فَصَارَ حُكْمُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخُطَّابِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ، اهـ مِنْهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، عَنْ هَذَا الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، دَلِيلٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 اللَّهِ، أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَرَأَهَا الصَّحَابَةُ، وَوَعَوْهَا، وَعَقَلُوهَا وَأَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَعَلُوهُ بَعْدَهُ. فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا شَكَّ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهَا لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي هِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [3 \ 23] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِصَّةُ رَجْمِهِ لَهُمَا مَشْهُورَةٌ، ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ: عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ، وَذَمُّ الْمُعْرِضِ عَنِ الرَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا، وَهِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْ زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ. وَمَعْنَى الْإِحْصَانِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ جَامَعَ فِي عُمْرِهِ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ حُرٌّ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، وَالرَّشِيدُ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَقِصَّةُ رَجْمِهِمَا مَشْهُورَةٌ مَعَ صِحَّتِهَا ; كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الْفَرْعُ الثَّانِي: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ يُرْجَمُ، وَلَمْ نَعْلَمْ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ خَالَفَ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ، وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ كَالنَّظَّامِ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالرَّجْمِ، وَبُطْلَانُ مَذْهَبِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَاضِحٌ مِنَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ بَعْدَهُ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 أَنَّهُمْ رَأَوْهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَنَّهُ يَجِبُ رَجْمُهُ إِذَا كَانَ مُحْصَنًا، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ بَيِّنَةَ الزِّنَى، لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ عُدُولٍ ذُكُورٍ، فَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ عُدُولٍ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَحُدُّوا ; لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ كَاذِبُونَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [24 \ 4] ، وَيَقُولُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ الْآيَةَ [4 \ 15] ، وَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الشُّهُودَ فِي الزِّنَى، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَقَدْ قَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [24 \ 13] ، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعَةِ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَزَادَتْ أَنَّ الْقَاذِفِينَ إِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ هُمُ الْكَاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ. وَمَنْ كَذَبَ فِي دَعْوَاهُ الزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ أَوْ مُحْصَنَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ; كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ شُهُودَ الزِّنَى، إِذَا لَمْ يَكْمُلُوا لَا حَدَّ قَذْفٍ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شُهُودٌ لَا قَذَفَةٌ، لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَإِنَّ رَابِعَهُمْ لَمَّا لَمْ يُصَرِّحْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَى، جَلَدَ عُمَرُ الشُّهُودَ الثَّلَاثَةَ جَلْدَ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْعَبِيدَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي الزِّنَى، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ فِي الزِّنَى، إِلَّا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ لَيْسَتْ هِيَ مَذْهَبُهُ وَإِلَّا قَوْلَ أَبِي ثَوْرٍ. وَيُشْتَرَطُ فِي شُهُودِ الزِّنَى أَنْ يَكُونُوا ذُكُورًا وَلَا تَصِحُّ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، إِلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَحَمَّادٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ; وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةً لِتَطَرُّقِ الضَّلَالِ إِلَيْهِنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ كَالذِّمِّيِّينَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالزِّنَى. وَاخْتُلِفَ هَلْ تُقْبَلُ عَلَى كَافِرٍ مِثْلِهِ؟ فَقِيلَ: لَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا رَجَمَ الْيَهُودِيِّينَ بِاعْتِرَافِهِمَا بِالزِّنَى، لَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ مِنَ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ بِالزِّنَى، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ زَعَمُوا أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ مُسْلِمِينَ، يَشْهَدُونَ عَلَى اعْتِرَافِ الْيَهُودِيَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِالزِّنَى، وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا عَلَى كَافِرٍ لَا فِي حَدٍّ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي ذَلِكَ، وَقَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ، وَاسْتَثْنَى أَحْمَدُ حَالَةَ السَّفَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ. وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ عَنْ وَاقِعَةِ الْيَهُودِيَّيْنِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَّذَ عَلَيْهِمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ، وَأَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ بِهِ ظَاهِرًا لِتَحْرِيفِهِمْ كِتَابَهُمْ، وَتَغْيِيرِهِمْ حُكْمَهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورَ، كَذَا قَالَ: وَالثَّانِي مَرْدُودٌ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَجَمَهُمَا بِالِاعْتِرَافِ، فَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ جَابِرٍ فَلَعَلَّ الشُّهُودَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَلَا عِبْرَةَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالزِّنَى. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قُلْتُ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ بَقِيَّةَ الْيَهُودِ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامَهُمْ، وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهِمَا إِلَّا مُسْتَنِدًا لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَحَكَمَ بِالْوَحْيِ، وَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ بَيْنَهُمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا [12 \ 26] ، وَأَنَّ شُهُودَهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا عِنْدَ إِخْبَارِهِمْ بِمَا ذَكَرَ، فَلَمَّا رَفَعُوا الْأَمْرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْلَمَ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهِهَا فَذَكَرَ كُلُّ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الرُّوَاةِ مَا حَفِظَهُ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ حُكْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ، هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْفَاسِقِينَ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [24 \ 4] ، وَإِذَا نَصَّ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى بِذَلِكَ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ قَالَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي شُهُودِ الزِّنَا، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [4 \ 15] ، فَخَصَّ الْأَرْبَعَةَ بِكَوْنِهِمْ مِنَّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ الْمَانِعَ بِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ فِيهِ مِنْ نِسَائِكُمْ، فَلَا نَتَنَاوَلُ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كَافِرٍ فِي شَيْءٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ كَالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ الْآيَةَ [5 \ 106] . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ نَسْخُ حُكْمِهِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي زَعَمَ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا ; كَقَوْلِهِ: ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [4 \ 282] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [24 \ 4] . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَنْسَخُ الْأَخَصَّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ قَبُولُ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَدِّ الزِّنَى، فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ مُجَالِدٌ: أَخْبَرَنَا عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ» ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّهُودِ، فَجَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِهِمَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَظَاهِرُ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ: أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا مِنَ الْيَهُودِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ دَالٌّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي حَدِّ الزِّنَى، إِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَالسَّنَدُ الْمَذْكُورُ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ أَبُو دَاوُدَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ فِيهِ مُجَالِدًا وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ بِسِطَامِ بْنِ ذِي مِرَانِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيُّ أَبُو عَمْرٍو، وَيُقَالُ أَبُو سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَالْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، إِنَّمَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، إِنَّهُ صَدُوقٌ، وَلَا بِتَوْثِيقِ النَّسَائِيِّ لَهُ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ ضَعَّفَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا بِقَوْلِ ابْنِ عَدِيٍّ: أَنَّ لَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ أَحَادِيثَ صَالِحَةً ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، أَمَّا غَيْرُ مُجَالِدٍ مِنْ رِجَالِ سَنَدِ أَبِي دَاوُدَ فَهُمْ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ ; لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ مُوسَى الْبَلْخِيَّ ثِقَةٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ الْقُرَشِيُّ مَوْلَاهُمْ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، رُبَّمَا دَلَّسَ وَكَانَ بِآخِرَةٍ يُحَدِّثُ مِنْ كُتُبِ غَيْرِهِ، وَعَامِرٌ الَّذِي رَوَى عَنْ مُجَالِدٍ هُوَ الْإِمَامُ الشَّعْبِيُّ، وَجَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّنَدِ الَّذِي فِيهِ مُجَالِدٌ الْمَذْكُورُ، لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَنْ عُمُومِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِشَهَادَةِ شُهُودِ الزِّنَا، وَعَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا فِي مَجْلِسَيْنِ أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ، وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ تَصِحُّ شَهَادَتُهُمْ وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَأَدَّوْا شَهَادَتَهُمْ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ: الشَّافِعِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنَّمَا قَالُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [24 \ 13] ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [4 \ 15] ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٍ، إِنِ اتَّفَقَتْ تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَلَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ، وَنَافِعًا، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ شَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ فَحُدَّ الثَّلَاثَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحِدَّهُمْ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكْمُلُوا بِرَابِعٍ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ فَحَدَّهُمْ، ثُمَّ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَكَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الشَّهَادَاتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلشُّرُوطِ، وَلِهَذَا لَمْ تُذْكَرِ الْعَدَالَةُ، وَصِفَةُ الزِّنَى ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ [24 \ 4] ، لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ أَوْ مُقَيَّدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ جَلْدِهِمْ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ زَمَنٍ إِلَّا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، أَوْ بِكَمَالِهِمْ إِنْ كَانَ قَدْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ فَيَمْتَنِعُ جَلْدُهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَيَكُونُ تَنَاقُضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ فَأَوْلَى مَا قُيِّدَ بِهِ الْمَجْلِسُ ; لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَ مَجِيئِهِمْ وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَهُمْ قَذَفَةٌ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي مَجِيئِهِمْ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، كَالَّذِينِ لَمْ يَشْهَدُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَنَا قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا. وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ آخَرُ يَشْهَدُ أَكُنْتَ تَرْجُمَهُ؟ قَالَ عُمَرُ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَلِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَشْبَهَ مَا لَوْ جَاءُوا وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا تَفَرَّقُوا فِي مَجَالِسَ فَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ ; لِأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالزِّنَى، وَلَمْ يُكْمِلِ الشَّهَادَةَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [24 \ 4] ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» لِابْنِ قُدَامَةَ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِشَهَادَةِ شُهُودِ الزِّنَى، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا هُوَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ، وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَى، فَإِبْطَالُهَا مَعَ كَوْنِهِمْ أَرْبَعَةً بِدَعْوَى عَدَمِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ إِبْطَالٌ لِشَهَادَةِ الْعُدُولِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُقْنِعٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَمَا وَجَّهَ مِنَ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ قَوْلُهُ بِهِ لَا يَتَّجِهُ كُلَّ الِاتِّجَاهِ، فَإِنْ قَالَ: الشُّهُودُ مَعَنَا مَنْ يَشْهَدُ مِثْلَ شَهَادَتِنَا، انْتَظَرَهُ الْإِمَامُ، وَقَبِلَ شَهَادَتَهُ فَإِنْ لَمْ يَدْعُو زِيَادَةَ شُهُودٍ وَلَا عَلِمَ الْحَاكِمُ بِشَاهِدٍ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، لِعَدَمِ كَمَالِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 شَهَادَتِهِمْ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا مِنْ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى أَدَاءِ شُهُودِ الزِّنَى شَهَادَتُهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَنْ يَكُونُوا شَاهِدَيْنِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَلَوِ اجْتَمَعُوا وَنَظَرَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ; لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوَطْءِ وَأَنْ يَكُونَ الزَّانِي نَزَعَ فَرْجَهُ مِنْ فَرْجِهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ الْأَوَّلِ، وَرَأَى الثَّانِي إِيلَاجًا آخَرَ غَيْرَ الْإِيلَاجِ الَّذِي رَآهُ مَنْ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ، وَمَتَى لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا: وُجُوبُ تَفْرِقَتِهِمْ، أَعْنِي شُهُودَ الزِّنَى خَاصَّةً، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الشُّهُودِ. وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهِمْ مُجْتَمِعِينَ، فَإِذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ حَضْرَةِ الْآخَرِينَ، وَيَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَنَّهُ رَآهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ أَوْلَجَهُ فِيهِ، وَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ زِيَادَةٍ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَنَحْوِهِ، وَيَجُوزُ لِلشُّهُودِ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الزَّانِيَيْنِ، لِيُمْكِنَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ وَسِيلَةُ إِقَامَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَمَحَلُّ هَذَا إِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً، فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الزَّانِي إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي شَهَادَتِهِمْ ; وَلِأَنَّهُمْ يُجْلَدُونَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَاتِ الزُّنَاةِ، وَلَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً، لِمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ مِنَ اسْتِحْسَانِ السَّتْرِ، وَيُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُؤَالُ الشُّهُودِ فِي الزِّنَى عَمَّا لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ، كَأَنْ يَقُولَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ بِانْفِرَادِهِ دُونَ حَضْرَةِ الْآخَرِينَ: عَلَى أَيِّ حَالٍ رَأَيْتَهُمَا وَقْتَ زِنَاهُمَا، وَهَلْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْمَنِ، أَوِ الْأَيْسَرِ، أَوْ عَلَى بَطْنِهَا، أَوْ عَلَى قَفَاهَا، وَفِي أَيِّ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: كَانَتْ عَلَى قَفَاهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: كَانَتْ عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ ; لِدَلَالَةِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى كَذِبِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَفُوا فِي جَانِبِ الْبَيْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الزِّنَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ أَحْوَطُ فِي الدَّفْعِ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 صَادِقِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ عُلِمَ كَذِبُهُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِتَفْرِقَةِ شُهُودِ الزِّنَى، وَسُؤَالِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ وَدَاوُدَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ، أَنَّهَا زَنَتْ بِكَلْبِهَا فَرَجَمَهَا دَاوُدُ فَجَاءَ سُلَيْمَانُ بِالصِّبْيَانِ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ شُهُودًا، وَفَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ الْكَلْبِ الَّذِي زَنَتْ بِهِ، فَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِلَوْنٍ غَيْرِ اللَّوْنِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْآخَرُ، فَأَرْسَلَ دَاوُدُ لِلشُّهُودِ، وَفَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ الْكَلْبِ الَّذِي زَنَتْ بِهِ، فَاخْتَلَفُوا فِي لَوْنِهِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ يَثْبُتُ بِهِ الْجَلْدُ فَطَرِيقُ ثُبُوتِهِمَا مُتَّحِدَةٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَا يَخْفَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ، أَوْ شَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى فِي بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ فِيهِ صَاحِبَاهُمَا، أَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الزِّنَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُمْ أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا بِالزِّنَى، أَوْ لَا تُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ أَرْبَعَةٌ عَلَى زِنًى وَاحِدٍ، فَكُلُّ زِنًى شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ، وَلَا يَثْبُتُ زِنًى بِاثْنَيْنِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : الْجَمِيعُ قَذَفَةٌ وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُمْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً، وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ أَرْبَعَةً عَلَى زِنًى وَاحِدٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِالشَّهَادَةِ اثْنَانِ وَحْدَهُمَا، فَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَحَكَاهُ قَوْلًا لِأَحْمَدَ، وَهَذَا بِعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ زِنًى وَاحِدٌ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ ; وَلِأَنَّ جَمِيعَ مَا تُعْتَبَرُ لَهُ الْبَيِّنَةُ يُعْتَبَرُ فِيهِ كَمَالُهَا فِي حَقٍّ وَاحِدٍ، فَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهِ وَيُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ; وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بَيْضَاءَ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِسَوْدَاءَ فَهُمْ قَذَفَةٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْهُ وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ، انْتَهَى مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْهُ أُخْرَى، وَكَانَتِ الزَّاوِيَتَانِ مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْبَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانَتَا مُتَقَارِبَتَيْنِ كَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تَكْمُلْ، وَلِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْبَيْتَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ، سَوَاءٌ تَقَارَبَتِ الزَّاوِيَتَانِ، أَوْ تَبَاعَدَتَا، وَلَنَا أَنَّهُمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 إِذَا تَقَارَبَتَا أَمْكَنَ صِدْقُ الشُّهُودِ، بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي إِحْدَاهُمَا وَتَمَامُهُ فِي الْأُخْرَى أَوْ يَنْسُبُهُ كُلُّ اثْنَيْنِ إِلَى إِحْدَى الزَّاوِيَتَيْنِ لِقُرْبِهِ مِنْهَا فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ كَمَا لَوِ اتَّفَقُوا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتَا مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ فِعْلًا وَاحِدًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ فِعْلَيْنِ، فَلِمَ أَوْجَبْتُمُ الْحَدَّ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِشُبْهَةٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوِ اتَّفَقُوا عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ هَذَا يُحْتَمَلُ فِيهِ وَالْحَدُّ وَاجِبٌ، وَالْقَوْلُ فِي الزَّمَانِ كَالْقَوْلِ فِي هَذَا، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ مُتَبَاعِدٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِهِ، كَطَرَفَيِ النَّهَارِ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ، وَمَتَى تَقَارَبَا كَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ رَأَيْتَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَكْمُلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا إِذَا شَهِدُوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانٍ مُتَّحِدٍ وَوَقْتٍ مُتَّحِدٍ ; فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ حُدُّوا ; لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ عُدُولٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ بِتَلْفِيقِ شَهَادَتِهِمْ، وَضَمِّ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى شَهَادَةِ بَعْضٍ لَا يَظْهَرُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ زَادُوا أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى إِيلَاجٍ مُتَّحِدٍ، فَلَوْ نَظَرُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مَعَ اتِّحَادِ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَنْظُرُوا فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا نَظْرَةً وَاحِدَةً فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَهُ وَجْهٌ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: إِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَبْيَضَ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَحْمَرَ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ كَتَّانٍ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ خَزٍّ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ أَوْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ ; لِأَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا تُخَالِفُ شَهَادَتُهُمَا شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ قَائِلًا: إِنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ فَذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ أَحَدَ الْقَمِيصَيْنِ، وَتَرَكَا ذِكْرَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ صَادِقِينَ ; لِأَنَّ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ هَذَانِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ذَانِكَ كَعَكْسِهِ، فَلَا تَنَافِيَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا هِيَ قَمِيصٌ أَحْمَرُ، وَعَلَيْهِ هُوَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ كَعَكْسِهِ، أَوْ عَلَيْهِ هُوَ ثَوْبُ كَتَّانٍ، وَعَلَيْهَا هِيَ ثَوْبُ خَزٍّ كَعَكْسِهِ، فَيُمْكِنُ صِدْقُ الْجَمِيعِ ; وَإِذَا أَمْكَنَ صِدْقُهُمْ فَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 وَجْهَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِمْ، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مُوَجِّهًا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ هُوَ وُجُوبُ اسْتِفْسَارِ الشُّهُودِ، فَإِنْ جَزَمَ اثْنَانِ بِأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَاحِدًا أَحْمَرَ، وَجَزَمَ الْآخَرَانِ أَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَاحِدًا أَبْيَضَ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ لِتَنَافِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ مَثَلًا أَحَدُهُمَا أَحْمَرُ، وَالثَّانِي أَبْيَضُ، وَذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ ; لِاتِّفَاقِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِفْسَارُ الشُّهُودِ لِمَوْتِهِمْ، أَوْ غَيْبَتِهِمْ غَيْبَةً يَتَعَذَّرُ مَعَهَا سُؤَالُهُمْ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي عَدَمُ كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ ; لِاحْتِمَالِ تَخَالُفِ شَهَادَتِهِمَا، وَمُطْلَقُ احْتِمَالِ اتِّفَاقِهِمَا لَا يَكْفِي فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ ; لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يُقَامُ بِشَهَادَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْبُطْلَانِ، بَلِ الظَّاهِرُ مِنَ الصِّيغَةِ اخْتِلَافُ الشَّهَادَتَيْنِ وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ لَازِمٌ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. أَمَّا فِي الشَّهَادَةِ الْمُحْتَمَلَةِ فَإِنَّهُ قَبْلَ إِمْكَانِ اسْتِفْسَارِهِمْ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ حَدِّهِمْ وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِفْسَارُهُمْ، فَإِنْ فَسَّرُوا، بِمَا يَقْتَضِي كَمَالَ شَهَادَتِهِمْ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ فَسَّرُوا بِمَا يُوجِبُ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ; كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّابِعُ: إِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ وَالشُّهُودِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَفِي الرَّجُلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمُطَاوِعَةِ غَيْرُ فِعْلِ الْمُكْرَهَةِ، وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ مِنْهُمَا يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، أَوْ يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ فِعْلَيْنِ تَكُونُ مُطَاوِعَةً فِي أَحَدِهِمَا، مُكْرَهَةً فِي الْآخَرِ، وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّهَادَةِ كَامِلَةً عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيِ الْمُطَاوَعَةِ قَاذِفَانِ لَهَا، وَلَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى غَيْرِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَوَجْهٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ كَمُلَتْ عَلَى وُجُودِ الزِّنَى مِنْهُ، وَاخْتِلَافُهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِهَا لَا فِي فِعْلِهِ، فَلَا يَمْنَعُ كَمَالَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. وَفِي الشُّهُودِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى الرَّجُلِ بِشَهَادَتِهِمْ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِمُ الْحَدُّ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَى، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ فَلَزِمَهُمُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَاهِدَيِ الْمُطَاوِعَةِ، لِأَنَّهُمَا قَذَفَا الْمَرْأَةَ بِالزِّنَى، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا تَجِبُ عَلَى شَاهِدَيِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقْذِفَا الْمَرْأَةَ، وَقَدْ كَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ رَأَيْتُ خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ عِنْدِي فِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّ عَلَى الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا نَفْيُ الْحَدِّ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ عَلَيْهَا شَهَادَةٌ بِالزِّنَى، وَأَمَّا نَفْيُ الْحَدِّ عَنِ الرَّجُلِ ; فَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ بِالْمُطَاوَعَةِ يُكَذِّبَانِ الشَّاهِدَيْنِ بِالْإِكْرَاهِ كَعَكْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْفِعْلُ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ تَكْمُلْ عَلَى الرَّجُلِ شَهَادَةٌ عَلَى حَالَةِ زِنًى وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالطَّوْعَ أَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ، وَإِذَا لَمْ تَكْمُلْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَدَمُ حَدِّهِ هُوَ الْأَظْهَرُ، أَمَّا وَجْهُ حَدِّ الشُّهُودِ، فَلِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِأَنَّهَا زَنَتْ مُطَاوِعَةً لِلرَّجُلِ قَاذِفَانِ لَهَا بِالزِّنَى، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهَا فَحَدُّهُمَا لِقَذْفِهِمَا الْمَرْأَةَ ظَاهِرٌ جِدًّا ; وَلِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ بِأَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً قَاذِفَانِ لِلرَّجُلِ بِأَنَّهُ أَكْرَهَهَا فَزَنَى بِهَا، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ ; لِأَنَّ شَاهِدَيِ الطَّوْعِ مُكَذِّبَانِ لَهُمَا فِي دَعْوَاهُمَا الْإِكْرَاهَ فَحَدُّهُمَا لِقَذْفِهِمَا لِلرَّجُلِ وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، أَمَّا كَوْنُ الْأَرْبَعَةِ قَدِ اتَّفَقَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ زَنَى بِهَا، فَيَرُدُّهُ أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الزِّنَى، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ يَثْبُتُ بِهِ الْجَلْدُ عَلَى الْبِكْرِ، فَثُبُوتُ الْأَمْرَيْنِ طَرِيقُهُ وَاحِدَةٌ. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةُ عُدُولٍ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَنَتْ وَتَمَّتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، فَقَالَتْ إِنَّهَا عَذْرَاءُ، لَمْ تَزُلْ بَكَارَتُهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ مَعْرُوفَاتٌ بِالْعَدَالَةِ، وَشَهِدْنَ بِأَنَّهَا عَذْرَاءُ لَمْ تُزَلْ بَكَارَتُهَا بِمُزِيلٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ تَدْرَأُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَنْهَا الْحَدَّ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا يُلْتَفَتُ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَعِبَارَةُ الْمُدَوَّنَةِ فِي ذَلِكَ: إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَى أَرْبَعَةُ عُدُولٍ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا عَذْرَاءُ وَنَظَرَ إِلَيْهَا النِّسَاءُ، وَصَدَّقْنَهَا لَمْ يُنْظَرْ إِلَى قَوْلِهِنَّ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَبِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِبَكَارَتِهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ بِبَكَارَتِهَا تَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ بِأَنَّهَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، هُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى زِنَاهَا تَمَّتْ بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وَأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ، فَلَا تَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِنَّ شَهَادَةُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا بِالزِّنَى، وَوَجْهُ قَوْلِ الْآخَرَيْنِ بِأَنَّهَا لَا تُحَدُّ هُوَ أَنَّ بَكَارَتَهَا ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَوُجُودُ الْبَكَارَةِ مَانِعٌ مِنَ الزِّنَى ظَاهِرًا ; لِأَنَّ الزِّنَى لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، لِأَنَّ الْبِكْرَ هِيَ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ فِي قُبُلِهَا، وَإِذَا انْتَفَى الزِّنَى لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ الزِّنَى مَجْبُوبٌ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَيَجِبُ أَنْ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهَا مَقْبُولَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، يَعْنِي الْبَكَارَةَ الْمَذْكُورَةَ، انْتَهَى، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالزِّنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ لِتَمَامِ شَهَادَتِهِمْ وَهِيَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ بِالْبَكَارَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لِكَمَالِ عِدَّتِهِمْ، مَعَ احْتِمَالِ صِدْقِهِمْ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا، ثُمَّ عَادَتْ عُذْرَتُهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، وَأَمَّا إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مَجْبُوبٌ، أَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى فَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا رَتْقَاءُ، فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى بَيِّنَةِ الزِّنَى، لِظُهُورِ كَذِبِهَا ; لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ مِنَ الرِّجَالِ وَالرَّتْقَاءَ مِنَ النِّسَاءِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُ الزِّنَى مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى، وَوُجُوبِ الْحَدِّ رَجْمًا كَانَ أَوْ جَلْدًا بِإِقْرَارِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ يَثْبُتُ الزِّنَى بِإِقْرَارِ الزَّانِي مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ لَا يَكْفِي ذَلِكَ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا إِذَا أَقَرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، وَلَا تَكْفِي عِنْدَهُمَا الْإِقْرَارَاتُ الْأَرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الزِّنَى يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً. أَمَّا حُجَجُ مَنْ قَالَ يَكْفِي الْإِقْرَارُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُنَيْسٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُجِمَتْ، قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ظَاهِرٌ ظُهُورًا وَاضِحًا فِي أَنَّ الزِّنَى يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، ظَاهِرٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالِاعْتِرَافِ مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ لَوْ كَانَ الِاعْتِرَافُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَا بُدَّ مِنْهُ لَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَارْجُمْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالِاعْتِرَافِ بِالزِّنَى مَرَّةً وَاحِدَةً مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِيَّهَا فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا» ، فَفَعَلَ فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى» ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَرَ بِرَجْمِهَا بِإِقْرَارِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِرَجْمِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِلَّا إِقْرَارُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ الَّتِي جَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَأَنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، فَقَالَ: «أَمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي» ، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ» ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجْرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: «مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِإِقْرَارِ الزَّانِي بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ شَرْطًا فِي لُزُومِ الْحَدِّ لَقَالَ لَهَا إِنَّمَا رَدَدْتُهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُقِرَّ أَرْبَعًا. وَقَدْ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» ، بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ: وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَرْبِيعَ الْإِقْرَارِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّصْرِيحِ فِيهَا، بِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ قَضِيَّةِ مَاعِزٍ، وَقَدِ اكْتَفَى فِيهَا بِدُونِ أَرْبَعٍ كَمَا سَيَأْتِي، اهـ مِنْهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، مَا نَصُّهُ: قَالَ: ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ» ، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ «: آنْتِ» ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا «: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ» ، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ «: إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ» ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا، اهـ مِنْهُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ تَكَرُّرِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا أَرْبَعًا، وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالُوا: يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، أَنْ يُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا، فَهِيَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، يُرِيدُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 نَفْسَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ لِشِقِّ وَجْهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ «: أَبِكَ جُنُونٌ» ؟ قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فَقَالَ «: أَحْصَنْتَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: اذْهَبُوا فَارْجُمُوهُ» ، الْحَدِيثَ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ «: أَبِكَ جُنُونٌ» ؟ قَالَ: لَا، قَالَ «: فَهَلْ أَحْصَنْتَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» اهـ. قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ تَرْتِيبُ الرَّجْمِ عَلَى أَرْبَعِ شَهَادَاتٍ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ: أَرْبَعُ إِقْرَارَاتٍ بِصِيغَةِ تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ ; لِأَنَّ لَمَّا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَتَرْتِيبُ الْحَدِّ عَلَى الْأَرْبَعِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ، دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ، وَالرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ، وَفِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ، حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ; كَمَا رَأَيْتَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ، وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ، لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَوَجْهُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ هُوَ حَمْلُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا التَّرَاخِي، عَنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ صُدُورِ الْإِقْرَارِ مَرَّةً عَلَى مَنْ كَانَ أَمْرُهُ مُلْتَبِسًا فِي صِحَّةِ عَقْلِهِ، وَاخْتِلَالِهِ، وَفِي سُكْرِهِ، وَصَحْوِهِ مِنَ السُّكْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَمْلُ أَحَادِيثِ إِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى مَنْ عُرِفَتْ صِحَّةُ عَقْلِهِ وَصَحْوُهُ مِنَ السُّكْرِ، وَسَلَامَةُ إِقْرَارِهِ مِنَ الْمُبْطِلَاتِ، وَهَذَا الْجَمْعُ رَجَّحَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» . وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ كُلِّهَا فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ حَدِيثِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدْرِي أَمْجَنُونٌ هُوَ أَمْ لَا؟ صَاحٍ هُوَ أَوْ سَكْرَانُ؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا «: أَبِكَ جُنُونٌ» ؟ وَسُؤَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمِهِ عَنْ عَقْلِهِ، وَسُؤَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: أَشَرِبَ خَمْرًا» ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، وَكُلُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ اشْتِرَاطُ التَّصْرِيحِ بِمُوجِبِ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ الزِّنَى تَصْرِيحًا يَنْفِي كُلَّ احْتِمَالٍ ; لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يُطْلِقُ اسْمَ الزِّنَى عَلَى مَا لَيْسَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَاعِزٍ لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ زَنَى، «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ» ؟ قَالَ: لَا، قَالَ «: أَفَنِكْتَهَا» ؟ - لَا يُكَنِّي -، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ لِلزَّانِي بِأَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فَإِنَّهُ غَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَمَّتْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ بِالزِّنَى فَصَدَّقَهُمُ الزَّانِي الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى مَرَّةً وَاحِدَةً فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ تَامَّةً، وَالْإِقْرَارُ غَيْرَ تَامٍّ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ أَرْبَعًا. فَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَيْهِ لِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَيِّنَةِ الْإِنْكَارُ، وَهَذَا غَيْرُ مُنْكِرٍ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : إِنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَّتْ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَلَا يَنْفَعُهُ الرُّجُوعُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، فَلَا حَاجَةَ لِإِقْرَارِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي رُجُوعِهِ عَنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِزِنًى قَدِيمٍ قَبْلَ إِقْرَارِهِ، وَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ إِلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ اعْتِبَارُ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَقَادَمَ عَهْدُهُ، أَوْ لَمْ يَتَقَادَمْ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَلَوْ لَمْ تُشْهَدْ إِلَّا بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ ; لِأَنَّ عُمُومَ النُّصُوصِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ تَعْجِيلِ الشَّهَادَةِ وَتَأْخِيرِهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِقْرَارَ يُقْبَلُ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ مَعَ التَّأْخِيرِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًى قَدِيمٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ وَجَبَ الْحَدُّ، وَبِهَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاسِحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيقَةَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًى قَدِيمٍ وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، اهـ مِنْهُ. أَمَّا قَبُولُ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا الْقَدِيمِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ بِحَالٍ ; لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ بِزِنًا قَدِيمٍ، فَالْأَظْهَرُ قَبُولُهَا، لِعُمُومِ النُّصُوصِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنًا قَدِيمٍ، هُوَ أَنَّ تَأْخِيرَ الشَّهَادَةِ، يَدُلُّ عَلَى التُّهْمَةِ فَيَدْرَأُ ذَلِكَ الْحَدَّ. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَمِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ فَهُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الْحَسَنُ مُرْسَلًا، وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ، اهـ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَسَمَّاهَا فَكَذَّبَتْهُ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَزْنِ بِهَا. فَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى بِإِقْرَارِهِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَذَفَ الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ خِلَافُهُ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا إِقْرَارًا صَحِيحًا، وَقَوْلُهُمْ إِنَّنَا صَدَّقْنَاهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ نَحْنُ لَمْ نُصَدِّقْهَا، وَلَمْ نَقُلْ إِنَّهَا صَادِقَةٌ، وَلَكِنَّ انْتِفَاءَ الْحَدِّ عَنْهَا إِنَّمَا وَقَعَ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ، وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ ; فَعَدَمُ حَدِّهَا لِانْتِفَاءِ مُقْتَضِيهِ، لَا لِأَنَّهَا صَادِقَةٌ كَمَا تَرَى. الْأَمْرُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 ثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَفْصٍ، ثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ سَمَّاهَا لَهُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَرْأَةِ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ فَجَلَدَهُ الْحَدَّ وَتَرَكَهَا، اهـ مِنْهُ، وَعَبْدُ السَّلَامِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَوْثِيقُهُ لَهُ أُولَى مِنْ قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ; لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُقِرَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا لَا نِزَاعَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يُحَدُّ مَعَ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، الْآيَةَ [24 \ 4] وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ النُّصُوصِ وَاجِبٌ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُخَصِّصٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَكَوْنُ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ حَدَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ حَدَّ الْقَذْفِ، بَلْ حَدَّ الزِّنَا فَقَطْ لَا يُعَارَضُ بِهِ عُمُومُ النُّصُوصِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَحَدُّهُ لِلزِّنَا وَالْقَذْفِ مَعًا هُوَ الظَّاهِرُ، لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ غَايَةَ مَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحُدَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لِلْقَذْفِ وَذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى السُّقُوطِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الطَّلَبِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ لِوُجُودِ مُسْقِطٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْقَذْفِ الْعُمُومُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ صَدَقَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنَّهُ قَاذِفٌ، اهـ مِنْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ عَيَّنَ الْجَارِيَةَ الَّتِي زَنَا بِهَا، وَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَذْفِهَا بَلْ حَدَّهُ لِلزِّنَا فَقَطْ، فَإِنَّ تَرْكَ حَدِّهِ لَمْ يُوَجَّهْ بِمَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَنْ قَالَ: زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، وَقَاذِفٌ لَهَا هِيَ بِهِ، وَظَاهِرُ النُّصُوصِ مُؤَاخَذَتُهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَحَدُّهُ أَيْضًا حَدَّ الْقَذْفِ ; لِأَنَّهُ قَاذِفٌ بِلَا شَكٍّ، كَمَا تَرَى. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، ثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْبَرْدِيُّ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ فَيَّاضٍ الْأَبْنَاوِيِّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 عَنْ خَلَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَجَلَدَهُ مِائَةً وَكَانَ بِكْرًا، ثُمَّ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَقَالَتْ: كَذَبَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ، اهـ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ الْقَاسِمَ بْنَ فَيَّاضٍ الْأَبْنَاوِيَّ الصَّنْعَانِيَّ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: مَجْهُولٌ، وَقَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي «الْمِيزَانِ» : ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبَّاسٌ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَاسِمَ الْمَذْكُورَ قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ: ثِقَةٌ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، وَالتَّعْدِيلِ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، وَالتَّجْرِيحُ لَا يُقْبَلُ مُجْمَلًا، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الَّذِي فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِّ الْقَذْفِ، وَحَدِّ الزِّنَا إِنْ قَالَ: أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ عَيَّنَهَا فَأَنْكَرَتْ، مُعْتَضِدٌ اعْتِضَادًا قَوِيًّا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَى، فَأَنْكَرَتْ وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَحَدَّ الزِّنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يُحَدُّ حَدُّ الزِّنَا فَقَطْ، كَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلِمَنْ قَالَ: يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ، فَقَالَتْ لَهُ: زَنَيْتُ بِكَ أَنَّهَا تُحَدُّ لِلْقَذْفِ وَلِلزِّنَا مَعًا، وَلَا يُحَدُّ الرَّجُلُ لَهُمَا لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمُكْرَهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِالضَّرْبِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ لِيُقِرَّ بِالزِّنَا فَأَقَرَّ بِهِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ بِهِ فَلَا يُحَدُّ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الزِّنَا، وَلَا نَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَا قَدْ قَدَّمْنَا ثُبُوتَ الزِّنَا بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، أَمَّا ظُهُورُ الْحَمْلِ بِامْرَأَةٍ، لَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْحَبَلُ فِي الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ يَثْبُتُ عَلَيْهَا بِهِ الزِّنَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بِأَنَّ الْحَبَلَ الَّذِي هُوَ الْحَمْلُ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا كَمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَبَلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا، عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا رَأَيْتَ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الزِّنَا وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ، وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِذَا عُرِفَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْحَمْلِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْ عُمَرَ بِأَنَّ الْحَبَلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا، كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : إِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ: بِوُجُوبِ الْحَدِّ وَثُبُوتِ الزِّنَا بِالْحَمْلِ، لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالرَّجْمُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا كَانَ مُحْصَنًا، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أُوتِيَ بِامْرَأَةٍ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُرْجَمَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ اللَّهُ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [46 \ 15] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرْجُمُهَا بِحَمْلِهَا وَعَنْ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزِّنَا زِنَاءَانِ: زِنَا سِرٍّ، وَزِنَا عَلَانِيَةٍ، فَزِنَا السِّرِّ: أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ: أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، فَيَكُونُ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، وَهَذَا قَوْلُ سَادَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْمُغْنِي» . وَانْظُرْ أَسَانِيدَ الْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَنِ الصَّحَابَةِ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْحَمْلِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْحَمْلَ وَحْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ، فَقَدْ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : حُجَّتُهُمْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ وَطْءِ إِكْرَاهٍ أَوْ شُبْهَةٍ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ بِأَنْ يَدْخُلَ مَاءُ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا، إِمَّا بِفِعْلِهَا، أَوْ فِعْلِ غَيْرِهَا، وَلِهَذَا تُصُوِّرَ حَمْلُ الْبِكْرِ فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ فَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 حَدَّثَنَا هَاشِمٌ: أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، وَقَدْ حَمَلَتْ فَسَأَلَهَا عُمَرُ، فَقَالَتْ: إِنَّنِي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ، وَأَنَا نَائِمَةٌ فَمَا اسْتَيْقَظْتُ حَتَّى فَرَغَ، فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ، وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ صَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُوتِيَ بِامْرَأَةٍ حَامِلٍ، فَادَّعَتْ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ، فَقَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا، وَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَلَّا يُقْتَلَ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا كَانَ فِي الْحَدِّ لَعَلَّ وَعَسَى فَهُوَ مُعَطَّلٌ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ - قَالُوا: إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْحَدُّ فَادْرَأْ مَا اسْتَطَعْتَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ هُنَا، اهـ بِلَفْظِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» . وَانْظُرْ أَيْضًا أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْحَبَلَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ، وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَقَعُ لَا شَكَّ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ فِي الْفَرَجِ، بَلْ قَدْ يَطَأُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي فَخِذَيْهَا، فَتَتَحَرَّكُ شَهْوَتُهَا فَيَنْزِلُ مَاؤُهَا وَيُنْزِلُ الرَّجُلُ، فَيَسِيلُ مَاؤُهُ فَيَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا، فَيَلْتَقِي مَاؤُهُ بِمَائِهَا فَتَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ وَهَذَا مُشَاهَدٌ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ يَطَأُ امْرَأَتَهُ فِي الْفَخِذَيْنِ، وَلَمْ يُجَامِعْهَا فِي الْفَرْجِ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ ; لِأَنَّ مَاءَهُ قَدْ يَسِيلُ إِلَى فَرْجِهَا، فَتَحْمِلُ مِنْهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِذَا كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ اجْتِهَادٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْحَمْلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا كَالِاعْتِرَافِ وَالْبَيِّنَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَظْهَرَ لَنَا خِلَافُ قَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ وُجُودَ الْحَمْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ بَلْ قَدْ تَحْبَلُ بِدُونِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْحَبَلُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ فَلَا وَجْهَ لِثُبُوتِ الزِّنَا، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَلْزِمٍ لِمُوجَبِ الْحَدِّ، كَمَا تَرَى. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِالْحَمْلِ قَالُوا: إِنَّ تِلْكَ الْحَامِلَ إِنْ كَانَتْ طَارِئَةً مِنْ بِلَادٍ أُخْرَى، وَادَّعَتْ أَنَّ حَمْلَهَا مِنْ زَوْجٍ لَهَا تَرَكَتْهُ فِي بَلَدِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا الزِّنَا بِذَلِكَ الْحَمْلِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَادَّعَتْ أَنَّهَا مُكْرَهَةٌ لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْإِكْرَاهَ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الزِّنَا بِالْحَمْلِ إِلَّا إِذَا اعْتَضَدَتْ دَعَوَاهَا بِمَا يُقَوِّيهَا مِنَ الْقَرَائِنِ كَإِتْيَانِهَا صَارِخَةً مُسْتَغِيثَةً مِمَّنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَكَأَنْ تَأْتِيَ مُتَعَلِّقَةً بِرَجُلٍ تَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكْرَهَهَا وَكَأَنْ تَشْتَكِيَ مِنَ الَّذِي فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْحَمْلِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتْ شَكْوَاهَا مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ مُشْبِهَةً لِكَوْنِ الرَّجُلِ الَّذِي ادَّعَتْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَاحِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ادَّعَتْ عَلَيْهِ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، وَالْعَفَافِ، وَالتَّقْوَى حَدَثَ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ لَمْ تُسَمِّ الرَّجُلَ الَّذِي ادَّعَتْ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا تُعَزَّرُ، وَلَا تُحَدُّ إِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَالِكِيِّ: أَوْ مُكْرَهَةً، مَا نَصُّهُ: قَالَ فِي الطِّرَازِ أَوْ فِي أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ فِي تَرْجَمَةِ تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ أَلْفَاظِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ: وَيُقَالُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى سُئِلَ عَنْ جَارِيَةٍ بِكْرِ زَوَّجَهَا فَابْتَنَى بِهَا زَوْجُهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ نَائِمَةً فَانْتَبَهْتُ لِبَلَلٍ بَيْنَ فَخِذَيَّ، وَذَكَرَ الزَّوْجُ أَنَّهُ وَجَدَهَا عَذْرَاءَ. فَأَجَابَ فِيهَا: أَنَّهَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالْعَفَافِ، وَحُسْنِ الْحَالِ، وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ، وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلِمَتِ الْحَمْلَ، وَغَرَّتْ فَلَهَا قَدْرُ مَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا، انْتَهَى مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ، انْتَهَى كَلَامُ الطِّرَازِ، انْتَهَى مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوَّلًا ثُمَّ يُرْجَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرْجَمُ فَقَطْ وَلَا يُجْلَدُ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْقَتْلِ يَنْدَرِجُ فِي الْقَتْلِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 «الْمُغْنِي» : وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهُمَا وَاخْتَارَهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، الْجُوزَجَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، وَنَصَرَاهُ فِي سُنَنِهِمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الرَّجْمِ عَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَ الزَّانِي شَيْخًا ثَيِّبًا فَإِنْ كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّجْمِ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُجْمَعُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ. مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ تَصْرِيحًا ثَابِتًا عَنْ ثُبُوتٍ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الثَّيِّبَ وَهُوَ الْمُحْصَنُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُرْجَمُ، وَهَذَا اللَّفْظُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «: الثَّيِّبُ جُلِدَ مِائَةً ثُمَّ رُجِمَ بِالْحِجَارَةِ» ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا «: وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ» ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّحِيحِ فِيهَا تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، مَا نَصُّهُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ: أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِامْرَأَةٍ زَنَتْ فَضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ، بِأَنَّ عَلِيًّا ضَرَبَهَا وَرَجَمَهَا، وَهِيَ شُرَاحَةُ الْهَمْدَانِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا مَوْلَاةٌ لِسَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [24 \ 2] ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْبِكْرِ وَالْمُحْصَنِ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ وَالتَّغْرِيبِ سَنَةً فِي حَقِّ الْبِكْرِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعًا، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالُوا: وَقَدْ شُرِّعَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمُحْصَنِ وَالثَّيِّبِ عُقُوبَتَانِ: أَمَّا عُقُوبَتَا الثَّيِّبِ: فَهُمَا الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ، وَأَمَّا عَقُوبَتَا الْبِكْرِ: فَهُمَا الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يُجْمَعُ لِلْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا، وَلَمْ يَجْلِدْهُ مَعَ الرَّجْمِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ فِي رَجْمِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ جَلَدَهُ مَعَ الرَّجْمِ بَلْ أَلْفَاظُهَا كُلُّهَا مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الرَّجْمِ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ لَمْ يُنْسَخْ لِأَمَرَ بِجَلْدِ مَاعِزٍ مَعَ الرَّجْمِ، وَلَوْ أَمَرَ بِهِ لَنَقَلَهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْقِصَّةِ، قَالُوا: وَقِصَّةُ مَاعِزٍ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ مُتَقَدِّمٌ وَأَنَّهُ أَوَّلُ نَصٍّ نَزَلَ فِي حَدِّ الزِّنَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ «: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» الْحَدِيثَ، يُشِيرُ بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالْحَدِّ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [4 \ 15] ، فَالزَّوَانِي كُنَّ مَحْبُوسَاتٍ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: وَهُمَا الْمَوْتُ، أَوْ جَعْلُ اللَّهِ لَهُنَّ سَبِيلًا فَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ، ثُمَّ فَسَّرَ السَّبِيلَ بِحَدِّ الزِّنَا عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ أَوَّلُ نَصٍّ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَأَنَّ قِصَّةَ مَاعِزٍ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهُ رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ جَلَدَهَا، لَوْ جَلَدَهَا مَعَ الرَّجْمِ لَنَقَلَ ذَلِكَ بَعْضُ الرُّوَاةِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ: أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَلَمْ يَقُلْ فَاجْلِدْهَا مَعَ الرَّجْمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ الْجَلْدِ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَنَقَلَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَهَذِهِ الْوَقَائِعُ كُلُّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ آنِفًا. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي رَجْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرْأَةِ الْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الرَّجْمِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا جَلْدٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ الْغَسَّانِيُّ: جُهَيْنَةُ وَغَامِدُ وَبَارِقُ وَاحِدٌ، انْتَهَى مِنْهُ، وَعَلَيْهِ فَالْجُهَنِيَّةُ هِيَ الْغَامِدِيَّةُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَجَمِيعُ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي رَجْمِ الْغَامِدِيَّةِ، وَرَجْمِ الْجُهَنِيَّةِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الْجَلْدِ، وَإِنَّمَا فِيهَا كُلِّهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الرَّجْمِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ رَجَمَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الرَّجْمُ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا جَلْدٌ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ خَاصٌّ بِالشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ، وَأَمَّا الشَّابُّ فَيُجْلَدُ إِنْ لَمْ يُحْصَنْ وَيُرْجَمُ فَقَطْ إِنْ أَحْصَنَ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِلَفْظِ الْآيَةِ الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا) إِلَى آخِرِهِ، قَالُوا: فَرَجْمُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا فَحُكْمُهَا بَاقٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : وَقَالَ عِيَاضٌ: شَذَّتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَقَالَتِ: الْجَمْعُ عَلَى الشَّيْخِ الثَّيِّبِ دُونَ الشَّابِّ، وَلَا أَصْلَ لَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ كَذَا قَالَهُ، وَنَفَى أَصْلَهُ، وَوَصَفَهُ بِالْبُطْلَانِ إِنْ أَرَادَ بِهِ طَرِيقَهُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّهُ ثَابِتٌ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ دَلِيلَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِلَفْظِ: (الشَّيْخُ) فَفَهِمَ هَؤُلَاءِ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْخِ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّابَّ أَعْذَرُ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ مَعْنًى مُنَاسِبٌ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَكَيْفَ يُوصَفُ بِالْبُطْلَانِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» . وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ «فَتْحِ الْبَارِي» : إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حَزْمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ زَادَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، انْتَهَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 وَإِذَا عُرِفَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحُجَجُهُمْ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تُرَجِّحُ قَوْلَهَا عَلَى قَوْلِ الْأُخْرَى. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ، فَقَدْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، هُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُحْصَنَ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ، فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا يُعَارَضُ بِعَدَمِ ذِكْرِ الْجَلْدِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَالْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْيَهُودِيِّيْنِ ; لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْدَلُ عَنْهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَلْدُ وَقَعَ لِمَاعِزٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الرُّوَاةُ ; لِأَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِ لَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَتْرُكُهُ لِظُهُورِهِ، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ جَلْدُ الزَّانِي، قَالُوا: وَالْمُحْصَنُ دَاخِلٌ قَطْعًا فِي عُمُومِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [24 \ 2] ، وَهَذَا الْعُمُومُ الْقُرْآنِيُّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ ذِكْرِ الْجَلْدِ مَعَ الرَّجْمِ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الصَّرِيحَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، قَالُوا: وَعَمَلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا تَخْفَى قُوَّةُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ فَقَطْ وَلَا يُجْلَدُ، فَقَدْ رَجَّحُوا أَدِلَّتَهُمْ بِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَالْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ الْمَذْكُورِ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ، هُوَ أَوَّلُ نَصٍّ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [4 \ 15] ، قَالُوا: وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْسُوخٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَجِيرًا عِنْدَهُ «: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» ، وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَقْسَمَ عَلَى أَنَّهُ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ «: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ «: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ» شَرْطٌ، وَقَوْلَهُ «: فَارْجُمْهَا» جَزَاءُ هَذَا الشَّرْطِ، فَدَلَّ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَجَزَائِهِ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا هُوَ الرَّجْمُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ الصَّرِيحِ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا بِالزِّنَا هُوَ رَجْمُهَا فَقَطْ، فَرَبَطَ هَذَا الْجَزَاءَ بِهَذَا الشَّرْطِ أَقْسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، لِمَا قَدَّمْنَا. وَهَذَا الدَّلِيلُ أَيْضًا قَوِيٌّ جِدًّا، لِأَنَّ فِيهِ إِقْسَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالزِّنَا مِنَ الْمُحْصَنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ «: فَارْجُمْهَا» ، أَوْ يَكُونُ قَالَ مَعَ ذَلِكَ فَاجْلِدْهَا، وَتَرَكَ الرَّاوِي الْجَلْدَ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّجْمِ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْجَلْدِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ جَزَاءَ الِاعْتِرَافِ الرَّجْمَ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً لَفْظِيَّةً لَا دَلَالَةَ سُكُوتٍ، وَإِنْ كَانَ قَالَ مَعَ الرَّجْمِ: وَاجْلِدْهَا، وَحَذَفَ الرَّاوِي الْجَلْدَ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحَذْفِ مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ حَذْفَ بَعْضِ جَزَاءِ الشَّرْطِ مُخِلٌّ بِالْمَعْنَى مُوهِمٌ غَيْرَ الْمُرَادِ، وَالْحَذْفُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَفْعَلَهُ وَالرَّاوِي عَدْلٌ فَلَنْ يَفْعَلَهُ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ الْآيَةَ [6 \ 145] ، أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ نَصَّيْنِ، مَعَ اخْتِلَافِ زَمَنِهِمَا ; كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ، وَإِنْ وَجَهَّهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا ذَكَرْنَا، لَا يَخْفَى سُقُوطُهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: دَلِيلُ كُلٍّ مِنْهُمَا قَوِيٌّ، وَأَقْرَبُهُمَا عِنْدِي: أَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ لِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهَا: أَنَّ رِوَايَاتِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّجْمِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَالْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْيَهُودِيِّيْنِ، كُلَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ بِلَا شَكٍّ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَقَدْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهَا الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ مَعَ تَعَدُّدِ طُرُقِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحِ «: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، تَصْرِيحٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا رَجْمُهَا، وَالَّذِي يُوجَدُ بِالشَّرْطِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الرَّجْمُ فَقَطْ. وَمِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَسْخِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عَلَى أَدْنَى الِاحْتِمَالَاتِ لَا تَقِلُّ عَنْ شُبْهَةٍ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَطَأَ فِي تَرْكِ عُقُوبَةٍ لَازِمَةٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي عُقُوبَةٍ غَيْرِ لَازِمَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالرَّجْمِ أَعْظَمُ الْعُقُوبَاتِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ عُقُوبَةٌ، فَلَا دَاعِيَ لِلْجَلْدِ مَعَهُ ; لِانْدِرَاجِ الْأَصْغَرِ فِي الْأَكْبَرِ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: إِذَا ثَبَتَ الزِّنَا عَلَى الزَّانِي فَظَنَّ الْإِمَامُ أَنَّهُ بِكْرٌ فَجَلَدَهُ مِائَةً، ثُمَّ ثَبَتَ بَعْدَ جَلْدِهِ أَنَّهُ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي هَذَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا (ح) وَثَنَا ابْنُ السَّرْحِ الْمَعْنَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجُلِدَ الْحَدَّ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ، وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِنَحْوِ ابْنِ وَهْبٍ، لَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا زَنَى فَلَمْ يُعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ، فَجُلِدَ ثُمَّ عُلِمَ بِإِحْصَانِهِ فَرُجِمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَلَمْ يُعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ فَجُلِدَ، ثُمَّ عُلِمَ بِإِحْصَانِهِ فَرُجِمَ، اهـ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا، مَا نَصُّهُ: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ مَا سَكَتَا عَنْهُ، فَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ، اهـ مِنْهُ. الْفَرْعُ الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ الْحَامِلَ مِنَ الزِّنَا لَا تُرْجَمُ، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَتَفْطِمَهُ، أَوْ يُوجَدَ مَنْ يَقُومُ بِرَضَاعِهِ ; لِأَنَّ رَجْمَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فِيهِ إِهْلَاكُ جَنِينِهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا وَهُوَ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، هَلْ يُحْفَرُ لَهُ أَوْ لَا يُحْفَرُ لَهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُحْفَرُ لَهُ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْفَرُ لِمَنْ زَنَى مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ إِنْ كَانَ الزِّنَا ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْمَرْجُومَ لَا يُحْفَرُ لَهُ بِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قِصَّةِ رَجْمِ مَاعِزٍ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ. . . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفِرُوا لَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ مَا نَصُّهُ: وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ فَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا الْحَفْرُ لِلْمَرْجُومِ وَالْمَرْجُومَةِ فَفِيهِ مَذَاهِبُ لِلْعُلَمَاءِ. قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ: لَا يُحْفَرُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ لَهُمَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُحْفَرُ لِمَنْ يُرْجَمُ بِالْبَيِّنَةِ لَا مَنْ يُرْجَمُ بِالْإِقْرَارِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: لَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ سَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهَا: يُسْتَحَبُّ الْحَفْرُ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا. وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُكْرَهُ، بَلْ هُوَ إِلَى خِيَرَةِ الْإِمَامِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ اسْتُحِبَّ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَا، لِيُمْكِنَهَا الْهَرَبُ إِنْ رَجَعَتْ. فَمَنْ قَالَ بِالْحَفْرِ لَهُمَا احْتَجَّ بِأَنَّهُ حُفِرَ لِلْغَامِدِيَّةِ، وَكَذَا لِمَاعِزٍ فِي رِوَايَةٍ، وَيُجِيبُ هَؤُلَاءِ عَنِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي مَاعِزٍ أَنَّهُ لَمْ يُحْفَرْ لَهُ، أَنَّ الْمُرَادَ حَفِيرَةٌ عَظِيمَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَفِيرَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يُحْفَرُ فَاحْتَجَّ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ مُنَابِذٌ لِحَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ وَلِرِوَايَةِ الْحَفْرِ لِمَاعِزٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الْحَفْرِ لِمَاعِزٍ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ، وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ تَرَكَ الْحَفْرَ حَدِيثُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 الْيَهُودِيَّيْنِ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلُهُ جَعَلَ يَجْنَأُ عَلَيْهَا، وَلَوْ حَفَرَ لَهُمَا لَمْ يَجْنَأْ عَلَيْهَا، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ حُفْرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبَيَّنَ حُجَجَهُمْ، وَنَاقَشَهَا، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كَلَامِهِ، أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الْحَفْرِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحَفْرُ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ الْحَفْرُ لَهُمَا مَعًا فَلَا بَأْسَ، قَالَ صَاحِبُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ: وَيُحْفَرُ لَهَا فِي الرَّجْمِ لَا لَهُ، وَقَالَ شَارِحُهُ فِي تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ: وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ الْحَفْرِ لَهُمَا ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ اهـ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي الْفِقْهِ الْحَنْبَلِيِّ: وَإِنْ كَانَ الزَّانِي رَجُلًا أُقِيمَ قَائِمًا، وَلَمْ يُوثَقْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ مَاعِزٍ، خَرَجْنَا بِهِ إِلَى الْبَقِيعِ فَوَاللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ، وَلَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ قَامَ لَنَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ; وَلِأَنَّ الْحَفْرَ لَهُ، وَدَفْنُ بَعْضِهِ عُقُوبَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَلَّا تَثْبُتَ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا يُحْفَرُ لَهَا أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ، وَذَكَرَ فِي الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يُحْفَرْ لَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حُفِرَ لَهَا إِلَى الصَّدْرِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ، وَبُرَيْدَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَلَا حَاجَةَ لِتَمْكِينِهَا مِنَ الْهَرَبِ لِكَوْنِ الْحَدِّ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا بِخِلَافِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ عَلَى حَالٍ، لَوْ أَرَادَتِ الْهَرَبَ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ ; لِأَنَّ رُجُوعَهَا عَنْ إِقْرَارِهَا مَقْبُولٌ، وَلَنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْفِرْ لِلْجُهَنِيَّةِ وَلَا لِمَاعِزٍ، وَلَا لِلْيَهُودِيَّيْنِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، وَلَا يَقُولُونَ بِهِ، فَإِنَّ الَّتِي نُقِلَ عَنْهُ الْحَفْرُ لَهَا ثَبَتَ حَدُّهَا بِإِقْرَارِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِيهَا، فَلَا يَسُوغُ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ ثِيَابَ الْمَرْأَةِ تُشَدُّ عَلَيْهَا كَيْلَا تَنْكَشِفَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، اهـ مِنْ «الْمُغْنِي» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ لِلْمَرْجُومِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَقْوَى الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلًا بِحَسَبِ صِنَاعَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعِلْمِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَرْجُومَ يُحْفَرُ لَهُ مُطْلَقًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي سَعِيدٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، بِلَفْظِ: فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، اهـ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَاعِزًا حُفِرَ لَهُ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحَافِرُ لَهُ، أَيْ بِأَمْرِهِ بِذَلِكَ فَبُرَيْدَةُ مُثْبِتٌ لِلْحَفْرِ، وَأَبُو سَعِيدٍ نَافٍ لَهُ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَتَعْتَضِدُ رِوَايَةُ بُرَيْدَةَ هَذِهِ بِالْحَفْرِ لِمَاعِزٍ بِرِوَايَتِهِ أَيْضًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِنَفْسِ الْإِسْنَادِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْحَفْرِ لِلْغَامِدِيَّةِ إِلَى صَدْرِهَا، وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الْحَفْرِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَعًا، أَمَّا الْأُنْثَى فَلَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْحَفْرِ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَرِوَايَةُ الْحَفْرِ لَهُ الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِعَدَمِ الْحَفْرِ ; لِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَقَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مَعَ ثُبُوتِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَرَى، وَبِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ، وَزِنَاهَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهَا، لَا بِبَيِّنَةٍ تُعْلَمُ أَنَّ الَّذِينَ نَفَوُا الْحَفْرَ لِمَنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِإِقْرَارِهَا مُخَالِفُونَ لِصَرِيحِ النَّصِّ الصَّحِيحِ بِلَا مُسْتَنَدٍ كَمَا تَرَى، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالرَّجْمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ الزِّنَا ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ، وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ بِهِ الْإِمَامُ أَوِ الْحَاكِمُ، إِنْ كَانَ ثَبَتَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَرْجُمُ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا لِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ، وَبَدَاءَةِ الْإِمَامِ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْفِقْهِ الْحَنْبَلِيِّ، وَصَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ. قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 الرَّجْمُ رَجْمَانِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ بِإِقْرَارٍ فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَمَا كَانَ بِبَيِّنَةٍ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ النَّاسُ ; وَلِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ مِنَ التُّهْمَةِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ، اهـ مِنْهُ. وَحَاصِلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: أَثَرٌ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَكَوْنُ مُبَاشَرَتِهِمُ الرَّمْيَ بِالْفِعْلِ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ التُّهْمَةِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَقْلِيٌّ لَا نَقْلِيٌّ، اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ صَاحِبِ «كَنْزِ الدَّقَائِقِ» : يَبْدَأُ الشُّهُودُ بِهِ فَإِنْ أَبَوْا سَقَطَ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ وَلَوْ مُقِرًّا ثُمَّ النَّاسُ. مَا نَصُّهُ: أَيْ يَبْدَأُ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُشْتَرَطُ بَدَاءَتُهُمُ اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ رَجَمَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ: إِنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ كَانَ شَهِدَ عَلَى هَذِهِ أَحَدٌ لَكَانَ أَوَّلُ مَنْ يَرْمِي الشَّاهِدَ يَشْهَدُ، ثُمَّ يُتْبِعُ شَهَادَتَهُ حَجَرَهُ وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَاهَا بِحَجَرٍ، قَالَ الرَّاوِي: ثُمَّ رَمَى النَّاسُ وَأَنَا فِيهِمْ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ رُبَّمَا يَتَجَاسَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ ثُمَّ يَسْتَعْظِمُ الْمُبَاشَرَةَ فَيَأْبَى أَوْ يَرْجِعُ، فَكَانَ فِي بَدَاءَتِهِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُهُ، فَيَخَافُ أَنْ يَقَعَ مُهْلِكًا أَوْ مُتْلِفًا لِعُضْوٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ ; لِأَنَّ الْإِتْلَافَ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ أَبَوْا سَقَطَ، أَيْ: إِنْ أَبَى الشُّهُودُ مِنَ الْبَدَاءَةِ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ، وَكَذَلِكَ إِنِ امْتَنَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، أَوْ جَنَوْا، أَوْ فَسَقُوا، أَوْ قَذَفُوا فَحُدُّوا أَوْ أَحَدُهُمْ، أَوْ عَمِيَ، أَوْ خَرِسَ، أَوِ ارْتَدَّ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الطَّارِئَ عَلَى الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمَوْجُودِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَا إِذَا غَابُوا أَوْ بَعْضُهُمْ، أَوْ مَاتُوا أَوْ بَعْضُهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا أَوْ مَاتُوا أَوْ غَابُوا، رَجَمَ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ مَرْضَى لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرْمُوا أَوْ مَقْطُوعِي الْأَيْدِي رُجِمَ بِحَضْرَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ لِمَا رُوِّينَا مِنْ أَثَرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ مَقْتَلَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقْصِدُ مَقْتَلَهُ ; لِأَنَّ بِغَيْرِهِ كِفَايَةً. وَرُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ، وَكَانَ كَافِرًا فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ «: دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ» ; وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ، وَلَوْ مُقِرًّا ثُمَّ النَّاسُ، أَيْ: يَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالرَّجْمِ إِنْ كَانَ الزَّانِي مُقِرًّا لِمَا رُوِّينَا مِنْ أَثَرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَامِدِيَّةِ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ «: ارْمُوا» ، وَكَانَتْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» مَمْزُوجًا بِنَصِّ «كَنْزِ الدَّقَائِقِ» . هَذَا حَاصِلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ أَوِ الْإِمَامِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لَا تَعْيِينَ لِمَنْ يَبْدَأُ مِنْ شُهُودٍ وَلَا إِمَامٍ، وَلَا غَيْرِهِمْ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ لِهَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَلْزَمَ بِهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَالِكِيِّ: وَلَمْ يَعْرِفْ بَدَاءَةَ الْبَيِّنَةِ، وَلَا الْإِمَامِ، مَا نَصُّهُ: قَالَ مَالِكٌ: مُذْ أَقَامَتِ الْأَئِمَّةُ الْحُدُودَ، فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَلْزَمَ ذَلِكَ الْبَيِّنَةَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ: إِنْ ثَبَتَ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ بَدَأَ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، اهـ مِنْهُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبْدَأْ بِرَجْمِ مَاعِزٍ، وَأَنَّهُ قَالَ لِأُنَيْسٍ «: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَلَمْ يَحْضُرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَبْدَأَ بِرَجْمِهَا، وَقَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدًا تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا أَلْزَمَ بِهِ الْبَيِّنَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَثَرُ عَلِيٍّ أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ وَالْإِمَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ كَالْحِمَّصَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ «: ارْمُوا» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مُبْهَمًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ زَكَرِيَّا أَبِي عِمْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ سُلَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ زَادَ: ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ، ثُمَّ قَالَ «: ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ» الْحَدِيثَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ الَّذِي فِيهِ زِيَادَةٌ، ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ، هُوَ بِعَيْنِهِ الْإِسْنَادُ الَّذِي فِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهَذَا الشَّيْخُ الَّذِي حَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَنْ هُوَ، فَهُوَ مُبْهَمٌ، وَالْمُبْهَمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 مَجْهُولُ الْعَيْنِ وَالْعَدَالَةِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، كَمَا تَرَى. وَقَالَ صَاحِبُ «نَصْبِ الرَّايَةِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي سُقْنَاهَا آنِفًا: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الرَّجْمِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَكَرِيَّا أَبِي عِمْرَانَ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِتَمَامِهِ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ. قَالَ الْبَزَّارُ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّى هَذَا الشَّيْخَ وَتُرَاجَعُ أَلْفَاظُهُمْ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ جِهَةِ النَّسَائِيِّ، وَلَمْ يُعِلَّهُ بِغَيْرِ الِانْقِطَاعِ، اهـ مِنْهُ، وَأَيُّ عِلَّةِ أَعْظَمُ مِنَ الِانْقِطَاعِ بِإِبْهَامِ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ. أَمَّا الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى فِي بَابِ مَنِ اعْتَبَرَ حُضُورَ الْإِمَامِ وَالشُّهُودِ، وَبَدَاءَةَ الْإِمَامِ بِالرَّجْمِ، مَا نَصُّهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، ثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، ثَنَا عَمَّارٌ هُوَ ابْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ قَدْ فَجَرَتْ فَرَدَّهَا حَتَّى وَلَدَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَ: ائْتُونِي بِأَقْرَبِ النِّسَاءِ مِنْهَا، فَأَعْطَاهَا وَلَدَهَا ثُمَّ جَلَدَهَا وَرَجَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُعِيَ عَلَيْهَا وَلَدُهَا أَوْ كَانَ اعْتِرَافٌ، فَالْإِمَامُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ النَّاسُ، فَإِنْ نَعَاهَا الشُّهُودُ فَالشُّهُودُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ. وَأَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَ الْأَجْلَحُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جِيءَ بِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ لَهَا: وَيْلَكِ لَعَلَّ رَجُلًا وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ لَعَلَّكِ اسْتُكْرِهْتِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: لَعَلَّ زَوْجَكِ مِنْ عَدُوِّنَا هَذَا أَتَاكِ فَأَنْتِ تَكْرَهِينَ أَنْ تَدُلِّي عَلَيْهِ، يُلَقِّنُهَا لَعَلَّهَا تَقُولُ نَعَمْ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَحُبِسَتْ، فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَخْرَجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ فَضَرَبَهَا مِائَةً، وَحَفَرَ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّحْبَةِ فَأَحَاطَ النَّاسُ بِهَا، وَأَخَذُوا الْحِجَارَةَ، فَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا الرَّجْمُ، إِنَّمَا يُصِيبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، صُفُّوا كَصَفِّ الصَّلَاةِ صَفًّا خَلْفَ صَفٍّ ; ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ جِيءَ بِهَا وَبِهَا حَبَلٌ، يَعْنِي: أَوِ اعْتَرَفَتْ، فَالْإِمَامُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جِيءَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ زَانٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 فَالشُّهُودُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلُوا بِهَا مَا تَفْعَلُونَ بِمَوْتَاكُمْ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جَلْدَ الثَّيِّبِ صَارَ مَنْسُوخًا، وَأَنَّ الْأَمْرَ صَارَ إِلَى الرَّجْمِ فَقَطْ، اهـ، مِنَ السُّنَنِ الْكُبْرَى بِلَفْظِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْجُومَ يُغْسَلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْجُومِ ; كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «نَصْبِ الرَّايَةِ» فِي أَثَرِ عَلِيٍّ هَذَا، مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جِيءَ بِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، عَنِ الْبَيْهَقِيِّ بِاللَّفْظِ الَّذِي سُقْنَاهُ بِهِ، وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ نَصْبِ الرَّايَةِ، حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ لِلْأَثَرِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي سُقْنَاهَا الَّتِي الرَّاوِي فِيهَا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَبُو حَصِينٍ فَاقْتِصَارُهُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَتَرْكُهُ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوَّلًا لَا وَجْهَ لَهُ. وَالْأَجْلَحُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، هُوَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُجَيَّةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ مُصَغَّرًا، وَيُقَالُ: ابْنُ مُعَاوِيَةَ، يُكَنَّى أَبَا حُجَيَّةَ الْكِنْدِيَّ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ يَحْيَى، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ» : صَدُوقٌ شِيعِيٌّ، وَقَالَ عَنْهُ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» : قَالَ الْقَطَّانُ: فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَجْلَحُ وَمُجَالِدٌ مُتَقَارِبَانِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى الْأَجْلَحُ غَيْرَ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ: مَا أَقْرَبَ الْأَجْلَحَ مِنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ، وَقَالَ مَرَّةً: ثِقَةٌ، وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ضَعِيفٌ لَيْسَ بِذَاكَ، وَكَانَ لَهُ رَأْيُ سُوءٍ، وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: مُفْتَرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ أَحَادِيثُ صَالِحَةٌ، وَيَرْوِي عَنْهُ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ لَا إِسْنَادًا وَلَا مَتْنًا إِلَّا أَنَّهُ يُعَدُّ فِي شِيعَةِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ عِنْدِي مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ صَدُوقٌ. وَقَالَ شَرِيكٌ عَنِ الْأَجْلَحِ: سَمِعْنَا أَنَّهُ مَا يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ قَتْلًا أَوْ فَقِيرًا، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ صَدُوقٌ. قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ مِنْ بَجِيلَةَ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ مَرَّةً: زَكَرِيَّا أَرْفَعُ مِنْهُ بِمِائَةِ دَرَجَةٍ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ ضَعِيفًا جِدًّا، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: رَوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ أَحَادِيثَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 مُضْطَرِبَةً لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثِقَةٌ، حَدِيثُهُ لَيِّنٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ جَعَلَ أَبَا سُفْيَانَ أَبَا الزُّبَيْرِ، انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ كَثْرَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَجْلَحِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ لِهَذَا الْأَثَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ تَعْتَضِدُ بِرِوَايَةِ أَبِي الْحَصِينِ لَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبُو حَصِينٍ الْمَذْكُورُ، هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ حَصِينٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ أَخْرَجَ لَهُ الْجَمِيعُ، وَقَالَ فِيهِ فِي «التَّقْرِيبِ» : ثِقَةٌ ثَبْتٌ سُنِّيٌّ وَرُبَّمَا دَلَّسَ، اهـ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَدَاءَةِ الشُّهُودِ وَالْإِمَامِ بِالرَّجْمِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ. فَاعْلَمْ: أَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ أَوِ الْإِمَامِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ فَعَلَهُ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَثَرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَذْكُورُ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَعَمِلَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» ، وَصَاحِبِ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» يَقْتَضِي أَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ بِطَرِيقِ الرَّأْيِ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي عَلَّلُوا بِهِ الْقَوْلَ بِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «نَصْبِ الرَّايَةِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيِّ لِلْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَا نَصُّهُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، ثُمَّ سَاقَ مَتْنَ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ سَاقَ الْأَثَرَ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ سَاقَ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا، اهـ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقُولُ بِبَدَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْإِقْرَارِ وَبَدَاءَةِ الشُّهُودِ فِي الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَقْفِ فَهِيَ فَتْوَى وَفِعْلٌ مِنْ خَلِيفَةٍ رَاشِدٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا اسْتَظْهَرْنَا بَدَاءَةَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِمَامِ فِي الرَّجْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَرْجُومَ إِذَا هَرَبَ فِي أَثْنَاءِ الرَّجْمِ عِنْدَمَا وَجَدَ أَلَمَ الضَّرْبِ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ حَتَّى يُدْرِكُوهُ، فَيَرْجُمُوهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 لِوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَابِتًا بِإِقْرَارٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُحْصَنِ: إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا فَشَرَعُوا فِي رَجْمِهِ، ثُمَّ هَرَبَ هَلْ يُتْرَكُ أَمْ يُتْبَعُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا: يُتْرَكُ، وَلَا يُتْبَعُ لِكَيْ يُقَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ تُرِكَ، وَإِنْ أَعَادَ رُجِمَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ يُتْبَعُ وَيُرْجَمُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: أَلَا تَرَكْتُمُوهُ حَتَّى أَنْظُرَ فِي شَأْنِهِ» ؟ وَفِي رِوَايَةٍ «: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُلْزِمْهُمْ ذَنْبَهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَقَدْ ثَبَتَ إِقْرَارُهُ فَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يُتْبَعُ فِي هَرَبِهِ لَعَلَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ، وَلَمْ نَقُلْ إِنَّهُ سَقَطَ الرَّجْمُ بِمُجَرَّدِ الْهَرَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ هَرَبَ فِي أَثْنَاءِ الرَّجْمِ لَا يُتْبَعُ بَلْ يُمْهَلُ حَتَّى يُنْظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ تُرِكَ، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى إِقْرَارِهِ رُجِمَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي أَشَارَ لَهَا النَّوَوِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْبِكْرَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا زَنَا وَجَبَ جَلْدُهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ كَمَا هُوَ نَصُّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلْ يُغَرَّبُ سَنَةً مَعَ جَلْدِهِ مِائَةً أَوْ لَا يُغَرَّبُ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْبِكْرَ يُغَرَّبُ سَنَةً مَعَ الْجَلْدِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَبِهِ قَالَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُغَرَّبُ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجِبُ التَّغْرِيبُ عَلَى ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجَمَاهِيرُ: يُنْفَى سَنَةً رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجِبُ النَّفْيُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوَزْاعِيُّ: لَا نَفْيَ عَلَى النِّسَاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلشَّافِعِيِّ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 أَحَدُهَا: يُغَرَّبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَنَةً لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ. وَالثَّانِي: يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: جَوَازُ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِهِ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: لَا يُغَرَّبُ الْمَمْلُوكُ أَصْلًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ «: فَلْيَجْلِدْهَا» ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّفْيَ، وَلِأَنَّ نَفْيَهُ يَضُرُّ سَيِّدَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ حَدِيثِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلنَّفْيِ، وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ النَّفْيِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا، وَحُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى مُوَافَقَتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ النَّفْيِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَانْظُرْهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ: مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَأَحْمَدَ، مُتَّفِقُونَ عَلَى تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ، وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي تَغْرِيبِ الْإِنَاثِ وَالْعَبِيدِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ يَقُولُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّغْرِيبُ عَلَى الزَّانِي مُطْلَقًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُغَرَّبُ الْبِكْرُ الزَّانِي سَنَةً، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِيهِمَا وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَجِيرًا عِنْدَهُ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِوَايَةِ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ أَنَّهُ أَقْسَمَ لَيَقْضِيَنَّ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَضَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ جَلْدَ ذَلِكَ الزَّانِي الْبِكْرَ مِائَةً وَتَغْرِيبَهُ عَامًا، وَهَذَا أَصَحُّ نَصٍّ وَأَصْرَحُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَفِيهِ «: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» ، وَهُوَ أَيْضًا نَصٌّ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى عَدَمِ التَّغْرِيبِ بِأَدِلَّةٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 مِنْهَا: أَنَّ التَّغْرِيبَ سَنَةً زِيَادَةٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ فِي الْآيَةِ تُعْتَبَرُ نَسْخًا لِلْآيَةِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَأَحَادِيثُ التَّغْرِيبِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَالْمُتَوَاتِرُ عِنْدَهُمْ لَا يَنْسَخُ بِالْآحَادِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ زِيَادَةٍ عَلَى النَّصِّ، فَهِيَ نَاسِخَةٌ لَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ، إِلَّا إِنْ كَانَتْ مُثْبِتَةً شَيْئًا قَدْ نَفَاهُ النَّصُّ أَوْ نَافِيَةً شَيْئًا أَثْبَتَهُ النَّصُّ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ زِيَادَةُ شَيْءٍ سَكَتَ عَنْهُ النَّصُّ السَّابِقُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهِ، وَلَا لِإِثْبَاتِهِ فَالزِّيَادَةُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأُصُولِ بِالْإِبَاحَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْهُ، وَرَفْعُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [6 \ 145] . وَفِي سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي مَبْحَثِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَاتِ «الْحَجِّ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُنْسَخُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ; فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، أَنَّهُ غَلَطَ فِيهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ غَلَطًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ جَوَازُ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ ; إِذَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، حَتَّى يُرَجَّحَ الْمُتَوَاتِرُ عَلَى الْآحَادِ، لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ مَعَ اخْتِلَافِ زَمَنِ الدَّلِيلَيْنِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ فِي وَقْتِهِ، فَلَوْ قَالَتْ لَكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ: إِنَّ أَخَاكَ الْمُسَافِرَ لَمْ يَصِلْ بَيْتَهُ إِلَى الْآنَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ أَخْبَرَكَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ أَنَّ أَخَاكَ وَصَلَ بَيْتَهُ، فَإِنَّ خَبَرَ هَذَا الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَحَقُّ بِالتَّصْدِيقِ مِنْ خَبَرِ جَمَاعَةِ الْعُدُولِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ أَخَاكَ وَقْتَ كَوْنِهِمْ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَقْدَمْ، وَبَعْدَ ذَهَابِهِمْ بِزَمَنٍ قَلِيلٍ قَدِمَ أَخُوكَ فَأَخْبَرَكَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ بِقُدُومِهِ وَهُوَ صَادِقٌ، وَخَبَرُهُ لَمْ يُعَارِضْ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ الْآخَرِينَ لِاخْتِلَافِ زَمَنِهِمَا كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي الْمَحَلِّ الْمَذْكُورِ ; فَالْمُتَوَاتِرُ فِي وَقْتِهِ قَطْعِيٌّ، وَلَكِنَّ اسْتِمْرَارَ حُكْمِهِ إِلَى الْأَبَدِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 فَنَسْخُهُ بِالْآحَادِ إِنَّمَا نَفَى اسْتِمْرَارَ حُكْمِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، كَمَا تَرَى. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى عَدَمِ التَّغْرِيبِ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ: أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ سَمَّاهَا فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ، وَتَرَكَهَا، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَ بِكْرًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً، وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذْ كَذَّبَتْهُ، فَلَمْ يَأْتِ بِهَا ; فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ التَّغْرِيبُ وَاجِبًا لَمَا أَخَلَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّغْرِيبَ مَعَ الْجَلْدِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ مَنْسُوخٌ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي فِيهَا إِقْسَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ جَلْدِ الْبِكْرِ، وَنَفْيِهِ سَنَةً قَضَاءٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابِ اللَّهِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْسَمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ بَالِغٌ مِنَ الصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، مَا لَمْ يَبْلُغْهُ شَيْءٌ آخَرُ يُعَارَضُ بِهِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُبَيِّنُ، وَقَدْ أَقْسَمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: وَخَطَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، اهـ مِنْهُ. وَذَكَرَ مُرَجِّحَاتٍ أُخْرَى مُتَعَدِّدَةً لِوُجُوبِ التَّغْرِيبِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّغْرِيبِ، وَلَا التَّصْرِيحُ بِعَدَمِهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ قَبْلَ حَدِيثِ الْإِقْسَامِ، بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَعَلَى أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ الْإِقْسَامُ الْمَذْكُورُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْإِقْسَامَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، فَذَلِكَ التَّصْرِيحُ، بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ مَعَ الْإِقْسَامِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ بِمُحْتَمَلٍ ; وَلَوْ تَكَرَّرَتِ الرِّوَايَاتُ بِهِ تَكَرُّرًا كَثِيرًا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا كَمَا هُوَ الْحَقُّ، فَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ هُمَا: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ الَّذِي فِيهِ الْإِقْسَامُ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، لَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. أَمَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 كَوْنُهُ فِي السَّنَدِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي الْمَتْنِ فَلِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ التَّغْرِيبِ، وَالصَّرِيحُ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِ الصَّرِيحِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَصَحَّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ جَمْعُ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِوَجِيهٍ لِاخْتِلَافِ الْأَمَةِ وَالْأَحْرَارِ فِي أَحْكَامِ الْحَدِّ، فَهِيَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَلَوْ مُحْصَنَةً، وَلَا تُرْجَمُ، وَالْأَحْرَارُ بِخِلَافٍ ذَلِكَ، فَأَحْكَامُ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْحُدُودِ قَدْ تَخْتَلِفُ. وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَةُ «النِّسَاءِ» اخْتِلَافَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي حُكْمِ حَدِّ الزِّنَا مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، فَعَلَيْهَا الْجَلْدُ لَا الرَّجْمُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ عَلَيْهَا نِصْفَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: فَإِذَا أُحْصِنَّ، وَقَوْلَهُ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، يَظْهَرُ لَكَ مَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَصَحَّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ هُوَ وُجُوبُ تَغْرِيبِ الْبِكْرِ سَنَةً مَعَ جَلْدِهِ مِائَةً لِصَرَاحَةِ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالتَّغْرِيبِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، اخْتَلَفُوا فِي تَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُغَرَّبُ الْمَرْأَةُ سَنَةً لِعُمُومِ أَدِلَّةِ التَّغْرِيبِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا تَغْرِيبَ عَلَى النِّسَاءِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِتَغْرِيبِ النِّسَاءِ فَهِيَ عُمُومُ أَدِلَّةِ التَّغْرِيبِ، وَظَاهِرُهَا شُمُولُ الْأُنْثَى، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا تَغْرِيبَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِنَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ، إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، قَالُوا: لَا يَجُوزُ سَفَرُهَا دُونَ مَحْرَمٍ، وَلَا يُكَلَّفُ مَحْرَمُهَا بِالسَّفَرِ مَعَهَا ; لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ يُكَلَّفُ السَّفَرُ بِسَبَبِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ وَفِي تَغْرِيبِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا، وَتَعْرِيضٌ لَهَا لِلْفِتْنَةِ، وَلِذَلِكَ نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ إِلَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، قَالُوا: وَغَايَةُ مَا فِي الْأَمْرِ، أَنَّ عُمُومَ أَحَادِيثِ التَّغْرِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ خَصَّصَتْهُ أَحَادِيثُ نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا إِنْ وُجِدَ لَهَا مَحْرَمٌ مُتَبَرِّعٌ بِالسَّفَرِ مَعَهَا إِلَى مَحَلِّ التَّغْرِيبِ مَعَ كَوْنِ مَحَلِّ التَّغْرِيبِ مَحَلَّ مَأْمَنٍ لَا تَخْشَى فِيهِ فِتْنَةً، مَعَ تَبَرُّعِ الْمَحْرَمِ الْمَذْكُورِ بِالرُّجُوعِ مَعَهَا إِلَى مَحَلِّهَا، بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ، فَإِنَّهَا تُغَرَّبُ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِعُمُومِ أَحَادِيثِ التَّغْرِيبِ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا مُتَبَرِّعًا بِالسَّفَرِ مَعَهَا، فَلَا يُجْبَرُ ; لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلَا تُكَلَّفُ هِيَ السَّفَرَ بِدُونِ مَحْرَمٍ، لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى النَّهْيِ يُقَدَّمُ عَلَى الدَّالِ عَلَى الْأَمْرِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ دَرْأَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَغْرِيبِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ عِنْدَنَا: أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يُغَرَّبُ، لِأَنَّهُ مَالٌ، وَفِي تَغْرِيبِهِ إِضْرَارٌ بِمَالِكِهِ، وَهُوَ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يُرْجَمُ، وَلَوْ كَانَ مُحْصَنًا ; لِأَنَّ إِهْلَاكَهُ بِالرَّجْمِ إِضْرَارٌ بِمَالِكِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: إِذَا زَنَتْ أَمَةَ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا» الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَغْرِيبًا، وَقَدْ فَهِمَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَدَمَ نَفْيِ الْأَمَةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلِذَا قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ: بَابُ لَا يُثَرَّبُ عَلَى الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَا تُنْفَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْعَبِيدِ هَلْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ نُصُوصِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ، أَوْ لَا يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ لِكَثْرَةِ خُرُوجِهِمْ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ دُخُولُهُمْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُمْ مِنْهُ دَلِيلٌ، وَاعْتَمَدَهُ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ: وَالْعَبْدُ وَالْمَوْجُودُ وَالَّذِي كَفَرَ ... مَشْمُولَةٌ لَهُ لَدَى ذَوِي النَّظَرِ وَإِخْرَاجُهُمْ هُنَا مِنْ نُصُوصِ التَّغْرِيبِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِجَلْدِ الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ وَبَيْعِهَا، وَلَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 يَذْكُرْ تَغْرِيبَهَا، وَلِأَنَّهُمْ مَالٌ، وَفِي تَغْرِيبِهِمْ إِضْرَارٌ بِالْمَالِكِ، وَفِي الْحَدِيثِ «: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّغْرِيبِ مِنْ مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ; لِأَنَّهُ فِيمَا دُونَهَا لَهُ حُكْمُ الْحَاضِرِ بِالْبَلَدِ الَّذِي زَنَى فِيهِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا عِنْدِي أَنَّ الْمُغَرَّبَ يُسْجَنُ فِي مَحَلِّ تَغْرِيبِهِ ; لِأَنَّ السَّجْنَ عُقُوبَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى التَّغْرِيبِ، فَتَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا زَنَى غُرِّبَ مِنْ مَحَلِّ زِنَاهُ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ غَيْرِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَصَابَ حَدًّا، وَلَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ الْحَدَّ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ «: أَلَيْسَ صَلَّيْتَ مَعَنَا» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ» ، أَوْ قَالَ «: حَدَّكَ» ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوُهُ: وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ وَلَمْ يُسَمِّهِ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي حُكْمِ رُجُوعِ الزَّانِي الْمُقِرِّ بِالزِّنَى أَوْ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ إِتْمَامِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. أَمَّا الزَّانِي الْمُقِرُّ بِزِنَاهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلَوْ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ مِنْ جَلْدٍ أَوْ رَجْمٍ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ قُدَامَةَ خِلَافَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ ضَعِيفَةٌ. وَالظَّاهِرُ لَنَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ، وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 الْحَدِّ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ لَمَّا تَبِعُوا مَاعِزًا بَعْدَ هَرَبِهِ «: أَلَا تَرَكْتُمُوهُ؟» ، وَفِي رِوَايَةٍ «: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ؟ فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ رُجُوعِهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَلَمْ أَعْلَمْ فِيهِ بِخُصُوصِهِ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ لَهُ حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُمْ، أَوْ رُجُوعُ بَعْضِهِمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي بِشَهَادَتِهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُمْ، أَوْ رُجُوعُ بَعْضِهِمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحَدُّ الْمَذْكُورُ قَدْ يَكُونُ جَلْدًا، وَقَدْ يَكُونُ رَجْمًا، فَإِذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : فَإِنْ رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَعَلَى جَمِيعِهِمُ الْحَدُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِيَةُ: يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ دُونَ الرَّاجِعِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ ; لِأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ فَهُوَ كَالتَّائِبِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلِأَنَّ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ تَمْكِينًا لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي إِيجَابِ الْحَدِّ زَجْرٌ لَهُ عَنِ الرُّجُوعِ خَوْفًا مِنَ الْحَدِّ، فَتَفُوتُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ، وَتَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيَ الْحَدِّ عَنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ دُونَ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ فِي قَذْفِهِ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِرُجُوعِ الرَّاجِعِ، وَمَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا فَلَمْ يُحَدَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ، وَلَنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَدَدُ بِالرُّجُوعِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَزِمَهُمُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَقَوْلُهُمْ: وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ يَبْطُلُ بِمَا إِذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ، وَبِالرَّاجِعِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْحَدَّ وَجَبَ، ثُمَّ سَقَطَ، وَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِسُقُوطِهِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِذَا وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِ مَعَ الْمَصْلَحَةِ فِي رُجُوعِهِ، وَإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ، وَإِحْيَائِهِ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى التَّلَفِ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُمْ إِنْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ حُدُّوا كُلُّهُمْ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ، فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 وَالثَّانِي: يُحَدُّ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ دُونَ مَنْ رَجَعَ. وَالثَّالِثُ: عَكْسُهُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ كَلَامِهِ. وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُمْ إِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ أَوِ الْجَلْدِ بِشَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِرُجُوعِ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْحُكْمَ يُنَفَّذُ عَلَيْهِ، وَلَوْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ قَبْلَ التَّنْفِيذِ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نُفِّذَ بِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِرُجُوعِهِمْ وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ ; لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُعَمِّمُوهُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْقَتْلِ لِعِظَمِ شَأْنِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِشَهَادَةِ بَيِّنَةٍ كَذَّبَتْ أَنْفُسَهَا، فِيمَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا إِنْ كَانَ رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمُ الْكَذِبَ لَزِمَتْهُمْ دِيَةُ الْمَرْجُومِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَلْزَمُ الدِّيَةُ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْقِصَاصِ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي قَتْلِهِ بِشَهَادَةِ زُورٍ، فَقَتْلُهُمْ بِهِ لَهُ وَجْهٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ أَوْ رُجُوعُ بَعْضِهِمْ بَعْدَ جَلْدِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى بِشَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمُ الْكَذِبَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا سُوءًا، وَإِنْ ظَهَرَ تَعَمُّدُهُمُ الْكَذِبَ وَجَبَ تَعْزِيرُهُمْ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ رَادِعًا لَهُمْ وَلِأَمْثَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَعْصِيَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: الْأُولَى: تَعَمُّدُهُمْ شَهَادَةَ الزُّورِ. وَالثَّانِيَةُ: إِضْرَارُهُمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْجَلْدِ، وَهُوَ أَذًى عَظِيمٌ أَوْقَعُوهُ بِهِ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ: أَنَا قَدَّمَنَا حُكْمَ مَنْ زَنَى بِبَهِيمَةٍ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [17 \ 33] ، وَقَدَّمْنَا حُكْمَ اللِّوَاطِ وَأَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [11 \ 83] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، يَكْفِي لِجَمِيعِ ذَلِكَ حَدٌّ وَاحِدٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ «الْحَجِّ» ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ الْأَمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُحْصَنَةً أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ ; لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 جَلْدُهَا خَمْسِينَ مَعَ الْإِحْصَانِ مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَجَلْدُهَا مَعَ عَدَمِ الْإِحْصَانِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا: أَنَّ الْأَمَةَ غَيْرَ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَأَلْحَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَبْدَ بِالْأَمَةِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ مُطْلَقًا أُحْصِنَ أَمْ لَا، وَقَدْ تَرَكْنَا الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا لِعَدَمِ اتِّجَاهِهَا عِنْدَنَا مَعَ أَنَّا أَوْضَحْنَاهَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ [4 \ 25] ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا هُنَا مِنْ أَحْكَامِ الزِّنَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا. وَعَادَتُنَا أَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ أَنَّا نَذْكُرُ عُيُونَ مَسَائِلِ ذَلِكَ الْبَابِ وَالْمُهِمَّ مِنْهُ، وَتَبْيِينَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ وَنُنَاقِشُهَا، وَلَا نَسْتَقْصِي جَمِيعَ مَا فِي الْبَابِ ; لِأَنَّ اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، ذَكَرْنَا هَذَا فِي تَرْجَمَةِ الْكِتَابِ، وَذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِذَلِكَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الزِّنَى، وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ، قَالُوا: فَلَا يَجُوزُ لِعَفِيفٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَانِيَةً كَعَكْسِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ التَّزْوِيجُ لَا الْوَطْءُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ هِيَ ذِكْرُ الْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الزَّانِيَ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ مُشْرِكَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [2 \ 221] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [60 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [60 \ 10] ، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ الْمُسْلِمَةُ لَا يَحِلُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 لَهَا نِكَاحُ الْمُشْرِكِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [2 \ 221] ، فَنِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ الزِّنَى، لَا عَقْدُ النِّكَاحِ ; لِعَدَمِ مُلَاءَمَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِذِكْرِ الْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ نِكَاحَ الزَّانِي لِلْمُشْرِكَةِ، وَالزَّانِيَةِ لِلْمُشْرِكِ مَنْسُوخٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ سُورَةَ «النُّورِ» مَدَنِيَّةٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أُحِلَّ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَالنَّسْخُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ، وَنِكَاحِ الْعَفِيفَةِ الزَّانِيَ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [4 \ 24] وَهُوَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ الزَّانِيَةَ وَالْعَفِيفَةَ، وَعُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ الْآيَةَ [24 \ 32] ، وَهُوَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ الزَّانِيَةَ أَيْضًا وَالْعَفِيفَةَ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ «: غَرِّبْهَا» ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي؟ قَالَ «: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «بُلُوغِ الْمَرَامِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِلَفْظٍ قَالَ «: طَلِّقْهَا» ، قَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ «: فَأَمْسِكْهَا» ، اهـ، مِنْ «بُلُوغِ الْمَرَامِ» ، وَفِيهِ تَصْرِيحُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي. . . الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مُرْسَلًا عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ كِلَاهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ حَمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ عَلَى الْفُجُورِ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا ; وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى تَفْرِيطِهَا فِي الْمَالِ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، انْتَهَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 مِنْ مَوْضُوعَاتِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَكَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَتَضْعِيفِهِ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَرَبَ تُكَنِّي بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، عَنْ عَدَمِ الْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَى، يَعْنِي بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلَ الرَّجُلِ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، اهـ، وَمَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ لَفْظَ: لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ أَظْهَرُ فِي عَدَمِ الِامْتِنَاعِ مِمَّنْ أَرَادَ مِنْهَا مَا لَا يَحِلُّ كَمَا لَا يَخْفَى، فَحَمْلُهُ عَلَى تَفْرِيطِهَا فِي الْمَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ اللَّامِسِ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، كَمَا تَرَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي ظَهَرَ عَدَمُ عِفَّتِهَا، وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ، وَكَلَامُنَا الْآنَ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَا فِي الدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقٌ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ تَزْوِيجِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي أَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الْآيَةَ [24 \ 3] مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ الزِّنَى بِعَيْنِهِ، قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَقْبِيحُ الزِّنَى وَشِدَّةُ التَّنْفِيرِ مِنْهُ ; لِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُطَاوِعُهُ فِي زِنَاهُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْخِسَّةِ لِكَوْنِهَا مُشْرِكَةً لَا تَرَى حُرْمَةَ الزِّنَى أَوْ زَانِيَةً فَاجِرَةً خَبِيثَةً. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْوَطْءِ الَّذِي هُوَ الزِّنَى، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، كَعَكْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي ذِكْرِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ التَّزْوِيجُ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ، مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ الْآيَةَ [24 \ 32] ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى نَسْخِهَا بِهَا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَا نَصُّهُ: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا زَانِيَةً، أَوْ مُشْرِكَةً، أَيْ: لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ الزِّنَا إِلَّا زَانِيَةٌ عَاصِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 لَا تَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ، أَيْ: عَاصٍ بِزِنَاهُ، أَوْ مُشْرِكٌ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِالنِّكَاحِ إِنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالضَّحَّاكِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَتَرَاهُ صَدَّرَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ: الْجِمَاعُ، لَا التَّزْوِيجُ، وَذَكَرَ صِحَّتَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهَ أَنْ يُعَلِّمَهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ، وَعَزَاهُ لِمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمُفَسِّرِينَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلَا شَكَّ فِي عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهَا هُوَ الْجِمَاعُ لَا الْعَقْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ، فَدَعْوَى أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَا يَصِحُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ قَبِيحٌ، يَرُدُّهُ قَوْلُ الْبَحْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا تَرَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ، أَنَّ النِّكَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْوَطْءُ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِنْكَارَ الزَّجَّاجِ لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَعْنِي الْقَوْلَ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهَا الْجِمَاعُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ النِّكَاحَ لَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِيهِ النِّكَاحُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [2 \ 230] ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِأَنَّ مَعْنَى نِكَاحِهَا لَهُ مُجَامَعَتُهُ لَهَا، حَيْثُ قَالَ «: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ، وَمُرَادُهُ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ: الْجِمَاعُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ، يُطْلِقُونَ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ. والتحقيق: أن النكاح في لغتهم الوطء. قال الجوهري في صحاحه: النكاح الوطء، وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ، اهـ، وَإِنَّمَا سَمَّوْا عَقْدَ التَّزْوِيجِ نِكَاحًا ; لِأَنَّهُ سَبَبُ النِّكَاحِ أَيِ الْوَطْءِ، وَإِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ سَبَبِهِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مِمَّا يُسَمِّيهِ الْقَائِلُونَ بِالْمَجَازِ، الْمَجَازُ الْمُرْسَلُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ، قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ فِي الْبَيْتِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عَقْدَ التَّزْوِيجِ، إِذْ لَا يُعْقَدُ عَلَى الْمَسْبِيَّاتِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالسَّبْيِ مَعَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ أَيْضًا: وَبِنْتُ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ ... لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانُ وَعَامِلُهْ فَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذَا الْبَيْتِ هُوَ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا الْعَقْدُ ; كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانُ وَعَامِلُهُ. وَقَوْلُهُ: إِذَا سَقَى اللَّهُ قَوْمًا صَوْبَ غَادِيَةٍ ... فَلَا سَقَى اللَّهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ الْمَطَرَا التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمُ ... وَالنَّاكِحِينَ بِشَطَّيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَ الْبَقَرِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّزْوِيجَ. قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ التَّزْوِيجِ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى النِّكَاحِ فِيهَا التَّزْوِيجَ لَوَجَبَ حَدُّ الْمُتَزَوِّجِ بِزَانِيَةٍ ; لَأَنَّهُ زَانٍ، وَالزَّانِي يَجِبُ حَدُّهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ زَانِيَةً لَا يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى، وَلَوْ كَانَ زَانِيًا لَحُدَّ حَدَّ الزِّنَى، فَافْهَمْ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَجِ مَنْ قَالُوا إِنَّ النِّكَاحَ فِي الْآيَةِ الْوَطْءُ، وَأَنَّ تَزْوِيجَ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، كَعَكْسِهِ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الزَّانِي لِعَفِيفَةٍ وَلَا عَكْسُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ. فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [24 \ 3] قَالُوا: الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّزْوِيجُ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 تَحْرِيمِهِ فِي قَوْلِهِ: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَزْوِيجِ الزَّانِي بِغَيْرِ الزَّانِيَةِ، أَوِ الْمُشْرِكَةِ وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِي الْعَفِيفَةَ، كَعَكْسِهِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ [5 \ 5] قَالُوا: فَقَوْلُهُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أَيْ: أَعِفَّاءَ غَيْرَ زُنَاةٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسَافِحِ الَّذِي هُوَ الزَّانِي لِمُحْصَنَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَلَا مُحْصَنَةٍ عَفِيفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [4 \ 25] ، فَقَوْلُهُ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ، أَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ مُسَافِحَاتٍ غَيْرَ مُحْصَنَاتٍ، لَمَا جَازَ تَزَوُّجُهُنَّ. وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الْآيَةَ، كُلَّهَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الْوَطْءِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُ صِحَّةَ مَا قَالُوا فِي الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ فِيهَا التَّزْوِيجُ، وَأَنَّ الزَّانِيَ لَا يَتَزَوَّجُ إِلَّا زَانِيَةً مِثْلَهُ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «: الزَّانِي الْمَجْلُودُ لَا يَنْكِحُ إِلَّا مِثْلَهُ» ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَهْزُولٍ، كَانَتْ تُسَافِحُ، وَتَشْتَرِطُ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ذَكَرَ لَهُ أَمْرَهَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى لِأَحْمَدَ وَحْدَهُ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 وَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَحْمِلُ الْأُسَارَى بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ، وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ، قَالَ: فَجِئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، فَنَزَلَتْ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، وَقَالَ «: لَا تَنْكِحْهَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى، وَعَزَاهُ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنِّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيَّ: وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَسَاقَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَا بِأَسَانِيدِهَا، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ سُنَنِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ بِهِ. قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً أَنَّهُ التَّزْوِيجُ لَا الْوَطْءُ، وَصُورَةُ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ ; كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، قَالُوا: وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّزْوِيجُ، فَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي مَنْصُوصٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا نِكَاحُ الزَّانِيَةِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِتَحْرِيمِهِ فِي سُورَةِ «النُّورِ» وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَكَحَهَا فَهُوَ إِمَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَهُ سُبْحَانَهُ، وَيَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَإِنِ الْتَزَمَهُ وَاعْتَقَدَ وُجُوبَهُ، وَخَالَفَهُ فَهُوَ زَانٍ، ثُمَّ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ، فَقَالَ: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ لِلْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [24 \ 32] مِنْ أَضْعَفِ مَا يُقَالُ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ حَمْلُ النِّكَاحِ عَلَى الزِّنَى. إِذْ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ: الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ أَوْ مُشْرِكَةٍ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَكَذَلِكَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى امْرَأَةٍ بَغِيٍّ مُشْرِكَةٍ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ لَفْظِهَا وَسِيَاقِهَا، كَيْفَ وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ بِشَرْطِ الْإِحْصَانِ، وَهُوَ الْعِفَّةُ، فَقَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [4 \ 25] ، فَإِنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَيُقْتَصَرُ فِي إِبَاحَتِهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَمَا عَدَاهُ فَعَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ. وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا هِيَ حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِمَنْعِ تَزْوِيجِ الزَّانِي الْعَفِيفَةَ كَعَكْسِهِ، وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدِلَّتَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي، فَهَذِهِ مُنَاقَشَةُ أَدِلَّتِهِمْ. أَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ: إِنَّ حَمْلَ الزِّنَا فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِهِ كِتَابُ اللَّهِ، فَيَرُدُّهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبِمَعَانِي الْقُرْآنِ صَحَّ عَنْهُ حَمْلُ الزِّنَى فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِهِ كِتَابُ اللَّهِ لَصَانَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلزِّنَى فِي الْآيَةِ بِالْوَطْءِ: هُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْهُ. وَقَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ: فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ يُقَالُ فِيهِ: نَعَمْ هُوَ مُشْرِكٌ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِكَ جَوَازُ ذَلِكَ، وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ فَيَبْقَى إِشْكَالُ ذِكْرِ الْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ وَارِدًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْآيَةِ التَّزْوِيجُ، كَمَا تَرَى. وَقَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ هَذَا: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التَّحْرِيمِ فَيُقْتَصَرُ فِي إِبَاحَتِهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَمَا عَدَاهُ فَعَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ تَزْوِيجَ الزَّانِيَةِ وَرَدَتْ نُصُوصٌ عَامَّةٌ تَقْتَضِي جَوَازَهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [4 \ 25] وَهُوَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ لِلزَّانِيَةِ وَالْعَفِيفَةِ وَالزَّانِي وَالْعَفِيفِ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [24 \ 32] فَهُوَ أَيْضًا شَامِلٌ بِعُمُومِهِ لِجَمِيعِ مَنْ ذُكِرَ، وَلِذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ آيَةَ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى الْآيَةَ، نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ سَعِيدٌ مِنْ نَسْخِهَا بِهَا. وَبِمَا ذَكَرْنَا يَتَّضِحُ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 الْبَحْثِ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا ; لِأَنَّ الْعُمُومَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مَنْطُوقًا كَانَ أَوْ مَفْهُومًا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيِّ بِأَنَّ آيَةَ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ فَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ هُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَسْخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، وَأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ نُزُولُهُ عَنْهُ أَوْ تَأَخَّرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آيَةَ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ آيَةِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً فَالْقَوْلُ بِنَسْخِهَا لَهَا مَمْنُوعٌ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ قَوْلِ سَعِيدٍ، وَالشَّافِعِيِّ بِالنَّسْخِ بِأَنَّهُمَا فَهِمَاهُ مِنْ قَرِينَةٍ فِي الْآيَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدِ الْأَيَامَى الْأَحْرَارَ بِالصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالصَّلَاحِ فِي أَيَامَى الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَلِذَا قَالَ بَعْدَ الْآيَةِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [24 \ 32] . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَصْعَبِ الْآيَاتِ تَحْقِيقًا; لِأَنَّ حَمْلَ النِّكَاحِ فِيهَا عَلَى التَّزْوِيجِ، لَا يُلَائِمُ ذِكْرَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ، وَحَمْلَ النِّكَاحِ فِيهَا عَلَى الْوَطْءِ لَا يُلَائِمُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْآيَةِ، فَإِنَّهَا تُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ: التَّزْوِيجُ، وَلَا أَعْلَمُ مَخْرَجًا وَاضِحًا مِنَ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَعَ بَعْضِ تَعَسُّفٍ، وَهُوَ أَنَّ أَصَحَّ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا حَرَّرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَعَزَاهُ لِأَجِلَّاءِ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ جَوَازُ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مَعَانِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: عَدَا اللُّصُوصُ الْبَارِحَةَ عَلَى عَيْنِ زَيْدٍ، وَتَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمْ عَوَّرُوا عَيْنَهُ الْبَاصِرَةَ وَغَوَّرُوا عَيْنَهُ الْجَارِيَةَ، وَسَرَقُوا عَيْنَهُ الَّتِي هِيَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا، مَجَازٌ فِي الْآخَرِ كَمَا أَشَرْنَا لَهُ سَابِقًا، وَإِذَا جَازَ حَمْلُ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، فَيُحْمَلُ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى التَّزْوِيجِ مَعًا، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ عَلَى تَفْسِيرِ النِّكَاحِ بِالْوَطْءِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهَذَا هُوَ نَوْعُ التَّعَسُّفِ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ تَزْوِيجِ الزَّانِيَةِ، وَالْمَانِعُونَ لِذَلِكَ أَقَلُّ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا عَفِيفَةً، ثُمَّ زَنَتْ وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ أَنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ نِكَاحٌ لَا يُفْسَخُ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الدَّوَامُ عَلَى نِكَاحِهَا، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا بَعْضُ مَنْ مَنَعَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ مُفَرِّقًا بَيْنَ الدَّوَامِ عَلَى نِكَاحِهَا، وَبَيْنَ ابْتِدَائِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ هَذَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ وَوَعَظَ، ثُمَّ قَالَ «: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» . قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ هَذَا: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ الْمَذْكُورِ: وَحَدِيثُهُ فِي الْخُطْبَةِ صَحِيحٌ، اهـ، وَحَدِيثُهُ فِي الْخُطْبَةِ هُوَ هَذَا الْحَدِيثُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ وَوَعَظَ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ وَالْوَعْظُ هُوَ الْخُطْبَةُ ; كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا الَّذِي فِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ «: طَلِّقْهَا» ، فَقَالَ: نَفْسِي تَتْبَعُهَا، فَقَالَ «: أَمْسِكْهَا» ، وَبَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي سَنَدِهِ، وَأَنَّهُ فِي الدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ، لَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ زَنَتْ زَوْجَتُهُ فُسِخَ نِكَاحُهَا وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ مِنَ الزِّنَا قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا بَلْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ نِكَاحَ الرَّجُلِ امْرَأَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ سَقْيُ الزَّرْعِ بِمَاءِ الْغَيْرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ حَامِلٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 حَتَّى يَنْتَهِيَ أَجْلُ عِدَّتِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّ الْحَوَامِلَ أَجُلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، فَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ هَذَا الْعُمُومِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّ الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ إِنْ تَابَا مِنَ الزِّنَا وَنَدِمَا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمَا وَنَوَيَا أَنْ لَا يَعُوَدَا إِلَى الذَّنْبِ، فَإِنَّ نِكَاحَهُمَا جَائِزٌ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِمَا، وَيَجُوزَ نِكَاحُ غَيْرِهِمَا لَهُمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [25 \ 68 - 70] ، فَقَدْ صَرَّحَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِينَ يَزْنُونَ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا، وَعَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الزِّنَا تُذْهِبُ أَثَرَهُ، فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مَنْ زَنَا بِامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ مُطْلَقًا، وَلَوْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَقَوْلُهُمْ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ بِجَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِمَنْ زَنَى بِهَا إِنْ تَابَا، وَضَرَبَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مَثَلًا بِرَجُلٍ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ بُسْتَانِ رَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَى الْبُسْتَانَ فَالَّذِي سَرَقَهُ مِنْهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَالَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَلَالٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ مَا نَالَ مِنَ الْمَرْأَةِ حَرَامًا فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَمَا نَالَ مِنْهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالتَّزْوِيجِ حَلَالٌ لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ رَدَّ الِاسْتِدْلَالَ بِآيَةِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [25 \ 68] ، قَائِلًا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ لَا فِي الْمُسْلِمِينَ، يَرُدُّ قَوْلَهُ: إِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ، لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ زَوْجُ الزَّانِيَةِ الْعَفِيفُ دَيُّوثًا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا لِيَحْفَظَهَا، وَيَحْرُسَهَا، وَيَمْنَعَهَا مِنَ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مَنْعًا بَاتًّا بِأَنْ يُرَاقِبَهَا دَائِمًا، وَإِذَا خَرَجَ تَرَكَ الْأَبْوَابَ مُقْفَلَةً دُونَهَا، وَأَوْصَى بِهَا مَنْ يَحْرُسُهَا بَعْدَهُ فَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، مَعَ شِدَّةِ الْغَيْرَةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَإِنْ جَرَى مِنْهَا شَيْءٌ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي صِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ بِهِ دَيُّوثًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ كَعَكْسِهِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا بِمَنْعِ ذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 وَالْأَظْهَرُ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا عَفِيفَةً صَيِّنَةً، لِلْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَالْأَحَادِيثِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَرْمُونَ مَعْنَاهُ: يَقْذِفُونَ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا صَرِيحًا أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الزِّنَا كَنَفْيِ نَسَبِ وَلَدِ الْمُحْصَنَةِ عَنْ أَبِيهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ كَانَ مِنْ زِنًى، وَهَذَا الْقَذْفُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ: الْأَوَّلُ: جَلْدُ الْقَاذِفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَالثَّانِي: عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ. وَالثَّالِثُ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَى، أَوْ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْقَذْفِ يَتَوَقَّفُ إِثْبَاتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِلَّا الزِّنَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى أَجْرَى أَحْكَامَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اللَّائِطِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحْكَامَ اللَّائِطِ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، كَمَا أَشَرْنَا لَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ. الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ ذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فَذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، يَدُلُّ عَلَى إِحْصَانِهِنَّ، أَيْ: عِفَّتِهِنَّ عَنِ الزِّنَى، وَأَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَهُنَّ إِنَّمَا يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا جَمِيعَ الْمَعَانِي الَّتِي تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلْنَا لَهَا كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 24] ، فَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ كَوْنُهُنَّ عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ ; كَقَوْلِهِ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [4 \ 24] ، أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ أَيِ: الْعَفَائِفَ، وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى الْعَفَائِفِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: فَلَا تَأْمَنَنَّ الْحَيَّ قَيْسًا فَإِنَّهُمْ ... بَنُو مُحْصَنَاتٍ لَمْ تُدَنَّسْ حُجُورُهَا وَإِطْلَاقُ الرَّمْيِ عَلَى رَمْيِ الشَّخْصِ لِآخَرَ بِلِسَانِهِ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيِّ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي فَقَوْلُهُ: رَمَانِي بِأَمْرٍ يَعْنِي: أَنَّهُ رَمَاهُ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَفِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْجِهَةُ الْأُولَى: هِيَ الْقَرِينَتَانِ الْقُرْآنِيَّتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ: يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَى، أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ فِي شُمُولِهِ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ إِذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَى خَارِجٌ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ الشُّهَدَاءُ تَلَاعَنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ الْآيَةَ [24 \ 6] . وَمَضْمُونُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ غَيْرَ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى الزِّنَى الَّذِي رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهَا فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَلْدُ وَعَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَتَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، تَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 عَلَيَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى ; كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ. الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ عُقُوبَةِ مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [24 \ 23 - 25] ، وَقَدْ زَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ كَوْنَهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ غَافِلَاتٍ لِإِيضَاحِ صِفَاتِهِنَّ الْكَرِيمَةَ. وَوَصْفُهُ تَعَالَى لِلْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِنَّ غَافِلَاتٍ ثَنَاءٌ عَلَيْهِنَّ بِأَنَّهُنَّ سَلِيمَاتُ الصُّدُورِ نَقِيَّاتُ الْقُلُوبِ لَا تَخْطُرُ الرِّيبَةُ فِي قُلُوبِهِنَّ لِحُسْنِ سَرَائِرِهِنَّ، لَيْسَ فِيهِنَّ دَهَاءٌ وَلَا مَكْرٌ ; لِأَنَّهُنَّ لَمْ يُجَرِّبْنَ الْأَمْرَ فَلَا يَفْطُنَّ لِمَا تَفْطُنُ لَهُ الْمُجَرِّبَاتُ ذَوَاتُ الْمَكْرِ وَالدَّهَاءِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ سَلَامَةِ الصُّدُورِ وَصَفَائِهَا مِنَ الرِّيبَةِ مِنْ أَحْسَنِ الثَّنَاءِ، وَتُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَى الْمُتَّصِفَاتِ بِهِ اسْمَ الْبُلْهِ مَدْحًا لَهَا لَا ذَمًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نُفُجُ الْحَقِيبَةِ بُوصُهَا مُتَنَضِّدٌ ... بَلْهَاءُ غَيْرُ وَشِيكَةِ الْأَقْسَامِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ ... بِلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: عَهِدْتُ بِهَا هِنْدًا وَهِنْدٌ غَرِيرَةٌ ... عَنِ الْفُحْشِ بَلْهَاءُ الْعِشَاءِ نَئُومُ رَدَاحُ الضُّحَى مَيَّالَةٌ بَخْتَرِيَّةٌ ... لَهَا مَنْطِقٌ يُصْبِي الْحَلِيمَ رَخِيمُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [24 \ 23 - 24] ، مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا، فَإِنْ تَابُوا وَأَصْلَحُوا، لَمْ يَنَلْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ. وَعُمُومَاتُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِهِ تَوْبَةً نَصُوحًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 تَقَبَّلَهَا مِنْهُ، وَكَفَّرَ عَنْهُ ذَنْبَهُ وَلَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ آيَةَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا التَّوْبَةَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَامَّةٌ، وَأَنَّ آيَةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْآيَةَ [24 \ 23] ، خَاصَّةً بِالَّذِينِ رَمَوْا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ غَيْرَهَا مِنْ خُصُوصِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ مَنْ رَمَاهُنَّ لَا تَوْبَةَ لَهُ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا يَخْفَى أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَصَّتْ عَلَى قَذْفِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ قَذْفَ الذُّكُورِ لِلذُّكُورِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلْإِنَاثِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلذُّكُورِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، مِنْ قَذْفِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ ; لِلْجَزْمِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا وَإِبْطَالَ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ فِيهِ، مَعَ إِيضَاحِ كَثِيرٍ مِنْ نَظَائِرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [21 \ 78] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، أَنَّهُ يَرْجِعُ لِجَمِيعِهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ مِنْ نَقْلٍ أَوْ عَقْلٍ يُخَصِّصُهُ بِبَعْضِهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ: وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعَطْفُ ... مِنْ قَبْلِ الِاسْتِثْنَا فَكُلًّا يَقْفُو دُونَ دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ ذِي السَّمْعِ ... وَالْحَقُّ الِافْتِرَاقُ دُونَ الْجَمْعِ وَلِذَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَبَنِي زُهْرَةَ، وَبَنِي تَمِيمٍ إِلَّا الْفَاسِقَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَقْفِ الْفَاسِقَ مِنَ الْجَمِيعِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجَمِيعِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِرُجُوعِهِ لِلْأَخِيرَةِ، فَلَا يَخْرُجُ عِنْدَهُ إِلَّا فَاسِقُ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا لِجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَقَدْ زَالَ عَنْهُمُ الْفِسْقُ، وَلَا يَقُولُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 أَبَدًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ لَا تُقْبَلُ أَبَدًا، وَلَوْ تَابَ وَأَصْلَحَ، وَصَارَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَكْحُولٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْآيَةِ رَاجِعٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فَلَا يَرْجِعُ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ بِالتَّوْبَةِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى الَّتِي هِيَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُخَالِفْ إِلَّا مَنْ شَذَّ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوُسْطَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا: دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْآمِدِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي بَعْدَ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ الْوَقْفُ، وَلَا يُحْكَمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَلَا إِلَى الْأَخِيرَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [4 \ 59] . وَإِذَا رَدَدْنَا النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى اللَّهِ وَجَدْنَا الْقُرْآنَ دَالًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْوَقْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا الِاسْتِثْنَاءُ لِلْأُولَى، وَبَعْضَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ لِلْأَخِيرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُجُوعَهُ لِمَا قَبْلَهُ لَيْسَ شَيْئًا مُطَّرِدًا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [4 \ 92] ، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَاجِعٌ لِلدِّيَةِ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا تَسْقُطُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 بِتَصَدُّقِ مُسْتَحِقِّهَا بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ لِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ تَصَدُّقَ مُسْتَحَقِّي الدِّيَةِ بِهَا لَا يُسْقِطُ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ آيَةُ «النُّورِ» هَذِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [4 \ 89 - 90] ، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ إِلَيْهِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [4 \ 89] ، إِذْ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَوْ وَصَلُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَلِ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [4 \ 89] ، أَيْ: فَخُذُوهُمْ بِالْأَسْرِ، وَاقْتُلُوهُمْ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَخْذُهُمْ بِأَسْرٍ، وَلَا قَتْلُهُمْ ; لِأَنَّ الْمِيثَاقَ الْكَائِنَ لِمَنْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ يَمْنَعُ مِنْ أَسْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمْ كَمَا اشْتَرَطَهُ هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ فِي صُلْحِهِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَفِي بَنِي جُذَيْمَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُبَّمَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَقْرَبِ الْجُمَلِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْإِعْجَازِ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ رُجُوعُهُ لِلْجَمِيعِ، وَلَا إِلَى الْأَخِيرَةِ، وَأَنَّ الْأَظْهَرَ الْوَقْفُ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ قَبْلَهُ بِدَلِيلٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِنْ تَجَرَّدَ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ، كَانَ ظَاهِرًا فِي رُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهُ هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَذَفَ إِنْسَانًا بِغَيْرِ الزِّنَى أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا آكِلَ الرِّبَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السَّبِّ يَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ، وَذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ رَادِعًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ قَدْرَ الْحَدِّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ التَّعْزِيرَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِيمَا يَرَاهُ رَادِعًا مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ; لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ كَحَدِّ الزِّنَى، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَبْدًا قَذَفَ حُرًّا ثَمَانِينَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: فَهِمْنَا هُنَاكَ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لِلَّهِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَخَفَّ فِيمَنْ قَلَّتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَفْحَشَ فِيمَنْ عَظُمَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ، فَهُوَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ وَجَبَ لِلْجِنَايَةِ عَلَى عَرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: لَوْ كَانَ يَخْتَلِفُ لَذُكِرَ، كَمَا فِي الزِّنَى. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَبِهِ أَقُولُ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا جُلِدَ ثَمَانِينَ لَا أَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا جَلْدَهُ ثَمَانِينَ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى تَشْطِيرِ الْحَدِّ عَنِ الْأَمَةِ فِي حَدِّ الزِّنَى وَأَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ بِهَا الْعَبْدَ بِجَامِعِ الرِّقِّ، وَالزِّنَى غَيْرُ الْقَذْفِ. أَمَّا الْقَذْفُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ فِي خُصُوصِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُ الْقَذْفِ عَلَى الزِّنَى فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، وَالرَّدْعُ عَنِ الْأَعْرَاضِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ فَيُرْدَعُ الْعَبْدُ كَمَا يُرْدَعُ الْحُرُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي الْآيَةَ [5 \ 32] ، أَنَّ الْحُرَّ إِذَا قَذَفَ عَبْدًا لَا يُحَدُّ لَهُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «: مَنْ قَذَفَ عَبْدَهُ بِالزِّنَى أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» اهـ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِارْتِفَاعِ الْمِلْكِ وَاسْتِوَاءِ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَكَافَأَ النَّاسُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُرْمَةِ، وَاقْتُصَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَظْلُومُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ فِي قَذْفِهِ لَهُ بِالزِّنَى، كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَأَمَّا إِنْ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ، وَكَانَ تَعْرِيضُهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْقَرَائِنِ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَذْفَهُ ; كَقَوْلِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، أَوْ مَا أَنْتَ بِزَانٍ مَا يَعْرِفُكَ النَّاسُ بِالزِّنَى، أَوْ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ يَلْزَمُ الْقَذْفُ بِالتَّعْرِيضِ الْمُفْهِمِ لِلْقَذْفِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ، أَوْ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْقَذْفِ تَصْرِيحًا وَاضِحًا لَا احْتِمَالَ فِيهِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْقَذْفِ، إِلَّا أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [2 \ 235] ، فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ التَّصْرِيحِ لِلْمُعْتَدَّةِ وَالتَّعْرِيضِ، قَالُوا: وَلَمْ يُفَرِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ، إِلَّا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَلَوْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا فِي الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِنَفْيِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا قَذْفًا، وَلَمْ يَدْعُهُمَا لِلِعَانٍ بَلْ قَالَ لِلرَّجُلِ «: أَلَكَ إِبِلٌ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: فَمَا أَلْوَانُهَا» ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ «: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ «: وَمِنْ أَيْنَ جَاءَهَا ذَلِكَ» ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ، قَالَ «: وَهَذَا الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ» ، قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّعْرِيضَ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ الْقَذْفِ، وَكُلُّ كَلَامٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ قَالُوا بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ، لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالتَّصْرِيحِ بِالْقَذْفِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، يَعْنِي الْمُعَرِّضَ بِالْقَذْفِ، قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، اهـ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ: هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، إِنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بِالْمَقْذُوفِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعَرَّةُ بِالتَّعْرِيضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [11 \ 87] ، أَيِ: السَّفِيهُ الضَّالُّ، فَعَرَضُوا لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلَامٍ ظَاهِرُهُ الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [44 \ 49] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الَّذِينَ قَذَفُوا مَرْيَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [19 \ 28] ، فَمَدَحُوا أَبَاهَا، وَنَفَوْا عَنْ أُمِّهَا الْبِغَاءَ، أَيِ: الزِّنَى وَعَرَّضُوا لِمَرْيَمَ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [4 \ 156] ، وَكُفْرُهُمْ مَعْرُوفٌ وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ هُوَ التَّعْرِيضُ لَهَا، أَيْ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أَيْ: أَنْتِ بِخِلَافِهِمَا وَقَدْ أَتَيْتِ بِهَذَا الْوَلَدِ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [34 \ 24] ، فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْهُدَى، فَفُهِمَ مِنْ هَذَا التَّعْرِيضِ مَا يُفْهَمُ مِنْ صَرِيحِهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ مَعَ تَصَرُّفٍ قَلِيلٍ لِإِيضَاحِ الْمُرَادِ. وَحَاصِلُ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورِ: أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ آيَاتٍ قُرْآنِيَّةً، وَبَيَّنَ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا رَأَيْتَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمَعَرَّةَ اللَّاحِقَةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 لِلْمَقْذُوفِ صَرِيحًا تَلْحَقُهُ بِالتَّعْرِيضِ لَهُ بِالْقَذْفِ، وَلِذَلِكَ يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى الْفَهْمِ، وَالتَّعْرِيضُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَالصَّرِيحِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ بَعْضُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي الَّذِي قَالَ لِصَاحِبِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَقَالُوا: قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ بِصَاحِبِهِ وَجَلَدَهُ الْحَدَّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ: أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَدَ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، يُعَرِّضُ لَهُ بِزِنَى أُمِّهِ، وَالْوَذْرُ: غُدَرُ اللَّحْمِ يُعَرِّضُ لَهُ بِكَمَرِ الرِّجَالِ، وَانْظُرْ أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ. وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إِلَى أَحَدِ مُحْتَمِلَاتِهَا، كَالصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ، وَلَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إِلَى الْقَذْفِ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ، يَعْنِي بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحُطَيْئَةَ، لَمَّا قَالَ: دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ وَيُكْسَوْنَ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ أَوِ النَّجَاشِيِّ: قُبَيِّلَةٌ لَا يَخْفِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْهِجَاءَ حَمَلَهُ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَالَ: لَيْتَ آلَ الْخَطَّابِ كَانُوا كَذَلِكَ، وَلَمَّا قَالَ الشَّاعِرُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً ... إِذَا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَلِ قَالَ عُمَرُ أَيْضًا: لَيْتَ آلَ الْخَطَّابِ كَانُوا كَذَلِكَ، فَظَاهِرُ هَذَا الشِّعْرِ يُشْبِهُ الْمَدْحَ، وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ عُمَرَ تَمَنَّى مَا فِيهِ مِنَ الْهِجَاءِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مَدْحٌ وَصَاحِبُهُ يُرِيدُ الذَّمَّ بِلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 نِزَاعٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُ شِعْرِهِ وَآخِرُهُ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَبْيَاتِ قَوْلُهُ: إِذَا اللَّهُ عَادَى أَهْلَ لُؤْمٍ وَذِلَّةٍ ... فَعَادَى بَنِي الْعَجْلَانِ رَهْطَ ابْنِ مُقْبِلِ قُبَيِّلَةٌ لَا يُخْفَرُونَ ... . . . . . . الْبَيْتَ وَفِي آخِرِ شِعْرِهِ: وَمَا سُمِّيَ الْعَجْلَانُ إِلَّا لِقَوْلِهِ ... خُذِ الْقَعْبَ وَاحْلِبْ أَيُّهَا الْعَبْدُ وَاعْجَلِ وَكَوْنُ مِثْلِ هَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا يَهْجُو بِهِ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ التَّمِيمِيَّ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي قَالُوهُ عَلَى مَرْيَمَ: هُوَ تَعْرِيضُهُمْ لَهَا بِقَوْلِهِمْ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ الْآيَةَ [19 \ 28] ، لَا يَتَعَيَّنُ بِانْفِرَادِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهَا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلتَّصْرِيحِ بِالْفَاحِشَةِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [19 \ 27] ، فَقَوْلُهُمْ لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا فِي وَقْتِ مَجِيئِهَا بِالْوَلَدِ تَحْمِلُهُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي إِرَادَتِهِمْ قَذْفَهَا، كَمَا تَرَى، وَالْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ جَلَدَ الْحَدَّ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، قَالَ فِيهِ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْوَذْرَةُ بِالتَّسْكِينِ الْغَدْرَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ إِذَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ قَذْفٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَسَابُّ بِهَا، كَمَا كَانَتْ تَتَسَابُّ بِقَوْلِهِمْ: يَا ابْنَ مُلْقِي أَرْحُلِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ وَذْرٌ مِثْلُ: تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، اهـ مِنْ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ. وَالشَّامَّةُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ اسْمُ فَاعِلِ شَمَّهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، فَحَدَّهُ، وَهُوَ مِنْ سِبَابِ الْعَرَبِ وَذَمِّهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ يَا ابْنَ شَامَّةِ الْمَذَاكِيرِ يَعْنُونَ الزِّنَا، كَأَنَّهَا كَانَتْ تَشُمُّ كَمَرًا مُخْتَلِفَةً فَكَنَّى عَنْهُ، وَالذَّكَرُ قِطْعَةٌ مِنْ بَدَنِ صَاحِبِهِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَا الْقُلُفَ جَمْعَ قُلْفَةِ الذَّكَرِ ; لِأَنَّهَا تُقْطَعُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «لِسَانِ الْعَرَبِ» ، وَهَذَا لَا يَتَّضِحُ مِنْهُ قَصْدُ الزِّنَا وَلَمْ أَرَ مَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 أَوْضَحَ مَعْنَى شَامَّةِ الْوَذْرِ إِيضَاحًا شَافِيًا ; لِأَنَّ شَمَّ كَمَرِ الرِّجَالِ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمَعْهُودِ الْوَاضِحِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ قَائِلَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ يُشَبِّهُ مَنْ عَرَّضَ لَهَا بِالزِّنَا بِسِفَادِ الْحَيَوَانَاتِ ; لِأَنَّ الذَّكَرَ مِنْ غَالِبِ الْحَيَوَانَاتِ إِذَا أَرَادَ سِفَادَ الْأُنْثَى شَمَّ فَرْجَهَا، وَاسْتَنْشَقَ رِيحَهُ اسْتِنْشَاقًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزُو عَلَيْهَا فَيُسَافِدُهَا فَكَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَشُمُّ ذَكَرَ الرَّجُلِ كَمَا يَشُمُّ الْفَحْلُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فَرْجَ أُنْثَاهُ، وَشَمُّهَا لِمَذَاكِيرِ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْمُوَاقَعَةِ، فَكَنَّوْا عَنِ الْمُوَاقَعَةِ بِشَمِّ الْمَذَاكِيرِ، وَعَبَّرُوا عَنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ بِالْوَذْرَةِ ; لِأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ بَدَنِ صَاحِبِهِ كَقِطْعَةِ اللَّحْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا كَثْرَةَ مُلَابَسَتِهَا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا تَشُمُّ رِيحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُجَجَهُمْ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، هَلْ يَلْزَمُ بِهِ الْحَدُّ أَوْ لَا يَلْزَمُ بِهِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ التَّعْرِيضَ إِذَا كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى الْقَذْفِ فَهْمًا وَاضِحًا مِنَ الْقَرَائِنِ أَنَّ صَاحِبَهُ يُحَدُّ ; لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى عِرْضِ الْمُسْلِمِ تَتَحَقَّقُ بِكُلِّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ فَهْمًا وَاضِحًا، وَلِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بَعْضُ النَّاسِ لِقَذْفِ بَعْضِهِمْ بِأَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيرِ الْمُعَرِّضِ بِالْقَذْفِ لِلْأَذَى الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ لِصَاحِبِهِ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوِ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيَّةَ تَحْتَ الْمُسْلِمِ جُلِدَ الْحَدَّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا، وَلَا لَقِيتُهُ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، انْتَهَى مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَقَالَ آخَرُ: صَدَقْتَ، أَنَّ الْمُصَدِّقَ قَاذِفٌ فَتَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ لِلْقَاذِفِ قَذْفٌ خِلَافًا لِزُفَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَوْ قَالَ: أَخْبَرَنِي فَلَانٌ أَنَّكَ زَنَيْتَ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَوْ صَدَّقَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَكُونُ قَاذِفًا إِذَا كَذَّبَهُ الْآخَرُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَطَاءٌ، وَنَحْوُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِزِنَاهُ، اهـ مِنْهُ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا وَلَا يُحَدُّ، لِأَنَّهُ حَكَى عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنْكَرَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ رَجُلًا وَأَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ قَاذِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَى، وَلَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى زَنَا الْمَقْذُوفُ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْ قَاذِفِهِ; لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ بِزِنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بَعْدَ لُزُومِ الْحَدِّ لِلْقَاذِفِ; لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ، فَلَا يُحَدُّ لِغَيْرِ عَفِيفٍ؛ اعْتِبَارًا بِالْحَالَةِ الَّتِي يُرَادُ أَنْ يُقَامَ فِيهَا الْحَدُّ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ. وَهَذَا الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا عَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُحَدُّ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَدَاوُدُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَجَبَ وَتَمَّ بِشُرُوطِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطِ الْوُجُوبِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا هُوَ مَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَلَا يُحَدُّ لِمَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ. وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّ عَدَمَ عِفَّتِهِ كَانَ مَسْتُورًا، ثُمَّ ظَهَرَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مَنْ وطِئَ بَيْنَ الْفَخْذَيْنِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، وَلَا يُحَدُّ قَائِلُهُ ; لِأَنَّهُ رَمَاهُ بِفِعْلٍ لَا يُعَدَّ زِنًا إِجْمَاعًا، خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ زَاعِمًا أَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ إِلَّا إِذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاذِفِ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ زِنَا الْمَقْذُوفِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ الْقَاذِفَ لَوْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ شَرْعًا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ بِذَلِكَ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، لِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَيْضًا عَدَمُ إِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اعْتُبِرَ فِي حَدِّهِ حَدَّ الْقَذْفِ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي هَذَا كُلِّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَتُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الطَّلَبِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَوْ طَلَبَ ثُمَّ عَفَا عَنِ الْحَدِّ سَقَطَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ ; لِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ بِاسْتِيفَائِهِ فَسَقَطَ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا الطَّلَبُ بِاسْتِيفَائِهَا، وَحَدُّ السَّرِقَةِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَسْرُوقِ لَا بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، وَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ، وَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ هُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ فِيهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْهُمَا؟ الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَبَلَغَ الْإِمَامَ أَقَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ الْمَقْذُوفُ، وَنَفَعَتِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَشَطَّرُ فِيهِ الْحَدُّ بِالرِّقِّ كَالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، فَلَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ وَلَمْ تَنْفَعِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ حَتَّى يُحَلِّلَهُ الْمَقْذُوفُ، اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِعَفْوِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 الْمَقْذُوفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ، فَإِنْ بَلَغَ الْإِمَامَ، فَلَا يُسْقِطُهُ عَفْوُهُ إِلَّا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْعَفْوِ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَذْفَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ وَكُلُّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ فِعْلِهِ، وَلِدَفْعِ مَعَرَّةِ الْقَذْفِ عَنْهُ، فَإِذَا تَجَرَّأَ عَلَيْهِ الْقَاذِفُ انْتَهَكَ حُرْمَةَ عِرْضِ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ حَقًّا بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ عِرْضِهِ، وَانْتَهَكَ أَيْضًا حُرْمَةَ نَهْيِ اللَّهِ عَنْ فِعْلِهِ فِي عِرْضِ مُسْلِمٍ، فَكَانَ لِلَّهِ حَقٌّ عَلَى الْقَاذِفِ بِانْتِهَاكِهِ حُرْمَةَ نَهْيِهِ، وَعَدَمِ امْتِثَالِهِ، فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ مُسْتَحِقٌّ لِعُقُوبَتِهِ، فَحَقُّ اللَّهِ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَحَقُّ الْمُسْلِمِ يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، أَوْ بِالتَّحَلُّلِ مِنْهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا عَفَا وَسَقَطَ الْحَدُّ بِعَفْوِهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرَ الْقَاذِفِ لِحَقِّ اللَّهِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الزَّانِي بِالزِّنَا وَلَكِنَّ الشُّهُودَ لَمْ يُعَدَّلُوا، فَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ يَرَيَانِ أَلَّا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ، وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالنُّعْمَانُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَكَانَ أَحَدُهُمْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا يُجْلَدُونَ جَمِيعًا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي أَرْبَعَةِ عِمْيَانٍ يَشْهَدُونَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى: يُضْرَبُونَ، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ، وَقَدْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي الزِّنَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُغَرَّمُ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ قَالَ عَمَدْتُ لِيُقْتَلَ، فَالْأَوْلِيَاءُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا، وَأَخَذُوا رُبْعَ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُقْتَلُ وَعَلَى الْآخَرِينَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ أَخْطَأْتُ وَأَرَدْتُ غَيْرَهُ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ قَالَ تَعَمَّدْتُ قُتِلَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَهُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَعْدِلُوا حُدُّوا كُلُّهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِمَجْهُولٍ غَيْرِ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ، كَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ ; لِأَجْلِ أَنْ يُقْتَلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَى شُبْهَةً فِي رُجُوعِهِ يُغَرَّمُ قِسْطَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُغَرَّمُ الدِّيَةَ كَامِلَةً لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ مَنْ قَذَفَ مَنْ يَحْسَبُهُ عَبْدًا فَإِذَا هُوَ حُرٌّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ الْوَلَدِ حُدَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا حَدُّهُ فِي قَذْفِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَعِتْقِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِ مَسْتَوْلِدِهَا، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ حُرِّيَّتُهَا بِالْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ بَيْعَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَاذِفُ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حُرًّا حُرِّيَّةً كَامِلَةً فِيمَا يَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ قَذَفَ مَنْ يَظُنُّهُ عَبْدًا، فَإِذَا هُوَ حُرٌّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ قَذْفَ حُرٍّ، وَإِنَّمَا نَوَى قَذْفَ عَبْدٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ تَزُولُ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِقَوْلِ الْقَاذِفِ: مَا قَصَدْتُ قَذْفَكَ وَلَا أَقُولُ: إِنَّكَ زَانٍ، وَإِنَّمَا قَصَدْتُ بِذَلِكَ مَنْ كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ عَبْدًا فَأَنْتَ عَفِيفٌ فِي نَظَرِي، وَلَا أَقُولُ فِيكَ إِلَّا خَيْرًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا، مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ «الْحَجِّ» 0 قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَإِذَا قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ إِذَا طَالَبُوا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، مَا نَصُّهُ: وَبِهَذَا قَالَ: طَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لَهُ حَدٌّ كَامِلٌ ; كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ; وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ. وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَذَّبَهُ فِي قَذْفِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفِينَ بِحَدِّهِ لِلْآخَرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ طَلَبُوهُ جُمْلَةً حُدَّ لَهُمْ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ أُقِيمَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَأَيُّهُمْ طَالَبَ بِهِ اسْتَوْفَى، وَسَقَطَ فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ الطَّلَبُ بِهِ كَحَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى أَوْلِيَائِهَا فِي تَزْوِيجِهَا، إِذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ فَلِغَيْرِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَاسْتِيفَاؤُهُ ; لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِعَفْوِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي الطَّلَبُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُمْ إِنْ طَلَبُوهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ طَلَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقَمْ حَتَّى طَلَبَهُ الْكُلُّ فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ فَأُقِيمَ لَهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ آخَرُ أُقِيمَ لَهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُهُمْ وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى طَلَبِهِ، وَقَعَ اسْتِيفَاؤُهُ لِجَمِيعِهِمْ، وَإِذَا طَلَبَهُ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَاقِينَ بِغَيْرِ اسْتِيفَائِهِمْ (فِي) إِسْقَاطِهِمْ، وَإِنْ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَاتٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ حَمَّادٌ وَمَالِكٌ: لَا يَجِبُ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ تُوجِبُ حَدًّا، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ كَفَى حَدٌّ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ زَنَى بِنِسَاءٍ، أَوْ شَرِبَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمُسْكِرِ، وَلَنَا أَنَّهَا حُقُوقٌ لِآدَمِيِّينَ فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ قَالَا: وَإِنْ قَذَفَ رَجُلًا مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزَنَيْاتٍ، وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ نَظَرْتَ، فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ أَوْجَبَ حَدًّا ثَانِيًا، وَهَذَا يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ أَعَادَ قَذْفَهُ فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبُرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: شَاطَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يُثْبِتْ فَأَمَرَ بِجِلْدِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَالَ: شُهُودُ زُورٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عِنْدَكَ يَشْهَدُ رَجْمَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَلَا يُعَادُ فِيهِ فِرْيَةُ جَلْدٍ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلُ عَلِيٍّ: إِنْ جَلَدْتَهُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ، قَالَ: كَأَنَّهُ جَعَلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكُنْتُ أَنَا أُفَسِّرُهُ عَلَى هَذَا حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَعْجَبَنِي، ثُمَّ قَالَ يَقُولُ: إِذَا جَلَدْتَهُ ثَانِيَةً فَكَأَنَّكَ جَعَلْتَهُ شَاهِدًا آخَرَ، فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ وَقَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ نَظَرْتَ، فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ فَحَدٌّ ثَانٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاذِفِ أَبَدًا بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ قَذَفَهُ عُقَيْبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُحَدُّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ، وَلِأَنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُحَدُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ لِمَرَّةٍ فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَقَدْ رَأَيْتُ نَقْلَهُ لِأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّاتٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسَائِلُ لَمْ نَعْلَمْ فِيهَا نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ كَذِبُهُ عَلَى الْجَمِيعِ وَتَزُولُ بِهِ الْمَعَرَّةُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَيَحْصُلُ شِفَاءُ الْغَيْظِ بِحَدِّهِ لِلْجَمِيعِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ رَمَى جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ أَنَّهُ يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، بِعَدَدِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي قَذَفَ بِهَا ; لِأَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُسْتَقِلًّا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَحَدُّهُ لِبَعْضِهِمْ لَا يَظْهَرُ بِهِ كَذِبُهُ عَلَى الثَّانِي الَّذِي قَذَفَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلَا تَزُولُ بِهِ عَنْهُ الْمَعَرَّةُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ قَذْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَذْفًا مُفْرَدًا لَمْ يُجْمَعْ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهُمْ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تَكَرَّرُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِعَدَدِهِمْ، كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» . وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ الْقَذْفَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ يَكْفِي فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ إِنْ رَمَاهُ بَعْدَ حَدِّهِ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ بَعْدَ طُولِ حَدٍّ أَيْضًا، وَإِنْ رَمَاهُ قُرْبَ زَمَنِ حَدِّهِ بِعَيْنِ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ لَهُ لَا يُعَادُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، كَأَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: زَنَيْتَ بِامْرَأَةٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 بَيْضَاءَ، وَفِي الثَّانِي قَالَ: بِامْرَأَةٍ سَوْدَاءَ، فَالظَّاهِرُ تَكَرُّرُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : إِنْ قَذَفَ رَجُلًا فَلَمَّا ضُرِبَ أَسْوَاطًا قَذَفَهُ ثَانِيًا أَوْ آخَرَ ابْتُدِئَ الْحَدُّ عَلَيْهِ ثَمَانِينَ مِنْ حِينِ يَقْذِفُهُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنَ السِّيَاطِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا فَلَمْ تَلْحَقِ الْمَعَرَّةُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَإِنْ طَلَبُوا إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ جَمِيعًا لَا يُحَدُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُعَرِّفْ مَنْ أَرَادَ بِكَلَامِهِ، نَقَلَهُ الْمَوَّاقُ عَنِ الْبَاجِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي قَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا حَدَّ فِيهِ، أَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِذَا قَالَ مَنْ رَمَانِي فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا، وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ صِدْقُهُ فِي قَذْفِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَقْذِفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ كَثِيرَةٍ بِالزِّنَى كُلَّهُمْ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحِقِ الْعَارَ بِأَحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، انْتَهَى مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُمَا، وَعَلَيْهِ حَدَّانِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ أَزَنَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمُفَضَّلِ، وَالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّ الْمُفَضَّلَ أَفْضَلُ فِيهِ مِنْ صَاحِبِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِيهِ، فَمَعْنَى كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فِي صِيغَةِ التَّفْضِيلِ: أَنْتَ وَفُلَانٌ زَانِيَانِ، وَلَكِنَّكَ تَفُوقُهُ فِي الزِّنَى، وَكَوْنُ هَذَا قَذْفًا لَهُمَا وَاضِحٌ، كَمَا تَرَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِلْمُخَاطَبِ فَقَطْ، دُونَ فُلَانٍ الْمَذْكُورِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا عَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ لِلْأَوَّلِ، وَلَا لِلثَّانِي إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ قَذْفٌ صَرِيحٌ لَهُمَا بِعِبَارَةٍ وَاضِحَةٍ، لَا إِشْكَالَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» مُحْتَجًّا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الثَّانِي، مَا نَصُّهُ: وَالثَّانِي يَكُونُ قَذْفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ ; كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا الْآيَةَ [10 \ 35] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [6 \ 81] ، وَقَالَ لُوطٌ: بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [11 \ 78] ، أَيْ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، وَلَا طَهَارَةَ فِيهَا لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ هُوَ سَاقَهُ، وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَيْهِ. وَحَاصِلُ الِاحْتِجَاجِ الْمَذْكُورِ: أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تَرِدُ مُرَادًا بِهَا مُطْلَقُ الْوَصْفِ لَا حُصُولُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَمَثَّلَ لَهُ هُوَ بِكَلِمَةِ: أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَكَلِمَةِ: أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَكَلِمَةِ: أَطْهَرُ لَكُمْ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ لَا لِلتَّفْضِيلِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا يَخْفَى أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تَرِدُ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَلَكِنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ التَّفْضِيلِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَ مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ ; لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا نَصِيبَ لَهَا مِنْ أَحَقِّيَّةِ الِاتِّبَاعَ أَصْلًا فِي قَوْلِهِ: أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي وَلِأَنَّ الْكَفَّارَ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْأَحَقِّيَّةِ بِالْأَمْنِ، وَلِأَنَّ أَدْبَارَ الرِّجَالِ لَا نَصِيبَ لَهَا فِي الطَّهَارَةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ وُرُودِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27] ، أَيْ: هَيِّنٌ سَهْلٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الشَّنْفَرَى: وَإِنْ مُدَّتِ الْأَيْدِيِ إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِالْعَجِلِ مِنْهُمْ، وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ أَيْ: عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقَوْلُ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ: لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ ... عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أَوَّلُ أَيْ: لَوَجِلٌ، وَقَوْلُ الْأَحْوَصِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيِّ: إِنِّي لِأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وَإِنَّنِي ... قَسَمًا إِلَيْكَ مَعَ الصُّدُودِ لَأَمْيَلُ أَيْ: لَمَائِلٌ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ. أَيْ: بِوَاحِدٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَعَمْرُكَ إِنَّ الزِّبْرِقَانَ لَبَاذِلٌ ... لِمَعْرُوفِهِ عِنْدَ السِّنِينَ وَأَفْضَلُ أَيْ: وَفَاضِلٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ، وَلَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَصْفِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ خَارِجٍ، أَوْ قَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ لَهُ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، لَيْسَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ، وَلَا دَلِيلٌ صَارِفٌ لِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ عَنْ أَصْلِهَا، فَوَجَبَ إِبْقَاؤُهَا عَلَى أَصْلِهَا، وَحَدُّ الْقَاذِفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْإِتْيَانُ بِلَفْظَةِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، يُوَضِّحُ صَرَاحَةً الصِّيغَةَ فِي التَّفْضِيلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُ الْمُلَاعَنَةِ بِالزِّنَى، وَلَا رَمْيُ وَلَدِهَا بِأَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَمَنْ رَمَى أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا زِنًى، وَلَا عَلَى وَلَدِهَا أَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَإِنَّمَا انْتَفَى نَسَبُهُ عَنِ الزَّوْجِ بِلِعَانِهِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيًّا فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ. .، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَلَّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍّ، وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. . إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَنْ قَالَ لِابْنِ مُلَاعَنَةٍ: لَسْتَ لِأَبِيكَ الَّذِي لَاعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ خِلَافُ التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ الْمُلَاعِنَ يَنْتَفِي عَنْهُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ، فَنَفْيُهُ عَنْهُ حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، وَلِذَا لَا يَتَوَارَثَانِ، وَمَنْ قَالَ كَلَامًا حَقًّا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ بِذَلِكَ ; كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا مَنْ نَفَاهُ زَوْجُ أُمِّهِ، أَوْ يَا ابْنَ مُلَاعَنَةٍ، أَوْ يَا ابْنَ مَنْ لُوعِنَتْ ; وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ زِنًى وَنَحْوَهَا مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي حُكْمِ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ بِتَاءِ الْفَرْقِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي، بِلَا تَاءٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : هُوَ قَذْفٌ صَرِيحٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ: وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ، أَيْ: يَا عَلَّامَةُ فِي الزِّنَا ; كَمَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ: عَلَّامَةٌ، وَلِكَثِيرِ الرِّوَايَةِ: رَاوِيَةٌ، وَلِكَثِيرِ الْحِفْظِ: حَفِظَةٌ، وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ كَانَ قَذْفًا لِلْآخَرِ ; كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خِطَابٌ لَهُمَا وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِمَا بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: يَا شَخْصًا زَانِيًا، وَلِلرَّجُلِ: يَا نَسَمَةً زَانِيَةً، كَانَ قَاذِفًا، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّامَةٌ فِي الزِّنَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّمَا كَانَ اسْمًا لِلْفِعْلِ، إِذَا دَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَانَتْ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَقَوْلِهِمْ: حَفِظَةٌ لِلْمُبَالِغِ فِي الْحِفْظِ، وَرَاوِيَةٌ لِلْمُبَالِغِ فِي الرِّوَايَةِ، وَكَذَلِكَ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ وَصُرَعَةٌ ; وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُذَكِّرُ الْمُؤَنَّثَ وَيُؤَنِّثُ الْمُذَكَّرَ، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُرَادًا بِمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِيمَنْ قَالَ لِذَكَرٍ: يَا زَانِيَةُ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ. وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْقَاذِفَ بِالْعِبَارَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، أَوْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَنِدَاؤُهُ لِلشَّخْصِ بِلَفْظِ الزِّنَى ظَاهِرٌ فِي قَصْدِهِ قَذْفَهُ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ، فَاللَّهُ يَكْثُرُ فِيهَا إِطْلَاقُ وَصْفِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا شَخْصًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ هُنَاكَ قَوْلُ حَسَّانٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنَعَ النَّوْمَ بِالْعِشَاءِ الْهُمُومُ ... وَخَيَالٌ إِذَا تَغَارُ النُّجُومُ مِنْ حَبِيبٍ أَصَابَ قَلْبَكَ مِنْهُ ... سَقَمٌ فَهُوَ دَاخِلٌ مَكْتُومُ وَمُرَادُهُ بِالْحَبِيبِ أُنْثَى، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: لَمْ تَفُتْهَا شَمْسُ النَّهَارِ بِشَيْءٍ ... غَيْرَ أَنَّ الشَّبَابَ لَيْسَ يَدُومُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 وَقَوْلُ كُثَيِّرٍ: لَئِنْ كَانَ يَرِدُ الْمَاءَ هَيْمَانَ صَادِيًا ... إِلَيَّ حَبِيبًا إِنَّهَا لَحَبِيبُ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ مَلِيحِ بْنِ الْحَكَمِ الْهُذَلِيِّ: وَلَكِنَّ لَيْلَى أَهْلَكَتْنِي بِقَوْلِهَا ... نَعَمْ ثُمَّ لَيْلَى الْمَاطِلُ الْمُتَبَلِّحُ يَعْنِي لَيْلَى الشَّخْصُ الْمَاطِلُ الْمُتَبَلِّحُ. وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ حِزَامٍ الْعُذْرِيِّ: وَعَفْرَاءُ أَرْجَى النَّاسِ عِنْدِي مَوَدَّةً ... وَعَفْرَاءُ عَنِّي الْمُعْرِضُ الْمُتَوَانِي أَيِ: الشَّخْصُ الْمُعْرِضُ. وَإِذَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَذْكِيرُ وَصْفِ الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ كَمَا رَأَيْتَ أَمْثِلَتَهُ، فَكَذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ تَأْنِيثِهِمْ صِفَةَ الذَّكَرِ بِاعْتِبَارِ النَّسَمَةِ أَوِ النَّفْسِ، وَوُرُودُ ذَلِكَ لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ مَعَ تَذْكِيرِ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ ; كَقَوْلِهِ: أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَمَى رَجُلًا قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَى سَابِقًا أَوِ امْرَأَةً، قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهَا الزِّنَى سَابِقًا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ، وَلِأَنَّ إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ قَدْ زَالَ بِالزِّنَى، وَيَدُلُّ لِهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، فَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ مَنْ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ تَعْزِيرُهُ ; لِأَنَّهُ رَمَاهُ بِفَاحِشَةٍ وَلَمْ يُثْبِتْهَا، وَلَا يُتْرَكُ عِرْضُ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَى سَابِقًا مُبَاحًا لِكُلِّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَرْمِيَهُ بِالزِّنَى دُونَ عُقُوبَةٍ رَادِعَةٍ، كَمَا تَرَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وَزَنَى فِي شِرْكِهِ، أَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا وَنَكَحَ أُمَّهُ أَوِ ابْنَتَهُ مَثَلًا فِي حَالِ كَوْنِهِ مَجُوسِيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَمَاهُ أَحَدٌ بِالزِّنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا مَنْ زَنَى فِي أَيَّامِ شِرْكِهِ أَوْ يَا مَنْ نَكَحَ أُمَّهُ مَثَلًا فِي أَيَّامِهِ مَجُوسِيًّا، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَدَّ فِيهَا ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَخْبَرَ بِحَقٍّ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا مَنْ زَنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَوْ نَكَحَ أُمَّهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا لَا يَخْفَى. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا زَانِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِ ذَلِكَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ زَنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ زِنَاهُ فِي زَمَنِ شِرْكِهِ، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا التَّفْسِيرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، أَوْ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، اهـ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَفْسِيرِهِ ذَلِكَ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَصَرَّحَ بِهِ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخِرَقِيَّ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَمَنْ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَحَدُّ الْقَاذِفِ إِذَا طَالَبَ الْمَقْذُوفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَبْدًا، انْتَهَى. الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَذَفَ بِنْتًا غَيْرَ بَالِغَةٍ بِالزِّنَى، أَوْ قَذَفَ بِهِ ذَكَرًا غَيْرَ بَالِغٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: إِذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَى كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ بِقَذْفٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى إِذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَيُعَزَّرُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ لَكِنَّ مَالِكًا غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَغَيْرَهُ رَاعَى حِمَايَةَ ظَهْرِ الْقَاذِفِ، وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْجَارِيَةِ بِنْتِ تِسْعٍ، يُحَدُّ قَاذِفُهَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ عَشْرًا ضُرِبَ قَاذِفُهُ، قَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا قَذَفَ غُلَامًا يَطَأُ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْجَارِيَةُ إِذَا جَاوَزَتْ تِسْعًا مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَيُعَزَّرُ عَلَى الْأَذَى، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَهَا عِنْدَنَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَلَا مَعَرَّةَ تَلْحَقُهُ بِذَنْبٍ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، وَلَوْ جَاءَ قَاذِفُ الصَّبِيِّ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الصَّبِيِّ بِالزِّنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ قَذَفَهُ قَذْفًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَلَزِمَهُ الْحَدُّ بِإِقَامَةِ الْقَاذِفِ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَاهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِي هَذَا جَمْعٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَالِغَ الرَّادِعَ لَهُ، وَلِغَيْرِهِ عَنْ قَذْفِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ، أَنَّ الْقَاذِفَ إِنَّ كَانَ عَامِّيًّا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُعْتَلِّ وَالْمَهْمُوزِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِظُهُورِ قَصْدِهِ لِقَذْفِهِ بِالزِّنَى، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِقَوْلِي: زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، وَمَعْنَى زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ: لَجَأْتَ إِلَى شَيْءٍ، أَوْ صَعِدْتَ فِي جَبَلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ يُرَقِّصُ ابْنَهُ حَكِيمًا وَهُوَ صَغِيرٌ: أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ أَوْ أَشْبِهْ حَمَلْ ... وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكَلْ يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلْ ... وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأً فِي الْجَبَلْ وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: زَنَأً فِي الْجَبَلِ أَيْ صُعُودًا فِيهِ، وَالْهِلَّوْفُ الثَّقِيلُ الْجَافِي الْعَظِيمُ اللِّحْيَةِ، وَالْوَكَلُ الَّذِي يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَزَعَمَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ هَذَا الرَّجَزَ لِأُمِّ الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ تُرَقِّصُهُ بِهِ وَهِيَ مَنْفُوسَةُ ابْنَةُ زَيْدِ الْفَوَارِسِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوْهَرِيِّ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ، وَرَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَقَالَتْ أُمُّهُ تَرُدُّ عَلَى أَبِيهِ: أَشْبِهْ أَخِي أَوْ أَشْبِهَنَّ أَبَاكَا ... أَمَّا أَبِي فَلَنْ تَنَالَ ذَاكَا تَقْصُرُ أَنْ تَنَالَهُ يَدَاكَا قَالَهُ فِي اللِّسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فَمَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ جَدِّهِ أَوْ عَنْ أُمِّهِ أَوْ نَسَبَهُ إِلَى شِعْبٍ غَيْرِ شِعْبِهِ، أَوْ قَبِيلَةٍ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ: أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهَا الزِّنَا، وَلَمْ يَنْفِ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنْ نَفَاهُ عَنْ جَدِّهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِي نِسْبَةِ جِنْسٍ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ أَبْيَضَ لِأَسْوَدَ، قَالَ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : إِنْ قَالَ لِفَارِسِيٍّ: يَا رُومِيُّ أَوْ يَا حَبَشِيُّ، أَوْ نَحْوَ هَذَا لَمْ يُحَدَّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا، وَإِنِّي أَرَى أَلَّا حَدَّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهِ أَسْوَدُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا إِنْ نَسَبَهُ إِلَى حَبَشِيٍّ ; كَأَنْ قَالَ: يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ وَهُوَ بَرْبَرِيٌّ، فَالْحَبَشِيُّ وَالرُّومِيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِذَا كَانَ بَرْبَرِيًّا. وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَسَوَاءٌ قَالَ: يَا حَبَشِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ وَالرُّومِيِّ، أَوْ يَا ابْنَ الرُّومِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَكَذَلِكَ عَنْهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، قَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ: هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِهِ الْفَتْوَى عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ يُونُسَ، فَانْظُرْهُ أَنْتَ، اهـ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ حَدِّ مَنْ نَسَبَ جِنْسًا إِلَى غَيْرِهِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَمَحَلُّ هَذَا عِنْدَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ. قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : مَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا حَبَشِيُّ، أَوْ يَا فَارِسِيُّ، أَوْ يَا رُومِيُّ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُنْسَبُ إِلَى آبَائِهَا وَهَذَا نَفْيٌ لَهَا عَنْ آبَائِهَا. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَتَّجِهُ كُلَّ الِاتِّجَاهِ، وَوَجْهُ كَوْنِ مَنْ قَالَ لِرُومِيٍّ: يَا حَبَشِيُّ مَثَلًا لَا يُحَدُّ، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْحَبَشِيَّ فِي بَعْضِ أَخْلَاقِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، اهـ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ جَدِّهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ ابْنَ جَدِّكَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ إِذْ هُوَ ابْنُ أَبِيهِ لَا جَدِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَ جِنْسًا إِلَى غَيْرِهِ ; كَقَوْلِهِ لِعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ إِذَا نَسَبَهُ لِقَبِيلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ قَبِيلَتِهِ أَوْ نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ ; لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ بِتِلْكَ الْقَبِيلَةِ الَّتِي نَسَبُهُ لَهَا فِي الْأَخْلَاقِ أَوِ الْأَفْعَالِ، أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ قَصْدُ الْقَذْفِ. وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا نَبَطِيُّ، فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، اهـ، وَكَذَلِكَ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ الْقَائِلِينَ بِحَدِّ مَنْ نَسَبَهُ لِعَمِّهِ وَنَحْوِهِ، أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ الَّذِي هُوَ رَبِيبُهُ ; لِأَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ كِلَاهُمَا كَالْأَبِّ فِي الشَّفَقَةِ، وَقَدْ يُرِيدُ التَّشْبِيهَ بِالْأَبِّ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ، وَقَوْلُهُ: ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ، قَالُوا: وَكَانَ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ: يُلَقَّبُ بِمَاءِ السَّمَاءِ لِكَرَمِهِ، وَأَنَّهُ يُقِيمُ مَالَهُ فِي الْقَحْطِ مَقَامَ الْمَطَرِ، قَالُوا: وَسُمِّيَتْ أُمُّ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِمَاءِ السَّمَاءِ، لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، وَقِيلَ لِأَوْلَادِهَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمْ مُلُوكُ الْعِرَاقِ، اهـ، وَإِنْ نَسَبَهُ لِجَدِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَى جَدِّهِ ; كَمَا هُوَ وَاقِعٌ بِكَثْرَةٍ عَلَى مَرِّ الْأَزْمِنَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، اهـ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِيمَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبَ جِنْسًا لِغَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِذَا نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ الْخِلَافَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 فِي «الْمُغْنِي» : وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَلَّا يَجِبَ الْحَدُّ بِنَفْيِ الرَّجُلِ عَنْ قَبِيلَتِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِأَعْجَمِيٍّ: إِنَّكَ عَرَبِيٌّ، وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ: أَنْتَ نَبَطِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّكَ نَبَطِيُّ اللِّسَانِ أَوِ الطَّبْعِ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ احْتِمَالًا كَثِيرًا فَلَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إِلَيْهِ، وَمَتَى فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ فَهُوَ قَاذِفٌ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» . وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ فِيهَا نُصُوصٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا احْتَمَلَ غَيْرَ الْقَذْفِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُحَدُّ صَاحِبُهُ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَاحْتِمَالُ الْكَلَامِ غَيْرَ الْقَذْفِ لَا يَقِلُّ عَنْ شُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يَقُولُ: إِنَّ قُرَيْشًا لَيْسَتْ مِنْ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ» ، اهـ، وَانْظُرْ إِسْنَادَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي أَحْكَامِ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا قَرْنَانُ، أَوْ يَا دَيُّوثُ، أَوْ يَا كَشْخَانُ، أَوْ يَا قَرْطَبَانُ، أَوْ يَا مَعْفُوجُ، أَوْ يَا قَوَّادُ، أَوْ يَا ابْنَ مُنْزِلَةِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ. اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: هُوَ أَنْ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا قَرْنَانُ، لَزِمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِزَوْجَتِهِ إِنْ طَلَبَتْهُ ; لِأَنَّ الْقَرْنَانَ عِنْدَ النَّاسِ زَوْجُ الْفَاعِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: يَا ابْنَ مُنْزِلَةِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الزَّانِيَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تُنْزِلُ الرُّكْبَانَ، وَتَجْعَلُ عَلَى بَابِهَا رَايَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: يَا مُخَنَّثُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ أُدِّبَ، وَلَمْ يُحَدَّ. قَالَهُ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا حِمَارُ ابْنَ الْحِمَارِ، أَوْ يَا كَلْبُ، أَوْ يَا ثَوْرُ، أَوْ يَا خِنْزِيرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا رَادِعًا حَسْبَمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: يَا فَاسِقُ، يَا كَافِرُ، يَا خَبِيثُ، يَا لِصُّ، يَا فَاجِرُ، يَا مُنَافِقُ، يَا لُوطِيُّ، يَا مَنْ يَلْعَبُ بِالصِّبْيَانِ، يَا آكِلَ الرِّبَا، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، يَا دَيُّوثُ، يَا مُخَنَّثُ، يَا خَائِنُ، يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، يَا زِنْدِيقُ، يَا قَرْطَبَانُ، يَا مَأْوَى الزَّوَانِي أَوِ اللُّصُوصِ، يَا حَرَامُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَآكَدُ التَّعْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا كَلْبُ، يَا تَيْسُ، يَا حِمَارُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا بَقَرُ، يَا حَيَّةُ، يَا حَجَّامُ، يَا بَبْغَاءُ، يَا مُؤَاجِرُ، يَا وَلَدَ الْحَرَامِ، يَا عَيَّارُ، يَا نَاكِسُ، يَا مَنْكُوسُ، يَا سُخْرَةُ، يَا ضُحَكَةُ، يَا كَشْخَانُ، يَا أَبْلَهُ، يَا مَسُوسُ ; فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا يُعَزَّرُ بِهَا، قَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» : لَا يُعَزَّرُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا ; لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ إِطْلَاقَ الْحِمَارِ وَنَحْوِهِ بِمَعْنَى الْبَلَادَةِ وَالْحِرْصِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّتِيمَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَلٌ ; وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ لَا يَلْحَقُهُ شَيْنٌ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ بِالْقَاذِفِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَلَيْسَ بِكَلْبٍ وَلَا حِمَارٍ وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ فِي زَمَانِنَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ ; لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الشَّتْمُ فِي عُرْفِنَا. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ ; لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا فِي حَقِّهِ، وَتَلْحَقُهُ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَمِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُوجِبُ التَّعْزِيرَ قَوْلُهُ: يَا رُسْتَاقِيُّ، وَيَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، وَيَا ابْنَ الْحَجَّامِ، وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ، اهـ مِنْ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهَا تُوجِبُ التَّعْزِيرَ فَوُجُوبُ التَّعْزِيرِ بِهَا كَمَا ذَكَرُوا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهَا لَا تَعْزِيرَ فِيهَا، فَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا يَجِبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ ; لِأَنَّهَا كُلُّهَا شَتْمٌ وَعَيْبٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا حِمَارُ، يَا تَيْسُ، يَا بَقَرُ، إِلَى آخِرِهِ، أَنَّ هَذَا شَتْمٌ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ تَشْبِيهُ الْإِنْسَانِ بِالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي الْخِسَّةِ وَالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَهُوَ مِنْ نَوْعِ التَّشْبِيهِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ تَشْبِيهًا بَلِيغًا وَلَا شَكَّ أَنَّ عَاقِلًا قِيلَ لَهُ: يَا كَلْبُ، أَوْ يَا خِنْزِيرُ مَثَلًا أَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ، وَلَا يُشَكُّ أَنَّهُ شَتْمٌ، فَهُوَ أَذًى ظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ التَّعْزِيرُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَوْنُهُمْ يُسَمُّونَ الرَّجُلَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي ابْنَهُ بَاسِمٍ قَبِيحٍ لَا يَرْضَى غَيْرُهُ أَنْ يُعَابَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، وَلَيْسَ أَبُوهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ بِأَسْوَدَ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِنَسَبِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا ابْنَ الْحَجَّامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ حَجَّامًا فَهُوَ قَذْفٌ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِنَسَبِهِ وَإِلْصَاقٌ لَهُ بِأَسْوَدَ أَوْ حَجَّامٍ لَيْسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ ; كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» : وَتَفْسِيرُ الْقَرْطَبَانِ هُوَ الَّذِي يَرَى مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ مَحْرَمِهِ رَجُلًا، فَيَدَعُهُ خَالِيًا بِهَا، وَقِيلَ: هُوَ السَّبَبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِمَعْنًى غَيْرِ مَمْدُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ امْرَأَتَهُ مَعَ غُلَامٍ بَالِغٍ أَوْ مَعَ مُزَارِعِهِ إِلَى الضَّيْعَةِ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُمَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي غَيْبَتِهِ، اهـ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا دَيُّوثُ، أَوْ يَا كَشْخَانُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعَزَّرُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: الدَّيُّوثُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَرْطَبَانُ الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ: الْقَرْنَانُ وَالْكَشْخَانُ لَمْ أَرَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِثْلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَعَلَى الْقَاذِفِ بِهِ التَّعْزِيرُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الدَّيُّوثِ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: يَا قَرْنَانُ إِذَا كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ، أَوْ بَنَاتٌ فِي الْإِسْلَامِ ضُرِبَ الْحَدَّ، يَعْنِي أَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُنَّ، وَقَالَ خَالِدٌ عَنْ أَبِيهِ: الْقَرْنَانُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَنْ لَهُ بَنَاتٌ، وَالْكَشْخَانُ: مَنْ لَهُ أَخَوَاتٌ، يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا كَانَ يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَيْهِنَّ، وَالْقَوَّادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ: السِّمْسَارُ فِي الزِّنَى، وَالْقَذْفُ بِذَلِكَ كُلِّهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ قَالَ: يَا مَعْفُوجُ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنْ يُرْجَعَ إِلَى تَفْسِيرِهِ، فَإِنْ فُسِّرَ بِغَيْرِ الْفَاحِشَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ يَا مَفْلُوجُ، أَوْ يَا مُصَابًا دُونَ الْفَرْجِ وَنَحْوَ هَذَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» : الْقَرْنَانُ: الدَّيُّوثُ الْمُشَارِكُ فِي قَرِينَتِهِ لِزَوْجَتِهِ، اهـ مِنْهُ، وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» أَيْضًا: الْقَرْطَبَانُ بِالْفَتْحِ الدَّيُّوثُ، وَالَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ أَوِ الْقُوَّادُ، اهـ مِنْهُ، وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : وَالتَّدَيُّثُ الْقِيَادَةُ، وَفِي «الْقَامُوسِ» تَحْتَ الْخَطِّ لَا بَيْنَ قَوْسَيْنِ الْكَشْخَانُ وَيُكْسَرُ: الدَّيُّوثُ، وَكَشَّخَهُ تَكْشِيخًا، وَكَشْخَنَهُ، قَالَ لَهُ: يَا كَشْخَانُ، اهـ مِنْهُ، وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : وَالدَّيُّوثُ الْقُنْذُعُ وَهُوَ الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ، اهـ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَنَّهَا تَتْبَعُ الْعُرْفَ الْجَارِيَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قِيلَتْ فِيهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 فَإِنْ كَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الشَّتْمُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَجَبَ التَّعْزِيرُ ; لِأَجْلِ الْأَذَى وَلَا حَدَّ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الشَّتْمُ بِالزِّنَى، أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ عُرْفًا، وَجَبَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْعُرْفَ مُتَّبَعٌ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا فَلِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفُلَ وَأَبِيهِ وَإِنْ عَلَا الْقِيَامُ بِذَلِكَ، وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ عَيْبٌ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ، وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ مَعَ هَؤُلَاءِ قِيَامٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاحِدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَقْذُوفَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِطَلَبِ مَنْ وُجِدَ مِنْ فُرُوعِهِ، وَإِنْ سَفُلُوا أَوْ وَاحِدٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ وُجُودِ الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ أَحَدٌ، فَلِلْإِخْوَةِ وَالْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَيُحَدُّ لِلْمَقْذُوفِ بِطَلَبِهِمْ، هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَقْذُوفِ الْمَيِّتِ أَبًا أَوْ أُمًّا، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفَرِّقُ بَيْنَ قَذْفِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ; لِأَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ بِالزِّنَى فِيهِ قَدْحٌ فِي نَسَبِ وَلَدِهَا ; لِأَنَّ ابْنَ الزَّانِيَةِ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ زِنَا أُمِّهِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ قَذَفَ أُمَّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً، حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَلَبَ الِابْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسَلِمًا، أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ، فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَلَا يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ ; لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقْذِفُ أُمَّهُ بِنِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَلَا يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِيهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ لِمَنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الْمَجْنُونِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَلِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ، وَيَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَقْذِفُ مَنْ لَيْسَ مُحْصَنًا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 يُحَدَّ بِقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَلِأَنْ لَا يُحَدَّ بِقَذْفِهِ مَيِّتًا أَوْلَى، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُلَاعَنَةِ «: وَمَنْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ» ، يَعْنِي: مَنْ رَمَاهُ بِأَنَّهُ وَلَدُ زِنًى، وَإِذَا وَجَبَ بِقَذْفِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ بِذَلِكَ، فَبِقَذْفِ غَيْرِهِ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَوْجَبُوا الْحَدَّ عَلَى مَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَلَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلْوَلَدِ ; لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِذَا قَالَ لِكَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ: لَسْتَ لِأَبِيكَ، وَأَبَوَاهُ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ لِعَبْدٍ أُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لِلْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ أَنْ يَحُدَّ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا قَذْفٌ لِأُمِّهِ فَيُعْتَبَرُ إِحْصَانُهَا دُونَ إِحْصَانِهِ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً كَانَ الْقَذْفُ لَهَا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَيِّتَةً، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذَا: أَنَّ أُمَّكَ زَنَتْ فَأَتَتْ بِكَ مِنَ الزِّنَى، فَإِذَا كَانَ مِنَ الزِّنَى مَنْسُوبًا إِلَيْهَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْذُوفَةَ دُونَ وَلَدِهَا، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَذْفُ لَهَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، لَأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ، وَالْعَبْدَ لَا يَرِثُ الْحُرَّ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ الْحَدَّ لِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ، فَيَثْبُتُ أَنَّ الْقَذْفَ لَهُ فَيُعْتَبَرُ إِحْصَانُهُ دُونَ إِحْصَانِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ بُطُولِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» . وَقَدْ رَأَيْتَ فِي كَلَامِهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي رَمْيِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ، إِنْ كَانَ لَهَا أَوْلَادٌ، وَرَمْيِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ الَّتِي لَهَا أَوْلَادٌ، وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ الْحَدَّ يُوَرَّثُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَطْلُبُهُ إِلَّا الْفُرُوعُ وَالْأُصُولُ، وَيُحَدُّ بِطَلَبِ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ طَالِبِ الْحَدِّ، وَأَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ يُطَالِبُ بِهِ الْإِخْوَةُ وَالْعَصَبَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ وَرِثُوا ذَلِكَ الْحَقَّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، وَأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: لَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً بِحَالٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ إِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ نَسَبِ وَلَدِهَا فَلَهَا الْقِيَامُ حَيَّةً، وَلِوَلَدِهَا الْقِيَامُ إِذَا لَمْ تُطَالِبْ هِيَ ; لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ بِقَذْفِهَا، خِلَافًا لِمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْقِيَامُ، وَيُحَدُّ لَهُ الْقَاذِفُ، وَقَوْلُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» : تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ هُوَ دُونَ حَصَانَتِهَا هِيَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَعْنًى; لِأَنَّ نَفْيَ نَسَبِ إِنْسَانٍ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ حَصَانَةُ الْمَنْفِيِّ نَسَبُهُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ زِنًى، فَإِنَّهُ هُوَ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ زَانِيًا، كَمَا تَرَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ إِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ قَذْفَ وَلَدِهَا، فَالْأَظْهَرُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ بِطَلَبِ الْأُمِّ، وَبِطَلَبِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً ; لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ وَأَحْرَى إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ لَا وَلَدَ لَهَا، أَوْ لَهَا وَلَدٌ لَا يَسْتَلْزِمُ قَذْفُهَا قَذْفَهُ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أَوْ لَا؟ وَقَدْ رَأَيْتَ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ حُرْمَةَ عِرْضِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي حَدَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً، وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الطَّلَبُ، فَلَا يُحَدُّ بِدُونِ طَلَبٍ ; وَلِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَتَأَذَّى بِكَلَامِ الْقَاذِفِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا بَلْ يَفْرَحُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَسَنَاتٌ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مَا رَمَاهُ بِهِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ بِحَدِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِلَّا الْحَقَّ وَحْدَهُ وَهُوَ صَادِقٌ لَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ فِيهِ، اهـ. وَأَقْرَبُهُمَا عِنْدِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا رَادِعًا وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَّ إِذَا قَذَفَهُ آخَرُ بِالزِّنَا، وَهُوَ يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِحَدِّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ فِيمَا رَمَاهُ بِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّمَا قَذَفَهُ بِهِ حَقٌّ أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّهِ ; لِأَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِي إِيذَائِهِ بِضَرْبِ الْحَدِّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِيمَا قَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَذَفَهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَلِكَ رِدَّةٌ، وَخُرُوجٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَأَنَّ حُكْمَهُ الْقَتْلُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا إِذَا تَابَ هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِنْ تَابَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَقْرَبُ لِكَثْرَةِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، وَلَوْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ ; وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ كَالزِّنَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا: أَنَّهُ لَا يُحَدُّ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [2 \ 83] ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [7 \ 23] ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَطْلُبَ حَدَّ وَالِدِهِ لِلتَّشَفِّي مِنْهُ، وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَلَدَ يُمَكَّنُ مِنْ حَدِّ وَالِدِهِ الْقَاذِفِ لَهُ وَأَنَّهُ يُعَدُّ بِحَدِّهِ لَهُ فَاسِقًا بِالْعُقُوقِ ; كَمَا قَالَ خَلِيلٌ فِي «مُخْتَصَرِهِ» : وَلَهُ حَدُّ أَبِيهِ وَفُسِّقَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، وَالشَّرْعُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنَ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ ; كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ نَفْسِهِ ظَاهِرُهَا عَدَمُ الْحَدِّ وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَتَلَ أَوْ أَصَابَ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ هَلْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ فِي الْحَرَمِ، أَوْ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ؟ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ قِصَاصًا كَانَ أَوْ حَدًّا قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ حَدٌّ وَلَا قِصَاصٌ مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ، سَوَاءٌ كَانَ قَتْلًا أَوْ غَيْرَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ إِلَّا الْقَتْلَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ فِي حَدٍّ كَالرَّجْمِ، وَلَا فِي قِصَاصٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ قَتْلًا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْقَتْلِ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَالْقَصَّاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَوْفَى مِنَ الْمُلْتَجِئِ إِلَى الْحَرَمِ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ: يُسْتَوْفَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ": فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ "، وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ بِالْجَلْدِ جَرَى مَجْرَى التَّأْدِيبِ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَالْأَوْلَى ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتُهَا مُفْرَدَةً لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تُقَامُ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 الْحَرَمِ إِلَّا الْقَتْلَ وَالْعَمَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدُّ جِنَايَتِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي ": وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنْ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَيُوعَظُ، وَيُذَكَّرُ حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُخْرَجُ مُضْطَرًّا إِلَى الْحِلِّ، وَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ مُطْلَقًا فِيهَا ; لِأَنَّ الْعَاصِيَ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَأَبْطَلَ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَمْنِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " مُشِيرًا إِلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عُمُومُ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعِتْرَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِالْحَرَمِ دَمًا، وَلَا يُقِيمَ بِهِ حَدًّا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ وَمُنَاقَشَتُهَا، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُسْتَوْفَى مِنْهُ كُلُّ حَدٍّ فِي الْحَرَمِ إِنْ لَجَأَ إِلَيْهِ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالَّةَ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَخْصِيصُ مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَا زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَظَاهِرُهَا شُمُولُ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: وَالْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَاجِبٌ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَثُرَتْ. وَمِنْهَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ حَقٌّ وَاجِبٌ بِتَشْرِيعِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلُ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللَّهِ فِي الْحَرَمِ لَيْسَ فِيهِ أَيُّ انْتِهَاكٍ لِحُرْمَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 الْحَرَمِ ; لِأَنَّ أَحَقَّ الْبِلَادِ بِأَنْ يُطَاعَ فِيهَا اللَّهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ هِيَ حَرَمُهُ، وَطَاعَةُ اللَّهِ فِي حَرَمِهِ لَيْسَ فِيهَا انْتِهَاكٌ لَهُ كَمَا تَرَى. أَمَّا اسْتِدْلَالُ هَؤُلَاءِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ " إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخِزْيَةٍ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ; لِأَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَطْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا ; لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفِ بِالْأَشْدَقِ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ ": إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ "، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالُ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا إِلَى آخِرِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يُعَارِضُ بِهِ أَبَا شُرَيْحٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ الْبَتَّةَ فِي كَلَامِ الْأَشْدَقِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ مُعَارَضَتِهِ بِهِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ لَا يُطَابِقُ الْجَوَابَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو شُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْقَائِلَ: إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا إِلَى آخِرِهِ، هُوَ الْأَشْدَقُ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُهُمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ بِقَتْلِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فِيهِ الْحَرَمَ، وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ حُرْمَتَهَا عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتِ إِحْلَالِ الْحَرَمِ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا دَلِيلَ فِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ الْإِحْلَالِ وَرُجُوعِ الْحُرْمَةِ، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا الَّذِينَ مَنَعُوا الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي لَا قَتْلَ فِيهَا وَالْقِصَاصَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 فِي غَيْرِ النَّفْسِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي هُوَ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ ": فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا " الْحَدِيثَ، قَالُوا: تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ عَنْ سَفْكِ الدَّمِ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ، وَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِمَّا لَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فِي غَيْرِ النَّفْسِ، فَيَبْقَى غَيْرُ الْقَتْلِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَيَخْرُجُ خُصُوصُ الْقَتْلِ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَهُ ": دَمًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْعُمُومُ الْمَذْكُورُ إِرَاقَةَ الدَّمِ فِي قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ، قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْحَرَمَ لَا يُسْتَوْفَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحُدُودِ، وَلَا مِنَ الْقِصَاصِ قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [3 \ 97] ، قَالُوا: وَجُمْلَةُ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءُ فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ، يَسْتَوْجِبُ أَمْنَ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ، وَعَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ بِسُوءٍ، وَبِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَرَمِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِآثَارٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي يُصِيبُ حَدًّا، ثُمَّ يَلْجَأُ إِلَى الْحَرَمِ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ الْمَجْدُ فِي " الْمُنْتَقَى ": حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَهَذَا مُلَخَّصُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ أَجْرَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى الْقِيَاسِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُسْتَوْفَى مِنَ اللَّاجِئِ إِلَى الْحَرَمِ كُلُّ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ شَرْعًا، قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ; لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَفِعْلُ ذَلِكَ طَاعَةٌ، وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ حَرَمِهِ، وَأَجْرَاهَا عَلَى الْأُصُولِ، وَهُوَ أَوْلَاهَا، هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَى الْجَانِي اللَّاجِئِ إِلَى الْحَرَمِ، فَلَا يُبَاعُ لَهُ، وَلَا يُشْتَرَى مِنْهُ، وَلَا يُجَالَسُ، وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى الْخُرُوجِ، فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ حَقُّ اللَّهِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَامِعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، وَكَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْحَرَمِ، وَفِي هَذَا خُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ، مَعْنَى: وَيَدْرَأُ: يَدْفَعُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا: الْحَدُّ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ فَاعِلُ يَدْرَأُ، أَيْ: يَدْفَعُ عَنْهَا الْحَدَّ شَهَادَتُهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْحَدُّ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مِنْهَا سِيَاقُ الْآيَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي تَدْرَؤُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هُوَ الْحَدُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْعَذَابِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، عَلَى الْحَدِّ مَعَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِيهَا الْحَدُّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [24 \ 2] ، فَقَوْلُهُ: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا أَيْ: حَدَّهُمَا بِلَا نِزَاعٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25] ، أَيْ: نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْجَلْدِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَمَى زَوْجَتَهُ وَشَهِدَ شَهَادَاتِهِ الْخَمْسَ الْمُبَيَّنَةَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ الْمُتَوَجِّهَ إِلَيْهَا بِشَهَادَاتِ الزَّوْجِ تَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هِيَ الْمُوَضَّحَةُ فِي الْآيَةِ. وَمَفْهُومُ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ نَكَلَتْ عَنْ شَهَادَاتِهَا، لَزِمَهَا الْحَدُّ بِسَبَبِ نُكُولِهَا مَعَ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فَشَهَادَاتُ الزَّوْجِ الْقَاذِفِ تَدْرَأُ عَنْهُ هُوَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتُوَجِّهُ إِلَيْهَا هِيَ حَدَّ الزِّنَى، وَتَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، وَامْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، فَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 الْقُرْآنِيَّةِ; لِأَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [24 \ 4] ; وَلَكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ خُرُوجَ الزَّوْجِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِشَهَادَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [24 \ 6 - 7] ، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ جَلْدِ ثَمَانِينَ، وَعَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْحُكْمِ بِالْفِسْقِ إِلَّا بِشَهَادَاتِهِ الَّتِي قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ الْمُبَرِّئَةِ لَهُ مِنَ الْحَدِّ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ شَهَادَاتِهِ فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَدْرَأْ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ يَشْهَدُونَ بِصِدْقِهِ، وَلَا شَهَادَاتٌ تَنُوبُ عَنِ الشُّهُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا نَكَلَتْ عَنْ أَيْمَانِهَا فَعَلَيْهَا الْحَدُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ هُوَ شَهَادَاتُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْآيَةَ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الزَّوْجَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إِنْ نَكَلَ عَنِ الشَّهَادَاتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ، أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، ومَنْ قَالَ بِأَنَّهَا إِنْ شَهِدَ هُوَ، وَنَكَلَتْ هِيَ أَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ وَنُكُولِهَا: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ ; كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» . وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ: لَا حَدَّ عَلَيْهَا بِنُكُولِهَا عَنِ الشَّهَادَاتِ، وَتُحْبَسُ أَيْضًا حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ فَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحُجَجٍ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حَدِّهَا أَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ثُبُوتُهُ ; لِأَنَّ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ وَنُكُولَهَا هِيَ لَا يَتَحَقَّقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا بِهِمَا مُجْتَمِعِينَ ثُبُوتُ الزِّنَى عَلَيْهَا. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ مَسْأَلَةَ اللِّعَانِ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُعْدَلُ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَلْزَمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِلَّا بِقَذْفِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ قَذْفًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَوْ قَالَهُ لِغَيْرِ زَوْجَةٍ كَرَمْيِهَا بِالزِّنَى، وَنَفْيِ وَلَدِهَا عَنْهُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُنَا: إِنَّهُ يَكْفِي فِي وُجُوبِ اللِّعَانِ قَذْفُهَا بِالزِّنَى مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي، أَظْهَرُ عِنْدِي مِمَّا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اللِّعَانُ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى كَافٍ دُونَ التَّصْرِيحِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقَوْلُ الْمَلَاعِنِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهَا زَنَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي، دُونَ اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، وَسَمَاعِ الْأُذُنِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَهَادَاتِ اللِّعَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [24 \ 6] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، هَلْ هِيَ شَهَادَاتٌ أَوْ أَيْمَانٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا شَهَادَاتٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا فِي الْآيَةِ شَهَادَاتٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ، إِلَّا مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُلَاعِنِ وَالْمُلَاعِنَةِ الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَيْمَانٌ صَحَّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ، وَلَوْ كَانَا لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُسْقِطَاتِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ مَا لَوْ شَهِدَ مَعَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ عُدُولٌ، فَعَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَكُونُ الزَّوْجُ رَابِعَ الشُّهُودِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى، وَعَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ، وَقِيلَ: لَا يُحَدُّونَ، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ وَأَنَّ اللِّعَّانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَأَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ مَعَ الزَّوْجِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ رُبَّمَا أُطْلِقُ فِي الْقُرْآنِ، مُرَادًا بِهَا الْيَمِينُ، مَعَ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ لِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 لِأَنَّ لَفْظَةَ بِاللَّهِ يَمِينٌ فَدَلَّ قَوْلُهُ: بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الْيَمِينُ لِلتَّصْرِيحِ بِنَصِّ الْيَمِينِ، فَقَوْلُهُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ فِي مَعْنَى: أُقْسِمُ بِاللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِيهِ إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ وَإِرَادَةُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [5 \ 107] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [5 \ 108] ، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الْآيَةَ [63 \ 1] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [63 \ 2] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشَهَادَتِهِمُ الْأَيْمَانُ، هَكَذَا قَالَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: وَالْفَيْصَلُ أَنَّهَا يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنَّ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ، مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ، اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ. وَحَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ هَذَا: أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرِيعَةِ اسْتِقْرَاءً تَامًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا شَهَادَةُ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ حُجَّةٌ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَدَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ لَا يُسَوِّغُ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ ; لِإِطْلَاقِ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ فِي عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُطْلَقًا. الرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ اللِّعَّانِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَمَّا جَاءَتِ الْمُلَاعَنَةُ بِالْوَلَدِ شَبِيهًا بِالَّذِي رُمِيَتْ بِهِ «: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» ، عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ سَمَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ أَيْمَانًا، وَفِي إِسْنَادِ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا شَهَادَاتٍ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ «: أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمُ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ» ، اهـ، قَالُوا: إِنَّمَا مُنِعَ لِعَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَاتُ اللِّعَانِ أَيْمَانًا لَصَحَّ لِعَانُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تُقْبَلُ يَمِينُهُ، وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي «نَصْبِ الرَّايَةِ» ، فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ» ، انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَقَالَ: عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «: أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ» ، انْتَهَى، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالْوَقَّاصِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، قَالَ: وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَتَابَعَهُ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَرْفَعَاهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ «: أَلَّا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ» فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ: وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ، انْتَهَى، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَعْرِفَةِ» : هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ الرَّمْلِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: أَرْبَعَةٌ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمُ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ» إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَعْرُوفٌ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَابْنُهُ عُثْمَانُ وَابْنُ زَرَيْعٍ ضَعِيفَانِ، وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَرَوَاهُ عَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَوْقُوفًا، وَفِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّ رَاوِيَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ عَمْرُو بْنُ هَارُونَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ أَيْضًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَحْتَجُّ بِرِوَايَاتِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةً وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُؤَكِّدُهُ، وَلَمْ نَجِدْ لِهَذَا الْحَدِيثِ طَرِيقًا صَحِيحًا إِلَى عَمْرٍو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «نَصْبِ الرَّايَةِ» . وَقَالَ صَاحِبُ «الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ» : إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، وَلَوْ فَرَضْنَا جَوْدَةَ إِسْنَادِهِ كَمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ ; لِاحْتِمَالِ كَوْنِ عَدَمِ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ بَيْنِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي اللِّعَانِ، الِاعْتِمَادُ عَلَى إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ أَسْوَدَ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ وَزَوْجُهَا أَبْيَضَ ; لِقِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ الْأَسْوَدِ بِاللِّعَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: مَا أَلْوَانُهَا» ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ «: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ «: وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْهَا الْوُرْقَةُ» ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهَا، قَالَ «: وَهَذَا الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ» ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ سَوَادَ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلرَّجُلِ فِي اللِّعَانِ، كَمَا تَرَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّهُ يُجْلَدُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ اللِّعَانُ ; لِأَنَّهَا وَقْتَ الْقَذْفِ أَجْنَبِيَّةٌ مُحْصَنَةٌ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً الْآيَةَ [24 \ 4] ، وَالزَّوَاجُ الْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ قَبْلَهُ، فَمَا يُرْوَى عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ الزَّوَاجِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ، خِلَافُ الظَّاهِرِ عِنْدَنَا مِنْ نَصِّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا، وَلَمْ يَأْتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِلْأُمِّ حَدَّ الْقَذْفِ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، وَأَمَّا الْبِنْتُ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُهَا ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا، وَهِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ إِلَى آخِرِ آيَاتِ اللِّعَانِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ إِنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَاعَنَ الْبِنْتَ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ، أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ: وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَصَّصَ عُمُومَ الْآيَةِ فِي الْبِنْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَلَا أَصْلٍ قَاسَهُ عَلَيْهِ، اهـ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ لِعَانِهِ لَهَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ ; لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَلَا لِعَانَ فِي قَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إِنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنَّ الظَّاهِرَ لَنَا سُقُوطُ الْحَدِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، فَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: يُحَدُّ إِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وَيُلَاعِنُ إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً أَنَّ الْحَدَّ وَاللِّعَانَ قَدْ وَجَبَا وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَا يَسْقُطَانِ بِالزِّنَى الطَّارِئِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ سُقُوطُ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ، لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْإِحْصَانِ قَبْلَ الْحَدِّ وَقَبْلَ اللِّعَانِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِكِبَرِ سِنِّهَا أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ هُوَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَهِيَ لِدَرْءِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا إِنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِصِغَرِهَا، فَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ: هَلْ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَلَمْ تَبْلُغْ؟ فَعَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي قَذْفِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا فَلَا لِعَانَ عَلَيْهِ فِي قَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ نَفَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ لِنَفْيِ مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ اللِّعَانُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَيَنْتَفِي عَنْهُ حَمْلُهَا بِاللِّعَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 فِي «الْفَتْحِ» ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَحَادِيثَ اللِّعَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ ; لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «: انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ» إِلَخْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ، يَعْنِي الرَّجُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَتَلَاعَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا» ، فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْلَمُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَفْخَةً. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الرَّجُلِ، وَدَفْعِ حَدِّ الرَّجْمِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَلِذَلِكَ شُرِعَ اللِّعَانُ مَعَ الْآيِسَةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغِيرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَذَفَهَا فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ دُونَهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْتِعَانَ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ لِقَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي حَدِّ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ الْمُطِيقَةِ لِلْوَطْءِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا تُلَاعَنُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ وَلَدَهَا، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَيَقَّنُ وُجُودُهُ قَبْلَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ انْتِفَاخًا وَقَدْ يَكُونُ رِيحًا. وَالثَّانِي: هُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ لِعَانَ الْحَامِلِ حَتَّى وَضَعَتْ. فَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا نَصُّهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: اللَّهُمَّ بَيِّنْ» ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، الْحَدِيثَ. قَالُوا: فَتَرْتِيبُهُ فَلَاعَنَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ، إِلَخْ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ الْفَاءِ، وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَأَخَّرَتْ إِلَى وَضْعِ الْمَرْأَةِ لَكِنْ أَوْضَحَتْ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ هِيَ فِي الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَاعَنَ مُعَقِّبَةً لِقَوْلِهِ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ جُمْلَةَ «فَلَاعَنَ» مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعِنُ قَبْلَ الْوَضْعِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ، وَلِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَذْفُهُ لَهَا بِنَفْيِ حَمْلٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا لِنَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، وَأَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَى بَعْدَ الطَّلَاقِ حُدَّ، وَلَمْ يُلَاعَنْ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ إِلَى زَمَنٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاذِفٌ، وَالْأَظْهَرُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الرَّجْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ ; لِأَنَّ طَلَاقَهُ إِيَّاهَا قَبْلَ الْقَذْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ اللِّعَانَ وَيُجْلَدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: يُلَاعِنُ الرَّجْعِيَّةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ، وَرِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَزَيْدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَائِبًا فَتَأْتِيَ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فِي مَغِيبِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَيُطَلِّقَهَا فَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يَقْدَمُ فَيَنْفِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا هُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهَا وَنَفَى الْوَلَدَ لَاعَنَ لِنَفْسِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَيَرِثُهَا ; لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، اهـ مِنْهُ، وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نَظَرَتْ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ، أَوْ حَمْلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ لَاعَنَ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بَلْ هَذَا أَوْلَى ; لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنَ النَّسَبِ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَمْلٌ يُرْجَى، وَلَا نَسَبٌ يُخَافُ تَعَلُّقُهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِلَعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ; لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 الزَّوْجَةِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ، وَفَائِدَةُ لَعَانِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَوْنُ الرَّجْعِيَّةِ كَالزَّوْجَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَتَوَارَثَانِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تُزَوُّجُ أُخْتِهَا، قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا تَزْوِيجُ رَابِعَةٍ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَامِسَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ، يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ بِلِعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ كَثْرَةَ مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا عَالِمًا بِزِنَاهَا فِي زَعْمِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَارِكٌ لِلِّعَانِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، مَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهَا زَنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، هَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَاذِفٌ ; لِأَنَّهُ رَمَاهَا بِزِنًى وَاقِعٍ بَعْدَ الْفِرَاقِ أَوْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ. أَمَّا إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ لِعَانَهَا مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ; لِأَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَةٌ غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ: يُجْلَدُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ هَذَانَ بِزَوْجَيْنِ، وَلَا يُحَدُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَجْنَبِيَّةً. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ ظَهَرَ بِامْرَأَتِهِ حَمْلٌ، وَهُوَ قَائِلٌ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ إِذَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ حَتَّى وَضَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ مُدَّةَ الْحَمْلِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوِ انْتِفَاخًا فَيَنْفَشُّ أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا، فَيَسْتَرِيحَ بِذَلِكَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ بِلِعَانٍ بَعْدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي أَبْدَى وَجِيهٌ جَدِيرٌ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ بَادَرَ بِنَفْيهِ فَوْرًا عِنْدَ وَضْعِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ السُّكُوتِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لِأَنَّ سُكُوتَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ يُعَدُّ رِضًى مِنْهُ بِالْوَلَدِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَهُ. لَمْ أَعْلَمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي سُكُوتِهِ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَهُوَ رَاضٍ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: مَتَى أَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَعْتَبِرُ مُدَّةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةَ النِّفَاسِ، قَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 ابْنُ الْقَصَّارِ: وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِنَا هُوَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَاسْتِلْحَاقُ وَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَيُفَكِّرَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْحَدَّ ثَلَاثَةً ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَقَدْ جُعِلَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُخْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الْمُصَرَّاةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَلَيْسَ اعْتِبَارُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، إِذْ لَا شَاهِدَ لَهُمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ شَاهِدًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ مُدَّةِ الْمُصَرَّاةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلتَّحْدِيدِ بِثَلَاثَةٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهِيَ: هَلْ يُنَزَّلُ السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ: وَجَعْلُ مَنْ سَكَتَ مِثْلَ مَنْ أَقَرْ ... فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ قَدِ اشْتُهِرَ فَالِاحْتِجَاجُ بِالسُّكُوتِيِّ نَمَى ... تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَا وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ وَالضِّدِّ حَرِي ... مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ السَّاكِتَ قَدْ يَسْكُتُ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى رِضَاهُ وَاسْتَأْنَسُوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِكْرِ «: إِذْنُهَا صِمَاتُهَا» ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَخْصِيصُ الْبِكْرِ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ فِي فُرُوعِ الْأَئِمَّةِ وَأُصُولِهِمْ، وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهُمْ وَجَدَهُمْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَجْعَلُونَ السُّكُوتَ كَالرِّضَى، كَالسُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ زَمَنًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُوجِبِهِ، وَكَالسُّكُوتِ عَنِ الْقِيَامِ بِالشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَكْثُرُ فِي فُرُوعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَعْلُ السُّكُوتِ كَالرِّضَى. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَاصِمٍ فِي رَجَزِهِ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: وَحَاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ ... وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأَى مِنْ حَالِهِ الْحُكْمُ مَنْعُهُ الْقِيَامَ بِانْقِضَا ... مَجْلِسِهِ إِذْ صَمْتُهُ عَيْنُ الرِّضَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ السُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ زَمَنًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 عَادَةً أَنَّهُ لَا يَسْكُتُ فِيهِ إِلَّا رَاضٍ عُدَّ رِضًى، وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّ الْعُرْفَ مُحَكَّمٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَقَذَفَهَا زَوْجُهَا بِالزِّنَى إِنْ كَانَ لِنَفْيِ نَسَبٍ يَلْحَقُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّهُ يُلَاعَنُ لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ يُلْحَقُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَكِنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى، وَأَرَادَ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْفِرَاشِ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ زَوْجَتَهُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا وَيَلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ مَجْرَى اللِّعَانِ فِيهِ، اهـ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ وَلَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ، بَلْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي الَّذِي يَقْذِفُ زَوْجَتَهُ الْحَامِلَ بِالزِّنَى، ثُمَّ يَأْتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ مَعَ الشُّهُودِ ; لِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ لَا تُفِيدُ الزَّوْجَ إِلَّا دَرْأَ الْحَدِّ عَنْهُ، أَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ شُهُودِهِ؟ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ كَانَ لَهُ شُهُودٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّ الشُّهُودَ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ فِي غَيْرِ دَرْءِ الْحَدِّ، وَأَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إِنَّمَا جُعِلَ اللِّعَانُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ غَيْرَ نَفْسِهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ اهـ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ: يَفْتَقِرُ اللِّعَانُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عَدَدُ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَكَانُ: وَهُوَ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ بِالْبُلْدَانِ، إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَفِي مَسَاجِدِهَا، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ بُعِثَ بِهِمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْتَقِدَانِ تَعْظِيمَهُ، إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ فَالْكَنِيسَةُ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَفِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 بَيْتِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَا لَا دِينَ لَهُمَا مِثْلَ الْوَثَنِيِّينَ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَالْوَقْتُ: وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَجَمْعُ النَّاسِ: وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ فَصَاعِدًا، فَاللَّفْظُ وَجَمْعُ النَّاسِ مَشْرُوطَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ مُسْتَحَبَّانِ، اهـ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ كَافِرِينَ وَبَعْضُ مَا ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو مِنْ خِلَافٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ بِلِعَانٍ، إِلَّا بِمُوجِبٍ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ زَنَتْ، قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ أَصْلًا، أَوْ زَنَتْ بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ، وَلَمْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى زَنَتْ، أَوْ زَنَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الزِّنَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزِّنَى الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَيْضِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ عَلَى شَبَهِ الْوَلَدِ بِغَيْرِهِ وَلَا بِسَوَادِ الْوَلَدِ ; كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا بِعَزْلٍ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَسْبِقُ نَزْعَهُ فَتَحْبَلُ مِنْهُ، وَلَا بِوَطْءٍ فِي فَخِذَيْنِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ إِلَى الْفَرَجِ فَتَحْمِلُ مِنْهُ، كَمَا قَدَّمْنَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا تَوْأَمَانِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ أَحَدِهِمَا، دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُ الْآخَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالثَّانِي حُدَّ لِقَذْفِهِ ; كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] ، أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُمَا تَوْأَمَانِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ تَوْأَمَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَاسْتَحْلَقَ أَحَدَهُمَا، وَنَفَى الْآخَرَ لَحِقَا بِهِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ، وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً، فَجَعَلْنَا مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا اسْتَلْحَقَهُ، وَلَمْ نَجْعَلْ مَا أَقَرَّ بِهِ تَابِعًا لِمَا نَفَاهُ ; لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ لَا لِنَفْيِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ نَقْطَعْهُ عَنْهُ احْتِيَاطًا لِنَفْيِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنِ اسْتَلْحَقَ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ، وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ لَحِقَهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَلَحِقَهُ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ امْرَأَتَهُ مَتَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 أَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَا نَفَيْتُمُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى أَخَاهُ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: لُحُوقُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ لِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتِ الْوَطْءُ وَلَا يَنْتَفِي الْإِمْكَانُ لِلنَّفْيِ فَافْتَرَقَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ لِنَفْيِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَنْتَفِ الثَّانِي بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ تَنَاوَلَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ، وَيُحْتَاجُ فِي نَفْيِ الثَّانِي إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِنَفْيِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ ; لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَقَدْ لَاعَنْ لِنَفْيِهِ مَرَّةً، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِعَانَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ: فَإِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي لَحِقَهُ هُوَ وَالْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ لَحِقَاهُ أَيْضًا، فَأَمَّا إِنْ نَفَى الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا مِنْ حَمْلٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَلَوْ أَمْكَنَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مُدَّةَ حَمْلٍ كَامِلٍ، فَإِنْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ انْتَفَى، وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ حَمْلٌ مُنْفَرِدٌ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ أَوْ تَرَكَ نَفْيَهُ لَحِقَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ بِاللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَاعَنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ الثَّانِي ; لِأَنَّهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ حَمْلُهَا الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَفْيِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا: وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ نَسَبِهِمَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ نَسَبُ الْحَيِّ، وَلَا يُلَاعِنُ إِلَّا لِنَفْيِ الْحَدِّ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّ نَسَبَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، كَمَا لَوْ مَاتَتِ امْرَأَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ الْمَيِّتُ لَمْ يَنْتَفِ الْحَيُّ ; لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَلَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ وَيَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ كَالْحَيِّ، وَكَمَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، اهـ كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْوَلَدِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُرَادُ نَفْيُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَدٌ كَانَ حُكْمُهُ فِي اللِّعَانِ كَحُكْمِ الْحَيِّ ; لِأَنَّ وَلَدَهُ الْحَيَّ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ أَبِيهِ، فَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ نَسَبِ الْمَيِّتِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ وَلَدُهُ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ هَذِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَاشَ عُمْرًا يُولَدُ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِالْغَيْبَةِ زَمَنًا طَوِيلًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ إِلْزَامُهُ بِتَكْفِينِ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْهُ بِلِعَانٍ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى وَلَدًا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ قَاذِفُ أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مَيِّتَةً جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْحَدِّ فَلَهُ اللِّعَانُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ فَلَا لِعَانَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْتَضَدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ أَنَّ لَهُ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ بِهِ مُوجِبَانِ لِلَعَّانِ، وَهُمَا إِسْقَاطُ الْحَدِّ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ النَّظَرِ إِلَى الْوَلَدِ الْمَيِّتِ هَلْ تَرَكَ مَالًا أَوْ لَا؟ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ الْمَنْفِيَّيْنِ بِاللِّعَانِ، هَلْ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ؟ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: هُمَا شَقِيقَانِ، وَقَالَ خَلِيلٌ فِي «التَّوْضِيحِ» ، وَهُوَ شَرْحُهُ لِمُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ: إِنَّ كَوْنَهُمَا شَقِيقَيْنِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، كَالْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ وَالْمُغْتَصَبَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، وَأَنَّهُمَا لَا يُحْكَمُ لَهُمَا بِحُكْمِ الشَّقِيقَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا لَا يُلْحَقَانِ بِأَبٍّ مَعْرُوفٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌّ مَعْرُوفٌ فَلَا وَجْهَ لِكَوْنِهِمَا شَقِيقَيْنِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إِنَّمَا يُنْسَبَانِ لِأُمِّهِمَا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ شَقِيقَانِ، فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ حَتَّى يَكُونَ أَبًا لِابْنِهِ مِنَ الزِّنَى، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَحْوِ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ ظَاهِرُهَا السُّقُوطُ، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ» مِنْ أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمَسْبِيَّةِ، وَالْمُسْتَأْمَنَةِ شَقِيقَانِ، فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ قَائِلًا: إِنَّهَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ لِعَانُهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 يُحَدُّ لِقَذْفِهَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا وَقْتَ الزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ تَزَوُّجِهَا بِزِنًى أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ حُدَّ وَلَمْ يُلَاعَنْ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ; لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَحَكَى الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَهَا قَذْفًا مُضَافًا إِلَى حَالِ الْبَيْنُونَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ بَائِنٌ وَفَارَقَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا غَاظَتْهُ وَخَانَتْهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى نَفْيِهِ، وَهَاهُنَا إِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ زِنَاهَا فَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي نِكَاحِ حَامِلٍ مِنَ الزِّنَى، فَلَا يُشْرَعُ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى نَفْيِهِ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَلَا يُمَكَّنِ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ، وَيُحَدُّ لِقَذْفِهَا إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ، لِأَنَّهُ قَاذِفُ مُحْصَنَةٍ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَالنِّكَاحُ الطَّارِئُ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الَّذِي تَقَرَّرَ قَبْلَهُ كَمَا تَرَى، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَلْحَقُ بِهِ لَوْ سَكَتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ اسْتِنَادًا إِلَى بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسَوِّغَةِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا لِدَفْعِ الْحَدِّ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ، فَقِيلَ: يُلَاعِنُ، وَقِيلَ: لَا يُلَاعِنُ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَيْنُونَةِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُمْ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : نَقَلَ مُهَنَّأٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: يُلَاعِنُ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ يُحَدُّ، وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، قَالَ: بِئْسَ مَا يَقُولُونَ فَهَذَا يُلَاعِنُ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْنُونَتِهَا، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الرَّجْعِيَّةِ، اهـ مِنْهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ فَصَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى الزَّوْجَةِ حَدُّ الزِّنَى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِتَصَادُقِهِمَا بِدُونِ لِعَانٍ، أَوْ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنِ الزَّوْجِ إِلَّا بِلِعَانِهِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ لُحُوقِ نَسَبِهِ بِتَصْدِيقِ أُمِّهِ لِلزَّوْجِ ; لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا اللِّعَانُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ; لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ بِصِدْقِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَطَالَبَتْ بِحَدِّهِ لِقَذْفِهَا فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى، هَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقَارِيرِ أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، فَمَنْ قَالَ: يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ يَلْزَمُ قَوْلَهُ: أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُحَدُّ لِقَذْفِهَا ; لِأَنَّ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَى ثَبَتَ بِالشَّاهِدَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُحَدُّ ; لِأَنَّ إِقْرَارَهَا لَمْ يَثْبُتْ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمَا إِنْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَذَفَهُمَا أَعْنِي الشَّاهِدَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بِقَذْفِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهُمَا لَمَّا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا صَارَا لَهُ عَدُوَّيْنِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ يَسْتَوْجِبُ الْعَدَاوَةَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانَةَ، وَقَذَفَنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَإِنْ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ، فَلَمْ تُقْبَلْ بَعْدُ كَالْفَاسِقِ إِذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَهَا، وَلَوْ أَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا، ثُمَّ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يُرَدَّا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَيَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا فَإِنْ أَضَافَا دَعَوَاهُمَا إِلَى مَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا أَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا حِينَ شَهِدَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِيفَاهَا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَبْطُلْ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ تَمَّ قَبْلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 وُجُودِ الْمَانِعِ كَظُهُورِ الْفِسْقِ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأُمَّنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهَا رُدَّتْ فِي الْبَعْضِ لِلتُّهْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ لِلْكُلِّ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّهُ قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا تُقْبَلُ ; لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا فَتَبِينُ وَيَتَوَفَّرُ عَلَى أُمِّهِمَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ لِعَانَهُ لَهَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِزِنَاهَا لَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا وَهُوَ تَوْفِيرُهُ عَلَى أُمِّهِمَا. وَالثَّانِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إِلَى نَفْسِهِمَا نَفْعًا، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَكُلُّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا يَخْلُو بَعْضُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا ; لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ بِجَرِّ النَّفْعِ لِأُمِّهِمَا، لِأَنَّ طَلَاقَ الضَّرَّةِ فِيهِ نَفْعٌ لِضَرَّتِهَا كَمَا لَا يَخْفَى وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْفَعُ أُمَّهُ لَا تَخْلُو مِنْ تُهْمَةٍ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: فِي اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ أَوِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْقَذْفِ أَوِ الْإِقْرَارِ بِهِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بِالْعَجَمِيَّةِ، تَمَّتِ الشَّهَادَةُ; لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ عَائِدٌ إِلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الْقَذْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاحِدًا وَالْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْخَمِيسَ بِقَذْفِهَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ ذِكْرُهُ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ فَلَمْ يُؤَثِّرِ الِاخْتِلَافُ ; كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَالْآخَرُ: لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَثْبُتْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 وَفَارَقَ الْإِقْرَارُ بِالْقَذْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِهِ وَاحِدًا أَقَرَّ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ بِلِسَانَيْنِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالشَّهَادَةِ هَلْ تُلَفَّقُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، أَوْ لَا تُلَفَّقُ؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ تُلَفَّقُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تُلَفَّقُ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَقَوْلُهُمْ: هُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يُقَالُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ الْمُخْتَلِفُ وَقْتُهُ أَوْ لِسَانُهُ هُمَا إِقْرَارَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَصَّ فِيهَا وَكُلٌّ مِنَ الْأَقْوَالِ فِيهَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَعَدَمُ النَّصِّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ نَفَى حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِلِعَانٍ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ لِعَانٌ آخَرُ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَوْلَ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الْوَضْعِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا خِلَافَ التَّحْقِيقِ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنَ انْتِفَاءِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَقِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى عَنْهُ حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِاللِّعَانِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ بِإِعَادَةِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّ لِعَانَهُ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَجَابَ بِهِ عَنْهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِاللِّوَاطِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُقُوبَةِ اللَّائِطِ وَبَيَّنَّا أَنَّ أَقْوَاهَا دَلِيلًا قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَدَّ بِالْقَذْفِ بِاللِّوَاطِ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُلَاعِنُ الْقَاذِفُ بِاللِّوَاطِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ حُدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ وَلَدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ كَامِلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَكَوْنِ الزَّوْجِ صَبِيًّا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَادَةً لِصِغَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ جَاءَتْ بِهِ امْرَأَةُ الصَّغِيرِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ، وَبِهِ تَعْل مُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ: إِنَّ الزَّوْجَ إِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَكَذَلِكَ تِسْعِ سِنِينَ وَنِصْفٍ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى لُحُوقِ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ بِحَدِيثِ «: وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشَرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَإِنِ اعْتَمَدَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مَعَ عِلْمِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. فَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ حَتَّى يَبْلُغَ وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، أَوْ تَزَوَّجَ مَشْرِقِيٌّ مَغْرِبِيَّةً، أَوْ عَكْسُهُ، ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ; لِأَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ وَمُدَّةِ الْحَمْلِ أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إِذَا مَضَى زَمَانُ الْإِمْكَانِ لَحِقَ الْوَلَدُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْوَطْءُ، انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمُ لُحُوقِ الْوَلَدِ فِيمَا ذُكِرَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا حَاجَةَ لِنَفْيِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِيهِ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، انْتَهَى. وَقَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَهْلٍ أَيْضًا، وَفِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَالَ «: لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي «الْمُنْتَقَى» ، وَقَالَ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَفِي إِسْنَادِهِ عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ فِي «التَّقْرِيبِ» : فِيهِ لِينٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، اهـ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ أَيْضًا. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ، وَقَالَ صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِي إِسْنَادِهَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَخْرَجَهُمَا أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، انْتَهَى مِنْهُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ، وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَحُدَّ خِلَافًا لِعَطَاءٍ الْقَائِلِ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ قَدَّمْنَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ [2 \ 229] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي لِعَانِ الْأَخْرَسِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ مَسَائِلِ اللِّعَانِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُهُ وَرَحْمَتُهُ، مَا زَكَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَكِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ تَزْكِيَتَهُ مِنْ خَلَقَهُ. وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [4 \ 49] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [53 \ 32] . وَالزَّكَاةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هِيَ الطَّهَارَةُ مِنْ أَنْجَاسِ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي. وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [4 \ 21] أَيْ يُطَهِّرُهُ مِنْ أَدْنَاسِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِتَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [91 \ 9] وَلَا قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [87 \ 14] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى تَزَكَّى تَطَهَّرَ مِنْ أَدْنَاسِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ زَكَّاهَا أَنَّهُ لَا يُزَكِّيهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَبُولِهِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ الْآيَةَ [24 \ 21] : جَوَابُ لَوْلَا الَّتِي تَلِيهِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ جَوَابُ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ الْآيَةَ [24 \ 20] وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ حَذْفُ جَوَابِ لَوْلَا، لِدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِسْطَحٌ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ فَقِيرٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَقَرَابَتِهِ وَهِجْرَتِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالْإِفْكِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ [24 \ 11] ، وَهُوَ مَا رَمَوْهَا بِهِ مِنْ أَنَّهَا فَجَرَتْ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 وَقِصَّةُ الْإِفْكِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَافِعَةٍ بَعْدَ مَا رَمَى عَائِشَةَ بِالْإِفْكِ ظُلْمًا وَافْتِرَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَيْ: لَا يَحْلِفْ، فَقَوْلُهُ: «يَأْتَلِ» وَزْنُهُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْيَمِينُ، تَقُولُ الْعَرَبُ آلَى يُؤْلِي وَائْتَلَى يَأْتَلِي إِذَا حَلَفَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [2 \ 226] ، أَيْ: يَحْلِفُونَ مُضَارِعُ آلَى يُؤْلِي إِذَا حَلَفَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الْكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلْ أَيْ حَلَفَتْ حَلْفَةً، وَقَوْلُ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدٍ الْعَدَوِيَّةِ تَرْثِي زَوْجَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: فَآلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً ... عَلَيْكَ وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ أَغْبَرَا وَالْأَلِيَّةُ الْيَمِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ أَيْ: لَا يَحْلِفُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ وَالسِّعَةِ، أَيِ: الْغِنَى كَأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتُوا، أَيْ: لَا يَحْلِفُوا عَنْ أَنْ يُؤْتُوا، أَوْ لَا يَحْلِفُوا أَلَّا يُؤْتُوا وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ قَبْلَ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ وَصْلَتِهِمَا مُطَّرِدٌ. وَكَذَلِكَ حَذْفُ لَا النَّافِيَةِ قَبْلَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ هُنَا كَوْنُ الْقَسَمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَفْعُولُ يُؤْتُوا الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى النَّفَقَةَ وَالْإِحْسَانَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ: وَلَا يَأْتِلِ، أَيْ: لَا يُقَصِّرُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ، وَالسِّعَةِ كَأَبِي بَكْرٍ فِي إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى كَمِسْطَحٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ يَأْتَلِ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَا يَأْلُو فِي الْأَمْرِ إِذَا قَصَّرَ فِيهِ وَأَبْطَأَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 [3 \ 118] ، أَيْ لَا: يُقَصِّرُونَ فِي مَضَرَّتِكُمْ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْجَعْدِيِّ: وَأَشْمَطَ عُرْيَانًا يَشُدُّ كِتَافَهُ ... يُلَامُ عَلَى جَهْدِ الْقِتَالِ وَمَا ائْتَلَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَإِنَّ كَنَائِنِي لَنِسَاءُ صِدْقٍ ... فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلَا أَسَاءُوا فَقَوْلُهُ: فَمَا آلَى بَنِيَّ: يَعْنِي مَا قَصَّرُوا، وَلَا أَبَطئُوا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ حَلِفَ أَبِي بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ، وَنُزُولَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْحَلِفِ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُهَاجِرِينَ، جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [2 \ 224] ، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، فَإِذَا قِيلَ لَكُمُ: اتَّقُوا وَبَرُّوا، وَأَصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قُلْتُمْ: حَلَفْنَا بِاللَّهِ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَتَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ سَبَبًا لِلِامْتِنَاعِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَذَكَرْنَا مَا يُوَضِّحُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [6 \ 89] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فِيهِ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْفُوا عَنْ إِسَاءَتِهِمْ وَيَصْفَحُوا وَأَصْلُ الْعَفْوِ: مِنْ عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا طَمَسَتْهُ. وَالْمَعْنَى: فَلْيَطْمِسُوا آثَارَ الْإِسَاءَةِ بِحِلْمِهِمْ وَتَجَاوُزِهِمْ، وَالصَّفْحُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مُشْتَقٌّ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، أَيْ: أَعْرِضُوا عَنْ مُكَافَأَةِ إِسَاءَتِهِمْ حَتَّى كَأَنَّكُمْ تَوَلَّوْنَهَا بِصَفْحَةِ الْعُنُقِ، مُعْرِضِينَ عَنْهَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [3 \ 133 - 134] وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْطِ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَّتْ أَيْضًا: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [4 \ 149] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذَا الْآيَةِ أَنَّ الْعَفْوَ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [15 \ 85] وَكَقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42 \ 43] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ عَلَى الْمُسِيءِ الْمُسْلِمِ مِنْ مُوجِبَاتِ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلِذَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ نُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا، وَرَجَعَ لِلْإِنْفَاقِ فِي مِسْطَحٍ، وَمَفْعُولُ «أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ» مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ: أَيْ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أُولِي الْقُرْبَى أَيْ: أَصْحَابُ الْقَرَابَةِ، وَلَفْظَةُ أُولَى اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ يُعْرَبُ إِعْرَابَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ. فَائِدَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَبَائِرَ الذُّنُوبِ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ; لِأَنَّ هِجْرَةَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَقَذْفَهُ لِعَائِشَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُبْطِلْ هِجْرَتَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِيهِ بَعْدَ قَذْفِهِ لَهَا وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هِجْرَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَمْ يُحْبِطْهَا قَذْفُهُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَبَائِرِ، وَلَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ غَيْرُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] اهـ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِي الْآيَةِ وَصْفَ مِسْطَحٍ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لُطْفِ اللَّهِ بِالْقَذَفَةِ الْعُصَاةِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقِيلَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [33 \ 47] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 [42 \ 22] فَشَرَحَ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ. وَمِنْ آيَاتِ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا الْآيَةَ [39 \ 53] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [42 \ 19] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 5] وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْضَى بِبَقَاءِ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - آيَةُ الدَّيْنِ: وَهِيَ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا الطُّرُقَ الْكَفِيلَةَ بِصِيَانَةِ الدَّيْنِ مِنَ الضَّيَاعِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَقِيرًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهَا: وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ الْآيَةَ [2 \ 282] ، قَالُوا: هَذَا مِنَ الْمُحَافَظَةِ فِي آيَةِ الدَّيْنِ عَلَى صِيَانَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَعَدَمِ ضَيَاعِهِ، وَلَوْ قَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى الْعِنَايَةِ التَّامَّةِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ لَا يُضَيِّعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْهَوْلِ، وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ: مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [35 \ 32 - 35] . فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِيرَاثَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُ يَعْصِيهِ أَيْضًا فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [9 \ 102] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 وَالثَّانِي: الْمُقْتَصِدُ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَا يَعْصِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَالثَّالِثُ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِيرَاثَهُمُ الْكِتَابَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَعَدَ الْجَمِيعَ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالْوَاوُ فِي يَدْخُلُونَهَا شَامِلَةٌ لِلظَّالِمِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُقَّ لِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّ تُكْتَبَ بِمَاءِ الْعَيْنَيْنِ، فَوَعْدُهُ الصَّادِقُ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ لِجَمِيعِ أَقْسَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَوَّلُهُمُ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ خَارِجٌ عَنِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَالْوَعْدُ الصَّادِقُ بِالْجَنَّةِ فِي الْآيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بِهَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [35 \ 36 - 37] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ تَقْدِيمِ الظَّالِمِ فِي الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ لِئَلَّا يَقْنُطَ، وَأَخَّرَ السَّابِقَ بِالْخَيْرِ لِئَلَّا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ فَيَحْبَطَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [38 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْكَافِرِ تَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ اللِّسَانِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [36 \ 65] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [41 \ 20 - 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ الْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْجَزَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: يُوَفِّيهِمْ ; لِأَنَّ التَّوْفِيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [53 \ 41] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [3 \ 185] وَقَوْلِهِ، تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [3 \ 161] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: «دِينَهُمُ» ، أَيْ: جَزَاءَهُمُ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دِينَهُمُ الْحَقَّ، أَيْ: جَزَاءَهُمُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُمْ أَهْلُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ يُجَازِي عِبَادَهُ بِإِنْصَافٍ تَامٍّ، وَعَدْلٍ كَامِلٍ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [4 \ 40] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [10 \ 44] وَقَوْلِهِ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21 \ 47] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَمِنْ إِتْيَانِ الدِّينِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ التَّعْبِيرِ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ، مَعَ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَادَّةِ وَالْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ: أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي لُغَةِ الْيَمَنِ: الِاسْتِئْذَانُ. وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَا يُنَاسِبُ لَفْظَهَا وَجْهَانِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا شَاهِدٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاسْتِيحَاشِ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْرَعُ بَابَ غَيْرِهِ لَا يَدْرِي أَيُؤْذَنُ لَهُ أَمْ لَا فَهُوَ كَالْمُسْتَوْحِشِ مِنْ خَفَاءِ الْحَالِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 اسْتَأْنَسَ وَزَالَ عَنْهُ الِاسْتِيحَاشُ، وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِئْنَاسُ لَازِمًا لِلْإِذْنِ أُطْلِقَ اللَّازِمُ، وَأُرِيدَ مَلْزُومُهُ الَّذِي هُوَ الْإِذْنُ، وَإِطْلَاقُ اللَّازِمِ، وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَالْقَائِلُونَ بِالْمَجَازِ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُطْلِقَ فِيهَا اللَّازِمُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِئْنَاسُ وَأُرِيدَ مَلْزُومُهُ الَّذِي هُوَ الْإِذْنُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [33 \ 53] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [24 \ 28] ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ: وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَالْإِرْدَافِ ; لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ يَرْدِفُ الْإِذْنَ فَوُضِعَ مَوْضِعَ الْإِذْنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِئْنَاسُ بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ، وَالِاسْتِكْشَافِ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مَنْ آنَسَ الشَّيْءَ إِذَا أَبْصَرَهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا أَوْ عَلِمَهُ. وَالْمَعْنَى: حَتَّى تَسْتَعْمِلُوا وَتَسْتَكْشِفُوا الْحَالَ، هَلْ يُؤْذَنُ لَكُمْ أَوْ لَا؟ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، وَاسْتَأْنَسْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، أَيْ: تَعَرَّفْتُ وَاسْتَعْلَمْتُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [4 \ 6] ، أَيْ: عَلِمْتُمْ رُشْدَهُمْ وَظَهَرَ لَكُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ [20 \ 10] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا الْآيَةَ [28 \ 29] فَمَعْنَى آنَسَ نَارًا: رَآهَا مَكْشُوفَةً، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي الْمُصَيْرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ فَقَوْلُهُ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ، يَعْنِي: حِمَارَ وَحْشٍ شَبَّهَ بِهِ نَاقَتَهُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُسْتَأْنِسًا أَنَّهُ يَسْتَكْشِفُ، وَيَسْتَعْمِلُ الْقَانِصِينَ بِشَمِّهِ رِيحَهُمْ وَحِدَّةِ بَصَرِهِ فِي نَظَرِهِ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِيِّ يَصِفُ نَعَامَةً شَبَّهَ بِهَا نَاقَتَهُ: آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّا ... صُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ فَقَوْلُهُ: آنَسَتْ نَبْأَةً، أَيْ: أَحَسَّتْ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي هُوَ أَنَّ مَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا تَسْتَكْشِفُوا وَتَسْتَعْلُوا، هَلْ يُؤْذَنُ لَكُمْ، وَذَلِكَ الِاسْتِعْلَامُ وَالِاسْتِكْشَافُ إِنَّمَا يَكُونُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 بِالِاسْتِئْذَانِ أَظْهَرَ عِنْدِي، وَإِنِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَرَكْنَاهُ لِعَدَمِ اتِّجَاهِهِ عِنْدَنَا. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَأَنَّ الْكَاتِبِينَ غَلِطُوا فِي كِتَابَتِهِمْ، فَكَتَبُوا تَسْتَأْنِسُوا غَلَطًا بَدَلَ تَسْتَأْذِنُوا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ صَحَّحَ سَنَدَهُ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّتَهُ فَهُوَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي نُسِخَتْ وَتُرِكَتْ، وَلَعَلَّ الْقَارِئَ بِهَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى كِتَابَةِ تَسْتَأْنِسُوا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَعَلَى تِلَاوَتِهَا بِلَفْظِ: تَسْتَأْنِسُوا، وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي مَصَاحِفِهِمْ وَتِلَاوَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى حِفْظَهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] وَقَالَ فِيهِ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 42] وَقَالَ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ الْآيَةَ [75 \ 16 - 17] . مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ دَلَّتْ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِنْسَانِ بَيْتَ غَيْرِهِ بِدُونِ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ [24 \ 27] ، نَهْيٌ صَرِيحٌ، وَالنَّهْيُ الْمُتَجَرِّدُ عَنِ الْقَرَائِنِ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، يَقُولُ الْمُسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ عِنْدَ الثَّالِثَةِ، فَلْيَرْجِعْ، وَلَا يَزِدْ عَلَى الثَّلَاثِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، قَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ " فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا، اهـ بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ رَجَعَ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا وَاللَّهِ يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا بِالْمَدِينَةِ فِي مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا أَبُو مُوسَى فَزِعًا أَوْ مَذْعُورًا قُلْنَا: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُ بَابَهُ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَرَجَعْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا؟ فَقُلْتُ: إِنَّنِي أَتَيْتُكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ فَرَجَعْتُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ " فَقَالَ عُمَرُ: أَقِمْ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قُلْتُ: أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ: فَاذْهَبْ بِهِ. حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقُمْتُ مَعَهُ فَذَهَبْتُ إِلَى عُمَرَ فَشَهِدْتُ، اهـ بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا، قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ هَذَا. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا حَفِظْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَا، وَإِلَّا فَلْأَجْعَلَنَّكَ عِظَةً، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَتَانَا فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، قَالَ فَقُلْتُ: أَتَاكُمْ أَخُوكُمُ الْمُسْلِمُ قَدْ أُفْزِعَ، تَضْحَكُونَ انْطَلِقْ فَأَنَا شَرِيكُكَ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ فَأَتَاهُ، فَقَالَ هَذَا أَبُو سَعِيدٍ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا إِلَى قَوْلِهِ: قَالَ لَتُقِيمَنَّ عَلَى هَذَا بَيِّنَةً، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ فَخَرَجَ فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَصْغَرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا وَإِلَّا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى قَالَ عُمَرُ: إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَمْ تَجِدُوهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْعَشِيُّ وَجَدُوهُ، قَالَ يَا أَبَا مُوسَى: مَا تَقُولُ أَقَدْ وَجَدْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ عَدْلٌ، يَا أَبَا الطُّفَيْلِ مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ: إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأُبَيٍّ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ آنْتَ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَا تَكُنْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ عُمَرَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَا بَعْدَهُ. فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي مُوسَى، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَدُلُّ دَلَالَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ بَيْنَنَا مَعْرُوفٌ لِكِبَارِنَا، وَصِغَارِنَا، حَتَّى إِنَّ أَصْغَرَنَا يَحْفَظُهُ وَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ كَمَا قَالَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِئْذَانَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالِاسْتِئْنَاسِ، وَالسَّلَامَ الْمَذْكُورَ فِيهَا لَا يُزَادُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَأَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ، هُوَ الِاسْتِئْذَانُ الْمُكَرَّرُ ثَلَاثًا ; لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةُ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِئْنَاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ": الِاسْتِئْذَانُ بِتَنَحْنُحٍ، وَنَحْوِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذُكِرَ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ وَالتَّسْلِيمِ ثَلَاثًا كَمَا رَأَيْتَ. وَأَنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: الِاسْتِئْنَاسُ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا إِلَى آخِرِهِ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ يُؤَيِّدُهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، زِيَادَةٌ مُفِيدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ، أَوْ أَبَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 مَسْعُودٍ قَالَ لِعُمَرَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُرِيدُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، حَتَّى أَتَاهُ فَسَلَّمَ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّالِثَةَ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: " قَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا "، ثُمَّ رَجَعَ فَأَذِنَ لَهُ سَعْدٌ، الْحَدِيثَ، فَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ فِعْلِهِ، وَقِصَّةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مُطَوَّلَةً بِمَعْنَاهُ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ كَذَا فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ طَارِقٍ مَوْلَاةِ سَعْدٍ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: فَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ فِعْلِهِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ اسْتِئْذَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "، فَقَالَ سَعْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَلَّمَ ثَلَاثًا وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يَسْمَعْهُ فَرَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا سَلَّمْتَ تَسْيلِمَةً إِلَّا وَهِيَ بِأُذُنِي وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكَ وَمِنَ الْبَرَكَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْبَيْتَ فَقَرَّبَ إِلَيْهِ زَبِيبًا فَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ ": أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ " وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ - هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ - قَالَ ": زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا فَقَلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: دَعْهُ يُكْثِرْ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "، فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ سَلَامَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ الْقِصَّةَ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رَوَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى، فَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي الْآيَةِ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّنَحْنُحَ وَنَحْوُهُ، كَمَا عَزَاهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي لِلْجُمْهُورِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُقَدَّمُ السَّلَامُ أَوِ الِاسْتِئْذَانُ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مَشْرُوعٌ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُسَلِّمَ وَيَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَيَجْمَعُ بَيْنَ السَّلَامِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 وَالِاسْتِئْذَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ السَّلَامِ، ثُمَّ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ تَقْدِيمُ الِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ السَّلَامُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَقَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ، فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ وَالثَّانِي يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَاوَرْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْمُسْتَأْذِنِ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ دُخُولِهِ قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَانِ فِي تَقْدِيمِ السَّلَامِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَتَقْدِيمِ الِاسْتِئْنَاسِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا [24 \ 27] لَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الِاسْتِئْذَانِ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ، فَيَجُوزُ عَطْفُ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخِيرِ بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [3 \ 43] وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ [33 \ 7] وَنُوحٌ قَبْلَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مَعْرُوفٌ وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاوَ رُبَّمَا عُطِفَ بِهَا مُرَادًا بِهَا التَّرْتِيبُ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ [2 \ 158] وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " وَفِي رِوَايَةٍ " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَكَقَوْلِ حَسَّانٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ فِي هَذَا الْبَيْتِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ لَا تَقْتَضِي إِلَّا مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ فِي الْعَطْفِ، كَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَدْءِ بِالصَّفَا، أَوْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةٌ كَالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ جَوَابَ الْهِجَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ، أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ أَوِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ رَاجِحٌ، وَلَا قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا بِالْوَاوِ، اهـ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَرَّرَ مِنْهُ تَعْلِيمُ الِاسْتِئْذَانِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ، بِأَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَانْظُرْهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّوَوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 صِيغَةَ الِاسْتِئْذَانِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَأْذِنُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ انْصَرَفَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي الصَّحِيحِ فِي سِيَاقِهَا تَغَايُرٌ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا: أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُوسَى بَعْدَ انْصِرَافِهِ، فَرَدَّهُ مِنْ حِينِهِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَجَمَعَ بَيْنَهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَيْنِ السِّيَاقَيْنِ التَّغَايُرُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى عُمَرَ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَفِي الثَّانِي أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ إِلَى أَنْ قَالَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الشُّغْلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ تَذَكَّرَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ بِرُجُوعِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ الرَّسُولُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَجَاءَ هُوَ إِلَى عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، اهـ. مِنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ سَمِعُوهُ لَزِمَهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوهُ، وَلَمْ يَأْذَنُوا لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْإِذْنِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَدَمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَدْرِ هَلْ سَمِعُوهُ أَوْ لَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ وَلَمْ يُقَيَّدْ شَيْءٌ مِنْهَا بِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوهُ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ، لَمْ يَسْمَعُوا اسْتِئْذَانَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّالِثَةِ، بَلْ يَنْصَرِفُ بَعْدَهَا لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَعَدَمِ تَقْيِيدِ شَيْءٍ مِنْهَا بِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَهُ الزِّيَادَةَ، وَمَنْ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَشْهَرُهَا أَنَّهُ يَنْصَرِفُ، وَلَا يُعِيدُ الِاسْتِئْذَانَ. وَالثَّانِي: يَزِيدُ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِئْذَانِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ يُعِدْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ، فَمَنْ قَالَ بِالْأَظْهَرِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ " وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ عَلِمَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ، فَلَمْ يَأْذَنْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُسْتَأْذِنَ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ وَلَكِنَّهُ يَقِفُ جَاعِلًا الْبَابَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، وَيَسْتَأْذِنُ وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ثُمَّ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَى أَهْلِ الْمَنْزِلِ أَلَّا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ، وَلَكِنْ لِيَكُنِ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ يَسَارِهِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ فِي آخَرِينَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ قَالَ ": كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ " السَّلَامُ عَلَيْكُمُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ، انْفَرَدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، ح، وَثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا حَفْصٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ طَلْحَةَ عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ قَالَ عُثْمَانُ: سَعْدُ [بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ] ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ، قَالَ عُثْمَانُ: مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": هَكَذَا عَنْكَ أَوْ هَكَذَا فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِهِ انْتَهَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ نَقَلْنَاهُمَا مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ لِأَنَّ نُسْخَةَ ابْنِ كَثِيرٍ الَّتِي عِنْدَنَا فِيهَا تَحْرِيفٌ فِيهِمَا. وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ لَا يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ خَوْفًا أَنْ يُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ، فَيَرَى مِنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ مَا لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَرَاهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ فَإِنَّهُ وَقْتَ فَتْحِ الْبَابِ لَا يَرَى مَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ: مَنْ أَنْتَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَنَا بَلْ يُفْصِحُ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِهِ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ أَنَا يُعَبِّرُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْمُسْتَأْذِنِ، وَقَدْ ثَبَتَ مَعْنَى هَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ «: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ:» أَنَا أَنَا «، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا» انْتَهَى مِنْهُ، وَتَكْرِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَةَ أَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهَا مِنْ جَابِرٍ ; لِأَنَّهَا لَا يُعْرَفُ بِهَا الْمُسْتَأْذِنُ فَهِيَ جَوَابٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَا يُطَابِقُ سُؤَالَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ جَوَابَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 الْمُسْتَأْذِنِ بِأَنَا، لَا يَجُوزُ لِكَرَاهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَوْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ أَنَا فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَنَا» . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا أَنَا» . وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ «ح» وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ «ح» وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمْ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلُ جَابِرٍ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى مِنْ تَكْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَةَ أَنَا أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْضَهُ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا أَخْرَجَهُ غَيْرُ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَاقِي الْجَمَاعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ، وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ الْبَالِغِينَ ; لِأَنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَقَدْ تَقَعُ عَيْنُهُ عَلَى عَوْرَاتِ مَنْ ذُكِرَ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا جُعِلُ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» مَا نَصُّهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُشْرَعُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الْمَحَارِمِ ; لِئَلَّا تَكُونَ مُنْكَشِفَةَ الْعَوْرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا بَلَغَ بَعْضُ وَلَدِهِ الْحُلُمَ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ مَا عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ بِالنُّونِ مُصَغَّرًا: سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْتَ مَا تَكْرَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أُمِّي فَدَخَلَ، وَاتَّبَعْتُهُ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: تَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ إِنَّهَا فِي حِجْرِي؟ قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَهَذِهِ الْآثَارُ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَيُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ، فَوُقُوعُ الْبَصَرِ عَلَى عَوْرَاتِ مَنْ ذُكِرَ لَا يَحِلُّ، كَمَا تَرَى، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ كُرْدُوسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ. وَقَالَ أَشْعَثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي أَكُونُ فِي مَنْزِلِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي أَحَدٌ عَلَيْهَا لَا وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ جَحَدَهُنَّ النَّاسُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [49 \ 13] ، قَالَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُكُمْ بَيْتًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْأَدَبُ كُلُّهُ قَدْ جَحَدَهُ النَّاسُ، قَالَ: قُلْتُ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي مَعِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ لِيُرَخِّصَ لِي فَأَبَى، فَقَالَ: تُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ: فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إِلَيَّ أَنْ أَرَى عَوْرَتَهَا مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ، قَالَ: وَكَانَ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيَّ الْأَعْمَى أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: عَلَيْكُمُ الْإِذْنَ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا امْرَأَتُهُ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ وَلِأَنَّهُ لَا حِشْمَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَيَجُوزُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُلَابَسَاتِ مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَلَوْ كَانَ أَبًّا أَوْ أُمًّا أَوِ ابْنًا، كَمَا لَا يَخْفَى، وَيَدُلُّ لَهُ الْأَثَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَبِيهِ طَلْحَةَ عَلَى أُمِّهِ فَزَجَرَهُ طَلْحَةُ عَنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أُمِّهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، مَعَ أَنَّ طَلْحَةَ زَوْجَهَا دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» : وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ وَلَا يُفَاجِئَهَا بِهِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تُحِبُّ أَنْ يَرَاهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ، فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ كَرَاهَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، قَالَ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى إِبَاحَةَ نَظَرِ الزَّوْجِ إِلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا قَالَ أَهْلُ الْمَنْزِلِ لِلْمُسْتَأْذِنِ: ارْجِعْ، وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [24 \ 28] ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَمَنَّى إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى بَعْضِ أَصْدِقَائِهِ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: ارْجِعْ، لِيَرْجِعَ، فَيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُ الرُّجُوعِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ; لِأَنَّ مَا قَالَ اللَّهُ إِنَّهُ أَزْكَى لَنَا لَا شَكَّ أَنَّ لَنَا فِيهِ خَيْرًا وَأَجْرًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا وَأَرْجَحَهَا فِيمَنْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ إِلَى دَاخِلِ مَنْزِلِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِهَا، لِيَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ وَلَا غُرْمِ دِيَةِ الْعَيْنِ وَلَا قِصَاصٍ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَلِذَا لَمْ نَذْكُرْ هُنَا أَقْوَالَ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِسُقُوطِهَا عِنْدَنَا، لِمُعَارَضَتِهَا النَّصَّ الثَّابِتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «صَحِيحِهِ» : بَابُ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَحَادِيثِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» ، اهـ مِنْهُ، وَالْجُنَاحُ الْحَرَجُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» ، لَفْظُ جُنَاحٍ فِيهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ رَفْعَ كُلِّ حَرَجٍ مِنْ إِثْمٍ وَدِيَةٍ وَقِصَاصٍ، كَمَا تَرَى. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» ، اهـ مِنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ، وَكَوْنُ ذَلِكَ حَلَالًا لَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ أَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ إِثْمٍ، وَلَا دِيَةٍ، وَلَا قِصَاصٍ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى فِعْلِهِ الْبَتَّةَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى فِي «صَحِيحِهِ» مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: لَوْ أَنَّ رجلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ» ، اهـ مِنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي عَيْنِ الْمَذْكُورِ، وَثُبُوتُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَأَيْتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى وَانْتَهَكَ الْحُرْمَةَ، وَنَظَرَ إِلَى بَيْتِ غَيْرِهِ دُونَ اسْتِئْذَانٍ، أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَخْذِ عَيْنِهِ الْخَائِنَةِ، وَأَنَّهَا هَدْرٌ لَا عَقْلَ فِيهَا، وَلَا قَوَدَ، وَلَا إِثْمَ، وَيَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا تَوْكِيدًا وَإِيضَاحًا مَا جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَهِيَ قَوْلُهُ: بَابُ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَعْضِ جُحَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ، وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ. حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحَرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ» ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ» ، اهـ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ هُنَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ. وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ: بَابُ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ خَالَفَهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَنْ أَوَّلَهَا ; لِأَنَّ النَّصَّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِشْقَصَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَفَتْحِ ثَالِثِهِ هُوَ نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا غَيْرَ عَرِيضٍ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُحْرُ الْأَوَّلُ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كُلُّ ثُقْبٍ مُسْتَدِيرٍ فِي أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ، وَالثَّانِي: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ: وَهِيَ نَاحِيَةُ الْبَيْتِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، وَأَبِي كَامِلٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ» ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ، وَفِي مُسْلِمٍ رِوَايَاتٌ أُخَرُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدِ اكْتَفَيْنَا مِنْهَا بِمَا ذَكَرْنَا. وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا، وَلَا تَأْوِيلُهَا بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ الْخَائِنَةَ يَحِلُّ أَخْذُهَا، وَتَكُونُ هَدْرًا، وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وَلَا لِتَأْوِيلِهِمْ لِلنُّصُوصِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى شَخْصٍ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَكُونُ الْإِرْسَالُ إِلَيْهِ إِذْنًا ; لِأَنَّهُ طَلَبَ حُضُورَهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا جَاءَ مُنْزِلَ مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَلَهُ الدُّخُولُ بِلَا إِذْنٍ جَدِيدٍ اكْتِفَاءً بِالْإِرْسَالِ إِلَيْهِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَأْذِنَ إِذَا أَتَى الْمَنْزِلَ اسْتِئْذَانًا جَدِيدًا، وَلَا يَكْتَفِي بِالْإِرْسَالِ؟ وَكُلٌّ مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 الْقَوْلَيْنِ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِ إِذْنٌ يَكْفِي عَنِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ إِتْيَانِ الْمَنْزِلِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حَبِيبٍ، وَهُشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ» ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُولُ: قَتَادَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي رَافِعٍ شَيْئًا، اهـ مِنْ أَبِي دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَقَدْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ، اهـ. وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا: بَابُ إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ؟ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: هُوَ إِذْنُهُ» اهـ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، إِلَّا مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : فِي حَدِيثِ كَوْنِ «رَسُولِ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» ، وَلَهُ مُتَابِعٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِلَفْظِ «: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» ، وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ «: إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَهُوَ إِذْنُهُ» ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَدِلَّةِ مَنْ قَالُوا: بِأَنَّ مَنْ دُعِيَ لَا يَسْتَأْذِنُ إِذَا قَدِمَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يَسْتَأْذِنُ إِذَا قَدِمَ إِلَى مَنْزِلِ الْمُرْسِلِ، وَلَا يَكْتَفِي بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ «: أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ» ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، اهـ مِنْهُ، قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ أَبَا هِرٍّ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِرْسَالِ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ وَلَوْ كَانَ يَكْفِي عَنْهُ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الْآيَةَ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَشْمَلُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَغَيْرَهُ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَجَمَعَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ بِتَنْزِيلِ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ إِنْ طَالَ الْعَهْدُ بَيْنَ الطَّلَبِ وَالْمَجِيءِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ الِاسْتِئْذَانِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَطُلْ لَكِنْ كَانَ الْمُسْتَدْعِي فِي مَكَانٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْعَادَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِذْنٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ الْأَوَّلَ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَسْتَأْذِنُ لِأَجْلِهِ، وَالثَّانِي بِخِلَافِهِ. قَالَ: وَالِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَحْوَطُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ حَضَرَ صُحْبَةَ الرَّسُولِ أَغْنَاهُ اسْتِئْذَانُ الرَّسُولِ، وَيَكْفِيهِ سَلَامُ الْمُلَاقَاةِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الرَّسُولِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَبِهَذَا جَمَعَ الطَّحَاوِيُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «: فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، وَإِلَّا لَقَالَ: فَأَقْبَلْنَا، كَذَا قَالَ، اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْجَمْعُ الْأَخِيرُ، وَيَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمِ: فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ، وَيَدْخُلُ فِي حِفْظِ الْفَرْجِ: حِفْظُهُ مِنَ الزِّنَى، وَاللِّوَاطِ، وَالْمُسَاحَقَةِ، وَحِفْظُهُ مِنَ الْإِبْدَاءِ لِلنَّاسِ وَالِانْكِشَافِ لَهُمْ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ حِفْظَهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَلْزَمُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الزَّوْجَةَ وَالسُّرِّيَّةَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنُونَ» وَ «سَأَلَ سَائِلٌ» ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [23 \ 5 - 6] وَ [70 \ 29 - 30] . فَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ حِفْظَ الْفَرْجِ مِنَ الزِّنَى، وَاللِّوَاطِ لَازِمٌ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِفْظُهُ عَنِ الزَّوْجَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِالْمِلْكِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ فَرْجِهِ عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ فِي الدُّبُرِ، وَذَكَرْنَا لِذَلِكَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى آيَةِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ [23 \ 5] ، فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، إِذَا عَمِلَ مَعَهَا الْخِصَالَ الْمَذْكُورَةَ مَعَهَا فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ إِلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [33 \ 35] ، وَأَوْضَحَ تَأْكِيدَ حِفْظِ الْفَرْجِ عَنِ الزِّنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [17 \ 32] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ الْآيَةَ [25 \ 68 - 70] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَوْضَحَ لُزُومَ حِفْظِ الْفَرْجِ عَنِ اللِّوَاطِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عُدْوَانٌ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ; كَقَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [26 \ 165 - 166] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [29 \ 28 - 29] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ فِي عُقُوبَةِ فَاعِلِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، وَعُقُوبَةَ الزَّانِي فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِحِفْظِ الْفَرْجِ يَتَنَاوَلُ حِفْظَهُ مِنَ انْكِشَافِهِ لِلنَّاسِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَحِفْظُ الْفَرْجِ تَارَةً يَكُونُ بِمَنْعِهِ مِنَ الزِّنَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ الْآيَةَ [23 \ 5] ، وَتَارَةً يَكُونُ بِحِفْظِهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالسُّنَنِ «: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» ، اهـ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْمُرَادُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا يَحْرُمُ، وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ، وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ مَزِيدَةً، وَأَبَاهُ سِيبَوَيْهِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ دَخَلَتْ فِي غَضِّ الْبَصَرِ دُونَ حِفْظِ الْفَرْجِ؟ قُلْتُ: دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّظَرِ أَوْسَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحَارِمَ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُعُورِهِنَّ، وَصُدُورِهِنَّ، وَثُدِيِّهِنَّ، وَأَعْضَادِهِنَّ، وَأَسْوُقِهِنَّ، وَأَقْدَامِهِنَّ، وَكَذَلِكَ الْجَوَارِي الْمُسْتَعْرَضَاتُ، وَالْأَجْنَبِيَّةُ يُنْظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَمَّا أَمْرُ الْفَرْجِ فَمُضَيَّقٌ، وَكَفَاكَ فَرْقًا أَنْ أُبِيحَ النَّظَرَ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ، وَحُظِرَ الْجِمَاعُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعَ حِفْظِهَا مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ حِفْظُهَا عَنِ الْإِبْدَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ عَنِ الزِّنَى إِلَّا هَذَا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِتَارَ، اهـ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِحِفْظِ الْفَرْجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاسْتِتَارُ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا حِفْظُهُ مِنَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيمُهُ الْأَمْرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ عَلَى الْأَمْرِ بِحِفْظِ الْفَرْجِ ; لِأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَى، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذُكِرَ جَوَازُ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَحَارِمِ لَا يَخْلُو بَعْضُهُ مِنْ نَظَرٍ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، كَمَا وَعَدْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، أَنَّا نُوَضِّحُ مَسْأَلَةَ الْحِجَابِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» . وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيَّ: إِنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ لِلتَّبْعِيضِ، قَالَهُ غَيْرُهُ، وَقَوَّاهُ الْقُرْطُبِيُّ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ نَظْرَةَ الْفُجَاءَةِ لَا حَرَجَ فِيهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ بَعْدَهَا، وَلَا يَنْظُرَ نَظَرًا عَمْدًا إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ، لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيلَ الْغَضُّ: النُّقْصَانُ، يُقَالُ: غَضَّ فَلَانٌ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ: وَضَعَ مِنْهُ، فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ عَمَلِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ مِنْهُ وَمَنْقُوصٌ، فَـ مِنْ صِلَةٌ لِلْغَضِّ، وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا لِلزِّيَادَةِ، اهـ مِنْهُ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَادَّةَ الْغَضِّ تَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفَسِهَا وَتَتَعَدَّى إِلَيْهِ أَيْضًا بِالْحَرْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أُمْثِلَةِ تَعَدِّي الْغَضِّ لِلْمَعْقُولِ بِنَفْسِهِ قَوْلُ جَرِيرٍ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَمَا كَانَ غَضُّ الطَّرْفِ مِنَّا سَجِيَّةً ... وَلَكِنَّنَا فِي مُذْحِجٍ غِرْبَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: غَضُّ الطَّرْفِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ بِدُونِ حَرْفٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَعَدِّي الْغَضِّ بِـ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ قَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَهْدِيدُ مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْهُ، وَلَمْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْحَرَامِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ [40 \ 19] . وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صَدْرَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ، قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ، يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ قَالَ قَتَادَةُ: عَمًّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ النَّظَرُ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ فِيهِ الْوَعِيدُ لِمَنْ يَخُونُ بِعَيْنِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. مِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ «: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ «: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» ، انْتَهَى، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي «صَحِيحِهِ» . وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَرْدَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، الْحَدِيثَ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَظَرَهُ إِلَيْهَا لَا يَجُوزُ، وَاسْتِدْلَالُ مَنْ يَرَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْكَشْفَ عَنْ وَجْهِهَا بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ بِكَشْفِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَجْهَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحِجَابِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» . وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: مِنْ أَنَّ نَظَرَ الْعَيْنِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهَا تَكُونُ بِهِ زَانِيَةً، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَى الْعَيْنِ: النَّظَرُ، وَزِنَى اللِّسَانِ: الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» ، اهـ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هُنَا. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: فَزِنَى الْعَيْنِ النَّظَرُ» ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الزِّنَى عَلَى نَظَرِ الْعَيْنِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّظَرَ سَبَبُ الزِّنَى فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى جَمَالِ امْرَأَةٍ مَثَلًا قَدْ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ تَمَكُّنًا يَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَالنَّظَرُ بَرِيدُ الزِّنَى، وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيُّ: كَسَبَتْ لِقَلْبِي نَظْرَةً لِتَسُرَّهُ ... عَيْنِي فَكَانَتْ شِقْوَةً وَوَبَالًا مَا مَرَّ بِي شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْهَوَى ... سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْهَوَى وَتَعَالَى وَقَالَ آخَرُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَيْنَ لِلْقَلْبِ رَائِدٌ ... فَمَا تَأْلَفُ الْعَيْنَانِ فَالْقَلْبُ آلِفُ وَقَالَ آخَرُ: وَأَنْتَ إِذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمُنَاظِرُ رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي: وَأَنَا الَّذِي اجْتَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُهُ ... فَمَنِ الْمُطَالِبُ وَالْقَتِيلُ الْقَاتِلُ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ «ذَمِّ الْهَوَى» فُصُولًا جَيِّدَةً نَافِعَةً أَوْضَحَ فِيهَا الْآفَاتِ الَّتِي يُسَبِّبُهَا النَّظَرُ وَحَذَّرَ فِيهَا مِنْهُ، وَذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ أَشْعَارِ الشُّعَرَاءِ، وَالْحِكَمِ النَّثْرِيَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 فِي ذَلِكَ وَكُلُّهُ مَعْلُومٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَرْجِعُ جَمِيعُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الزِّينَةَ هُنَا نَفْسُ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ; كَوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ الزِّينَةَ هِيَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ خَارِجًا عَنْ بَدَنِهَا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الزِّينَةِ الْمَذْكُورَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي لَا يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ ; كَالْمُلَاءَةِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ وَالْإِزَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ. فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ الْوَجْهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَالْخِضَابِ وَالْخَاتَمِ، فَإِنَّ رُؤْيَتَهُمَا تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ الْيَدِ، وَكَالْقُرْطِ وَالْقِلَادَةِ وَالسِّوَارِ، فَإِنَّ رُؤْيَةَ ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ مَحَلِّهِ مِنَ الْبَدَنِ ; كَمَا لَا يَخْفَى. وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا يُفْهَمُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ رُجْحَانُهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أَيْ: لَا يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ لِلْأَجَانِبِ، إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ، يَعْنِي عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ نِسَاءُ الْعَرَبِ مِنَ الْمِقْنَعَةِ الَّتِي تُجَلِّلُ ثِيَابَهَا، وَمَا يَبْدُو مِنْ أَسَافِلِ الثِّيَابِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِيهِ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُهَا إِخْفَاؤُهُ وَنَظِيرُهُ فِي زِيِّ النِّسَاءِ مَا يَظْهَرُ مِنْ إِزَارِهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، وَقَالَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا وَالْخَاتَمَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَالضَّحَّاكِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلزِّينَةِ الَّتِي نُهِينَ عَنْ إِبْدَائِهَا ; كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الزِّينَةُ: الْقُرْطُ، وَالدُّمْلُوجُ، وَالْخَلْخَالُ، وَالْقِلَادَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ، فَزِينَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ الْخَاتَمُ وَالسِّوَارُ، وَزِينَةٌ يَرَاهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 الْأَجَانِبُ، وَهِيَ الظَّاهِرُ مِنَ الثِّيَابِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَبْدُو لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا الْأَسْوِرَةُ وَالْأَخْمِرَةُ وَالْأَقْرِطَةُ مِنْ غَيْرِ حَسْرٍ، وَأَمَّا عَامَّةُ النَّاسِ، فَلَا يَبْدُو مِنْهَا إِلَّا الْخَوَاتِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا: الْخَاتَمُ وَالْخَلْخَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَنْ تَابَعَهُ أَرَادُوا تَفْسِيرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا: بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْطَاكِيُّ، وَمُؤَمِّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ «: يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا» ، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ مُرْسَلٌ، خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ، وَزَادَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْوَجْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَعَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَالثِّيَابُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الْكُحْلُ وَالسِّوَارُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ وَالْقِرَطَةُ وَالْفَتَخُ وَنَحْوُ هَذَا، فَمُبَاحٌ أَنْ تُبْدِيَهُ الْمَرْأَةُ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ فِي مَعْنَى نِصْفِ الذِّرَاعِ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذَا عَرَكَتْ أَنْ تُظْهِرَ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا إِلَى هَاهُنَا» ، وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي بِحُكْمِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَنْ لَا تُبْدِيَ وَأَنْ تَجْتَهِدَ فِي الْإِخْفَاءِ لِكُلِّ مَا هُوَ زِينَةٌ، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ بِحُكْمِ ضَرُورَةِ حَرَكَةٍ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، أَوْ إِصْلَاحِ شَأْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَا ظَهَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي النِّسَاءِ، فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ظُهُورُهُمَا عَادَةً، وَعِبَادَةً وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ الَّذِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ جَمِيلَةً، وَخِيفَ مِنْ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا الْفِتْنَةُ، فَعَلَيْهَا سَتْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ مُقَبَّحَةً جَازَ أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الزِّينَةُ مَا تَزَيَّنَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ حُلِيٍّ أَوْ كُحْلٍ أَوْ خِضَابٍ، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْهَا كَالْخَاتَمِ وَالْفَتْخَةِ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا خَفِيَ مِنْهَا كَالسِّوَارِ، وَالْخَلْخَالِ، وَالدُّمْلُجِ، وَالْقِلَادَةِ، وَالْإِكْلِيلِ، وَالْوِشَاحِ، وَالْقُرْطِ، فَلَا تُبْدِيهِ إِلَّا لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَذَكَرَ الزِّينَةَ دُونَ مَوَاقِعِهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْأَمْرِ بِالتَّصَوُّنِ وَالتَّسَتُّرِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الزِّينَةَ وَاقِعَةٌ عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ الْجَسَدِ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ الذِّرَاعُ، وَالسَّاقُ، وَالْعَضُدُ، وَالْعُنُقُ، وَالرَّأْسُ، وَالصَّدْرُ، وَالْأُذُنُ، فَنَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ نَفْسِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّظَرَ إِذَا لَمْ يَحِلَّ إِلَيْهَا لِمُلَابَسَتِهَا تِلْكَ الْمَوَاقِعَ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا غَيْرَ مُلَابَسَةٍ لَهَا لَا مَقَالَ فِي حِلِّهِ، كَانَ النَّظَرُ إِلَى الْمَوَاقِعِ أَنْفُسِهَا مُتَمَكِّنًا فِي الْحَظْرِ، ثَابِتَ الْقَدَمِ فِي الْحُرْمَةِ، شَاهِدًا عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ حَقُّهُنَّ أَنْ يَحْتَطْنَ فِي سَتْرِهَا وَيَتَّقِينَ اللَّهَ فِي الْكَشْفِ عَنْهَا، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» : وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ قَالَ: الزِّينَةُ السِّوَارُ وَالدُّمْلُجُ وَالْخَلْخَالُ، وَالْقُرْطُ، وَالْقِلَادَةُ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الثِّيَابُ وَالْجِلْبَابُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ،، زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَزِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ. فَأَمَّا الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: فَالثِّيَابُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ: فَالْكُحْلُ، وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ، وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ: فَالظَّاهِرَةُ مِنْهَا الثِّيَابُ، وَمَا يَخْفَى: فَالْخَلْخَالَانِ وَالْقُرْطَانِ وَالسِّوَارَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: هُوَ خِضَابُ الْكَفِّ، وَالْخَاتَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: وَجْهُهَا، وَكَفَّاهَا وَالْخَاتَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: رُقْعَةُ الْوَجْهِ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ؟ فَقَالَتِ: الْقَلْبُ وَالْفَتَخُ، وَضَمَّتْ طَرَفَ كُمِّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْوَجْهُ وَثُغْرَةُ النَّحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْوَجْهُ وَالْكَفُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْكَفَّانِ وَالْوَجْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْمُسْكَتَانِ وَالْخَاتَمُ وَالْكُحْلُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَّا إِلَى هَاهُنَا» وَيَقْبِضُ نِصْفَ الذِّرَاعِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْقُلْبَيْنِ، يَعْنِي السِّوَارَ وَالْخَاتَمَ وَالْكُحْلَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْخَاتَمُ وَالْمَسَكَةُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الْقُلْبُ وَالْفَتْخَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَتْ عَلَيَّ ابْنَةُ أَخِي لِأُمِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ مُزَيَّنَةً، فَدَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْرَضَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي وَجَارِيَةٌ، فَقَالَ «: إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ إِلَّا وَجْهَهَا وَإِلَّا مَا دُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 هَذَا» ، وَقَبَضَ عَلَى ذِرَاعِهِ نَفْسِهِ، فَتَرَكَ بَيْنَ قَبْضَتِهِ وَبَيْنَ الْكَفِّ مِثْلَ قَبْضَةٍ أُخْرَى، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» . وَقَدْ رَأَيْتَ فِي هَذِهِ النُّقُولِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ السَّلَفِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ; كَمَا ذَكَرْنَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ خَارِجًا عَنْ أَصْلٍ خِلْقَتِهَا، وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا ; كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّهَا ظَاهِرُ الثِّيَابِ ; لِأَنَّ الثِّيَابَ زِينَةٌ لَهَا خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ، كَمَا تَرَى. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا وَأَحْوَطُهَا، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الرِّيبَةِ وَأَسْبَابِ الْفِتْنَةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ: مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا أَيْضًا، لَكِنَّ النَّظَرَ إِلَى تِلْكَ الزِّينَةِ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ كَالْخِضَابِ وَالْكُحْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ الْمَوْضِعِ الْمُلَابِسِ لَهُ مِنَ الْبَدَنِ، كَمَا لَا يَخْفَى. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ بَعْضُ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا ; كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ إِرَادَةَ مَعْنًى مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ، مَعَ تَكَرُّرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَوْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ فِي الْغَالِبِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِدَلَالَةِ غَلَبَةِ إِرَادَتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَذَكَرْنَا لَهُ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّرْجَمَةِ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ لِلَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَمَثَّلْنَا لَهُمَا بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، فَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي مَعْنَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ مَثَلًا، تُوجَدُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ أَنَّ الزِّينَةَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، هِيَ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا: كَالْحُلِيِّ، وَالْحُلَلِ. فَتَفْسِيرُ الزِّينَةِ بِبَعْضِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: الْوَجْهُ، وَالْكَفَّانِ خِلَافُ ظَاهِرِ مَعْنَى لَفْظِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا نَوْعُ الْبَيَانِ الثَّانِي الْمَذْكُورِ، فَإِيضَاحُهُ: أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُرَادًا بِهِ الزِّينَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ أَصْلِ الْمُزَيَّنِ بِهَا، وَلَا يُرَادُ بِهَا بَعْضُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ بِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [7 \ 31] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [7 \ 32] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا [18 \ 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [28 \ 60] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [37 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً الْآيَةَ [16 \ 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ الْآيَةَ [28 \ 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [18 \ 46] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ الْآيَةَ [57 \ 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [20 \ 59] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مُوسَى: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [20 \ 87] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [24 \ 31] ، فَلَفْظُ الزِّينَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا يُرَادُ بِهِ مَا يُزَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ، كَمَا تَرَى، وَكَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ فِي لَفْظِ الزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، الَّذِي غَلَبَتْ إِرَادَتُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عَطَلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَفْسِيرَ الزِّينَةِ فِي الْآيَةِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فِيهِ نَظَرٌ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَأَنَّ مَنْ فَسَّرُوهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زِينَةٌ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ كَظَاهِرِ الثِّيَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زِينَةٌ يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 إِلَيْهَا رُؤْيَةَ مَوْضِعِهَا مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ; كَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عِنْدِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ هِيَ مَا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ هُوَ أَحْوَطُ الْأَقْوَالِ، وَأَبْعَدُهَا عَنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ، وَأَطْهَرُهَا لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ هُوَ أَصْلُ جَمَالِهَا وَرُؤْيَتَهُ مِنْ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الِافْتِتَانِ بِهَا ; كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَالْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكَرِيمِ، هُوَ تَمَامُ الْمُحَافَظَةِ، وَالِابْتِعَادُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي. وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْحِجَابِ وَإِيضَاحَ كَوْنِ الرَّجُلِ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ أَوْ غَيْرَهُمَا قَدْ وَعَدْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ، بِأَنَّنَا سَنُوَضِّحُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْحِجَابِ، وَسَنَفِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَعْدِ فِي ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ لِلْمُنْصِفِ مَا ذَكَرْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي دُخُولِ أَسْمَاءَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثِيَابٍ رِقَاقٍ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا «: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا» ، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ، حَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ; كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ مُرْسَلٌ، وَخَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ. وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَسَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانًا شَافِيًا مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْجَمِيعِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ فِيهَا هَاهُنَا. تَنْبِيهٌ. قَدْ ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الزِّينَةِ أَسْمَاءَ كَثِيرٍ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ النَّاظِرِينَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، لَا يَعْرِفُ مَعْنَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الزِّينَةِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَهَا هَاهُنَا تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ. أَمَّا الْكُحْلُ وَالْخِضَابُ فَمَعْرُوفَانِ، وَأَشْهَرُ أَنْوَاعِ خِضَابِ النِّسَاءِ الْحِنَّاءُ، وَالْقُرْطُ مَا يُعَلَّقُ فِي شَحْمَةِ الْأُذُنِ، وَيُجْمَعُ عَلَى قِرَطَةٍ كَقِرَدَةٍ، وَقِرَاطٍ، وَقُرُوطٍ، وَأَقْرَاطٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكَ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وَالْخَاتَمُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ حِلْيَةُ الْأَصَابِعِ، وَالْفَتَخُ: جَمْعُ فَتْخَةٍ بِفَتَخَاتٍ وَهِيَ حَلْقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ لَا فَصَّ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ فِيهَا فَصٌّ، فَهُوَ الْخَاتَمُ، وَقِيلَ: قَدْ يَكُونُ لِلْفَتْخَةِ فَصٌّ، وَعَلَيْهِ فَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْخَوَاتِمِ، وَالْفَتْخَةُ تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ فِي أَصَابِعِ أَيْدِيهِنَّ، وَرُبَّمَا جَعَلَتْهَا الْمَرْأَةُ فِي أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزَةِ، وَهِيَ الدَّهْنَاءُ بِنْتُ مِسْحَلٍ زَوْجَةُ الْعَجَّاجِ: وَاللَّهِ لَا تَخْدَعُنِي بِضَمِّ ... وَلَا بِتَقْبِيلٍ وَلَا بِشَمِّ إِلَّا بِزِعْزَاعٍ يُسَلِّي هَمِّي ... تَسْقُطُ مِنْهُ فَتَخِي فِي كُمِّي وَالْخَلْخَالُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْخُلْخُلُ حِلْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ فِي أَرْجُلِهِنَّ كَالسِّوَارِ فِي الْمِعْصَمِ، وَالْمُخَلْخَلُ: مَوْضِعُ الْخَلْخَالِ مِنَ السَّاقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: إِذَا قُلْتُ هَاتِي نَوَّلِينِي تَمَايَلَتْ ... عَلَيَّ هَضِيمَ الْكَشْحِ رَيَّا الْمُخَلْخَلِ وَالدُّمْلُجُ: وَيُقَالُ لَهُ الدُّمْلُوجُ: هُوَ الْمُعَضَّدُ، وَهُوَ مَا شُدَّ فِي عَضُدِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْخَرَزِ وَغَيْرِهِ، وَالْعَضُدُ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَا مَرْكَبٌ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ يُعْجِبُنِي ... كَمَرْكَبٍ بَيْنَ دُمْلُوجٍ وَخَلْخَالِ وَالسِّوَارُ: حِلْيَةٌ مِنَ الذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ مُسْتَدِيرَةٌ كَالْحَلْقَةِ تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ فِي مِعْصَمِهَا، وَهُوَ مَا بَيْنَ مَفْصِلِ الْيَدِ وَالْمِرْفَقِ، وَهُوَ الْقُلْبُ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّ الْقُلْبَ هُوَ السِّوَارُ الْمَفْتُولُ مِنْ طَاقٍ وَاحِدٍ لَا مِنْ طَاقَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي زَوْجَتِهِ رَمْلَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَجُولُ خَلَاخِيلُ النِّسَاءِ وَلَا أَرَى ... لِرَمْلَةَ خَلْخَالًا يَجُولُ وَلَا قُلْبًا أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِّ مِنْ أَجْلِ حُبِّهَا ... وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَخْوَالَهَا كَلْبًا. وَالْمَسَكَةُ بِفَتْحَاتٍ: السِّوَارُ مِنْ عَاجٍ أَوْ ذَبْلٍ، وَالْعَاجُ سِنُّ الْفِيلِ، وَالذَّبْلُ بِالْفَتْحِ شَيْءٌ كَالْعَاجِ، وَهُوَ ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّوَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ يَصِفُ امْرَأَةً: تَرَى الْعَبَسَ الْحَوْلِيَّ جَوْنًا بِكُوعِهَا ... لَهَا مَسَكًا فِي غَيْرِ عَاجٍ وَلَا ذَبَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» ، وَالْمَسَكُ بِفَتْحَتَيْنِ: جَمْعُ مَسَكَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْمَسَكُ أَسْوِرَةٌ مِنْ عَاجٍ أَوْ قُرُونٍ أَوْ ذَبَلٍ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهَا لَا تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ، وَلَا الْفِضَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «التَّوْبَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْآيَةَ [9 \ 34] ، فِي مَبْحَثِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهَا ابْنَتُهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، الْحَدِيثَ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسَكَةَ تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ، كَمَا تَكُونُ مِنَ الْعَاجِ، وَالْقُرُونِ، وَالذَّبَلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ خِلَافًا لِكَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَسَكَ لَا يَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْقِلَادَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَانَ التَّقْصِيرُ فِي امْتِثَالِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ قَدْ يَحْصُلُ عِلْمُ خَلْقِهِ مَا يَتَدَارَكُونَ بِهِ، مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْأَوَّلُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ. وَالثَّانِي: النَّدَمُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّالِثُ: النِّيَّةُ أَلَّا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ أَبَدًا، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ، وَتَأْخِيرُهَا لَا يَجُوزُ فَتَجِبُ مِنْهُ التَّوْبَةُ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ أَشْهَرَ مَعَانِي لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ اثْنَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّرَجِّي، أَيْ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ تُفْلِحُوا، وَعَلَى هَذَا فَالرَّجَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ، أَمَّا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ إِطْلَاقُ الرَّجَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ فِي مُخَاطَبَةِ فِرْعَوْنَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [20 \ 44] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 وَهُوَ - جَلَّ وَعَلَا - عَالِمٌ بِمَا سَبَقَ فِي الْأَزَلِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى. مَعْنَاهُ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا رَجَاءً مِنْكُمَا بِحَسَبِ عَدَمِ عِلْمِكُمَا بِالْغَيْبِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى. وَالثَّانِي: هُوَ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ كُلَّ لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّعْلِيلِ، إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [26 \ 129] ، قَالُوا: فَهِيَ بِمَعْنَى كَأَنَّكُمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَعَلَّ لِلتَّعْلِيلِ مَعْلُومٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ أَيْ: كَفُّوا الْحُرُوبَ، لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ ; كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَالْمَعْنَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَجْلِ أَنْ تُفْلِحُوا، أَيْ: تَنَالُوا الْفَلَاحَ، وَالْفَلَاحُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ لَبِيَدٍ: فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلَ أَيْ: فَازَ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ مِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْعَقْلَ. الْمَعْنَى الثَّانِي: هُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ فِي النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ، وَقِيلَ: كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... وَالْمِسَا وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا مَعَ تَعَاقُبِ الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ أَيْضًا: لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ ... لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ يَعْنِي: لَوْ كَانَ أَحَدٌ يُدْرِكُ الْبَقَاءَ، وَلَا يَمُوتُ لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ، وَهُوَ عَمُّهُ عَامِرُ بْنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِمُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ يَمْدَحُهُ، وَيَذُمُّ أَخَاهُ الطُّفَيْلَ وَالِدَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْمَشْهُورِ: فَرَرْتَ وَأَسْلَمْتَ ابْنَ أُمِّكَ عَامِرًا ... يُلَاعِبُ أَطْرَافَ الْوَشِيجِ الْمُزَعْزَعِ وَبِكُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْفَلَاحِ فُسِّرَ حَدِيثُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ; كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَمَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ - كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ - نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ، فَإِنَّهُ يَفُوزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ يَنَالُ الْبَقَاءَ الْأَبَدِيَّ فِي النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَمْرِهِ - جَلَّ وَعَلَا - لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّوْبَةِ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى فَلَاحِهِمْ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَ أَنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الذُّنُوبَ، وَيُكَفِّرُ بِهَا السَّيِّئَاتِ، أَنَّهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَوَّادٌ كَرِيمٌ، رَحِيمٌ غَفُورٌ، فَإِذَا أَطْمَعَ عَبْدَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ فَضْلِهِ، فَجُودُهُ وَكَرَمُهُ تَعَالَى وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ الَّذِي أَطْمَعَهُ رَبُّهُ فِي ذَلِكَ الْفَضْلِ يَثِقُ بِأَنَّهُ مَا أَطْمَعَهُ فِيهِ إِلَّا لِيَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَتْ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [66 \ 8] ، فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» هَذِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ; كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «النُّورِ» : أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ مَنْ كُفِّرَتْ عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَقَدْ نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» : تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا مُوَضِّحٌ لِقَوْلِهِ فِي «النُّورِ» : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا وَنِدَاؤُهُ لَهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فِي الْآيَتَيْنِ فِيهِ تَهْيِيجٌ لَهُمْ، وَحَثٌّ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ، يَقْتَضِي الْمُسَارَعَةَ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالرَّجَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظَةِ عَسَى فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» ، هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظَةِ لَعَلَّ فِي آيَةِ «النُّورِ» ، كَمَا لَا يَخْفَى. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: هِيَ التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ. وَحَاصِلُهَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، بِأَنْ يُقْلِعَ عَنِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 مُلْتَبِسًا بِهِ، وَيَنْدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ رَبِّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَيَنْوِي نِيَّةً جَازِمَةً أَلَّا يَعُودَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَبَدًا. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَكَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ بِتِلْكَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الذَّنْبِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ تَوْبَتَهُ الْأُولَى الْوَاقِعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ لَا يُبْطِلُهَا الرُّجُوعُ إِلَى الذَّنْبِ، بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ جَدِيدٍ لِذَنْبِهِ الْجَدِيدِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ عَوْدَهُ لِلذَّنْبِ نَقْضٌ لِتَوْبَتِهِ الْأُولَى. الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَوْبَةٌ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنْهُ، إِنْ كَانَ مُلْتَبِسًا بِهِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَإِيضَاحُهُ فِي الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ النَّدَمُ أَنَّ النَّدَمَ لَيْسَ فِعْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ انْفِعَالٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إِلَّا بِفِعْلٍ يَقَعُ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يُكَلِّفُ أَحَدًا بِشَيْءٍ إِلَّا شَيْئًا هُوَ فِي طَاقَتِهِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] . وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّدَمَ انْفِعَالٌ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَلَيْسَ بِفِعْلٍ أَصْلًا، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ، وَالتَّكْلِيفُ لَا يَقَعُ بِغَيْرِ الْفِعْلِ، وَلَا بِمَا لَا يُطَاقُ، كَمَا بَيَّنَّا، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : وَلَا يُكَلِّفُ بِغَيْرِ الْفِعْلِ ... بَاعِثُ الْأَنْبِيَا وَرَبُّ الْفَضْلِ وَقَالَ أَيْضًا: وَالْعِلْمُ وَالْوُسْعُ عَلَى الْمَعْرُوفِ ... شَرْطٌ يَعُمُّ كُلَّ ذِي تَكْلِيفِ وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِوَارِ الْعَقْلِيِّ، وَالْمَعْنَى هَلْ يُجِيزُهُ الْعَقْلُ أَوْ يَمْنَعُهُ؟ . أَمَّا وُقُوعُهُ بِالْفِعْلِ فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى مَنْعِهِ ; كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يُعَبِّرُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ هَلْ يَجُوزُ عَقْلًا، أَوْ لَا؟ أَمَّا وُقُوعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا، أَوْ عَادَةً، فَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى مَنْعِهِ إِنْ كَانَتِ الِاسْتِحَالَةُ لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ وُقُوعِهِ أَزَلًا، وَمِثَالُ الْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا أَنْ يُكَلَّفَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، أَوِ النَّقِيضَيْنِ كَالْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، وَالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً كَتَكْلِيفِ الْمُقْعَدِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 بِالْمَشْيِ وَتَكْلِيفِ الْإِنْسَانِ بِالطَّيَرَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ لِأَجْلِ عِلْمِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا وَلَا خِلَافَ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ فَإِيمَانُ أَبِي لَهَبٍ مَثَلًا كَانَ اللَّهُ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ ; كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [11 \ 3] ، فَوُقُوعُهُ مُحَالٌ عَقْلًا لِعِلْمِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ، بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ ; لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَاسْتَحَالَ الْعِلْمُ بِعَدَمِهِ جَهْلًا، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُسْتَحِيلَ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ جَائِزٌ عَقْلًا، إِذْ لَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ إِيمَانَ أَبِي لَهَبٍ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِيلًا لَمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْإِمْكَانُ عَامٌّ، وَالدَّعْوَةُ عَامَّةٌ، وَالتَّوْفِيقُ خَاصٌّ. وَإِيضَاحُ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّظَّارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الْوَاجِبُ عَقْلًا. الثَّانِي: الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا. الثَّالِثُ: الْجَائِزُ عَقْلًا، وَبُرْهَانُ الْحَصْرِ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَنَّ الشَّيْءَ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَيْءٌ، لَا يَخْلُو مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ وُجُودَهُ، وَلَا يَقْبَلُ عَدَمَهُ بِحَالٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَقْبَلُ عَدَمَهُ وَلَا يَقْبَلُ وُجُودَهُ بِحَالٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَقْبَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ مَعًا، فَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ وُجُودَهُ دُونَ عَدَمِهِ، فَهُوَ الْوَاجِبُ عَقْلًا، وَذَلِكَ كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ السَّلِيمَ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ وُجُودُ خَالِقِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لَقَبِلَهُ، وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ عَدَمُهُ وَأَنَّهَا خُلِقَتْ بِلَا خَالِقٍ، لَمْ يَقْبَلْهُ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَقْبَلُ عَدَمَهُ، دُونَ وُجُودِهِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا ; كَشَرِيكِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَلَوْ عُرِضَ عَلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ عَدَمُ شَرِيكٍ لِلَّهِ فِي مُلْكِهِ، وَعِبَادَتِهِ لَقَبِلَهُ، وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ وَجُودُهُ لَمْ يَقْبَلْهُ بِحَالٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] ، وَقَالَ: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [23 \ 91] ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ مَعًا، فَهُوَ الْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ الْجَائِزُ الذَّاتِيُّ، وَذَلِكَ كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ لَوْ عُرِضَ وُجُودُهُ عَلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ لَقَبِلَهُ، وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ عَدَمُهُ بَدَلَ وَجُودِهِ لَقَبِلَهُ أَيْضًا، كَمَا لَا يَخْفَى، فَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا جَوَازًا ذَاتِيًّا، وَلَا خِلَافَ فِي التَّكْلِيفِ بِهَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ الْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ الذَّاتِيُّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 وَقَالَتْ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: إِنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ قِسْمَانِ فَقَطْ، وَهُمَا: الْوَاجِبُ عَقْلًا، وَالْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا، قَالُوا: وَالْجَائِزُ عَقْلًا لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَزَعَمُوا أَنَّ دَلِيلَ الْحَصْرِ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِمًا فِي أَزَلَهِ، بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ فَهُوَ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ لِاسْتِحَالَةِ عَدَمِ وُجُودِهِ مَعَ سَبْقِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ بِوُجُودِهِ، كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ فَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ عَقْلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَكَانَ عِلْمُهُ جَهْلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِمًا فِي أَزَلِهِ، بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا، إِذْ لَوْ وُجِدَ لَانْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِيمَانَ أَبِي لَهَبٍ، وَأَبِي بَكْرٍ كِلَاهُمَا يُجِيزُ الْعَقْلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ، فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ وُجُودَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْجَائِزَيْنِ فَأَوْجَدَهُ، وَشَاءَ عَدَمَ الْآخَرِ، فَلَمْ يُوجِدْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ بِعَدَمِ وُجُودِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ اسْتِحَالَةً ذَاتِيَّةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ لَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ عَادَةً، كَمَا لَا يَخْفَى. أَمَّا الْجَائِزُ الذَّاتِيُّ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ جَائِزٌ، وَوَاقِعٌ إِجْمَاعًا كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا، وَإِنِ اسْتَحَالَ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَهُمْ يُسَمُّونَ هَذَا الْجَائِزَ الذَّاتِيَّ مُسْتَحِيلًا عَرَضِيًّا، وَنَحْنُ نُنَزِّهُ صِفَةَ عِلْمِ اللَّهِ عَنْ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الِاسْتِحَالَةَ بِسَبَبِهَا عَرَضِيَّةٌ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ الذَّاتِيِّ، كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُسْتَحِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ. أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً كَمَشْيِ الْمُقْعَدِ، وَطَيَرَانِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ آلَةٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَنْعِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 282] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ: فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ الذَّاتِيِّ عَادَةً وَعَقْلًا، وَبِالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ عَقْلًا مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ بِالْفِعْلِ، وَحُجَّةُ مَنْ يَمْنَعُهُ عَقْلًا أَنَّهُ عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، فَتَكْلِيفُهُ بِمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ مُحَقَّقًا عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، قَالُوا فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ خَبِيرٌ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ أَنَّ فَائِدَتَهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ، هَلْ يَتَأَسَّفُ عَلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَامْتَثَلَ، وَالِامْتِحَانُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّكْلِيفِ، كَمَا كَلَّفَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يَذْبَحُهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا التَّكْلِيفِ هِيَ ابْتِلَاءُ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ: اخْتِبَارُهُ، هَلْ يَمْتَثِلُ؟ فَلَمَّا شَرَعَ فِي الِامْتِثَالِ فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [37 \ 103 - 107] . وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَأَقْوَالِ الْأُصُولِيِّينَ فِيهَا، وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَقْلًا، مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مَنْعِهِ إِنْ كَانَتِ الِاسْتِحَالَةُ لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ، بِعَدَمِ الْوُقُوعِ كَالِاسْتِحَالَةِ الذَّاتِيَّةِ، بِقَوْلِهِ: وَجَوَّزَ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ ... فِي الْكُلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ بِالْمَنْعِ لِمَا قَدِ امْتَنَعْ ... لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ يَقَعْ وَلَيْسَ وَاقِعًا إِذَا اسْتَحَالَا ... لِغَيْرِ عِلْمِ رَبِّنَا تَعَالَى وَقَوْلُهُ: وَجَوَّزَ التَّكْلِيفَ، يَعْنِي: الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ. وَقَوْلُهُ: وَقِيلَ بِالْمَنْعِ، أَيْ: عَقْلًا، وَمُرَادُهُ بِالثَّلَاثَةِ الْأَحْوَالِ مَا اسْتَحَالَ عَقْلًا وَعَادَةً، كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَمَا اسْتَحَالَ عَادَةً كَمَشْيِ الْمُقْعَدِ، وَطَيَرَانِ الْإِنْسَانِ، وَإِبْصَارِ الْأَعْمَى، وَمَا اسْتَحَالَ لِعِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَجِبُ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ الْإِنْسَانُ فَوْرًا، وَأَنَّ النَّدَمَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَرُكْنُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَالنَّدَمُ لَيْسَ بِفِعْلٍ، وَلَيْسَ بِاسْتِطَاعَةِ الْمُكَلَّفِ ; لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ لَا فِعْلٌ، وَالِانْفِعَالَاتُ لَيْسَتْ بِالِاخْتِيَارِ، فَمَا وَجْهُ التَّكْلِيفِ بِالنَّدَمِ، وَهُوَ غَيْرُ فِعْلٍ لِلْمُكَلَّفِ، وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْلِيفِ بِالنَّدَمِ التَّكْلِيفُ بِأَسْبَابِهِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا، وَهِيَ فِي طَوْقِ الْمُكَلَّفِ، فَلَوْ رَاجَعَ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ نَفْسَهُ مُرَاجَعَةً صَحِيحَةً، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 وَلَمْ يُحَابِهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ لَعَلِمَ أَنَّ لَذَّةَ الْمَعَاصِي كَلَذَّةِ الشَّرَابِ الْحُلْوِ الَّذِي فِيهِ السُّمُّ الْقَاتِلُ، وَالشَّرَابُ الَّذِي فِيهِ السُّمُّ الْقَاتِلُ لَا يَسْتَلِذُّهُ عَاقِلٌ لِمَا يَتْبَعُ لَذَّتَهُ مِنْ عَظِيمِ الضَّرَرِ، وَحَلَاوَةُ الْمَعَاصِي فِيهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ السُّمِّ الْقَاتِلِ، وَهُوَ مَا تَسْتَلْزِمُهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ سَخَطِهِ عَلَى الْعَاصِي، وَتَعْذِيبِهِ لَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَعِقَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي قَدْ يَأْتِيهِ فِي الدُّنْيَا فَيُهْلِكُهُ، وَيُنَغِّصُ عَلَيْهِ لَذَّةَ الْحَيَاةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَسْبَابَ النَّدَمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَسِيلَةً إِلَى النَّدَمِ، أَنَّهُ يَتَوَصَّلُ إِلَى حُصُولِ النَّدَمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْأَسْبَابِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلنَّدَمِ، وَأَنَّهُ إِنِ اسْتَعْمَلَهَا حَصَلَ لَهُ النَّدَمُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مُكَلَّفًا بِالنَّدَمِ، مَعَ أَنَّهُ انْفِعَالٌ لَا فِعْلٌ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ اسْتِعْمَالِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النَّدَمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرٍ: فَلَا تَقْرَبِ الْأَمْرَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ ... حَلَاوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُهَا وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا ... مِنَ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْإِثْمُ وَالْعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا ... لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الَّذِي فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، مَعَ بَقَاءِ فَسَادِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، أَيْ: أَثَرُهُ السَّيِّئُ هَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ فِي تَوْبَتِهِ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِلْعَجْزِ عَنْ إِزَالَةِ فَسَادِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوَ لَا تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ الْإِقْلَاعَ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ التَّوْبَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا مَنْ كَانَ عَلَى بِدْعَةٍ مِنَ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلْعَذَابِ إِذَا بَثَّ بِدْعَتَهُ، وَانْتَشَرَتْ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، ثُمَّ تَابَ مِنَ ارْتِكَابِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ، فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ وَنَوَى أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا، مَعَ أَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنْ بِدْعَتِهِ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، لِانْتِشَارِهَا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا ; وَلِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَفَسَادُ بِدْعَتِهِ بَاقٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَنْ غَصَبَ أَرْضًا، ثُمَّ سَكَنَ فِي وَسَطِهَا، ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْغَصْبِ نَادِمًا عَلَيْهِ، نَاوِيًا أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ بِسُرْعَةٍ، وَسَلَكَ أَقْرَبَ طَرِيقٍ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، فَهَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً، فِي وَقْتِ سَيْرِهِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ فَعَلَ فِي تَوْبَتِهِ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنِ الْغَصْبِ، لَمْ يَتِمَّ مَا دَامَ مَوْجُودًا فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَوْ كَانَ يَسِيرُ فِيهَا، لِيَخْرُجَ مِنْهَا. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِسَهْمٍ، ثُمَّ تَابَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَنَوَى أَلَّا يَعُودَ قَبْلَ إِصَابَةِ السَّهْمِ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي رَمَاهُ بِهِ بِأَنْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ وَالسَّهْمُ فِي الْهَوَاءِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَرْمِيِّ، هَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَقْتَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ سَهْمَهُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى إِصَابَةِ مُسْلِمٍ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ فِي كُلِّ الْأَمْثِلَةِ صَحِيحَةٌ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَعَلَ مِنْ هَذَا الْوَاجِبِ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مَعْذُورٌ فِيهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، إِلَى آخِرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا قَرِيبًا. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُعْتَزِلَةِ كَابْنِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ: إِنَّ التَّائِبَ الْخَارِجَ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ آتٍ بِحَرَامٍ ; لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْخُرُوجِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَالْمُكْثِ، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَحَقَّقُ عِنْدَ انْتِهَائِهِ إِذْ لَا إِقْلَاعَ إِلَّا حِينَئِذٍ، وَالْإِقْلَاعُ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَالْخُرُوجُ عِنْدَهُ قَبِيحٌ ; لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلْإِقْلَاعِ، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ الْمَذْكُورَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ عَنِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَهَذَا بِنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ، لَكِنَّهُ أَخَلَّ بِأَصْلٍ لَهُ آخَرَ، وَهُوَ مَنْعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ خَرَجَ عَصَى، وَإِنْ مَكَثَ عَصَى، فَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الضِّدَّيْنِ كِلَيْهِمَا، اهـ، قَالَهُ فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ» . وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» مُقْتَصِرًا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، بِقَوْلِهِ: مَنْ تَابَ بَعْدَ أَنْ تَعَاطَى السَّبَبَا ... فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَجَبَا وَإِنْ بَقِي فَسَادُهُ كَمَنْ رَجَعَ ... عَنْ بَثِّ بِدْعَةٍ عَلَيْهَا يُتَّبَعْ أَوْ تَابَ خَارِجًا مَكَانَ الْغَصْبِ ... أَوْ تَابَ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الضَّرْبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْإِنْكَاحُ هُنَا مَعْنَاهُ: التَّزْوِيجُ، وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى أَيْ: زَوِّجُوهُمْ، وَالْأَيَامَى: جَمْعُ أَيِّمٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَالْأَيِّمُ: هُوَ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَيِّمٌ، وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّمَّاخُ بْنُ ضِرَارٍ فِي شِعْرِهِ: الْأَيِّمَ الْأُنْثَى بِأَنَّهَا الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ فِي حَالَتِهَا الرَّاهِنَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يُقِرُّ بِعَيْنِي أَنْ أُنَبَّأَ أَنَّهَا ... وَإِنْ لَمْ أَنَلْهَا أَيِّمٌ لَمْ تَزَوَّجِ فَقَوْلُهُ: «لَمْ تَزَوَّجِ» تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَنَّهَا أَيِّمٌ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَيِّمِ عَلَى الذَّكَرِ الَّذِي لَا زَوْجَ لَهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ: لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ ... أَيِّمٌ مِنْهُمْ وَنَاكِحْ وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأُنْثَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: أُحِبُّ الْأَيَامَى إِذْ بُثَيْنَةُ أَيِّمُ ... وَأَحْبَبْتُ لَمَّا أَنْ غَنِيتُ الْغَوَانِيَا وَالْعَرَبُ تَقُولُ: آمَ الرَّجُلُ يَئِيمُ، وَآمَتِ الْمَرْأَةُ تَئِيمُ، إِذَا صَارَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا أَيِّمًا، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: تَأَيَّمَ إِذَا كَانَ أَيِّمًا. وَمِثَالُهُ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صَاحِبِ ... رَجَاءَ بِسَلْمَى أَنْ تَئِيمَ كَمَا إِمْتُ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُمُ أَتَأَيَّمُ وَمِنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا، قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ الْحَكَمِ الثَّقَفِيِّ: كُلُّ امْرِئٍ سَتَئِيمُ مِنْهُ ... الْعُرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 نَجَوْتَ بِقَوْفِ نَفْسِكَ غَيْرَ أَنِّي ... إِخَالُ بِأَنْ سَيَيْتِمُ أَوْ تَئِيمُ يَعْنِي: يَيْتِمُ ابْنُكَ وَتَئِيمُ امْرَأَتُكَ. فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْكُمْ أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَيْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ أَنَّ الْأَيَامَى مِنْ غَيْرِكُمْ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ لَيْسُوا كَذَلِكَ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ الَّذِي فُهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَيَامَى الْكُفَّارِ الذُّكُورِ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [2 \ 221] ، وَقَوْلُهُ فِي أَيَامَاهُمُ الْإِنَاثِ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [2 \ 221] ، وَقَوْلُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [60 \ 10] . وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الْمُوَضِّحَةِ لِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ لِلْكَافِرِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرَةِ إِلَّا أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَاتِ خَصَّصَتْهُ آيَةُ «الْمَائِدَةِ» ، فَأَبَانَتْ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ خَاصَّةً ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [5 \ 5] ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَاطِفًا عَلَى مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ لِلْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّزْوِيجَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، إِلَّا صُورَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ تُزَوُّجُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بِالْمَرْأَةِ الْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنِيَّةٌ، كَمَا رَأَيْتَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى مِنَ الْمَمْلُوكِينَ الصَّالِحِينَ، وَالْإِمَاءِ الْمَمْلُوكَاتِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبُ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَالِيَةَ مِنْ زَوْجٍ إِذَا خَطَبَهَا كُفْءٌ وَرَضِيَتْهُ، وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهَا تَزْوِيجُهَا إِيَّاهُ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، مِنْ أَنَّ السَّيِّدَ لَهُ مَنْعُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ مِنَ التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا غَيْرُ صَوَابٍ لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِمَائِكُمْ بَيَّنَتْ آيَةُ «النِّسَاءِ» أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُزَوَّجُ لِلْحُرِّ إِلَّا بِالشُّرُوطِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ، فَآيَةُ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةُ مُخَصَّصَةٌ بِعُمُومِ آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَاءِ، وَآيَةُ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [4 \ 25] ، فَدَلَّتْ آيَةُ «النِّسَاءِ» هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَمْلُوكَةَ الْمُؤْمِنَةَ، إِلَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ تَزْوِيجَ حُرَّةٍ لِعَدَمِ الطَّوْلِ عِنْدَهُ، وَقَدْ خَافَ الزِّنَى فَلَهُ حِينَئِذٍ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ بِإِذْنِ أَهْلِهَا الْمَالِكِينَ لَهَا، وَيَلْزَمُهُ دَفْعُ مَهْرِهَا، وَهِيَ مُؤْمِنَةٌ عَفِيفَةٌ لَيْسَتْ مِنَ الزَّانِيَاتِ وَلَا مُتَّخِذَاتِ الْأَخْدَانِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَصَبْرُهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا خَيْرٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَنْ تَزْوِيجِهَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاضْطِرَارِ خَيْرًا لَهُ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ مَنْعِ تَزْوِيجِ الْحُرِّ الْأَمَةَ، إِلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [4 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [4 \ 25] ، أَيِ: الزِّنَى إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا مُطْلَقًا، إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرَّةٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ: وَإِمَائِكُمْ خَصَّصَتْ عُمُومَهُ آيَةُ «النِّسَاءِ» كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عِلَّةَ مَنْعِ تَزْوِيجِ الْحُرِّ الْأُمَّةَ، أَنَّهَا إِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا ; لِأَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، فَيَلْزَمُهُ أَلَّا يَتَسَبَّبَ فِي رِقِّ أَوْلَادِهِ مَا اسْتَطَاعَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فِيهِ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُتَزَوِّجِ الْفَقِيرِ مِنَ الْأَحْرَارِ، وَالْعَبِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يُغْنِيهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفُقَرَاءَ بِالْيُسْرِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُسْرِ، وَأَنْجَزَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَذَلِكُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [65 \ 7] ، أَيْ: ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى قَوْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 تَعَالَى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [65 \ 7] ، وَهَذَا الْوَعْدُ مِنْهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَعَدَ بِهِ مَنِ اتَّقَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ الْآيَةَ [65 \ 2 - 3] ، وَوَعَدَ بِالرِّزْقِ أَيْضًا مَنْ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَيَصْطَبِرُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [20 \ 132] ، وَقَدْ وَعَدَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالرِّزْقِ الْكَثِيرِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [71 \ 10 - 12] ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ هُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [11 \ 52] ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَسُلَّمَ -: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [11 \ 3] . وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِلرِّزْقِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 96] ، وَمِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَمِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ النَّبَاتُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الْآيَةَ [5 \ 66] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [16 \ 97] ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا ; كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فِي جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَعَدَ بِالْغِنَى عِنْدَ التَّزْوِيجِ وَعِنْدَ الطَّلَاقِ. أَمَّا التَّزْوِيجُ، فَفِي قَوْلِهِ هُنَا: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ الْآيَةَ [4 \ 130] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِالْغِنَى، هُوَ الَّذِي يُرِيدُ بِتَزْوِيجِهِ الْإِعَانَةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ ; كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» الْحَدِيثَ، وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالتَّزْوِيجِ طَاعَةَ اللَّهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ، فَالْوَعْدُ بِالْغِنَى إِنَّمَا هُوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِذَلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 وَقَدْ رَأَيْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعْدِ اللَّهِ بِالرِّزْقِ مَنْ أَطَاعَهُ سُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَكْرَمَهُ، فَإِنَّهُ يَجْزِي بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا قَالَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ مَالَهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ يَدُلُّ عَلَى وَصْفِ الْعَبِيدِ بِالْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَا يُطْلَقُ الْغِنَى إِلَّا عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ الَّذِي بِهِ صَارَ غَنِيًّا، وَوَجْهُهُ قَوِيٌّ وَلَا يُنَافِي أَنَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ الَّذِي مَلَكَ لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. هَذَا الِاسْتِعْفَافُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [24 \ 30] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [17 \ 32] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ قِيلَ: غَفُورٌ لَهُنَّ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لَهُنَّ وَلَهُمْ. وَأَظْهَرُهَا أَنَّ الْمَعْنَى غَفُورٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا أُكْرِهُ عَلَيْهِ، بَلْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُ لِعُذْرِهِ بِالْإِكْرَاهِ ; كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ الْآيَةَ [16 \ 106] ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا -. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّا لَا نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ اسْتِشْهَادًا بِهَا لِقِرَاءَةٍ سَبْعِيَّةٍ كَمَا هُنَا، فَزِيَادَةُ لَفْظَةِ لَهُنَّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ ذَكَرْنَا اسْتِشْهَادٌ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ لِبَيَانٍ بِقِرَاءَةٍ غَيْرِ شَاذَّةٍ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، هُوَ الْمَعْذُورُ بِالْإِكْرَاهِ دُونَ الْمُكْرَهِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي فِعْلِهِ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ بَيَانُ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [16 \ 106] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيقِ الْمَغْفِرَةِ بِهِنَّ ; لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَى، بِخِلَافِ الْمُكْرِهِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ آثِمَةٍ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ دُونَ مَا اعْتَبَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ إِكْرَاهٍ بِقَتْلٍ، أَوْ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، أَوْ ذَهَابُ الْعُضْوِ مِنْ ضَرْبٍ عَنِيفٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَتَّى يَسْلَمَ مِنَ الْإِثْمِ، وَرُبَّمَا قَصُرَتْ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي تَعَذَّرَ فِيهِ فَتَكُونُ آثِمَةً، انْتَهَى مِنْهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْإِكْرَاهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غُفْرَانٌ وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعَبْدِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَا وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ، وَيَدْخُلُ فِيهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا الْآيَاتُ الَّتِي بُيِّنَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْضَحَتْ فِي مَعَانِي الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، وَدَلِيلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [24 \ 1] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَاتِ الْمُصَرَّحَ بِنُزُولِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ الْآيَةَ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ مَعْنَاهُ: أَنْزَلْنَاهَا إِلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أَيْ: تَتَّعِظُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْمَوَاعِظِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهَا، أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّاسُ، وَيَتَّعِظُوا بِمَا فِيهَا، وَيَدُلَّ لِذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 1 - 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، أَيْ: أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَمَثَلًا مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ: قِصَّةً غَرِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ، وَمَرْيَمَ فِي بَرَاءَتِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَيْ: قِصَّةً عَجِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ، وَمَرْيَمَ يَعْنِي قِصَّةَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي حَيَّانَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ ذِكْرَهُ غَيْرُهُمَا. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَثَلًا، أَيْ: قِصَّةً عَجِيبَةً غَرِيبَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ الْعَجِيبَةُ مِنْ أَمْثَالِ «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» ، أَيْ: مِنْ جِنْسِ قِصَصِهِمُ الْعَجِيبَةِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فَالْمُرَادُ بِالْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي أَنْزَلَ إِلَيْنَا، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَمَثَلًا هِيَ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِمَّا رَمَاهَا بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [24 \ 11] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ الْآيَةَ [24 \ 26] ، فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ الْعَشْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا أَنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ، وَأَنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا فِي كِتَابِهِ مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ، وَعَلَى هَذَا: فَمِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِبَعْضِ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَمْيِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهَا سُوءًا تَعْنِي الْفَاحِشَةَ قَالَتْ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [12 \ 25] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [12 \ 35] ; لِأَنَّهُمْ سَجَنُوهُ بِضْعَ سِنِينَ، بِدَعْوَى أَنَّهُ كَانَ أَرَادَ الْفَاحِشَةَ مِنَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْفِرْيَةِ الَّتِي افْتُرِيَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ النِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ نَفْسِهَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [12 \ 50 - 51] ، وَقَالَ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي كَلَامِهَا مَعَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ الْآيَةَ [12 \ 32] . فَقِصَّةُ يُوسُفَ هَذِهِ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّهُ رَمَى بِإِرَادَةِ الْفَاحِشَةِ وَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 ذَلِكَ، وَالْمَثَلُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، شَبِيهٌ بِقِصَّةِ يُوسُفَ ; لِأَنَّهُ هُوَ وَعَائِشَةُ كِلَاهُمَا رُمِيَ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَكِلَاهُمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَرَاءَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَزَلَ بِهَا هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَإِنْ كَانَتْ بَرَاءَةُ يُوسُفَ وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِإِقْرَارِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَالنِّسْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ مِنْ أَهْلِهَا، إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ الْآيَةَ [12 \ 26 - 28] . وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِبَعْضِ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا مَا ذَكرَه تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مَرْيَمَ مِنْ أَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِالْفَاحِشَةِ، لَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [4 \ 156] يَعْنِي فَاحِشَةَ الزِّنَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [19 \ 27] يَعْنُونَ الْفَاحِشَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [19 \ 29 - 33] فَكَلَامُ عِيسَى، وَهُوَ رَضِيعٌ بِبَرَاءَتِهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مَعَ بَيَانِ سَبَبِ حَمْلِهَا بِعِيسَى، مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [19 \ 16 - 22] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهِ فِيهَا بَرَاءَتَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 91] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّحْرِيمِ: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [66 \ 12] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَذْفِ يُوسُفَ وَبَرَاءَتِهِ وَقَذْفِ مَرْيَمَ وَبَرَاءَتِهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا فَهِيَ مَا يُبَيِّنُ بَعْضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. وَالْآيَاتُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَذْفِ عَائِشَةَ وَبَرَاءَتِهَا بَيَّنَتِ الْمَثَلَ الَّذِي أُنْزِلُ إِلَيْنَا، وَكَوْنُهُ مِنْ نَوْعِ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا وَاضِحٌ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ عَائِشَةَ، وَمَرْيَمَ، وَيُوسُفَ رُمِيَ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ بَرَّأَهُ اللَّهُ، وَقِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَجِيبَةٌ، وَلِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَ «مَوْعِظَةً» مَا وُعِظَ بِهِ فِي الْآيَاتِ وَالْمَثَلِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [24 \ 2] ، لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [24 \ 12] ، وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [24 \ 16] ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [24 \ 17] ، اهـ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ خُصُوصِ الْمَوْعِظَةِ بِالْمُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا. وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [35 \ 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [79 \ 45] فَخَصَّ الْإِنْذَارَ بِمَنْ ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَقِيقَةِ مُنْذِرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [50 \ 45] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَشُعْبَةُ بْنُ عَاصِمٍ: مُبَيَّنَاتٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ: فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا، وَأَوْضَحَهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ مَعْرُوفًا. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مُبَيِّنَاتٍ: اسْمُ فَاعِلِ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّيَةِ وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مُبَيِّنَاتٍ الْأَحْكَامَ وَالْحُدُودَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: مُبَيِّنَاتٍ: وَصْفٌ مِنْ «بَيَّنَ» اللَّازِمَةِ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَعَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 فَالْمَعْنَى آيَاتٌ مُبَيِّنَاتٌ أَيْ بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتٌ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا [24 \ 1] ، وَذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا وَمَثَّلُوا لِبَيَّنَ اللَّازِمَةِ بِالْمَثَلِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ بَيَّنَ مُضَعَّفًا، وَأَبَانَ كِلْتَاهُمَا تَأْتِي مُتَعَدِّيَةً لِلْمَفْعُولِ وَلَازِمَةً، فَتَعَدِّي بَيَّنَ لِلْمَفْعُولِ مَشْهُورٌ وَاضِحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ [3 \ 118] وَتَعَدِّي أَبَانَ لِلْمَفْعُولِ مَشْهُودٌ وَاضِحٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِمْ: أَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، أَيْ: بَيَّنَهَا لَهُ، وَأَوْضَحَهَا، وَأَمَّا وُرُودُ بَيَّنَ لَازِمَةً بِمَعْنَى تَبَيَّنَ وَوَضُحَ فَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ: قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، أَيْ: تَبَيَّنَ وَظَهَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: وُجُوهُ مُجَاشِعٍ طُلِيَتْ بِلُؤْمٍ ... يُبَيِّنُ فِي الْمُقَلَّدِ وَالْعِذَارِ فَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ بِكَسْرِ الْيَاءِ بِمَعْنَى: يَظْهَرُ، وَيَتَّضِحُ وَقَوْلُ جَرِيرٍ أَيْضًا: رَأَى النَّاسُ الْبَصِيرَةَ فَاسْتَقَامُوا ... وَبَيَّنَتِ الْمِرَاضَ مِنَ الصِّحَاحِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ قَيْسِ بْنِ ذُرَيْحٍ: وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْفَتَى ... شُحُوبٌ وَتَعْرَى مِنْ يَدَيْهِ الْأَشَاجِعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بِرَفْعِ «شُحُوبٌ» . وَالْمَعْنَى: لِلْحُبِّ عَلَامَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْكَسْرِ، أَيْ: تَظْهَرُ وَتَتَّضِحُ بِالْفَتَى، وَهِيَ شُحُوبٌ إِلَخْ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ هَذَا الْبَيْتَ، فَقَالَ: شُحُوبًا بِالنَّصْبِ، وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ ; لِأَنَّ شُحُوبًا عَلَى هَذَا مَفْعُولُ تُبَيِّنُ فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنْ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَأَمَّا وُرُودُ أَبَانَ لَازِمَةً بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ، فَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقْرَفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ أَيْ: ظَهَرَتِ الْمُقْرَفَاتُ وَتَبَيَّنَتْ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ... لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودُ أَيْ: لَظَهَرَ وَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودٌ، أَيْ: وَرَمٌ، وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ فَقَوْلُهُ: مُبِينٌ وَصْفٌ مِنْ أَبَانَتِ اللَّازِمَةِ: أَيْ عِتْقٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، أَيْ كَرَمٌ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ جَمِيعُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ رِجَالٌ وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَشُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ قَدْ دَلَّتِ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَهُ: رِجَالٌ فَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا، قِيلَ: وَمَنْ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا؟ قَالَ رِجَالٌ، أَيْ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا رِجَالٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مَا لَفْظُهُ، وَقَدِ الْتَزَمْنَا أَنَّا لَا نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ سَبْعِيَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِرَاءَةً أُخْرَى فِي الْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ نَفْسِهَا، أَوْ آيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ يُبَيِّنُ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ فِيهَا مَعْنَى بَعْضٍ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْآيَتَيْنِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ: يُسَبِّحُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَاعِلُهُ رِجَالٌ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبَّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِحَذْفِ الْفَاعِلِ هُوَ رِجَالٌ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ حُذِفَ فِيهَا الْفَاعِلُ لِـ «يُسَبِّحُ» ، وَحُذِفَ أَيْضًا الْفِعْلُ الرَّافِعُ لِلْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ رِجَالٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيَرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا كَمِثْلِ زَيْدٍ فِي جَوَابِ مَنْ قَرَا وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ أَوْ غَيْرَهُ: لِيُبْكَ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ فَقَوْلُهُ: لِيُبْكَ يَزِيدُ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 يَبْكِيهِ؟ فَقَالَ: يَبْكِيهِ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ إِلَخْ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ هُنَا كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: كَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَقَوْلُهُ: اللَّهُ فَاعِلُ يُوحَى الْمَحْذُوفَةِ، وَوَصْفُهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، بِكَوْنِهِمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى سَبِيلِ مَدْحِهِمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا يَنْبَغِي التَّسَاهُلُ فِيهَا بِحَالٍ; لِأَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الثَّنَاءِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الْإِخْلَالِ بِهَا نَهْيًا جَازِمًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [63 \ 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ الْآيَةَ [62 \ 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ: يُسَبَّحُ سُنَّ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْآصَالِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُسَبِّحُ بِالْكَسْرِ، فَلَا يَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْآصَالِ ; لِأَنَّ فَاعِلَ يُسَبِّحُ رِجَالٌ، وَالْوَقْفُ دُونَ الْفَاعِلِ لَا يَنْبَغِي كَمَا لَا يَخْفَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُؤَنَّثَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَسَاجِدِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْبُيُوتِ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْبُيُوتَ الْمَذْكُورَةَ، هِيَ الْمَسَاجِدُ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ تَخْصِيصَهُ مَنْ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ يُسَبِّحْنَ لَهُ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: رِجَالٌ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ لَفْظِ الرِّجَالِ، مَفْهُومُ لَقَبٍ بِالنَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِ لَفْظِهِ، وَأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنَّ مَفْهُومَ الرِّجَالِ هُنَا مُعْتَبَرٌ، وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 لَفْظِ الرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِهِ اسْمَ جِنْسٍ جَامِدٍ وَهُوَ لَقَبٌ بِلَا نِزَاعٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورَةِ مَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا تُخْشَى مِنْهُمُ الْفِتْنَةُ، وَلَيْسُوا بِعَوْرَةٍ بِخِلَافِ النِّسَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ الذُّكُورَةِ وَصْفٌ صَالِحٌ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ الَّذِي هُوَ التَّسْبِيحُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَالْخُرُوجُ إِلَيْهَا دُونَ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ لَفْظَ الرِّجَالِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَقَبًا فَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ أَوْصَافِ الذُّكُورَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، يَقْتَضِي اعْتِبَارَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي لَفْظِ رِجَالٍ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَفْهُومُ صِفَةٍ لَا مَفْهُومَ لَقَبٍ ; لِأَنَّ لَفْظَ الرِّجَالِ مُسْتَلْزِمٌ لِأَوْصَافٍ صَالِحَةٍ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: رِجَالٌ، مَفْهُومُ صِفَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فِي حُكْمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ لَا مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَأَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. فَاعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ هُنَا: رِجَالٌ فِيهِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَسَاجِدِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْبَيَانَ الْقُرْآنِيَّ إِذَا كَانَ غَيْرَ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ مِنْ تَمَامِ الْبَيَانِ، فَإِنَّا نُتَمِّمُ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلْمُبَيِّنِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَتَقَدَّمَتْ أَمْثِلَةٌ لِذَلِكَ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ بَيَّنَتْ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: رِجَالٌ، فَبَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْهُومَ الْمَذْكُورَ مُعْتَبَرٌ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي حُكْمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَأَوْضَحَتْ أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا فِي الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ، وَبَيَّنَتْ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يَجُوزُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِشُرُوطٍ سَيَأْتِي إِيضَاحُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُنَّ إِذَا اسْتَأْذَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ فَهُمْ مَأْمُورُونَ شَرْعًا بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ مَعَ الْتِزَامِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ. أَمَّا أَمْرُ أَزْوَاجِهِنَّ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِذَا اسْتَأْذَنَتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا " وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: بَابُ اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْنَعْهَا " وَقَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ": إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ " تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ سَالِمًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ": إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا " وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا " وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ": لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ " وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ": إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ " وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ " وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ " إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ "، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهُوَ صَحِيحٌ وَعُومِلْنَ مُعَامَلَةَ الذُّكُورِ لِطَلَبِهِنَّ الْخُرُوجَ إِلَى مَجْلِسِ الذُّكُورِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّيْخَيْنِ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَخْرَجَهُ أَيْضًا غَيْرُهُمَا وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَزْوَاجَ النِّسَاءِ مَأْمُورُونَ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ، وَمَنْهِيُّونَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَمْرَ الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ لِلْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلنَّدْبِ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَنْعِهِنَّ، قَالُوا: هُوَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ ; الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَانْتَفَى مَعْنَى الِاسْتِئْذَانِ ; لَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْذِنُ مُخَيَّرًا فِي الْإِجَابَةِ أَوِ الرَّدِّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ: فَإِنْ مَنَعَهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ " بِأَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ ; لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ وَاجِبٌ، فَلَا تَتْرُكُهُ لِفَضِيلَةٍ اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا اسْتَأْذَنَتْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ، وَلَا مُتَلَبِّسَةٍ بِشَيْءٍ يَسْتَوْجِبُ الْفِتْنَةَ مِمَّا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِذْنُ لَهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْأَمْرِ الصَّرِيحِ بِالْإِذْنِ لَهَا وَصِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَصِيغَةُ النَّهْيِ كَذَلِكَ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ": إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ الْإِذْنَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْذَنُ مُخَيَّرًا فِي الْإِجَابَةِ، وَالرَّدُّ غَيْرَ مُسَلِّمٍ، إِذْ لَا مَانِعَ عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا وَلَا عَادَةً مِنْ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِذْنَ لِامْرَأَتِهِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، فَإِيجَابُ الْإِذْنِ لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْمَنْعِ. وَقَدْ دَلَّ النَّصُّ الصَّحِيحُ عَلَى إِيجَابِهِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ وَاجِبٌ، فَلَا تَتْرُكُهُ لِلْفَضِيلَةِ لَا يَصْلُحُ ; لِأَنْ يَرِدَ بِهِ النَّصُّ الصَّرِيحُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّوْجَ بِالْإِذْنِ لَهَا يُلْزِمُهُ ذَلِكَ، وَيُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَلَا يُعَارَضُ بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ كَمَا تَرَى. وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ: مِنْ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ قَالَ بِهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ مُسْلّمٍ أَيْضًا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي أَمْرِ الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ ابْنُهُ: لَا نَدَعُهُنَّ يَخْرُجْنَ، غَضِبَ وَشَتَمَهُ وَدَفَعَ فِي صَدْرِهِ مُنْكِرًا عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى اعْتِقَادِهِ وُجُوبَ امْتِثَالِ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ": لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا " فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهَ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَزَبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ: لَا نَدَعُهُنَّ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَقُّ تَعَدُّدُ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَهُ كُلٌّ مِنْ بِلَالٍ، وَوَاقِدٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، فَكَوْنُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَقْبَلَ عَلَى ابْنِهِ بِلَالٍ وَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ، أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ: لَنَمْنَعْهُنَّ فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى لُزُومَ الْإِذْنِ لَهُنَّ، وَأَنَّ مَنْعَهُنَّ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ يَرَاهُ جَائِزًا مَا شَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى ابْنَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، وَفِي رِوَايَةٍ فَزَبَرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، فِيهِ تَعْزِيرُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْمَعَارِضِ لَهَا بِرَأْيِهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ هَذَا الَّذِي رَأَيْتَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّعْزِيرِ، مُعْتَرِضُونَ عَلَى السُّنَّةِ، مُعَارِضُونَ لَهَا بِرَأْيِهِمْ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يُقِرُّ بِأَنَّ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَمُعَارَضَتِهِ لَهَا بِرَأْيِهِ، مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ الَّذِي يَنْصُرُهُ وَيَنْقُلُ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ هُوَ بِعَيْنِهِ قَوْلُ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي صَرَّحَ هُوَ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ، وَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ وَمُعَارَضَةٌ لَهَا بِالرَّأْيِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: فَزَبَرَهُ، أَيْ: نَهَرَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: فَفِي رِوَايَةِ بِلَالٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا شَدِيدًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ السَّبَّ الْمَذْكُورَ بِاللَّعْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةٍ زَائِدَةٍ عَنِ الْأَعْمَشِ: فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: أُفٍّ لَكَ، وَلَهُ عَنِ ابْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 الْأَعْمَشِ: فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ، وَمِثْلُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَزَبَرَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فَسَبَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأُخِذَ مِنْ إِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى وَلَدِهِ تَأْدِيبُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ، وَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُعْتَرِضٌ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَدَّمْنَا عَنْهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَنِ بِالرَّأْيِ كَمَا تَرَى. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَشْنِيعَهُ عَلَى وَلَدَيْهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ يَقْتَضِي جَوَازَ خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُنَّ كُنْ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ اهـ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا دَالَّةٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ النِّسَاءِ كُنَّ يَشْهَدْنَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْبِيهٌ. قَدْ عَلِمْنَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا تَقْيِيدَ أَمْرِ الرِّجَالِ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِطْلَاقُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ. وَقَدْ يَتَبَادَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ إِلَّا فِي خُصُوصِ اللَّيْلِ ; لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَيَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ هَذَا بِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَتُحْمَلُ رِوَايَاتُ الْإِطْلَاقِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، فَيَخْتَصُّ الْإِذْنُ الْمَذْكُورُ بِاللَّيْلِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي تَقْدِيمُ رِوَايَاتِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُضُورِ النِّسَاءِ الصَّلَاةَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ اللَّيْلِ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا الدَّالِّ عَلَى حُضُورِهِنَّ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ، وَهِيَ صَلَاةُ نَهَارٍ لَا لَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ صَلَاةِ اللَّيْلِ، بِسَبَبِ كَوْنِهِنَّ يَرْجِعْنَ لِبُيُوتِهِنَّ، لَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنَ النَّهَارِ قَطْعًا، لَا مِنَ اللَّيْلِ، وَكَوْنُهُ مِنَ النَّهَارِ مَانِعٌ مِنَ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ فَهُوَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ شُرُوطٌ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ وَقْتَ خُرُوجِهَا لِلْمَسْجِدِ لَيْسَتْ مُتَلَبِّسَةً بِمَا يَدْعُو إِلَى الْفِتْنَةِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَسَادِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» مَا نَصُّهُ: هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ الْمَسْجِدَ، وَلَكِنْ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ أَلَّا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً، وَلَا مُتَزَيِّنَةً، وَلَا ذَاتَ خَلَاخِلَ يُسْمَعُ صَوْتُهَا، وَلَا ثِيَابٍ فَاخِرَةٍ، وَلَا مُخْتَلِطَةً بِالرِّجَالِ، وَلَا شَابَّةً وَنَحْوَهَا، مِمَّنْ يُفْتَنُ بِهَا، وَأَلَّا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَا يُخَافُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ وَنَحْوُهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهَا مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالنُّصُوصِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ، وَإِلْحَاقُ بَعْضِهَا لَا يَخْلُو مِنْ مُنَاقَشَةٍ ; كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِنْ شَاءَ تَعَالَى، أَمَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ، فَهُوَ عَدَمُ التَّطَيُّبِ، فَشَرْطُ جَوَازِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَلَّا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «: إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ، فَلَا تَطَيَّبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» . حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا» . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدَنَّ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ» اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ، وَهَمَا: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْجَمِيعِ - صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُتَطَيِّبَةَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ» اهـ، وَقَوْلُهُ: وَهُنَّ تَفِلَاتٌ، أَيْ: غَيْرُ مُتَطَيِّبَاتٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَتَفِلَاتٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ: تَارِكَاتٌ الطِّيبِ اهـ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: إِذَا مَا الضَّجِيعُ ابْتَزَّهَا مِنْ ثِيَابِهَا تَمِيلُ عَلَيْهِ هَوْنَةَ غَيْرِ مِتْفَالِي وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُتَطَيِّبَةَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّهَا تُحَرِّكُ شَهْوَةَ الرِّجَالِ بِرِيحِ طِيبِهَا. فَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَلْحَقُوا بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَصَوْتِ الْخَلْخَالِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَالِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِجَامِعِ أَنَّ الْجَمِيعَ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِتَحْرِيكِ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِذَلِكَ الشَّابَّةَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ الشَّابَّ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَخَصَّصُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالْعَجَائِزِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشَّابَّةَ إِذَا خَرَجَتْ مُسْتَتِرَةً غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ، وَلَا مُتَلَبِّسَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ أَنَّ لَهَا الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، أَمَّا النِّسَاءُ فَصَلَاتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِهِ هَذَا، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ «: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّةِ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ، فَقَالَ «: قَدْ عَلِمْتُ، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ» وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ حَسَنٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَوَجْهُ كَوْنِ صَلَاتِهَا فِي الْإِخْفَاءِ أَفْضَلُ تَحَقُّقُ الْأَمْنِ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَاصِمٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: ثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «: صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» ، اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ تَعْلَمُ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنْ صَلَاتِهِنَّ فِي الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي ثِيَابٍ قَصِيرَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَمُزَاحَمَتُهُنَّ لِلرِّجَالِ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى مِنَ النِّسَاءِ مَا رَأَيْنَا، لَمَنَعَهُنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ كَمَا مَنَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَهَا. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ الْآيَةَ، مُعْتَبَرٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْمَفْهُومَ الْمَذْكُورَ بِالسُّنَّةِ كَمَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ لَهُ فِي الْمَسَاجِدِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِشِدَّةِ هَوْلِهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ عِظَمِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [79 \ 8 - 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [14 \ 42] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ الْآيَةَ [40 \ 18] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ الْآيَةَ [73 \ 17 - 18] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [76 \ 9 - 10] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي مَعْنَى تُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ، ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي: أَنَّ تُقَلُّبَ الْقُلُوبِ هُوَ حَرَكَتُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ وَأَنَّ تُقَلَّبَ الْأَبْصَارِ هُوَ زَيْغُوغَتُهَا وَدَوَرَانُهَا بِالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الْآيَةَ [33 \ 19] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [33 \ 10] فَالدَّوَرَانُ وَالزَّيْغُوغَةُ الْمَذْكُورَانِ يُعْلَمُ بِهِمَا مَعْنَى تُقَلِّبِ الْأَبْصَارِ، وَإِنْ كَانَا مَذْكُورَيْنِ فِي الْخَوْفِ مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: «لِيَجْزِيَهُمُ» مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: «يُسِبِّحُ» ، أَيْ: يُسَبِّحُونَ لَهُ، وَيَخَافُونَ يَوْمًا لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى، هِيَ مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [6 \ 160] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [4 \ 40] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [2 \ 261] . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الزِّيَادَةُ هُنَا كَالزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [10 \ 26] وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [50 \ 35] . وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا» صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْمَالِهِمْ حَسَنًا لَمْ يُجْزَوْهُ وَهُوَ الْمُبَاحُ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: مَا رَبُّنَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَسَنٌ وَغَيْرُهُ الْقَبِيحُ وَالْمُسْتَهْجَنُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهَا لَا شَيْءَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي السَّرَابِ الَّذِي مَثَّلَهَا بِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 الْكَرِيمَةُ مِنْ بُطْلَانِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ الْآيَةَ [14 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ إِذَا كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُجْزَى بِهِ فِي الدُّنْيَا ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [16 \ 97] . وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، دُونَ الْآخِرَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [42 \ 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [11 \ 15 - 16] ، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، دُونَ الْآخِرَةِ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّحْلِ» الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَحَدُ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [24 \ 39] ، أَيْ:: وَفَّاهُ حِسَابَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [17 \ 18] . تَنْبِيهٌ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِنَا فِيهِ: لَا يَخْفَى مَا يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: جَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مَوْجُودٍ وَاقِعٍ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ ; لِأَنَّ وُقُوعَ الْمَجِيءِ عَلَى الْعَدَمِ لَا يُعْقَلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَةَ الْإِضَافِيَّةَ لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بَيْنَ مُتَضايِفَيْنِ، فَلَا تُدْرَكُ إِلَّا بِإِدْرَاكِهِمَا، فَلَا يُعْقَلُ وُقُوعُ الْمَجِيءِ بِالْفِعْلِ، إِلَّا بِإِدْرَاكِ فَاعِلٍ وَاقِعٍ مِنْهُ الْمَجِيءُ، وَمَفْعُولٍ بِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 وَاقِعٍ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَاءَهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قِيلَ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّرَابُ شَيْئًا فَعَلَامَ دَخَلَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ؟ قِيلَ: إِنَّهُ شَيْءٌ يُرَى مِنْ بَعِيدٍ كَالضَّبَابِ الَّذِي يُرَى كَثِيفًا مِنْ بَعِيدٍ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ رَقَّ وَصَارَ كَالْهَوَاءِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْضِعَ السَّرَابِ لَمْ يَجِدِ السَّرَابَ شَيْئًا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السَّرَابِ عَنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهِ، انْتَهَى مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَعِنْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ، إِلَخْ، انْتَهَى كَلَامُنَا فِي «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَقَدْ رَأَيْتَ فِيهِ جَوَابَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بِقِيعَةٍ قِيلَ: جَمْعُ قَاعٍ، كَجَارٍ وَجِيرَةٍ، وَقِيلَ: الْقِيعَةُ وَالْقَاعُ بِمَعْنًى، وَهُوَ الْمُنْبَسِطُ الْمُسْتَوِي الْمُتَّسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَاعُ وَاحِدُ الْقِيعَانِ، كَجَارٍ وَجِيرَانٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَحْذُوفَ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ عَلِمَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى كُلٌّ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ وَالْمُصَلِّينَ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: كُلٌّ أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَالْمُسَبِّحِينَ، قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ نَفْسِهِ وَتَسْبِيحَ نَفْسِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [16 \ 97] ، كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ فِي أَنَّ اللَّفْظَ إِنِ احْتَمَلَ التَّوْكِيدَ وَالتَّأْسِيسَ حُمِلَ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَبَيَّنَّا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْأُصُولِيِّينَ، أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 كُلٌّ أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْمُصَلِّينَ قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ نَفْسِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قَدْ عَلِمَ تَسْبِيحَ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ كَالتَّكْرَارِ مَعَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّأْسِيسِ أَرْجَحُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى التَّوْكِيدِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّيْرَ تُسَبِّحُ وَتُصَلِّي صَلَاةً وَتَسْبِيحًا يَعْلَمُهُمَا اللَّهُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُمَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [17 \ 44] . وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَهَا إِدْرَاكٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحِجَارَةِ: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [2 \ 74] ، فَأَثْبَتَ خَشْيَتَهُ لِلْحِجَارَةِ، وَالْخَشْيَةُ تَكُونُ بِإِدْرَاكٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [59 \ 21] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [33 \ 72] ، وَالْإِبَاءُ وَالْإِشْفَاقُ إِنَّمَا يَكُونَانِ بِإِدْرَاكٍ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَارِدَةٌ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لِلطَّيْرِ صَلَاةً وَتَسْبِيحًا، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سُفْيَانَ: أَنَّ لِلطَّيْرِ صَلَاةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ غَرَّبْتُ مُرْتَحِلًا يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَبِطِي نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مَضْطَجَعَا فَقَوْلُهُ: مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتِ، أَيْ: دَعَوْتِ، يَعْنِي قَوْلَهَا: يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا. وَقَوْلُهُ: صَافَّاتٍ أَيْ: صَافَّاتٍ أَجْنِحَتُهَا فِي الْهَوَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ إِمْسَاكَهُ الطَّيْرَ صَافَّاتٍ أَجْنِحَتُهَا فِي الْهَوَاءِ وَقَابِضَاتٍ لَهَا مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [67 \ 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [16 \ 79] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَيَجْعَلَنَّهُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ، الَّذِينَ لَهُمُ السَّيْطَرَةُ فِيهَا، وَنُفُوذُ الْكَلِمَةِ، وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعِلْمِ الصَّالِحِ سَبَبٌ لِلْقُوَّةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ الْآيَةَ [8 \ 26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [22 \ 40 - 41] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [47 \ 7] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: كَبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [28 \ 5 - 6] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [7 \ 129] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا الْآيَةَ [7 \ 137] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ، وَأَقْسَمَ فِي وَعْدِهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ هَذَا الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [3 \ 19] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [3 \ 85] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَمْكِينُهُ هُوَ تَثْبِيتُهُ وَتَوْطِيدُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ حَرْفُ تَعْلِيلٍ أَوْ تَرَجٍّ ; لِأَنَّهَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَرْفُ تَعْلِيلٍ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ سَبَبٌ لِرَحْمَةِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْعِلَلَ أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي، أَيْ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ عَلَى رَجَائِكُمْ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُكُمْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ مَا أَطْمَعَهُمْ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ عِنْدَ عِلْمِهِمْ بِمُوجِبِهَا إِلَّا لِيَرْحَمَهُمْ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَكَوْنُ لَعَلَّ هُنَا لِلتَّرَجِّي، إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ عِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَأَطَاعُوا الرَّسُولَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الْآيَةَ [9 \ 71] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ; لِأَنَّ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ دَاخِلَانِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَعَكْسَهُ كِلَاهُمَا مِنَ الْإِطْنَابِ الْمَقْبُولِ إِذَا كَانَ فِي الْخَاصِّ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْسَبَ، أَيْ: يُظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَفْعُولُ مُعَجِزِينَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَظُنُّهُمْ مُعْجِزِينَ رَبَّهُمْ، بَلْ قَادِرٌ عَلَى عَذَابِهِمْ لَا يَعْجِزُ عَنْ فِعْلِ مَا أَرَادَ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [9 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [9 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [29 \ 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [10 \ 53] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الْآيَةَ [29 \ 21 - 22] ، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّورَى» : وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [42 \ 31] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [24 \ 57] ، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ: لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ: لَا تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَقِرَاءَةَ عَاصِمٍ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَقِرَاءَةَ الْبَاقِينَ مِنَ السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا ; لِأَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: مُعَجِزِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِـ: تَحْسَبَنَّ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، فَفِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَحَلِّ رَفْعِ فَاعِلِ يَحْسَبَنَّ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: أَنْفُسُهُمْ، وَمُعَجِزِينَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ مُعْجِزِينَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ لِلزَّجَّاجِ، وَالْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ قَدْ تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَفْعُولَا الْفِعْلِ الْقَلْبِيِّ يَجُوزُ حَذْفُهُمَا أَوْ حَذْفُ أَحَدِهِمَا إِنْ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» ، بِقَوْلِهِ: وَلَا تُجِزْ هُنَا بِلَا دَلِيلِ سُقُوطَ مَفْعُولَيْنِ أَوْ مَفْعُولِ وَمِثَالُ حَذْفِ الْمَفْعُولَيْنِ مَعًا مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [28 \ 62] أَيْ: تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِي، وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ: بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 أَيْ: وَتَحْسَبُ حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ، وَمِثَالُ حَذْفِ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحِبِّ الْمُكْرِمِ أَيْ: لَا تَظُنِّي غَيْرَهُ وَاقِعًا. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ فَاعِلَ يَحْسَبَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ، وَعَلَى هَذَا فَـ: الَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَمُعَجِزِينَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ لِلْفَرَّاءِ، وَأَبِي عَلِيٍّ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ لِعَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّ الْفَاعِلَ فِي الْأَوَّلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الثَّانِي الْكَافِرُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هُمَا الْمَفْعُولَانِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَحَدًا يُعْجِزُ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يَطْمَعُوا هُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنًى قَوِيٌّ جَيِّدٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ الرَّسُولِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ: لَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَكَأَنَّ الَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَيْنِ لَمَّا كَانَتْ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، اقْتُنِعَ بِذِكْرِ اثْنَيْنِ عَنْ ذِكْرِ الثَّالِثِ، اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ خَطَأٌ أَوْ لَحْنٌ، كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ; لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ سَبْعِيَّةٌ ثَابِتَةٌ ثُبُوتًا لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهِ، وَقَرَأَ بِهَا مِنَ السَّبْعَةِ: ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ ; كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَظْهَرُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي: أَنَّ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هُمَا الْمَفْعُولَانِ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مُعَجِزِينَ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ مُعْجِزِينَ اللَّهَ مَوْجُودِينَ أَوْ كَائِنِينَ فِي الْأَرْضِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ، رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ: دُعَاءَ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى هَذَا فَالرَّسُولُ مَدْعُوٌّ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَذْكُورَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى هَذَا: فَالرَّسُولُ دَاعٍ. وَإِيضَاحُ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَكُمْ إِلَى الرَّسُولِ إِذَا دَعَوْتُمُوهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، فَلَا تَقُولُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ مُصَرِّحِينَ بِاسْمِهِ، وَلَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَهُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ، بَلْ قُولُوا لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَعَ خَفْضِ الصَّوْتِ احْتِرَامًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى; كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى الْآيَةَ [49 \ 2 - 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [49 \ 4 - 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا الْآيَةَ [2 \ 104] ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ ; كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الظَّاهِرُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، فَفِي الْمَعْنَى وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» قَالَ: إِذَا احْتَاجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عِنْدَهُ لِأَمْرٍ فَدَعَاكُمْ فَلَا تَتَفَرَّقُوا عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَقِيسُوا دُعَاءَهُ إِيَّاكُمْ عَلَى دُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَرُجُوعِكُمْ عَنِ الْمَجْمَعِ بِغَيْرِ إِذْنِ الدَّاعِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا أَيْ: لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُسْتَجَابٌ، فَاحْذَرُوا أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ، فَتَهْلِكُوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَأْبَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَوْ أَرَادَ دُعَاءَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لَقَالَ: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مُتَغَايِرَانِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَجْعَلُوا مِنْ جَعَلَ الَّتِي بِمَعْنَى اعْتَقَدَ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ آنِفًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّسُولِ، أَوْ إِلَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَالَفَ أَمْرَهُ وَخَالَفَ عَنْ أَمْرِهِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُخَالِفُونَ: مُضَمَّنٌ مَعْنَى يَصُدُّونَ، أَيْ: يَصُدُّونَ عَنْ أَمْرِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ; لِأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - تَوَعَّدَ الْمُخَالِفِينَ عَنْ أَمْرِهِ بِالْفِتْنَةِ أَوِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ لَا يَسْتَوْجِبُ تَرْكُهُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَالتَّحْذِيرَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْوُجُوبِ، دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [77 \ 48] فَإِنَّ قَوْلَهُ: ارْكَعُوا أَمْرٌ مُطْلَقٌ، وَذَمُّهُ تَعَالَى لِلَّذِينَ لَمْ يَمْتَثِلُوهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَرْكَعُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ امْتِثَالَهُ وَاجِبٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] ، فَإِنْكَارُهُ تَعَالَى عَلَى إِبْلِيسَ مُوَبِّخًا لَهُ بِقَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَارِكٌ وَاجِبًا. وَأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ وَاجِبٌ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ مُطْلَقٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [2 \ 34] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [20 \ 93] ، فَسَمَّى مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةً، وَأَمْرُهُ الْمَذْكُورُ مُطْلَقٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [7 \ 142] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66 \ 6] ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالِفَهُ عَاصٍ، وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا إِلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوِ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ مَانِعٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ مُوجِبٌ لِلِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَائِهِ الْوُجُوبَ، كَمَا تَرَى، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ مَعْصِيَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [33 \ 36] . وَاعْلَمْ أَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْوُجُوبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً مَثَلًا، وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ فَعَاقَبَهُ السَّيِّدُ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ عِقَابُكَ لِي ظُلْمٌ ; لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً لَمْ تُوجِبْ عَلَيَّ الِامْتِثَالَ، فَقَدْ عَاقَبْتَنِي عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَلْزَمُنِي، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الصِّيغَةِ أَنَّ الِامْتِثَالَ يَلْزَمُهُ، وَأَنَّ الْعِقَابَ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، وَالْفِتْنَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ قِيلَ: هِيَ الْقَتْلُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الزَّلَازِلُ وَالْأَهْوَالُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَقِيلَ: السُّلْطَانُ الْجَائِرُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ بِسَبَبِ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِتْنَةٌ مِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِيهِ أُطْلِقَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ بِهَا الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [51 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [85 \ 10] ، أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ. الثَّانِي وَهُوَ أَشْهَرُهَا: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الِاخْتِبَارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الْآيَةَ [21 \ 35] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [72 \ 16 - 17] . وَالثَّالِثُ: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى نَتِيجَةِ الِاخْتِيَارِ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [2 \ 193] ، وَفِي «الْأَنْفَالِ» : الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [8 \ 39] ، فَقَوْلُهُ: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ: حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ; لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ، كَمَا تَرَى. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَالرَّابِعُ: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الْحُجَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، أَيْ: لَمْ تَكُنْ حُجَّتُهُمْ، كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَفْتِنَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: يَزِيدَهُمْ ضَلَالًا بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ عَنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [83 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [2 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ الْآيَةَ [9 \ 125] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ خَلْقُهُ، أَيْ: مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11 \ 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [13 \ 33] أَيْ: هُوَ شَهِيدٌ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا هُمْ فَاعِلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَوْلِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [26 \ 217 - 220] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [13 \ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [67 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [6 \ 59] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [11 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [67 \ 14] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا أَحْسَنُ وَعْدٍ لِلْمُطِيعِينَ، وَأَشَدُّ وَعِيدٍ لِلْعُصَاةِ الْمُجْرِمِينَ، وَلَفْظَةُ قَدْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِلتَّحْقِيقِ، وَإِتْيَانُ قَدْ لِلتَّحْقِيقِ مَعَ الْمُضَارِعِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [24 \ 63] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ الْآيَةَ [33 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الْآيَةَ [6 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ الْآيَةَ [2 \ 144] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَرْفٍ، بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي هُوَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ: وَيَعْلَمُ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَبِّئُ الْخَلَائِقَ بِكُلِّ مَا عَمِلُوا، أَيْ: يُخْبِرُهُمْ بِهِ ثُمَّ يُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ - جَلَّ وَعَلَا - يُخْبِرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا عَمِلُوا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [75 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18 \ 49] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 سُورَةُ الْفُرْقَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّل َ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى عَبْدِهِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا أَيْ: مُنْذِرًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرَنُ بِتَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْذَارِ إِعْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» . وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لِدُخُولِ الْجَمِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [7 \ 158] أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، أَيْ: جَمِيعًا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 33 - 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [46 \ 29 - 32] . وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ أَقْوَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَبَارَكَ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 الْفَرَّاءُ: هُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى: تَقَدَّسَ وَهُمَا لِلْعَظَمَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَارَكَ: تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ: الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ، وَقِيلَ: تَبَارَكَ: تَعَالَى، وَقِيلَ: تَعَالَى عَطَاؤُهُ، أَيْ: زَادَ وَكَثُرَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى دَامَ وَثَبَتَ إِنْعَامُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الْمَاءِ، أَيْ: دَامَ وَثَبَتَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبَارَكَ: لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: تَمَجَّدَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَظَّمَ. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: تَبَارَكْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ، أَيْ: تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ. فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهُوَ التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ. فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى تَبَارَكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى تَبَارَكَ: تَكَاثَرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ مِنْ قِبَلِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَظَمَتَهُ وَتَقَدُّسَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; لِأَنَّ مَنْ تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ وَيَدِرُّ الْأَرْزَاقَ عَلَى النَّاسِ هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَالَّذِي لَا تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ بَرَكَةٌ وَلَا خَيْرٌ، وَلَا رِزْقٌ كَالْأَصْنَامِ، وَسَائِرِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ أَنَّ يُعْبَدَ، وَعِبَادَتُهُ كُفْرٌ مُخَلِّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [29 \ 17] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [16 \ 73] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [6 \ 14] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [51 \ 57 - 58] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [40 \ 13 - 14] . تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تَبَارَكَ فِعْلٌ جَامِدٌ لَا يَتَصَرَّفُ، فَلَا يَأْتِي مِنْهُ مُضَارِعٌ، وَلَا مَصْدَرٌ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ تَبَارَكَ خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَإِسْنَادُهُ تَبَارَكَ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِنْزَالَهُ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [18 \ 1] وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِطْلَاقُ الْعَرَبِ تَبَارَكَ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ: تَبَارَكْتَ لَا مُعْطٍ لِشَيْءٍ مَنَعْتَهُ ... وَلَيْسَ لِمَا أَعْطَيْتَ يَا رَبِّ مَانِعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعَ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السُّلَّمُ النَّضِرُ. وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تُقَدِّرْ يَقَعْ وَلَكَ الشُّكْرُ وَقَدْ قَدَّمْنَا الشَّاهِدَ الْأَخِيرَ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [21 \ 87] . وَقَوْلُهُ: الْفُرْقَانَ، يَعْنِي هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ كَالْكُفْرَانِ وَالطُّغْيَانِ وَالرُّجْحَانِ، وَهَذَا الْمَصْدَرُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ ; لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ فُرْقَانًا أَنَّهُ فَارِقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الرُّشْدِ وَالْغَيِّ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْفُرْقَانَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ ; لِأَنَّهُ نُزِّلَ مُفَرَّقًا، وَلَمْ يُنَزَّلْ جُمْلَةً. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [17 \ 106] وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [25 \ 32] وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: نَزَّلَ بِالتَّضْعِيفِ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ نُزُولِهِ أَنْجُمًا مُنَجَّمًا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [3 \ 3] قَالُوا: عَبَّرَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ بِـ: نَزَّلَ بِالتَّضْعِيفِ لِكَثْرَةِ نُزُولِهِ. وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَقَدْ عَبَّرَ فِي نُزُولِهِمَا بِـ: أَنْزَلَ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى تَكْثِيرٍ ; لِأَنَّهُمَا نَزَلَا جُمْلَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَبَعْضُ الْآيَاتِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا كَثْرَةُ نُزُولِ الْقُرْآنِ ; الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْآيَةَ [18 \ 1] وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: عَلَى عَبْدِهِ قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ذِكْرُهُ صِفَةَ الْعُبُودِيَّةِ مَعَ تَنْزِيلِ الْفُرْقَانِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ هِيَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا قَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَدَلٌ مِنَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَدْ أَثْنَى جَلَّ وَعَلَا عَلَى نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِخَمْسَةِ أُمُورٍ، هِيَ أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ وَحْدَهُ لِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ تَقْدِيرًا، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا: وَهُوَ أَنَّهُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [5 \ 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النُّورِ» : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [24 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ الْآيَةَ [35 \ 13] وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا جَلَّ وَعَلَا أَنَّ لَهُ الْمُلْكَ، فَالْمُلْكُ فِيهَا شَامِلٌ لِمُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ الْآيَةَ [3 \ 26] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ الْآيَةَ [67 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [6 \ 73] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَالِكِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ لَهُ مُلْكَ كُلِّ شَيْءٍ كَثِيرَةٌ جَدًّا مَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [112 \ 3 - 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا الْآيَةَ [72 \ 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ الْآيَةَ [6 \ 101] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [19 \ 88 - 93] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [18 \ 4 - 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، إِلَى قَوْلِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [23 \ 91] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» : وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الْآيَةَ [13 \ 111] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «سَبَأٍ» : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [34 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ يَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ، وَالْقَهْرِ، وَاسْتِحْقَاقِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [6 \ 101 - 102] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [40 \ 62 - 63] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ تَقْدِيرًا، فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [87 \ 2 - 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 \ 49] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُ الْأَشْيَاءِ هُوَ حَدُّهَا بِالْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمَانِ، وَالْمَقَادِيرِ، وَالْمَصْلَحَةِ، وَالْإِتْقَانِ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ أَبِي حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ» . تَنْبِيهٌ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْخَلْقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، مَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ـضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [23 \ 14] قَالَ: أَيْ أَحْسَنُ الْمُقَدِّرِينَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، أَيْ: قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَهَذَا تَكْرَارٌ كَمَا تَرَى، وَقَدْ أَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ جَوَابَهُ فِي «الْبَحْرِ» ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ. وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْتَ فِي الْخَلْقِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [25 \ 2] كَأَنَّهُ قَالَ: وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ. قُلْتُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْدَثَ كُلَّ شَيْءٍ إِحْدَاثًا مُرَاعِيًا فِيهِ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ فَقَدَّرَهُ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ. مِثَالُهُ: أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ الْمُقَدَّرِ الْمُسَوَّى، الَّذِي تَرَاهُ فَقَدَّرَهُ لِلتَّكَالِيفِ وَالْمَصَالِحِ الْمَنُوطَةِ بِهِ فِي بَابَيِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ كَلُّ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ جَاءَ بِهِ عَلَى الْحِيلَةِ الْمُسْتَوِيَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِأَمْثِلَةِ الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ، فَقَدَّرَهُ لِأَمْرٍ مَا وَمَصْلَحَةٍ مُطَابِقًا لِمَا قَدَّرَ لَهُ غَيْرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 مُتَجَافٍ عَنْهُ، أَوْ سَمَّى إِحْدَاثَ اللَّهِ خَلْقًا ; لِأَنَّهُ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا لِحِكْمَتِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ غَيْرَ مُتَفَاوِتٍ، فَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ كَذَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: أَحْدَثَ وَأَوْجَدَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ فِي إِيجَادِهِ لَمْ يُوجِدْهُ مُتَفَاوِتًا. وَقِيلَ: فَجَعَلَ لَهُ غَايَةً وَمُنْتَهًى، وَمَعْنَاهُ: فَقَدَّرَهُ لِلْبَقَاءِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَبَعْضُهُ لَهُ اتِّجَاهٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ، مُتَّصِفَةٌ بِسِتَّةِ أَشْيَاءَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ، أَنَّ عِبَادَتَهَا مَعَ اللَّهِ، لَا وَجْهَ لَهَا بِحَالٍ، بَلْ هِيَ ظُلْمٌ مُتَنَاهٍ، وَجَهْلٌ عَظِيمٌ، وَشِرْكٌ يَخْلُدُ بِهِ صَاحِبُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الَّتِي هِيَ بَرَاهِينُ قَاطِعَةٌ، عَلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَالْأُمُورُ السِّتَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، أَيْ: لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ. وَالثَّانِي مِنْهَا: أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ كُلَّهَا، أَيْ: خَلَقَهَا خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَوْتًا، وَلَا حَيَاةً، وَلَا نُشُورًا، أَيْ: بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُ الْآلِهَةِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الْآيَةَ [22 \ 73] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [16 \ 20 - 21] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [35 \ 40] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «لُقْمَانَ» : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [31 \ 11] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَحْقَافِ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [46 \ 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [18 \ 51] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ، وَمَنْ لَا يَخْلُقُ ; لِأَنَّ مَنْ يَخْلُقُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَمَنْ لَا يَخْلُقُ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] أَيْ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَخْلُقْكُمْ، فَلَيْسَ بِرَبٍّ، وَلَا بِمَعْبُودٍ لَكُمْ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16] أَيْ: وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] . وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُ الْآلِهَةِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِهِ مَخْلُوقَةً، فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَآيَةِ «النَّحْلِ» ، وَ «الْأَعْرَافِ» ، الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا. أَمَّا آيَةُ «النَّحْلِ» ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [16 \ 20] فَقَوْلُهُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا آيَةُ «الْأَعْرَافِ» ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [13 \ 16] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [7 \ 191 - 192] وَمَنْ لَا يَنْصُرُ نَفْسَهُ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ لَهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [7 \ 197] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الْآيَةَ [7 \ 195 - 197] . وَفِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ الْآيَةَ [22 \ 73] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ: أَعْنِي كَوْنَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا، وَلَا حَيَاةً، وَلَا نُشُورًا. فَقَدْ جَاءَتْ أَيْضًا مُبَيَّنَةً فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [30 \ 40] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، وَمِنْهُ الْحَيَاةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ: خَلَقَكُمْ، وَالْمَوْتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، وَالنُّشُورُ الْمُعَبَّرُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ نُشُورًا بِقَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [21 \ 21] . وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [10 \ 34] . وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [3 \ 145] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الْآيَةَ [63 \ 11] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ الْآيَةَ [31 \ 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الْآيَةَ [2 \ 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الْآيَةَ [40 \ 11] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ دَفَعَ ضَرَرٍ وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ ; كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وَغَيْرُهُ. وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ حَذْفُ مُضَافٍ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» بِقَوْلِهِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا ... عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَضُرُّوا أَنْفُسَهُمْ، أَوْ يَنْفَعُوهَا بِشَيْءٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، أَيْ: وَإِذَا عَجَزُوا عَنْ دَفْعِ ضُرٍّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَجَلْبِ نَفْعٍ لَهَا فَهُمْ عَنِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالنُّشُورِ أَعْجَزُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا نُشُورًا، اعْلَمْ أَنَّ النُّشُورَ يُطْلَقُ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ نَشَرَ الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّي، تَقُولُ: نَشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ يَنْشُرُهُ نَشْرًا وَنُشُورًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ نَشَرَ الْمَيِّتُ يَنْشُرُ نُشُورًا لَازِمًا، وَالْمَيِّتُ فَاعِلُ نَشَرَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمَادَّةِ ثَلَاثَ لُغَاتٍ، الْأُولَى: أَنْشَرَهُ رُبَاعِيًّا بِالْهَمْزَةِ يَنْشُرُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ إِنْشَارًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [80 \ 22] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [2 \ 259] بِضَمِّ النُّونِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمِلَةِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ مُضَارِعُ أَنْشَرَهُ. وَالثَّانِيَةُ: نَشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ يَنْشُرُهُ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّي، وَالْمَصْدَرُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ النَّشْرُ وَالنُّشُورُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَنْشُرُوا أَحَدًا، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ. وَالثَّالِثَةُ: نَشَرَ الْمَيِّتُ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ اللَّازِمِ، وَمَعْنَى أَنْشَرَهُ وَنَشَرَهُ مُتَعَدِّيًا: أَحْيَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَعْنَى نَشَرَ الْمَيِّتُ لَازِمًا: حَيِيَ الْمَيِّتُ وَعَاشَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِطْلَاقُ النَّشْرِ وَالنُّشُورِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِطْلَاقُ النُّشُورِ عَلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِمْ نَشَرَ الْمَيِّتُ لَازِمًا فَهُوَ نَاشِرٌ، أَيْ: عَاشَ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَوْلُ الْأَعْشَى: لَوْ أَسْنَدْتَ مَيِّتًا إِلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى قَابِرِ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ وَمِنْ إِطْلَاقِ النُّشُورِ بِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّي، قَوْلُهُ هُنَا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 وَلَا نُشُورًا، أَيْ: بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِمُ النُّشُورَ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ اللَّازِمِ، قَوْلُ الْآخَرِ: إِذَا قَبَّلْتَهَا كَرَعَتْ بِفِيهَا ... كُرُوعَ الْعَسْجَدِيَّةِ فِي الْغَدِيرِ فَيَأْخُذْنِي الْعَنَاقُ مُبَرِّدٌ فِيهَا ... بِمَوْتٍ فِي عِظَامِي أَوْ فُتُورِ فَنَحْيَا تَارَةً وَنَمُوتُ أُخْرَى ... وَنَخْلِطُ مَا نَمُوتُ بِالنُّشُورِ فَقَدْ جَعَلَ الْغَيْبُوبَةَ مِنْ شِدَّةِ اللَّذَّةِ مَوْتًا، وَالْإِفَاقَةَ مِنْهَا نُشُورًا، أَيْ: حَيَاةً بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، حُذِفَ فِيهِ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ، أَيِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَصْنَامًا آلِهَةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً الْآيَةَ [6 \ 74] وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، فَهُوَ فِعَالٌ مَجْمُوعٌ عَلَى أَفْعِلَةٍ، لِأَنَّ الْأَلِفَ الَّتِي بَعْدَ الْهَمْزَةِ مُبْدَلَةٌ مِنْ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَالَ فِي «الْخُلَاصَةِ» : وَمَدًّا أَبْدِلْ ثَانِيَ الْهَمْزَيْنِ مِنْ ... كِلْمَةٍ إِنْ يَسْكُنْ كَآثَرَ وَأْتَمِنْ وَالْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فَهُوَ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَإِتْيَانُ الْفِعَالِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ جَاءَتْ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَالْإِلَاهِ بِمَعْنَى الْمَأْلُوهِ، أَيِ: الْمَعْبُودِ، وَالْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَاللِّبَاسِ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ، وَالْإِمَامِ بِمَعْنَى الْمُؤْتَمِّ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ وَاحِدٌ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ أَسْمَاءٌ سَمَّاهَا الْكَفَّارُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [10 \ 66] إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ 53 \ 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ، أَيْ: مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا كَذِبٌ اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ عَلَى الْإِفْكِ الَّذِي افْتَرَاهُ قَوْمٌ آخَرُونَ، قِيلَ: الْيَهُودُ، وَقِيلَ: عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَيَسَارُ مَوْلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَأَبُو فُكَيْهَةَ الرُّومِيُّ، قَالَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحُرِّ الْعَبْدَرِيُّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ كَذَّبُوهُ وَادَّعَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَذِبٌ اخْتَلَقَهُ، وَأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ آخَرُونَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [38 \ 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [16 \ 101] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ الْآيَةَ [6 \ 66] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى افْتِرَاءِ الْقُرْآنِ قَوْمٌ آخَرُونَ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [16 \ 103] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [74 \ 24] أَيْ: يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غَيْرِهِ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [74 \ 25] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [6 \ 105] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي «الْأَنْعَامِ» ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيمَا افْتَرَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْبُهْتَانِ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ظُلْمُهُمْ أَنْ جَعَلُوا الْعَرَبِيَّ يَتَلَقَّنُ مِنَ الْأَعْجَمِيِّ الرُّومِيِّ كَلَامًا عَرَبِيًّا أَعْجَزَ بِفَصَاحَتِهِ جَمِيعَ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَالزُّورُ هُوَ أَنْ بَهَتُوهُ بِنِسْبَةِ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ إِلَيْهِ، انْتَهَى. وَتَكْذِيبُهُ جَلَّ وَعَلَا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، وَقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [6 \ 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ الْآيَةَ [74 \ 24 - 27] لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بَعْدَ ذِكْرِ افْتِرَائِهِ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ افْتِرَائِهِ وَأَنَّهُ سَيَصْلَى بِسَبَبِهِ عَذَابَ سَقَرَ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَمِنْ كُلِّ مَا قَرُبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَاعْلَمْ: أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ جَاءَ وَأَتَى بِمَعْنَى: فَعَلَ، فَقَوْلُهُ: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا، أَيْ: فَعَلُوهُ، وَقِيلَ: بِتَقْدِيرِ الْبَاءِ، أَيْ: جَاءُوا بِظُلْمٍ، وَمِنْ إِتْيَانَ أَتَى بِمَعْنَى فَعَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا، أَيْ: بِمَا فَعَلُوهُ. وَقَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 فَمَا يَكُ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْإِفْكَ هُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، لِأَنَّهُ قَلْبٌ لِلْكَلَامِ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَفَكَهُ بِمَعْنَى قَلَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [53 \ 53] وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا مُؤْتَفِكَاتٌ ; لِأَنَّ الْمَلِكَ أَفَكَهَا، أَيْ: قَلَبَهَا ; كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [11 \ 82] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْكُفَّارَ، قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: مِمَّا كَتَبَهُ وَسَطَرَهُ الْأَوَّلُونَ كَأَحَادِيثِ رُسْتُمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ، وَأَنَّهُ اكْتَتَبَ تِلْكَ الْأَسَاطِيرَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ كَتَبَهَا لِنَفْسِهِ وَأَخَذَهَا، كَمَا تَقُولُ: اسْتَكَبَ الْمَاءَ وَاصْطَبَّهُ إِذَا سَكَبَهُ وَصَبَّهُ لِنَفْسِهِ وَأَخَذَهُ، وَقَوْلُهُ: فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ، أَيْ: تُلْقَى إِلَيْهِ، وَتُقْرَأُ عَلَيْهِ عِنْدَ إِرَادَتِهِ كِتَابَتَهَا لِيَكْتُبَهَا، وَالْإِمْلَاءُ إِلْقَاءُ الْكَلَامِ عَلَى الْكَاتِبِ لِيَكْتُبَهُ، وَالْهَمْزَةُ مُبْدَلَةٌ مِنَ اللَّامِ تَخْفِيفًا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِمْلَاءِ الْإِمْلَالُ بِاللَّامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ الْآيَةَ [2 \ 28] . وَقَوْلُهُ: بُكْرَةً وَأَصِيلًا، الْبُكَرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْأَصِيلُ: آخِرُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ، قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَتَبَهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [18 \ 31] . وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَوْضَحْنَا تَعَنُّتَهُمْ وَكَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، وَدَلَالَةُ الْآيَاتِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 وَمِنَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِ: اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [29 \ 84] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ [7 \ 157 - 158] وَالْأُمِّيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَمَا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ، جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [16 \ 102] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 97] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 192 - 195] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [20 \ 114] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 16 - 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [69 \ 38 - 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا [20 \ 4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: وَمَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [20 \ 7] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [67 \ 13] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [9 \ 78] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [43 \ 80] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [32 \ 6] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ الْآيَةَ [2 \ 235] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 [27 \ 75] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ دُعَاءٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَإِخْبَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ رَحْمَتَهُ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّ حِلْمَهُ عَظِيمٌ، وَأَنَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ مَعَ كَذِبِهِمْ، وَافْتِرَائِهِمْ، وَفُجُورِهِمْ، وَبُهْتَانِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ، وَعِنَادِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ مَا قَالُوا يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْهُدَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5 \ 73 - 74] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [85 \ 10] . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَا ذَكَرَهُ وَاضِحٌ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِهِ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [8 \ 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا الْآيَةَ [20 \ 82] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لِهَذَا الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ فِي مُوسَى: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [26 \ 27] أَيْ: مَا لَهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كَمَا نَأْكُلُهُ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْأَكْلِ كَاحْتِيَاجِنَا إِلَيْهِ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ أَيْ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لِيُحَصِّلَ بِذَلِكَ قُوتَهُ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الطَّعَامِ، وَلَا إِلَى الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَادِّعَاءُ الْكَفَّارِ أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ كَمَا يَأْكُلُ النَّاسُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ، لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مِنْهَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رسولًا، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا مَلَكًا لَا يَحْتَاجُ لِلطَّعَامِ وَلَا لِلْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَجَاءَ فِي آيَاتٍ أَيْضًا تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ هَذِهِ الْبَاطِلَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ مِثْلَ مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 \ 33 - 34] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا الْآيَةَ [23 \ 47] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ الْآيَةَ [54 \ 24] وَقَوْلُهُ: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ الْآيَةَ [64 \ 6] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [14 \ 10] . وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي كَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِهَا فِي دَعْوَاهُمْ هَذِهِ الْبَاطِلَةِ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الرُّسُلَ يَأْكُلُونَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُولَدُ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنَّهُ فَضَّلَهُمْ بِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ لِلْبَشَرِ مَلَكًا لَجَعَلَهُ رَجُلًا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 20] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [13 \ 38] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [12 \ 109] أَيْ وَلَمْ نَجْعَلْهُمْ مَلَائِكَةً، لِأَنَّ كَوْنَهُمْ رِجَالًا وَكَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَلَائِكَةً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [6 \ 9] وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ: إِنَّهُ بَشَرٌ، وَإِنَّهُ رَسُولٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ لَا تُنَافِي الرِّسَالَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 93] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [18 \ 110] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ الْآيَةَ [41 \ 6] . وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الرُّسُلَ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [14 \ 11] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [17 \ 95] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 [25 \ 7] جَمْعُ سُوقٍ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَدْ تُذَكَّرُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَوْلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَرْفُ تَحْضِيضٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَالتَّحْضِيضُ. هُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَبِهِمَا التَّحْضِيضُ مِزْ وَهَلَّا ... أَلَّا أَلَا وَأَوْلِيَنْهَا الْفِعْلَا وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُضَارِعَ فِي قَوْلِهِ: فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُسْتَتِرَةٍ وُجُوبًا، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ الْمَحْضِ الَّذِي هُوَ التَّحْضِيضُ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَبَعْدَ فَا جَوَابُ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ ... مَحْضَيْنِ أَنْ وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ وَنَظِيرُ هَذَا مِنَ النَّصْبِ بِأَنِ الْمُسْتَتِرَةِ بَعْدَ الْفَاءِ الَّتِي هِيَ جَوَابُ التَّحْضِيضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [63 \ 10] لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْلَا أَخَّرْتَنِي طَلَبٌ مِنْهُ لِلتَّأْخِيرِ بَحَثٍّ وَشِدَّةٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّحْضِيضِ الَّذِي هُوَ لَوْلَا، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَوْلَا تَعُوجِينَ يَا سَلْمَى عَلَى دَنَفٍ ... فَتُخْمِدِي نَارَ وَجْدٍ كَادَ يُفْنِيهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَأَصَّدَّقَ بِالنَّصْبِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: فَتُخْمِدِي مَنْصُوبٌ أَيْضًا، بِحَذْفِ النُّونِ، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ الْمَحْضِ الَّذِي هُوَ التَّحْضِيضُ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَزْمَ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ أَعْنِي قَوْلَهُ: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ إِنَّمَا سَاغَ فِيهِ الْجَزْمُ، لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لَوْ حُذِفَتْ مَعَ قَصْدِ جَوَابِ التَّحْضِيضِ لَجُزِمَ الْفِعْلُ، وَجَوَازُ الْجَزْمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْحَذْفِ الْمَذْكُورِ، هُوَ الَّذِي سَوَّغَ عَطْفَ الْمَجْزُومِ عَلَى الْمَنْصُوبِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْيِ جَزْمًا اعْتُمِدْ ... إِنْ تُسْقِطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَشَارَ لَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ لَوْلَا فِي الْآيَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اقْتَرَحُوا بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَيْ يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ، وَيُعِينُهُ عَلَى التَّبْلِيغِ. الثَّانِي: أَنْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَيْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ مِنَ الْمَالِ يُنْفِقُ مِنْهُ وَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، وَالْجَنَّةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْبُسْتَانُ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: كَأَنَّ عَيْنِيَ فِي غَرْبِي مُقَتَّلَةٌ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحْقًا فَقَوْلُهُ: تَسْقِي جَنَّةً أَيْ بُسْتَانًا، وَقَوْلُهُ: سُحْقًا يَعْنِي أَنَّ نَخْلَهُ طِوَالٌ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْكُفَّارُ وَطَلَبُوهَا بِشِدَّةٍ وَحَثٍّ، تَعَنُّتًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا، جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ هُودٍ اقْتِرَاحَهُمْ لِنُزُولِ الْكَنْزِ، وَمَجِيءِ الْمَلَكِ مَعَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْعِنَادَ وَالتَّعَنُّتَ قَدْ يَضِيقُ بِهِ صَدْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ [11 \ 12] وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ اقْتِرَاحَهُمُ الْجَنَّةَ، وَأَوْضَحَ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهَا بُسْتَانًا مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا [17 \ 90 - 91] وَاقْتِرَاحُهُمْ هَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ فِرْعَوْنَ فِي مُوسَى: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [43 \ 53] تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فَتَشَابَهَتْ أَقْوَالُهُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَذِهِ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كَثْرَةِ اقْتِرَاحِ الْكُفَّارِ وَشِدَّةِ تَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ فَعَلَ لَهُمْ كُلَّ مَا اقْتَرَحُوا لَمَا آمَنُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [6 \ 7] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [15 \ 14 - 15] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 الْآيَةَ [6 \ 111] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ الْآيَةَ [10 \ 96 - 97] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْفُرْقَانِ هَذِهِ: يَأْكُلُ الطَّعَامَ كَمَا نَأْكُلُ، وَيَتَرَدَّدُ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا نَتَرَدَّدُ. يَعْنُونَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْأَكْلِ وَالتَّعَيُّشِ، ثُمَّ نَزَلُوا عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا إِلَى اقْتِرَاحِ أَنْ يَكُونَ إنسانًا مَعَهُ مَلَكٌ، حَتَّى يَتَسَاعَدَا فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّخْوِيفِ، ثُمَّ نَزَلُوا أَيْضًا فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْفُودًا بِذَلِكَ، فَلْيُكَنْ مَرْفُودًا بِكَنْزٍ يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ يَسْتَظْهِرُ بِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَاشِ، ثُمَّ نَزَلُوا فَاقْتَنَعُوا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ بُسْتَانٌ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَيَرْتَزِقُ كَالدَّهَاقِينِ أَوْ يَأْكُلُونَ هُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ، فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَمَعَاشِهِمْ. انْتَهَى مِنْهُ، وَكُلُّ تِلْكَ الِاقْتِرَاحَاتِ لِشِدَّةِ تَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ (يَأْكُلُ مِنْهَا) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (جَنَّةٌ نَأْكُلُ مِنْهَا) بِالنُّونِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَأْكُلُونَ هُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ قَالُوا لِلَّذِينِ اتَّبَعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا يَعْنُونَ أَنَّهُ أَثَّرَ فِيهِ السِّحْرُ فَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَسْحُورًا: أَيْ مَخْدُوعًا كَقَوْلِهِ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ: أَيْ مِنْ أَيْنَ تُخْدَعُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَسْحُورًا: أَيْ لَهُ سِحْرٌ، أَيْ رِئَةٌ فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مَسْحُورًا بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [20 \ 69] وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْكُفَّارُ فِي نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنَ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ خَاطَبَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا، وَمَا قَالَهُ الْكُفَّارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُمْ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا وَمَا قَالَهُ الْكُفَّارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ الْآيَةَ. جَاءَ كُلُّهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [17 \ 47 - 48] . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ: قَالُوا فِيكَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ، وَاقْتَرَحُوا لَكَ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالَ النَّادِرَةَ مِنْ نُبُوَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ إِنْسَانٍ وَمَلَكٍ، وَإِلْقَاءِ كَنْزٍ عَلَيْكَ مِنَ السَّمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَبَقَوْا مُتَحَيِّرِينَ ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ قولًا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ، أَوْ فَضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ، فَلَا يَجِدُونَ طَرِيقًا إِلَيْهِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَى: ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ: أَنَّهَا تَارَةً يَقُولُونَ إِنَّكَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً مَسْحُورٌ، وَتَارَةً مَجْنُونٌ، وَتَارَةً شَاعِرٌ، وَتَارَةً كَاهِنٌ، وَتَارَةً كَذَّابٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِ هُنَا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ الْآيَةَ [25 \ 5] وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَضَلُّوا أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الْأَقْوَالَ الَّتِي قَالُوهَا، وَالْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبُوهَا كُلَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ وَكُفْرٌ مُخَلِّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَالَّذِينَ قَالُوهَا هُمْ أَضَلُّ الضَّالِّينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَأَظْهَرُهَا أَنَّ مَعْنَى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا: أَيْ طَرِيقًا إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَنَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [11 \ 20] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [18 \ 101] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [11 \ 20] وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا مَعْنَى الظُّلْمِ وَالضَّلَالِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْإِطْلَاقَاتِ فِي اللُّغَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أَيْ أَنْكَرُوا الْقِيَامَةَ مِنْ أَصْلِهَا لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا اعْتَدَّ أَيْ هَيَّأَ وَأَعَدَّ لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ: أَيْ أَنْكَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَعِيرًا: أَيْ نَارًا شَدِيدَةَ الْحَرِّ يُعَذِّبُهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالسَّاعَةِ كُفْرٌ مُسْتَوْجِبٌ لِنَارِ جَهَنَّمَ، كَمَا سَتَرَى الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهُمَا تَكْذِيبُهُمْ بِالسَّاعَةِ، وَوَعِيدُ اللَّهِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا بِالسَّعِيرِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، أَمَّا تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 34 - 35] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا كُفْرُ مَنْ كَذَّبَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَعِيدِهِ بِالنَّارِ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [45 \ 32] إِلَى قَوْلِهِ: وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [45 \ 34] فَقَوْلُهُ: وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ هُوَ سَبَبُ كَوْنِ النَّارِ مَأْوَاهُمْ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [45 \ 35] لَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنِ اتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا تَكْذِيبَهُمْ بِالسَّاعَةِ، وَإِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [13 \ 15] فَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ أَنَّ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ الَّذِي عَبَّرُوا عَنْهُ بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ جَامِعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّهُ عَجَبٌ مِنَ الْعَجَبِ لِكَثْرَةِ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ الْوَاضِحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْآيَةِ، أَنَّ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ الْمَذْكُورَ كُفْرٌ مُسْتَوْجِبٌ لِلنَّارِ وَأَغْلَالِهَا وَالْخُلُودِ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مُشِيرًا إِلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [13 \ 5] وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ إِنْكَارٌ لِلسَّاعَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [20 \ 16] أَيْ لَا يَصُدَّنَكَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالسَّاعَةِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، فَتَرْدَى: أَيْ تَهْلِكُ لِعَدَمِ إِيمَانِكَ بِهَا، وَالرَّدَى الْهَلَاكُ، وَهُوَ هُنَا عَذَابُ النَّارِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ بِالسَّاعَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «طَهَ» هَذِهِ: (فَتَرْدَى) ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَدَّهُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالسَّاعَةِ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا، أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِرَدَاهُ أَيْ هَلَاكِهِ بِعَذَابِ النَّارِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ فَآيَةُ الرُّومِ هَذِهِ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَهُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ مَعْدُودُونَ مَعَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ. وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ [25 \ 11] أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا يَلِيهِ، وَأَنَّ بَلْ فِيهِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى السَّعِيرِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا رَأَتِ الْكُفَّارَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ: أَيْ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ اشْتَدَّ غَيْظُهَا عَلَى مَنْ كَفَرَ بِرَبِّهَا وَعَلَا زَفِيرُهَا فَسَمِعَ الْكُفَّارُ صَوْتَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْظِهَا، وَسَمِعُوا زَفِيرَهَا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَ بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، فَأَوْضَحَ فِيهَا شِدَّةَ غَيْظِهَا عَلَى مَنْ كَفَرَ بِرَبِّهَا، وَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ لَهَا أَيْضًا شَهِيقًا مَعَ الزَّفِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ هَذِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [67 \ 7 - 8] أَيْ يَكَادُ بَعْضُهَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَعْضٍ مِنْ شِدَّةِ غَيْظِهَا، عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ فِي مَعْنَى الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ، وَأَقْرَبُهَا أَنَّهُمَا يُمَثِّلُهُمَا مَعًا صَوْتُ الْحِمَارِ فِي نَهِيقِهِ، فَأَوَّلُهُ زَفِيرٌ، وَآخِرُهُ الَّذِي يُرَدِّدُهُ فِي صَدْرِهِ شَهِيقٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا أَيْ سَمِعُوا غَلَيَانَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْظِهَا، وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ الْغَلَيَانِ التَّغَيُّظَ أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا: أَيْ أَدْرَكُوهُ، وَالْإِدْرَاكُ يَشْمَلُ الرُّؤْيَةَ وَالسَّمْعَ، وَعَلَى هَذَا فَالسَّمْعُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ، وَمَا ذَكَرْنَا أَظْهَرُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قِيلَ الْمَعْنَى إِذَا رَأَتْهُمْ جَهَنَّمُ سَمِعُوا لَهَا صَوْتَ التَّغَيُّظِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَصَحُّ. مَسْأَلَةٌ. اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ النَّارَ تُبْصِرُ الْكَفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَرُؤْيَتُهَا إِيَّاهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، تَدُلُّ عَلَى حِدَّةِ بَصَرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى، كَمَا أَنَّ النَّارَ تَتَكَلَّمُ كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [50 \ 30] وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، كَحَدِيثِ مُحَاجَّةِ النَّارِ مَعَ الْجَنَّةِ، وَكَحَدِيثِ اشْتِكَائِهَا إِلَى رَبِّهَا، فَأَذِنَ لَهَا فِي نَفْسَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهَا تَرَاهُمْ وَأَنَّ لَهَا تَغَيُّظًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَأَنَّهَا تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ مِنْ أَنَّ النَّارَ لَا تُبْصِرُ، وَلَا تَتَكَلَّمُ، وَلَا تَغْتَاظُ. وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ، أَوْ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ خَزَنَتُهَا، كُلُّهُ بَاطِلٌ وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ نُصُوصَ الْوَحْيِ الصَّحِيحَةَ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَالْحَقُّ هُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّارَ تَرَاهُمْ هُوَ الْأَصَحُّ، ثُمَّ قَالَ لِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَهَا عَيْنَانِ؟ قَالَ: أَوَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ فَيَقُولُ: وُكِّلْتُ بِكُلِّ مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، فَهُوَ أَبْصَرُ بِهِمْ مِنَ الطَّيْرِ بِحَبِّ السِّمْسِمِ فَيَلْتَقِطُهُ " وَفِي رِوَايَةٍ " يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَيَلْتَقِطُ الْكُفَّارَ لَقْطَ الطَّائِرِ حَبَّ السِّمْسِمِ " ذَكَرَهُ رَزِينٌ فِي كِتَابِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ، وَقَالَ: أَيْ تَفْصِلُهُمْ عَنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 الْخَلْقِ فِي الْمَعْرِفَةِ، كَمَا يَفْصِلُ الطَّائِرُ حَبَّ السِّمْسِمِ عَنِ التُّرْبَةِ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ فَيَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ " وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدًا مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِجَهَنَّمَ مِنْ عَيْنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ أَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ يَقُولُ: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. فَهَلْ تَرَاهُمْ إِلَّا بِعَيْنَيْنِ " وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، أَوِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ وَالِدَيْهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لَهَا مِنْ عَيْنَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ يَقُولُ: " إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ " إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَفِيهِ شِدَّةُ هَوْلِ النَّارِ، وَأَنَّهَا تَزْفِرُ زَفْرَةً يَخَافُ مِنْهَا جَمِيعُ الْخَلَائِقِ. نَرْجُو اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يُعِيذَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَمِنْ كُلِّ مَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإَذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذَا أُلْقُوا: أَيْ طُرِحُوا فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ مِنَ النَّارِ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنَالِكَ: أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الضَّيِّقِ ثُبُورًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا، فَقَوْلُهُ: (مَكَانًا) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُمْ يُلْقَوْنَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ مِنَ النَّارِ، جَاءَ مَذْكُورًا أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [104 \ 8 - 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [90 \ 19 - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 20] وَمَعْنَى مُؤْصَدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِهَمْزٍ، وَبِغَيْرِ هَمْزٍ: مُطْبَقَةٌ أَبْوَابُهَا، مُغَلَّقَةٌ عَلَيْهِمْ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [18 \ 18] وَمَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ مُطْبَقٍ مُغَلَّقٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يُجْعَلُ فِي مَحَلِّهِ مِنَ النَّارِ بِشِدَّةٍ كَمَا يُدَقُّ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ جَهَنَّمَ تَضِيقُ عَلَى الْكَافِرِ كَتَضْيِيقِ الزُّجِّ عَلَى الرُّمْحِ. وَالزُّجُّ بِالضَّمِّ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي فِي أَسْفَلِ الرُّمْحِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُقَرَّنِينَ: أَيْ فِي الْأَصْفَادِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [14 \ 49] وَالْأَصْفَادُ: الْقُيُودُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى مُقَرَّنِينَ: أَنَّ الْكُفَّارَ يُقْرَنُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الْأَصْفَادِ وَالسَّلَاسِلِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كُلُّ كَافِرٍ يُقْرَنُ هُوَ وَشَيْطَانُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [43 \ 38] . وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مُقَرَّنِينَ مُكَتَّفِينَ، وَمِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مُقَرَّنِينَ: أَيْ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ، وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ وَالْوَيْلُ وَالْخُسْرَانُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الثُّبُورَ يَجْمَعُ الْخَسَارَ وَالْهَلَاكَ وَالْوَيْلَ وَالدَّمَارَ. كَمَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [17 \ 102] أَيْ هَالِكًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ: إِذَا جَارَى الشَّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَسَـ ... ـى وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ اهـ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَالثُّبُورُ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ أَيْضًا، قَالَ الْكُمَيْتُ: وَرَأَتْ قُضَاعَةُ فِي الْأَيَا ... مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وَثَابِرِ أَيْ مَخْسُورٍ وَخَاسِرٍ يَعْنِي فِي انْتِسَابِهَا لِلْيَمَنِ. اهـ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا مَعْنَى دُعَائِهِمُ الثُّبُورَ هُوَ قَوْلُهُمْ: وَاثُبُورَاهُ، يَعْنُونَ: يَا وَيْلَ، وَيَا هَلَاكَ، تَعَالَ، فَهَذَا حِينُكَ وَزَمَانُكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا أَنَّكُمْ وَقَعْتُمْ فِيمَا لَيْسَ ثُبُورُكُمْ فِيهِ وَاحِدًا، إِنَّمَا هُوَ ثُبُورٌ كَثِيرٌ، إِمَّا لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ وَأَلْوَانٌ، كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا ثُبُورٌ، لِشِدَّتِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 وَفَظَاعَتِهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بُدِّلُوا غَيْرَهَا، فَلَا غَايَةَ لِهَلَاكِهِمْ. اهـ. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ: مَكَانًا ضَيِّقًا، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [6 \ 125] وَقَالَ فِي هُودٍ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [11 \ 12] فَمَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ هُودٍ، بِقَوْلِهِ: ضَائِقٌ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، وَفِي الْفُرْقَانِ وَالْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ: ضَيِّقًا عَلَى وَزْنٍ فَيْعِلٍ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْوَصْفُ مِنْ ضَاقَ يَضِيقُ، فَهُوَ ضَيِّقٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا هُوَ أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ جَمِيعَ أَوْزَانِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ إِنْ قُصِدَ بِهَا الْحُدُوثُ وَالتَّجَدُّدُ جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ مُطْلَقًا، كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي لَامِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: وَفَاعِلٌ صَالِحٌ لِلْكُلِّ إِنْ قَصَدَ الْـ ... حُدُوثَ نَحْوَ غَدًا ذَا فَارِحٌ جَذِلَا وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْحُدُوثُ وَالتَّجَدُّدُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [11 \ 12] أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يَحْدُثُ لَهُ ضِيقُ الصَّدْرِ، وَيَتَجَدَّدُ لَهُ بِسَبَبِ عِنَادِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، قِيلَ فِيهِ: ضَائِقٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَمَّا قَوْلُهُ: ضَيِّقًا فِي الْفُرْقَانِ وَالْأَنْعَامِ فَلَمْ يُرَدْ بِهِ حُدُوثٌ، وَلِذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ إِتْيَانِ الْفَيْعِلِ عَلَى فَاعِلٍ إِنْ قُصِدَ بِهِ الْحُدُوثُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ وَقَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخُطَيْمِ الْأَنْصَارِيِّ: أَبْلِغْ خِدَاشًا أَنَّنِي مَيِّتٌ ... كُلُّ امْرِئٍ ذِي حَسَبٍ مَائِتُ فَلَمَّا أَرَادَ حُدُوثَ الْمَوْتِ قَالَ: مَائِتُ بِوَزْنِ فَاعِلُ، وَأَصْلُهُ مَيِّتٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعِلٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي فَعِلٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو أَشْجَعَ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ يَرْثِي قُتَيْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 فَمَا أَنَا مِنْ رُزْءٍ وَإِنْ جَلَّ جَازِعُ ... وَلَا بِسُرُورٍ بَعْدَ مَوْتِكَ فَارِحُ فَلَمَّا نَفَى أَنْ يَحْدُثَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَرَحٌ وَلَا جَزَعٌ قَالَ جَازِعٌ وَفَارِحٌ، وَالْأَصْلُ: جَزِعٌ وَفَرِحٌ. وَمِثَالُهُ فِي فَعِيلٍ قَوْلُ لَبِيدٍ: حَسِبْتُ التُّقَى وَالْجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلًا فَلَمَّا أَرَادَ حُدُوثَ الثِّقَلِ قَالَ: ثَاقِلًا وَالْأَصْلُ ثَقِيلٌ، وَقَوْلُ السَّمْهَرِيِّ الْعُكْلِيِّ: بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِنٌ ... بِهَا وَكِرَامُ النَّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا فَلَمَّا أَرَادَ حُدُوثَ السِّمَنِ قَالَ: فَسَامِنٌ وَالْأَصْلُ سَمِينٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ «ضَيْقًا» بِسُكُونِ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ رَاجِعَةٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ لِأَنَّ إِسْكَانَ الْيَاءِ تَخْفِيفٌ كَهَيْنٍ وَلَيْنٍ، فِي هَيِّنٍ وَلَيِّنٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا. التَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: أَذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ، وَمَا يَلْقَاهُ الْكَفَّارُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ كَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا بِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [25 \ 14] وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكَنْزِ وَالْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ الْآيَةَ [25 \ 8] وَكَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا [25 \ 10] وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ عَذَابِ النَّارِ وَفَظَاعَتَهُ قَالَ: «أَذَلِكَ الْعَذَابُ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الْآيَةَ» . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ إِلَى قَوْلِهِ: يُهْرَعُونَ [37 \ 60 - 70] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [41 \ 40] . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَفْظَةُ خَيْرٍ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ كَمَا قَالَ فِي الْكَافِيَةِ: وَغَالِبًا أَغْنَاهُمْ خَيْرٌ وَشَرُّ ... عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرُّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ الْآيَةَ [16 \ 30] . وَالْمَعْرُوفُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْمُفَضَّلِ وَالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِيمَا فِيهِ التَّفْضِيلُ، إِلَّا أَنَّ الْمُفَضَّلَ أَكْثَرُ فِيهِ وَأَفْضَلُ مِنَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ النَّارِ لَا خَيْرَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَإِذَنْ فَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِيهَا إِشْكَالٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي اللُّغَةِ مُرَادًا بِهَا مُطْلَقُ الِاتِّصَافِ، لَا تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ. وَقَدَّمْنَاهُ مِرَارًا وَأَكْثَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «النُّورِ» وَغَيْرِهَا. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا تَخْصِيصَ شَيْءٍ بِالْفَضِيلَةِ، دُونَ غَيْرِهِ جَاءُوا بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، يُرِيدُونَ بِهَا خُصُوصَ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِالْفَضْلِ، كَقَوْلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: الشَّقَاءُ أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمِ السَّعَادَةُ؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ الْآيَةَ [12 \ 32] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَذَلِكَ خَيْرٌ الْآيَةَ، وَخَيْرٌ هُنَا لَيْسَتْ تَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، بَلْ هِيَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي بَيَانِ فَضْلِ الشَّيْءِ، وَخُصُوصِيَّتِهِ بِالْفَضْلِ دُونَ مُقَابِلِهِ كَقَوْلِهِ: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: الشَّقَاءُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ السَّعَادَةُ، وَكَقَوْلِهِ: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [12 \ 32] وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيفِ وَالتَّوْبِيخِ. اهـ. الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَعَذَابُ النَّارِ شَرٌّ مَحْضٌ لَا يُخَالِطُهُ خَيْرٌ الْبَتَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْجَوَابِ مُتَقَارِبَانِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الْعَائِدُ مَحْذُوفٌ: أَيْ وُعِدَهَا الْمُتَّقُونَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ الصَّادِقَ بِالْجَنَّةِ، يَحْصُلُ بِسَبَبِ التَّقْوَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [16 \ 31] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ الْعَائِدُ أَيْضًا مَحْذُوفٌ كَالَّذِي قَبْلَهُ: أَيْ مَا يَشَاءُونَهُ، وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ أَوِ الْوَصْفِ كَثِيرٌ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي ... فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ ... كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَجِدُونَ كُلَّ مَا يَشَاءُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ [16 \ 31] وَالْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ كُلِّ مَا يَشَاءُهُ الْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ: كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا الْمَصِيرُ مَكَانُ الصَّيْرُورَةِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ جَزَاءَهُمْ وَمَحَلَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [18 \ 31] لِأَنَّ حُسْنَ الْمَكَانِ وَجَوْدَتَهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ مَسْئُولًا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا تَسْأَلُهُ لَهُمْ، أَمَّا سُؤَالُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [3 \ 194] وَسُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ إِيَّاهُ ذَكَرَهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ الْآيَةَ [40 \ 47] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَسْئُولًا: أَيْ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَهُوَ جَلَّ وَعَلَا يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ مَا شَاءَ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِلَفْظَةِ «عَلَى» فِي قَوْلِهِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: قَدْ فَعَلْنَا فِي دَارِ الدُّنْيَا كُلَّ مَا أَمَرْتَنَا بِهِ فَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا، وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ: (نَحْشُرُهُمْ) ، بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ: (يَحْشُرُهُمْ) بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ: (فَيَقُولُ) بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (فَنَقُولُ) بِنُونِ الْعَظَمَةِ. فَتَحْصُلُ أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَحَفْصًا يَقْرَآنِ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَأَنَّ ابْنَ عَامِرٍ يَقْرَأُ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَأَنَّ بَاقِيَ السَّبْعَةِ يَقْرَءُونَ: (نَحْشُرُهُمْ) بِالنُّونِ، (فَيَقُولُ) بِالْيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يَحْشُرُ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ: أَنْ يَجْمَعَهُمْ جَمِيعًا فَيَقُولُ لِلْمَعْبُودِينَ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ فَزَيَّنْتُمْ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوكُمْ مِنْ دُونِي، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ: أَيْ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاكُمْ مِنْ دُونِي مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَأْمُرُوهُمْ بِذَلِكَ وَلَا أَنْ تُزَيِّنُوهُ لَهُمْ، وَأَنَّ الْمَعْبُودِينَ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 الشُّرَكَاءِ وَكُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِكَ وَعَظَمَتِكَ، مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ: أَيْ لَيْسَ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، أَنْ يَعْبُدُوا أَحَدًا سِوَاكَ لَا نَحْنُ وَلَا هُمْ، فَنَحْنُ مَا دَعَوْنَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، وَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْهُمْ، وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ [25 \ 18] أَيْ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أَيْ نَسُوا مَا أَنْزَلْتَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَتِكَ وَحْدَكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، وَكَانُوا قومًا بُورًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ هَلْكَى، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَيْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ اهـ. الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ: أَيْ مَا كَانَ يَصِحُّ لَنَا وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُؤَالِهِ لِلْمَعْبُودِينَ وَجَوَابِهِمْ لَهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْبُودِينَ. فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ قَالُوا: هَذَا الْقَوْلُ يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ فِيهِ سُؤَالَ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [34 \ 40 - 41] وَقَالَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [5 \ 116] وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ وَجَوَابُ عِيسَى كِلَاهُمَا شَبِيهٌ بِجَوَابِ الْمَعْبُودِينَ فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ هَذِهِ، وَلِذَلِكَ اخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَعْبُودِينَ الَّذِينَ يَسْأَلُهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ هَذِهِ هُمْ خُصُوصُ الْعُقَلَاءِ، دُونَ الْأَصْنَامِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي شُمُولُ الْمَعْبُودِينَ الْمَذْكُورِينَ لِلْأَصْنَامِ، مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَتَانِ قُرْآنِيَّتَانِ: الْأُولَى: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمَعْبُودِينَ الْمَذْكُورِينَ بِـ: «مَا» الَّتِي هِيَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ. فَلَفْظَةُ (مَا) تَدُلُّ عَلَى شُمُولِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَأَنَّهُ غَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ لِكَثْرَتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ دَلَالَةُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودِينَ غَافِلُونَ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُمْ: أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بِهَا لِكَوْنِهِمْ غَيْرَ عُقَلَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ [10 \ 28 - 29] وَإِنَّمَا كَانُوا غَافِلِينَ عَنْهَا لِأَنَّهُمْ جَمَادٌ لَا يَعْقِلُونَ. وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ عَلَيْهِمْ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَزَّلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَحْقَافِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 \ 5 - 6] فَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الْآيَةَ [29 \ 25] . فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ أَوْثَانٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ هُمْ وَعَبَدَتُهُمْ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 82] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى (نَسُوا) تَرَكُوا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ بِشُكْرِ نِعَمِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ بُورًا مَعْنَاهُ هَلْكَى، وَأَصْلُهُ اسْمُ مَصْدَرٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ، فَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُ هُنَا: وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [48 \ 12] وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُفْرَدِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتَ إِذْ أَنَا بُورُ وَيُطْلَقُ الْبُورُ عَلَى الْهَلَاكِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ عُمَانَ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَا تَكْفُرُوا مَا قَدْ صَنَعْنَا إِلَيْكُمُ ... وَكَافُوا بِهِ فَالْكُفْرُ بُورٌ لِصَانِعِهْ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَطْنَبَ فِيهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ أحدًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ وَبُطْلَانُهُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِهِ، وَمَا ذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّ مَعْنَى بُورًا لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَهُ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى بُورًا هَلْكَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْبُودِينَ كَذَّبُوا الْعَابِدِينَ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ [25 \ 18] . وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَكْذِيبِ الْمَعْبُودِينَ لِلْعَابِدِينَ، جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 \ 6] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [16 \ 86] وَقَوْلِهِ: فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [10 \ 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 82] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أَيْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ، وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَهَذَا التَّفْسِيرُ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [6 \ 82] فَقَالَ: أَيْ بِشْرِكٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ النَّاسِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الْآيَةَ [6 \ 53] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً وَمَعْنَى هَذَا: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ، فَالْغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالْفَقِيرِ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ وَلَا يَسْخَرَ مِنْهُ، وَالْفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالْغَنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْسُدَهُ وَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ فِي مَعْنَى: أَتَصْبِرُونَ [25 \ 20] : أَيْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَصْحَابُ الْبَلَايَا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعَافَ؟ وَالْأَعْمَى يَقُولُ لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالْبَصِيرِ؟ وَهَكَذَا صَاحِبُ كُلِّ آفَةٍ، وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَحُكَّامُ الْعَدْلِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [43 \ 31] فَالْفِتْنَةُ أَنْ يَحْسُدَ الْمُبْتَلَى الْمُعَافَى، وَيُحَقِّرَ الْمُعَافَى الْمُبْتَلَى، وَالصَّبْرُ أَنْ يَحْبِسَ كِلَاهُمَا نَفْسَهُ، هَذَا عَنِ الْبَطَرِ، وَذَلِكَ عَنِ الضَّجَرِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَإِذَا عَلِمْتَ مَعْنَى كَوْنِ بَعْضِهِمْ فِتْنَةً لِبَعْضٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الْآيَةَ [6 \ 53] . فِيهِ فِتْنَةُ أَغْنِيَاءِ الْكُفَّارِ بِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ احْتَقَرُوهُمْ وَازْدَرُوهُمْ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي زَعْمِهِمْ لِفَقْرِهِمْ، وَرَثَاثَةِ حَالِهِمْ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ وَيُعْطِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الْوَاسِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِمْ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [46 \ 11] وَقَالَ: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [38 \ 8] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَسَيُوَبِّخُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى احْتِقَارِهِمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [7 \ 49] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. . . . إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [83 \ 29 - 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [2 \ 212] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَصْبِرُونَ) ، أَيْ عَلَى الْحَقِّ أَمْ لَا تَصْبِرُونَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ قَالُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا، وَلَوْلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّحْضِيضِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَهَذَا التَّعَنُّتُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ هُنَا مِنْ طَلَبِهِمْ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ رُؤْيَتَهُمْ رَبَّهُمْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [17 \ 92] وَقَوْلِهِمْ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ قِيلَ: فَتُوحَى إِلَيْنَا كَمَا أُوحَتْ إِلَيْكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ الْآيَةَ [6 \ 124] وَقِيلَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ فَنَرَاهُمْ عِيَانًا، وَهَذَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [17 \ 92] أَيْ مُعَايَنَةً عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (لَا يَرْجُونَ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَرْجُونَ أَيْ لَا يَخَافُونَ لِقَاءَنَا لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ. وَالرَّجَاءُ يُطْلَقُ عَلَى الْخَوْفِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الطَّمَعِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا قَالَ أَيْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبِ عَوَاسِلَ فَقَوْلُهُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا: أَيْ لَمْ يَخَفْ لَسْعَهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِطْلَاقُ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ لُغَةُ تِهَامَةَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَا يَأْمُلُونَ، وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِابْنِ شَجَرَةَ وَقَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ أَيْ أَتَأْمُلُ أُمَّةٌ إِلَخْ. وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ لَا يَخَافُ لِقَاءَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ بِالْعَذَابِ، وَلَا يَأْمُلُ الْخَيْرَ مِنْ تِلْقَائِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالثَّوَابِ. وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ أَضْمَرُوا التَّكَبُّرَ عَنِ الْحَقِّ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاعْتَقَدُوهُ عِنَادًا وَكُفْرًا، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [40 \ 56] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا أَيْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 فِي الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ يُقَالُ: عَتَا عَلَيْنَا فُلَانٌ: أَيْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي ظُلْمِنَا، وَوَصْفُهُ تَعَالَى عُتُوَّهُمُ الْمَذْكُورَ بِالْكِبْرِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَالَغَ فِي إِفْرَاطِهِ، وَأَنَّهُمْ بَلَغُوا غَايَةَ الِاسْتِكْبَارِ، وَأَقْصَى الْعُتُوِّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْذِيبَ الرُّسُلِ بَعْدَ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ، وَوُضُوحِ الْحَقِّ وَعِنَادِهِمْ وَالتَّعَنُّتِ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ رُؤْيَةِ اسْتِكْبَارٍ عَنِ الْحَقِّ عَظِيمٌ وَعُتُوٌّ كَبِيرٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ النَّكَالَ، وَالتَّقْرِيعَ، وَلِذَا شَدَّدَ اللَّهُ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ تَعَنَّتَ ذَلِكَ التَّعَنُّتَ وَاسْتَكْبَرَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [2 \ 108] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ الْآيَةَ [4 \ 153] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 55] وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمْثَالِهَا عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ مُسْتَحِيلَةٌ اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ وَمَذْهَبُهُمْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ، وَأَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَكَلَامٌ فَاسِدٌ. وَالْحُقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا. كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَوْ فَعَلَ لَهُمْ كُلَّ مَا اقْتَرَحُوا لَمَا آمَنُوا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ طَلَبُوا إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى لَهُمْ، أَيْ لَا تَسُرُّهُمْ رُؤْيَتُهُمْ وَلَا تَكُونُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِشَارَةً بِخَيْرٍ، وَرُؤْيَتُهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ تَكُونُ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ، وَتَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا بُشْرَى لَهُمْ فِي رُؤْيَتِهِمْ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ. أَمَّا رُؤْيَتُهُمُ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ فَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُمْ لَا بِشَارَةَ لَهُمْ فِيهَا لِمَا يُلَاقُونَ مِنَ الْعَذَابِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ الْآيَةَ [8 \ 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [6 \ 93] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 27 - 28] وَأَمَّا رُؤْيَتُهُمُ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا بُشْرَى لَهُمْ فِيهَا أَيْضًا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [6 \ 8] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [25 \ 22] يَدُلُّ بِدَلِيلِ خِطَابِهِ: أَيْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ، أَنَّ غَيْرَ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ تَكُونُ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [41 \ 30 - 32] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ. لَا مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا رَأَوُا الْمَلَائِكَةَ تَوَقَّعُوا الْعَذَابَ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَيَقُولُونَ حِينَئِذٍ لِلْمَلَائِكَةِ: حِجْرًا مَحْجُورًا: أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ أَنْ تَمَسُّونَا بِسُوءٍ أَيْ لِأَنَّنَا لَمْ نَرْتَكِبْ ذَنْبًا نَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعَذَابَ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [16 \ 28] فَقَوْلُهُمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ: أَيْ لَمْ نَسْتَوْجِبْ عَذَابًا، فَتَعْذِيبُنَا حَرَامٌ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَعَادَةُ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ، أَيْ حِجْرًا مَحْجُورًا عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوٍّ مَوْتُورٍ أَوْ هُجُومِ نَازِلَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَعْنِي: حِجْرًا مَحْجُورًا فِي بَابِ الْمَصَادِرِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهَا نَحْوَ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَعَمْرَكَ اللَّهَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 وَقَوْلُهُ: حِجْرًا مَحْجُورًا، أَصْلُهُ مِنْ حَجَرَهُ بِمَعْنَى مَنَعَهُ، وَالْحِجْرُ: الْحَرَامُ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ أَيْ حَرَامٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ [6 \ 138] وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ: حَنَّتْ إِلَى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا ... حَجْرٌ حَرَامٌ أَلَا تِلْكَ الدَّهَارِيسُ فَقَوْلُهُ حَرَامٌ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ حَجْرٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَرَامٌ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حِجْرًا مُحَرَّمَا ... وَأَصْبَحَتْ مِنْ أَدْنَى حَمْوَتِهَا حَمَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: قَالَتْ وَفِيهَا حَيْرَةٌ وَذُعْرُ ... عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُمْ وَحِجْرُ وَقَوْلُهُ: مَحْجُورًا تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى الْحِجْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِ الْعَرَبِ: ذَيْلٌ ذَائِلٌ. وَالذَّيْلُ الْهَوَانُ، وَمَوْتٌ مَائِتٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حِجْرًا مَحْجُورًا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ حِجْرًا مَحْجُورًا. أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ تَكُونَ لِلْكُفَّارِ الْيَوْمَ بُشْرَى، أَوْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ، أَوْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «يَوْمَ» مَنْصُوبٌ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ، إِمَّا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِلَا بُشْرَى أَيْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ يُمْنَعُونَ الْبُشْرَى، أَوْ يُعْدَمُونَهَا، وَيَوْمَئِذٍ لِلتَّكْرِيرِ، وَإِمَّا بِإِضْمَارِ اذْكُرْ: أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ قَالَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [17 \ 19] . وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [16 \ 97] . وَغَيْرِ ذَلِكَ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ حِسَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَسِيرٌ، وَأَنَّهُ يَنْتَهِي فِي نِصْفِ نَهَارٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَقِيلًا: أَيْ مَكَانَ قَيْلُولَةٍ وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، قَالُوا: وَهَذَا الَّذِي فُهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [84 \ 7 - 9] . وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا الْآيَةَ، أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ لَيْسُوا كَذَلِكَ وَأَنَّ حِسَابَهُمْ غَيْرُ يَسِيرٍ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [25 \ 26] فَقَوْلُهُ: (عَلَى الْكَافِرِينَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ عَسِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الْآيَةَ [21 \ 103] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [54 \ 8] وَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا مَا جَاءَ مِنَ الْآيَاتِ فِيهِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا، فَهَذِهِ أَقْوَالُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ. قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قَالَ فِي الْغُرَفِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ حِسَابُهُمْ أَنْ عُرِضُوا عَلَى رَبِّهِمْ عَرْضَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [84 \ 7 - 9] وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ثُمَّ قَرَأَ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وَقَرَأَ: ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ ضَحْوَةٌ. فَيَقِيلُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى الْأَسِرَّةِ مَعَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيَقِيلُ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَعَ الشَّيَاطِينِ مُقَرَّنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 الْحِلْيَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يُفْرَغُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نِصْفَ النَّهَارِ. فَيَقِيلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الصَّوَّافِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّهُمْ لَيَقِيلُونِ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، حِينَ يَفْرَغُ النَّاسُ مِنَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ السَّاعَةَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، السَّاعَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا ارْتِفَاعُ الضُّحَى الْأَكْبَرُ، إِذَا انْقَلَبَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِيهِمْ لِلْقَيْلُولَةِ، فَيَنْصَرِفُ أَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيُنْطَلَقُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَانَتْ قَيْلُولَتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأُطْعِمُوا كَبِدَ الْحُوتِ فَأَشْبَعَهُمْ كُلَّهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ. أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْقُرْطُبِيُّ مَرْفُوعًا وَقَالَ: ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: «وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [70 \ 4] فَقُلْتُ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ» وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَنَّهُ قَرَأَ ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ مَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ شَاذٌّ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الْحَقَّ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [37 \ 68] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، وَعَلَيْهِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ قَتَادَةَ هُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أَيْ مَنْزِلًا وَمَأْوًى، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْقَيْلُولَةِ فِي نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا تَرَى. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) وَجْهَ الْجَمْعِ بَيَنْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا مِنِ انْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ، وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُشِيرَةَ إِلَى الْجَمْعِ، وَبَعْضَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَقِيلَ الْقَيْلُولَةُ أَوْ مَكَانُهَا، وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ زَمَنَ الْحَرِّ مَثَلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: جَزَى اللَّهُ خَيْرَ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ قَالَا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ أَيْ نَزَلَا فِيهَا وَقْتَ الْقَائِلَةِ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَمَا فَسَّرَ بِهِ قَتَادَةُ الْآيَةَ، مِنْ أَنَّ الْمَقِيلَ الْمَنْزِلُ وَالْمَأْوَى، مَعْرُوفٌ أَيْضًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ: الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ... ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ فَقَوْلُهُ: يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ، يَعْنِي: يُزِيلُ الرُّءُوسَ عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنَ الْأَعْنَاقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقِيلَ فِيهِ الْمَحَلُّ الَّذِي تَسْكُنُ فِيهِ الرُّءُوسُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَنْصَارِيِّ: وَمَا تَدْرِي وَإِنْ أَجْمَعْتَ أَمْرًا ... بِأَيِّ الْأَرْضِ يُدْرِكُكَ الْمَقِيلُ وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: بِأَيِّ الْأَرْضِ يُدْرِكُكَ الثَّوَابُ وَالْإِقَامَةُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا تَكَلَّمْنَا عَلَى مِثْلِهَا قَرِيبًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الْآيَةَ [25 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّمَاءَ تَتَشَقَّقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْغَمَامِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُنَزَّلُ تَنْزِيلًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ. قَالَ: وَالْبَاءُ وَعَنْ يَتَعَاقَبَانِ كَقَوْلِكَ: رُمِيتُ بِالْقَوْسِ، وَعَنِ الْقَوْسِ انْتَهَى. وَيُسْتَأْنَسُ لِمَعْنَى عَنْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا الْآيَةَ [50 \ 44] . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوُجُودِ الْغَمَامِ، وَتَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ كُلُّهَا جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا تَشَقُّقُ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [55 \ 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [69 \ 15 - 16] وَقَوْلِهِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ الْآيَةَ [84 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ الْآيَةَ [77 \ 8 - 9] فَقَوْلُهُ: فُرِجَتْ: أَيْ شُقَّتْ، فَكَانَ فِيهَا فُرُوجٌ أَيْ شُقُوقٌ كَقَوْلِهِ، إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [78 \ 19] وَأَمَّا الْغَمَامُ وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُمَا مَعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ الْآيَةَ [2 \ 210] . وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ الْآيَةَ [6 \ 158] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [115 \ 8] . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّمَاءَ تَنْفَتِحُ بِغَمَامٍ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَفِي الْغَمَامِ الْمَلَائِكَةُ يَنْزِلُونَ، وَفِي أَيْدِيهِمْ صُحُفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: (تَشَّقَّقَ) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ) بِنُونَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ مَعَ تَخْفِيفِ الزَّايِ، وَضَمِّ اللَّامِ، مُضَارِعُ أَنْزَلَ، وَالْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَلَائِكَةُ مَرْفُوعًا نَائِبُ فَاعِلِ نُزِّلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِـ اذْكُرْ مُقَدَّرًا، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُلْكَ الْحَقَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْكَافِرِينَ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا كَوْنُ الْمُلْكِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] وَقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [6 \ 73] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 وَأَمَّا كَوْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَسِيرًا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ قَرِيبًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا. مِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الظَّالِمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأَنَّ فُلَانًا الَّذِي أَضَلَّهُ عَنِ الذِّكْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَوْ أَخُوهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ أُبَيًّا خَلِيلًا، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لَا الْقِرَاءَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ، لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَكُلُّ ظَالِمٍ أَطَاعَ خَلِيلَهُ فِي الْكُفْرِ، حَتَّى مَاتَ عَلَى ذَلِكَ يَجْرِي لَهُ مِثْلُ مَا جَرَى لِابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِهَا. فَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ، لِأَنَّ النَّادِمَ نَدَمًا شَدِيدًا، يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ، وَنَدَمُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَسْرَتُهُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ [10 \ 54] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [34 \ 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا الْآيَةَ [6 \ 31] . وَالْحَسْرَةُ أَشَدُّ النَّدَامَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [2 \ 167] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِالرَّسُولِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَاتَّخَذَ مَعَهُ سَبِيلًا: أَيْ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ [33 \ 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [89 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [15 \ 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 وَالسَّبِيلُ الَّتِي يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنْ يَتَّخِذَهَا مَعَ الرَّسُولِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ذُكِرَتْ أَيْضًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [25 \ 57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [76 \ 29 و33 \ 19] فِي الْمُزَّمِّلِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَقْرُبُ مِنْ مَعْنَاهُ الْمَآبُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا [78 \ 39] وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يُنَادِي بِالْوَيْلِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ مَنْ أَضَلَّهُ خَلِيلًا، ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، أَمَّا دُعَاءُ الْكُفَّارِ بِالْوَيْلِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [25 \ 13 - 14] وَأَمَّا تَمَنِّيهِمْ لِعَدَمِ طَاعَةِ مَنْ أَضَلَّهُمْ، فَقَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [2 \ 176] فَلَفْظَةُ لَوْ فِي قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً لِلتَّمَنِّي، وَلِذَلِكَ نُصِبَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بَعْدَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ الْآيَةَ. وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نَدَمِهِمْ عَلَى مُوَالَاتِهِمْ، وَطَاعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّ أَخِلَّاءَ الضَّلَالِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُضِلُّونَ أَخِلَّاءَهُمْ عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَهُمْ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [7 \ 202] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ الْآيَةَ [41 \ 25] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الْآيَةَ [6 \ 128] ; وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [33 \ 67] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [7 \ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [34 \ 31] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْكَافِرِ النَّادِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْخَذُولُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَذَلَهُ إِذَا تَرَكَ نَصْرَهُ مَعَ كَوْنِهِ يَتَرَقَّبُ النَّصْرَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [3 \ 160] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 إِنَّ الْمَرْءَ مَيِّتًا بِانْقِضَاءِ حَيَاتِهِ ... وَلَكِنْ بِأَنْ يُبْغَى عَلَيْهِ فَيُخْذَلَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِنَّ الْأُلَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولَا وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْذُلُ الْإِنْسَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ [14 \ 22] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ الْآيَةَ [8 \ 48] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ الْأَظْهَرُ أَنَّ الذِّكْرَ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُهُ: لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا الْعَرَبُ تُطْلِقُ لَفْظَةَ فُلَانٍ كِنَايَةً عَنِ الْعِلْمِ: أَيْ لَمْ أَتَّخِذْ أُبَيًّا أَوْ أُمَيَّةَ خَلِيلًا، وَيُكَنُّونَ عَنْ عَلَمِ الْأُنْثَى بِفُلَانَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ حِزَامٍ الْعُذْرِيِّ: أَلَا قَاتَلَ اللَّهُ الْوُشَاةَ وَقَوْلَهُمْ ... فُلَانَةُ أَضْحَتْ خَلَّةً لِفُلَانِ وَقَوْلُهُ: يَعَضُّ الظَّالِمُ مِنْ عَضِضَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي، يَعَضُّ بِفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الدِّهْلِيِّ: الْآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرَبَتِي ... وَعَضِضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى جَذْمِ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي الْبَيْتِ عَضِضْتُ بِكَسْرِ الضَّادِ الْأَوْلَى وَفِيهَا لُغَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي، وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ، وَعَضَّ تَتَعَدَّى بِعَلَى كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيْتِ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الْمَذْكُورَيْنِ، وَرُبَّمَا عُدِّيَتْ بِالْبَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: فَقَالَتْ وَعَضَّتْ بِالْبَنَانِ فَضَحْتَنِي ... وَأَنْتَ امْرُؤٌ مَيْسُورُ أَمْرِكَ أَعْسَرُ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَرِينَ السُّوءِ قَدْ يُدْخِلُ قَرِينَهُ النَّارَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ قَرِينِ السُّوءِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَنَّ قَرِينَهُ كَادَ يُرْدِيهِ أَيْ يُهْلِكُهُ بِعَذَابِ النَّارِ، وَلَكِنْ لَطَفَ اللَّهُ بِهِ فَتَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ فَهَدَاهُ وَأَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنَّى كَانَ لِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [37 \ 51 - 57] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَكَا إِلَى رَبِّهِ هَجْرَ قَوْمِهِ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، أَيْ: تَرَكَهُمْ لِتَصْدِيقِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَهَذِهِ شَكْوَى عَظِيمَةٌ، وَفِيهَا أَعْظَمُ تَخْوِيفٍ لِمَنْ هَجَرَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْآدَابِ وَالْمَكَارِمِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَيَعْتَبِرْ بِمَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ السُّبْكِيَّ قَالَ: إِنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» مَسْأَلَةً أُصُولِيَّةً، وَهِيَ أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْفِعْلِ فِعْلٌ. وَالْمُرَادُ بِالْكَفِّ التَّرْكُ، قَالَ فِي طَبَقَاتِهِ: لَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ لَمْ أَرَ أَحَدًا عَثَرَ عَلَيْهَا. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا، فَإِنَّ الْأَخْذَ: التَّنَاوُلُ، وَالْمَهْجُورَ: الْمَتْرُوكُ، فَصَارَ الْمَعْنَى تَنَاوَلُوهُ مَتْرُوكًا، أَيْ: فَعَلُوا تَرْكَهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ «نَشْرُ الْبُنُودِ، شَرْحُ مَرَاقِي السُّعُودِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَكَفُّنَا بِالنَّهْيِ مَطْلُوبُ النَّبِيِّ قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: اسْتِنْبَاطُ السُّبْكِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ وَتَفْسِيرُهُ لَهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَظْهَرْ لِي كُلَّ الظُّهُورِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَوْنُ الْكَفِّ فِعْلًا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ كَرِيمَتَانِ مِنْ سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، وَلَا نِزَاعَ. فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا فَهِمَهُ السُّبْكِيُّ مِنْ آيَةِ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَتْهُ بِإِيضَاحٍ الْآيَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ مِنْ سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [5 \ 63] فَتَرْكُ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ نَهْيَهُمْ عَنْ قَوْلِ الْإِثْمِ وَأَكْلِ السُّحْتِ سَمَّاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صُنْعًا فِي قَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، أَيْ: وَهُوَ تَرْكُهُمُ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ، وَالصُّنْعُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفِعْلَ، فَصَرَاحَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [5 \ 79] فَقَدْ سَمَّى جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَرْكَهُمُ التَّنَاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِعْلًا، وَأَنْشَأَ لَهُ الذَّمَّ بِلَفْظَةِ بِئْسَ الَّتِي هِيَ فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [5 \ 97] أَيْ: وَهُوَ تَرْكُهُمُ التَّنَاهِيَ، عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، وَصَرَاحَةُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى مَا ذُكِرَ وَاضِحَةٌ، كَمَا تَرَى. وَقَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ، فَقَدْ سَمَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْكَ أَذَى الْمُسْلِمِينَ إِسْلَامًا، وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي وَقْتِ بِنَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَسْجِدِهِ بِالْمَدِينَةِ: لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ فَسَمَّى قُعُودَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ، وَتَرْكَهُمْ لَهُ عَمَلًا مُضَلِّلًا، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، إِلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، أَيْ: وَهُوَ الْحَقُّ. وَبَيَّنَ فُرُوعًا مَبْنِيَّةً عَلَى ذَلِكَ نَظَمَهَا الشَّيْخُ الزَّقَّاقُ فِي نَظْمِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَنْهَجِ الْمُنْتَخَبِ، وَأَوْرَدَ أَبْيَاتَ الزَّقَّاقِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: وَجَلَبْتُهَا هُنَا عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى اسْتِعَانَةً، وَهُوَ تَضْمِينُ بَيْتٍ فَأَكْثَرَ بِقَوْلِهِ: فَكَفُّنَا بِالنَّهْيِ مَطْلُوبُ النَّبِي ... وَالْكَفُّ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ لَهُ فُرُوعٌ ذُكِرَتْ فِي الْمَنْهَجِ ... وَسَرْدُهَا مِنْ بَعْدِ ذَا الْبَيْتِ يَجِي مِنْ شُرْبٍ أَوْ خَيْطٍ ذَكَاةُ فَضْلِ مَا ... وَعَمَدٍ رَسْمِ شَهَادَةٍ وَمَا عَطَّلَ نَاظِرٌ وَذُو الرَّهْنِ كَذَا ... مُفَرِّطٌ فِي الْعَلْفِ فَادْرِ الْمَأْخَذَا وِكَالَّتِي رُدَّتْ بِعَيْبٍ وَعَدَمْ ... وَلِيِّهَا وَشِبْهِهَا مِمَّا عُلِمْ فَالْأَبْيَاتُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ نَظْمِ الشَّيْخِ الزَّقَّاقِ الْمُسَمَّى بِالْمَنْهَجِ الْمُنْتَخَبِ، وَفِيهَا بَعْضُ الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكَفِّ، هَلْ هُوَ فِعْلٌ، وَهُوَ الْحَقُّ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُ الزَّقَّاقِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ أَبْيَاتِهِ مِنْ شُرْبٍ مُتَعَلِّقٍ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَهَلْ كَمَنْ فَعَلَ تَارِكٌ كَمَنْ ... لَهُ بِنَفْعِ قُدْرَةٍ لَكِنْ كَمَنْ مِنْ شُرْبٍ. . إِلَخْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 فَقَوْلُهُ: مِنْ شُرْبٍ بَيَانٌ لِلنَّفْعِ الْكَامِنِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ بِنَفْعِ قُدْرَةٍ لَكِنْ كَمَنْ ، أَيْ: لَكِنَّهُ تَرَكَ النَّفْعَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَتَرْكُهُ لَهُ كَفِعْلِهِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ تَرْكِهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ شُرْبٍ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ فَضْلُ شَرَابٍ، وَتَرَكَ إِعْطَاءَهُ لِمُضْطَرٍّ حَتَّى مَاتَ عَطَشًا، فَعَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ يَضْمَنُ دِيَتَهُ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَفَضْلُ الطَّعَامِ كَفَضْلِ الشَّرَابِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ خَيْطٍ يَعْنِي أَنَّ مَنْ مَنَعَ خَيْطًا عِنْدَهُ مِمَّنْ شُقَّ بَطْنُهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ جَائِفَةٌ، حَتَّى مَاتَ ضَمِنَ الدِّيَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، وَعَلَى عَكْسِهِ فَلَا ضَمَانَ، وَقَوْلُهُ: ذَكَاةُ، يَعْنِي: أَنَّ مَنْ مَرَّ بِصَيْدٍ لَمْ يَنْفَذْ مَقْتَلُهُ وَأَمْكَنَتْهُ تَذْكِيَتُهُ فَلَمْ يُذَكِّهِ حَتَّى مَاتَ، هَلْ يَضْمَنُهُ أَوْ لَا؟ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ: فَضْلِ مَا، يَعْنِي: أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مَاءٌ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ سَقْيِ زَرْعِهِ وَلِجَارِهِ زَرْعٌ وَلَا مَاءَ لَهُ إِذَا مَنَعَ مِنْهُ الْمَاءَ حَتَّى هَلَكَ زَرْعُهُ، هَلْ يَضْمَنُهُ أَوْ لَا؟ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: وَعَمَدٌ، يَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ عَمَدٌ جَمْعُ عَمُودٍ، فَمَنَعَهَا مِنْ جَارٍ لَهُ جِدَارٌ يَخَافُ سُقُوطَهُ حَتَّى سَقَطَ، هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: رَسْمُ شَهَادَةٍ، يَعْنِي: أَنَّ مَنْ مَنَعَ وَثِيقَةً فِيهَا الشَّهَادَةُ بِحَقٍّ حَتَّى ضَاعَ الْحَقُّ، هَلْ يَضْمَنُهُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: وَمَا عَطَّلَ نَاظِرٌ، يَعْنِي: أَنَّ النَّاظِرَ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ مَثَلًا إِذَا عَطَّلَ دَوْرَهُ فَلَمْ يُكْرِهَا، حَتَّى فَاتَ الِانْتِفَاعُ بِكِرَائِهَا زَمَنًا أَوْ تَرَكَ الْأَرْضَ حَتَّى تَبَوَّرَتْ هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: وَذُو الرَّهْنِ: يَعْنِي إِذَا عَطَّلَ الْمُرْتَهِنُ كِرَاءَ الرَّهْنِ، حَتَّى فَاتَ الِانْتِفَاعُ بِهِ زَمَنًا، وَكَانَ كِرَاؤُهُ لَهُ أَهَمِّيَّةٌ، هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: كَذَا مُفَرِّطٌ فِي الْعَلْفِ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ دَابَّةً عِنْدَ أَحَدٍ وَمَعَهَا عَلَفُهَا، وَقَالَ لَهُ: قَدِّمْ لَهَا الْعَلَفَ، فَتَرَكَ تَقْدِيمَهُ لَهَا حَتَّى مَاتَتْ، هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَالْعَلْفُ فِي الْبَيْتِ بِسُكُونِ الثَّانِي، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْعَلَفِ بِفَتْحِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ: وَكَالَّتِي رُدَّتْ بِعَيْبٍ وَعَدَمِ وَلِيِّهَا: يَعْنِي أَنَّ الْوَلِيَّ الْقَرِيبَ إِذَا زَوَّجَ وَلِيَّتَهُ، وَفِيهَا عَيْبٌ يُوجِبُ رَدَّ النِّكَاحِ وَسَكَتَتِ الزَّوْجَةُ، وَلَمْ تُبَيِّنْ عَيْبَ نَفْسِهَا وَفَلْسَ الْوَلِيِّ هَلْ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالصَّدَاقِ أَوْ لَا؟ فَهَذِهِ الْفُرُوعُ وَمَا شَابَهَهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكَفِّ هَلْ هُوَ فِعْلٌ أَوْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاللُّغَةُ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَعَلَيْهِ: فَالصَّحِيحُ لُزُومُ الضَّمَانِ، فِيمَا ذُكِرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا. لَمَّا شَكَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 الْقُرْآنَ مَهْجُورًا، أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الْآيَةَ [25 \ 31] تَسْلِيَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ: كَمَا جَعَلْنَا الْكُفَّارَ أَعْدَاءً لَكَ يُكَذِّبُونَكَ، وَيَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلُ إِلَيْكَ مَهْجُورًا، كَذَلِكَ الْجَعْلُ: جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، أَيْ: جَعَلْنَا لَكَ أَعْدَاءً، كَمَا جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الْآيَةَ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ الْآيَةَ [6 \ 112] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا، قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى كَفَى اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 41] وَقَوْلُهُ: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا، جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [17 \ 97] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [6 \ 71] وَقَوْلُهُ: وَنَصِيرًا، أَيْ: وَكَفَى بِرَبِّكَ نَصِيرًا، جَاءَ مَعْنَاهُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [3 \ 160] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ الْآيَةَ [17 \ 106] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ، أَيْ: كَذَلِكَ الْإِنْزَالُ مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ أَنْزَلْنَاهُ لَا جُمْلَةً كَمَا اقْتَرَحُوا، وَقَوْلُهُ: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا، لِنُثَبِّتَ فُؤَادَكَ بِإِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لِنُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ عَلَى حِفْظِهِ ; لِأَنَّ حِفْظَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا أَسْهَلُ مِنْ حِفْظِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ تُكَبُّ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وَيُسْحَبُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِيهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [27 \ 90] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ الْآيَةَ [33 \ 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [54 \ 48] وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَزَادَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ «طَهَ» ، أَنَّ الْكَافِرَ يُحْشَرُ أَعْمَى، قَالَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» : وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [17 \ 97] وَقَالَ فِي سُورَةِ «طَهَ» : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا الْآيَةَ [20 \ 124 - 126] . وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ فِي آيَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، وَآيَةِ «طَهَ» الْمَذْكُورَتَيْنِ مَعَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْصِرُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ وَيَسْمَعُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [19 \ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [18 \ 53] فِي سُورَةِ «طَهَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا أَوْجُهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» الْمَذْكُورَةِ. وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا، قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي مِثْلِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [25 \ 15] وَالْمَكَانُ مَحَلُّ الْكَيْنُونَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ حِسِّيًّا وَمَعْنَوِيًّا. فَالْحِسِّيُّ ظَاهِرٌ، وَالْمَعْنَوِيُّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا الْآيَةَ [12 \ 77] وَالسَّبِيلُ الطَّرِيقُ وَتُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ تَذْكِيرِ السَّبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [7 \ 146] وَمِنْ تَأْنِيثِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ الْآيَةَ [12 \ 108] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [19 \ 52] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً. قَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَيْفِيَّةِ إِغْرَاقِهِمْ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [7 \ 64] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا. الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَادًا وَثَمُودَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَوْمَ نُوحٍ، وَأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ مَفْعُولٌ بِهِ لِأَغْرَقْنَا مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» : فَالسَّابِقَ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا ... حَتْمًا مُوَافِقٌ لِمَا قَدْ ذُكِرَا أَيْ: أَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ بِالْغَرَقِ، وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ، وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرَةً بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقُرُونَ الْكَثِيرَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَقَبْلَ أَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَدْ دَلَّتْ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» عَلَى أَنَّ بَعْدَ عَادٍ، وَثَمُودَ، خَلْقًا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا. وَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّهُمْ بَعْدَ عَادٍ وَثَمُودَ يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [14 \ 9] . وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ ذَلِكَ، رَاجِعَةٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ، أَيْ: بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وَرُجُوعُ الْإِشَارَةِ، أَوِ الضَّمِيرِ بِالْإِفْرَادِ مَعَ رُجُوعِهِمَا إِلَى مُتَعَدِّدٍ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ فِي الْإِشَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [2 \ 68] أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [25 \ 67] أَيْ: بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ، وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ: إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدَى ... وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلُ أَيْ: وَكِلَا ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمِنْهُ فِي الضَّمِيرِ قَوْلُ رُؤْبَةَ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ أَيْ: كَأَنَّهُ، أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنْ خُطُوطِ السَّوَادِ وَالْبَلَقِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْبَيْتَ. أَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ فَقَدْ جَاءَتْ قِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُفَصَّلَةً فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّسِّ فَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ تَفْصِيلُ قِصَّتِهِمْ وَلَا اسْمُ نَبِيِّهِمْ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِمْ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ تَرَكْنَاهَا لِأَنَّهَا لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. وَالرَّسُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْبِئْرُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَطْوِيَّةٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : إِنَّهَا الْبِئْرُ الْمَطْوِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْبِئْرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَهُمْ سَائِرُونَ إِلَى أَرْضِهِمْ ... فَيَا لَيْتَهُمْ يَحْفِرُونَ الرِّسَاسَا وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ: سَبَقْتُ إِلَى فُرَطٍ نَاهِلٍ ... تَنَابِلَةٍ يَحْفُرُونَ الرِّسَاسَا وَالرِّسَاسُ فِي الْبَيْتَيْنِ جَمْعُ رَسٍّ، وَهِيَ الْبِئْرُ، وَالرَّسُّ وَادٍ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، جَمْعُ قَرْنٍ، وَهُوَ هُنَا الْجِيلُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي اقْتَرَنُوا فِي الْوُجُودِ فِي زَمَانٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَاضِينَ الْمُهْلَكِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَأَصْحَابِ الرَّسِّ، وَالْقُرُونِ الْكَثِيرَةِ بَيْنَ ذَلِكَ: أَنَّهُ ضَرَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمُ الْأَمْثَالَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الْحَقَّ بِضَرْبِ الْمَثَلِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ الْمَعْقُولُ كَالْمَحْسُوسِ، وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا تَبَّرَ كُلًّا مِنْهُمْ تَتْبِيرًا، أَيْ: أَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا إِهْلَاكًا مُسْتَأْصِلًا، وَالتَّتْبِيرُ: الْإِهْلَاكُ وَالتَّكْسِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [17 \ 7] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ [7 \ 139] أَيْ: بَاطِلٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [71 \ 28] أَيْ: هَلَاكًا، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهُمَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ضَرَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمُ الْأَمْثَالَ، وَأَنَّهُ تَبَّرَهُمْ كُلَّهُمْ تَتْبِيرًا جَاءَا مَذْكُورَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا ضَرْبُهُ الْأَمْثَالَ لِلْكُفَّارِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ [14 \ 44 - 45] . وَأَمَّا تَتْبِيرُهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ لِتَكْذِيبِهَا رُسُلَهَا، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» : وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 94 - 95] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «سَبَأٍ» : وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [34 \ 34] وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [43 \ 23] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ الْآيَةَ [23 \ 44] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إِلَّا قَوْمُ يُونُسَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [10 \ 98] . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [37 \ 148] وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ، لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ هُنَا هَلْ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ أَيْضًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا ضَرَبَهَا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 ضَرَبَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَمْثَالَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لِيَتَفَكَّرُوا بِسَبَبِهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا يَعْقِلُهَا إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي بِهَا قَوْمًا، وَيُضِلُّ بِهَا آخَرِينَ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [2 \ 26] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [39 \ 27] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [59 \ 21] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [29 \ 43] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ الْآيَةَ [22 \ 73] وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا. أَقْسَمَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمْطَرَ عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، وَهِيَ سَذُومُ قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهُمَا أَنَّ اللَّهَ أَمْطَرَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ مَطَرَ السَّوْءِ الَّذِي هُوَ حِجَارَةُ السِّجِّيلِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ أَتَوْا عَلَيْهَا، وَمَرُّوا بِهَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخْرَى. أَمَّا كَوْنُ اللَّهِ أَمْطَرَ عَلَيْهَا الْحِجَارَةَ الْمَذْكُورَةَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [15 \ 74] وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» ، أَنَّ السِّجِّيلَ الْمَذْكُورَ نَوْعٌ مِنَ الطِّينِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [51 \ 32 - 33] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الطِّينَ وَقْعُهُ أَلِيمٌ، شَدِيدٌ مُهْلِكٌ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [26 \ 173] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ الْآيَةَ [15 \ 72 - 74] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 وَأَمَّا كَوْنُهُمْ قَدْ أَتَوْا عَلَى تِلْكَ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137 - 138] وَالْمُرَادُ بِأَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَأَنَّ مُرُورَهُمْ عَلَيْهَا، وَرُؤْيَتَهُمْ لَهَا خَالِيَةً مِنْ أَهْلِهَا لَيْسَ فِيهَا دَاعٍ، وَلَا مُجِيبٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ أَهْلَهَا جَمِيعًا لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ لُوطًا، فِيهِ أَكْبَرُ وَاعِظٍ وَأَعْظَمُ زَاجِرٍ عَنْ تَكْذِيبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِئَلَّا يَنْزِلَ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ، وَبِذَا وَبَّخَهُمْ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِبَارِ بِمَا أُنْزِلَ بِهَا مِنَ الْعَذَابِ ; كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «الصَّافَّاتِ» الْمَذْكُورَةِ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا، فَقَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِبَارِ ; كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ وَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 74 - 76] يَعْنِي: أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ لُوطٍ بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أَيْ: بِطْرِيقٍ مُقِيمٍ، يَمُرُّونَ فِيهِ عَلَيْهَا فِي سَفَرِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا، أَيْ: لَا يَخَافُونَ بَعْثًا وَلَا جَزَاءً، أَوْ لَا يَرْجُونَ بَعْثًا وَثَوَابًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [14 \ 36] وَمَا قَالُوهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى آلِهَتِهِمْ، بَيِّنٌ فِي سُورَةِ «ص» أَنَّ بَعْضَهُمْ أَمَرَ بِهِ بَعْضًا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ الْآيَةَ [38 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، أَيْ: مَهْمَا اسْتَحْسَنَ مِنْ شَيْءٍ وَرَآهُ حَسَنًا فِي هَوَى نَفْسِهِ كَانَ دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُ الْحَجَرَ الْأَبْيَضَ زَمَانًا، فَإِذَا رَأَى غَيْرَهُ أَحْسَنَ مِنْهُ عَبَدَ الثَّانِيَ وَتَرَكَ الْأَوَّلَ، اه مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 وَذَكَرَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» : أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنَ مَرْدَوَيْهِ أَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِبَادَةَ الْكَافِرِ لِلْحَجَرِ الثَّانِي مَكَانَ الْأَوَّلِ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» : وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ الدَّمَ بِالْعِلْهِزِ وَيَعْبُدُونَ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدُوا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، رَمَوْا بِهِ وَعَبَدُوا الْآخَرَ، فَإِذَا فَقَدُوا الْآخَرَ أَمَرُوا مُنَادِيًا فَنَادَى: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ إِلَهَكُمْ قَدْ ضَلَّ فَالْتَمِسُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مُنْذِرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، قَالَ: ذَلِكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ وَلَا بُرْهَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ قَالَ: لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا تَبِعَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، قَالَ: كُلَّمَا هَوَى شَيْئًا رَكِبَهُ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا أَتَاهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ، وَلَا تَقْوًى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَفِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ شِرْكٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْمُنَافِقُ مُشْرِكٌ، إِنَّ الْمُشْرِكَ يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ عَبَدَ هَوَاهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» . وَإِيضَاحُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ، هُوَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ مُطَابِقَةً لِمَا أَمَرَهُ بِهِ مَعْبُودُهُ جَلَّ وَعَلَا، فَإِذَا كَانَتْ جَمِيعُ أَفْعَالِهِ تَابِعَةً لِمَا يَهْوَاهُ، فَقَدْ صَرَفَ جَمِيعَ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ خَالِقُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ إِلَى هَوَاهُ، وَإِذَنْ فَكَوْنُهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ. وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، فَاعْلَمْ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ الْآيَةَ [45 \ 23] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [35 \ 8] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، لَا تَكُونُ أَنْتَ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَيْ: حَفِيظًا تَهْدِيهِ وَتَصْرِفُ عَنْهُ الضَّلَالَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا بِيَدِكَ، وَالَّذِي عَلَيْكَ إِنَّمَا هُوَ الْبَلَاغُ، وَقَدْ بَلَّغْتَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [28 \ 56] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [16 \ 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [39 \ 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [10 \ 99 - 100] وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «فَاطِرٍ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [35 \ 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا أَيْضًا: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ الْآيَةَ [45 \ 23] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. أَمْ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ وَأَشْهَرُ مَعَانِيهَا أَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ مَعْنَى بَلِ الْإِضْرَابِيَّةِ، وَاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ مَعًا، وَالْإِضْرَابُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِهَا هُنَا إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ. وَالْمَعْنَى: بَلْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، أَيْ: لَا تَعْتَقِدْ ذَلِكَ وَلَا تَظُنَّهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعْقِلُونَهُ، أَيْ: لَا يُدْرِكُونَهُ بِعُقُولِهِمْ: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ، أَيْ: مَا هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ، الَّتِي هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الْحَقِّ وَإِدْرَاكِهِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، أَيْ: أَبْعَدُ عَنْ فَهْمِ الْحَقِّ وَإِدْرَاكِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جُعِلُوا أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْأَنْعَامَ تَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا الَّتِي تَعْلِفُهَا وَتَتَعَهَّدُهَا، وَتَعْرِفُ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهَا مِمَّنْ يُسِيءُ إِلَيْهَا، وَتَطْلُبُ مَا يَنْفَعُهَا، وَتَجْتَنِبُ مَا يَضُرُّهَا، وَتَهْتَدِي لِمَرَاعِيهَا وَمَشَارِبِهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقَادُونَ لِرَبِّهِمْ وَلَا يَعْرِفُونَ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ إِسَارَةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ عَدُوُّهُمْ، وَلَا يَطْلُبُونَ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَنَافِعِ، وَلَا يَتَّقُونَ الْعِقَابَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، وَلَا يَهْتَدُونَ لِلْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْمُشَرِّعُ الْهَنِيُّ وَالْعَذْبُ الرَّوِيُّ، اه مِنْهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ، ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [7 \ 179] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْبَقَرَةِ» : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [2 171] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لِخَلْقِهِ اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَالنَّوْمَ سُبَاتًا، وَجَعَلَ لَهُمُ النَّهَارَ نُشُورًا، أَمَّا جَعْلُهُ لَهُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّيْلَ يُغَطِّي جَمِيعَ مَنْ فِي الْأَرْضِ بِظَلَامِهِ صَارَ لِبَاسًا لَهُمْ، يَسْتُرُهُمْ كَمَا يَسْتُرُ اللِّبَاسُ عَوْرَةَ صَاحِبِهِ، وَرُبَّمَا انْتَفَعُوا بِلِبَاسِ اللَّيْلِ كَهُرُوبِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، وَاسْتِتَارِهِ بِهِ حَتَّى يَنْجُوَ مِنْهُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِ لِبَاسِ اللَّيْلِ ; كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ ... تُخْبِرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وَقَاكَ رَدَى الْأَعْدَاءِ تَسْرِي إِلَيْهِمُ ... وَزَارَكَ فِيهِ ذُو الدَّلَالِ الْمُحَجَّبُ وَأَمَّا جَعْلُهُ لَهُمُ النَّوْمَ سُبَاتًا، فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّبَاتِ: الرَّاحَةُ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ ; لِأَنَّ النَّوْمَ يَقْطَعُ الْعَمَلَ النَّهَارِيَّ، فَيَنْقَطِعُ بِهِ التَّعَبُ، وَتَحْصُلُ الِاسْتِرَاحَةُ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : السُّبَاتُ النَّوْمُ وَأَصْلُهُ الرَّاحَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [78 \ 9] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : وَالسُّبَاتُ: الْمَوْتُ، وَالْمَسْبُوتُ: الْمَيِّتُ ; لِأَنَّهُ مَقْطُوعُ الْحَيَاةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا فَسَّرْتَهُ بِالرَّاحَةِ؟ . قُلْتُ: النُّشُورُ فِي مُقَابَلَتِهِ يَأْبَاهُ إِبَاءَ الْعَيُوفِ الْوَرْدَ، وَهُوَ مُرَنَّقٌ، اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَإِيضَاحُ كَلَامِهِ: أَنَّ النُّشُورَ هُوَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، أَيْ: حَيَاةً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَوْتُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسُّبَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّوْمَ سُبَاتًا، وَإِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى النَّوْمِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [6 \ 60] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [39 \ 42] وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : وَالْمَسْبُوتُ الْمَيِّتُ وَالْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ، اه. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ السُّبَاتَ فِي الْآيَةِ الرَّاحَةُ بِسَبَبِ النَّوْمِ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ، قَالُوا: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، أَنَّهُمْ يَنْشُرُونَ فِيهِ لِمَعَايِشِهِمْ، وَمَكَاسِبِهِمْ، وَأَسْبَابِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، أَوْ هُوَ مِنَ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [78 \ 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْقَصَصِ» : وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [28 \ 73] أَيْ: لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بِالنَّهَارِ فِي السَّعْيِ لِلْمَعَاشِ. وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [28 \ 9 - 11] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [28 \ 71 - 73] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ الْآيَةَ [17 \ 12] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [92 \ 1 - 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [91 \ 3 - 4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ بَيَانُ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِهِ، وَنِعْمَتَانِ مِنْ نِعَمِهِ جَلَّ وَعَلَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَةَ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [7 \ 57] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بُشْرًا بِالْبَاءِ. وَآيَةُ «الْأَعْرَافِ» ، وَآيَةُ «الْفُرْقَانِ» الْمَذْكُورَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمَطَرَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [30 \ 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [42 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا. التَّحْقِيقُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ، رَاجِعٌ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَصَدَّرَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَصَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: صَرَّفْنَاهُ، عَائِدٌ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا مَاءَ الْمَطَرِ بَيْنَ النَّاسِ فَأَنْزَلْنَا مَطَرًا كَثِيرًا فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَمَنَعْنَا الْمَطَرَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَنْ بَعْضِ الْبِلَادِ، فَيَكْثُرُ الْخِصْبُ فِي بَعْضِهَا، وَالْجَدْبُ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، وَقَوْلُهُ: لِيَذَّكَّرُوا، أَيْ: صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا، أَيْ: يَتَذَكَّرَ الَّذِينَ أَخْصَبَتْ أَرْضُهُمْ لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيَشْكُرُوا لَهُ، وَيَتَذَكَّرَ الَّذِينَ أَجْدَبَتْ أَرْضُهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، فَيُبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا لِيَرْحَمَهُمْ وَيَسْقِيَهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، أَيْ: كُفْرًا لِنِعْمَةِ مَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، أَشَارَ لَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [56 \ 82] فَقَوْلُهُ: رِزْقَكُمْ، أَيِ: الْمَطَرَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [40 \ 13] وَقَوْلُهُ: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أَيْ: بِقَوْلِكُمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَيَزِيدُ هَذَا إِيضَاحًا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ مُسْتَوْفًى، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمًا عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ أَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّيْلِ: «أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «قَالَ: أَصْبَحَ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِالْبُخَارِ، يَعْنِي أَنَّ الْبَحْرَ يَتَصَاعَدُ مِنْهُ بُخَارُ الْمَاءِ، ثُمَّ يَتَجَمَّعُ ثُمَّ يَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ لَا بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَأَنَّ الْمَطَرَ مِنْهُ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 الْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ، وَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا يَتَوَلَّى مَشَقَّةَ إِنْذَارِهَا عَنْكَ، أَيْ: وَلَكِنَّنَا اصْطَفَيْنَاكَ، وَخَصَصْنَاكَ بِعُمُومِ الرِّسَالَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِكَ، وَرَفْعًا مِنْ مَنْزِلَتِكَ، فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّشَدُّدِ التَّامِّ فِي إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ الْآيَةَ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ اصْطِفَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرِّسَالَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [34 \ 28] وَقَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ الْآيَةَ [11 \ 17] . وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] وَقَوْلُهُ: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْآيَةَ [33 \ 48] وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ الْآيَةَ [18 \ 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [68 \ 10] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْجِهَادُ الْكَبِيرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَصْحُوبُ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً الْآيَةَ [9 \ 123] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [9 \ 73] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُطِيعُ الْكَافِرِينَ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى لِيُشَرِّعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ: مَرَجَ، تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ إِطْلَاقَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَرَجَ بِمَعْنَى: أَرْسَلَ وَخَلَّى، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَجَ دَابَّتَهُ إِذَا أَرْسَلَهَا إِلَى الْمَرَجِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ الدَّوَابُّ ; كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ وَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْنَى: أَرْسَلَ الْبَحْرَيْنِ وَخَلَّاهُمَا لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَالْإِطْلَاقُ الثَّانِي: مَرَجَ بِمَعْنَى: خَلَطَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَيْ: مُخْتَلِطٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَالْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ الْمَاءُ الْعَذْبُ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَالْمَاءُ الْمِلْحُ فِي جَمِيعِهَا. وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ، يَعْنِي: بِهِ مَاءَ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ، أَيِ: الْبَحْرُ الْمِلْحُ، كَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِحَارِ الَّتِي هِيَ مِلْحٌ أُجَاجٌ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا إِشْكَالَ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّ مَرَجَ بِمَعْنَى خَلَطَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ اخْتِلَاطُ الْمَاءِ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، وَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مُحَقَّقُ الْوُجُودِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هُوَ وَاقِعٌ فِيهَا الْمَحَلُّ الَّذِي يَخْتَلِطُ فِيهِ نَهْرُ السِّنْغَالِ بِالْمُحِيطِ الْأَطْلَسِيِّ بِجَنْبِ مَدِينَةِ سَانْ لُوِيسْ، وَقَدْ زُرْتُ مَدِينَةَ سَانْ لُوِيسْ عَامَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ هِجْرِيَّةً، وَاغْتَسَلْتُ مَرَّةً فِي نَهْرِ السِّنْغَالِ، وَمَرَّةً فِي الْمُحِيطِ، وَلَمْ آتِ مَحَلَّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْمُرَافِقِينَ الثِّقَاتِ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى مَحَلِّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَأَنَّهُ جَالِسٌ يَغْرِفُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَذْبًا وَفُرَاتًا، وَبِالْأُخْرَى مِلْحًا أُجَاجًا، وَالْجَمِيعُ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا مَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [35 \ 12] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 [55 \ 19 - 20] أَيْ: لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَمْتَزِجَ بِهِ، وَهَذَا الْبَرْزَخُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْبَحْرِينِ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» وَسُورَةِ «الرَّحْمَنِ» ، قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» أَنَّهُ حَاجِزٌ حَجَزَ بِهِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [27 \ 61] وَهَذَا الْحَاجِزُ هُوَ الْيُبْسُ مِنَ الْأَرْضِ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَالْمَاءِ الْمِلْحِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي: فَهُوَ حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لِلْبَشَرِ، وَأَكَّدَ شِدَّةَ حَجْزِهِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ هُنَا: وَحِجْرًا مَحْجُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: حِجْرًا، أَيْ: مَنْعًا وَحَرَامًا قَدَرِيًّا، وَأَنْ مَحْجُورًا تَوْكِيدٌ لَهُ، أَيْ: مَنْعًا شَدِيدًا لِلِاخْتِلَاطِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذُبَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ فَهُوَ عَذْبٌ. وَقَوْلُهُ: فُرَاتٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا، مِنْ فَرُتَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ، فَهُوَ فُرَاتٌ، إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْعُذُوبَةِ، وَقَوْلُهُ: وَهَذَا مِلْحٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَلُحَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، فَهُوَ مِلْحٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : وَلَا يُقَالُ مَالِحٌ إِلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيَّةٍ، اه. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَوْ تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ ... لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا عَذْبًا وَقَوْلُهُ: أُجَاجٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَجَّ الْمَاءُ يَؤُجُّ أُجُوجًا فَهُوَ أُجَاجٌ، أَيْ: مِلْحٌ مُرٌّ، فَالْوَصْفُ بِكَوْنِهِ أُجَاجًا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَرَارَةِ عَلَى كَوْنِهِ مِلْحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَقَسَّمَ الْبَشَرَ قِسْمَيْنِ، ذَوَيْ نَسَبٍ، أَيْ: ذُكُورًا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَالُ: فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، وَذَوَاتِ صِهْرٍ، أَيْ: إِنَاثًا يُطَاهِرُ بِهِنَّ ; كَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 39] وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا، حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الْوَاحِدَةِ بَشَرًا نَوْعَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، انْتَهَى مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ، يَدُلُّ لَهُ مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 37 - 39] وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ بَيَّنَتْهَا آيَةُ «الْقِيَامَةِ» الْمَذْكُورَةُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. مِنْهَا مَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، فَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَلَدُ نَسِيبٍ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ فَيَصْهِرُ صِهْرًا، وَانْظُرْ بَقِيَّةَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَ «الدَّرِّ الْمَنْثُورِ» لِلسُّيُوطِيِّ. مَسْأَلَةٌ. اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ بِنْتَ الرَّجُلِ مِنَ الزِّنَى، لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَالنَّسَبُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْطِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [4 \ 23] بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ لَهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، وَأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَى بِنْتَ أُمٍّ، وَلَا أُمَّ بِنْتٍ، وَمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْحَلَالِ، لَا يُحَرَّمُ مِنَ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا، وَلَا يُسَاوِيهِمَا، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ مِنْ زِنًى، أَوْ أُخْتَهُ، أَوْ بِنْتَ ابْنِهِ مِنْ زِنًى فَحَرَّمَ ذَلِكَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي «النِّسَاءِ» مُجَوَّدًا، انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَأَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّ الزِّنَى لَا يُحَرَّمُ بِهِ حَلَالٌ، فَبِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ شَرْعًا، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4 \ 11] فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ، وَلَا تَدْخُلُ فِي آيَاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 الْمَوَارِيثِ، دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ بِنْتًا شَرْعًا، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِحَالٍ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهَا مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، يَجْعَلُهَا شَبِيهَةً شَبَهًا صُورِيًّا بِابْنَتِهِ شَرْعًا، وَهَذَا الشَّبَهُ الْقَوِيُّ بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَزَعَهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِشَيْءٍ سَبَبُ وُجُودِهِ مَعْصِيَتُهُ لِخَالِقِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ، لَا يُلَائِمُ التَّلَذُّذَ بِمَا هُوَ نَاشِئٌ عَنْ نَفْسِ الذَّنْبِ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْبِنْتَ مِنَ الزِّنَى لَا تَحْرُمُ، هُوَ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ شَافِعِيًّا قُلْتُ قَالُوا بِأَنَّنِي ... أُبِيحُ نِكَاحَ الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ تَحْرُمُ تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» عَنْ قَتَادَةَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، أَنَّ الصِّهْرَ كَالنَّسَبِ فِي التَّحْرِيمِ، وَأَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْرُمُ بِهِ سَبْعُ نِسَاءٍ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ عَدَمَ ظُهُورٍ ضَعْفُ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا. الظَّهِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْمُعِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [66 \ 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [28 \ 17] . وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا، عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ: وَكَانَ الْكَافِرُ مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ، وَحِزْبِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَالْكَافِرُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْكَافِرُ يُعِينُ الشَّيْطَانَ وَحِزْبَهُ فِي سَعْيِهِمْ ; لِأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ هِيَ الْعُلْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [4 \ 76] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [36 \ 74 - 75] عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجُنْدَ الْمُحْضَرُونَ هُمُ الْكُفَّارُ، يُقَاتِلُونَ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَيُدَافِعُونَ عَنْهَا، وَمَنْ قَاتَلَ عَنِ الْأَصْنَامِ مُدَافِعًا عَنْ عِبَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ، وَكَوْنُهُ ظَهِيرًا عَلَى رَبِّهِ، أَيْ: مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ; كَكَوْنِهِ عَدُوًّا لَهُ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [2 \ 98] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [41 \ 19] وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَوْ تَعَاوَنُوا عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرُّوهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، وَأَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمِثْلِهِ فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [1 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [17 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [7 \ 54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الْآيَةَ [7 \ 54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ، أَيْ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ، تَجَاهَلُوا الرَّحْمَنَ، وَقَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ، وَأَنْكَرُوا السُّجُودَ لَهُ تَعَالَى، وَزَادَهُمْ ذَلِكَ نُفُورًا عَنِ الْإِيمَانِ وَالسُّجُودِ لَلرَّحْمَنِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [41 \ 37] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [53 \ 62] وَقَدْ وَبَّخَهُمْ تَعَالَى عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [84 \ 21] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [77 \ 48] وَتَجَاهُلُهُمْ لِلرَّحْمَنِ هُنَا أَجَابَهُمْ عَنْهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [55 \ 1 - 4] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [17 \ 110] وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّ تَجَاهُلَهُمْ لَهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ، وَأَدِلَّةَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَزَادَهُمْ نُفُورًا، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [17 \ 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [67 \ 21] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا. قَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَبَارَكَ، فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَالْبُرُوجُ فِي اللُّغَةِ: الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْبُرُوجِ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ لِلْحَرَسِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ، هِيَ قُصُورٌ لِلْحَرَسِ فَيَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [67 \ 5] اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : الْبُرُوجُ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ: الْحَمْلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ، سُمِّيَتِ الْبُرُوجُ الَّتِي هِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ ; لِأَنَّهَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ لِسُكَّانِهَا، وَاشْتِقَاقُ الْبُرْجِ مِنَ التَّبَرُّجِ لِظُهُورٍ، اه مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَهُوَ الشَّمْسُ، وَقَمَرًا مُنِيرًا، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [15 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [85 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [78 \ 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [71 \ 15 - 16] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سُرُجًا بِضَمِّ السِّينِ وَالرَّاءِ جَمْعُ سِرَاجٍ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِإِفْرَادِ السِّرَاجِ، فَالْمُرَادُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 بِهِ الشَّمْسُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [71 \ 16] وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِالْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ بِالسُّرُجِ: الشَّمْسُ وَالْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ لَا السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، أَنَّ السَّمَاءَ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا الْبُرُوجُ هِيَ الْمَحْفُوظَةَ، وَالْمَحْفُوظَةُ هِيَ الْمَبْنِيَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [51 \ 47] وَقَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [78 \ 12] وَلَيْسَتْ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ، وَالْبَيَانُ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا الْآيَةَ [15 \ 16 - 17] فَآيَةُ «الْحِجْرِ» هَذِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْبُرُوجِ هِيَ الْمَبْنِيَّةُ الْمَحْفُوظَةُ، لَا مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ، بَيَّنَ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا الْبُرُوجَ ; لِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [25 \ 61] وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ، وَهَذَا الظَّاهِرُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّ الْقَمَرَ فِي فَضَاءٍ بَعِيدٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْهَيْئَةِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَرْصَادَ الْحَدِيثَةَ بَيَّنَتْ ذَلِكَ. قُلْنَا: تَرْكُ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَمَلٌ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا تَاقَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى تَعَلُّمِ هَيْئَةِ الْقَمَرِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالُوا لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَكْبُرُ حَتَّى يَسْتَدِيرَ بَدْرًا؟ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْجَوَابِ بِمَا فِيهِ فَائِدَةٌ لِلْبَشَرِ، وَتَرَكَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [2 \ 189] وَهَذَا الْبَابُ الَّذِي أَرْشَدَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى سَدِّهِ لَمَّا فَتَحَهُ الْكَفَرَةُ كَانَتْ نَتِيجَةُ فَتْحِهِ الْكُفْرَ، وَالْإِلْحَادَ وَتَكْذِيبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَالَّذِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ هُوَ النَّظَرُ فِي غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ الْأَسَاسِيُّ لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّاظِرِينَ فِي الْهَيْئَةِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَرْكُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُقْنِعٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ الصُّعُودَ إِلَى الْقَمَرِ بِآلَاتِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى سَطْحِهِ، سَيَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إِلَى ظُهُورِ حَقَارَتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، وَعَجْزِهِمْ، وَذُلِّهِمْ أَمَامَ قُدْرَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [38 \ 10 - 11] . فَإِنْ قِيلَ: الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الْمَحْفُوظَةِ فِيهَا احْتِمَالٌ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ مَعْرُوفٍ، يَقْتَضِي عَدَمَ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْتَ، وَهُوَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّفْظِ وَحْدَهُ، دُونَ الْمَعْنَى. وَإِيضَاحُهُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا، هِيَ السَّمَاءُ الْمَحْفُوظَةُ، وَلَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، رَاجِعٌ إِلَى مُطْلَقِ لَفْظِ السَّمَاءِ الصَّادِقِ بِمُطْلَقِ مَا عَلَاكَ فِي اللُّغَةِ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، بِمَسْأَلَةِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] أَيْ: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ. قُلْنَا: نَعَمْ، هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ أَقْوَالِ الْكَفَرَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [17 \ 37] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [19 \ 47] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُصَلُّونَ لَهُ، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [39 \ 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [32 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [51 \ 16 - 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَبِيتُونَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: بَاتَ الرَّجُلُ يَبِيتُ، إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، قَالَ زُهَيْرٌ: فَبِتْنَا قِيَامًا عِنْدَ رَأْسِ جَوَادِنَا ... يُزَاوِلُنَا عَنْ نَفْسِهِ وَنُزَاوِلُهْ انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا. الْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَانَ غَرَامًا، أَيْ: كَانَ لَازِمًا دَائِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِكَذَا، أَيْ: لَازِمٌ لَهُ، مُولَعٌ بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [9 \ 68] وَقَوْلِهِ: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [43 \ 75] وَقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [25 \ 77] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [78 \ 30] وَقَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [3 \ 88] وَقَوْلِهِ: وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [35 \ 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [17 \ 97] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [4 \ 56] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْغَرَامُ أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْغَرَامُ الشَّرُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلَاكُ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَوْلُ الْأَعْشَى: إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْ ... طِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 يَعْنِي: يَكُنْ عَذَابُهُ دَائِمًا لَازِمًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ: وَيَوْمُ النِّسَارِ وَيَوْمُ الْجِفَا ... رِ كَانَا عَذابًا وَكَانَا غَرَامَا وَذَلِكَ هُوَ الْأَظْهَرُ أَيْضًا فِي قَوْلِ الْآخَرِ: وَمَا أَكْلَةٌ إِنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ... وَلَا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: وَلَمْ يُقْتِرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ التَّاءِ، مُضَارِعُ أَقْتَرَ الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَلَمْ يَقْتِرُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، مُضَارِعُ قَتَرَ الثُّلَاثِيِّ كَضَرَبَ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَلَمْ يَقْتُرُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، مُضَارِعُ قَتَرَ الثُّلَاثِيِّ كَنَصَرَ، وَالْإِقْتَارُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، وَالْقَتْرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّضْيِيقُ الْمُخِلُّ بِسَدِّ الْخَلَّةِ اللَّازِمُ، وَالْإِسْرَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يُسْرِفُوا، مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِتَوَسُّطِهِمْ فِي إِنْفَاقِهِمْ، فَلَا يُجَاوِزُونَ الْحَدَّ بِالْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَقْتُرُونَ، أَيْ: لَا يُضَيِّقُونَ فَيَبْخَلُونَ بِإِنْفَاقِ الْقَدْرِ اللَّازِمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْإِسْرَافُ فِي الْآيَةِ: الْإِنْفَاقُ فِي الْحَرَامِ وَالْبَاطِلِ، وَالْإِقْتَارُ مَنْعُ الْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا الْآيَةَ، أَيْ: لَيْسُوا مُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ، فَيَصْرِفُوا فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ، فَيُقَصِّرُوا فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُوهُمْ بَلْ عَدْلًا خِيَارًا، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، أَيْ: بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ قَوَامًا أَيْ: عَدْلًا وَسَطًا سَالِمًا مِنْ عَيْبِ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ. وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ عِنْدِي فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: قَوَامًا خَبَرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 كَانَ، وَاسْمُهَا مُقَدَّرٌ فِيهَا، أَيْ: كَانَ الْإِنْفَاقُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ قَوَامًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَبَاقِي أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي ; كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَفْظَةَ بَيْنَ هِيَ اسْمُ كَانَ، وَأَنَّهَا لَمْ تُرْفَعْ لِبِنَائِهَا بِسَبَبِ إِضَافَتِهَا إِلَى مَبْنِيٍّ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ بَيْنَ هِيَ خَبَرُ كَانَ، وَقَوَامًا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا خَبَرَانِ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّوَسُّطَ فِي الْإِنْفَاقِ الَّذِي مَدَحَهُمْ بِهِ شَامِلٌ لِإِنْفَاقِهِمْ عَلَى أَهْلِيهِمْ، وَإِنْفَاقِهِمُ الْمَالَ فِي أَوْجُهِ الْخَيْرِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْصَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ الْآيَةَ [17 \ 29] فَقَوْلُهُ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، أَيْ: مُمْسِكَةً عَنِ الْإِنْفَاقِ إِمْسَاكًا كُلِّيًّا، يُؤَدِّي مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: وَلَمْ يَقْتُرُوا. وَقَوْلُهُ: وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، يُؤَدِّي مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: لَمْ يُسْرِفُوا، وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [17 \ 26] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ الْآيَةَ [2 \ 219] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [2 \ 3] . مَسْأَلَةٌ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا الْآيَةَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَهَا، قَدْ بَيَّنَتْ أَحَدَ رُكْنَيْ مَا يُسَمَّى الْآنَ بِالِاقْتِصَادِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ الِاقْتِصَادِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا رَاجِعَةٌ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ إِلَى أَصْلَيْنِ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا. الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: اكْتِسَابُ الْمَالِ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: صَرْفُهُ فِي مَصَارِفِهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الِاقْتِصَادَ عَمَلٌ مُزْدَوَجٌ، وَلَا فَائِدَةَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إِلَّا بِوُجُودِ الْآخَرِ، فَلَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ أَحْسَنَ النَّاسِ نَظَرًا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 أَوْجُهِ اكْتِسَابِ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّهُ أَخْرَقُ جَاهِلٍ بِأَوْجُهِ صَرْفِهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَالِ يَضِيعُ عَلَيْهِ بِدُونِ فَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَحْسَنَ النَّاسِ نَظَرًا فِي صَرْفِ الْمَالِ فِي مَصَارِفِهِ الْمُنْتِجَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَخْرَقُ جَاهِلٍ بِأَوْجُهِ اكْتِسَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ حُسْنُ نَظَرِهِ فِي الصَّرْفِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ يَصْرِفُهُ، وَالْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ أَرْشَدَتِ النَّاسَ وَنَبَّهَتْهُمْ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الصَّرْفِ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَسَائِلَ الِاقْتِصَادِ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ دَلَّتْ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا وَهُوَ اكْتِسَابُ الْمَالِ أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ دَلَّتْ عَلَى فَتْحِ اللَّهِ الْأَبْوَابَ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْأَوْجُهِ اللَّائِقَةِ، كَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [2 \ 198] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [62 \ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [73 \ 20] وَالْمُرَادُ بِفَضْلِ اللَّهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ رِبْحُ التِّجَارَةِ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [4 \ 29] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْآيَةَ [18 \ 19] أَنْوَاعَ الشَّرِكَاتِ وَأَسْمَاءَهَا، وَبَيَّنَّا مَا يَجُوزُ مِنْهَا، وَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَوْضَحْنَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِهِ، وَمَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ كَثْرَةَ الطُّرُقِ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْأَوْجُهِ الشَّرْعِيَّةِ اللَّائِقَةِ. وَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ الِاقْتِصَادِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلَيْنِ، هُمَا: اكْتِسَابُ الْمَالِ، وَصَرْفُهُ فِي مَصَارِفِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرَيْنِ ضَرُورِيَّيْنِ لَهُ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يُبِحِ اكْتِسَابَ الْمَالِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَالَ، بَلْ أَبَاحَ بَعْضَ الطُّرُقِ، وَحَرَّمَ بَعْضَهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [2 \ 275] وَلَمْ يُبِحِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا صَرْفَ الْمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ أَبَاحَ بَعْضَ الصَّرْفِ وَحَرَّمَ بَعْضَهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [2 \ 261] وَقَالَ تَعَالَى فِي الصَّرْفِ الْحَرَامِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 الْآيَةَ [8 \ 36] فَمَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ وَفِي صَرْفِهِ فِي مَصَارِفِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ قَدْ يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ، وَالْمَالُ الْمُكْتَسَبُ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ، لَا خَيْرَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَقَدْ يُصْرَفُ الْمَالُ فِي وَجْهٍ حَرَامٍ، وَصَرْفُهُ فِي ذَلِكَ حَسْرَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ مَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ الْكَفِيلَةِ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ، فَقَدْ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مثلًا أَنَّ التِّجَارَةَ فِي النَّوْعِ الْفُلَانِيِّ مُبَاحَةٌ شَرْعًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَوْجُهَ التَّصَرُّفِ بِالْمَصْلَحَةِ الْكَفِيلَةِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَكَمْ مِنْ مُتَصَرِّفٍ يُرِيدُ الرِّبْحَ، فَيَعُودُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ بِالْخُسْرَانِ، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأَوْجُهِ الَّتِي يُحَصِّلُ بِهَا الرِّبْحَ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ الصَّرْفَ فِي الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ مُبَاحٌ، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّرْفِ الْمَذْكُورِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْمَشَارِيعِ الْكَثِيرَةِ النَّفْعِ إِنْ صَرَفَ فِيهَا الْمَالَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ جَوَازَ الصَّرْفِ فِيهَا مَعْلُومٌ، وَإِيقَاعُ الصَّرْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ النَّاسِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ أُصُولَ الِاقْتِصَادِ الْكِبَارَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُكْتَسَبُ بِهِ الْمَالُ، وَاجْتِنَابُ الِاكْتِسَابِ بِهِ، إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا شَرْعًا. الثَّانِي: حُسْنُ النَّظَرِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا يُبِيحُهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا لَا يُبِيحُهُ. الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْأَوْجُهِ الَّتِي يُصْرَفُ فِيهَا الْمَالُ، وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا. الرَّابِعُ: حُسْنُ النَّظَرِ فِي أَوْجُهِ الصَّرْفِ، وَاجْتِنَابُ مَا لَا يُفِيدُ مِنْهَا، فَكُلُّ مَنْ بَنَى اقْتِصَادَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُسُسِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ اقْتِصَادُهُ كَفِيلًا بِمَصْلَحَتِهِ، وَكَانَ مُرْضِيًّا لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَمَنْ أَخَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُسُسِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ بِالطُّرُقِ الَّتِي لَا يُبِيحُهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فَلَا خَيْرَ فِي مَالِهِ، وَلَا بَرَكَةَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [2 \ 276] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ الْآيَةَ [5 \ 100] . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى مَسَائِلِ الرِّبَا فِي آيَةِ الرِّبَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى أَنْوَاعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 الشَّرِكَاتِ وَأَسْمَائِهَا، وَبَيَّنَّا مَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوزُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْآيَةَ [18 \ 19] . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُلْزِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا التَّعَاوُنَ عَلَى اقْتِصَادٍ يُجِيزُهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونُ كَفِيلًا بِمَعْرِفَةِ طُرُقِ تَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْأَوْجُهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَصَرْفِهِ فِي مَصَارِفِهِ الْمُنْتِجَةِ الْجَائِزَةِ شَرْعًا ; لِأَنَّ الِاقْتِصَادَ الْمَوْجُودَ الْآنَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا لَا يُبِيحُهُ الشَّرْعُ الْكَرِيمُ، لِأَنَّ الَّذِينَ نَظَّمُوا طُرُقَهُ لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَمُعَامَلَاتُ الْبُنُوكِ وَالشَّرِكَاتِ لَا تَجِدُ شَيْئًا مِنْهَا يَجُوزُ شَرْعًا، لِأَنَّهَا إِمَّا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَاتٍ رِبَوِيَّةٍ، أَوْ عَلَى غَرَرٍ، لَا تَجُوزُ مَعَهُ الْمُعَامَلَةُ كَأَنْوَاعِ التَّأْمِينِ الْمُتَعَارَفَةِ عِنْدَ الشَّرِكَاتِ الْيَوْمَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّكَ لَا تَكَادُ تَجِدُ شَيْئًا مِنْهَا سَالِمًا مِنَ الْغَرَرِ، وَتَحْرِيمُ بَيْعِ الْغَرَرِ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي إِبَاحَةَ أَنْوَاعِ التَّأْمِينِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الشَّرِكَاتِ، مِنَ الْمُعَاصِرِينَ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ، بَلِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا. أَيْ: إِذَا مَرُّوا بِأَهْلِ اللَّغْوِ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِهِ مَرُّوا مُعْرِضِينَ عَنْهُمْ كِرَامًا مُكْرِمِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْخَوْضِ مَعَهُمْ فِي لَغْوِهِمْ، وَهُوَ كُلُّ كَلَامٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا بِقَوْلِهِ: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [28 \ 55] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مُعَامَلَةِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ لِلْجَاهِلِينَ، فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [19 \ 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْخُرُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ لَهُ، وَنَفْيٌ لِلصَّمَمِ وَالْعَمَى ; كَمَا تَقُولُ: لَا يَلْقَانِي زَيْدٌ مُسَلِّمًا، وَهُوَ نَفْيٌ لِلسَّلَامِ لَا لِلِّقَاءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَكَبُّوا عَلَيْهَا، حِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِهَا وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمُذَكِّرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 بِهَا، وَهُمْ فِي إِكْبَابِهِمْ عَلَيْهَا سَامِعُونَ بِآذَانٍ وَاعِيَةٍ مُبْصِرُونَ بِعُيُونٍ رَاعِيَةٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَتَيْنِ: دَلَالَةٌ بِالْمَنْطُوقِ، وَدَلَالَةٌ بِالْمَفْهُومِ، فَقَدْ دَلَّتْ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحِمَنِ، أَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا، لَمْ يَكِبُّوا عَلَيْهَا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ صُمًّا عَنْ سَمَاعِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ، وَعُمْيَانًا عَنْ إِبْصَارِهِ، بَلْ هُمْ يَكُبُّونَ عَلَيْهَا سَامِعِينَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ مُبْصِرِينَ لَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا الْآيَةَ [8 \ 2] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ هَذَا الْقُرْآنِ، فَزَادَتْهُ إِيمَانًا أَنَّهُ لَمْ يَخِرَّ عَلَيْهَا أَصَمَّ أَعْمَى ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [9 \ 124] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [39 \ 23] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ أَيْضًا بِمَفْهُومِهَا أَنَّ الْكَفَرَةَ الْمُخَالِفِينَ، لِعِبَادِ الرَّحِمَنِ الْمَوْصُوفِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ خَرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يُبْصِرُونَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهَا أَصْلًا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِمَفْهُومِهَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «لُقْمَانَ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [31 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْجَاثِيَةِ» : وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [45 \ 7 - 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ الْآيَةَ [9 \ 124 - 125] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مَعْنَى خُرُورِ الْكُفَّارِ عَلَى الْآيَاتِ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ صُمًّا وَعُمْيَانًا، هُوَ إِكْبَابُهُمْ عَلَى إِنْكَارِهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا، خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَالصُّمُّ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 الْآيَةِ جَمْعُ أَصَمَّ، وَالْعُمْيَانُ جَمْعُ أَعْمَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا. الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُرْفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جِنْسُهَا الصَّادِقُ بِغُرَفٍ كَثِيرَةٍ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [34 \ 37] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الْآيَةَ [39 \ 20] . وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» ، وَفِي غَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [10 \ 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [18 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا. الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ، يَقُولُونَ: مَا عَبَأْتُ بِفُلَانٍ، أَيْ: مَا بَالَيْتُ بِهِ، وَلَا اكْتَرَثْتُ بِهِ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُ عِنْدِي وَزْنٌ، وَلَا قَدْرٌ يَسْتَوْجِبُ الِاكْتِرَاثَ وَالْمُبَالَاةَ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِبْءِ وَهُوَ الثِّقَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ يَصِفُ أَسَدًا: كَانَ بِنَحْرِهِ وَبِمَنْكِبَيْهِ ... عَبِيرًا بَاتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ وَقَوْلُهُ: يَعْبَؤُهُ، أَيْ: يَجْعَلُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ لِمُبَالَاتِهِ بِهِ وَاكْتِرَاثِهِ بِهِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، هَلْ هُوَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، أَوْ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَالْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ دَاعُونَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 لَا مَدْعُوُّونَ، أَيْ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: عِبَادَتُكُمْ لَهُ. وَأَمَّا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَالْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ مَدْعُوُّونَ لَا دَاعُونَ، أَيْ: مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْمَصْدَرِ فِيهَا مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ. وَالرَّابِعُ: مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى مَفْعُولِهِ. أَمَّا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ. فَالْأَوَّلُ مِنْهَا أَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: عِبَادَتُكُمْ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَفْرَدَ الْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ الْآيَةَ. وَالثَّانِي مِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ لَهُ وَحْدَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، أَيْ: وَلَوْ كُنْتُمْ تَرْجِعُونَ إِلَى شِرْكِكُمْ، إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي، أَيْ: مَا يَصْنَعُ بِعَذَابِكُمْ، لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ فِيهِ تَقْدِيرَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. أَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ الْمَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، أَيْ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا، قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، وَسَنُبَيِّنُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلَ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ ذِكْرِ مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَرْجَحُهَا. أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الْمَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [1 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18 \ 7] وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْمُلْكِ» : الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 2] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ أَوْضَحَتْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَجَمِيعَ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، هِيَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَيَبْتَلِيَهُمْ، أَيْ: أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. وَهَذِهِ الْآيَاتُ تُبَيِّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِيضَاحٌ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَابْتِلَاؤُكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا) دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ، أَيْ: وَقَدْ دَعَاكُمْ فَكَذَّبْتُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَهُوَ قَوِيٌّ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: إِخْلَاصُكُمُ الدُّعَاءَ لَهُ أَيُّهَا الْكُفَّارُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [29 \ 65] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [20 \ 22] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَةَ [17 \ 67] وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ هُوَ مَعْنَى آيَةِ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَصْنَعُ بِعَذَابِكُمْ، لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى ; فَقَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ الْآيَةَ [4 \ 147] . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَكْثَرُهَا قَائِلًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: عِبَادَتُكُمْ لَهُ وَحْدَهُ، قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمَا أَعَدَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ، وَكَثْرَتُهَا مَعْلُومَةٌ لَا خَفَاءَ بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ (مَا) ، فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 الْعِلْمِ: هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ نَافِيَةٌ وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: دُعَاؤُكُمْ إِيَّايَ لِأَغْفِرَ لَكُمْ، وَأُعْطِيَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ: بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [25 \ 65] أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، أَيْ: سَوْفَ يَكُونُ الْعَذَابُ مُلَازِمًا لَهُمْ غَيْرَ مُفَارِقٍ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ اللَّازِمِ لَهُمُ الْمُعَبَّرِ عَنْ لُزُومِهِ لَهُمْ، بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، أَنَّهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّهُمْ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ، وَالَّذِينَ قُتِلُوا مِنْهُمْ أَصَابَهُمْ عَذَابُ الْقَتْلِ، وَاتَّصَلَ بِهِ عَذَابُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ فَهُوَ مُلَازِمٌ لَا يُفَارِقُهُمْ بِحَالٍ، وَكَوْنُ اللِّزَامِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ يَوْمَ بَدْرٍ، نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، انْتَهَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» عَنْ أَكْثَرِ الْمَذْكُورِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، قَالُوا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى [32 \ 21] أَيْ: يَوْمَ بَدْرٍ، دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [32 \ 21] أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [44 \ 16] وَأَنَّهُ هُوَ الْفُرْقَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [8 \ 41] وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ النَّصْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ الْآيَةَ [3 \ 123] وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَوْمَ بَدْرٍ ثَبَتَ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ الْبَدَوِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي الْكَلَامِ عَلَى بَدْرٍ، وَقَدْ أَتَى مُنَوَّهًا فِي الذِّكْرِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 لِأَنَّهُ الْعَذَابُ وَاللِّزَامُ ... وَأَنَّهُ الْبَطْشُ وَالِانْتِقَامُ وَأَنَّهُ الْفُرْقَانُ بَيْنَ الْكُفْرِ ... وَالْحَقِّ وَالنَّصْرِ سَجِيسَ الدَّهْرِ. وَمَعْنَى سَجِيسَ الدَّهْرِ، أَيْ: مَدَّتَهُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ عِنْدِي، هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهَا مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ لِجَرَيَانِهِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ قَتَادَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الشُّعَرَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 \ 6] وَفِي آخِرِ سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [15 \ 88] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [15 \ 97] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) . أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ مَا أَنْبَتَ فِي الْأَرْضِ، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، أَيْ ; صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، فِيهِ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَإِنْبَاتَ النَّبَاتِ فِيهَا بَعْدَ عَدَمِهِ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ، إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 21 - 22] وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [16 \ 10 - 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [19 \ 52] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّى أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، أَيْ: بِسَبَبِ أَنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا، وَفَرَرْتُ مِنْهُمْ لَمَّا خِفْتُ أَنْ يَقْتُلُونِي بِالْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلْتُهُ مِنْهُمْ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى التَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [28 \ 33] ; لِأَنَّ مَنْ يَخَافُ الْقَتْلَ فَهُوَ يَتَوَقَّعُ التَّكْذِيبَ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي، أَيْ: مِنْ أَجْلِ الْعُقْدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [20 \ 27 - 28] قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «طَهَ» ، هَذِهِ بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَبْحَثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [19 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) . لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الذَّنْبَ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الذَّنْبَ الْمَذْكُورَ هُوَ قَتْلُهُ لِصَاحِبِهِمُ الْغَبْطِيِّ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِالْقَتْلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [28 \ 33] فَقَوْلُهُ: قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [26 \ 14] وَلِذَا رَتَّبَ بِالْفَاءِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ: فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى قِصَّةَ قَتْلِ مُوسَى لَهُ بِقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [28 \ 15] وَقَوْلُهُ: فَقَضَى عَلَيْهِ، أَيْ: قَتَلَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الذَّنْبُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ «الشُّعَرَاءِ» هَذِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ غَفَرَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى ذَلِكَ الذَّنْبَ الْمَذْكُورَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ الْآيَةَ [28 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ. صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ، لِلتَّعْظِيمِ، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ رَدِّهِ عَلَى مُوسَى خَوْفَهُ الْقَتْلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، بِحَرْفِ الزَّجْرِ الَّذِي هُوَ كَلَّا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ هُوَ وَأَخُوهُ بِآيَاتِهِ مُبَيِّنًا لَهُمَا أَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ، أَيْ: وَهِيَ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَأَنَّهُ مُسْتَمِعٌ لِكُلِّ مَا يَقُولُ لَهُمْ فِرْعَوْنُ، أَوْضَحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [20 \ 46] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [28 \ 35] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِ الْعَالَمِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، وَ «طَهَ» ، وَبَيَّنَّا فِي سُورَةِ «طَهَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ [20 \ 47] وَجْهَ تَثْنِيَتِهِ الرَّسُولَ فِي «طَهَ» ، وَإِفْرَادِهِ هُنَا فِي «الشُّعَرَاءِ» ، مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا. تَرْبِيَةُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى هَذِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَهُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَ مَبْدَؤُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [28 \ 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي الْآيَةَ [20 \ 39] . قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ. أَبْهَمَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْفِعْلَةَ الَّتِي فَعَلَهَا لِتَعْبِيرِهِ عَنْهَا بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي فَعَلْتَ، وَقَدْ أَوْضَحَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ قَتْلُهُ نَفْسًا مِنْهُمْ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [28 \ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا الْآيَةَ [28 \ 33] وَقَوْلِهِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِمُوسَى مَرَّتَيْنِ: قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [28 \ 19] . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُفْرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 النِّعْمَةِ، يَعْنِي أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ بِتَرْبِيَتِنَا إِيَّاكَ صَغِيرًا، وَإِحْسَانِنَا إِلَيْكَ تَتَقَلَّبُ فِي نِعْمَتِنَا فَكَفَرْتَ نِعْمَتَنَا، وَقَابَلْتَ إِحْسَانَنَا بِالْإِسَاءَةِ لِقَتْلِكَ نَفْسًا مِنَّا، وَبَاقِيَ الْأَقْوَالِ تَرَكْنَاهُ ; لِأَنَّ هَذَا أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: رَدَّ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ، بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 \ 25] يَعْنِي: تَعْبِيدَكَ لِقَوْمِي، وَإِهَانَتَكَ لَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ إِحْسَانُكَ إِلَيَّ لِأَنِّي رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. أَيْ: قَالَ مُوسَى مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا، أَيْ: إِذْ فَعَلْتُهَا وَأَنَا فِي ذَلِكَ الْحِينِ مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: قَبْلَ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَيَّ، وَيَبْعَثَنِي رَسُولًا، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ جَاهِلًا، أَيْ: غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ لَفْظَ الضَّلَالِ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ: الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ: يُطْلَقُ الضَّلَالُ مُرَادًا بِهِ الذَّهَابُ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، فَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ مَنْ ذَهَبَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ شَيْءٍ ضَلَّ عَنْهُ، وَهَذَا الضَّلَالُ ذَهَابٌ عَنْ عِلْمِ شَيْءٍ مَا، وَلَيْسَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الدِّينِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ هُنَا: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: مِنَ الذَّاهِبِينَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْعُلُومِ، وَالْأَسْرَارِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، لِأَنِّي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ، وَمِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [93 \ 3] أَيْ: ذَاهِبًا عَمَّا عَلَّمَكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِالْوَحْيِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20 \ 52] فَقَوْلُهُ: لَا يَضِلُّ رَبِّي، أَيْ: لَا يَذْهَبُ عَنْهُ عَلْمُ شَيْءٍ كَائِنًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 مَا كَانَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] فَقَوْلُهُ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، أَيْ: تَذْهَبَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [22 \ 8] وَقَوْلُهُ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [12 \ 95] عَلَى التَّحْقِيقِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلًا أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ وَالْإِطْلَاقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ هُوَ إِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الذَّهَابِ عَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1 \ 7] . وَالْإِطْلَاقُ الثَّالِثُ: هُوَ إِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الْغَيْبُوبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَلَّ الشَّيْءُ إِذَا غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ، إِذَا غَابَ فِيهِ وَاضْمَحَلَّ، وَلِأَجْلِ هَذَا سَمَّتِ الْعَرَبُ الدَّفْنَ فِي الْقَبْرِ إِضْلَالًا ; لِأَنَّ الْمَدْفُونَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ فَيَغِيبُ فِيهَا وَيَضْمَحِلُّ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [32 \ 10] يَعْنُونَ: إِذَا دُفِنُوا وَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ، فَضَلُّوا فِيهَا، أَيْ: غَابُوا فِيهَا وَاضْمَحَلُّوا. وَمِنْ إِطْلَاقِهِمُ الْإِضْلَالَ عَلَى الدَّفْنِ، قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ يَرْثِي النُّعْمَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيَّ: فَإِنْ تُحْيَ لَا أَمْلِكْ حَيَاتِي وَإِنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ وَقَوْلُ الْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ يَرْثِي قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ: أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيدَهَا ... وَفَارِسَهَا فِي الدَّهْرِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمِ فَقَوْلُ الذُّبْيَانِيِّ: فَآبَ مُضِلُّوهُ، يَعْنِي: فَرَجَعَ دَافِنُوهُ، وَقَوْلُ السَّعْدِيِّ: أَضَلَّتْ، أَيْ: دَفَنَتْ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الضَّلَالِ أَيْضًا عَلَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْيِدٍ ... قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ ... عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلضَّلَالِ إِطْلَاقًا رَابِعًا، قَالَ: وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَحَبَّةِ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [12 \ 95] قَالَ: أَيْ فِي حُبِّكَ الْقَدِيمِ لِيُوسُفَ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هَذَا الضَّلَالُ أَشَابَ مِنِّي الْمَفْرِقَا ... وَالْعَارِضَيْنِ وَلَمْ أَكُنْ مُتَحَقِّقًا عَجَبًا لِعِزَّةٍ فِي اخْتِيَارِ قَطِيعَتِي ... بَعْدَ الضَّلَالِ فَحَبْلُهَا قَدْ أُخْلِقَا وَزَعَمَ أَيْضًا أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا [93 \ 7] قَالَ: أَيْ مُحِبٌّ لِلْهِدَايَةِ فَهَدَاكَ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ. خَوْفُهُ مِنْهُمْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِفِرَارِهِ مِنْهُمْ، قَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ سَبَبَهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [28 \ 20 - 21] وَبَيَّنَ خَوْفَهُ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْآيَةَ [28 \ 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا، قَالَ بَعْضُهُمُ: الْحُكْمُ هُنَا هُوَ النُّبُوَّةُ، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ ذَلِكَ السُّدِّيُّ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِالْوَحْيِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى [20 \ 49] وَقَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 \ 38] وَقَوْلُهُ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 \ 29] وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى، تَجَاهُلُ عَارِفٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [17 \ 102] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [27 \ 14] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَفِي سُورَةِ «طَهَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى [20 \ 49] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «طَهَ» وَ «الْأَعْرَافِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [26 \ 69 - 77] . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ الْآيَاتِ [19 \ 41] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [17 \ 63] وَفِي «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [15 \ 43 - 44] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَخْتَصِمُونَ فِيهَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [38 \ 59 - 64] . وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [7 \ 38] وَفِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا الْآيَةَ [2 \ 166] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [6 \ 1] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [2 \ 48] وَفِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا الْآيَةَ [7 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا، لِأَنَّ (لَوْ) فِي قَوْلِهِ هُنَا: فَلَوْ أَنَّ لَنَا لِلتَّمَنِّي، وَالْكَرَّةُ هُنَا: الرَّجْعَةُ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ، فِيمَا جَاءَتْ بِهِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا تَمَنِّيهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] . وَأَمَّا زَعْمُهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 أَنَّهُمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا آمَنُوا، فَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [6 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» وَفِي غَيْرِهَا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [26 \ 109 - 127 - 145 - 164 - 180] فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ. وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [11 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [11 \ 29 - 30] . وَأَوْضَحْنَاهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، إِلَى قَوْلِهِ: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [6 \ 25] وَفِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [18 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا عَنْ نُوحٍ: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [71 \ 5 - 7] وَقَوْلُهُ هُنَا: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي سَأَلَ رَبَّهُ إِيَّاهُ هُوَ إِهْلَاكُ الْكُفَّارِ، وَإِنْجَاؤُهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [54 \ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [71 \ 26] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ هُنَا عَنْ نُوحٍ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَجَابَ دُعَاءَهُ هَذَا ; كَقَوْلِهِ هُنَا: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [29 \ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [37 \ 75 - 76] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ هُنَا: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [29 \ 14] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [11 \ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمَشْحُونُ: الْمَمْلُوءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ: شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ وَالْفُلْكُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ جَازَ تَذْكِيرُهُ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَإِنْ جُمِعَ أُنِّثَ، وَالْمُرَادُ بِالْفُلْكِ هُنَا السَّفِينَةُ ; كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [29 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ هُمْ مَدْيَنُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَتْهَا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ قِصَّةَ شُعَيْبٍ مَعَ مَدْيَنَ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ قَالَ هُنَا لِأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [26 \ 181 - 183] وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ لِمَدْيَنَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [11 \ 84 - 86] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، قَوْلَنَا: فَإِنْ قِيلَ الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «الْأَعْرَافِ» أَنَّهُ رَجْفَةٌ، وَذَكَرَ فِي «هُودٍ» أَنَّهُ صَيْحَةٌ، وَذَكَرَ فِي «الشُّعَرَاءِ» ، أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ، أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٌ وَوَهَجٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ، انْتَهَى. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شُعَيْبًا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّتَيْنِ: مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَأَنَّ مَدْيَنَ لَيْسُوا هُمْ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ، فَلَا إِشْكَالَ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [25 \ 78 - 79] وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ أَنَّ نَافِعًا، وَابْنَ عَامِرٍ، وَابْنَ كَثِيرٍ قَرَأُوا لَيْكَةَ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، وَسُورَةِ «ص» ، بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ، وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ آخِرَهَا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَلَا تَعْرِيفٍ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَأَنَّ الْبَاقِينَ قَرَأُوا: (الْأَيْكَةِ) بِالتَّعْرِيفِ وَالْهَمْزِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فِي «ق» وَ «الْحِجْرِ» ، وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ تَوْجِيهَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي «الشُّعَرَاءِ» وَ «ص» ، وَمَعْنَى (الْأَيْكَةِ) فِي اللُّغَةِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ. الْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [36 \ 62] وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِآيَةِ «يس» ، الْمَذْكُورَةِ عَلَى آيَةِ «الشُّعَرَاءِ» هَذِهِ ابْنُ زَيْدٍ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. أَكَّدَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِهِ، وَأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقُرْآنِ تَنْزِيلَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَدْ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [56 \ 77 - 79] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [69 \ 41 - 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا [20 \ 1 - 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [45 \ 2] وَقَوْلِهِ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا الْآيَةَ [41 \ 1 - 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [36 \ 1 - 6] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 97] وَقَوْلُهُ: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، أَيْ: نَزَلَ بِهِ عَلَيْكَ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِهِ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ الْآيَةَ [7 \ 1 - 2] أَيْ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ الْآيَةَ [36 \ 5 - 6] . وَقَوْلُهُ: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا الْآيَةَ [41 \ 3] . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِشَوَاهِدِهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى إِنْزَالِ جِبْرِيلَ الْقُرْآنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 عَلَى قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 97] . قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، مَعَ مَا يُوَضِّحُهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ الْآيَةَ [16 \ 103] . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ صَوْتٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ أَعْجَمَ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ عَاقِلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ يَذْكُرُ صَوْتَ حَمَامَةٍ: فَلَمْ أَرَ مِثْلِي شَاقَهُ صَوْتُ مِثْلِهَا ... وَلَا عَرَبِيًّا شَاقَهُ صَوْتُ أَعَجَمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَوْلُهُ: سَلَكْنَاهُ، أَيْ: أَدْخَلْنَاهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [11 \ 40] وَالضَّمِيرُ فِي سَلَكْنَاهُ، قِيلَ: لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقِيلَ: لِلتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [26 \ 199] وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، هُمُ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ ; كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] وَقَدْ أَوْضَحْنَا شِدَّةَ تَعَنُّتِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْلُهُ: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَذَلِكَ السَّلْكُ، أَيِ: الْإِدْخَالُ، سَلَكْنَاهُ، أَيْ: أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، وَإِيضَاحُهُ عَلَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ عَلَى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، فَسَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ لِأَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ، وَدَخَلَتْ مَعَانِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ; لِأَنَّ كَلِمَةَ الْعَذَابِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَلَكْنَاهُ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، يَدُلُّ عَلَى إِدْخَالِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ: كَذَلِكَ السَّلْكُ سَلَكْنَاهُ، إِلَخْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ. لَفْظَةُ: هَلْ هُنَا يُرَادُ بِهَا التَّمَنِّي، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا التَّأْخِيرَ وَالْإِنْظَارَ، أَيِ: الْإِمْهَالَ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى طَلَبِهِمْ ذَلِكَ صَرِيحًا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا إِلَى مَا طَلَبُوا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [14 \ 44] وَأَوْضَحَ أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [21 \ 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [44 \ 29] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الْآيَةَ [13 \ 6] وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [10 \ 50 - 51] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [2 \ 96] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [10 \ 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 40] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: ذِكْرَى، أَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ ذِكْرَى، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَنْصُوبًا، وَفِي إِعْرَابِهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ أَوْجُهٌ: مِنْهَا أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ، مِنْ قَوْلِهِ: مُنْذِرُونَ، لِأَنَّ أَنْذَرَ وَذَكَرَ مُتَقَارِبَانِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: مُنْذِرُونَ مِنْ أَجْلِ الذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذْكِرَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُنْذِرُونَ، أَيْ: يُنْذِرُونَهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ ذَوِي تَذْكِرَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا الْآيَةَ [15 \ 16 - 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. قَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] بِالدَّلِيلِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَاطَبُ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [17 \ 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. هَذَا الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِنْذَارِهِ خُصُوصَ عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ، لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالْإِنْذَارِ الْعَامِّ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [5 \ 54] وَفِي «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] وَقَدْ وَعَدْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [17 \ 23] بِأَنَّا نُوَضِّحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّلِّ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا وَفَاؤُنَا بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَيَكْفِينَا فِي الْوَفَاءِ بِهِ أَنْ نَنْقُلَ كَلَامَنَا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ: «مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ» . فَقَدْ قُلْنَا فِيهَا، مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [17 \ 24] أَنَّ الْجَنَاحَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّ الْجَنَاحَ يُطْلَقُ لُغَةً حَقِيقَةً عَلَى يَدِ الْإِنْسَانِ وَعَضُدِهِ وَإِبِطِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [28 \ 32] وَالْخَفْضُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ مُرِيدَ الْبَطْشِ يَرْفَعُ جَنَاحَيْهِ، وَمَظْهَرُ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ يَخْفِضُ جَنَاحَيْهِ، فَالْأَمْرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْوَالِدَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ لِينِ الْجَانِبِ لَهُمَا، وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا ; كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِطْلَاقُ الْعَرَبِ خَفْضَ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنِ التَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَا ... حِ فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا وَأَمَّا إِضَافَةُ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ، فَلَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَاخْفِضْ لَهُمَا الْجَنَاحَ الذَّلِيلَ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَوِ الذَّلُولَ عَلَى قِرَاءَةِ الذُّلِّ بِالْكَسْرِ، وَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي تَمَّامٍ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمَلَامِ فَإِنَّنِي ... صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: صُبَّ لِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمَلَامِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَتَيْتَنِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِ الذُّلِّ صَبَبْتُ لَكَ شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمَلَامِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا خَفْضُ الْجَنَاحِ الْمُتَّصِفِ بِالذُّلِّ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِهِمَا، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ كَحَاتِمِ الْجُودِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: مَطَرَ السَّوْءِ [25 \ 40] وَعَذَابَ الْهُونِ [6 \ 93] أَيْ: مَطَرَ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ الْمَوْصُوفَ بِسَوْئِهِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ الْمَوْصُوفَ بِهَوْنِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَالْمُسَوِّغُ لِإِضَافَةِ خُصُوصِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ مَعَ أَنَّ الذُّلَّ مِنْ صِفَةِ الْإِنْسَانِ لَا مِنْ صِفَةِ خُصُوصِ الْجَنَاحِ، أَنَّ خَفْضَ الْجَنَاحِ كُنِّيَ بِهِ عَنْ ذُلِّ الْإِنْسَانِ، وَتَوَاضُعِهِ وَلِينِ جَانِبِهِ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً بِهِمَا، وَإِسْنَادُ صِفَاتِ الذَّاتِ لِبَعْضِ أَجْزَائِهَا مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَإِسْنَادِ الْكَذِبِ وَالْخَطِيئَةِ إِلَى النَّاصِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [96 \ 16] وَكَإِسْنَادِ الْخُشُوعِ وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ إِلَى الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [88 \ 2 - 3] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «الصَّوَاعِقِ» : إِنَّ مَعْنَى إِضَافَةِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ أَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا مَعْنَوِيًّا يُنَاسِبُهُ لَا جَنَاحَ رِيشٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، انْتَهَى. وَفِيهِ إِيضَاحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إِضَافَةَ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ ; كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ قُلْتَ: الْمُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ، فَمَا قَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَنْ يُسَمِّيَهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ مُؤْمِنِينَ، لِمُشَارَفَتِهِمْ ذَلِكَ. وَأَنْ يُرِيدَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ صَدَّقَ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَصِنْفٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إِلَّا التَّصْدِيقُ فَحَسْبُ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ أَوْ فَاسِقِينَ، وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ، لَا يُخْفَضُ لَهُمَا الْجَنَاحُ. وَالْمَعْنَى: الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَشِيرَتِكَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ: أَنْذِرْ قَوْمَكَ فَإِنِ اتَّبَعُوكَ وَأَطَاعُوكَ، فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَإِنْ عَصَوْكَ وَلَمْ يَتَّبِعُوكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّوْكِيدِ يَكْثُرُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 167] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [2 \ 79] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [6 \ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [2 \ 109] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَتَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، وَذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، قَالَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْنَى: وَتَقَلُّبَكَ فِي أَصْلَابِ آبَائِكَ السَّاجِدِينَ، أَيِ: الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ كَآدَمَ وَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ فِيمَنْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ آبَائِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [43 \ 28] وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَفِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ مُقْتَرِنًا بِهِ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَنْ يَقُومَ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِجْمَاعًا، وَأَوَّلُ الْآيَةِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهَا، أَيِ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ إِلَى صَلَاتِكَ، وَحِينَ تَقُومُ مِنْ فِرَاشِكَ وَمَجْلِسِكَ، وَيَرَى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، أَيِ: الْمُصَلِّينَ، عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَقَلَّبُ فِي الْمُصَلِّينَ قَائِمًا، وَسَاجِدًا وَرَاكِعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، أَيْ: إِلَى الصَّلَاةِ وَحْدَكَ، وَوَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، أَيِ: الْمُصَلِّينَ إِذَا صَلَّيْتَ بِالنَّاسِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا الْآيَةَ [52 \ 48] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وَقَوْلُهُ: وَتَوَكَّلْ قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعِ غَيْرَ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ: وَتَوَكَّلْ بِالْوَاوِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: فَتَوَكَّلْ بِالْفَاءِ، وَبَعْضُ نُسَخِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ فِيهَا الْوَاوُ وَبَعْضُهَا فِيهَا الْفَاءُ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [1 \ 5] وَبَسَطْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مَعَ بَيَانِ مَعْنَى التَّوَكُّلِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [17 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. الْشُّعَرَاءُ: جَمْعُ شَاعِرٍ، كَجَاهِلٍ وَجُهَلَاءَ، وَعَالِمٍ وَعُلَمَاءَ. وَيَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ: جَمْعُ غَاوٍ وَهُوَ الضَّالُّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الشُّعَرَاءِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: يَتَّبِعُهُمُ بِسُكُونِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ يَتَّبِعُهُمُ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي قَوْلِهِ: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، يَدُلُّ عَلَى تَكْذِيبِ الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاعِرٌ ; لِأَنَّ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمُ الْغَاوُونَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ مِنَ الْآيَاتِ، مُبَيِّنًا أَنَّهُمُ ادَّعَوْا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ شَاعِرٌ وَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، أَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاعِرٌ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ الْآيَةَ [21 \ 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [37 \ 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [52 \ 30] . وَأَمَّا تَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [69 \ 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [36 \ 96] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [37 \ 36 - 37] ; لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 قَوْلَهُ تَعَالَى: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ، تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ. مَسْأَلَتَانِ تَتَعَلَّقَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «يَرِيهِ» بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، مُضَارِعُ وَرَى الْقَيْحُ جَوْفَهُ، يَرِيهِ، وَرْيًا إِذَا أَكَلَهُ وَأَفْسَدَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَ وَرَاهُ أَصَابَ رِئَتَهُ بِالْإِفْسَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الشُّعَرَاءَ، بِقَوْلِهِ: يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [26 \ 224 - 226] اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا الْآيَةَ [26 \ 227] . وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُصَرِّحَ بِأَنَّ امْتِلَاءَ الْجَوْفِ مِنَ الْقَيْحِ الْمُفْسِدِ لَهُ خَيْرٌ مِنِ امْتِلَائِهِ مِنَ الشِّعْرِ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ، وَاشْتَغَلَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الشِّعْرِ الْقَبِيحِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكَذِبِ، وَالْبَاطِلِ كَذِكْرِ الْخَمْرِ وَمَحَاسِنِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّاعِرِ إِذَا اعْتَرَفَ فِي شِعْرِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ حَدًّا، هَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُدُودُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فِي الشِّعْرِ ; لِأَنَّ كَذِبَ الشَّاعِرِ فِي شِعْرِهِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مُعْتَادٌ، وَاقِعٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الشَّاعِرَ إِذَا أَقَرَّ فِي شِعْرِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ هُنَا بِكَذِبِهِمْ فِي شِعْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدْرَأُ عَنْهُمُ الْحَدَّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ اسْتَوْجَبَ بِإِقْرَارِهِ بِهِ الْمَلَامَ وَالتَّأْدِيبَ وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ بِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَشْهُورَةِ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ فِي «الطَّبَقَاتِ» ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ الْفُكَاهَةِ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ عَلَى مَيْسَانَ مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَقَالَ: أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إِذَا شِئْتُ غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسَمِ فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تُسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِي وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَقِيَهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنِّي قَدْ عَزَلْتُهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [40 \ 1 - 3] أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي قَوْلُكَ: لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُ لَيَسُوءُنِي، وَقَدْ عَزَلْتُكَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بَكَّتَهُ بِهَذَا الشِّعْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا شَرِبْتُهَا قَطُّ، وَمَا ذَلِكَ الشِّعْرُ إِلَّا شَيْءٌ طَفَحَ عَلَى لِسَانِي، فَقَالَ عُمَرُ: أَظُنُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا، وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، فَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ حَدَّهُ عَلَى الشَّرَابِ، وَقَدْ ضَمَّنَهُ شِعْرَهُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَلَكِنَّهُ ذَمَّهُ عُمَرُ وَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَزَلَهُ بِهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ: فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ ... وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ قَالَ لَهُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 الْحَدَّ، بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، فَلَمْ يَحُدَّهُ مَعَ إِقْرَارِهِ بِمُوجِبِ الْحَدِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا عَنِ «الشُّعَرَاءِ» مِنْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَقْتِ عِنْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 2 - 3] وَالْمَقْتُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، فَقَوْلُ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَفْعَلُ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ الشِّعْرِ يُبْغِضُهُ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مَا لَا يَفْعَلُ فِيهِ تَفَاوُتٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا الْآيَةَ [18 \ 2] مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا. أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِذِكْرِهِمُ اللَّهَ كَثِيرًا، وَهَذَا الَّذِي أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ هُنَا مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ، أَمَرَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَبَيَّنَ جَزَاءَهُ ; قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [8 \ 45] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [33 \ 41 - 42] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 191 - 192] وَقَالَ تَعَالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [33 \ 35] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [42 \ 41 - 42] فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [16 \ 126] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. الْمُنْقَلَبُ هُنَا الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ هُنَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَانَ كُلٌّ مِنْ مَصْدَرِهِ الْمِيمِيِّ، وَاسْمِ مَكَانِهِ، وَاسْمِ زَمَانِهِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مَرْجِعٍ يَرْجِعُونَ، وَأَيَّ مَصِيرٍ يَصِيرُونَ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الظَّالِمِينَ سَيَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَرْجِعَ الَّذِي يَرْجِعُونَ، أَيْ: يَعْلَمُونَ الْعَاقِبَةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي هِيَ مَآلُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ، جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [102 \ 3 - 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [25 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [13 \ 42] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ، مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْقَلِبُونَ، وَلَيْسَ مَفْعُولًا بِهِ، لِقَوْلِهِ: وَسَيَعْلَمُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَيَّ مَنْصُوبُ يَنْقَلِبُونَ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِـ سَيَعْلَمُ، لِأَنَّ أَيًّا وَسَائِرَ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا فِيمَا ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَعْنًى وَمَا قَبْلَهُ مَعْنًى آخَرُ، فَلَوْ عَمِلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ لَدَخَلَ بَعْضُ الْمَعَانِي فِي بَعْضٍ، انْتَهَى مِنْهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ النَّمْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا. إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي «مَرْيَمَ» وَ «طه» ، وَ «الْأَعْرَافِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، لَا وِرَاثَةَ مَالٍ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْآيَةَ [19 \ 6] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11 \ 5] وَقَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [41 \ 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [53 \ 62] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْخَبْءُ فِي السَّمَاوَاتِ: الْمَطَرُ، وَالْخَبْءُ فِي الْأَرْضِ: النَّبَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، وَالْكُنُوزُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُلَائِمٌ لِقَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْخَبْءَ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْخَبْءُ: السِّرُّ وَالْغَيْبُ، أَيْ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 يَعْلَمُ مَا غَابَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، وَكَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [27 \ 75] وَقَوْلِهِ: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61] كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ الْكِسَائِيِّ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ فِي لَفْظَةِ (أَلَّا) ، وَلَا خِلَافَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ يَسْجُدُوا فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِأَنِ الْمُدْغَمَةِ فِي لَفْظَةِ لَا، فَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنِ الْمَصْدَرِيَّةُ الْمُدْغَمَةُ فِي لَا يَنْسَبِكُ مِنْهُمَا مَصْدَرٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ وَفِي إِعْرَابِهِ أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، مِنْ أَجْلِ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ عَدَمِ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، أَوْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، لِأَجْلِ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْأَخْفَشُ. وَبِالثَّانِي قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ أَلَّا يَسْجُدُوا، أَيْ: عَدَمَ سُجُودِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَأَعْمَالُهُمْ هِيَ عَدَمُ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ عَمَلٌ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [25 \ 30] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الْمَذْكُورَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ السَّبِيلِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَفْظَةُ (لَا) صِلَةٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا. فَالْمَعْنَى: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَسَبِيلُ الْحَقِّ الَّذِي صُدُّوا عَنْهُ هُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ، (وَلَا) زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَعَلَى الثَّانِي، فَالْمَعْنَى: فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ؛ لِأَنَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ: لِلسُّجُودِ لَهُ، (وَلَا) زَائِدَةٌ أَيْضًا لِلتَّوْكِيدِ، وَمَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ فِعْلٍ، وَمَوْصُولٍ حَرْفِيٍّ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مَنْفِيًّا ذُكِرَتْ لَفْظَةُ (عَدَمُ) قَبْلَ الْمَصْدَرِ، لِيُؤَدَّى بِهَا مَعْنَى النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَقَوْلُكَ مَثَلًا: عَجِبْتُ مِنْ أَنْ لَا تَقُومَ، إِذَا سَبَكْتَ مَصْدَرَهُ لَزِمَ أَنْ تَقُولَ: عَجِبْتُ مِنْ عَدَمِ قِيَامِكَ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُثْبَتًا لَمْ تَذْكُرْ مَعَ الْمَصْدَرِ لَفْظَةَ (عَدَمُ) ، فَلَوْ قُلْتَ: عَجِبْتُ مِنْ أَنْ تَقُومَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي سَبْكِ مَصْدَرِهِ: عَجِبْتُ مِنْ قِيَامِكَ ; كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَلَيْهِ: فَالْمَصْدَرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 الْمُنْسَبِكُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ عَدَمُ السُّجُودِ إِلَّا إِذَا اعْتُبِرَتْ لَفْظَةُ (لَا) زَائِدَةً، وَقَدْ أَشَرْنَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] إِلَى أَنَّا أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى زِيَادَةِ (لَا) لِتَوْكِيدِ الْكَلَامِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَلَدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [90 \ 1] وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ كَلَامِنَا فِيهِ هُنَا. فَقَدْ قُلْنَا فِيهِ: الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ (لَا) هُنَا صِلَةٌ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهَا رُبَّمَا لَفَظَتْ بِلَفْظَةِ لَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ بَلْ لِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ الْكَلَامِ وَتَوْكِيدِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي [20 \ 92 - 93] يَعْنِي أَنْ تَتَّبِعَنِي، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ، أَيْ: أَنْ تَسْجُدَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «ص» : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [57 \ 29] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [4 \ 65] أَيْ: فَوَرَبِّكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [41 \ 34] أَيْ: وَالسَّيِّئَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [21 \ 95] عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [6 \ 109] عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا الْآيَةَ [6 \ 151] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ الْمَاضِيَةِ ; وَكَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا ... لِمَا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَ يَعْنِي: أَنْ تَسْخَرَ، وَقَوْلِ الْآخَرِ: وَتَلْحِينُنِي فِي اللَّهْوِ أَلَّا أُحِبَّهُ ... وَلِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ يَعْنِي: أَنْ أُحِبَّهُ، وَ (لَا) زَائِدَةٌ. وَقَوْلِ الْآخَرِ: أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُوعَ قَاتِلَهْ يَعْنِي: أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ، وَلَا زَائِدَةٌ عَلَى خِلَافٍ فِي زِيَادَتِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ الْأَخِيرِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ الْبُخْلِ بِالْجَرِّ ; لِأَنَّ لَا عَلَيْهَا مُضَافٌ بِمَعْنَى لَفْظَةِ لَا، فَلَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى رِوَايَةِ الْجَرِّ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ يَعْنِي: وَأَبِيكِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ لِزِيَادَةِ لَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ: مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمُ ... وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ يَعْنِي: عُمَرُ وَ (لَا) صِلَةٌ، وَأَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ لِزِيَادَتِهَا قَوْلَ الْعَجَّاجِ: فِي بِئْرٍ لَا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ ... بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ وَالْحُورُ: الْهَلَكَةُ، يَعْنِي: فِي بِئْرٍ هَلِكَةٍ وَ (لَا) صِلَةٌ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِزِيَادَتِهَا قَوْلَ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ: أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَانَ وَمِيضُهُ ... غَابَ تَسَنُّمُهُ ضِرَامَ مُثَقَّبِ وَيُرْوَى: أَفَمِنْكَ وَتَشَيُّمُهُ، بَدَلَ أَفَعَنْكَ وَتَسَنُّمُهُ، يَعْنِي: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ، وَ (لَا) صِلَةٌ، وَمِنْ شَوَاهِدِ زِيَادَتِهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ يَعْنِي: كَادَ يَتَقَطَّعُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِزِيَادَتِهَا بِقَوْلِ الشَّمَّاخِ: أَعَائِشُ مَا لِقَوْمِكِ لَا أَرَاهُمْ ... يُضِيعُونَ الْهِجَانَ مَعَ الْمُضِيعِ فَغَلَطٌ مِنْهُ، لِأَنَّ لَا فِي بَيْتِ الشَّمَّاخِ هَذَا نَافِيَةٌ لَا زَائِدَةٌ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّهَا تَنْهَاهُ عَنْ حِفْظِ مَالِهِ، مَعَ أَنَّ أَهْلَهَا يَحْفَظُونَ مَالَهُمْ، أَيْ: لَا أَرَى قَوْمَكِ يُضِيعُونَ مَالَهُمْ وَأَنْتِ تُعَاتِبِينَنِي فِي حِفْظِ مَالِي، وَمَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّ لَفْظَةَ لَا، لَا تَكُونُ صِلَةً إِلَّا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ، فَهُوَ أَغْلَبِيٌّ لَا يَصِحُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِدَلِيلِ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي لَا جَحْدَ فِيهَا كَهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَا فِيهَا صِلَةٌ، وَكَبَيْتِ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ زِيَادَةِ لَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ: أَلَّا يَسْجُدُوا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: (أَلَّا) ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ هَذِهِ، فَلَفْظَةُ (أَلَّا) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ، وَتَنْبِيهٍ وَيَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، وَاسْجُدُوا فِعْلُ أَمْرٍ وَمَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ، أَنَّكَ إِذَا قِيلَ لَكَ: قِفْ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ بِانْفِرَادِهَا فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، أَنَّكَ تَقِفُ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا، ثَلَاثَ وَقَفَاتٍ، الْأُولَى: أَنْ تَقِفَ عَلَى أَلَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَقِفَ عَلَى يَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ تَقِفَ عَلَى اسْجُدُوا، وَهَذَا الْوَقْفُ وَقْفُ اخْتِبَارٍ لَا وَقْفُ اخْتِيَارٍ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّكَ تَقِفُ وَقْفَتَيْنِ فَقَطْ: الْأُولَى: عَلَى (أَلَّا) ، وَلَا تَقِفُ عَلَى أَنْ لِأَنَّهَا مُدْغَمَةٌ فِي لَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّكَ تَقِفُ عَلَى يَسْجُدُوا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ قَدْ حُذِفَ فِي الْخَطِّ أَلِفَانِ، الْأُولَى: الْأَلِفُ الْمُتَّصِلَةُ بِيَاءِ النِّدَاءِ، وَالثَّانِيَةُ: أَلِفُ الْوَصْلِ فِي قَوْلِهِ: (اسْجُدُوا) ، وَوَجَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِسْقَاطَهُمَا فِي الْخَطِّ، بِأَنَّهُمَا لَمَّا سَقَطَتَا فِي اللَّفْظِ، سَقَطَتَا فِي الْكِتَابَةِ، قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ مِنْ أَنَّ لَفْظَةَ (أَلَا) لِلِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّنْبِيهِ، وَأَنَّ يَا حَرْفُ نِدَاءٍ حُذِفَ مِنْهُ الْأَلِفُ فِي الْخَطِّ، وَاسْجُدُوا فِعْلُ أَمْرٍ، قَالُوا: وَحَذْفُ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاةِ النِّدَاءِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ ... وَإِنْ كَانَ حَيَّانَا عِدَى آخِرَ الدَّهْرِ وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَا ... وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ فَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتَيْنِ: أَلَا يَا اسْلَمِي، أَيْ: يَا هَذِهِ اسْلَمِي، وَقَوْلُ الْآخَرِ: لَا يَا اسْلَمِي ذَاتَ الدَّمَالِيجِ وَالْعِقْدِ وَقَوْلُ الشَّمَّاخِ: أَلَا يَا اصْبَحَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِي ... وَقَبْلَ مَنَايَا قَدْ حَضَرْنَ وَآجَالِي يَعْنِي: أَلَا يَا صَحْبِي اصْبَحَانِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ خَيْلِ ... أَبِي بَكْرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 فَقَالَتْ أَلَا يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بِخُطْبَةٍ ... فَقُلْتُ سَمِعْنَا فَانْطِقِي وَأَصِيبِي يَعْنِي: أَلَا يَا هَذَا اسْمَعْ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِحَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ: يَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ ... وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: لَعْنَةُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: فَيَا لَغَيْرُ اللَّعْنَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ: يَا قَوْمُ لَعْنَةُ اللَّهِ، إِلَى آخِرِهِ. وَأَنْشَدَ صَاحِبُ اللِّسَانِ لِحَذْفِ الْمُنَادَى، مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ مُسْتَشْهِدًا لِقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ الْمَذْكُورَةِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ: يَا قَاتَلَ اللَّهُ صِبْيَانًا تَجِيءُ بِهِمْ ... أُمُّ الْهُنَيْنِينَ مِنْ زَنْدَلِهَا وَارَى ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ أَرَادَ: يَا قَوْمُ قَاتَلَ اللَّهُ صِبْيَانًا، وَقَوْلَ الْآخَرِ: يَا مَنْ رَأَى بَارِقًا أُكَفْكِفُهُ ... بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ دَعَا يَا قَوْمُ يَا إِخْوَتِي، فَلَمَّا أَقْبَلُوا عَلَيْهِ قَالَ: مَنْ رَأَى. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِحَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ، قَوْلَ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: يَا شَاةَ مَا قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ قَالُوا: التَّقْدِيرُ: يَا قَوْمُ انْظُرُوا شَاةَ مَا قَنَصٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: إِنَّ يَا عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، وَفِي جَمِيعِ الشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَيْسَتْ لِلنِّدَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّنْبِيهِ فَكُلٌّ مِنْ أَلَا وَيَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ كُرِّرَ لِلتَّوْكِيدِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» ، قَالَ فِيهِ: وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ الْوَارِدِ عَنِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ يَا فِيهِ لِلنِّدَاءِ، وَحُذِفَ الْمُنَادَى ; لِأَنَّ الْمُنَادَى عِنْدِي لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الْفِعْلُ الْعَامِلُ فِي النِّدَاءِ، وَانْحَذَفَ فَاعِلُهُ لِحَذْفِهِ، وَلَوْ حُذِفَ الْمُنَادَى لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَذْفُ جُمْلَةِ النِّدَاءِ، وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ الْمُنَادَى، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْلَالًا كَبِيرًا، وَإِذَا أَبْقَيْنَا الْمُنَادَى وَلَمْ نَحْذِفْهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّدَاءِ، وَلَيْسَ حَرْفُ النِّدَاءِ حَرْفَ جَوَابٍ كَنَعَمْ، وَلَا، وَبَلَى، وَأَجَلْ، فَيَجُوزُ حَذْفُ الْجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْجُمَلِ الْمَحْذُوفَةِ، فَيَا عِنْدِي فِي تِلْكَ التَّرَاكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ أَكَّدَ بِهِ أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ وَلِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وَجَدَ التَّوْكِيدَ فِي اجْتِمَاعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 الْحَرْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيِ اللَّفْظِ، الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ، وَالْمُتَّفِقَيِ اللَّفْظِ الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا لَلَمَّا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ. وَجَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَدُّوهُ ضَرُورَةً أَوْ قَلِيلًا، فَاجْتِمَاعُ غَيْرِ الْعَامِلَيْنِ وَهُمَا مُخْتَلِفَا اللَّفْظِ يَكُونُ جَائِزًا، وَلَيْسَ يَا فِي قَوْلِهِ: يَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ. حَرْفَ نِدَاءٍ عِنْدِي، بَلْ حَرْفَ تَنْبِيهٍ جَاءَ بَعْدَهُ الْمُبْتَدَأُ، وَلَيْسَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُنَادَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ، وَمَا اخْتَارَهُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَمِمَّا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ عِنْدِي فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَا اسْجُدُوا فِعْلٌ مُضَارِعٌ حُذِفَتْ مِنْهُ نُونُ الرَّفْعِ، بِلَا نَاصِبٍ، وَلَا جَازِمٍ، وَلَا نُونِ تَوْكِيدٍ، وَلَا نُونِ وِقَايَةٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ حَذْفَهَا لَا لِمُوجِبٍ مِمَّا ذَكَرَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» ، فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ عَشَرَ فِي صَفْحَةِ 702، مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا، كَذَا هُوَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا، وَأَنَّى يُجِيبُوا مِنْ غَيْرِ نُونٍ، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ، وَسَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ. وَمِنْهَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي «الْإِيمَانِ» : «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا» ، انْتَهَى مِنْهُ. وَعَلَى أَنَّ حَذْفَ نُونِ الرَّفْعِ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْجُدُوا، فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ فِعْلًا مُضَارِعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدِ اقْتَصَرْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، عَلَى أَنَّ حَذْفَهَا مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ شَوَاهِدِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهَانِ. الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ آيَةَ «النَّمْلِ» هَذِهِ، مَحَلُّ سَجْدَةٍ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ ; لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْكِسَائِيِّ فِيهَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ، وَقِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ فِيهَا ذَمُّ تَارِكِ السُّجُودِ وَتَوْبِيخُهُ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلَّ سَجْدَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا هِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 مَحَلُّ سُجُودٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْتَدُونَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [27 \ 25] قَرَأَهُ حَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: يُخْفُونَ، وَيُعْلِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [41 \ 46] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [30 \ 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [17 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [64 \ 6] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [64 \ 6] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [47 \ 38] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ صَالِحًا إِلَى ثَمُودَ، فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا خُصُومَةَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [7 \ 75 - 76] فَهَذِهِ خُصُومَتُهُمْ وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْخُصُومَةِ، الْخُصُومَةُ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ [13 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ. قَوْلُهُ: اطَّيَّرْنَا بِكَ، أَيْ: تَشَاءَمْنَا بِكَ، وَكَانَ قَوْمُ صَالِحٍ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ قَحْطٌ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ مَصَائِبُ، قَالُوا: مَا جَاءَنَا هَذَا إِلَّا مِنْ شُؤْمِ صَالِحٍ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ. وَالتَّطَيُّرُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بِزَجْرِ الطَّيْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّشَاؤُمِ وَالتَّيَامُنِ بِالطَّيْرِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَيْ سَبَبُكُمُ الَّذِي يَجِيءُ مِنْهُ خَيْرُكُمْ وَشَرُّكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَالشَّرُّ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذُنُوبِكُمْ لَا بِشُؤْمِ صَالِحٍ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى طَائِرِ الْإِنْسَانِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [17 \ 13] وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَشَاؤُمِ الْكُفَّارِ بِصَالِحٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، جَاءَ مِثْلُهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَشَاؤُمِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِمُوسَى: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [7 \ 131] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَطَيُّرِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [4 \ 78] وَالْحَسَنَةُ فِي الْآيَتَيْنِ: النِّعْمَةُ كَالرِّزْقِ وَالْخِصْبِ وَالْعَافِيَةِ، وَالسَّيِّئَةُ: الْمُصِيبَةُ بِالْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَنْفُسِ، وَالثَّمَرَاتِ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [36 \ 18 - 19] أَيْ: بَلِيَّتُكُمْ جَاءَتْكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَكُفْرِكُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 تُخْتَبَرُونَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُعَذَّبُونَ ; كَقَوْلِهِ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [51 \ 13] وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ فِي اللُّغَةِ، وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ لِيُخْتَبَرَ بِالسَّبْكِ أَزَائِفٌ هُوَ أَمْ خَالِصٌ؟ وَأَنَّهَا أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: إِطْلَاقُهَا عَلَى الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [51 \ 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [85 \ 10] أَيْ: حَرَّقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَدِ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ. . الْمَعْنَى الثَّانِي: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الِاخْتِبَارِ، وَهَذَا هُوَ أَكْثَرُهَا اسْتِعْمَالًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [21 \ 35] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [72 \ 16 - 17] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. الثَّالِثُ: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى نَتِيجَةِ الِاخْتِبَارِ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً خَاصَّةً، وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [2 \ 193] أَيْ: لَا يَبْقَى شِرْكٌ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [2 \ 193] وَفِي «الْأَنْفَالِ» : وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [8 \ 39] فَإِنَّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ مَعْنَى: لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، أَيْ: لَا يَبْقَى شِرْكٌ ; لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ، مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ شِرْكٌ، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، الْحَدِيثَ. فَقَدْ جَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُهُ لِلنَّاسِ، هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ مَعْنَى: لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ: لَا يَبْقَى شِرْكٌ، فَالْآيَةُ وَالْحَدِيثُ كِلَاهُمَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُ الْكُفَّارِ هِيَ أَلَّا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرْكٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، فَالْغَايَةُ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَاحِدَةٌ فِي الْمَعْنَى، كَمَا تَرَى. الرَّابِعُ: هُوَ إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الْحُجَّةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 [6 \ 23] أَيْ: لَمْ تَكُنْ حُجَّتُهُمْ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَالِحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفَعَهُ اللَّهُ بِنُصْرَةِ وَلِيِّهِ، أَيْ: أَوْلِيَائِهِ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَوَجْهُ نُصْرَتِهِمْ لَهُ: أَنَّ التِّسْعَةَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا [27 \ 48 - 49] أَيْ: تَحَالَفُوا بِاللَّهِ، لَنُبَيِّتَنَّهُ، أَيْ: لَنُبَاغِتَنَّهُ بَيَاتًا، أَيْ: لَيْلًا فَنَقْتُلُهُ وَنَقْتُلُ أَهْلَهُ مَعَهُ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ، أَيْ: أَوْلِيَائِهِ وَعُصْبَتِهِ، مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، أَيْ: وَلَا مَهْلِكَهُ هُوَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ عَلَنًا، لِنُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ لَهُ، وَإِنْكَارُهُمْ شُهُودَ مَهْلِكَ أَهْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى خَوْفِهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ النُّصْرَةَ عَصَبِيَّةٌ نِسْبِيَّةٌ لَا تَمُتُّ إِلَى الدِّينِ بِصِلَةٍ، وَأَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ الْآيَةَ [11 \ 91] وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 19] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَقَاسَمُوا، التَّحْقِيقُ أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ مَحْكِيٌّ بِالْقَوْلِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَسَبَهُ أَبُو حَيَّانَ لِلْجُمْهُورِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، التَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا تَكَلَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، مِنْ كَوْنِهِمْ صَادِقِينَ لَا وَجْهَ لَهُ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ وَأَوْضَحَهُ، وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ لَنُبَيِّتَنَّهُ بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ اللَّامِ، وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ الْمُثَنَّاةِ الَّتِي بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ الْمُثَنَّاةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: لَتُبَيِّتُنَّهُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ اللَّامِ، وَضَمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ أَيْضًا غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: ثُمَّ لَنَقُولَنَّ، بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ مَوْضِعَ التَّاءِ، وَفَتْحِ اللَّامِ الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ثُمَّ لَتَقُولُنَّ، بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 اللَّامِ الْأُولَى، وَضَمِّ اللَّامِ الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: مَهْلِكَ أَهْلِهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مَهْلِكَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. فَتَحْصُلُ أَنَّ حَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ قَرَأَ مَهْلِكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْنِي شُعْبَةَ قَرَأَ عَنْ عَاصِمٍ: مَهْلَكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَأَنَّ غَيْرَ عَاصِمٍ قَرَأَ: مَهْلِكَ أَهْلِهِ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَهْلِكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ هَلَكَ الثُّلَاثِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مُهْلَكَ بِضَمِّ الْمِيمِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَهْلَكَ الرُّبَاعِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا اسْمَ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَمَّرَ جَمِيعَ قَوْمِ صَالِحٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ تِسْعَةُ رَهْطٍ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، أَيْ: وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ ثَمُودَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً، أَيْ: خَالِيَةً مِنَ السُّكَّانِ لِهَلَاكِ جَمِيعِ أَهْلِهَا، بِمَا ظَلَمُوا، أَيْ: بِسَبَبِ ظُلْمِهِمُ الَّذِي هُوَ كُفْرُهُمْ وَتَمَرُّدُهُمْ وَقَتْلُهُمْ نَاقَةَ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا آيَةً لَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَاوِيَةً، أَيْ: سَاقِطًا أَعْلَاهَا عَلَى أَسْفَلِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ إِهْلَاكَهُ قَوْمَ صَالِحٍ آيَةً، أَيْ: عِبْرَةً يَتَّعِظُ بِهَا مَنْ بَعْدَهُمْ، فَيَحْذَرُ مِنَ الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، لِئَلَّا يَنْزِلَ بِهِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ التَّدْمِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْجَى الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا جَلَّ وَعَلَا هُنَا، جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ. أَمَّا إِنْجَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَالِحًا، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَإِهْلَاكَهُ ثَمُودَ، فَقَدْ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [11 \ 66]- 68] . وَآيَةُ «هُودٍ» هَذِهِ، قَدْ بَيَّنَتْ أَيْضًا التَّدْمِيرَ الْمُجْمَلَ فِي آيَةِ «النَّمْلِ» هَذِهِ، فَالتَّدْمِيرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، بَيَّنَتْ آيَةُ «هُودٍ» أَنَّهُ الْإِهْلَاكُ بِالصَّيْحَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [11 \ 67] أَيْ: وَهُمْ مَوْتَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ جَعَلَ إِهْلَاكَهُ إِيَّاهُمْ آيَةً، فَقَدْ أَوْضَحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [26 \ 157 - 159] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ بِكَسْرَةِ هَمْزَةِ إِنَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُمْ: عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّا. وَفِي إِعْرَابِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ أَوْجُهٌ، مِنْهَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ هِيَ، أَيْ: عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ تَدْمِيرُنَا إِيَّاهُمْ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ هُمَا أَقْرَبُ الْأَوْجُهِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ، وَلِذَا تَرَكْنَا غَيْرَهُمَا مِنَ الْأَوْجُهِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَكْرِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: دَمَّرْنَاهُمْ، رَاجِعٌ إِلَى التِّسْعَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ الْآيَةَ [27 \ 48] وَقَوْلُهُ: خَاوِيَةً حَالٌ فِي بُيُوتِهِمْ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْإِشَارَةُ الْكَامِنَةُ فِي مَعْنَى تِلْكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحُ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ فَاعِلِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لَهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا الْآيَاتِ. قَدْ أَوْضَحْنَا مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ عَلَى الْبَعْثِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَأَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [6 \ 59] وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ. أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ، أَيْ: تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُعَايِنُونَهَا، أَيْ: يَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ عِلْمًا كَامِلًا، مَا كَانُوا يَجْهَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَهَذَا الَّذِي كَانُوا يَشُكُّونَ فِيهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَيَعْمُونَ عَنْهُ مِمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، يَعْلَمُونَهُ فِي الْآخِرَةِ عِلْمًا كَامِلًا لَا يُخَالِجُهُ شَكٌّ، عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ لِمَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْقَوْلَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [19 \ 38] فَقَوْلُهُ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، بِمَعْنَى: مَا أَسْمَعَهُمْ وَمَا أَبْصَرَهُمْ لِلْحَقِّ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَهُ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِيهَا لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي سَمْعِ الْحَقِّ وَإِبْصَارِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [19 \ 38] يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، لِأَنَّ ضَلَالَهُمُ الْمُبَيَّنَ الْيَوْمَ، أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا، هُوَ شَكُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَعَمَاهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 عَنْهَا ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [50 \ 22] أَيْ: عِلْمُكَ الْيَوْمَ بِمَا كُنْتَ تُنْكِرُهُ فِي الدُّنْيَا مِمَّا جَاءَتْكَ بِهِ الرُّسُلُ حَدِيدٌ، أَيْ: قَوِيٌّ كَامِلٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِبْهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي سُورَةِ «الشُّورَى» ، فِي الْجَوَابِ عَمَّا يَتَوَهَّمُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [42 \ 45] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [50 \ 22] أَنَّ الْمُرَادَ بِحِدَّةِ الْبَصَرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: كَمَالُ الْعِلْمُ وَقُوَّةُ الْمَعْرِفَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12] فَقَوْلُهُ: إِنَّا مُوقِنُونَ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ [18 \ 48] فَعَرْضُهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ صَفًّا يَتَدَارَكُ بِهِ عِلْمُهُمْ، لِمَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ، وَقَوْلُهُ: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا، صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانُوا فِي شَكٍّ وَعَمًى عَنِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ كَمَا تَرَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلِ ادَّارَكَ، فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قِرَاءَةً اثْنَتَانِ مِنْهَا فَقَطْ سَبْعِيَّتَانِ، فَقَدْ قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو: بَلِ ادَّارَكَ بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ بَلِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَالْأَلِفُ الَّتِي قَبْلَ الدَّالِ هَمْزَةُ وَصْلٍ، وَأَصْلُهُ: تَدَارَكَ بِوَزْنِ: تَفَاعَلَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ الْإِدْغَامِ، وَاسْتِجْلَابَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي تَفَاعَلَ وَتَفَعَّلَ وَأَمْثِلَةَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَبَعْضَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «طَهَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [7 \ 117] وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بَلْ أَدْرَكَ بِسُكُونِ اللَّامِ مِنْ بَلْ، وَهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ، مَعَ سُكُونِ الدَّالِ عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلَ. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ، أَيْ: تَدَارَكَ بِمَعْنَى تَكَامَلَ ; كَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا [7 \ 38] وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو: بَلْ أَدْرَكَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَيْ بَلَغَ وَلَحِقَ، كَمَا يُقَالُ: أَدْرَكَ عِلْمِي إِذَا لَحِقَهُ وَبَلَغَهُ، وَالْإِضْرَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ، بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، بِمَعْنَى: عَنْ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 وَعَمُونَ جَمْعُ عَمٍ، وَهُوَ الْوَصْفُ مِنْ عَمِيَ يَعْمَى فَهُوَ أَعْمَى وَعَمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [7 \ 64] وَقَوْلُ زُهَيْرٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي عِيسَى، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، ادِّعَاءَهُمْ عَلَى أُمِّهِ الْفَاحِشَةَ، مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ آمَنَتْ بِهِ ; كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [61 \ 41] وَالطَّائِفَةُ الَّتِي آمَنَتْ قَالَتِ الْحَقَّ فِي عِيسَى، وَالَّتِي كَفَرَتِ افْتَرَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» . وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَسُورَةِ «النِّسَاءِ» وَغَيْرِهِمَا، حَقِيقَةَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَهِيَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ [19 \ 30] وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [4 \ 171] وَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» قَالَ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [19 \ 34] وَذَلِكَ يُبَيِّنُ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْآيَةَ [18 \ 1] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ الْقُرْآنِيَّةُ وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، لَا يَصِحُّ فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا تَفْسِيرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيْ: لَا تُسْمِعُ الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَمَاتَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَكَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ إِسْمَاعَ هُدًى وَانْتِفَاعٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ، فَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْأَكِنَّةَ، وَفِي آذَانِهِمُ الْوَقْرَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 وَعَلَى أَبْصَارِهِمُ الْغِشَاوَةَ، فَلَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ اهْتِدَاءٍ وَانْتِفَاعٍ. وَمِنَ الْقَرَائِنِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ بَعْدَهُ: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ [27 \ 81] . فَاتَّضَحَ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيِ: الْكُفَّارَ الَّذِينَ هُمْ أَشْقِيَاءُ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِسْمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ لِلْحَقِّ، مَا تُسْمِعُ ذَلِكَ الْإِسْمَاعَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، فَمُقَابَلَتُهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْإِسْمَاعِ الْمَنْفِيِّ فِي الْآيَةِ عَنِ الْمَوْتَى بِالْإِسْمَاعِ الْمُثْبَتِ فِيهَا لِمَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِهِ، فَهُوَ مُسَلَّمٌ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ فِي الْآيَةِ مَوْتُ الْكُفْرِ وَالشَّقَاءِ، لَا مَوْتُ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، مُفَارَقَةَ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ لَمَا قَابَلَ قَوْلَهُ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى بِقَوْلِهِ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا بَلْ لَقَابَلَهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ لَمْ يَمُتْ، أَيْ: يُفَارِقْ رُوحُهُ بَدَنَهُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ الْقُرْآنِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى هُنَا الْأَشْقِيَاءُ، الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [6 \ 36] وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى فِي قَوْلِهِ: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: الْكُفَّارُ، وَيَدُلُّ لَهُ مُقَابَلَةُ الْمَوْتَى فِي قَوْلِهِ: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ بِالَّذِينِ يَسْمَعُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [6 \ 35] أَيْ: فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْآيَةَ [6 \ 35 - 36] وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ يُرَادُ بِالْمَوْتَى مَنْ فَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ لَقَابَلَ الْمَوْتَى بِمَا يُنَاسِبُهُمْ ; كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الْأَحْيَاءُ، أَيِ: الَّذِينَ لَمْ تُفَارِقْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [6 \ 122] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا، أَيْ: كَافِرًا فَأَحْيَيْنَاهُ، أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْمَوْتِ وَإِرَادَةُ الْكُفْرِ بِلَا خِلَافٍ ; وَكَقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [36 \ 70] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [35 \ 22] أَيْ: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى الْآيَةَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا، تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ يُحْزِنُهُ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [6 \ 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ الْآيَةَ [15 \ 97] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [16 \ 127] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [5 \ 68] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [35 \ 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 \ 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [26 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَلَمَّا كَانَ يُحْزِنُهُ كُفْرُهُمْ وَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ آيَاتٍ كَثِيرَةً تَسْلِيَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لَهُ فِيهَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هُدَى مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ بِيَدِهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، وَأَوْضَحَ لَهُ أَنَّهُ نَذِيرٌ، وَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَأَنْذَرَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَبْلَغِهَا، وَأَنَّ هُدَاهُمْ وَإِضْلَالَهُمْ بِيَدِ مَنْ خَلَقَهُمْ. وَمِنَ الْآيَاتِ النَّازِلَةِ تَسْلِيَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَوْلُهُ هُنَا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيْ: لَا تُسْمِعُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ إِسْمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا، يَعْنِي: مَا تُسْمِعُ إِسْمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ إِلَّا مَنْ هَدَيْنَاهُمْ لِلْإِيمَانِ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [16 \ 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [5 \ 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [28 \ 56] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [10 \ 99] إِلَى غَيْرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ وَمَا شَابَهَهَا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيِ: الَّذِينَ فَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَرَى. وَاعْلَمْ: أَنَّ آيَةَ «النَّمْلِ» هَذِهِ جَاءَتْ آيَتَانِ أُخْرَيَانِ بِمَعْنَاهَا: الْأُولَى مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الرُّومِ» : فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [30 \ 52 - 53] وَلَفْظُ آيَةِ «الرُّومِ» هَذِهِ كَلَفْظِ آيَةِ «النَّمْلِ» الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَيَكْفِي فِي بَيَانِ آيَةِ «الرُّومِ» ، مَا ذَكَرْنَا فِي آيَةِ «النَّمْلِ» . وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» : إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [35 \ 22] وَآيَةُ «فَاطِرٍ» هَذِهِ كَآيَةِ «النَّمْلِ» وَ «الرُّومِ» الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِيهَا: مَنْ فِي الْقُبُورِ الْمَوْتَى، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى وَمَنْ فِي الْقُبُورِ وَاحِدٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22 \ 7] أَيْ: يَبْعَثُ جَمِيعَ الْمَوْتَى مَنْ قُبِرَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقْبَرْ، وَقَدْ دَلَّتْ قَرَائِنُ قُرْآنِيَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى آيَةِ «فَاطِرٍ» هَذِهِ كَمَعْنَى آيَةِ «الرُّومِ» ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهَا: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ [35 \ 18] لِأَنَّ مَعْنَاهَا: لَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكَ إِلَّا مَنْ هُدَاهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ فَصَارَ مِمَّنْ يَخْشَى رَبَّهُ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، أَيِ: الْمَوْتَى، أَيِ: الْكُفَّارَ الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمُ الشَّقَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْضًا: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [35 \ 19] أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [35 \ 22] أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [52 \ 23] أَيْ: لَيْسَ الْإِضْلَالُ وَالْهُدَى بِيَدِكَ مَا أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ، أَيْ: وَقَدْ بَلَّغْتَ. التَّفْسِيرُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى الَّذِينَ مَاتُوا بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاعِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى خُصُوصُ السَّمَاعِ الْمُعْتَادِ الَّذِي يَنْتَفِعُ صَاحِبُهُ بِهِ، وَأَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، لَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ بِفِقْهٍ وَاتِّبَاعٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 وَنِدَاءً [2 \ 171] فَهَكَذَا الْمَوْتَى الَّذِينَ ضُرِبَ بِهِمُ الْمَثَلُ لَا يَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُمْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَاعِ، كَمَا لَمْ يُنْفَ ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ، بَلْ قَدِ انْتَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَمَّا سَمَاعٌ آخَرُ فَلَا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الثَّانِي جَزَمَ بِهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْأَخِيرُ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَيْضًا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، جَاءَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالْبَكَمِ وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى مُسْنَدًا إِلَى قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ، وَالْمُرَادُ بِصَمَمِهِمْ صَمَمُهُمْ عَنْ سَمَاعِ مَا يَنْفَعُهُمْ دُونَ غَيْرِهِ، فَهُمْ يَسْمَعُونَ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [2 \ 18] فَقَدْ قَالَ فِيهِمْ: صُمٌّ بُكْمٌ مَعَ شِدَّةِ فَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [63 \ 4] أَيْ: لِفَصَاحَتِهِمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [33 \ 19] فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، وَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ صَمَمَهُمْ وَبَكَمَهُمْ وَعَمَاهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي صُمُّوا عَنْهُ فَلَمْ يَسْمَعُوهُ، وَبُكِمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْطِقُوا بِهِ، وَعُمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَرَوْهُ مَعَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ غَيْرَهُ وَيُبْصِرُونَهُ، وَيَنْطِقُونَ بِهِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [46 \ 26] وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [2 \ 18] مَعَ قَوْلِهِ فِيهِمْ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [2 \ 20] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [33 \ 19] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [63 \ 4] وَقَدْ أَوْضَحْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الصَّمَمَ وَعَدَمَ السَّمَاعِ عَلَى السَّمَاعِ، الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ مَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 كَلَّمَهُمْ، وَأَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمَنْ تَبِعَهَا: إِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وَمَا جَاءَ بِمَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ غَلَطٌ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَمِمَّنْ تَبِعَهَا. وَإِيضَاحُ كَوْنِ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي رُجْحَانَ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: الْأُولَى مِنْهُمَا: أَنَّ سَمَاعَ الْمَوْتَى ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِإِنْسَانٍ وَلَا بِوَقْتٍ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ يُخَالِفُهَا، وَتَأْوِيلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْضَ الْآيَاتِ عَلَى مَعْنًى يُخَالِفُ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ، لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْهُ، فَلَا تُرَدُّ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَأَوُّلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضَ الْآيَاتِ، وَسَنُوَضِّحُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صِحَّةَ الْمُقْدِمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَمَاعَ الْمَوْتَى ثَابِتٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ صَرِيحٍ، عُلِمَ بِذَلِكَ رُجْحَانُ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ الدَّلِيلَ يَقْتَضِي رُجْحَانَهُ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى، وَهِيَ ثُبُوتُ سَمَاعِ الْمَوْتَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طُوًى مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًا» ؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» ، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَقْسَمَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْأَحْيَاءَ الْحَاضِرِينَ لَيْسُوا بِأَسْمَعَ لِمَا يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُولَئِكَ الْمَوْتَى بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى، وَلَمْ يَذْكُرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 تَخْصِيصًا، وَكَلَامُ قَتَادَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ اجْتِهَادٌ مِنْهُ، فِيمَا يَظْهَرُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ عَنْ هُشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» ؟ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُمُ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ» ، فَذُكِرَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ» ، ثُمَّ قَرَأَتْ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ رَأَيْتُهُ أَخْرَجَ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ هُمَا: ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو طَلْحَةَ، تَصْرِيحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ لَهُمْ، وَرَدُّ عَائِشَةَ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ بِمَا فَهِمَتْ مِنَ الْقُرْآنِ مَرْدُودٌ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [17 \ 15] ، أَنَّ رَدَّهَا عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا رِوَايَتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ بِمَا فَهِمَتْ مِنَ الْآيَةِ - مَرْدُودٌ أَيْضًا، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْحَقَّ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ لَا مَعَهَا فِيمَا فَهِمَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا فِي الْجَنَّةِ» الْحَدِيثَ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَصْرِيحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ، يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ مَنْ دَفَنُوهُ إِذَا رَجَعُوا، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى، وَلَمْ يَذْكُرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ تَخْصِيصًا. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ [ح] ، وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرِينَا مُصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ، يَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَئُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا» ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ قَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا» . حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» ، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا» ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا رِوَايَةَ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ الْبُخَارِيِّ، فَتَرَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فِيهَا التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْأَحْيَاءَ الْحَاضِرِينَ لَيْسُوا بِأَسْمَعَ مِنْ أُولَئِكَ الْمَوْتَى لِمَا يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَقْسَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ تَخْصِيصًا، وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» ، قَالَ: «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُعْقِدَانِهِ» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ تَصْرِيحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَمَاعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ قَرْعَ النِّعَالِ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَنْ دُفِنَ وَتَوَلَّى عَنْهُ قَوْمُهُ، كَمَا تَرَى. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ سَمَاعِ الْمَوْتَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ» ، وَلَمْ يُقِمْ قُتَيْبَةُ قَوْلَهُ: «وَأَتَاكُمْ مَا تُوعِدُونَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْهَا، قَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: «قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» ، ثُمَّ قَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ» ، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» ، انْتَهَى مِنْ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» . وَخِطَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْقُبُورِ بِقَوْلِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ، وَقَوْلُهُ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ سَلَامَهُ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ سَلَامَهُ وَكَلَامَهُ لَكَانَ خِطَابُهُ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ خِطَابِ الْمَعْدُومِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ، فَمِنَ الْبَعِيدِ جَدًّا صُدُورُهُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ يَسْتَأْنِسُ بِوُجُودِ الْحَيِّ عِنْدَهُ. وَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الدَّالَّةَ عَلَى سَمَاعِ الْمَوْتَى، فَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [35 \ 22] لَا تُخَالِفُهَا، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الصَّحِيحَ مِنْ أَوْجُهِ تَفْسِيرِهَا، وَذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْقَرَائِنِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَا تُنَافِي الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، فَقَدْ قَالَ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ «مَجْمُوعِ الْفَتَاوِي» مِنْ صَحِيفَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، إِلَى صَحِيفَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، مَا نَصُّهُ: وَقَدْ تُعَادُ الرُّوحُ إِلَى الْبَدَنِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ خَيْرَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهَ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، مَا يَضِيقُ هَذَا الْوَقْتُ عَنِ اسْتِقْصَائِهِ، مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَبْدَانَ الَّتِي فِي الْقُبُورِ تَنْعَمُ وَتُعَذَّبُ إِذَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ كَمَا يَشَاءُ، وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ وَمُنْعِمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ، وَلِذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 أَصْحَابَهُ إِذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ» . وَقَدِ انْكَشَفَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ حَتَّى سَمِعُوا صَوْتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ، وَرَأَوْهُمْ بِعُيُونِهِمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى الْبَدَنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» ، فَسَمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُونَ وَقَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا» ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا» ؟ وَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ» ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي قُلْتُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ» ، ثُمَّ قَرَأَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَبُو طَلْحَةَ شَهِدَ بَدْرًا كَمَا رَوَى أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طُوًى مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ فِي عَرْصَتِهِمْ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا فَحَرَّكَهَا، ثُمَّ مَشَى وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نَرَاهُ يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شِفَاءِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا» ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ وَلَا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» ، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 حَتَّى أَسْمَعَهُمْ تَوْبِيخًا، وَتَصْغِيرًا، وَنِقْمَةً، وَحَسْرَةً، وَتَنْدِيمًا، وَعَائِشَةُ قَالَتْ فِيمَا ذَكَرَتْهُ كَمَا تَأَوَّلَتْ. وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمٌ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ السَّمَاعَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، فَإِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ تَسْمَعُ الصَّوْتَ، لَكِنْ لَا تَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ بِفِقْهٍ وَاتِّبَاعٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [2 \ 171] ، فَهَكَذَا الْمَوْتَى الَّذِينَ ضَرَبَ بِهِمُ الْمَثَلَ لَا يَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُمْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَاعِ، بَلِ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ كَمَا لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ، بَلِ انْتَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَأَمَّا سَمَاعٌ آخَرُ فَلَا يُنْفَى عَنْهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَذَا مُوَافِقٌ لِهَذَا فَكَيْفَ يُرْفَعُ ذَلِكَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. وَقَدْ تَرَاهُ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ تَأَوُّلَ عَائِشَةَ لَا يُرَدُّ بِهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي السَّمَاعَ الثَّابِتَ لِلْمَوْتَى فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَإِذَا عَلِمْتَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي السَّمَاعَ الْمَذْكُورَ، عَلِمْتَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ، مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأَوُّلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، لَا تُرَدُّ بِهِ رِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ الْعُدُولِ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَتَأَكَّدُ، ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ الْعَدْلِ لَا تُرَدُّ بِالتَّأْوِيلِ. الثَّانِي: أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا أَنْكَرَتْ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ» ، قَالَتْ: إِنَّ الَّذِي قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ» ، فَأَنْكَرَتِ السَّمَاعَ وَنَفَتْهُ عَنْهُمْ، وَأَثْبَتَتْ لَهُمُ الْعِلْمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ صَحَّ مِنْهُ السَّمَاعُ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ. الثَّالِثُ: هُوَ مَا جَاءَ عَنْهَا مِمَّا يَقْتَضِي رُجُوعَهَا عَنْ تَأْوِيلِهَا، إِلَى الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. ب قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ فِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ رِوَايَةَ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِيهِ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 أَقُولُ مِنْهُمْ» ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَكَأَنَّهَا رَجَعَتْ عَنِ الْإِنْكَارِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهَا مِنْ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ ; لِكَوْنِهَا لَمْ تَشْهَدِ الْقِصَّةَ، انْتَهَى مِنْهُ. وَاحْتِمَالُ رُجُوعِهَا لِمَا ذُكِرَ قَوِيٌّ، لِأَنَّ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهَا ثَبَتَ بِإِسْنَادَيْنِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ أَحَدَهُمَا جَيِّدٌ، وَالْآخُرُ حَسَنٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ مِنَ الْفَهْمِ وَالذَّكَاءِ وَكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْغَوْصِ عَلَى غَوَامِضِ الْعِلْمِ، مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّ رِوَايَةِ الثِّقَةِ إِلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ، أَوِ اسْتِحَالَتِهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ «كِتَابِ الرُّوحِ» : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ هَلْ تَعْرِفُ الْأَمْوَاتَ زِيَارَةَ الْأَحْيَاءِ وَسَلَامَهُمْ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رَوْحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» ، فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلَى بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي قَلِيبٍ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُخَاطِبُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جَيَّفُوا، فَقَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا» . وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُشَيِّعِينَ لَهُ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ، أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ سَلَامَ مَنْ يُخَاطِبُونَهُ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» ، وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ الْمَعْدُومِ وَالْجَمَادِ، وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ عَنْهُمْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ زِيَارَةَ الْحَيِّ لَهُ، وَيَسْتَبْشِرُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي «كِتَابِ الْقُبُورِ» : بَابٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَوْتَى بِزِيَارَةِ الْأَحْيَاءِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى يَقُومَ» . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: إِذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ أَخِيهِ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَعَرَفَهُ، وَإِذَا مَرَّ بِقَبْرٍ لَا يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ آثَارًا تَقْتَضِي سَمَاعَ الْمَوْتَى، وَمَعْرِفَتَهُمْ لِمَنْ يَزُورُهُمْ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَرَائِيَ كَثِيرًا جَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَرَائِي، وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ بِمُجَرَّدِهَا لِإِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا، وَأَنَّهَا لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِذَا تَوَاطَأَتْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى شَيْءٍ، كَانَ كَتَوَاطُؤِ رِوَايَتِهِمْ لَهُ، وَمِمَّا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْتَأْنِسُ بِالْمُشَيِّعِينَ لِجِنَازَتِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ، فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمَّاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ. . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ الْجَزُورُ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْتَأْنِسُ بِالْحَاضِرِينَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيُسَرُّ بِهِمْ، اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، لِأَنَّ اسْتِئْنَاسَ الْمَقْبُورِ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ عِنْدَ قَبْرِهِ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ. وَمِمَّا قَالَهُ ابْنُ الْقِيَمِ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ: وَيَكْفِي فِي هَذَا تَسْمِيَةُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِمْ زَائِرًا، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِهِ لَمَا صَحَّ تَسْمِيَتُهُ زَائِرًا، فَإِنَّ الْمَزُورَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِزِيَارَةِ مَنْ زَارَهُ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: زَارَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنَ الزِّيَارَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَكَذَلِكَ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، فَإِنَّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ لَا يَشْعُرُ وَلَا يَعْلَمُ بِالْمُسْلِمِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ إِذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» ، وَهَذَا السَّلَامُ وَالْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ لِمَوْجُودٍ يَسْمَعُ، وَيُخَاطِبُ، وَيَعْقِلُ، وَيَرُدُّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الْمُسْلِمُ الرَّدَّ. وَمِمَّا قَالَهُ ابْنُ الْقِيَمِ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ: وَقَدْ تَرْجَمَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ الْأَشْبِيلِيُّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: ذِكْرُ مَا جَاءَ أَنَّ الْمَوْتَى يُسْأَلُونَ عَنِ الْأَحْيَاءِ، وَيَعْرِفُونَ أَقْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» ، قَالَ: وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ فَيَجْلِسُ عِنْدَهُ، إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ حَتَّى يَقُومَ» ، وَاحْتَجَّ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِ مَرَائِيَ وَآثَارًا فِي الْمَوْضُوعِ، ثُمَّ قَالَ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا مَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ قَدِيمًا وَإِلَى الْآنِ، مِنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَيَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَكَانَ عَبَثًا. وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَاسْتَحْسَنَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ. وَيُرْوَى فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَسَوَّيْتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانَةَ» ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: «اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا» ، الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، فَاتِّصَالُ الْعَمَلِ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ كَافٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ قَطُّ بِأَنَّ أُمَّةً طَبَّقَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَهِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُقُولًا، وَأَوْفَرُهَا مَعَارِفَ تُطْبِقُ عَلَى مُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ، وَتَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ لَا يُنْكِرُهُ مِنْهَا مُنْكِرٌ بَلْ سَنَّهُ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ، وَيَقْتَدِي فِيهِ الْآخِرُ بِالْأَوَّلِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْخِطَابَ يُسْمَعُ لَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ لِلتُّرَابِ، وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَالْمَعْدُومِ، وَهَذَا وَإِنِ اسْتَحْسَنَهُ وَاحِدٌ فَالْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى اسْتِقْبَاحِهِ وَاسْتِهْجَانِهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ جِنَازَةَ رَجُلٍ، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: «سَلُوا لِأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْأَلُ حِينَئِذٍ، وَإِذَا كَانَ يُسْأَلُ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ التَّلْقِينَ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ قِصَّةَ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَتَنْفِيذَ عَوْفٍ لِوَصِيَّةِ الصَّعْبِ لَهُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ بِالْفِقْهِ فِي تَنْفِيذِهِ وَصِيَّةِ الصَّعْبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 عُلِمَ صِحَّةُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ، وَكَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي نَفَّذَهَا عَوْفٌ إِعْطَاءُ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ لِيَهُودِيٍّ مِنْ تَرِكَةِ الصَّعْبِ كَانَتْ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ، وَمَاتَ قَبْلَ قَضَائِهَا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا مِنْ فِقْهِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ نَفَّذَ وَصِيَّةَ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَعَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِهِ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي أَخْبَرَهُ بِهَا، مِنْ أَنَّ الدَّنَانِيرَ عَشْرَةٌ وَهِيَ فِي الْقَرْنِ، ثُمَّ سَأَلَ الْيَهُودِيَّ فَطَابَقَ قَوْلُهُ مَا فِي الرُّؤْيَا فَجَزَمَ عَوْفٌ بِصِحَّةِ الْأَمْرِ، فَأَعْطَى الْيَهُودِيَّ الدَّنَانِيرَ، وَهَذَا فِقْهٌ إِنَّمَا يَلِيقُ بِأَفْقَهِ النَّاسِ وَأَعْلَمِهِمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: كَيْفَ جَازَ لِعَوْفٍ أَنْ يَنْقُلَ الدَّنَانِيرَ مِنْ تَرِكَةٍ صَعْبَةٍ، وَهِيَ لِأَيْتَامِهِ وَوَرَثَتِهِ إِلَى يَهُودِيٍّ بِمَنَامٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ تَنْفِيذَ خَالِدٍ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَصِيَّةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَفِي وَصِيَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ قَضَاءُ دِينٍ عَيَّنَهُ لِرَجُلٍ فِي الْمَنَامِ، وَعِتْقِ بَعْضِ رَقِيقِهِ، وَقَدْ وَصَفَ لِلرَّجُلِ الَّذِي رَآهُ فِي مَنَامِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ دِرْعَهُ الرَّجُلُ الَّذِي سَرَقَهَا، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ كَمَا قَالَ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ. وَإِذَا كَانَتْ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَدْ نَفَّذَهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُدْرِكُ وَيَعْقِلُ وَيَسْمَعُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي خَاتِمَةِ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ: وَالْمَقْصُودُ جَوَابُ السَّائِلِ وَأَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا عَرَفَ مِثْلَ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ وَتَفَاصِيلَهَا، فَمَعْرِفَتُهُ بِزِيَارَةِ الْحَيِّ لَهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى، اهـ. فَكَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ هَذَا الطَّوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَهُ جُمْلَةً وَبَعْضَهُ تَفْصِيلًا، فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ مَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى سَمَاعِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، وَفِي كَلَامِهِمَا الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُمَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ، وَمَرَائِي مُتَوَاتِرَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ، أَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ إِلَّا أَهْلُ الشَّامِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ابْنَ الْقَيِّمِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا: أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَاسْتَحْسَنَهُ. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَمَلَ الْمُسْلِمِينَ اتَّصَلَ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الدَّافِنِينَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ جِدًّا ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَسْمَعُ قَرْعَ النِّعَالِ، فَلَأَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ الْوَاضِحَ بِالتَّلْقِينِ مِنْ أَصْحَابِ النِّعَالِ أَوْلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 وَأَحْرَى، وَاسْتِدْلَالُهُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: «سَلُوا لِأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» ، لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ سُؤَالَ السَّائِلِ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ تَلْقِينَ الْمُلَقِّنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِهِ سُؤَالَ الْمَلِكِ وَسَمَاعِهِ التَّلْقِينَ مِنَ الدَّافِنِينَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا أَهْلُ الشَّامِ، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُمْ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّ النَّاسَ تَبِعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَتَلْقِينُهُ الشَّهَادَةَ) وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِاسْتِحْبَابِ التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ. وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ الطِّلَاعِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَعْمَلُ بِهِ، وَقَدْ رُوِّينَا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِالشَّوَاهِدِ، وَعَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَيَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيُلَقِّنَهُ ; لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، إِذْ ذَاكَ يَسْأَلَانِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُنْصَرِفِينَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو حَامِدِ بْنُ الْبَقَّالِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، إِذَا حَضَرَ جِنَازَةً عَزَّى وَلَيَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَانْصَرَفَ مَعَ مَنْ يَنْصَرِفُ، فَيَتَوَارَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْقَبْرِ، فَيُذَكِّرُ الْمَيِّتَ بِمَا يُجَاوِبُ بِهِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطِّلَاعِ الْمَالِكِيِّ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: وَاسْتَحَبَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ أَيْضًا الْقُرْطُبِيُّ وَالثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَبِي. . . فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي كِتَابِ «الْإِيمَانِ» مَيْلٌ إِلَيْهِ، انْتَهَى مِنَ الْحَطَّابِ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ، يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شَمَّاسَةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمَذْكُورِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ حَدِيثَ عَمْرٍو هَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى اسْتِئْنَاسِ الْمَيِّتِ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ عِنْدَ قَبْرِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ» ، مَا نَصُّهُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقَّنَ الْمَيِّتُ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَيُقَالُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا: شَهَادَةَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنْتَ رَضِيَتْ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا، وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: هَذَا التَّلْقِينُ اسْتَحَبَّهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ «التَّهْذِيبُ» وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهِ ضَعِيفٌ، لَكِنَّ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ يُتَسَامَحُ فِيهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِشَوَاهِدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ; كَحَدِيثِ: «اسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ» ، وَوَصِيَّةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَقِيمُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا التَّلْقِينِ، مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَفِي زَمَنِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. وَبِمَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَابْنُ الطِّلَاعِ، وَصَاحِبُ الْمَدْخَلِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا كَلَامَهُمْ تَعْلَمُ أَنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَاعْتَضَدَ بِشَوَاهِدَ صَحِيحَةٍ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا، وَمُتَابَعَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ. وَبِمَا عُلِمَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي الْعَمَلِ بِالضَّعِيفِ فِي أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُعْتَضِدُ مِنْهَا بِصَحِيحٍ، وَإِيضَاحُ شَهَادَةِ الشَّوَاهِدِ لَهُ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَمَاعُ الْمَيِّتِ كَلَامَ مُلَقِّنِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 وَالثَّانِي: انْتِفَاعُهُ بِذَلِكَ التَّلْقِينِ، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا سَمَاعُهُ لِكَلَامِ الْمُلَقِّنِ فَيَشْهَدُ لَهُ سَمَاعُهُ لِقَرْعِ نَعْلِ الْمُلَقِّنِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ سَمَاعُ كَلَامِهِ بِأَبْعَدَ مِنْ سَمَاعِ قَرْعِ نَعْلِهِ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِكَلَامِ الْمُلَقِّنِ، فَيَشْهَدُ لَهُ انْتِفَاعُهُ بِدُعَاءِ الْحَيِّ وَقْتَ السُّؤَالِ فِي حَدِيثِ: «سَلُوا لِأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ الْآنَ» ، وَاحْتِمَالُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْقِينِ قَوِيٌّ جَدًا كَمَا تَرَى، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ السُّؤَالِ يَنْتَفِعُ بِكَلَامِ الْحَيِّ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِانْتِفَاعِهِ بِكَلَامِ الْحَيِّ الَّذِي هُوَ تَلْقِينُهُ إِيَّاهُ وَإِرْشَادُهُ إِلَى جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ، فَالْجَمِيعُ فِي الْأَوَّلِ سَمَاعٌ مِنَ الْمَيِّتِ لِكَلَامِ الْحَيِّ، وَفِي الثَّانِي انْتِفَاعٌ مِنَ الْمَيِّتِ بِكَلَامِ الْحَيِّ وَقْتَ السُّؤَالِ، وَقَدْ عَلِمْتَ قُوَّةَ احْتِمَالِ الْفِرَقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْقِينِ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ، وَمِنْ أَوْضَحِ الشَّوَاهِدِ لِلتَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَخِطَابُهُ خِطَابَ مَنْ يَسْمَعُ، وَيَعْلَمُ عِنْدَ زِيَارَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خِطَابٌ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَقَدِ انْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الرُّومِ» ، فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ، إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ مُسْلِمُونَ [30 \ 32 - 33] ، لِسَمَاعِ الْمَوْتَى، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِمَا، وَكَثِيرًا مِنَ الْمَرَائِي الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ الْمَرَائِيَ إِذَا تَوَاتَرَتْ أَفَادَتِ الْحُجَّةَ، وَمِمَّا قَالَ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، عَلَى تَوْهِيمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي رِوَايَتِهِ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَتْلَى الَّذِينَ أُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِمَا لَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّتِهَا، مِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُصَحِّحًا لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَانَ يَعْرِفُهُ» ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ مِرَارًا، وَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّمْلِ» هَذِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ: أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ سَلَامَ الْأَحْيَاءِ وَخِطَابَهُمْ سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ حَتَّى يَسْمَعُوا الْخِطَابَ وَيَرُدُّوا الْجَوَابَ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَرْوَاحَ أَيْضًا تَسْمَعُ وَتَرُدُّ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَامِ، لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: ثُبُوتُ سَمَاعِ الْمَوْتَى بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُعَارِضُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 الصَّحِيحِ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْقَرَائِنُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ظَهَرَ بِذَلِكَ رُجْحَانُهُ عَلَى تَأَوُّلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَنْ تَبِعَهَا بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَفِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ عَلَى ذَلِكَ مُقْنِعٌ لِلْمُنْصِفِ، وَقَدْ زِدْنَا عَلَيْهَا مَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خُصُوصُ الْحَشْرِ بِهَذِهِ الْأَفْوَاجِ الْمُكَذِّبَةِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى عُمُومِ الْحَشْرِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [27 \ 87] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [18 \ 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [6 \ 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [6 \ 38] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفَعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي آيَةِ «النَّمْلِ» هَذِهِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا الْآيَةَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [27 \ 87] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ الْأَلُوسِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ فِي الْحَشْرِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا فِي الْحَشْرِ الْخَاصِّ بِهَذِهِ الْأَفْوَاجِ الْمُكَذِّبَةِ ; لِأَجْلِ التَّوْبِيخِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا الْآيَةَ [27 \ 84] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، كَمَا تَرَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْأَفْوَاجُ الَّتِي تُحْشَرُ حَشْرًا خَاصًّا هِيَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَقَادَتُهُمْ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [19 \ 68 - 69] ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [110 \ 2] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ، أَيْ: يَرِدُ أَوَّلُهُمْ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 آخِرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا، ثُمَّ يُدْفَعُونَ جَمِيعًا، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَيْ يُسْأَلُونَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَمَقْصُودُهُ بِسُؤَالِهِمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ، وَمَقْصُودُهُ بِسُؤَالِهِمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَالسُّؤَالُ الْمَذْكُورُ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، فَقَدْ وَبَّخَهُمْ تَعَالَى فِيهِ عَلَى فَسَادِ الِاعْتِقَادِ، وَفَسَادِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّوْبِيخُ عَلَيْهِمَا مَعًا الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [75 \ 31] ، كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ، وَقَوْلُهُ: وَلَكِنْ كَذَّبَ، تَوْبِيخٌ عَلَى فَسَادِ الِاعْتِقَادِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا صَلَّى: تَوْبِيخٌ عَلَى إِضَاعَةِ الْعَمَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِمْ هُوَ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 13] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَنْطِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [77 \ 35] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا الْآيَةَ [17 \ 97] ، مَعَ أَنَّهُ بَيَّنَتْ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَعْتَذِرُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [16 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا الْآيَةَ [32 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [23 \ 106 - 107] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 الْآيَةَ [43 \ 77] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي سُورَةِ «الْمُرْسَلَاتِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ [77 \ 35] ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ. فَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَامَةَ مَوَاطِنُ، فَفِي بَعْضِهَا يَنْطِقُونَ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَنْطِقُونَ، فَإِثْبَاتُ النُّطْقِ لَهُمْ وَنَفْيُهُ عَنْهُمْ كِلَاهُمَا مُنَزَّلٌ عَلَى حَالٍ وَوَقْتٍ غَيْرِ حَالِ الْآخَرِ وَوَقْتِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ نُطْقَهُمُ الْمُثْبَتَ لَهُمْ خَاصٌّ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَالنُّطْقَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمْ خَاصٌّ بِمَا لَهُمْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ أَجْوِبَةِ ذَلِكَ فِي «الْفُرْقَانِ» وَ «طَهَ» ، وَ «الْإِسْرَاءِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ الْآيَةَ [17 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَتِهِ أَيْضًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَعْنَى، بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ غَلَبَتَهُ فِيهِ، تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَمَثَّلْنَا لِجَمِيعِ ذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَالْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمَا مَعًا آيَةُ «النَّمْلِ» هَذِهِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِبَالَ الْآنَ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَحْسَبُهَا رَائِيهَا جَامِدَةً، أَيْ: وَاقِفَةً سَاكِنَةً غَيْرَ مُتَحَرِّكَةٍ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ يَصِفُ جَيْشًا: بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أَنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍّ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ وَالنَّوْعَانِ الْمَذْكُورَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ، يُبَيِّنَانِ عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: وَهُوَ وُجُودُ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَفَزِعَ، وَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُرَتَّبٌ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ الْآيَةَ [27 \ 87] ، أَيْ: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَفْزَعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَتَرَى الْجِبَالَ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ مَرَّ الْجِبَالِ مَرَّ السَّحَابِ كَائِنٌ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، لَا الْآنَ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ فَوَاضِحٌ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا حَرَكَةُ الْجِبَالِ كُلُّهَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [52 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [18 \ 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [81 \ 3] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، جَاءَ نَحْوُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [23 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] ، وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ وَإِيجَادُهَا وَنَصْبُهَا قَبْلَ تَسْيِيرِهَا، كُلُّ ذَلِكَ صُنْعٌ مُتْقَنٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا. اعْلَمْ: أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَشْمَلُ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحَسَنَاتِ: الْأَوَّلُ: حَسَنَةٌ هِيَ فِعْلُ خَيْرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعَبْدِ، كَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، أَنَّ الثَّوَابَ مُضَاعَفٌ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْعَمَلِ ; لِأَنَّ مَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابًا هُوَ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابٌ هُوَ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، خَيْرٌ مِنَ الْحَسَنَةِ الَّتِي قَدَّمَهَا الَّتِي هِيَ إِنْفَاقُ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا تَرَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 وَهَذَا الْمَعْنَى تُوَضِّحُهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [6 \ 160] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَشْرَ أَمْثَالِ الْحَسَنَةِ خَيْرٌ مِنْهَا هِيَ وَحْدَهَا ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [4 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [2 \ 261] . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْحَسَنَةِ: فَكَقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ خَيْرٌ مَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بَلْ هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ لَفْظَةَ خَيْرٌ لَيْسَتْ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ. وَأَنَّ الْمَعْنَى: فَلَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ حَاصِلٌ لَهُ مِنْهَا، أَيْ: مِنْ قِبَلِهَا وَمِنْ أَجْلِهَا، وَعَلَيْهِ فَلَفْظَةُ مِنْ فِي الْآيَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [71 \ 25] ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ خِطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا، فَأُدْخِلُوا نَارًا. وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَخَيْرٌ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ لَفْظَةَ خَيْرٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَيْضًا، وَلَا يُرَادُ بِهَا تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعَبَّدَ بِهَا الْعَبْدُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَتَعَبُّدُهُ بِهَا فِعْلُهُ الْمَحْضُ، وَقَدْ أَثَابَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَعَبُّدِهِ بِهَا، وَإِثَابَةُ اللَّهِ فِعْلُهُ جَلَّ وَعَلَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ عَبْدِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ فَزَعِ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. دَلَّتْ عَلَى مَعْنَاهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَمْنِهِمْ مِنَ الْفَزَعِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْآيَةَ [21 \ 103] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَمْنِهِمْ: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [34 \ 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [41 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ [27 \ 89] ، قَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِتَنْوِينٍ فَزَعٍ، وَفَتْحِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، بَلْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَوْمَئِذٍ، إِلَّا أَنَّ نَافِعًا قَرَأَ بِفَتْحِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ مَعَ إِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى يَوْمَئِذٍ مَعَ كَسْرِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ، وَفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا مِنْ نَحْوِ يَوْمَئِذٍ، قَدْ أَوْضَحْنَاهُ بِلُغَاتِهِ وَشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ بَيَانِ الْمُخْتَارِ مِنَ اللُّغَاتِ فِي سُورَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ الْآيَةَ [19 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ، يَعْنِي الشِّرْكَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَضَمَّنَتْ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسَّيِّئَةِ كَالشِّرْكِ يُكَبُّ وَجْهُهُ فِي النَّارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّئَةَ إِنَّمَا تُجْزَى بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [20 \ 74] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الثَّانِي مِنْهُمَا: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا الْآيَةَ [6 \ 160] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [28 \ 84] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزَاءً وِفَاقًا [78 \ 26] . وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُضَاعَفُ، فَاعْلَمْ أَنَّ السَّيِّئَةَ قَدْ تَعْظُمُ فَيَعْظُمُ جَزَاؤُهَا بِسَبَبِ حُرْمَةِ الْمَكَانِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [22 \ 25] ، أَوْ حُرْمَةِ الزَّمَانِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَشْهُرِ الْحَرَامِ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [9 \ 36] . وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْعَذَابَ يَعْظُمُ بِسَبَبِ عِظَمِ الْإِنْسَانِ الْمُخَالِفِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [17 \ 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ الْآيَةَ [69 \ 44 - 46] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ الْآيَةَ [33 \ 30] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [17 \ 75] ، مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمُضَاعَفَةِ السَّيِّئَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ عِظَمِ الذَّنْبِ، حَتَّى صَارَ فِي عِظَمِهِ كَذَنْبَيْنِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَتْ مُضَاعَفَةُ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ كَانَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُخَصَّصَتَيْنِ لِلْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةِ، بِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا تُجْزَى إِلَّا بِمِثْلِهَا، وَالْجَمِيعُ مُحْتَمَلٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ الْآيَةَ [10 \ 104] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ 106 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِقَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ الْآيَةَ [6 \ 14] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ، فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ الْآيَةَ [18 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [13 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [11 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [51 \ 54] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا. جَاءَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [41 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [14 \ 42] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: عَمَّا تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَمَّا يَعْمَلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْقَصَصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، هُوَ الْكَلِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [7 \ 137] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً جَمْعَ إِمَامٍ، أَيْ: قَادَةً فِي الْخَيْرِ، دُعَاةً إِلَيْهِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ وَارِثِيهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَبَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [32 \ 24] ، فَالصَّبْرُ وَالْيَقِينُ هُمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ لَهُ وَارِثِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ [7 \ 137] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [44 \ 25 - 28] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 \ 57 - 59] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [28 \ 8] ، لَامُ التَّعْلِيلِ الْمَعْرُوفَةُ بِلَامِ كَيْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [76 \ 30] . وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَصْرِفُ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ وَقُدْرَتَهُ بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَقَدْ صَرَفَ مَشِيئَةَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، إِلَى الْتِقَاطِهِمْ مُوسَى ; لِيَجْعَلَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدَّرْنَا عَلَيْهِمُ الْتِقَاطَهُ بِمَشِيئَتِنَا لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، وَهَذَا مَعْنًى وَاضِحٌ، لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ، كَمَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى مَعْنَى السِّيَاقِ، فَإِنَّهُ تَبْقَى اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيِّضَهُمْ لِالْتِقَاطِهِ، لِيَجْعَلَهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَنًا، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ حَذَرِهِمْ مِنْهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، كَمَا بَيَّنَّا وَجْهَهُ آنِفًا. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَيُنْشِدُونَ لَهُ الشَّوَاهِدَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونَ، لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ خِلَافَ الصَّوَابِ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ الْبَيَانِيُّونَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونَ فِيهَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، خِلَافَ الصَّوَابِ أَيْضًا. وَإِيضَاحُ مُرَادِ الْبَيَانِيِّينِ بِذَلِكَ، هُوَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ تَقْسِيمِهِمْ لِمَا يُسَمُّونَهُ الِاسْتِعَارَةَ، الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ عَلَاقَتُهُ الْمُشَابِهَةُ أَنَّهُمْ يُقَسِّمُونَهَا إِلَى اسْتِعَارَةٍ أَصْلِيَّةٍ، وَاسْتِعَارَةٍ تَبَعِيَّةٍ، وَمُرَادُهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ الِاسْتِعَارَةُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْجَامِدَةِ وَالْمُصَادَرِ، وَمُرَادُهُمْ بِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمُشْتَقَّاتِ، كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْفِعْلِ. وَالثَّانِي: الِاسْتِعَارَةُ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ. فَمِثَالُ الِاسْتِعَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ عِنْدَهُمْ: رَأَيْتُ أَسَدًا عَلَى فَرَسِهِ، فَفِي لَفْظَةِ أَسَدٍ فِي هَذَا الْمِثَالِ اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ بِالْأَسَدِ لِعَلَاقَةِ الشَّجَاعَةِ، فَحَذَفَ الْمُشَبَّهَ الَّذِي هُوَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ، وَصَرَّحَ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْأَسَدُ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ، وَصَارَتْ أَصْلِيَّةً ; لِأَنَّ الْأَسَدَ اسْمُ جِنْسٍ جَامِدٍ. وَمِثَالُ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْمُشْتَقِّ عِنْدَهُمْ قَوْلُكُ: الْحَالُ نَاطِقَةٌ بِكَذَا، فَالْمُرَادُ عِنْدَهُمْ: تَشْبِيهُ دَلَالَةِ الْحَالِ بِالنُّطْقِ بِجَامِعِ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ بِسَبَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَحَذَفَ الدَّلَالَةَ الَّتِي هِيَ الْمُشَبَّهُ، وَصَرَّحَ بِالنُّطْقِ الَّذِي هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ، وَاشْتُقَّ مِنَ النُّطْقِ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ نَاطِقَةٌ، فَجَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعَيَّةُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ نَاطِقَةٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا تَبَعِيَّةٌ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَرَتْ فِيهِ تَبَعًا لِجَرَيَانِهَا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 الْمَصْدَرِ، الَّذِي هُوَ النُّطْقُ ; لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ تَابِعٌ لِلْمُشْتَقِّ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فَهْمُهُ بِدُونِ فَهْمِهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَذْكُرُونَهُ مِنْ تَوْجِيهِ مَا ذُكِرَ. وَمِثَالُ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةُ عِنْدَهُمْ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، فِي زَعْمِهِمْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، قَالُوا: اللَّامُ فِيهَا كَلَفْظِ الْأَسَدِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ الْأَسَدِ لِمُشَابَهَةٍ بَيْنِهِمَا، قَالُوا: وَكَذَلِكَ اللَّامُ أَصْلُهَا مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، وَعِلَّةُ الشَّيْءِ الْغَائِيَّةُ هِيَ مَا يَحْمِلُ عَلَى تَحْصِيلِهِ لِيَحْصُلَ بَعْدَ حُصُولِهِ، قَالُوا: وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلِالْتِقَاطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ، هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالنَّفْعُ وَالتَّبَنِّي، أَيِ: اتِّخَاذُهُمْ مُوسَى وَلَدًا، كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [28 \ 9] ، فَهَذِهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ، لِتَحْصُلَ لَهُمْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ. قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْحَاصِلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ، هُوَ ضِدُّ مَا رَجَوْهُ وَأَمَّلُوهُ، وَهُوَ الْعَدَاوَةُ وَالْحَزَنُ، شُبِّهَتِ الْعَدَاوَةُ وَالْحَزَنُ الْحَاصِلَانِ بِالِالْتِقَاطِ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي وَالنَّفْعِ، الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الِالْتِقَاطِ الْغَائِيَّةُ بِجَامِعِ التَّرَتُّبِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ تَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْلُولِهَا دَائِمًا تَرَتُّبَ رَجَاءٍ لِلْحُصُولِ، فَتَبَنِّيهِمْ لِمُوسَى وَمَحَبَّتُهُ كَانُوا يَرْجُونَ تَرَتُّبَهُمَا عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُتَرَتِّبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ هُوَ كَوْنُهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَنًا، صَارَ هَذَا التَّرَتُّبُ الْفِعْلِيُّ شَبِيهًا بِالتَّرَتُّبِ الرَّجَائِي، فَاسْتُعِيرَتِ اللَّامُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَتُّبِ الرَّجَائِي لِلتَّرَتُّبِ الْحُصُولِي الْفِعْلِيِّ الَّذِي لَا رَجَاءَ فِيهِ. وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُزْنِ وَالْعَدَاوَةِ عَلَى الِالْتِقَاطِ أَشْبَهَ تَرَتُّبَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي عَلَى الِالْتِقَاطِ، فَأُطْلِقَتْ لَامُ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ فِي الْحُزْنِ وَالْعَدَاوَةِ، لِمُشَابَهَتِهِمَا لِلتَّنَبِّي وَالْمَحَبَّةِ فِي التَّرَتُّبِ، كَمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، لِمُشَابَهَتِهِمَا فِي الشَّجَاعَةِ. وَبَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ يَقُولُ: فِي هَذَا جَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ أَوَّلًا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي، وَبَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحُزْنِ اللَّذَيْنِ حُصُولُهُمَا هُوَ الْمَجْرُورُ، فَكَانَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي اللَّامِ تَبَعًا لِلِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَجْرُورِ ; لِأَنَّ اللَّامَ لَا تَسْتَقِلُّ فَيَكُونُ مَا اعْتُبِرَ فِيهَا تَبَعًا لِلْمَجْرُورِ، الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: فَجَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ أَوَّلًا فِي الْعَلِيَّةِ وَالْغَرَضِيَّةِ، وَتَبَعِيَّتُهَا فِي اللَّامِ، وَهُنَاكَ مُنَاقَشَاتٌ فِي التَّبَعِيَّةِ فِي مَعْنَى الْحَرْفِ تَرَكْنَاهَا، لِأَنَّ غَرَضَنَا بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِيجَازٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 وَإِذَا عَلِمْتَ مُرَادَهُمْ بِمَا ذُكِرَ، فَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ «مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ» ، أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا مَجَازَ فِيهِ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [28 \ 8] ، أَيْ: مُرْتَكِبِينَ الْخَطِيئَةَ الَّتِي هِيَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [71 \ 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الْآيَةَ [2 \ 81] . وَمِنْ إِطْلَاقِ الْخَاطِئِ عَلَى الْمُذْنِبِ الْعَاصِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [69 \ 36 - 37] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [96 \ 16] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [12 \ 29] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا الْآيَاتِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» . وَاعْلَمْ أَنَّا رُبَّمَا تَرَكْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ إِيضَاحُهَا مِنْ غَيْرِ إِحَالَةِ عَلَيْهَا، لِكَثْرَةِ مَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ إِتْبَاعِهِ اللَّعْنَةَ لِفِرْعَوْنِ وَجُنُودِهِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، بِقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [11 \ 99] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مِنَ الْمَطْرُودِينَ الْمُبْعَدِينَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْبُوحِينَ اسْمُ مَفْعُولٍ، قَبَّحَهُ إِذَا صَيَّرَهُ قَبِيحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَهْدِي مَنْ أَحَبَّ هِدَايَتَهُ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 وَعَلَا هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هُدَاهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [16 \ 37] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [5 \ 41] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [53 \ 30] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [16 \ 125] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا سَابِقًا أَنَّ الْهُدَى الْمَنْفِيَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، هُوَ هُدَى التَّوْفِيقِ ; لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْهُدَى الْمُثْبَتَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] ، هُوَ هُدَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ، وَنُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، فِي أَبِي طَالِبٍ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْآيَةَ [18 \ 1] . قَوْلُهُ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [55 \ 26 \ 27] ، وَالْوَجْهُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، وَفِي غَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] ، وَقَدْ تَرَكْنَا ذِكْرَ إِحَالَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» ، هَذِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْعَنْكَبُوتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ [29 \ 2] ، لِلْإِنْكَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّاسَ لَا يُتْرَكُونَ دُونَ فِتْنَةٍ، أَيِ: ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ، لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا، بَلْ إِذَا قَالُوا: آمَنَّا فُتِنُوا، أَيِ: امْتُحِنُوا وَاخْتُبِرُوا بِأَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ الِابْتِلَاءُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ: آمَنَّا مِنْ غَيْرِ الصَّادِقِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [2 \ 214] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [3 \ 142] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [47 \ 31] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْآيَةَ [3 \ 179] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [3 \ 154] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [9 \ 16] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هُنَا: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا الْآيَةَ [29 \ 3] . وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 قَدْرِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ ; كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [17 \ 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ بِلِسَانِهِ، فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ، أَيْ: آذَاهُ الْكُفَّارُ إِيذَاءَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ صَارِفَةً لَهُ عَنِ الدِّينِ إِلَى الرِّدَّةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ ; كَعَذَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ صَارِفٌ رَادِعٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَمَعْنَى فِتْنَةَ النَّاسِ، الْأَذَى الَّذِي يُصِيبُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِيذَاءُ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ الْفِتْنَةُ، وَهَذَا قَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [22 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ تُؤْمَنْ قُلُوبُهُمْ، إِذَا حَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ أَذًى، وَهُمْ مَعَهُمْ جَعَلُوا فِتْنَةَ لِلنَّاسِ، أَيْ: أَذَاهُمْ كَعَذَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَنَصَرَهُمْ عَلَى الْكُفَّارِ، وَهَزَمُوهُمْ وَغَنِمُوا مِنْهُمُ الْغَنَائِمَ، قَالَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، يَعْنُونَ: أَنَّهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ، يُرِيدُونَ أَخْذَ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [4 \ 141] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [4 \ 72 - 73] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، بِقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [29 \ 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ زِيَادَةَ إِيضَاحِهَا مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [16 \ 25] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي «هُودٍ» وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ، يَعْنِي سَفِينَةَ نُوحٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [36 \ 41 - 42] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [16 \ 73] ، وَفِي «سُورَةِ الْفُرْقَانِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 إِلَى قَوْلِهِ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا الْآيَةَ [7 \ 38] ، وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّتِهِ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كُلَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ ذُكِرَ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : أَنَّ نُوحًا مُشْتَرِكٌ مَعَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ دُونَ إِبْرَاهِيمَ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الْآيَةَ [57 \ 26] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ آتَى إِبْرَاهِيمَ أَجْرَهُ، أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِأَجْرِهِ فِي الدُّنْيَا: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ إِلَى كُفَّارٍ وَمُؤْمِنِينَ، وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْمَذْكُورُ هُوَ لِسَانُ الصِّدْقِ، فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [26 \ 84] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [19 \ 50] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، لَا يَخْفَى أَنَّ الصَّلَاحَ فِي الدُّنْيَا يَظْهَرُ بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَظْهَرُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [2 \ 124] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [53 \ 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [16 \ 120 - 122] . قَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [11 \ 74] . قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَمَّا أَنَّ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا، إِلَى قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ، فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ لُوطٍ، وَفِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، إِلَى قَوْلِهِ: فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّتِهِ مَعَ قَوْمِهِ، وَفِي «الشُّعَرَاءِ» أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا. الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَادًا مَفْعُولٌ بِهِ لِ أَهْلَكْنَا مُقَدَّرَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [29 \ 37] ، أَيْ: أَهْلَكْنَا مَدْيَنَ بِالرَّجْفَةِ، وَأَهْلَكْنَا عَادًا، وَيَدُلُّ لِلْإِهْلَاكِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ، أَيْ: هِيَ خَالِيَةٌ مِنْهُمْ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ أَيْضًا: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ. وَقَدْ أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ إِلَى إِهْلَاكِ عَادٍ، وَثَمُودَ، وَقَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّهُ أَخَذَ كُلًّا مِنْهُمْ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ عَلَى سَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي الْبَدِيعِ بِاللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ أَسْبَابَ إِهْلَاكِهِمْ، فَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 وَهِيَ: الرِّيحُ، يَعْنِي: عَادًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [69 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [51 \ 41] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، يَعْنِي: ثَمُودَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [11 \ 67 - 68] . وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ، يَعْنِي: قَارُونَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ الْآيَةَ [28 \ 81] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا، يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [37 \ 82] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، أَنَّ اسْتِبْصَارَهُمُ الْمَذْكُورَ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَاصَّةً ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [30 \ 7] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 10] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [29 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ الْآيَةَ [7 \ 176] ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ الْآيَةَ [18 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ الْآيَةَ [2 \ 45] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَتَفْسِيرُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ «طه» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [20 \ 133] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [6 \ 57] ، وَفِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [10 \ 51] ، وَفِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الْآيَةَ [13 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. نَادَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَكَّدَ لَهُمْ أَنَّ أَرْضَهُ وَاسِعَةٌ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ الَّذِي هُوَ إِيَّايَ ; كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [1 \ 5] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا فِي أَرْضٍ لَا يَقْدِرُونَ فِيهَا عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِمْ، أَوْ يُصِيبُهُمْ فِيهَا أَذَى الْكُفَّارِ، فَإِنَّ أَرْضَ رَبِّهِمْ وَاسِعَةٌ فَلْيُهَاجِرُوا إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَيَسْلَمُونَ فِيهِ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [4 \ 97] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [39 \ 10] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [29 \ 57] . جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [3 \ 185] ، وَقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [55 \ 26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [28 \ 88] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا. قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، مُوَضَّحًا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، وَقَدَّمْنَا مَعْنَى لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْغُرَفُ فِي آخِرِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ الْآيَةَ [25 \ 75] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لِضَعْفِهَا، أَنَّهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا يَرْزُقُهَا، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [11 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، إِلَى قَوْلِهِ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، إِلَى قَوْلِهِ: تَبِيعًا [17 \ 67 - 69] ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ الْآيَةَ. امْتَنَّ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى قُرَيْشٍ، بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا، يَعْنِي حَرَمَ مَكَّةَ، فَهُمْ آمِنُونَ فِيهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، وَالنَّاسُ الْخَارِجُونَ عَنِ الْحَرَمِ، يُتَخَطَّفُونَ قَتْلًا وَأَسْرًا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْقَصَصِ» : وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا الْآيَةَ [5 \ 97] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [3 \ 97] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ الْآيَةَ [5 \ 97] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [106 \ 3 - 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِيهِ أَنَّهُ يَهْدِيهِمْ إِلَى سُبُلِ الْخَيْرِ وَالرَّشَادِ، وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لَنَهْدِيَنَّهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [47 \ 17] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا الْآيَةَ [9 \ 124] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [16 \ 128] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الرُّومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ، مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [30 \ 3 - 5] ، هُوَ نَفْسُ الْوَعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعْدًا. وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. [13 \ 31] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ وَعِيدَهُ لِلْكُفَّارِ لَا يُخْلَفُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [50 \ 28 - 29] . وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ وَعِيدُهُ لِلْكُفَّارِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [50 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] ، فَقَوْلُهُ: حَقَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَيْ: وَجَبَ وَثَبَتَ، فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ بِحَالٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا: وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْكَافِرُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [11 \ 17] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [6 \ 116] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [12 \ 103] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [2 \ 170] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [2 \ 171] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [25 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [7 \ 179] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [29 \ 38] ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْآيَةَ [53 \ 29 - 30] . وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُمْ غَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا الْآيَةَ [23 \ 36 - 37] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] ، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] ، مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. [تَنْبِيهٌ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَتَدَبَّرَ آيَةَ «الرُّومِ» هَذِهِ تَدَبُّرًا كَثِيرًا، وَيُبَيِّنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لِكُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ بَيَانَهُ لَهُ مِنَ النَّاسِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ فِتَنِ آخِرِ الزَّمَانِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا ضِعَافَ الْعُقُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةَ إِتْقَانِ الْإِفْرِنْجِ لِأَعْمَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَهَارَتِهِمْ فِيهَا عَلَى كَثْرَتِهَا، وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مَعَ عَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، فَظَنُّوا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْهَا مُتَخَلِّفٌ وَلَيْسَ عَلَى الْحَقِّ، وَهَذَا جَهْلٌ فَاحِشٌ، وَغَلَطٌ فَادِحٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ، وَتَخْفِيفٌ لِشَأْنِهَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِأَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ مَا أَعْلَمَهُ، وَمَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَحْسَنَ تَعْلِيمَهُ. فَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَقَدْ نَفَى عَنْهُمْ جَلَّ وَعَلَا اسْمَ الْعَلَمِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا عَمَّنْ خَلَقَهُمْ، فَأَبْرَزُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَرَزَقَهُمْ، وَسَوْفَ يُمِيتُهُمْ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ، ثُمَّ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا شَيْئًا عَنْ مَصِيرِهِمُ الْأَخِيرِ الَّذِي يُقِيمُونَ فِيهِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً فِي عَذَابٍ فَظِيعٍ دَائِمٍ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ جَمِيعِ هَذَا فَلَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ جِنْسِ مَنْ يَعْلَمُ ; كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، ثُمَّ لَمَّا نَفَى عَنْهُمْ جَلَّ وَعَلَا اسْمَ الْعَلَمِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، أَثْبَتَ لَهُمْ نَوْعًا مِنَ الْعِلْمِ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ. وَعَابَ ذَلِكَ النَّوْعَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْعِلْمِ، بِعَيْبَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّتُهُ وَضِيقُ مَجَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْعِلْمُ الْمَقْصُورُ عَلَى ظَاهِرٍ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَضِيقِ الْمَجَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا، وَالْعِلْمِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَبِمَا يُقَرِّبُ عَبْدَهُ مِنْهُ، وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ، وَمَا يَخْلُدُ فِي النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَالْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: هُوَ دِنَاءَهُ هَدَفِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ نُبْلِ غَايَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَهِيَ سَرِيعَةُ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالَ، وَيَكْفِيكَ مِنْ تَحْقِيرِ هَذَا الْعِلْمِ الدُّنْيَوِيِّ أَنَّ أَجْوَدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا، أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ لَا يَعْلَمُونَ، فَهَذَا الْعِلْمُ كَلَا عِلْمٍ لِحَقَارَتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : وَقَوْلُهُ: يَعْلَمُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي هَذَا الْإِبْدَالِ مِنَ النُّكْتَةِ أَنَّهُ أَبْدَلَهُ مِنْهُ وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ لِيُعَلِّمَكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْجَهْلُ، وَبَيْنَ وُجُودِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُفِيدُ أَنَّ لِلدُّنْيَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَظَاهِرُهَا مَا يَعْرِفُهُ الْجُهَّالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَخَارِفِهَا، وَالتَّنَعُّمِ بِمَلَاذِّهَا وَبَاطِنِهَا، وَحَقِّيَّتُهَا أَنَّهَا مَجَازٌ إِلَى الْآخِرَةِ، يُتَزَوَّدُ مِنْهَا إِلَيْهَا بِالطَّاعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي تَنْكِيرِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا ظَاهِرًا وَاحِدًا مِنْ ظَوَاهِرِهَا. وَهُمْ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَغَافِلُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ هُمْ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِلْأُولَى، وَغَافِلُونَ خَبَرُ الْأُولَى، وَأَيَّةً كَانَتْ فَذِكْرُهَا مُنَادٍ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْدِنُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ، وَمَقَرُّهَا، وَمَحَلُّهَا وَأَنَّهَا مِنْهُمْ تَنْبُعُ وَإِلَيْهِمْ تَرْجِعُ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» . وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِي تَنْكِيرِ قَوْلِهِ: ظَاهِرًا تَقْلِيلٌ لِمَعْلُومِهِمْ، وَتَقْلِيلُهُ يُقَرِّبُهُ مِنَ النَّفْيِ، حَتَّى يُطَابِقَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ، اهـ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 78] ، وَهَذِهِ الْعُلُومُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي بَيَّنَّا حَقَارَتَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا غَفَلَ عَنْهُ أَصْحَابُهَا الْكُفَّارُ، إِذَا تَعَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْ تَعْلِيمِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا مُطَابِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَتْ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا ; لِأَنَّهَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَإِصْلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا عَيْبَ فِيهَا إِذَنْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [8 \ 60] ، فَالْعَمَلُ فِي إِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعْيًا فِي مَرْضَاتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْكُفَّارِ الْغَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ كَمَا تَرَى، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 لَمَّا بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ غَافِلُونَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ غَفْلَتَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ، مَعَ شِدَّةِ وُضُوحِ أَدِلَّتِهَا بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ، وَالتَّفَكُّرُ: التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ، وَأَصْلُهُ إِعْمَالُ الْفِكْرِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ يَقُولُونَ: الْفِكْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ حَرَكَةُ النَّفْسِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَأَمَّا حَرَكَتُهَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ تَخْيِيلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : فِي أَنْفُسِهِمْ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَلَمْ يُحْدِثُوا التَّفَكُّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: فِي قُلُوبِهِمُ الْفَارِغَةِ مِنَ الْفِكْرِ، وَالْفِكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُ زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِحَالِ الْمُتَفَكِّرِينَ ; كَقَوْلِكَ: اعْتَقَدَهُ فِي قَلْبِكَ وَأَضْمِرْهُ فِي نَفْسِكَ وَأَنْ يَكُونَ صِلَةً لِلتَّفَكُّرِ كَقَوْلِكَ: تَفَكَّرَ فِي الْأَمْرِ أَجَالَ فِيهِ فِكْرَهُ، وَمَا خَلَقَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، مَعْنَاهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فَيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَيَعْلَمُوا، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ: مَا خَلَقَهَا بَاطِلًا وَعَبَثًا بِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ، وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَلَا لِتَبْقَى خَالِدَةً، وَإِنَّمَا خَلَقَهَا مَقْرُونَةً بِالْحَقِّ، مَصْحُوبَةً بِالْحِكْمَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَجَلٍ مُسَمًّى لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ، وَوَقْتُ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [23 \ 115] ، كَيْفَ سَمَّى تَرْكَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ عَبَثًا، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِثِيَابِ السَّفَرِ، وَاشْتَرَى الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ وَلِجَامِهِ، تُرِيدُ: اشْتَرَاهُ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى: مَا خَلَقَهَا إِلَّا وَهِيَ مُتَلَبِّسَةٌ بِالْحَقِّ مُقْتَرِنَةٌ بِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا جُعِلَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ صِلَةٌ لِلتَّفَكُّرِ فَمَا مَعْنَاهُ؟ . قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُمْ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ بِأَحْوَالِهَا مِنْهُمْ بِأَحْوَالِ مَا عَدَاهَا، فَتَدَبَّرُوا مَا أَوْدَعَهَا اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مِنْ غَرَائِبِ الْحِكَمِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّدْبِيرِ دُونَ الْإِهْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنَ انْتِهَاءٍ إِلَى وَقْتٍ يُجَازِيهَا فِيهِ الْحَكَمُ الَّذِي دَبَّرَ أَمْرَهَا عَلَى الْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَعَلَى الْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا، حَتَّى يَعْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الْخَلَائِقِ كَذَلِكَ أَمْرُهَا جَارٍ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 لَهَا مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ خَلْقَهُ تَعَالَى لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَلَا عَبَثًا، بَلْ مَا خَلَقَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلَقَهُمَا عَبَثًا لَكَانَ ذَلِكَ الْعَبَثُ بَاطِلًا وَلَعِبًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ مَا خَلَقَهُمَا وَخَلَقَ جَمِيعَ مَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِيهِمَا الْخَلَائِقَ، وَيُكَلِّفُهُمْ فَيَأْمُرُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ، وَيَعِدُهُمْ وَيُوعِدُهُمْ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى الْأَجَلُ الْمُسَمَّى لِذَلِكَ بَعَثَ الْخَلَائِقَ، وَجَازَاهُمْ فَيُظْهِرُ فِي الْمُؤْمِنِينَ صِفَاتِ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَتَظْهَرُ فِي الْكَافِرِينَ صِفَاتُ عَظْمَتِهِ، وَشَدَّةُ بَطْشِهِ، وَعِظَمُ نَكَالِهِ، وَشَدَّةُ عَدْلِهِ وَإِنْصَافُهُ، دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [44 \ 38 - 40] ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الْآيَةَ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [53 \ 31] . وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا بَاطِلًا لَا لِحِكْمَةٍ الْكُفَّارُ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ الْكَاذِبِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] ، وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْعَثِ الْخَلَائِقَ وَيُجَازِهِمْ، لَكَانَ خَلْقُهُ لَهُمْ أَوَّلًا عَبَثًا، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَبَثِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 115 - 116] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 بَاعِثُهُمْ، وَمُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا، فَكَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ، كَافِرِينَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: وَمَا بَيْنَهُمَا، أَيْ: مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَدْخُلُ فِيهِ السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْهَوَاءُ الَّذِي لَا غِنَى لِلْحَيَوَانِ عَنِ اسْتِنْشَاقِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 76] . وَفِي «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [5 \ 32] . وَفِي «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [1 \ 83] . وَفِي «الْإِسْرَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ الْآيَةَ [17 \ 17] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الرُّومِ» هَذِهِ: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [30 \ 9] ، جَاءَ مُوَضِّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [40 \ 82] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: كَانَ عَاقِبَةُ، بِضَمِّ التَّاءِ اسْمُ كَانَ، وَخَبَرُهَا السُّوءَى. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ، بِفَتْحِ التَّاءِ خَبَرُ كَانَ قُدِّمَ عَلَى اسْمِهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» : وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسَّطَ الْخَبَرُ أَجِزْ. . . . . . . . وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَـ السُّوءَى اسْمُ كَانَ، وَإِنَّمَا جُرِّدَ الْفِعْلُ مِنَ التَّاءِ مَعَ أَنَّ السُّوءَى مُؤَنَّثَةٌ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 الْأَوَّلُ: أَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَالثَّانِي: الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ فَوَجْهُ تَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنَ التَّاءِ هُوَ كَوْنُ تَأْنِيثِ الْعَاقِبَةِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ فَقَطْ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ: كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُسِيئِينَ السُّوءَى، وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَسْوَءِ، بِمَعْنَى: الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ سُوءًى، أَيْ: كَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ الْعُقُوبَاتِ، أَيْ: أَكْثَرُهَا سُوءًى وَهِيَ النَّارُ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ التَّاءِ، فَالْمَعْنَى: كَانَتِ السُّوءَى عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا، وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ كَذَّبُوا، أَيْ: كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ أَسْوَأَ الْعُقُوبَاتِ لِأَجْلِ أَنْ كَذَّبُوا. وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُوَضِّحُ أَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ قَدْ يُؤَدِّي شُؤْمُهُ إِلَى شَقَاءِ صَاحِبِهِ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [2 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [17 \ 46] . وَفِي «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [7 \ 101] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مَنْصُوبٌ بِـ أَسَاءُوا، أَيِ: اقْتَرَفُوا الْجَرِيمَةَ السُّوءَى خِلَافُ الصَّوَابِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ كَذَّبُوا تَفْسِيرِيَّةٌ، فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْبَقَرَةِ» ، وَ «النَّحْلِ» ، وَ «الْحَجِّ» ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ الْآيَةَ [2 \ 48] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا 19 \ 82] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا، أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ، الْآيَتَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُشِيرَ فِيهَا إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ ذَلِكَ مَعَ إِيضَاحِ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي أُشِيرَ فِيهَا إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي ذِكْرِنَا بَرَاهِينَ الْبَعْثِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 22] . وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ [16 \ 11] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «طه» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ الْآيَةَ [20 \ 55] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [16 \ 72] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 قَوْلُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [2 \ 164] . وَقَوْلُهُ: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، قَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ الْآدَمِيِّينَ وَاخْتِلَافَ أَلْوَانِ الْجِبَالِ، وَالثِّمَارِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْأَنْعَامِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ [35 \ 27 - 28] ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِهِ، وَمِنَ الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ إِسْنَادَ التَّأْثِيرِ لِلطَّبِيعَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى إِبْطَالَ تَأْثِيرِ الطَّبِيعَةِ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» : وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، إِلَى قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [13 \ 4] . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَفْصٌ وَحْدَهُ عَنْ عَاصِمٍ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ بِكَسْرِ اللَّامِ، جَمْعُ عَالِمٍ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجَاهِلِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: (لِلْعَالَمِينَ) بِفَتْحِ اللَّامِ ; كَقَوْلِهِ: رَبِّ الْعَالَمِينَ [1 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [17 \ 12] ، وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا. قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُهُ مِنَ الْآيَاتِ مَعَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: خَوْفًا وَطَمَعًا فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا الْآيَةَ [13 \ 12] ، وَسَنَحْذِفُ هُنَا بَعْضَ الْإِحَالَاثِ لِكَثْرَتِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [16 \ 71] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا الْآيَةَ [2 \ 276] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ. أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ فَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي الْجَنَّةِ، وَالثَّانِي: فِي النَّارِ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [30 \ 44 - 45] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [42 \ 7] ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [44 - 45] ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى أَيْضًا لِلتَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [99 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي لَهُ سُورَةِ «النَّمْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى الْآيَةَ [27 \ 80] . قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الضَّعْفَ الْأَوَّلَ الَّذِي خَلَقَهُمْ مِنْهُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَبَيَّنَ الضَّعْفَ الْأَخِيرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; قَالَ فِي الْأَوَّلِ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [77 \ 20] ، وَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] ، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [36 \ 77] ، وَقَالَ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [86 \ 5 - 6] ، وَقَالَ: كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [30 \ 39] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي الضَّعْفِ الثَّانِي: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [16 \ 70] ، وَقَالَ: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ [36 \ 68] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَشَارَ إِلَى الْقُوَّةِ بَيْنَ الضِّعْفَيْنِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] ، وَإِطْلَاقُهُ نَفْسَ الضَّعْفِ عَلَى مَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْهُ قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ الْآيَةَ [21 \ 37] . وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: مِنْ ضَعْفٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْمَخْفُوضَيْنِ وَالْمَنْصُوبِ بِفَتْحِ الضَّادِ فِي جَمِيعِهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ. وَاخْتَارَ حَفْصٌ الْقِرَاءَةَ بِالضَّمِّ وِفَاقًا لِلْجُمْهُورِ ; لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ أَنَّهُ أَعْنِي ابْنَ عُمَرَ قَرَأَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ ضَعْفٍ بِفَتْحِ الضَّادِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا بِضَمِّ الضَّادِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ [10 \ 45] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا بُعِثُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْسَمُوا أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ يَقُولُ لَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 وَالْأَنْبِيَاءُ، وَالصَّالِحُونَ: وَاللَّهِ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهَذَا يَوْمَ الْبَعْثِ، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ «يس» عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [36 \ 52] . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْكُفَّارِ عَنِ الْبَعْثِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، عَلَى أَنَّهُمْ يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الْبَعْثِ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ بَعْثِهِمْ أَحْيَاءً مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ الَّتِي هِيَ نَوْمَةُ مَوْتٍ يَقُولُ لَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [36 \ 52] ، أَيْ: هَذَا الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، الَّذِي وَعَدَكُمُ الرَّحْمَنُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فِي ذَلِكَ، كَمَا شَاهَدْتُمُوهُ عِيَانًا، فَقَوْلُهُ فِي «يس» : هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، قَوْلُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، عَلَى التَّحْقِيقِ، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ الْآيَةَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَتْ إِشَارَةً إِلَى الْمَرْقَدِ فِي قَوْلِ الْكُفَّارِ: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا، وَقَوْلُهُ: فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ: فِيمَا كَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ الْآيَةَ، مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي «الصَّافَّاتِ» : وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الْآيَةَ [37 \ 20 - 21] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ مِنَ اللُّغَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [16 \ 84] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [6 \ 7] ، وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [17 \ 90] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 وَفِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [01 \ 69] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّهُ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِطَابٍ لَا يُرِيدُ بِهِ نَفْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ التَّشْرِيعَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الْآيَةَ [17 \ 23] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَالِدَيْهِ قَدْ مَاتَا قَبْلَ نُزُولِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَلَا وَجْهَ الْبَتَّةَ لِاشْتِرَاطِ بُلُوغِهِمَا، أَوْ بُلُوغِ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ عِنْدَهُ، بَلِ الْمُرَادُ تَشْرِيعُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لِأُمَّتِهِ، بِخِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، لِمَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُ كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا . . . . . . . . . . . . . خِلَافُ الصَّوَابِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْطُوفَاتِ، عَلَى قَوْلِهِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [17 \ 23] ، ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْآيَةَ [17 \ 39] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ خِطَابٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا تَرَى. وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى خِطَابِ الْإِنْسَانِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ، وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [17 \ 22] ، يُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ ; الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ. فَائِدَةٌ. رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [39 \ 65] ، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ لُقْمَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِقَوْلِهِ: هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 1 - 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ، وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ: وَلَّى مُسْتَكْبِرًا، أَيْ: مُتَكَبِّرًا عَنْ قَبُولِهَا، كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا، أَيْ: صَمَمًا وَثِقَلًا مَانِعًا لَهُ مِنْ سَمَاعِهَا، ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَشِّرَهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [45 \ 7 - 10] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى هُنَا: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا، عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، وَصَرَّحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ جَعَلَ فِي أُذُنَيْهِ الْوَقْرَ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [18 \ 57] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَقْرَ الْمَذْكُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ بِالْوَقْرِ الْحِسِّيِّ ; لِأَنَّ الْوَقْرَ الْمَعْنَوِيَّ يُشْبِهُ الْوَقْرَ الْحِسِّيِّ، وَالْوَقْرُ الْمَجْعُولُ عَلَى آذَانِهِمْ بِالْفِعْلِ، هُوَ الْوَقْرُ الْمَعْنَوِيُّ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الْحَقِّ فَقَطْ، دُونَ سَمَاعِ غَيْرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا الْآيَةَ [13 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [13 \ 16] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [6 \ 82] ، بِأَنَّهُ الشِّرْكُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا سَابِقًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ. مَعْنَاهُ: لَا تَتَكَبَّرْ عَلَى النَّاسِ، فَفِي الْآيَةِ نَهْيٌ عَنِ التَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَالصُّعْرُ: الْمَيْلُ، وَالْمُتَكَبِّرُ يُمِيلُ وَجْهَهُ عَنِ النَّاسِ مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِمْ مُعْرِضًا عَنْهُمْ، وَالصُّعْرُ: الْمَيْلُ، وَأَصْلُهُ: دَاءٌ يُصِيبُ الْبَعِيرَ يَلْوِي مِنْهُ عُنُقَهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ يَلْوِي عُنُقَهُ وَيُمِيلُ خَدَّهُ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيِّ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا وَقَوْلُ أَبِي طَالِبٍ: وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً ... إِذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الرُّءُوسِ نُقِيمُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 وَمِنْ إِطْلَاقِ الصُّعْرِ عَلَى الْمَيْلِ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعَلَّكِيِّ: إِنَّا أَتَيْنَاكَ وَقَدْ طَالَ السَّفَرْ ... نَقُودُ خَيْلًا ضُمَّرًا فِيهَا صُعُرْ وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، لَا تَتَكَبَّرْ عَلَيْهِمْ. فَاعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [7 \ 13] ، الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْكِبْرِ الْمُبَيِّنَةَ لِكَثْرَةِ عَوَاقِبِهِ السَّيِّئَةِ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُسْنِ التَّوَاضُعِ، وَثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى الْمُتَوَاضِعِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَتَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [17 \ 37] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ ; كَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الْآيَةَ [25 \ 63] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [17 \ 37] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ أَيْضًا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي الْآيَةَ [18 \ 109] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ الْآيَةَ [2 \ 73] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَةَ [17 \ 67] ، وَفِي «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ الْآيَةَ [6 \ 40 - 41] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) . قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ «لُقْمَانَ» ، أَنَّهَا هِيَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْضَحَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ السَّجْدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [65 \ 12] ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، أَنَّ الْيَوْمَ عِنْدَهُ تَعَالَى كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ النَّاسُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «سَأَلَ سَائِلٌ» : تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [70 \ 4] . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفَعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ يَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، هُوَ أَحَدُ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَة ِ «السَّجْدَةِ» ، هُوَ مِقْدَارُ سَيْرِ الْأَمْرِ وَعُرُوجِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَيَوْمَ الْخَمْسِينَ أَلْفًا هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [74 \ 9 - 10] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [54 \ 8] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْوَجْهَ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [25 \ 24] ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» : أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ حَضَرَ كُلًّا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهَا، وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِي يَقْبِضُ أَرْوَاحَ النَّاسِ مَلَكٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ اسْمَهُ عِزْرَائِيلُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ النَّاسَ تَتَوَفَّاهُمْ مَلَائِكَةٌ لَا مَلَكٌ وَاحِدٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [4 \ 97] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [47 \ 27] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [6 \ 93] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [6 \ 61] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِيضَاحُ هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُوَكَّلَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ مَلَكٌ وَاحِدٌ هُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَلَكِنْ لَهُ أَعْوَانٌ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ يَنْتَزِعُونَ الرُّوحَ إِلَى الْحُلْقُومِ، فَيَأْخُذُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ، أَوْ يُعِينُونَهُ إِعَانَةً غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ فِيهِ: «أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا أَخَذَ رُوحَ الْمَيِّتِ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ بِسُرْعَةٍ مَلَائِكَةٌ فَصَعِدُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ» ، وَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تُعَامَلُ بِهِ رُوحُ الْمُؤْمِنِ وَرُوحُ الْكَافِرِ بَعْدَ أَخْذِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ حِينَ يَأْخُذُهَا مِنَ الْبَدَنِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَوْضَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ «الرُّوحِ» بُطْلَانَ تَضْعِيفِ ابْنِ حَزْمٍ لَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 وَالْحَاصِلُ: أَنَّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ مَلَائِكَةً آخَرِينَ يَأْخُذُونَ مِنْ يَدِهِ الرُّوحَ، حِينَ يَأْخُذُهُ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [39 \ 42] فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَوَفَّوْا أَحَدًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [3 \ 145] . فَتَحَصَّلَ أَنَّ إِسْنَادَ التَّوَفِّي إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [32 \ 11] ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْآيَةَ [47 \ 27] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانًا يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [39 \ 42] ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ الْآيَةَ [7 \ 53] ، وَفِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [19 \ 38] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [10 \ 99] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ بَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِعْرَاضِ، عَنِ التَّذْكِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [18 \ 57] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ. قَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [19 \ 98] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «طه» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [20 \ 53 - 54] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَفْسِيرَ الْأَرْضِ الْجُرُزِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [18 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) . أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي هُوَ أَنَّ الْفَتْحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَتَّاحَ: الْقَاضِي، وَهِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَالْفَتَاحَةُ: الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَلَا مِنْ مُبْلِغٍ عَمْرًا رَسُولًا بِأَنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْحَ الْحُكْمُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [7 \ 89] ، أَيِ: احْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا الْآيَةَ [26 \ 117 - 118] ، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [34 \ 26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [8 \ 19] ، أَيْ: إِنْ تَطْلُبُوا الْحُكْمَ بِهَلَاكِ الظَّالِمِ مِنْكُمْ وَمِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، أَيِ: الْحُكْمُ بِهَلَاكِ الظَّالِمِ وَهُوَ هَلَاكُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ، جَاءَ أَبُو جَهْلٍ وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا قُطَّانُ بَيْتِكَ نَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَفْعَلُ وَنَفْعَلُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَطَّعَ الرَّحِمَ وَفَرَّقَ الْجَمَاعَةَ، وَعَابَ الدِّينَ، وَشَتَمَ الْآلِهَةَ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَ الْآبَاءَ، اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الظَّالِمَ مِنَّا وَمِنْهُ، فَطَلَبَ الْحُكْمَ عَلَى الظَّالِمِ، فَجَاءَهُمُ الْحُكْمُ عَلَى الظَّالِمِ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ، وَصَارُوا إِلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِهَلَاكِ الْكُفَّارِ، كَمَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ، أَيْ: إِذَا عَايَنُوا الْمَوْتَ وَشَاهَدُوا الْقَتْلَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [40 \ 84 - 85] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الْآيَةَ [4 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 90 - 91] . وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْفَتْحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتْحُ مَكَّةَ أَنَّهُ غَيْرُ صَوَابٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ لَا يَمْنَعُ انْتِفَاعَ الْمُؤْمِنِ فِي وَقْتِهِ بِإِيمَانِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [52 \ 30 - 31] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرَبُّصَ هُوَ الِانْتِظَارُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [6 \ 158] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْأَحْزَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَثَلِهِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [17 \ 22] ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَة ُ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ، مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ لَفْظُهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْمَلُ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ [5 \ 32] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ. فِي هَذِهِ الْحَرْفِ أَرْبَعُ قِرَاءاتٍ سَبْعِيَّةٍ: قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحْدَهُ: تُظَاهِرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فَهَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (تَظَاهَرُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مَفْتُوحَةٌ مُخَفَّفَةٌ، فَأَلِفٌ فَهَاءٌ مَفْتُوحَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ يُشَدِّدُ الظَّاءَ، وَهُمَا يُخَفِّفَانِهَا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: (تَظَّهَّرُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ فَهَاءٌ مَفْتُوحَتَانِ مُشَدَّدَتَانِ بِدُونِ أَلِفٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تُظَاهِرُونَ، عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ مُضَارِعُ ظَاهَرَ بِوَزْنِ فَاعَلَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، فَهُوَ مُضَارِعُ تَظَاهَرَ بِوَزْنِ تَفَاعَلَ حُذِفَتْ فِيهِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» : وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتَدَى قَدْ يُقْتَصَرْ ... فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنِ الْعِبَرْ فَالْأَصْلُ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَخَوَيْنِ تَتَظَاهَرُونَ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، فَهُوَ مُضَارِعُ تَظَاهَرَ أَيْضًا، كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، إِلَّا أَنَّ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أُدْغِمَتْ فِي الظَّاءِ وَلَمْ تُحْذَفْ، وَمَاضِيهِ اظَّاهَرَ كَـ ادَّارَكَ [27 \ 66] ، وَاثَّاقَلْتُمْ [9 \ 38] ، وَادَّارَأْتُمْ [2 \ 72] ، بِمَعْنَى تَدَارَكَ، إِلَخْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، فَهُوَ مُضَارِعُ تَظَهَّرَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ، وَأَصْلُهُ تَتَظَهَّرُونَ بِتَاءَيْنِ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الظَّاءِ، وَمَاضِيهِ: اظَّهَّرْ، نَحْوَ: اطَّيَّرْنَا [27 \ 47] وَازَّيَّنَتْ [10 \ 24] ، بِمَعْنَى: تَطَيَّرْنَا، وَتَزَيَّنَتْ ; كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «طه» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [7 \ 117] ، فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَتَظَاهَرَ مِنْهَا، وَتَظَهَّرَ مِنْهَا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يَعْنِي: أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يُطَلِّقُونَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ، أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَا تَكُونُ أُمًّا لَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْ هُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ هَذَا فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» ، فَبَيَّنَ أَنَّ أَزْوَاجَهُمُ اللَّائِي ظَاهَرُوا مِنْهُنَّ لَسْنَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ أُمَّهَاتِهِمْ هُنَّ النِّسَاءُ الَّاتِي وَلَدْنَهُمْ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِنَّ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ. وَقَدْ بَيَّنَ الْكَفَّارَةَ اللَّازِمَةَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [58 \ 2 - 4] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» ، مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْإِيضَاحِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجَةِ حَرَامٌ حُرْمَةٌ شَدِيدَةٌ ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَمَا صَرَّحَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ وَزُورٌ فَحُرْمَتُهُ شَدِيدَةٌ كَمَا تَرَى. وَبَيَّنَ كَوْنَهُ كَذِبًا وَزُورًا بِقَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مُنْكَرُ الظِّهَارِ وَزُورُهُ، إِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً نَصُوحًا غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ وَالزُّورَ وَعَفَا عَنْهُ، فَسُبْحَانُهُ مَا أَكْرَمَهُ وَمَا أَحْلَمَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ الْعَوْدِ الَّذِي رَتَّبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، وَإِزَالَةِ إِشْكَالٍ فِي الْآيَةِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا كَلَامَنَا الْمَذْكُورَ فِيهِ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ. فَفِي «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ» ، مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ بِالْعِتْقِ عَلَى الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّكْفِيرَ يَلْزَمُ كَوْنَهُ مِنْ قَبْلِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَسِيسِ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ قَوْلِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَحَكَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَالْفَرَّاءِ وَفِرْقَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَقَالَ بِهِ شُعْبَةُ: مِنْ أَنَّ مَعْنَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا هُوَ عَوْدُهُمْ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ، فَيُكَرِّرُونَهُ مَرَّةً أُخْرَى قَوْلٌ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلِ الْمَرْأَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا آيَةُ الظِّهَارِ، هَلْ كَرَّرَ زَوْجُهَا صِيغَةَ الظِّهَارِ أَوْ لَا؟ وَتَرَكَ الِاسْتِفْصَالَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَمَنْعَ الْجِمَاعِ قَبْلَهَا، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا تَكْرِيرُ صِيغَةِ الظِّهَارِ، وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، سَالِمِينَ مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ وُجُوبِ الْحَمْلِ عَلَى بَقَاءِ التَّرْتِيبِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : كَذَاكَ تَرِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ ... بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يُحْتَمَلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَرْضَاهُمْ. فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ: مَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ مَالِكٍ فِيهِ قَوْلَانِ، تُؤُوِّلَتِ الْمُدَوَّنَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكِلَاهُمَا مُرَجَّحٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَطْ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ وَإِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ مَعًا، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ. لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ يَعْزِمُونَ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمْسَاكِ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمْسَاكِ، وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ. وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَذْفُ الْإِرَادَةِ، وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [5 \ 6] ، أَيْ: أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [16 \ 98] ، أَيْ: أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ الْآيَةَ [16 \ 98] . وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الْمُظَاهَرَةِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ فَلَا يُطَلِّقُ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ أَيْضًا ; لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ إِيَّاهَا الزَّمَنَ الْمَذْكُورَ لَا يُنَافِي التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ أَحْمَدَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجِمَاعِ أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ. أَمَّا الْعَزْمُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْجِمَاعُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْ ظَاهَرَ وَجَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنِ الْمَسِيسِ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا جَوَازُ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْ حُكْمَ مَا إِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَأَنَّهُ وُجُوبُ التَّكْفِيرِ قَبْلَ مَسِيسٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَسِيسِ الْأَوَّلِ فَحُرْمَتُهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَعَلَيْهِ فَلَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 إِشْكَالَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَا حَكَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَالِكٍ، مِنْ أَنَّهُ حَكَى عَنْهُ أَنَّ الْعَوْدَ الْجِمَاعُ، فَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَوْدُ إِلَى الظِّهَارِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَرَفْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ خِلَافُ الْمُقَرَّرِ فِي فُرُوعِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ ; كَمَا ذَكَرْنَا. وَغَالِبُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْعَوْدِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْعُودِ الرُّجُوعُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، خُصُوصُ الْجِمَاعِ وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ هَذَا الْقَوْلِ. وَالتَّحْقِيقُ: عَدَمُ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِوَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِمْتَاعَ بِغَيْرِ الْوَطْءِ، قَائِلًا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسِيسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، نَفْسُ الْجِمَاعِ لَا مُقَدِّمَاتُهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَا قَالُوا، بِمَعْنَى: فِي، أَيْ: يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا بِمَعْنَى يَرْجِعُونَ فِيهِ ; كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَاهِبُ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ» الْحَدِيثَ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى: عَنْ، أَيْ: يَعُودُونَ عَمَّا قَالُوا، أَيْ: يَرْجِعُونَ عَنْهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبِلَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الْعَوْدَ لَهُ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهَى، فَمَبْدَؤُهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَمُنْتَهَاهُ الْوَطْءُ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ فَقَدْ عَادَ بِالنِّيَّةِ، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَمَنْ وَطَءَ بِالْفِعْلِ تَحَتَّمَ فِي حَقِّهِ اللُّزُومُ، وَخَالَفَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ، بِمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ عَمَلٌ يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهَا يُوَافِقُ قَوْلَ الظَّاهِرِيَّةِ، الَّذِي قَدَّمْنَا بُطْلَانَهُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَا قَالُوا، أَنَّهُ صِيغَةُ الظِّهَارِ، فَيَكُونُ الْعَوْدُ لَهَا تَكْرِيرَهَا مَرَّةً أُخْرَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَعْنَى لِمَا قَالُوا: أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ وُجُودُ نَظِيرِهِ فِي الْقُرْآنِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [19 \ 80] ، أَيْ: مَا يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ فِي قَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [19 \ 77] ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَنْ جَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنِ الْمَسِيسِ مَرَّةً أُخْرَى، حَتَّى يُكَفِّرَ، هُوَ التَّحْقِيقُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الْمَسِيسِ ; كَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ. وَلِمَنْ قَالَ: تَلْزَمُ بِهِ كَفَّارَتَانِ ; كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَلِمَنْ قَالَ: تَلْزَمُهُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ ; كَمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى بِطُولِهِ مِنْ «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنَتِي، أَوْ أُخْتِي، أَوْ جَدَّتِي، أَوْ عَمَّتِي، أَوْ أُمِّي مِنَ الرِّضَاعِ، أَوْ أُخْتِي مِنَ الرِّضَاعِ، أَوْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ آخَرَ غَيْرَ الظَّهْرِ، كَأَنْ يَقُولُ: أَنْتَ عَلَيَّ كَرَأْسِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي إِلَخْ، أَوْ بَطْنِ مَنْ ذَكَرَ، أَوْ فَرْجِهَا، أَوْ فَخْذِهَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ ظِهَارٌ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ; لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَا هِيَ فِي تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ كَأُمِّهِ، فَمَعْنَى الظِّهَارِ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ جَدِيدُ قَوْلَيِّ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ الظِّهَارُ إِلَّا بِأُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ، لِأَنَّهَا أُمٌّ أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ بِالْأُمِّ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَلَنَا أَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ فَأَشْبَهْنَ الْأُمَّ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ فِيهَا: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَجَرَى مَجْرَاهُ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأُمِّ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهَا، إِذَا كَانَتْ مِثْلَهَا. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشَبِّهَهَا بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ سِوَى الْأَقَارِبِ، كَالْإِمْهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَحَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ، وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبِ اللَّاتِي دُخِلَ بِأُمِّهِنَّ فَهُوَ ظِهَارٌ أَيْضًا، وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 مَا تَقَدَّمَ، وَيَزِيدُ فِي الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ دُخُولُهَا فِي عُمُومِ الْأُمَّهَاتِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي النَّصِّ، وَسَائِرُهُنَّ فِي مَعْنَاهَا، فَثَبَتَ فِيهِنَّ حُكْمُهَا، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. فَرْعَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا، كَأُخْتِ امْرَأَتِهِ، وَعَمَّتِهَا وَكَالْأَجْنَبِيَّةِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ ظِهَارٌ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمُحَرَّمَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ، لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي التَّحْرِيمِ ; لَأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إِذَا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، يَكُونُ ظِهَارًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَةِ تَحْرِيمٌ، فَيَكُونُ ظِهَارًا. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا امْرَأَتَهُ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ ظَهْرِ الْأُمِّ إِلَّا إِنْ كَانَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا كَالْأُمِّ، وَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُهَا غَيْرَ مُؤَبَّدٍ كَانَ التَّشْبِيهُ بِهَا لَيْسَ بِظِهَارٍ، كَمَا لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ حَائِضٍ، أَوْ مُحْرِمَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ يَكْفِي فِي الظِّهَارِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، قَالُوا: وَأَمَّا الْحَائِضُ، فَيُبَاحُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْفَرَجِ، وَالْمُحْرِمَةُ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَلَمْسُهَا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ، وَلَيْسَ فِي وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَدٌّ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» ، مَعَ تَصَرُّفٍ يَسِيرٍ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحْرَمِ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ: فَبِهَذَا أَقُولُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَانَ طَلَاقًا. قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، اهـ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي وَأَجْرَاهَا عَلَى الْأُصُولِ، هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا، وَلَوْ كَانَتِ الَّتِي شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِهَا غَيْرَ مُؤَبَّدَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 التَّحْرِيمِ، إِذْ لَا حَاجَةَ لِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ مَدَارَ الظِّهَارِ عَلَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِوَاسِطَةِ تَشْبِيهِهَا بِمُحَرَّمَةٍ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِتَشْبِيهِهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ فِي الْحَالِ، وَلَوْ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ حَاصِلٌ بِذَلِكَ فِي قَصْدِ الرَّجُلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّانِي: فِي حُكْمِ مَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي أَوِ ابْنِي أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الرِّجَالِ، لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاسْتِمْتَاعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَمَالِ زَيْدٍ، وَهَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِيهِ كَفَّارَةٌ، لِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيمٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ مَالَهُ. وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَدَ، فِيمَنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرِ الرَّجُلِ، لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَلَمْ أَرَهُ يَلْزَمُ فِيهِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِامْرَأَتِهِ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاسْتِمْتَاعِ، أَشْبَهَ التَّشْبِيهَ بِمَالِ غَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّشْبِيهِ بِظَهْرِ الرَّجُلِ. وَعَزَاهُ فِي «الْمُغْنِي» لِابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ ظِهَارًا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ جَرَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ فِيهَا لِأَهْلِ الْأُصُولِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَهِيَ فِي حُكْمِ مَا إِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، عَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: أَنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوَّلًا إِنْ كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْعِيَّةً حُمِلَ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، ثُمَّ اللُّغَوِيَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ قَبْلَ الْعُرْفِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْعُرْفِيَّةَ، وَإِنْ تَرَجَّحَتْ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ مُتَرَجِّحَةٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا لَا تُقَدَّمُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بَلْ يُحْكَمُ بِاسْتِوَائِهِمَا، فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لِاسْتِوَاءِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِمَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ بِنِيَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ: وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ ... إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقُ الْعُرْفِيِّ فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ ... بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبْ وَمَذْهَبُ النُّعْمَانِ عَكْسُ مَا مَضَى ... وَالْقَوْلُ بِالْإِجْمَالِ فِيهِ مُرْتَضَى وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي مَثَلًا لَا يَنْصَرِفُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالْوَطْءِ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ ; لِأَنَّ الْعُرْفَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِمْتَاعٌ بِالذُّكُورِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ ظِهَارٌ. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَمُطْلَقُ تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِمَحْرَمٍ وَلَوْ ذَكَرًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَيَكُونُ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ لَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَكَظَهْرِ الْبَهِيمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ حَرَامٌ ثُمَّ دَخَلَتْهَا، فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ نَحْوُ عِشْرِينَ قَوْلًا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ الظِّهَارِ هَذِهِ عَلَى أَنْ أَقْيَسَ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبَهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ ظِهَارٌ، تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، مَعْنَاهُ: أَنْتِ عَلِيَّ حَرَامٌ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلَا يَخْفَى أَنْ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، مِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى، كَمَا تَرَى. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ، وَالْبَتِّيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: التَّحْرِيمُ ظِهَارٌ، اهـ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ بَعْدَ هَذَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْقَوْلُ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [66 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [66 \ 1] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ الْآيَةَ [66 \ 1] . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عِنْدِي أَوْ مِنِّي أَوْ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ ظِهَارٌ كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ مِثْلِ أُمِّي، وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الظِّهَارَ ; لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ مَعَانِيَ أُخْرَى غَيْرَ الظِّهَارِ، مَعَ كَوْنِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا مَشْهُورًا، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الظِّهَارَ، فَهُوَ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . وَإِنْ نَوَى بِهِ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكَرَامَةِ عَلَيْهِ وَالتَّوْقِيرِ، أَوْ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكِبَرِ أَوِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَدْ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ صَرِيحٌ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِيهِ رِوَايَتَانِ، أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ حَتَّى يَنْوِيَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَرَامَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّحْرِيمِ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ إِلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، انْتَهَى مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَعَيَّنُ لَا عُرْفًا، وَلَا لُغَةً، إِلَّا لِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الظِّهَارَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَوَجْهُ الْأَوَّلِ يَعْنِي الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ ظِهَارٌ أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِجُمْلَةِ أُمِّهِ، فَكَانَ مُشَبِّهًا لَهَا بِظَهْرِهَا، فَيَثْبُتُ الظِّهَارُ ; كَمَا لَوْ شَبَّهَهَا بِهِ مُنْفَرِدًا. وَالَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الظِّهَارِ مِثْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْحَلِفِ، فَيَقُولُ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي، أَوْ قَالَ ذَلِكَ حَالَ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ فَهُوَ ظِهَارٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَلِفِ فَالْحَلِفُ يُرَادُ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ شَيْءٍ أَوِ الْحَثِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كَوْنَهَا مِثْلَ أُمِّهِ فِي صِفَتِهَا أَوْ كَرَامَتِهَا لَا يَتَعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الظِّهَارَ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَاهَا، وَيُوجِبُ اجْتِنَابَهَا وَهُوَ الظِّهَارُ، وَإِنْ عُدِمَ هَذَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ ; لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِغَيْرِ الظِّهَارِ احْتِمَالًا كَثِيرًا، فَلَا يَتَعَيَّنُ الظِّهَارُ فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ مَا انْقَلَبَ إِلَيْهِ حَرَامٌ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا، وَذَلِكَ لِدُخُولِ الزَّوْجَةِ فِي عُمُومِ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ، اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَهَذَا عَلَى أَقْيَسِ الْأَقْوَالِ وَهُوَ كَوْنُ التَّحْرِيمِ ظِهَارًا، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِيمَنْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ حَرَامٌ عَلَيَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الظِّهَارُ، مَعَ لُزُومِ مَا يَلْزَمُ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ مَالٍ، وَهُوَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدِ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ فَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 وَهَذَا الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ فِي «الْمُغْنِي» عَنْ أَحْمَدَ وَنَصَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي، فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَرَامٌ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا مُطْلَقًا، وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ، وَلَوْ نَوَاهُ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ صَرِيحَةٌ فِي الظِّهَارِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي، فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي، أَنَّ الطَّلَاقَ إِنْ كَانَ بَائِنًا بَانَتْ بِهِ، وَلَا يَقَعُ ظِهَارٌ بِقَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي ; لِأَنَّ تَلَفُّظَهُ بِذَلِكَ وَقَعَ، وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَهُوَ كَالظِّهَارِ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَنَوَى بِقَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي، الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا ; لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الظِّهَارُ وَالطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الظِّهَارَ، فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا، لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ أَوَّلًا، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: كَظَهْرِ أُمِّي، صِفَةً لَهُ، وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى الظِّهَارِ. وَنَقَلَ فِي «الْمُغْنِي» هَذَا الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا عَنِ الْقَاضِي وَقَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا لَوْ قَدَّمَ الظِّهَارَ عَلَى الطَّلَاقِ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ، فَالْأَظْهَرُ وُقُوعُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ مَعًا، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ; لِأَنَّ الظِّهَارَ لَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْفَعُ حُكْمَهُ، فَلَا يَمْنَعُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ شَبَّهَ أَيَّ عُضْوٍ مِنَ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، أَوْ بِأَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِحُصُولِ مَعْنَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ عُضْوُ الْأُمِّ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَرَأْسِهَا وَيَدِهَا أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ كَفَرْجِهَا وَفَخْذِهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا حَتَّى يُشَبِّهَ جُمْلَةَ امْرَأَتِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَا يَمَسُّ عُضْوًا مُعَيَّنًا مِنْهَا لَمْ يَسِرْ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَكَذَلِكَ الْمُظَاهَرَةُ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ شَبَّهَهَا بِمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمِّ كَالْفَخْذِ وَالْفَرْجِ فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِنْ شَبَّهَهَا بِمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، كَالْيَدِ وَالرَّأْسِ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَالتَّشْبِيهِ بِعُضْوِ زَوْجَةٍ لَهُ أُخْرَى، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الظِّهَارُ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهُ ظِهَارٌ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ حَاصِلٌ بِهِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى صَرِيحِ الظِّهَارِ، فَقَوْلُهُمْ: وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصُ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، بَلْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى حَلِفِهِ بِاللَّهِ لَا يَمَسُّ عُضْوًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 مُعَيَّنًا مِنْهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ يَحْصُلُ بِبَعْضٍ، وَالْحَلِفُ عَنْ بَعْضٍ لَا يَسْرِي إِلَى بَعْضٍ آخَرَ، كَمَا تَرَى. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْعُضْوَ الَّذِي يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَا يَحْصُلُ الظِّهَارُ بِالتَّشْبِيهِ بِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّ التَّلَذُّذَ بِهِ حَرَامٌ، وَالتَّلَذُّذُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَالتَّشْبِيهُ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَالظِّهَارُ هُوَ نَفْسُ التَّحْرِيمِ بِوَاسِطَةِ التَّشْبِيهِ بِعُضْوِ الْأُمِّ الْمُحَرَّمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الظِّهَارَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: شَعْرُكِ، أَوْ رِيقُكِ، أَوْ كَلَامُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ الشَّعْرَ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ الَّتِي يَتَلَذَّذُ بِهَا الْأَزْوَاجُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، وَكَذَلِكَ الرِّيقُ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمُصُّهُ وَيَتَلَذَّذُ بِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهَا: سُعَالُكِ أَوْ بُصَاقُكِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ السُّعَالَ وَالْبُصَاقَ وَمَا يُجْرِي مَجْرَاهُمَا، كَالدَّمْعِ لَيْسَ مِمَّا يَتَمَتَّعُ بِهِ عَادَةً، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأُمِّ وَلَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمَمْلُوكَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْأَمَةِ أُمَّ وَلَدٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: إِنْ كَانَ يَطَؤُهَا فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَعَنْ عَطَاءٍ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنَ الْحُرَّةِ. وَاحْتَجَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمَةَ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا، بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ: يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، يَخْتَصُّ بِالْأَزْوَاجِ دُونَ الْإِمَاءِ. وَمِنْهَا أَنَّ الظِّهَارَ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَةُ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ. وَمِنْهَا أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنُقِلَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ مَحَلُّهُ، وَمَحَلُّ الطَّلَاقِ الْأَزْوَاجُ دُونَ الْإِمَاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 وَمِنْهَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَمَةِ تَحْرِيمٌ لِمُبَاحٍ مِنْ مَالِهِ، فَكَانَتْ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَتَحْرِيمِ سَائِرِ مَالِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمَالِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» . قَالُوا: وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ جَارِيَتَهُ مَارِيَةَ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ظِهَارٌ بَلْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [66 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ الْآيَةَ [66 \ 2] . وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ، بِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالُوا: وَإِمَاؤُهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ; لِأَنَّ تَمَتُّعَهُمْ بِإِمَائِهِمْ مِنْ تَمَتُّعِهِمْ بِنِسَائِهِمْ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمَةَ يُبَاحُ وَطْؤُهَا، كَالزَّوْجَةِ فَصَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا كَالزَّوْجَةِ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ، نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُرْبَ الْعَسَلِ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، لَا فِي تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ. وَحُجَّةُ الْحَسَنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحُجَّةُ عَطَاءٍ كِلْتَاهُمَا وَاضِحَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: بِصِحَّةِ الظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ عَلَيْنَا ; لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يَلْزَمُ، فَكَيْفَ يَبْطُلُ فِيهَا صَرِيحُ التَّحْرِيمِ وَتَصِحُّ كِنَايَتُهُ؟ وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ نِسَائِهِمْ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ مُحَلَّلَاتِهِمْ. وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبِضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعِقْدِ، فَصَحَّ فِي الْأَمَةِ أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى، اهـ مِنْهُ، بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: لَا يَبْعُدُ بِمُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَالْمُقَرَّرِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْأَمَةِ وَتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، أَنَّهُ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَتَهُ مَارِيَةَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِهِ الْعَسَلَ الَّذِي كَانَ شَرِبَهُ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، وَقِصَّةُ ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ ثَبَتَ بِسَنَدٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ آخَرَ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 الْأَوَّلِ، وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا مَعًا، فَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ، كَنُزُولِ آيَةِ اللَّعَّانِ فِي عُوَيْمِرٍ وَهِلَالٍ مَعًا. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْآيَةَ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي تَحْرِيمِهِ جَارِيَتَهُ، وَإِذَا عَلِمْتَ بِذَلِكَ نُزُولَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ، فِي تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ، عَلِمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ لَا يُحَرِّمُهَا، وَلَا يَكُونُ ظِهَارًا مِنْهَا، وَأَنَّهُ تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ; كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ جَارِيَتَهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، بَعْدَ تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَتَهُ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَنْ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِغْفَارُ فَقَطْ، فَقَدِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ، وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ جَارِيَتَهُ، قَالَ مَعَ ذَلِكَ: «وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَيْهَا» ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ هِيَ الَّتِي نَزَلَ فِي شَأْنِهَا: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، وَلَمْ تَنْزِلْ فِي مُطْلَقِ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ، وَالْيَمِينُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ التَّحْرِيمِ فِي قِصَّةِ الْجَارِيَةِ، قَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : رَوَاهَا الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ التَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ، لَكِنَّهُ أَرْسَلَهُ، اهـ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» : إِنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ كُلَيْبٍ رَوَاهُ فِي مَسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَسَاقَ السَّنَدَ الْمَذْكُورَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمَتْنُ فِيهِ التَّحْرِيمُ وَالْيَمِينُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ آيَةَ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَتَهُ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ وَالزَّوْجَةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ آيَةَ لِمَ تُحَرِّمُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ لَا يُحَرِّمُهَا وَلَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَآيَةَ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْآيَةَ، دَلَّتْ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي «الْمُجَادَلَةِ» ; لِأَنَّ مَعْنَى: يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ هُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، مَعْنَاهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ «التَّحْرِيمِ» عَلَى حُكْمِ تَحْرِيمِ الْأَمَةِ، وَآيَةُ «الْمُجَادَلَةِ» عَلَى حُكْمِ تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، وَهُمَا حُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 كَمَا تَرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَقُلْ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ قَالَ: إِنَّ حُكْمَ تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ كَحُكْمِ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ الْمَنْصُوصِ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ آيَةَ الظِّهَارِ تَدُلُّ بِفَحْوَاهَا عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ ظِهَارٌ ; لِأَنَّ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» ، وَ «أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ» مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فِي تَحْرِيمِهَا بِظِهَارٍ، أَوْ بِصَرِيحِ التَّحْرِيمِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوِ الِاسْتِغْفَارُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا أَقْرَبُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ عِشْرُونَ قَوْلًا، وَسَنَذْكُرُهَا هُنَا بِاخْتِصَارٍ وَنُبَيِّنُ مَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ لَغْوٌ بَاطِلٌ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَدَاوُدُ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ، اخْتَارَهُ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ، وَصَحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْتُ امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ. وَصَحَّ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ: لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ نَعْلِي. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْتُ امْرَأَتِي أَوْ حَرَّمْتُ مَاءَ النَّهْرِ. وَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ مَنْهَالٍ: إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ حَرَامًا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ حُمَيْدٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [94 \ 7 - 8] ، وَأَنْتَ رَجُلٌ تَلْعَبُ، فَاذْهَبْ فَالْعَبْ، اهـ مِنْهُ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [16 \ 116] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [5 \ 87] ، وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [6 \ 150] ، وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْآيَةَ، وَعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّحْرِيمَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَضَى فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالثَّلَاثِ فِي عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ مَسَسْتَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَكَ لَأَرْجُمَنَّكَ. وَقَالَ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» : وَرُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: الثَّابِتُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَذَكَرَ فِي «الزَّادِ» أَيْضًا: أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ نَقَلَ عَنْ عَلِيٍّ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ بِثَلَاثٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالثَّلَاثِ، فَكَانَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا حَرَامًا عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ بِتَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا، قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ طَلَاقًا بَلْ أَمَرُوهُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَطْ. وَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَهُ إِنَّمَا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَحْرِيمِهِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ. قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ، إِنَّمَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَ السَّبَبِ الَّذِي يُحَرَّمُ بِهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ مِمَّا ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ فَوَجَبَ الْوَقْفُ لِلِاشْتِبَاهِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِلَّا فَهُوَ يَمِينٌ. قَالَ فِي «الْإِعْلَامِ» : وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ، اهـ. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا عَنِ النَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ التَّحْرِيمَ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنْ نَوَاهُ بِهِ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا هُوَ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا، قَالَهُ سُفْيَانُ، وَحَكَاهُ النَّخَعِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ لِمَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَتْبَعُ نِيَّتَهُ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: مِثْلُ هَذَا إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ. الْقَوْلُ الثَّامِنُ: مِثْلُ هَذَا أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إِعْمَالًا لِلَّفْظِ التَّحْرِيمِ، هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» ، وَلَمْ يَعْزُهُ لِأَحَدٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. الْقَوْلُ التَّاسِعُ: أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ. قَالَ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَشْبِيهَ الْمَرْأَةِ بِأُمِّهِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ ظِهَارًا وَجَعَلَهُ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَإِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَةِ يَجْعَلُهُ مُظَاهِرًا، فَإِذَا صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهَا كَانَ أَوْلَى بِالظِّهَارِ، وَهَذَا أَقْيَسُ الْأَقْوَالِ وَأَفْقَهُهَا. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُكَلَّفِ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مُبَاشَرَةَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، فَالسَّبَبُ إِلَى الْعَبْدِ وَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَقَدْ قَالَ الْمُنْكَرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالزُّورَ، وَقَدْ كَذَبَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ، وَلَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ أَغْلَظَ الْكَفَّارَتَيْنِ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. الْقَوْلُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ تَطْلِيقَ التَّحْرِيمِ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِالثَّلَاثِ، بَلْ يَصْدُقُ بِأَقَلِّهِ وَالْوَاحِدَةُ مُتَيَقَّنَةٌ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا الْيَقِينُ فَهُوَ نَظِيرُ التَّحْرِيمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. الْقَوْلُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي فِيمَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ لَهُ نِيَّتُهُ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَيَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا مُجَرَّدًا كَانَ امْتِنَاعًا مِنْهَا بِالتَّحْرِيمِ كَامْتِنَاعِهِ بِالْيَمِينِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 الْمَوْضِعَيْنِ، اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ. قَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، بَلْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَيِّمِ نَفْسُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، لِاقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ لِلْبَيْنُونَةِ، وَهِيَ صُغْرَى وَكُبْرَى، وَالصُّغْرَى هِيَ الْمُتَحَقِّقَةُ، فَاعْتُبِرَتْ دُونَ الْكُبْرَى. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: إِنْ نَوَى الْكَذِبَ دِينَ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ بَلْ كَانَ مُؤْلِيًا، وَلَا يَكُونُ ظِهَارًا عِنْدَهُ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهْ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: أَعْنِي بِهَا الظِّهَارَ، لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، انْتَهَى مِنْ «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» . وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ الْقَيِّمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ. وَفِي «الْفَتْحِ» عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَهِيَ يَمِينٌ وَيَصِيرُ مُؤْلِيًا، اهـ. الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَنَافِعٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَخَلْقٍ سِوَاهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فَرْضَ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ عَقِبَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ يَقِينًا، فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَيَخْرُجُ الْمَذْكُورُ عَنْ حُكْمِ التَّحِلَّةِ الَّتِي قَصَدَ ذِكْرَهَا لِأَجْلِهِ، اهـ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ أَرَادَ بِكَلَامِهِ هَذَا أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، نَازِلٌ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 شُمُولِ قَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، لِقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ. وَالْجَزْمُ لَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ نَظَرٍ، لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ نَازِلٌ فِي حَلِفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعُودُ لِمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لَا فِي أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ أَشَرْنَا لِلرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ. الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً غُلِّظَتْ كَفَّارَتُهَا بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ، وَوَجْهُ تَغْلِيظِهَا تَضَمُّنُهَا تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ. وَقَوْلُ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ وَإِنْ أَرَادَ الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي إِخْبَارِهِ مُعْتَدٍ فِي إِقْسَامِهِ، فَغُلِّظَتْ كَفَّارَتُهُ بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ ; كَمَا غُلِّظَتْ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِهِ أَوْ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ، أَوْ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا. الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ طَلَاقٌ، ثُمَّ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَهُوَ مَا نَوَاهُ مِنَ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَهَا. وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَثَلَاثٌ. وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْهَا، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَجَبَ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا تُحَرَّمُ بِوَاحِدَةٍ، وَالْمَدْخُولُ بِهَا لَا تُحَرَّمُ إِلَّا بِالثَّلَاثِ. وَبَعْدُ: فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ هَذَا أَحَدُهَا، وَهُوَ مَشْهُورُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا ثَلَاثٌ بِكُلِّ حَالٍ نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِهَا، اخْتَارَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي مَبْسُوطِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مُطْلَقًا، حَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ مَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَوْجِيهَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، انْتَهَى مِنْ «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اثْنَانِ، وَهُمَا الْقَوْلُ بِالثَّلَاثِ وَبِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ، وَقَدْ جَرَى الْعَمَلُ فِي مَدِينَةِ فَاسَ بِلُزُومِ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ فِي التَّحْرِيمِ. قَالَ نَاظِمُ عَمَلِ فَاسَ: وَطَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فِي التَّحْرِيمِ ... وَحَلِفٌ بِهِ لِعُرْفِ الْإِقْلِيمِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» : وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ كَانَ تَحْرِيمًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلَّا تَقَدُّمُ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَكَانَ مَا نَوَاهُ. وَإِنْ أَطْلَقَ فَلِأَصْحَابِهِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ، وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ كِنَايَةٌ، قَالُوا: إِنَّ أَصْلَ الْآيَةِ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْأَمَةِ، قَالُوا: فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهَا الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ. فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقَالُ لَهُ عَيِّنْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَصْلُحُ لِلظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ مَعًا. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْهُمَا، قَالُوا: وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا أَنْكَرَهُ، فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيْكَ حَرَامٌ وَالنِّيَّةُ نِيَّتِي لَا نِيَّتُكَ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ، فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ وَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ نِيَّتُكَ مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، كَانَتِ النِّيَّةُ نِيَّةَ الْحَالِفِ لَا الْمُحَلَّفِ ; لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ إِلَيْهِ الْإِيقَاعُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ ظِهَارٌ بِمُطْلَقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الطَّلَاقَ أَوِ الْيَمِينَ، فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّهُ يَمِينٌ بِمُطْلَقِهِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوِ الظِّهَارَ، فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ ظِهَارٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَوِ الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا طَلَاقًا ; كَمَا لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوِ الْيَمِينَ، بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ صَرِيحَانِ فِي الظِّهَارِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ: أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ، فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: يَكُونُ ظِهَارًا ; كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوِ التَّحْرِيمَ، إِذِ التَّحْرِيمُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ طَلَاقٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِإِرَادَتِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إِنْ قَالَ: أَعْنِي بِهِ طَلَاقًا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ، فَهَلْ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً؟ وَعَلَى رِوَايَتَيْنِ مَأْخَذْهُمَا هَلِ اللَّامُ عَلَى الْجِنْسِ أَوِ الْعُمُومِ، وَهَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَوْقَعَ التَّحْرِيمَ كَانَ ظِهَارًا، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ حَلِفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مُكَفِّرَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَوْقَعَهُ كَانَ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَكَانَ أَوْلَى بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِمَّنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَإِذَا حَلَفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مِنَ الْأَيْمَانِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ، أَوْ أَحُجَّ، أَوْ أَصُومَ، لَزِمَهُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ، فَهُوَ يَمِينٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَفَرَ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَانَ يَمِينًا. وَطَرْدُ هَذَا بَلْ نَظِيرُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا، فَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا، فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ يَمِينًا، وَطَرْدُ هَذَا أَيْضًا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ يَمِينًا، فَهَذِهِ هِيَ الْأُصُولُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَّرِدَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمِيزَانِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي مَعَ كَثْرَتِهَا وَانْتِشَارِهَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْجَزًا أَوْ مُعَلَّقًا ; لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ يَجِبُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدِي، وَهُوَ قَوْلُ أَكَثُرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّإِ» : فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَةً عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا أَلَّا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ، اهـ. ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ تَظَاهَرَ مِنَ امْرَأَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَقَالَا: إِنْ نَكَحَهَا فَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ، اهـ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ يَقَعُ بِوُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ. وَأَمَّا الْأَمَةُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِي تَحْرِيمِهَا كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَوِ الِاسْتِغْفَارَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، هَلْ يَصِحُّ مِنْهُمَا ظِهَارٌ؟ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهُمْ عِنْدِي فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ مِنْهُ الظِّهَارُ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ مِنْهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبٍ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 وَالْعَبْدُ وَالْمَوْجُودُ وَالَّذِي كَفَرْ ... مَشْمُولَةٌ لَهُ لَدَى ذَوِي النَّظَرْ وَعَلَيْهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لَا يَتَنَاوَلُهُ ; لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ، لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ، فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ ظِهَارِ الْعَبْدِ، وَانْحِصَارُ كَفَّارَتِهِ فِي الصَّوْمِ ; لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ، وَأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ يُكَفِّرُهُ اللَّهُ بِالْعِتْقِ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، وَالذِّمِّيُّ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ الْعِتْقُ أَوِ الصَّوْمُ أَوِ الْإِطْعَامُ مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ لِكُفْرِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ، كَأَنْ يَقُولُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَصِحُّ الظِّهَارُ الْمُؤَقَّتُ، وَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ زَالَ الظِّهَارُ وَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِلَا كَفَّارَةٍ، وَلَا يَكُونُ عَائِدًا بِالْوَطْءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُهُ الْأَخِيرُ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ مُطْلَقًا، وَهَذَا لَمْ يُطْلَقْ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إِذَا ظَاهَرَ فِي وَقْتٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ بَرَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْقُطُ التَّوْقِيتُ وَيَكُونُ ظِهَارًا مُطْلَقًا ; لِأَنَّ هَذَا لَفْظٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ لَمْ يَتَوَقَّتْ، كَالطَّلَاقِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الظِّهَارَ الْمُؤَقَّتَ يَصِحُّ وَيَزُولُ بِانْقِضَاءِ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَبَعْضُ طُرُقِهِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَإِنْ أَعَلَّ عَبْدُ الْحَقِّ وَغَيْرُهُ بَعْضَ طُرُقِهِ بِالْإِرْسَالِ ; لِأَنَّ حَدِيثًا صَحَّحَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَعْنِيُّ قَالَا: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ ابْنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 الْعَلَاءِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ الْبَيَاضِيُّ، قَالَ: كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنِ امْرَأَتِي شَيْئًا يُتَابَعُ بِي حَتَّى أُصْبِحَ، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَبَيْنَا هِيَ تَخْدِمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ نَزَوْتُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَصْبَحْتُ خَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي، فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ. . . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ رَقَبَةً، فَأَمَرَهُ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ، فَأَمَرَهُ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَذَكَرَ كَذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ قَوْمِهِ بَنِي زُرَيْقٍ مِنَ التَّمْرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَسَقًا مِنْهَا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَيَسْتَعِينُ بِالْبَاقِي، وَمَحِلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ظِهَارًا مُؤَقَّتًا بِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَامَعَ فِي نَفْسِ الشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَهُ وَقْتًا لِظِهَارِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ الْمُؤَقَّتَ يَصِحُّ، وَيَلْزَمُ وَلَوْ كَانَ تَوْقِيتُهُ لَا يَصِحُّ لَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ يَتَأَبَّدُ وَيَسْقُطُ حُكْمُ التَّوْقِيتِ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ سَلْمَانَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ، جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ حَتَّى يَمْضِيَ رَمَضَانَ. . . الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، يُقَالُ سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ، وَيُقَالُ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، اهـ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي أَخْرَجَ بِهَا التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي أَخْرَجَهُ بِهَا، وَكِلْتَاهُمَا تُقَوِّي الْأُخْرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِسْنَادَ التِّرْمِذِيِّ هَذَا لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمُبَارَكِ الْمَذْكُورَ فِيهِ كَانَ لَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ كِتَابَانِ أَحَدُهُمَا سَمَاعٌ، وَالْآخَرُ إِرْسَالٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ الْكُوفِيِّينَ عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَضُرُّ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ فِيهِ وَهُوَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ بَصْرِيٌّ لَا كُوفِيٌّ، وَلَمَّا سَاقَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى» حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْمَذْكُورَ، قَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَقَدْ أَعَلَّهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِالِانْقِطَاعِ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يُدْرِكْ سَلَمَةَ، وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، اهـ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْنَادَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ التِّرْمِذِيَّ لَيْسَ فِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَلَا ابْنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 إِسْحَاقَ، فَالظَّاهِرُ صَلَاحِيَةُ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ، كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ، كَمَا يَرْفَعُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ إِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لَا يَجُوزُ لَهُ مَسِيسُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُظَاهِرِ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالْعَوْدِ، فَلَا يَعُودُ إِلَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ، وَلَا وَجْهَ لِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا يَظْهَرُ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الظِّهَارِ بَائِنًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنْ كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِالثَّلَاثِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ لِسُقُوطِهَا بِالْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى، كَمَا أَسْقَطَهَا صَاحِبُ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ بِالْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِذَا ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ يَقُولُ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَكْفِي فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ، وَعُرْوَةَ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: عَلَيْهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ كَفَّارَةٌ ; لِأَنَّهُ وُجِدَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ فِي حَقِّ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهَا بِهِ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَوَاهُ عَنْهُمَا الْأَثْرَمُ، وَلَا يُعَرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَلِمَةٌ تَجِبُ بِمُخَالَفَتِهَا الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَوْجَبَتْ كَفَارَّةً وَاحِدَةً كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَفَارَقَ مَا إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا بِكَلِمَاتٍ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَقْتَضِي كَفَّارَةً تَرْفَعُهَا وَتُكَفِّرُ إِثْمَهَا، وَهَاهُنَا الْكَلِمَةُ وَاحِدَةٌ، فَالْكَفَّارَةُ وَاحِدَةٌ تَرْفَعُ حُكْمَهَا، وَتَمْحُو إِثْمَهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ. انْتَهَى مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَقْيَسُ الْقَوْلَيْنِ الِاكْتِفَاءُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَحْوَطُهُمَا التَّكْفِيرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَأَمَّا إِنْ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بِأَنْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِانْفِرَادِهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَالْأَظْهَرُ تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَقْتَضِي كَفَّارَةً. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ: الْمَذْهَبُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذَا. قَالَ الْقَاضِي: الْمَذْهَبُ عِنْدِي مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ تُجْزِئُهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَرَبِيعَةَ، وَقَبِيصَةَ، وَإِسْحَاقَ ; لِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهَا كَالْحَدِّ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ الطَّلَاقُ. وَلَنَا بِهَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُتَكَرِّرَةٌ عَلَى أَعْيَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ لَا يَحْنَثُ فِي إِحْدَاهَا بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، فَلَا تُكَفِّرُهَا كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْنًى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَتَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِهِ فِي الْمَحَالِّ الْمُخْتَلِفَةِ كَالْقَتْلِ، وَيُفَارِقُ الْحَدَّ، فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا إِنْ كَرَّرَ الظِّهَارُ مِنْ زَوْجَتِهِ الْوَاحِدَةِ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ كَرَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنِ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تَكْفِي، وَإِنْ كَانَ كَفَّرَ عَنْ ظِهَارِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ ظَاهَرَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِظِهَارِهِ الْوَاقِعِ بَعْدَ التَّكْفِيرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ هِيَ الَّتِي أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [58 \ 3 - 4] . فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيمَانُ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيمَانُ، فَلَوْ أَعْتَقَ الْمُظَاهِرُ عَبْدًا ذِمِّيًّا مَثَلًا أَجْزَأَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالْإِيمَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ مَا تَنَاوَلَهُ إِطْلَاقُ الْآيَةِ، قَالُوا: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَ مَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . وَاحْتَجَّ لِأَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ الْآيَةَ [4 \ 92] ، بِقَوْلِنَا فِيهِ وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ: أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَتَّحِدَ حُكْمُهُمَا وَسَبَبُهُمَا مَعًا كَتَحْرِيرِ الدَّمِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَيَّدَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [6 \ 145] ، وَأَطْلَقَهُ عَنِ الْقَيْدِ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» وَ «الْبَقَرَةِ» وَ «الْمَائِدَةِ» . قَالَ فِي «النَّحْلِ» : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [2 \ 115] ، وَقَالَ فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [2 \ 173] ، وَقَالَ فِي «الْمَائِدَةِ» : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الْآيَةَ [6 \ 3] . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ مَعًا، وَلِذَلِكَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ بِالْحُمْرَةِ الَّتِي تَعْلُو الْقِدْرَ مِنْ أَثَرِ تَقْطِيعِ اللَّحْمِ بَأْسًا ; لِأَنَّهُ دَمٌ غَيْرُ مَسْفُوحٍ، قَالُوا: وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ ثُمَّ يَحْذِفُونَ اتِّكَالًا عَلَى الْمُثْبَتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخُطَيْمِ الْأَنْصَارِيِّ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلَفُ فَحَذَفَ رَاضُونَ لِدَلَالَةِ رَاضٍ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ ضَابِئِ بْنِ الْحَارِثِ الْبَرْجَمِيِّ: فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ وَالْأَصْلُ: فَإِنِّي غَرِيبٌ وَقَيَّارٌ أَيْضًا غَرِيبٌ، فَحَذَفَ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ لِدَلَالَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا. وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيِّ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي يَعْنِي: كُنْتُ بَرِيئًا مِنْهُ، وَكَانَ وَالِدِي بَرِيئًا مِنْهُ أَيْضًا. وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ: وَقَدْ زَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ بِأَنِّي ... وَمَا كَذَبُوا كَبِيرُ السِّنِّ فَانِي يَعْنِي: زَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنِّي فَانٍ وَمَا كَذَبُوا. . إِلَخْ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ، لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَهُوَ أَظْهَرُهَا. وَقِيلَ: بِالْعَقْلِ، وَهُوَ أَضْعَفُهَا وَأَبْعَدُهَا. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنْ يَتَّحِدَ الْحُكْمُ، وَيَخْتَلِفَ السَّبَبُ، كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي آيَةِ الْمُقَيَّدِ وَآيَةِ الْمُطْلَقِ وَاحِدٌ، وَهُوَ عِتْقُ رَقَبَةٍ فِي كَفَّارَةٍ، وَلَكِنَّ السَّبَبَ فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ ; لِأَنَّ سَبَبَ الْمُقَيَّدِ قَتْلٌ خَطَأٌ، وَسَبَبُ الْمُطْلَقِ ظِهَارٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلِذَا شَرَطُوا الْإِيمَانَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ حَمْلًا لِهَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، قَالُوا: وَيَعْتَضِدُ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ عَنْهَا، هَلْ هِيَ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ لَا؟ وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ. قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» : وَنَزِّلْنَ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ ... مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: عَكْسُ هَذِهِ، وَهِيَ الِاتِّحَادُ فِي السَّبَبِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحُكْمِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ فِيهَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِصَوْمِ الظِّهَارِ، وَإِطْعَامِهِ، فَسَبَبُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الظِّهَارُ، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَكْفِيرٌ بِصَوْمٍ، وَالْآخِرَ تَكْفِيرٌ بِإِطْعَامٍ، وَأَحَدُهُمَا مُقَيَّدٌ بِالتَّتَابُعِ، وَهُوَ الصَّوْمُ. وَالثَّانِي مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ، فَلَا يُحْمَلُ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ. وَالْقَائِلُونَ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيِّدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، مَثَّلُوا لِذَلِكَ بِإِطْعَامِ الظِّهَارِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِكَوْنِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، مَعَ أَنَّ عِتْقَهُ وَصَوْمَهُ قَدْ قُيِّدَا بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَيُحْمَلُ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْإِطْعَامِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَمَثَّلَ لَهُ اللُّخَمِيُّ بِالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ حَيْثُ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [5 \ 89] ، مَعَ إِطْلَاقِ الْكِسْوَةِ عَنِ الْقَيْدِ بِذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [5 \ 89] فَيُحْمَلُ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَيُشْتَرَطُ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 الْكِسْوَةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تَكْسُونَ أَهْلِيكُمْ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ مَعًا، وَلَا حَمْلَ فِي هَذِهِ إِجْمَاعًا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقَيَّدُ وَاحِدًا. أَمَّا إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدَانِ بِقَيْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى كِلَيْهِمَا لِتَنَافِي قَيْدَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الْآخَرِ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْأَقْرَبِ لَهُ مِنْهُمَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَيُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ لَهُ، فَلَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ إِذْ لَا تَرْجِيحَ بِلَا مُرَجَّحٍ، وَمِثَالُ كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الْآخَرِ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ، مَعَ أَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ مُقَيَّدٌ بِالتَّتَابُعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [58 \ 4] ، وَصَوْمَ التَّمَتُّعِ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [2 \ 196] ، وَالْيَمِينُ أَقْرَبُ إِلَى الظِّهَارِ مِنَ التَّمَتُّعِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ صَوْمِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ صَوْمُ كَفَّارَةٍ بِخِلَافِ صَوْمِ التَّمَتُّعِ، فَيُقَيَّدُ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالتَّتَابُعِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَلَا يُقَيَّدُ بِالتَّفْرِيقِ الَّذِي فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: [فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ] لَمْ تَثْبُتْ ; لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ كَتْبِ مُتَتَابِعَاتٍ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمِثَالُ كَوْنِهِمَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الْآخَرِ: صَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [2 \ 185] ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَتَابُعٍ وَلَا تَفْرِيقٍ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ صَوْمَ الظِّهَارِ بِالتَّتَابُعِ، وَصَوْمَ التَّمَتُّعِ بِالتَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَى صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنَ الْآخَرِ، فَلَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَبْقَى عَلَى الِاخْتِيَارِ، إِنْ شَاءَ تَابَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى مِنْ «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، مَعَ زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ لِلْإِيضَاحِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا سَلَامَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ أَوْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ جَوَّزَ كُلَّ رَقَبَةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا الِاسْمُ، وَلَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً بِكُلِّ الْعُيُوبِ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، قَالَ: ظَاهِرُهُ وَلَوْ مَعِيبَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَيِّدِ الرَّقَبَةَ بِشَيْءٍ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ الْقَوِيَّةِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي بَعْضِ الْعُيُوبِ، قَالُوا: يُشْتَرَطُ سَلَامَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 تَمْلِيكُ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَتَمْكِينُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا مَعَ مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَلَا يُجْزِئُ الْأَعْمَى ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلَ فِي أَكْثَرِ الصَّنَائِعِ، وَلَا الْمَقْعَدُ، وَلَا الْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْيَدَيْنِ آلَةُ الْبَطْشِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ مَعَ فَقْدِهِمَا، وَالرِّجْلَانِ آلَةُ الْمَشْيِ فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ تَلَفِهِمَا، وَالشَّلَلُ كَالْقَطْعِ فِي هَذَا. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبِقًا ; لِأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ: ذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَحُصُولُ الضَّرَرِ بِالْعَمَلِ، قَالَهُ فِي «الْمُغْنِي» . ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَبِهِ تَعْلَمُ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ مِثْلِ الْعُيُوبِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، وَلَا أَشَلُّهُمَا، وَلَا مَقْطُوعُ إِبْهَامِ الْيَدِ أَوْ سَبَّابَتِهَا أَوِ الْوُسْطَى ; لِأَنَّ نَفْعَ الْيَدِ يَذْهَبُ بِذَهَابِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ نَفْعَ الْيَدَيْنِ يَزُولُ أَكْثَرُهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ قُطِعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ يَدٍ جَازَ ; لِأَنَّ نَفْعَ الْكَفَّيْنِ بَاقٍ وَقَطْعُ أَنْمُلَةِ الْإِبْهَامِ كَقَطْعِ جَمِيعِهَا، فَإِنَّ نَفْعَهَا يَذْهَبُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أُنْمُلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْإِبْهَامِ لَمْ يُمْنَعْ ; لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لَا تَذْهَبُ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ كَالْأَصَابِعِ الْقِصَارِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ أَصَابِعُهُ كُلُّهَا غَيْرَ الْإِبْهَامِ قَدْ قُطِعَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْمُلَةٌ لَمْ يُمْنَعْ، وَإِنْ قُطِعَ مِنَ الْإِصْبَعِ أُنْمُلَتَانِ فَهُوَ كَقَطْعِهَا ; لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَنْفَعَتِهَا، وَهَذَا جَمِيعُهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَيْ: وَأَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ إِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَلَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ وَيَدُهُ جَمِيعًا مِنْ خِلَافٍ أَجْزَأَتْ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ بَاقِيَةٌ، فَأَجْزَأَتْ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْأَعْوَرِ، فَأَمَّا إِنْ قُطِعَتَا مِنْ وِفَاقٍ، أَيْ: مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ تَذْهَبُ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ، وَيَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ إِجْزَاؤُهَا كَمَا لَوْ قُطِعَتَا مِنْ وِفَاقٍ. وَيُخَالِفُ الْعَوَرُ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَالِاعْتِبَارُ بِالضَّرَرِ أَوْلَى مِنَ الِاعْتِبَارِ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ شَمُّهُ أَوْ قُطِعَتْ أُذُنَاهُ مَعًا أَجْزَأَ مَعَ ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ. وَلَا يُجْزِئُ الْأَعْرَجُ إِذَا كَانَ عَرَجًا كَثِيرًا فَاحِشًا ; لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، فَهُوَ كَقَطْعِ الرِّجْلِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وُيُجْزِئُ الْأَعْوَرُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ ; لِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ وَالْإِجْزَاءَ فِي الْهَدْيِ، فَأَشْبَهَ الْعَمَى، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 الْمَنَافِعَ، وَالْعَوَرُ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ; وَلِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ فَأَشْبَهَ قَطْعَ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ، وَيُفَارِقُ الْعَمَى فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا وَيَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الصَّنَائِعِ، وَيَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ وَيُفَارِقُ قَطْعَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِإِحْدَاهُمَا مَا يَعْمَلُ بِهِمَا، وَالْأَعْوَرُ يُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا يُدْرِكُ بِهِمَا. وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ وَالْهَدْيُ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا مُجَرَّدُ الْعَوَرِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ انْخِسَافُ الْعَيْنِ وَذَهَابُ الْعُضْوِ الْمُسْتَطَابِ ; وَلِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ يَمْنَعُ فِيهَا قَطْعُ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ، وَالْعِتْقُ لَا يَمْنَعُ فِيهِ إِلَّا مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، وَيُجْزِئُ الْمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ. وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَزُفَرُ: لَا يُجْزِئُ ; لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهَا الدِّيَةُ، فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ قَطْعَهُمَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ، فَلَمْ يَمْنَعْ كَنَقْصِ السَّمْعِ، بِخِلَافِ الْيَدَيْنِ، وَيُجْزِئُ مَقْطُوعُ الْأَنْفِ لِذَلِكَ، وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ إِذَا فَهِمَ بِالْإِشَارَةِ، وَالْأَخْرَسُ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ وَفَهِمَ الْإِشَارَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُجْزِئُ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ ذَاهِبَةٌ، فَأَشْبَهَ زَائِلَ الْعَقْلِ، وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ الْخَرَسَ نَقْصٌ كَثِيرٌ يَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ، مِثْلَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْهَمُ إِشَارَتَهُ، فَيَتَضَرَّرُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنِ اجْتَمَعَ الْخَرَسُ وَالصَّمَمُ. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ فِيهِ وَذَهَابِ مَنْفَعَتَيِ الْجِنْسِ، وَوَجْهُ الْإِجْزَاءِ أَنَّ الْإِشَارَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْإِفْهَامِ، وَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ فَيُجْزِئُ ; لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ وَلَا بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ كَالْحُمَّى وَمَا أَشْبَهَهَا أَجْزَأَ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِ. وَأَمَّا نِضْوُ الْخَلْقِ يَعْنِي النَّحِيفَ الْمَهْزُولَ خِلْقَةً، فَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْعَمَلِ أَجْزَأَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيُجْزِئُ الْأَحْمَقُ وَهُوَ الَّذِي يَصْنَعُ الْأَشْيَاءَ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَيَرَى الْخَطَأَ صَوَابًا. وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ مَنْ يَخْنُقُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ، وَالرَّتْقَاءُ، وَالْكَبِيرُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ ; لِأَنَّ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ تَمْلِيكَ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ، فَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهِ، كَالسَّالِمِ مِنَ الْعُيُوبِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» ، مَعَ حَذْفٍ يَسِيرٍ لَا يَضُرُّ بِالْمَعْنَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْجَانِي وَالْمَرْهُونِ وَعِتْقُ الْمُفْلِسِ عَبْدَهُ، إِذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 قُلْنَا بِصِحَّةِ عِتْقِهِمْ، وَعِتْقُ الْمُدَبِّرِ وَالْخَصِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا ; لِكَمَالِ الْعِتْقِ فِيهِمْ. وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمَغْصُوبَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ مَنَافِعِهِ، وَلَا غَائِبَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ ; لِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ فَلَا تُعْلَمُ صِحَّةُ عِتْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهُ أَجْزَأَ عِتْقُهُ ; لِأَنَّهُ عِتْقٌ صَحِيحٌ. وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْحَمْلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ، وَلَا يُتَيَقَّنُ أَيْضًا وُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ. وَلَا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ عِتْقَهَا مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، وَالْمِلْكُ فِيهَا غَيْرُ كَامِلٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا. وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْبَتِّيُّ: يُجْزِئُ عِتْقُهَا ; لِأَنَّهُ عِتْقٌ صَحِيحٌ. وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ مَكَاتِبٍ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا، انْتَهَى مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» . وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ غَالِبَ مَا فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اشْتِرَاطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ، وَاشْتِرَاطُ سَلَامَتِهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ عِتْقُ جَنِينٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ عَتَقَ مِنْ غَيْرِ إِجْزَاءٍ عَنِ الْكَفَّارَةِ. وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ مَقْطُوعُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ الْإِصْبَعَيْنِ، أَوِ الْأَصَابِعِ، أَوِ الْإِبْهَامِ، أَوِ الْأُذُنَيْنِ، أَوْ أَشَلُّ، أَوْ أَجْذَمُ، أَوْ أَبْرَصُ، أَوْ أَصَمُّ، أَوْ مَجْنُونٌ وَإِنْ أَفَاقَ أَحْيَانًا، وَلَا أَخْرَسُ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٌ، وَلَا مَفْلُوجٌ، وَلَا يَابِسُ الشِّقِّ، وَلَا غَائِبٌ مُنْقَطِعٌ خَبَرُهُ، وَلَا الْمَرِيضُ مَرَضًا يُشْرِفُ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَا الْهَرِمُ هَرَمًا شَدِيدًا، وَلَا الْأَعْرَجُ عَرَجًا شَدِيدًا، وَلَا رَقِيقٌ مُشْتَرًى بِشَرْطِ الْعِتْقِ لِمَا يُوضَعُ مِنْ ثَمَنِهِ فِي مُقَابَلَةِ شَرْطِ الْعِتْقِ، وَلَا مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ كَأَبِيهِ، وَلَا عَبْدٌ قَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَلَوْ قَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، فَفِيهِ لَهُمْ تَأْوِيلَانِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ. وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ الْمُدَبَّرُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ، وَلَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، ثُمَّ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ لَمْ يُجْزِهْ عَنْ ظِهَارِهِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ عِتْقَ نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ سِرَايَةِ الْمُعْتَقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ عَنْ ظِهَارِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَى نِصْفَهُ الْآخَرَ فَأَعْتَقَهُ تَكْمِيلًا لِرَقَبَةِ الظِّهَارِ، لَمْ يُجْزِهْ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ لِتَبْعِيضِ الْعِتْقِ إِنْ كَانَتْ مُعْسِرًا وَقْتَ عِتْقِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ عِتْقَ النِّصْفِ الْبَاقِي يَلْزَمُهُ بِالْحُكْمِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ عِتْقِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 وَلَوْ أَعْتَقَ ثَلَاثَ رِقَابٍ عَنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ لَمْ يُجْزِهْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَتَعَيَّنْ رَقَبَةٌ كَامِلَةٌ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَيُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عِتْقُ الْمَغْصُوبِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا خَفِيفًا، وَالْأَعْرَجِ عَرَجًا خَفِيفًا، وَلَا يَضُرُّ عِنْدَهُمْ قَطْعُ أَنْمُلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أُذُنٍ وَاحِدَةٍ، وَيُجْزِئُ عِنْدَهُمُ الْأَعْوَرُ، وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْخَصِيُّ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ عِتْقُ الْمَرْهُونِ وَالْجَانِي إِنِ افْتَدَيَا، انْتَهَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَشْتَرِطُ الْإِيمَانَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمْ يُجْزِئْ عِنْدَهُ الْأَعْمَى وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ مَعًا أَوِ الرِّجْلَيْنِ مَعًا، وَلَا مَقْطُوعُ إِبْهَامَيِ الْيَدَيْنِ، وَلَا الْأَخْرَسُ، وَلَا الْمَجْنُونُ، وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ، وَلَا الْمُدَبَّرُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ إِنْ أَدَّى شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا شَيْئًا أَجْزَأَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ عِنْدَهُ قَرِيبُهُ الَّذِي يُعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ إِنْ نَوَى بِشِرَائِهِ إِعْتَاقَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ حَرَّرَ بَاقِيَهُ عَنْهَا أَجَزَّأَهُ ذَلِكَ، وَيُجْزِئُ عِنْدَهُ الْأَصَمُّ، وَالْأَعْوَرُ، وَمَقْطُوعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَإِحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ خِلَافٍ، وَيُجْزِئُ عِنْدَهُ الْخَصِيُّ، وَالْمَجْبُوبُ، وَمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ، اهـ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَكْثَرَ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِجْزَاءِ، وَغَيْرِ الْمَانِعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» نَاقِلًا عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يَمْنَعُ وَمَا لَا يَمْنَعُ عِنْدَ أَحْمَدَ، فَاكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ خَشْيَةَ كَثْرَةِ الْإِطَالَةِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْعَجْزِ عَنِ الرَّقَبَةِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ فَاضِلَةٍ عَنْ حَاجَتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رَقَبَةٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِكَوْنِهِ زَمِنًا أَوْ هَرِمًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى عَجْزِهِ عَنْ خِدْمَةِ نَفْسِهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَخْدِمُ نَفْسَهُ عَادَةً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ، وَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ نَظَرًا لِحَاجَتِهِ إِلَى الرَّقَبَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، أَيْ: وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَتَى وَجَدَ رَقَبَةً لَزِمَهُ إِعْتَاقُهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصِّيَامِ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الصِّيَامِ أَلَّا يَجِدَ رَقَبَةً بِقَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [58 \ 4] ، وَهَذَا وَاجِدٌ وَإِنْ وَجَدَ ثَمَنَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ ; لِأَنَّ وُجْدَانَ ثَمَنِهَا كَوُجْدَانِهَا. وَلَنَا أَنَّ مَا اسْتَغْرَقَتْهُ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الصِّيَامِ، كَمَنْ وَجَدَ مَاءً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّقَبَةَ إِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا حَاجَةً قَوِيَّةً ; كَكَوْنِهِ زَمِنًا أَوْ هَرِمًا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ خِدْمَتِهَا، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يُمْكِنُ شِرَاءُ الرَّقَبَةِ مِنْهُ، لَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي مَعِيشَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، وَتُعْتَبَرُ الرَّقَبَةُ كَالْمَعْدُومَةِ، وَأَنَّ الْمَدَارَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَمْنَعُهُ اسْتِحْقَاقُ الزَّكَاةِ مِنَ الْيَسَارِ، فَإِنْ كَانَتِ الرَّقَبَةُ فَاضِلَةً عَنْ ذَلِكَ، لَزِمَ إِعْتَاقُهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَالْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: إِنْ كَانَ الْمُظَاهِرُ حِينَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ غَنِيًّا إِلَّا أَنَّ مَالَهُ غَائِبٌ، فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْحُضُورِ قَرِيبًا، لَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ لِشِرَاءِ الرَّقَبَةِ. وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا جَازَ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ ; لِأَنَّ الْمَسِيسَ حَرَامٌ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَمَنْعُهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَوْجَتِهِ زَمَنًا طَوِيلًا إِضْرَارٌ بِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ الرَّقَبَةَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً يَشْتَرِيهَا فَلَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصِّيَامِ ; لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ الْآيَةَ [58 \ 4] ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَأَمَّا إِنْ وَجَدَ رَقَبَةً تُبَاعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَجِدْ رَقَبَةً بِثَمَنِ مِثْلِهَا، فَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ: هَلْ يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهَا بِأَكْثَرِ مِنْ مِثْلِ الْمِثْلِ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ؟ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: هُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتْ تُجْحِفُ بِمَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ بِهَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، فَلَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ السَّابِعُ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَوْمَ شَهْرَيِّ الظِّهَارِ يَجِبُ تَتَابُعُهُ، أَيْ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 مُوَالَاةُ صِيَامِ أَيَّامِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ فِي أَنَّ مَنْ قَطَعَ تَتَابُعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ التَّتَابُعُ إِلَى نِيَّةٍ؟ فِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحُدُهَا: لَا يَفْتَقِرُ لِنِيَّةٍ ; لِأَنَّهُ تَتَابُعٌ وَاجِبٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ لِنِيَّةٍ تَخُصُّهُ، كَالْمُتَابَعَةِ بَيْنَ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: يَفْتَقِرُ لِنِيَّةِ التَّتَابُعِ وَتُجَدَّدُ النِّيَّةُ كُلَّ لَيْلَةٍ ; لِأَنَّ ضَمَّ الْعِبَادَةِ إِلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى إِذَا كَانَ شَرْطًا وَجَبَتْ فِيهِ النِّيَّةُ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَالثَّالِثُ: تَكْفِي نِيَّةُ التَّتَابُعِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى عَنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَهَذَا أَقْرَبُهَا ; لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ جَمِيعًا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا نَوَى هَذَا الصَّوْمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ فَاللَّازِمُ أَنْ يَنْوِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ الْمَنْصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ، وَهَذَا يَكْفِيهِ عَنْ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى نِيَّةِ التَّتَابُعِ مُطْلَقًا. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: كَأَحْمَدَ، وَالثَّانِي: يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا إِذَا كَانَ قَطْعُ تُتَابُعِ الصَّوْمِ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْ كَانَ قَطْعُ التَّتَابُعِ لِعُذْرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ التَّتَابُعِ، وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا صَامَ قَبْلَ حُصُولِ الْعُذْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ. قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالُوا: لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِفِعْلِهِ فَلَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي هَذَا الْفَرْعِ أَنَّ قَطْعَ تَتَابُعِ صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِلَا إِفْطَارٍ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرَيْنِ إِنْ كَانَ لِسَبَبٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ، كَالْمَرَضِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصَّوْمِ أَنَّهُ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّتَابُعِ ; لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، وَيَقُولُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنِ الْإِفْطَارِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 التَّتَابُعَ كَالْإِفْطَارِ لِلسَّفَرِ فِي أَثْنَاءِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ ابْتِدَاءُ صَوْمِهِ الْكَفَّارَةَ مِنْ شَعْبَانَ، لَأَنَّ شَهْرَهُ الثَّانِيَ رَمَضَانُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ صَوْمُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا لَوِ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ فِي مُدَّةٍ يَدْخُلُ فِيهَا يَوْمُ النَّحْرِ أَوْ يَوْمُ الْفِطْرِ أَوْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ التَّتَابُعَ يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ قَطْعِهِ بِمَا ذُكِرَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى تَأْخِيرِ السَّفَرِ عَنِ الصَّوْمِ كَعَكْسِهِ، وَلِقُدْرَتِهِ أَيْضًا عَلَى الصَّوْمِ فِي مُدَّةٍ لَا يَتَخَلَّلُهَا رَمَضَانُ، وَلَا الْعِيدَانُ، وَلَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَإِذَا قَطَعَ التَّتَابُعَ بِإِفْطَارٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ، فَكَوْنُهُ يَسْتَأْنِفُ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ ظَاهِرٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [58 \ 4] ، وَقَدْ تَرَكَ التَّتَابُعَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ عَلَى النِّسَاءِ صَوْمٌ يَجِبُ تَتَابُعُهُ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُنَّ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيُعْذَرْنَ فِي كُلِّ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُنَّ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ كَالْحَيْضِ، وَالْمَرَضِ دُونَ غَيْرِهِ كَالْإِفْطَارِ لِلسِّفْرِ وَالنِّفَاسِ ; لِأَنَّ النِّفَاسَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَمَّا الْحَيْضُ فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي صَوْمِ شَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحِيضُ عَادَةً فِي كُلِّ شَهْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: فِي حُكْمِ مَا لَوْ جَامَعَ الْمُظَاهِرُ مِنْهَا أَوْ غَيْرَهَا لَيْلًا، فِي أَثْنَاءِ صِيَامِ شَهْرَيِّ الْكَفَّارَةِ، وَفِي هَذَا الْفَرْعِ تَفْصِيلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ عَمْدًا انَقْطَعَ تَتَابُعُ صَوْمِهِ إِجْمَاعًا، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ هِيَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ غَيْرَهَا وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا فِي نَهَارِ الصَّوْمِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جِمَاعُهُ لَيْلًا فِي زَمَنِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي جَامَعَهَا زَوْجَةً أُخْرَى غَيْرَ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ ; لِأَنَّ وَطْءَ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا لَيْلًا زَمَنَ الصَّوْمِ مُبَاحٌ لَهُ شَرْعًا، وَلَا يُخِلُّ بِتَتَابُعِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الشَّهْرَيْنِ كَمَا تَرَى، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ. وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ نَعْلَمُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الَّتِي وَطِئَهَا لَيْلًا زَمَنَ الصَّوْمِ هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَإِنْ أَصَابَهَا فِي لَيَالِ الصَّوْمِ أَفْسَدَ مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ وَابْتَدَأَ الشَّهْرَيْنِ، مَا نَصُّهُ: وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَأَمَرَ بِهِمَا خَالِيَيْنِ عَنْ وَطْءٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِمَا عَلَى مَا أَمَرَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ نَهَارًا وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْوَطْءِ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ، فَاسْتَوَى فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَالِاعْتِكَافِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ التَّتَابُعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهَذَا وَيَبْنِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ; لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ، فَلَا يُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ كَوَطْءِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ عِبَارَةٌ عَنْ إِتْبَاعِ صَوْمِ يَوْمٍ لِلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ، وَإِنْ وَطِئَ لَيْلًا، وَارْتِكَابُ النَّهْيِ فِي الْوَطْءِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ إِذَا لَمْ يُخِلُّ بِالتَّتَابُعِ الْمُشْتَرِطِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَإِجْزَاءَهُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ قَبْلَ الشَّهْرَيْنِ، أَوْ وَطِئَ لَيْلَةَ أَوَّلِ الشَّهْرَيْنِ، وَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَالْإِتْيَانُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْتِمَاسِ فِي حَقِّ هَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ بَنَى أَوِ اسْتَأْنَفَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَبُو يُوسُفَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ بِجِمَاعِهِ لِلْمُظَاهَرِ مِنْهَا فِي لَيَالِ الصَّوْمِ، هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ مُطَابِقٌ لِمَنْطُوقِ الْآيَةِ فِي التَّتَابُعِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَهَذَا قَدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مِنْهُمَا بِفَاصِلٍ، فَالتَّتَابُعُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَاقِعٌ قَطْعًا ; كَمَا تَرَى. وَكَوْنُ صَوْمُهُمَا مُتَابِعِينَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَاجِبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ التَّتَابُعِ الْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» مِنْ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ صَامَهُمَا مُتَتَابِعِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ التَّتَابُعِ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَلَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بُطْلَانَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَاَلى الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ جَامَعَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا فِي نَهَارِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ نَاسِيًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، فَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّتَابُعِ، أَوْ لَا يُعْذَرُ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِوَطْئِهِ نَاسِيًا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، وَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّتَابُعِ بِوَطْئِهِ نَاسِيًا، وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ فَعَلَ الْمُفَطِّرَ نَاسِيًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا، اهـ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ الْآيَةَ [33 \ 5] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ» . الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ: إِنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِعُذْرٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقُلْنَا إِنَّ فِطْرَ الْعُذْرِ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ التَّتَابُعِ، فَوَطْءُ غَيْرِهَا نَهَارًا لَمْ يَنْقَطِعِ التَّتَابُعُ ; لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي قَطْعِ التَّتَابُعِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْإِفْطَارِ لِسَبَبٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ نَهَارًا هِيَ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا جَرَى عَلَى حُكْمِ وَطْئِهَا لَيْلًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ قَرِيبًا، قَالَ ذَلِكَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ. وَقَالَ أَيْضًا: وَإِنْ لَمَسَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ بَاشَرَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عَلَى وَجْهٍ يُفْطِرُ بِهِ قُطِعَ التَّتَابُعُ لِإِخْلَالِهِ بِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ، وَإِلَّا فَلَا يُقْطَعُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، اهـ. وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا. الْفَرْعُ الثَّانِي عَشَرَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ انْتَقَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَهُوَ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [58 \ 4] . وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ الْهَرَمُ وَشِدَّةُ الشَّبَقِ، وَهُوَ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهَا الصَّبْرَ عَنْهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَرَمَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ، مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِي ظِهَارِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ آيَةُ الظِّهَارِ، فَفِي الْقِصَّةِ مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا الْآيَاتِ [58 \ 1] ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَعْتِقُ رَقَبَةً» يَعْنِي زَوْجَهَا أَوْسًا قَالَتْ: لَا يَجِدُ، قَالَ: «يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ، وَمَحِلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ اقْتَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقِلُّ بِشَوَاهِدِهِ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شِدَّةَ الشَّبَقِ عُذْرٌ، كَذَلِكَ هُوَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الَّذِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ سَابِقًا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْتُ مِنَ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ فِي لَيْلَتِي شَيْئًا فَأَتَتَابَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَنِي النَّهَارُ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِي الصَّوْمِ؟ قَالَ: «فَتَصَدَّقْ» . وَمَحِلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ: «صُمْ شَهْرَيْنِ» ، أَخْبَرَهُ أَنَّ جِمَاعَهُ فِي زَمَنِ الظِّهَارِ إِنَّمَا جَاءَهُ مِنْ عَدَمِ صَبْرِهِ عَنِ الْجِمَاعِ ; لِأَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ، فَيُجَامِعُ فِي النَّهَارِ، فَلَمَّا ظَاهَرَ غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَجَامَعَ فِي زَمَنِ الظِّهَارِ، فَاقْتَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُذْرِهِ، وَأَبَاحَ لَهُ الِانْتِقَالَ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْهَرَمَ وَالشَّبَقَ كِلَاهُمَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ، لِلدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا، وَقِسْنَا عَلَيْهِمَا مَا يُشْبِهُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا. الْفَرْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْإِطْعَامِ أَقَلُّ مِنْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ: بِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمِسْكِينُ فِي الْآيَةِ مُأَوَّلًا بِالْمُدِّ، وَالْمَعْنَى: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مُدًّا، وَلَوْ دُفِعَتْ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ أَقَلِّ مِنَ السِّتِّينَ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِسْكِينًا تَمْيِيزٌ لِعَدَدٍ هُوَ السِّتُّونَ، فَحَمْلُهُ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ خُرُوجٌ بِالْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ نَفْعَ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ نَفْعِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا، لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْمُحْسِنِ إِلَيْهِمْ بِالْإِطْعَامِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ مِنْ دُعَاءِ وَاحِدٍ، وَسِتُّونَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ صَالِحٍ مُسْتَجَابِ الدَّعْوَةِ، فَرَجَاءُ الِاسْتِجَابَةِ فِيهِمْ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْوَاحِدِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لَا يَخْفَى فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، فَلَفْظُ: سِتِّينَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ هُوَ عَيْنُ الْمَفْعُولِ بِهِ الْوَاقِعُ عَلَيْهِ الْإِطْعَامِ، وَهَذَا الْعَدَدُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ لِلْإِطْعَامِ مُبَيَّنٌ بِالتَّمْيِيزِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 مِسْكِينًا، وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي الْآيَةِ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ سِتُّونَ، فَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى وَاحِدٍ خُرُوجٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ بِلَا دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَمَا تَرَى. وَحَمْلُ الْمِسْكِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى الْمُدِّ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي أُصُولِهِمْ لِمَا يُسَمُّونَهُ التَّأْوِيلَ الْبَعِيدَ وَالتَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ: فَجَعْلُ مِسْكِينٍ بِمَعْنَى الْمُدِّ ... عَلَيْهِ لَائِحٌ سِمَاتُ الْبُعْدِ الْفَرْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْطَاهُ كُلُّ مِسْكِينٍ مِنَ الطَّعَامِ، اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مِنَ الْبُرِّ الَّذِي هُوَ الْقَمْحُ مُدًّا وَثُلُثَيْ مُدٍّ، وَإِنْ كَانَ إِطْعَامُهُ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ، كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، لَزِمَهُ مِنْهُ مَا يُقَابِلُ الْمُدِّ وَالثُّلُثَيْنِ مِنَ الْبُرِّ. قَالَ خَلِيلٌ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي إِطْعَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: لِكُلِّ مُدٍّ وَثُلُثَانِ بُرًّا، وَإِنِ اقْتَاتُوا تَمْرًا أَوْ مُخَرَّجًا فِي الْفِطْرِ فَعَدْلُهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ شَارِحُهُ الْمَوَّاقُ بْنُ يُونُسَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الشِّبَعُ مُدَّيْنِ إِلَّا ثُلُثًا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ عِيَارٌ مُدِّ هِشَامٍ، فَمَنْ أَخْرَجَ بِهِ أَجْزَأَهُ، قَالَهُ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ كَانَ عَيْشُ بَلَدِهِمْ تَمْرًا أَوْ شَعِيرًا أَطْعَمَ مِنْهُ الْمُظَاهِرُ عَدْلَ مُدِّ هِشَامٍ مِنَ الْبُرِّ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا كَامِلًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مُطْلَقًا. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ الْمُدَّ النَّبَوِيَّ رُبُعَ الصَّاعِ، قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَيُطْعِمُ مُدًّا مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، اهـ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، اهـ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، فَاعْلَمْ أَنَّا أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَ ابْنِ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي أَدِلَّتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، قَالَ: وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قَدْرَ الطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا مُدٌّ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، وَمِمَّنْ قَالَ مُدُّ بُرٍّ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، حَكَاهُ عَنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ عَنْهُمُ الْأَثْرَمُ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُطْعِمُ مُدًّا مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَعَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَوْسٍ أَخِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ يَعْنِي الْمُظَاهِرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُوتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: «خُذْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ» . وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ بِالْخَبَرِ ثَبَتَ فِي الْمُظَاهِرِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إِطْعَامٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْمُخَرَّجِ، كَالْفِطْرَةِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَالَ مَالِكٌ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ، وَمِمَّنْ قَالَ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ: مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ ; لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ كَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: مِنَ الْقَمْحِ مُدَّانِ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ خُوَيْلَةَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَطْعِمْ عَنِّي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَلِأَنَّهُ إِطْعَامٌ لِلْمَسَاكِينِ، فَكَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بِنِصْفِ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُظَاهِرِ: «أَطْعِمْ هَذَا فَإِنَّ مُدَّيْ شَعِيرٍ مَكَانَ مُدِّ بُرٍّ» ، وَهَذَا نَصٌّ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُدُّ بُرٍّ أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، مَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «اذْهَبِي إِلَى فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَلْتَأْخُذِيهِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 وَفِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «إِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: «قَدْ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَقُ: زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَعَرَقَانِ يَكُونَانِ ثَلَاثِينَ صَاعًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ الْعَرَقَ سِتُّونَ صَاعًا فَقَدْ ضَعَّفَهَا، وَقَالَ: غَيْرُهَا أَصَحُّ مِنْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: «إِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ» ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: إِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، «فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» ، فَلَوْ كَانَ الْعَرَقُ سِتِّينَ صَاعًا لَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ مِائَةً وَعِشْرِينَ صَاعًا وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُجَامِعِ الَّذِي أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ» ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ صَاعًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَحَدِيثُ أَوْسٍ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مُرْسَلٌ يَرْوِيهِ عَنْهُ عَطَاءٌ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ عَرَقًا، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ بِآخِرَ، فَصَارَا جَمِيعًا ثَلَاثِينَ صَاعًا، وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخْبَارِنَا، بِحَمْلِهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَحَمْلِ أَخْبَارِنَا عَلَى الْإِجْزَاءِ. وَقَدْ عَضَّدَ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِي بَعْضِهَا، وَمَذْهَبُهُ: أَنَّ الْمُدَّ مِنَ الْبُرِّ يُجْزِئُ. وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي نَقَلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى بِطُولِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» لِابْنِ قُدَامَةَ، وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ، وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ أَصَحُّ مِنْهُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» ، فِي رِوَايَةِ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا، هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفَرَّدَ بِهَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَا يُعْرَفُ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِيهَا أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ عَنْعَنَ. وَالْمَشْهُورُ عُرْفًا أَنَّ الْعَرَقَ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، كَمَا رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ نَفْسِهِ، اهـ مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ رَأَيْتُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَدْرِ مَا يُعْطَى الْمِسْكِينُ مِنْ إِطْعَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَاخْتِلَافِهَا، وَأَدِلَّتَهُمْ وَاخْتِلَافَهَا. وَأَحْوَطُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ ; لِأَنَّهُ أَحْوَطُهَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ الْإِطْعَامِ وَجِنْسِ الطَّعَامِ وَمُسْتَحِقِّهِ. أَمَّا مُسْتَحِقُّهُ فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ الْمِسْكِينُ فِي قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمِسْكِينَ إِنْ ذُكِرَ وَحْدَهُ شَمِلَ الْفَقِيرَ، كَعَكْسِهِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ: فَظَاهِرُ النُّصُوصِ أَنَّهُ يُمَلِّكُ كُلَّ مِسْكِينٍ قَدْرَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الطَّعَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ، وَعَشَّاهُمْ بِالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ حَتَّى يُمَلِّكَهُمْ إِيَّاهُ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ إِنْ غَدَّى كُلَّ مِسْكِينٍ وَعَشَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ أَقَلَّ مِنَ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ لَهُ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِصَّةُ إِطْعَامِ أَنَسٍ لَمَّا كَبُرَ، وَعَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ عَنْ فِدْيَةِ الصِّيَامِ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا جِنْسُ الطَّعَامِ الَّذِي يَدْفَعُهُ لِلْمَسَاكِينِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي طَعَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُجْزِئُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ قُوتُ الْمُكَفِّرِ أَوْ لَا؟ وَلَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ قُوتًا لَهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِي هِيَ قُوتُ بَلَدِ الْمُظَاهِرِ يُجْزِئْهُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا هِيَ طَعَامُ بَلَدِهِ، فَيَصْدُقُ عَلَى مَنْ أَطْعَمَ مِنْهَا الْمَسَاكِينَ أَنَّهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَشَارَ إِلَى اعْتِبَارِ أَوْسَطِ قُوتِ أَهْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [5 \ 89] ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 الْفَرْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ لَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَهُ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُولِ، عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِنِ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا، وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا ; كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، لِامْتِنَاعِ قِيَاسِ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. الْفَرْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا جَامَعَ الْمَظَاهِرُ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي أَثْنَاءِ الْإِطْعَامِ، هَلْ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ مَا مَضَى مِنَ الْإِطْعَامِ، لِبُطْلَانِهِ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ إِتْمَامِ الْإِطْعَامِ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ جِمَاعَهُ فِي أَثْنَاءِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ، فَلَمْ يُوجِبِ الِاسْتِئْنَافَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ: فَهُوَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْإِطْعَامَ لِأَنَّهُ جَامَعَ فِي أَثْنَاءِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَوَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ كَالصِّيَامِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنَ الْإِطْعَامِ قَبْلَ جِمَاعِهِ يَحْتَاجُ بُطْلَانُهُ وَإِلْغَاؤُهُ إِلَى دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَلَيْسَ مَوْجُودًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْفَرْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلِيَّ كَظَهْرِ أَبِي، وَقَالَتْ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظِهَارًا مِنْهَا، أَوْ لَا؟ فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَكُونُ مُظَاهِرَةً، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، إِلَّا أَنَّ النَّخَعِيَّ قَالَ: إِذَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَجْعَلْ لَهَا شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِتَحْرِيمِ زَوْجِهَا عَلَيْهَا، كَمَا لَا يَخْفَى. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً، اخْتَلَفُوا فِيمَا يَلْزَمُهَا إِذَا قَالَتْ ذَلِكَ، إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُظَاهِرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَالثَّالِثُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ ظِهَارٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: بِأَنَّهَا قَالَتْ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَلَزِمَهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْهُ كَالرَّجُلِ، وَبِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، قَالَتْ: إِنْ تَزَوَّجْتُ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَسَأَلْتَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَرَأَوْا أَنَّ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ. وَبِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ الْمُزَنِيُّ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَسَأَلْتُهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ الَّتِي أَعْتَقَتْنِي عَنْ ظِهَارِهَا، خَطَبَهَا مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: هُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي إِنْ تَزَوَّجْتُهُ، ثُمَّ رَغِبَتْ فِيهِ، فَاسْتَفْتَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ فَأَمَرُوهَا أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً، وَتَتَزَوَّجَهُ، فَأَعْتَقَتْنِي، وَتَزَوَّجَتْهُ. وَرَوَى سَعِيدٌ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ مُخْتَصَرَيْنِ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» . وَانْظُرْ إِسْنَادَ الْأَثَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: تَلْزَمُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّهَا حَرَّمَتْ عَلَى نَفْسِهَا زَوْجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ لَهَا، فَلَزِمَتْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ اللَّازِمَةُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [66 \ 2] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [66 \ 1] . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّهَا قَالَتْ: مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا كَفَارَّةً، كَالسَّبِّ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ الْكَاذِبَةِ. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ عِنْدَنَا: أَنَّ مَنْ يَرَى فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ يَلْزَمُهَا عَلَى قَوْلِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ فِي الْحَجِّ، وَفِي هَذَا الْمَبْحَثِ، اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: تَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، قَالُوا: لَا تَجِبْ عَلَيْهَا حَتَّى يُجَامِعَهَا وَهِيَ مُطَاوَعَةُ لَهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْوَطْءِ، أَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا يَمِينٌ، فَلَا تَجِبُ كَفَّارَتُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَعَلَيْهَا تَمْكِينُ زَوْجِهَا مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْقُطُ بِيَمِينِهَا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي كُتُبِ فَرَوْعِ الْمَذَاهِبِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ فِي الْحُرْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالتَّوْقِيرِ وَالْإِكْرَامِ وَالْإِعْظَامِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ، وَلَا يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ حُرْمَتُهُنَّ عَلَيْهِمْ، كَحُرْمَةِ الْأُمِّ، وَاحْتِرَامُهُمْ لَهُنَّ كَاحْتِرَامِ الْأُمِّ. . . إِلَخْ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [33 \ 53] ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْأَلُ أُمَّهُ الْحَقِيقِيَّةَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [58 \ 2] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، لَمْ يَلِدْنَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، أَنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبٌ لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا قَرَأَا: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ) ، وَهَذِهِ الْأُبُوَّةُ أُبُوَّةٌ دِينِيَّةٌ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْأَفُ بِأُمَّتِهِ مِنَ الْوَالِدِ الشَّفِيقِ بِأَوْلَادِهِ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] [33 \ 40] ، وَلَيْسَتِ الْأُبُوَّةُ أُبُوَّةَ نَسَبٍ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنِّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ» ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَيَنْهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ» ، يُبَيِّنُ مَعْنَى أُبُوَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى. مَسْأَلَةٌ. اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُقَالُ لِبَنَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُقَالُ لِإِخْوَانِهِنَّ كَمُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمِّيَّةَ أَخْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ: أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ، وَأَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَمَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَنَاتَهُنَّ أَخَوَاتَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعِبَارَةِ لَا إِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَهَلْ يُقَالُ لِمُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ خَالُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ. وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ: أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 فَيَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ تَغْلِيبًا، فِيهِ قَوْلَانِ: صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُقَالُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ مِنْهُ إِلَّا مَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِهِ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ صَارِفٍ إِلَيْهِ، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَكَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي آخِرِ «الْأَنْفَالِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْآيَةَ [8 \ 75] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ خَمْسَةً: هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَبَيَّنَ الْمِيثَاقَ الْمَأْخُوذَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [3 \ 81 \ 82] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ الْخَضِرِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى خُصُوصِ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [42 \ 13] . وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ «آلِ عِمْرَانَ» ، وَآيَةَ «الشُّورَى» ، فِيهِمَا بَيَانٌ لِآيَةِ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ جَاءَتْهُمْ جُنُودٌ وَهُمْ جَيْشُ الْأَحْزَابِ، فَأَرْسَلَ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ يَرَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهَذِهِ الْجُنُودُ الَّتِي لَمْ يَرَوْهَا الَّتِي امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَا هُنَا فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، بَيَّنَ أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَا أَيْضًا فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا الْآيَةَ [9 \ 25 - 26] ، وَهَذِهِ الْجُنُودُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ فِي «الْأَنْفَالِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ الْآيَةَ [8 \ 12] ، وَهَذِهِ الْجُنُودُ الَّتِي لَمْ يَرَوْهَا الَّتِي هِيَ الْمَلَائِكَةُ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «بَرَاءَةَ» ، أَنَّهُ أَيَّدَ بِهَا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْغَارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا الْآيَةَ [9 \ 40] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَوُا الْأَحْزَابَ يَعْنِي جُنُودَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، قَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْآيَةَ الَّتِي وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [2 \ 214] ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ آيَةَ «الْبَقَرَةِ» الْمَذْكُورَةَ مُبَيِّنَةٌ لِآيَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ، ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَلَا وَجْهَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ مَعَ تَصْرِيحِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِهِ فِي كِتَابِهِ، فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [48 \ 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [8 \ 2] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ رَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَنَّهُ كَفَى الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي رَدَّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَفَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [33 \ 9] ، أَيْ: وَبِسَبَبِ تِلْكَ الرِّيحِ وَتِلْكَ الْجُنُودِ رَدَّهُمْ بِغَيْظِهِمْ وَكَفَاكُمُ الْقِتَالَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ الْآيَةَ [33 \ 30] . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَةَ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّمْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [27 \ 90] ، وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ الْآيَةَ [17 \ 75] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ. ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ قَنَتَ مِنْ نِسَاءِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ. وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ. وَمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا مَنْ أَطَاعَ مِنْهُنَّ بِإِيتَائِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَ الْوَعْدُ بِنَظِيرِهِ لِغَيْرِهِنَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَعْدُهُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِنَبِيِّهِ، ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِيتَائِهِ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [28 \ 51 - 54] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 وَمِنْ ذَلِكَ وَعْدُهُ لِجَمِيعِ الْمُطِيعِينَ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِيتَائِهِمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْآيَةَ [57 \ 28] . وَاعْلَمْ: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ «الْحَدِيدِ» ، الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ الْآيَةَ [57 \ 28] ، عَامٌّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا تَرَى. وَلَيْسَ فِي خُصُوصِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَكَوْنُهُ عَامًّا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرِ الَّذِي لَمْ يَصْرِفُ عَنْهُ صَارِفٌ، فَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ حَمْلِهِ آيَةَ «الْحَدِيدِ» هَذِهِ عَلَى خُصُوصِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا فِي آيَةِ «الْقَصَصِ» خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ الضَّحَّاكُ، وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا افْتَخَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ يُؤْتُونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، أَيْ: ضِعْفَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَزَادَهُمْ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [57 \ 28] ، فَفَضَّلَهُمْ بِالنُّورِ وَالْمَغْفِرَةِ، اهـ. نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ قَوْلُنَا فِيهَا: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 إِنَّ أَزْوَاجَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلْنَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فَإِنَّ قَرِينَةَ السِّيَاقِ صَرِيحَةٌ فِي دُخُولِهِنَّ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ [33 \ 28] ، ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِ خِطَابِهِ لَهُنَّ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ الْآيَةَ [33 \ 34] . وَقَدْ أَجْمَعَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، فَلَا يَصِحُّ إِخْرَاجُهَا بِمُخَصَّصٍ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ ... وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ فَالْحَقُّ أَنَّهُنَّ دَاخِلَاتٌ فِي الْآيَةِ، اهـ. مِنْ تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّهُنَّ دَاخِلَاتٌ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ غَيْرَهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِهِنَّ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِيهِنَّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ ; كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ الزَّوْجَاتِ فِي اسْمِ أَهْلِ الْبَيْتِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [1 \ 73] . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِ غَيْرِهِنَّ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ أَحَادِيثُ جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «إِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَيْتِ» ، وَدَعَا لَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَيُطَهِّرَهُمْ تَطْهِيرًا. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَنَسٌ، وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ شُمُولُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 تَنْبِيهٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، ضَمِيرُ الذُّكُورِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيلَ: لِيُذْهِبَ عَنْكُنَّ وَيُطَهِّرُكُنَّ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ شَامِلَةٌ لَهُنَّ وَلِعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَفَاطِمَةَ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى تَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الْجُمُوعِ وَنَحْوِهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَهْلِ، وَبِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْأَهْلِ تُخَاطَبُ مُخَاطَبَةَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُوسَى: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا [20 \ 10] ، وَقَوْلُهُ: سَآتِيكُمْ [27 \ 7] ، وَقَوْلُهُ: لَعَلِّي آتِيكُمْ [20 \ 10] ، وَالْمُخَاطَبُ امْرَأَتُهُ ; كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمَتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسْنَ دَاخِلَاتٍ فِي الْآيَةِ، يَرُدُّ عَلَيْهِ صَرِيحُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِيهَا، تَرُدُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ فِي الْآيَةِ هُمْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الْآيَةَ، يَعْنِي: أَنَّهُ يُذْهِبُ الرِّجْسَ عَنْهُمْ، وَيُطَهِّرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ; لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْهُ الرِّجْسَ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ تَطْهِيرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَاهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ لِئَلَّا يُقَارِفَ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَآثِمَ، وَلِيَتَصَوَّنُوا عَنْهَا بِالتَّقْوَى، وَاسْتَعَارَ لِلذُّنُوبِ الرِّجْسَ وَلِلتَّقْوَى الطُّهْرَ ; لِأَنَّ عِرْضَ الْمُقْتَرِفِ لِلْمُقَبَّحَاتِ يَتَلَوَّثُ بِهَا وَيَتَدَنَّسُ كَمَا يَتَلَوَّثُ بَدَنُهُ بِالْأَرْجَاسِ. وَأَمَّا الْحَسَنَاتُ فَالْعِرْضُ مِنْهَا نَقِيٌّ مَصُونٌ كَالثَّوْبِ الطَّاهِرِ، وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 مَا يُنَفِّرُ أُولِي الْأَلْبَابِ عَمَّا كَرِهَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيمَا يَرْضَاهُ لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ. وَأَهْلُ الْبَيْتِ نُصِبَ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي اللُّغَةِ إِتْيَانُ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ مَنْصُوبًا بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [4 \ 26] ، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ الْآيَةَ [61 \ 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ أَقْوَالٌ، مِنْهَا: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنْ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَامُ كَيْ، وَمَفْعُولُ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، لِأَجْلِ أَنْ يُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، وَالرِّجْسُ كُلُّ مُسْتَقْذِرٍ تَعَافُهُ النُّفُوسُ، وَمِنْ أَقْذَرِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا بَيَانُ الْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ بِسَبَبِ الْإِبْهَامِ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [33 \ 37] ، لِأَنَّ جُمْلَةَ: اللَّهُ مُبْدِيهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَا. وَقَدْ قُلْنَا فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ: فَإِنَّهُ هُنَا أَبْهَمَ هَذَا الَّذِي أَخْفَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ وَأَبْدَاهُ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زَوَاجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَيْثُ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ; لِأَنَّ زَوَاجَهُ إِيَّاهَا هُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [33 \ 37] ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِجَنَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ مَا أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبْدَاهُ اللَّهُ وُقُوعُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 زَيْنَبَ فِي قَلْبِهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهَا، وَهِيَ تَحْتَ زَيْدٍ، وَأَنَّهَا سَمِعَتْهُ قَالَ: «سُبْحَانَ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، كُلُّهُ لَا صِحَّةَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِدِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مُبْدِي مَا أَخْفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ الطَّبَرَيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ مِنْهُ اسْتِحْسَانٌ لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ زَيْدٍ، وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا زَيْدٌ فَيَتَزَوَّجَهَا هُوَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي كَانَ يُخْفِي فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَزِمَ مَا يَجِبُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [33 \ 37] ، اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ نَحْوَهُ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُ زَيْنَبَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُزَوِّجُهَا رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ هَذَا بِالْوَحْيِ. قَالَ لِزَيْدٍ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» . وَأَنَّ الَّذِي أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ سَيُزَوِّجُهُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، كَالزُّهْرِيِّ، وَالْقَاضِي بَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَوَى زَيْنَبَ امْرَأَةِ زَيْدٍ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُ الْمُجَّانِ لَفْظَ عِشْقٍ، فَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ جَاهِلٍ بِعِصْمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مِثْلِ هَذَا أَوْ مُسْتَخِفٍّ بِحُرْمَتِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَأَسْنَدَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَوْلَهُ: فَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ جَاءَ بِهَذَا مِنْ خِزَانَةِ الْعِلْمِ جَوْهَرًا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَدُرًّا مِنَ الدُّرَرِ أَنَّهُ إِنَّمَا عَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّ سَتَكُونَ هَذِهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَيْفَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِزَيْدٍ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» ، وَأَخَذَتْكَ خَشْيَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا آثَارًا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَضْرِبَ عَنْهَا صَفْحًا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا، فَلَا نُورِدُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَفِيهِ كَلَامُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ زَيْدًا يُطَلِّقُ زَيْنَبَ، وَأَنَّهُ يُزَوِّجُهَا إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَحْتَ زَيْدٍ، فَلَمَّا شَكَاهَا زَيْدٌ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ» ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهَا سَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَشِيَ مَقَالَةَ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْ أَظْهَرَ مَا عَلِمَ مِنْ تَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ يُرِيدُ تَزْوِيجَ زَوْجَةِ ابْنِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ فِي عِصْمَةِ زَيْدٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا قَالَ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَهَذَا الَّذِي أَبْدَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ زَوَاجُهُ إِيَّاهَا فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا، وَلَمْ يُبْدِ جَلَّ وَعَلَا شَيْئًا مِمَّا زَعَمُوهُ أَنَّهُ أَحَبَّهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ لَأَبْدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا تَرَى. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي زَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَاهِيَّةَ فِي ذَلِكَ التَّزْوِيجِ هِيَ قِطَعُ تَحْرِيمِ أَزْوَاجِ الْأَدْعِيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ، تَعْلِيلٌ صَرِيحٌ لِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَوْنُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي زَوَّجَهُ إِيَّاهَا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ سَبَبَ زَوَاجِهِ إِيَّاهَا لَيْسَ هُوَ مَحَبَّتَهُ لَهَا الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِي طَلَاقِ زِيدٍ لَهَا كَمَا زَعَمُوا، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا الْآيَةَ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا قَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُ بِهَا حَاجَةٌ، فَطَلَّقَهَا بِاخْتِيَارِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [4 \ 103] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [3 \ 191] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ الْآيَةَ [33 \ 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْكَبِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [42 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا لَهُ أَمْثِلَةً فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَمْثِلَةً كَثِيرَةً فِي الْكِتَابِ لَمْ تُذْكَرْ فِي التَّرْجَمَةِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي التَّرْجَمَةِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، فَقَدْ قُلْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِنَّ آيَةَ «الْحِجَابِ» أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ خَاصَّةٌ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ تَعْلِيلَهُ تَعَالَى لِهَذَا الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ إِيجَابُ الْحِجَابِ بِكَوْنِهِ أَطْهَرَ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الرِّيبَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى إِرَادَةِ تَعْمِيمِ الْحُكْمِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ غَيْرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا حَاجَةَ إِلَى أَطْهَرِيَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَقُلُوبِ الرِّجَالِ مِنَ الرِّيبَةِ مِنْهُنَّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: وَقَدْ تُخَصِّصُ وَقَدْ تُعَمِّمُ ... لِأَصْلِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْرِمُ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِنَا فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحِجَابِ حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ، لَا خَاصٌّ بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ اللَّفْظِ خَاصًّا بِهِنَّ ; لِأَنَّ عُمُومَ عِلَّتِهِ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَمَسْلَكُ الْعِلَّةِ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، هُوَ عِلَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، هُوَ الْمَسْلَكُ الْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ بِمَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، وَضَابِطُ هَذَا الْمَسْلَكِ الْمُنْطَبِقِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ، هُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ وَصْفٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى وَجْهٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ عِلَّةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 لِذَلِكَ الْحُكْمِ لَكَانَ الْكَلَامُ مَعِيبًا عِنْدَ الْعَارِفِينَ، وَعَرَّفَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» دَلَالَةَ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ فِي مَبْحَثِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ بِقَوْلِهِ: دَلَالَةُ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ ... فِي الْفَنِّ تَقْصِدُ لَدَى ذَوِيهِ أَنْ يُقْرَنَ الْوَصْفُ بِحُكْمٍ إِنْ يَكُنْ ... لِغَيْرِ عِلَّةٍ يُعِبْهُ مَنْ فَطِنْ وَعَرَّفَ أَيْضًا الْإِيمَاءَ وَالتَّنْبِيهَ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالثَّالِثُ الْإِيمَا اقْتِرَانُ الْوَصْفِ بِالْحُكْمِ مَلْفُوظَيْنِ دُونَ خِلْفِ وَذَلِكَ الْوَصْفُ أَوِ النَّظِيرُ ... قِرَانُهُ لِغَيْرِهَا يَضِيرُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، لَكَانَ الْكَلَامُ مَعِيبًا غَيْرَ مُنْتَظِمٍ عِنْدَ الْفَطِنِ الْعَارِفِ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، هُوَ عِلَّةُ قَوْلِهِ: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَعَلِمْتَ أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ عَامٌ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا، وَقَدْ تُخَصِّصُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي بَيْتِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامًّا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْحِجَابَ وَاجِبٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ الْأَدِلَّةَ الْقُرْآنِيَّةَ عَلَى وُجُوبِ الْحِجَابِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ الْأَدِلَّةَ مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ نُنَاقِشُ أَدِلَّةَ الطَّرَفَيْنِ، وَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْ أَدِلَّةِ مَنْ قَالُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْحِجَابِ، عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ، قَرِينَةٌ عَلَى عُمُومِ حُكْمِ آيَةِ الْحِجَابِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى احْتِجَابِ الْمَرْأَةِ وَسِتْرِهَا جَمِيعَ بَدَنِهَا حَتَّى وَجْهَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [33 \ 59] ، فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ: أَنَّهُنَّ يَسْتُرْنَ بِهَا جَمِيعَ وُجُوهِهِنَّ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ إِلَّا عَيْنٌ وَاحِدَةٌ تُبْصِرُ بِهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لَا يَسْتَلْزِمُ مَعْنَاهُ سَتْرَ الْوَجْهِ لُغَةً، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ عَلَى اسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ، مَعَارَضٌ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْوَجْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيهَا: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ سَتْرُ وُجُوهِهِنَّ بِإِدْنَاءِ جَلَابِيبِهِنَّ عَلَيْهَا، وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ، وَوُجُوبُ احْتِجَابِ أَزْوَاجِهِ وَسِتْرِهِنَّ وُجُوهَهُنَّ، لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ مَعَ الْبَنَاتِ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْوُجُوهِ بِإِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ، كَمَا تَرَى. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النُّورِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [40 \ 31] ، مِنْ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمُلَاءَةُ فَوْقَ الثِّيَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَامَتْ قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ سَتْرُ الْوَجْهِ، وَأَنَّ الْقَرِينَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ، قَالَ: وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: أَنْ يُعْرَفْنَ عَلَى أَنَّهُنَّ سَافِرَاتٌ كَاشِفَاتٌ عَنْ وُجُوهِهِنَّ ; لِأَنَّ الَّتِي تُسْتَرُ وَجْهَهَا لَا تُعْرَفُ، بَاطِلٌ، وَبُطْلَانُهُ وَاضِحٌ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَمْنَعُهُ مَنْعًا بَاتًّا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ صَرِيحٌ فِي مَنْعِ ذَلِكَ. وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِدْنَائِهِنَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، وَإِدْنَاؤُهُنُّ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ بِسُفُورِهِنَّ وَكَشْفِهِنَّ عَنْ وُجُوهِهِنَّ كَمَا تَرَى، فَإِدْنَاءُ الْجَلَابِيبِ مُنَافٍ لِكَوْنِ الْمَعْرِفَةِ مَعْرِفَةً شَخْصِيَّةً بِالْكَشْفِ عَنِ الْوُجُوهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِأَزْوَاجِكَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ بِكَشْفِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّ احْتِجَابَهُنَّ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ أَدِلَّةٌ مُتَعَدِّدَةٌ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 الْأَوَّلُ: سِيَاقُ الْآيَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا. الثَّانِي: قَوْلُهُ: لِأَزْوَاجِكَ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ أَيْضًا. الثَّالِثُ: أَنَّ عَامَّةَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَسَّرُوا الْآيَةَ مَعَ بَيَانِهِمْ سَبَبَ نُزُولِهَا، بِأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُنْ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ خَارِجَ الْبُيُوتِ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْضُ الْفُسَّاقِ يَتَعَرَّضُونَ لِلْإِمَاءِ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلْحَرَائِرِ، وَكَانَ بَعْضُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يَخْرُجْنَ فِي زِيٍّ لَيْسَ مُتَمَيَّزًا عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، فَيَتَعَرَّضُ لَهُنَّ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ بِالْأَذَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُنَّ إِمَاءٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْمُرَ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتِهِ وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَمَيَّزْنَ فِي زِيِّهِنَّ عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ وَرَآهُنَّ الْفُسَّاقُ، عَلِمُوا أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِرُ لَا إِمَاءَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ، فَهِيَ مَعْرِفَةٌ بِالصِّفَةِ لَا بِالشَّخْصِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُنْسَجِمٌ مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، كَمَا تَرَى. فَقَوْلُهُ: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لِأَنَّ إِدْنَائِهِنَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِرَ، فَهُوَ أَدْنَى وَأَقْرَبُ لِأَنْ يُعْرَفْنَ، أَيْ: يُعْلَمُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، فَلَا يُؤْذَيْنَ مِنْ قِبَلِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْإِمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَعَرُّضَ الْفُسَّاقِ لِلْإِمَاءِ جَائِزٌ، هُوَ حَرَامٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَعَرِّضِينَ لَهُنَّ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [33 \ 60] ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، إِلَى قَوْلِهِ: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [33 \ 60 - 61] . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَرِّضَ لِمَا لَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الْآيَةَ [33 \ 32] ، وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: حَافِظٌ لِلْفَرْجِ رَاضٍ بِالتُّقَى ... لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضْ وَفِي الْجُمْلَةِ: فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِ الْحَرَائِرِ بِمُخَالَفَةِ زِيِّ الْإِمَاءِ لِيَهَابَهُنَّ الْفُسَّاقُ، وَدَفْعُ ضَرَرِ الْفُسَّاقِ عَنِ الْإِمَاءِ لَازِمٌ، وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرَ لَيْسَ مِنْهَا إِدْنَاءُ الْجَلَابِيبِ. تَنْبِيهٌ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 أَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ ; كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» : الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنَ. وَأَنَّهُ عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصْدَرَ وَالزَّمَنَ كَامِنَانِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ إِجْمَاعًا، وَقَدْ تَرْجِعُ الْإِشَارَاتُ وَالضَّمَائِرُ تَارَةً إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ، وَتَارَةً إِلَى الزَّمَنِ الْكَامِنِ فِيهِ. فَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِيهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ، أَيْ: ذَلِكَ الْإِدْنَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: يُدْنِينَ. وَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ لِلزَّمَنِ الْكَامِنِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [50 \ 20] ، فَقَوْلُهُ: ذَلِكَ يَعْنِي زَمَنَ النَّفْخِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَفَخْ، أَيْ: ذَلِكَ الزَّمَنُ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌّ هُوَ مَا تُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ، مِنْ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ يَعُمُّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَلَا يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْوَاحِدَ الْمُخَاطَبَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي مَبْحَثِ النَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الْمُعَصْفَرِ، وَقَدْ قُلْنَا فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ خِطَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِهِ يَعُمُّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَخِلَافُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ، هَلْ هُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ؟ خِلَافٌ فِي حَالٍ لَا خِلَافٌ حَقِيقِيٌّ، فَخِطَابُ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صِيغَةُ عُمُومٍ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ لَا يَعُمُّ ; لِأَنَّ اللَّفْظِ لِلْوَاحِدِ لَا يَشْمَلُ بِالْوَضْعِ غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَشْمَلُهُ وَضْعًا، فَلَا يَكُونُ صِيغَةَ عُمُومٍ. وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ خِطَابِ الْوَاحِدِ عَامٌّ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ. أَمَّا الْقِيَاسُ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ عَلَيْهِ بِجَامِعِ اسْتِوَاءِ الْمُخَاطَبِينَ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. وَالنَّصُّ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 النِّسَاءَ، وَمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ» . قَالُوا: وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ: «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» . قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ: اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ، لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصِلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حَبَّانَ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ» ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «كَشْفُ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ» : «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ، وَفِي لَفْظٍ: «كَحُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ، لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ ; كَمَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثَ الْبَيْضَاوِيِّ. وَقَالَ فِي «الدُّرَرِ» كَالْزَرْكَشِيِّ: لَا يُعْرَفُ. وَسُئِلَ عَنْهُ الْمُزِّيُّ وَالذَّهَبِيُّ فَأَنْكَرَاهُ، نَعَمْ يَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، فَلَفْظُ النَّسَائِيُّ: «مَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ» ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ» ، وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَلْزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ الشَّيْخَيْنِ بِإِخْرَاجِهَا لِثُبُوتِهَا عَلَى شَرْطِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ فِي «شَرْحِ الْوَرَقَاتِ الْكَبِيرِ» : «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ» لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصِلٌ إِلَى آخِرِهِ، قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ، انْتَهَى. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ بِقَافَيْنِ مُصَغَّرًا، وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، وَرَقِيقَةٌ أُمُّهَا، وَهِيَ أُخْتُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَقِيلَ: عَمَّتُهَا، وَاسْمُ أَبِيهَا بِجَادٌ - بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ جِيمٍ - ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيُّ، تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ. وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ: خِطَابٌ وَاحِدٌ لِغَيْرِ الْحَنْبَلِ ... مِنْ غَيْرِ رَعْيِ النَّصِّ وَالْقَيْسِ الْجَلِي انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌّ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِنَّ كَقَوْلِهِ لِمِائَةِ امْرَأَةٍ، كَمَا رَأَيْتَ إِيضَاحَهُ قَرِيبًا. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِجَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [24 \ 60] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْقَوَاعِدَ أَيِ الْعَجَائِزَ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا، أَيْ: لَا يَطْمَعْنَ فِي النِّكَاحِ لِكِبَرِ السِّنِّ وَعَدَمِ حَاجَةِ الرِّجَالِ إِلَيْهِنَّ يُرَخَّصُ لَهُنَّ بِرَفْعِ الْجَنَاحِ عَنْهُنَّ فِي وَضْعِ ثِيَابِهِنَّ، بِشَرْطِ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مَعَ هَذَا كُلِّهِ قَالَ: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، أَيْ: يَسْتَعْفِفْنَ عَنْ وَضْعِ الثِّيَابِ خَيْرٌ لَهُنَّ، أَيْ: وَاسْتِعْفَافُهُنَّ عَنْ وَضْعِ ثِيَابِهِنَّ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِنَّ وَانْقِطَاعِ طَمَعِهِنَّ فِي التَّزْوِيجِ، وَكَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ خَيْرٌ لَهُنَّ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ، أَنَّهُ وَضْعُ مَا يَكُونُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْقَمِيصِ مِنَ الْجَلَابِيبِ، الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالثِّيَابِ. فَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي فِيهَا جَمَالٌ وَلَهَا طَمَعٌ فِي النِّكَاحِ، لَا يُرَخَّصُ لَهَا فِي وَضْعِ شَيْءٍ مِنْ ثِيَابِهَا وَلَا الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنَ التَّسَتُّرِ بِحَضْرَةِ الْأَجَانِبِ. وَإِذَا عَلِمْتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الْحِجَابِ عَامٌّ، وَأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مَعَهَا مِنَ الْآيَاتِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى احْتِجَابِ جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، عَلِمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى الْحِجَابِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ آيَةَ الْحِجَابِ خَاصَّةٌ بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا شَكَّ أَنَّهُنَّ خَيْرُ أُسْوَةٍ لِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآدَابِ الْكَرِيمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلطَّهَارَةِ التَّامَّةِ وَعَدَمِ التَّدَنُّسِ بِأَنْجَاسِ الرِّيبَةِ، فَمَنْ يُحَاوِلُ مَنْعَ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ كَالدُّعَاةِ لِلسُّفُورِ وَالتَّبَرُّجِ وَالِاخْتِلَاطِ الْيَوْمَ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِنَّ فِي هَذَا الْأَدَبِ السَّمَاوِيِّ الْكَرِيمِ الْمُتَضَمِّنِ سَلَامَةَ الْعَرْضِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ غَاشٌّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرِيضُ الْقَلْبِ كَمَا تَرَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَعَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى احْتِجَابِ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِيهِمَا وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ «النِّكَاحِ» ، فِي بَابِ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا ذُو مَحْرَمٍ إِلَخْ. وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ «السَّلَامِ» ، فِي بَابِ تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، فَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَنْعِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ وَسُؤَالِهِنَّ مَتَاعًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 حِجَابٍ ; لِأَنَّ مَنْ سَأَلَهَا مَتَاعًا لَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَذَّرَهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا سَأَلَهُ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ الْحَمْوِ الَّذِي هُوَ قَرِيبُ الزَّوْجِ الَّذِي لَيْسَ مَحْرَمًا لِزَوْجَتِهِ، كَأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَعَمِّهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» ، فَسَمَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُخُولَ قَرِيبِ الرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْرَمٍ لَهَا بِاسْمِ الْمَوْتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ هِيَ أَبْلَغُ عِبَارَاتِ التَّحْذِيرِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ هُوَ أَفْظَعُ حَادِثٍ يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهْ وَالْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [26 \ 184] ، فَتَحْذِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا التَّحْذِيرَ الْبَالِغَ مِنْ دُخُولِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَتَعْبِيرُهُ عَنْ دُخُولِ الْقَرِيبِ عَلَى زَوْجَةِ قَرِيبِهِ بِاسْمِ الْمَوْتِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ نَبَوِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ، كَمَا تَرَى. إِذْ لَوْ كَانَ حُكْمُهُ خَاصًّا بِأَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَذَّرَ الرِّجَالَ هَذَا التَّحْذِيرَ الْبَالِغَ الْعَامَّ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّحْذِيرُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ وَلَوْ لَمْ تَحْصُلِ الْخَلْوَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَالدُّخُولُ عَلَيْهِنَّ وَالْخَلْوَةُ بِهِنَّ كِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا شَدِيدًا بِانْفِرَادِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا حَرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ» ، بِالنَّصْبِ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَهُوَ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ عَلَى مَحْذُورٍ لِيَتَحَرَّزَ عَنْهُ ; كَمَا قِيلَ: إِيَّاكَ وَالْأَسَدَ، وَقَوْلُهُ: «إِيَّاكُمْ» ، مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اتَّقُوا أَنْفُسَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْكُمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، بِلَفْظِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ» ، وَتَضَمَّنَ مَنْعُ الدُّخُولِ مَنْعَ الْخَلْوَةِ بِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «صَحِيحِهِ» ، بَابُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [24 \ 31] ، شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا. حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، أَخَذْنَ أُزُرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي، فَاخْتَمَرْنَ بِهَا، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَوْلُهُ: فَاخْتَمَرْنَ، أَيْ غَطَّيْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تَضَعَ الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَرْمِيهِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْعَاتِقِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ التَّقَنُّعُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُسْدِلُ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا مِنْ وَرَائِهَا وَتَكْشِفُ مَا قُدَّامَهَا فَأُمِرْنَ بِالِاسْتِتَارِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» . وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النِّسَاءَ الصَّحَابِيَّاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِيهِ فَهِمْنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، يَقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَأَنَّهُنَّ شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ، أَيْ: سَتَرْنَ وُجُوهَهُنَّ بِهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ الْمُقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَبِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْمُنْصِفُ أَنَّ احْتِجَابَ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ وَسِتْرَهَا وَجْهَهَا عَنْهُمْ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَثْنَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى تِلْكَ النِّسَاءِ بِمُسَارَعَتِهِنَّ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ مَا فَهِمْنَ سَتْرَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، إِلَّا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَهُنَّ يَسْأَلْنَهُ عَنْ كُلِّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِنَّ فِي دِينِهِنَّ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [16 \ 44] ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرْنَهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: ذَكَرْنَا عِنْدَ عَائِشَةَ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَلَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ «النُّورِ» : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، فَانْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ فِيهَا، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ مُعْتَجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» . وَمَعْنَى مُعْتَجَرَاتٍ: مُخْتَمِرَاتٍ، كَمَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَتَرَى عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَعَ عِلْمِهَا وَفَهْمِهَا وَتُقَاهَا أَثْنَتْ عَلَيْهِنَّ هَذَا الثَّنَاءَ الْعَظِيمَ، وَصَرَّحَتْ بِأَنَّهَا مَا رَأَتْ أَشَدَّ مِنْهُنَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فَهْمَهُنَّ لُزُومَ سَتْرِ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ مِنْ تَصْدِيقِهِنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِيمَانِهِنَّ بِتَنْزِيلِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ احْتِجَابَ النِّسَاءِ عَنِ الرِّجَالِ وَسِتْرَهُنَّ وُجُوهَهُنَّ تَصْدِيقٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِيمَانٌ بِتَنْزِيلِهِ، كَمَا تَرَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، مِمَّنْ يَدَّعِي مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى سَتْرِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا عَنِ الْأَجَانِبِ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابِيَّاتِ فَعَلْنَ ذَلِكَ مُمْتَثِلَاتٍ أَمْرَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ إِيمَانًا بِتَنْزِيلِهِ، وَمَعْنَى هَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبُخَارِيِّ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ وَأَصْرَحِهَا فِي لُزُومِ الْحِجَابِ لِجَمِيعِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَالَ الْبَزَّارُ أَيْضًا: حَدَّثْنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثْنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بِرَوْحَةِ رَبِّهَا وَهِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا» ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ بِهِ نَحْوَهُ، اه مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ صَاحِبُ «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» ، وَقَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ» ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَعْتَضِدُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ كَوْنِ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ، يَدُلُّ عَلَى الْحِجَابِ لِلُزُومِ سَتْرِ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَوْرَةِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرَ الْهَيْثَمِيُّ أَيْضًا فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّمَا النِّسَاءُ عَوْرَةٌ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا وَمَا بِهَا مِنْ بَأْسٍ فَيَسْتَشْرِفُهَا الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ لَا تَمُرِّينَ بِأَحَدٍ إِلَّا أَعْجَبْتِيهِ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَلْبَسُ ثِيَابَهَا فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَتَقُولُ: أَعُودُ مَرِيضًا أَوْ أَشْهَدُ جِنَازَةً، أَوْ أُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ، وَمَا عَبَدَتِ امْرَأَةٌ رَبَّهَا، مِثْلَ أَنْ تَعْبُدَهُ فِي بَيْتِهَا، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ» ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، اه مِنْهُ. وَمِثْلُهُ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ إِذْ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسَاجِدِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ الْآيَةَ [24 \ 36 - 37] ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ الْحَقَّ. فَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْحِجَابِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِهَا فِي ذَلِكَ آيَةَ «النُّورِ» ، مَعَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ لَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ فَقَدْ أَوْضَحْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ تَفْسِيرَ الصَّحَابَةِ لَهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ بَيْنَهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا يَدْخُلُ فِيهِ سَتْرُ الْوَجْهِ وَتَغْطِيَتُهُ عَنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 الرِّجَالِ، وَأَنَّ سَتْرَ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا عَمَلٌ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحِجَابِ يَكْفِي الْمُنْصِفَ، فَسَنَذْكُرُ لَكَ أَجْوِبَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ إِبْدَاءِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا، بِحَضْرَةِ الْأَجَانِبِ. فَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْحَيْضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ ; وَهَذَا الْحَدِيثُ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: هِيَ كَوْنُهُ مُرْسَلًا ; لِأَنَّ خَالِدَ بْنَ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ، كَمَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» . الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَزْدِيُّ مَوْلَاهُمْ، قَالَ فِيهِ فِي «التَّقْرِيبِ» : ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحِجَابِ، وَمَعَ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْحِجَابِ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ، وَذَكَّرَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ» فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» ، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ، اه. هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» ، قَالُوا: وَقَوْلُ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ مُحْتَجِبَةً لَمَا رَأَى خَدَّيْهَا، وَلَمَا عَلِمَ بِأَنَّهَا سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ. وَأُجِيبُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا: بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ غَايَةُ مَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ أَنَّ جَابِرًا رَأَى وَجْهَهَا، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَشْفَهَا عَنْهُ قَصْدًا، وَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ يَسْقُطُ خِمَارُهَا عَنْ وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَيَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ ذُبْيَانَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ فَعَلَى الْمُحْتَجِّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ، أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا سَافِرَةً، وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ غَيْرُ جَابِرٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ كَشْفَ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ وَجْهِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِمَّنْ رَوَاهَا غَيْرَ جَابِرٍ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ رَوَى الْقِصَّةَ غَيْرَ جَابِرٍ أَنَّهُ رَأَى خَدَّيْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ السَّفْعَاءِ الْخَدَّيْنِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى السُّفُورِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ: فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ، هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ (سِطَةٌ) بِكَسْرِ السِّينِ، وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَاسِطَةِ النِّسَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ: مِنْ خِيَارِهِنَّ، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ، قَالَ: وَزَعَمَ حُذَّاقُ شُيُوخِنَا أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ مُغَيَّرٌ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ صَوَابَهُ مِنْ سِفْلَةِ النِّسَاءِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مَسْنَدِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ. فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: امْرَأَةٌ لَيْسَتْ مِنْ عِلْيَةِ النِّسَاءِ، وَهَذَا ضِدُّ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي، وَهَذَا الَّذِي ادَّعَوْهُ مِنْ تَغْيِيرِ الْكَلِمَةِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مِنْ خِيَارِ النِّسَاءِ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ هُوَ، بَلِ الْمُرَادُ: امْرَأَةٌ مِنْ وَسَطِ النِّسَاءِ جَالِسَةٌ فِي وَسَطِهِنَّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: يُقَالُ: وَسَطْتُ الْقَوْمَ أَسِطُهُمْ وَسْطًا وَسِطَةً، أَيْ: تَوَسَّطْتُهُمْ، اه مِنْهُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ثَنَاءٌ الْبَتَّةَ عَلَى سَفْعَاءِ الْخَدَّيْنِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ جَابِرًا ذَكَرَ سَفْعَةَ خَدَّيْهَا لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّنْ شَأْنُهَا الِافْتِتَانُ بِهَا ; لِأَنَّ سَفْعَةَ الْخَدَّيْنِ قُبْحٌ فِي النِّسَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، أَيْ: فِيهَا تَغَيُّرٌ وَسَوَادٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : وَالسَّفْعَةُ فِي الْوَجْهِ: سَوَادٌ فِي خَدَّيِ الْمَرْأَةِ الشَّاحِبَةِ، وَيُقَالُ لِلْحَمَامَةِ سَفْعَاءُ لِمَا فِي عُنُقِهَا مِنَ السَّفْعَةِ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: مِنَ الْوُرْقِ سَفْعَاءُ الْعِلَاطَيْنِ بَاكَرَتْ ... فُرُوعَ أَشَاءٍ مَطْلَعَ الشَّمْسِ أَسْحَمَا قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: السَّفْعَةُ فِي الْخَدَّيْنِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَشْهُورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَنَّهَا سَوَادٌ وَتَغَيُّرٌ فِي الْوَجْهِ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أَوْ سَفَرٍ شَدِيدٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ يَبْكِي أَخَاهُ مَالِكًا: تَقُولُ ابْنَةُ الْعُمَرِيِّ مَا لَكَ بَعْدَمَا ... أَرَاكَ خَضِيبًا نَاعِمَ الْبَالِ أَرْوَعَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 فَقُلْتُ لَهَا طُولُ الْأَسَى إِذْ سَأَلْتِنِي ... وَلَوْعَةُ وَجْدٍ تَتْرُكُ الْخَدَّ أَسْفَعَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنَ السَّفْعَةِ مَا هُوَ طَبِيعِيٌّ كَمَا فِي الصُّقُورِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي خَدَّيِ الصَّقْرِ سَوَادٌ طَبِيعِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: أَهْوَى لَهَا أَسْفَعُ الْخَدَّيْنِ مُطَّرِقُ ... رِيشَ الْقَوَادِمِ لَمْ تُنْصَبْ لَهُ الشَّبَكُ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ السَّفْعَةَ فِي الْخَدَّيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى قُبْحِ الْوَجْهِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ قَبِيحَةَ الْوَجْهِ الَّتِي لَا يَرْغَبُ فِيهَا الرِّجَالُ لِقُبْحِهَا، لَهَا حُكْمُ الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى ذَلِكَ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، قَالَ: أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا. . . الْحَدِيثَ، قَالُوا: فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْخَثْعَمِيَّةِ بِأَنَّهَا وَضِيئَةٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا كَاشِفَةً عَنْهُ، وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ بَلْ غَايَةُ مَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ وَضِيئَةً، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: أَنَّهَا حَسْنَاءُ، وَمَعْرِفَةُ كَوْنِهَا وَضِيئَةً أَوْ حَسْنَاءَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَنْكَشِفُ عَنْهَا خِمَارُهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَيَرَاهَا بَعْضُ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ كَشْفِهَا عَنْ وَجْهِهَا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي رُؤْيَةِ جَابِرٍ سَفْعَاءَ الْخَدَّيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ حُسْنَهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَهَا، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ نَظَرِ أَخِيهِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَنَظَرِهَا إِلَيْهِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَهُ بِاللَّيْلِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ أَخِيهِ الْفَضْلِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: إِنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 وَاطِّلَاعُ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّهَا وَضِيئَةٌ حَسْنَاءُ لَا يَسْتَلْزِمُ السُّفُورَ قَصْدًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَأَى وَجْهَهَا، وَعَرَفَ حُسْنَهُ مِنْ أَجْلِ انْكِشَافِ خِمَارِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهَا، وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ حُسْنَهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّهَا وَضِيئَةٌ، وَتَرْتِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ قَوْلَهُ: فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَقَوْلَهُ: وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فِيهِ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى وَجْهَهَا، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ لِإِعْجَابِهِ بِحُسْنِهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ تِلْكَ الْقَرَائِنَ لَا تَسْتَلْزِمُ اسْتِلْزَامًا، لَا يَنْفَكُّ أَنَّهَا كَانَتْ كَاشِفَةً، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا كَذَلِكَ، وَأَقَرَّهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاحْتِمَالِ، مَعَ أَنَّ جَمَالَ الْمَرْأَةِ قَدْ يُعْرَفُ وَيُنْظَرُ إِلَيْهَا لِجَمَالِهَا وَهِيَ مُخْتَمِرَةٌ، وَذَلِكَ لِحُسْنِ قَدِّهَا وَقَوَامِهَا، وَقَدْ تُعْرَفُ وَضَاءَتُهَا وَحُسْنُهَا مِنْ رُؤْيَةِ بَنَانِهَا فَقَطْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [24 \ 31] ، بِالْمُلَاءَةِ فَوْقَ الثِّيَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْحُسْنَ يُعْرَفُ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: طَافَتْ أُمَامَةُ بِالرُّكْبَانِ آوِنَةً ... يَا حُسْنَهَا مِنْ قَوَامٍ مَا وَمُنْتَقِبَا فَقَدْ بَالَغَ فِي حُسْنِ قَوَامِهَا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ كَوْنُهُ مَسْتُورًا بِالثِّيَابِ لَا مُنْكَشِفًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ مُحْرِمَةٌ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، فَعَلَيْهَا كَشْفُ وَجْهِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رِجَالٌ أَجَانِبُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهَا سَتْرَهُ مِنَ الرِّجَالِ فِي الْإِحْرَامِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِنَّ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ نَظَرَ إِلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْفَضْلُ مَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهَا مُحْرِمَةٌ لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا أَحَدٌ فَكَشْفُهَا عَنْ وَجْهِهَا إذًا لِإِحْرَامِهَا لَا لِجَوَازِ السُّفُورِ. فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُهَا مَعَ الْحُجَّاجِ مَظِنَّةُ أَنْ يَنْظُرَ الرِّجَالُ وَجْهَهَا إِنْ كَانَتْ سَافِرَةً ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَرْأَةَ السَّافِرَةَ وَسَطَ الْحَجِيجِ، لَا تَخْلُو مِمَّنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا مِنَ الرِّجَالِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرَعُ وَعَدَمُ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ، فَلَا مَانِعَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عَادَةً، مِنْ كَوْنِهَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا لَحُكِيَ كَمَا حُكِيَ نَظَرُ الْفَضْلِ إِلَيْهَا، وَيُفْهَمُ مَنْ صَرْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَ الْفَضْلِ عَنْهَا، أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 الْأَجَانِبِ يَنْظُرُونَ إِلَى الشَّابَّةِ، وَهِيَ سَافِرَةٌ كَمَا تَرَى، وَقَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى أَنَّهَا يَلْزَمُهَا حَجْبُ جَمِيعِ بَدَنِهَا عَنْهُمْ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْمُنْصِفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الشَّارِعُ لِلنِّسَاءِ فِي الْكَشْفِ عَنِ الْوَجْهِ أَمَامَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ هُوَ أَصْلُ الْجَمَالِ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّابَّةِ الْجَمِيلَةِ هُوَ أَعْظَمُ مُثِيرٍ لِلْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَدَاعٍ إِلَى الْفِتْنَةِ، وَالْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، أَلَمْ تَسْمَعْ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: قُلْتُ اسْمَحُوا لِي أَنْ أَفُوزَ بِنَظْرَةٍ ... وَدَعُوا الْقِيَامَةَ بَعْدَ ذَاكَ تَقُومُ أَتَرْضَى أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أَنْ تَسْمَحَ لَهُ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ إِلَى نِسَائِكَ وَبَنَاتِكَ وَأَخَوَاتِكَ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: وَمَا عَجَبٌ أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجَّلَتْ ... وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَعْنِي آيَةَ الْحِجَابِ هَذِهِ اعْلَمْ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ أَنْ يُصَافِحَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمَسَّ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ» ، الْحَدِيثَ. وَاللَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ، فَيَلْزَمُنَا أَلَّا نُصَافِحَ النِّسَاءَ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُوَضَّحٌ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ مُطْلَقًا فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ لِلرِّجَالِ. وَفِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، فِي آيَةِ الْحِجَابِ هَذِهِ. وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ وَقْتَ الْبَيْعَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُصَافِحُ الْمَرْأَةَ، وَلَا يَمَسُّ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا ; لِأَنَّ أَخَفَّ أَنْوَاعِ اللَّمْسِ الْمُصَافَحَةُ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَقْتَضِيهَا وَهُوَ وَقْتُ الْمُبَايَعَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَحْتَجِبَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَسَّ الْبَدَنِ لِلْبَدَنِ، أَقْوَى فِي إِثَارَةِ الْغَرِيزَةِ، وَأَقْوَى دَاعِيًا إِلَى الْفِتْنَةِ مِنَ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، وَكُلُّ مُنْصِفٍ يَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى التَّلَذُّذِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، لِقِلَّةِ تَقْوَى اللَّهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَضَيَاعِ الْأَمَانَةِ، وَعَدَمِ التَّوَرُّعِ عَنِ الرِّيبَةِ، وَقَدْ أُخْبِرْنَا مِرَارًا أَنَّ بَعْضَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْعَوَامِّ، يُقَبِّلُ أُخْتَ امْرَأَتِهِ بِوَضْعِ الْفَمِ عَلَى الْفَمِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ التَّقْبِيلَ الْحَرَامَ بِالْإِجْمَاعِ سَلَامًا، فَيَقُولُونَ: سَلَّمَ عَلَيْهَا، يَعْنُونَ: قَبَّلَهَا، فَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ التَّبَاعُدُ عَنْ جَمِيعِ الْفِتَنِ وَالرَّيْبِ وَأَسْبَابِهَا، وَمِنْ أَكْبَرِهَا لَمْسُ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ بَدَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالذَّرِيعَةُ إِلَى الْحَرَامِ يَجِبُ سَدُّهَا ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» : سَدُّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمِ ... حَتْمٌ كَفَتْحِهَا إِلَى الْمُنْحَتِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ. أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ السَّاعَةِ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِنَّمَا صِيغَةُ حَصْرٍ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ السَّاعَةَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ وَاضِحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الْآيَةَ [31 \ 34] . وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ، هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [7 \ 187] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [79 \ 42 - 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ [41 \ 47] ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» . قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي هِيَ الْقِيَامَةُ لَعَلَّهَا تَكُونُ قَرِيبًا، وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ فِي «الشُّورَى» : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [42 \ 17] ، وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا اقْتِرَابَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ الْآيَةَ [54 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [21 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ الْآيَةَ [16 \ 1] . قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا، إِلَى قَوْلِهِ: لَعْنًا كَبِيرًا. تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لَهُ مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ، وَهِيَ التَّكَالِيفُ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَأَنَّهُنَّ أَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، أَيْ: خِفْنَ مِنْ عَوَاقِبِ حَمْلِهَا أَنْ يَنْشَأَ لَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ عَذَابُ اللَّهِ وَسُخْطُهُ، وَهَذَا الْعَرْضُ وَالْإِبَاءُ، وَالْإِشْفَاقُ كُلُّهُ حَقٌّ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِدْرَاكًا يَعْلَمُهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، وَبِذَلِكَ الْإِدْرَاكِ أَدْرَكَتْ عَرْضَ الْأَمَانَةِ عَلَيْهَا، وَأَبَتْ وَأَشْفَقَتْ، أَيْ: خَافَتْ. وَمَثَلُ هَذَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِدْرَاكِ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورِ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْحِجَارَةِ: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [2 \ 74] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْخَشْيَةُ الَّتِي نَسَبَهَا اللَّهُ لِبَعْضِ الْحِجَارَةِ بِإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ هُوَ تَعَالَى. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ الْآيَةَ [17 \ 44] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [21 \ 79] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قِصَّةُ حَنِينِ الْجِذْعِ، الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْتَقَلَ بِالْخُطْبَةِ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَهِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لِأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي مَكَّةَ» ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ. فَكُلُّ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [17 \ 44] ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِتَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ دَلَالَتَهَا عَلَى خَالِقِهَا لَكُنَّا نَفَقَهُهُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، رَاجِعٌ لِلَفْظِ: الْإِنْسَانُ، مُجَرَّدًا عَنْ إِرَادَةِ الْمَذْكُورِ مِنْهُ، الَّذِي هُوَ آدَمُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَيِ الْإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَحْفَظُ الْأَمَانَةَ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ: كَثِيرَ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْقِسَامِ الْإِنْسَانِ فِي حَمْلِ الْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَى مُعَذَّبٍ وَمَرْحُومٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ، مُتَّصِلًا بِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [33 \ 73] ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الظَّلُومَ الْجَهُولَ مِنَ الْإِنْسَانِ هُوَ الْمُعَذَّبُ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ، دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ: لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُسْلُوبَ الْمَذْكُورَ - الَّذِي هُوَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى التَّفْصِيلِيِّ - مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَقَدْ جَاءَ فِعْلًا فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] ; الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ، رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ الْمُعَمَّرِ دُونَ مَعْنَاهُ التَّفْصِيلِيِّ ; كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [25 \ 61] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَسْأَلَةِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، كَمَا تَرَى. وَبَعْضُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، عَائِدٌ إِلَى آدَمَ، قَالَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا، أَيْ: غِرًّا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَمَا يَتْبَعُ الْأَمَانَةَ مِنَ الصُّعُوبَاتِ، وَالْأَظْهَرُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ سَبَأٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ. قَدْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [1 \ 2] . قَوْلِهِ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مَا يَدْخُلُ فِيهَا كَالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، الَّذِي يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ; كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [39 \ 21] . وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [23 \ 18] ، فَهُوَ جَلَّ وَعَلَا يَعْلَمُ عَدَدَ الْقَطْرِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُهُ مَنْ خَلَقَهُ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [67 \ 14] ، وَيَعْلَمُ أَيْضًا مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَوْتَى الَّذِينَ يُدْفَنُونَ فِيهَا ; كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [20 \ 55] ، وَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [77 \ 25 - 26] ، وَالْكِفَاتُ مِنَ الْكَفْتِ: وَهُوَ الضَّمُّ ; لِأَنَّهَا تَضُمُّهُمْ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا، وَيَعْلَمُ أَيْضًا مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبَذْرِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [6 \ 59] ، وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْمَعَادِنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ كَالنَّبَاتِ وَالْحُبُوبِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْكُنُوزِ، وَالدَّفَائِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ، وَالثَّلْجِ، وَالْبَرَدِ، وَالرِّزْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمَا يَعْرُجُ، أَيْ: يَصْعَدُ فِيهَا، أَيِ: السَّمَاءِ، كَالْأَعْمَالِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 الصَّالِحَةِ ; كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [35 \ 10] ، وَكَأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الْآيَةَ [70 \ 4] . وَقَالَ تَعَالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [32 \ 5] ، وَمَا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ، ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» ، فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا [57 \ 4] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ الْآيَةَ [11 \ 5] ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مُتَعَدِّدَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَقَالُوا: لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، أَيِ: الْقِيَامَةُ، وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُقْسِمَ لَهُمْ بِرَبِّهِ الْعَظِيمِ أَنَّ السَّاعَةَ سَوْفَ تَأْتِيهِمْ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ تَوْكِيدًا مُتَعَدِّدًا. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [16 \ 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [19 \ 66] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] ، وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 66] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا مِنْ أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْإِقْسَامِ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي لَا رَابِعَةَ لَهُنَّ، مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِمَ بِرَبِّهِ الْعَظِيمِ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ، لَمَّا أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، فَإِحْدَاهُنَّ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [10 \ 53] ، وَالثَّانِيَةُ هَذِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ، وَالثَّالِثَةُ فِي سُورَةِ «التَّغَابُنِ» ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ الْآيَةَ [64 \ 7] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَسُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِنْكَارِ الْكُفَّارِ الْبَعْثَ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنَ الْعَذَابِ فِي «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَقَوْلُهُ: قُلْ بَلَى لَفْظَةُ: بَلَى قَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى الْآيَةَ [16 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [6 \ 59] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا يَعْزُبُ، أَيْ: لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ: أَخِي كَانَ أَمَّا حِلْمُهُ فَمُرَوِّحٌ ... عَلَيْهِ وَأَمَّا جَهْلُهُ فَعَزِيبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 يَعْنِي: أَنَّ الْجَهْلَ غَائِبٌ عَنْهُ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِهِ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: عَالِمُ الْغَيْبِ، بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، وَضَمِّ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: عَلَّامِ الْغَيْبِ، بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَأَلْفٍ بَعْدَ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ وَخَفْضِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: عَالِمِ الْغَيْبِ ; كَقِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَخْفِضُونَ الْمِيمَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، مِنْ قَوْلِهِ: عَالِمُ الْغَيْبِ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ الْآيَةَ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ: عَالِمِ الْغَيْبِ، بِخَفْضِ الْمِيمِ فَهُوَ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: رَبِّي، أَيْ: قُلْ: بَلَى وَرَبِّي عَالَمِ الْغَيْبِ لِتَأْتِينَّكُمْ، وَكَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: عَلَّامِ الْغَيْبِ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرُ الْكِسَائِيِّ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ، بِضَمِّ الزَّايِ مِنْ يَعْزُبُ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الزَّايِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ هَذَا الْعَذَابِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِي «الْحَجِّ» : وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [22 \ 51] ، وَقَوْلُهُ: مُعَاجِزِينَ، أَيْ: مُغَالِبِينَ وَمُسَابِقِينَ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَعْثِهِمْ وَعَذَابِهِمْ. وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ ; كَمَا قَالَ: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا الْآيَةَ [2 \ 59] ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: مُعَجِّزِينَ، بِلَا أَلِفٍ بَعْدِ الْعَيْنِ مَعَ تَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْعَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَمَعْنَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ أَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَعْثِهِمْ وَعِقَابِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى مُعَجِّزِينَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: مُثَبِّطِينَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفَصٌ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلِيمٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ ; لِقَوْلِهِ: عَذَابٌ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: أَلِيمٍ بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: رِجْزٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَتَكْذِيبِ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، قُدِّمَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي «الْبَقَرَةِ» وَ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، أَيْ: تَمَزَّقَتْ أَجْسَادُكُمْ وَتَفَرَّقَتْ وَبَلِيَتْ عِظَامُكُمْ، وَاخْتَلَطَتْ بِالْأَرْضِ، وَتَلَاشَتْ فِيهَا. وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَيِ: الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَصَبُّ إِنْكَارِهِمْ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ جَلَّ وَعَلَا يَعْلَمُ مَا تَلَاشَى فِي الْأَرْضِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ وَعِظَامِهِمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [50 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ، وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى عَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ وَنَظَرِهِمْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لِيَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْبَعْثِ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [50 \ 6 - 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [7 \ 185] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [12 \ 105] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [34 \ 9] ، قَالَ: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ، أَوْ عَنْ شِمَالِكَ، أَوْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، أَوْ مَنْ خَلْفِكَ، رَأَيْتَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ شَاءَ خَسَفَ الْأَرْضَ بِالْكُفَّارِ، خَسَفَهَا بِهِمْ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يُسْقِطَ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ، فَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: الَّذِي هُوَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ لَفَعَلَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [67 \ 16] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ الْآيَةَ [17 \ 68] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [28 \ 82] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الْآيَةَ [6 \ 65] . وَقَوْلُهُ هُنَا: أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ، قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا الْآيَةَ [17 \ 92] . وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي: يَشَأْ، وَيَخْسِفْ، وَيُسْقِطْ ; وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: إِنْ يَشَأْ هُوَ، أَيِ: اللَّهُ، يَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ: إِنْ نَشَأَ نَحْنُ. . إِلَخْ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: كِسَفًا بِفَتْحِ السِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَالْكِسَفُ بِفَتْحِ السِّينِ الْقِطَعُ، وَالْكِسْفُ بِسُكُونِ السِّينِ وَاحِدُهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ آتَى دَاوُدَ مِنْهُ فَضْلًا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْفَضْلَ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى دَاوُدَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [2 \ 251] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [38 \ 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [38 \ 26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [27 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [17 \ 55] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ. قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ إِيضَاحِ مَعْنَى أَوِّبِي مَعَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 79] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحُهُ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [21 \ 80] . وَفِي «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [16 \ 81] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ. قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحٌ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الْآيَةَ [21 \ 81] ، مَعَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [21 \ 82] . قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ [15 \ 39] . وَفِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [7 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ، قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ الْآيَةَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الْآيَةَ [15 \ 40] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلِهِ تَعَالَى قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [17 \ 56] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [2 \ 48] . قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، نَبِيَّهُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ مَثَلًا، وَالْأَرْضِ بِإِنْبَاتِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ، أَيِ: الَّذِي يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ، وَأَمْرُهُ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ رَازِقَهُمْ هُوَ اللَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ نِزَاعٍ. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَإِقْرَارُهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى يُلْزِمُهُ الِاعْتِرَافَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْعِلْمِ بِذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ: إِنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَسْئُولًا عَمَّا يَعْمَلُهُ الْآخَرُ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ مُؤَاخَذٌ بِعَمَلِهِ، وَالْآخَرُ بَرِيءٌ مِنْهُ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [10 \ 41] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [109 \ 1 - 6] ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [2 \ 141] ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي [11 \ 54 - 55] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: أَرُونِي أَوْثَانَكُمُ الَّتِي أَلْحَقْتُمُوهَا بِاللَّهِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ كُفْرًا مِنْكُمْ، وَشِرْكًا وَافْتِرَاءً، وَقَوْلُهُ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَرَوْهُ إِيَّاهَا تَبَيَّنَ بِرُؤْيَتِهَا أَنَّهَا جَمَادٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَاتَّضَحَ بُعْدُهَا عَنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَظَهَرَ لِكُلِّ عَاقِلٍ بِرُؤْيَتِهَا بُطْلَانُ عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَإِحْضَارُهَا وَالْكَلَامُ فِيهَا، وَهِيَ مُشَاهَدَةٌ أَبْلَغُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا غَائِبَةً، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُهَا، وَكَمَا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَمَرَهُمْ أَنْ يُرُوهُ إِيَّاهَا لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ عِبَادَتِهَا، فَقَدْ أَمَرَهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنْ يُسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهَا ; لِأَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِأَسْمَائِهَا يَظْهَرُ بِهَا بُعْدُهَا عَنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَبُطْلَانُ عِبَادَتِهَا لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ إِنَاثٍ حَقِيرَةٍ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا الْآيَةَ [4 \ 117] ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [13 \ 33] . وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: شُرَكَاءَ حَالٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا مِنْ رَأَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 الْعِلْمِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَ شُرَكَاءَ مَفْعُولٌ ثَالِثٌ لِـ أَرُونِيَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَكُونُ أَرُونِيَ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَيَكُونُ: شُرَكَاءَ مَفْعُولًا ثَالِثًا، أَيْ: عَرِّفُونِي الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَلْ شَارَكَتْ فِي خَلْقِ شَيْءٍ، فَبَيِّنُوا مَا هُوَ وَإِلَّا فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا، اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَلَّا رَدْعٌ لَهُمْ، وَزَجْرٌ عَنْ إِلْحَاقِ الشُّرَكَاءِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أَيِ: الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ بِشَوَاهِدِهِ مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، اسْتَشْهَدَ بِهِ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى جَوَازِ تَقَدُّمِ الْحَالِ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» بِقَوْلِهِ: وَسَبْقُ حَالِ مَا بِحَرْفِ جَرٍّ قَدْ أَبَوْا وَلَا أَمْنَعُهُ فَقَدْ وَرَدْ قَالُوا: لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، أَيْ: جَمِيعًا، أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُجْتَمِعِينَ فِي رِسَالَتِكَ، وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ بُرْهَانَ، وَلِذَلِكَ شَوَاهِدُ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيِّ: فَإِنْ تَكُ أَذْوَادٌ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ ... فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ وَكَقَوْلِ كُثَيِّرٍ: لَئِنْ كَانَ بَرْدُ الْمَاءِ هَيْمَانَ ... صَادِيًا إِلَيَّ حَبِيبًا إِنَّهَا لِحَبِيبُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرِكُمُ حَتَّى كَأَنَّكُمْ عِنْدِي وَقَوْلِ الْآخَرِ: غَافِلًا تَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ ... فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 وَقَوْلِهِ: مَشْغُوفَةٌ بِكَ قَدْ شُغِفْتَ وَإِنَّمَا ... حُمَّ الْفِرَاقُ فَمَا إِلَيْكَ سَبِيلُ وَقَوْلِهِ: إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ الْمُرُوءَةُ نَاشِئًا ... فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ شَدِيدُ فَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ: فَرْغًا، أَيْ: هَدَرًا، حَالٌ وَصَاحِبُهُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ الَّذِي هُوَ بِقَتْلٍ، وَحِبَالٌ اسْمُ رَجُلٍ. وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي: هَيْمَانَ صَادِيًا، حَالَانِ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَجْرُورَةِ بِإِلَى فِي قَوْلِهِ: إِلَيَّ حَبِيبًا. وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ: طُرًّا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِعَنْ، فِي قَوْلِهِ: عَنْكُمْ، وَهَكَذَا وَتَقَدُّمُ الْحَالِ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ مَنَعَهُ أَغْلَبُ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، إِلَّا رِسَالَةً عَامَّةً لَهُمْ مُحِيطَةً بِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا شَمِلَتْهُمْ، فَإِنَّهَا قَدْ كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ جَامِعًا لِلنَّاسِ فِي الْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ فَجَعْلَهُ حَالًا مِنَ الْكَافِ، وَحَقُّ التَّاءِ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ كَتَاءِ الرَّاوِيَةِ وَالْعَلَّامَةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ ; لِأَنَّ تَقَدُّمَ حَالِ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ فِي الْإِحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ تَقَدُّمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْجَارِ، وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذَا الْخَطَأَ ثُمَّ لَا يَقْنَعُ بِهِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى ; لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي لَهُ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالْخَطَأِ الثَّانِي، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْخَطَأَيْنِ، اه مِنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الصَّبَّانُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْأَشْمُونِيِّ: جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَافَّةً صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: رِسَالَةً كَافَّةً لِلنَّاسِ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ بِأَنْ كَافَّةً مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَعْقِلُ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ كَطُرًّا وَقَاطِبَةً، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ الصَّبَّانِ فِي كَافَّةً هُوَ الْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ الْآيَةَ [6 \ 116] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [10 \ 49] . قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، إِلَى قَوْلِهِ: إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا. ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا بَيَانٌ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [2 \ 166] ، وَبَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا. جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ [40 \ 71] ، وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [13 \ 5] ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [69 \ 32] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [6 \ 123] ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ الْآيَةَ [23 \ 44] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ الْآيَةَ [25 \ 17 - 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهُ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ أَقْوَى، وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخَافُوا مِنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَهْلَكَ الْأُمَمَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُمْ، وَلَمْ يُؤْتُوا، أَيْ: كُفَّارَ مَكَّةَ، مِعْشَارَ مَا أَتَى اللَّهُ الْأُمَمَ الَّتِي أَهْلَكَهَا مِنْ قَبْلُ مِنَ الْقُوَّةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ [40 \ 82] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الرُّومِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 تَعَالَى: وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [30 \ 9] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنُونَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [23 \ 70] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [11 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [17 \ 81] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [21 \ 78] ، فِي مَعْرِضِ بَيَانِ حُجَجِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي دَعْوَاهُمْ مَنْعَ الِاجْتِهَادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُهُمْ لِفَوَاتِ وَقْتِ نَفْعِهِ، الَّذِي هُوَ مُدَّةُ دَارِ الدُّنْيَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [7 \ 53] . وَفِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [19 \ 38] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، أَنَّى تَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِبْعَادِ هُنَا، وَالتَّنَاوُشُ: التَّنَاوُلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خُصُوصُ التَّنَاوُلِ السَّهْلِ لِلشَّيْءِ الْقَرِيبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ كُلَّ الِاسْتِبْعَادِ وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ، أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكُفَّارُ الْإِيمَانَ النَّافِعَ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَمَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ وَقْتَ إِمْكَانِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ الِاسْتِبْعَادُ لِرَدِّهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى لِيُؤْمِنُوا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ، وَمَنْ أَرَادَ تَنَاوُلَ شَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فَاطِرٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّه ِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ الْآيَةَ. الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: جَمِيعُ الْمَحَامِدِ ثَابِتٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَقَدْ أَثْنَى جَلَّ وَعَلَا عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْحَمْدِ الْعَظِيمِ مُعَلِّمًا خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، مُقْتَرِنًا بِكَوْنِهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، مَعَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ بِخَلْقِهِمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ، وَلِإِنْعَامِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمَا، وَكَوْنِ خَلْقِهِمَا جَامِعًا بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ. أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ حَمْدَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِكُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ الْآيَةَ [6 \ 1] ، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «سَبَأٍ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [34 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [1 \ 2] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [26 \ 23 - 24] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [37 \ 181 - 182] ، وَقَوْلِهِ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [39 \ 75] وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ لِلْحَمْدِ عَلَى خَلْقِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى خَلْقِهِ، بِأَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 سَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [45 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ الْآيَةَ [14 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [7 \ 54] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الْآيَةَ [15 \ 17] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [22 \ 75] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمُبْدِعِهِمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَيْ: بَدَأْتُهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ الْآيَةَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَا يَفْتَحُهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ كَائِنًا مَا كَانَ أَنْ يُمْسِكَهُ عَنْهُمْ، وَمَا يُمْسِكُهُ عَنْهُمْ مِنْ رَحِمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يُرْسِلَهُ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، وَالرَّحْمَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَرْحَمُ اللَّهُ بِهِ خَلْقَهُ مِنَ الْإِنْعَامِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، كَفَتْحِهِ لَهُمْ رَحْمَةَ الْمَطَرِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [30 \ 50] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [7 \ 57] ، وَقَوْلُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [42 \ 28] ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِرْسَالُ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [28 \ 86] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا الْآيَةَ [18 \ 65] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [10 \ 107] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا الْآيَةَ [48 \ 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً الْآيَةَ [33 \ 17] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [6 \ 17] ، وَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ [35 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُمْسِكْ شُرْطِيَّةٌ، وَفَتْحُ الشَّيْءِ التَّمْكِينُ مِنْهُ وَإِزَالَةُ الْحَوَاجِزِ دُونَهُ، وَالْإِمْسَاكُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ. الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، إِنْكَارِيٌّ فَهُوَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ. وَالْمَعْنَى: لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ [13 \ 16] . وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [25 \ 3] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّازِقُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [67 \ 21] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 وَقَوْلِهِ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [29 \ 17] . وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَسْلِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ مَا لَاقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ لَاقَاهُ الرُّسُلُ الْكِرَامُ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [6 \ 34] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [41 \ 43] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْكَهْفِ» : أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ الْآيَةَ [18 \ 50] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [6 \ 33] . وَفِي «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ الْآيَةَ [18 \ 6] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ إِحْيَاءَهُ تَعَالَى الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمُشَاهَدِ فِي دَارِ الدُّنْيَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ، قَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 كَثِيرَةٍ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَ «النَّحْلِ» ، وَ «الْأَنْبِيَاءِ» وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِحَالَةُ عَلَيْهِ مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَإِنَّهَا جَمِيعَهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلْيَطْلُبْهَا مِنْهُ وَلِيَتَسَبَّبْ لِنَيْلِهَا بِطَاعَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَهُ أَعْطَاهُ الْعِزَّةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ لِيَنَالُوا الْعِزَّةَ بِعِبَادَتِهَا، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، فَإِنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ وَعَمًى عَنِ الْحَقِّ ; لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ مِنْ مَحَلِّ الذُّلِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 81 - 82] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [4 \ 139] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [10 \ 65] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ الْآيَةَ [63 \ 8] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [37 \ 180] ، وَالْعِزَّةُ: الْغَلَبَةُ وَالْقُوَّةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُحْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزِيزَا أَيْ: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [38 \ 23] ، أَيْ: غَلَبَنِي وَقَوِيَ عَلَيَّ فِي الْخُصُومَةِ. وَقَوْلُ مِنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ، أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ أَصْوَبُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ الْآيَةَ. قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، مَعَ إِعْرَابِ السَّيِّئَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِنْ مَكْرِهِمُ السَّيِّئَاتِ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ وَأَمْرَهُمْ أَتْبَاعَهُمْ بِهِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [34 \ 33] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [71 \ 22 - 23] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ. قَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [22 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] ، مَعَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ. قَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [33 \ 72] . وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [25 \ 61] . قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [25 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا. قَدْ تُقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعَ بَسْطِ أَحْكَامٍ فِقْهِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] . وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [6 \ 130] . أَنَّ قَوْلَهُ فِي آيَةِ «فَاطِرٍ» هَذِهِ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ وَاضِحٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ لَا يَخْرُجَانِ إلَّا مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ خَاصَّةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 82] ، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ خَلْقَهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، أَيْ: فَهُوَ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ لَا لِيَنْتَفِعَ بِطَاعَتِهِمْ، وَلَا لِيَدْفَعَ الضُّرَّ بِمَعْصِيَتِهِمْ، بَلِ النَّفْعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَهُمْ، وَهُوَ جَلَّ وَعَلَا الْغَنِيُّ لِذَاتِهِ الْغِنَى الْمُطْلَقَ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، جَاءَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ الْآيَةَ [47 \ 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [64 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ عِظَمَ افْتِرَاءِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [3 \ 181] ، وَقَدْ هَدَّدَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، بِقَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [3 \ 181] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [4 \ 132] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْآيَةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [16 \ 25] ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [29 \ 13] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِنْذَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْصُورٌ فِي الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَهَذَا الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْإِنْذَارِ، وَغَيْرُ الْمُنْتَفِعِ بِالْإِنْذَارِ كَأَنَّهُ هُوَ وَالَّذِي لَمْ يُنْذَرْ سَوَاءٌ، بِجَامِعِ عَدَمِ النَّفْعِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ الْآيَةَ [36 \ 10 - 11] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [79 \ 45] ، وَيُشْبِهُ مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [50 \ 45] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْإِنْذَارِ وَأَنْوَاعَهُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ الْآيَةَ [11 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 الْأَحْيَاءُ هُنَا: الْمُؤْمِنُونَ، وَالْأَمْوَاتُ: الْكُفَّارُ ; فَالْحَيَاةُ هُنَا حَيَاةُ إِيمَانٍ، وَالْمَوْتُ مَوْتُ كُفْرٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [6 \ 122] ، فَقَوْلُهُ: أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا، أَيْ: مَوْتَ كُفْرٍ فَأَحْيَيْنَاهُ حَيَاةَ إِيمَانٍ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [36 \ 70] ، فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كَانَ حَيًّا، أَيْ - وَهِيَ حَيَاةُ إِيمَانٍ - إِنَّ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَقَدْ أَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [6 \ 36] ، أَنَّ الْمَعْنَى: وَالْكُفَّارُ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُوَضَّحًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ الْآيَةَ [27 \ 80] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ وَمَا جَاءَ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى الْآيَةَ [27 \ 80] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الرُّومِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ الْآيَةَ [30 \ 22] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الْمُؤَثِّرُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الطَّبَائِعَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، إِلَى قَوْلِهِ: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ نَظَائِرِهَا مِنْ آيَاتِ الرَّجَاءِ اسْتِطْرَادًا، وَذَكَرْنَا مَعْنَى الظَّالِمِ وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الظَّالِمِ عَلَيْهِمَا بِالْوَعْدِ فِي الْجَنَّاتِ فِي سُورَةِ «النُّورِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى الْآيَةَ [24 \ 22] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ قَدْ قَدَّمْنَاهُ مَعَ الْآيَاتِ الْمُمَاثِلَةِ، وَالْمُشَابِهَةِ لَهُ ف ِي سُ ورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ الْآيَةَ [7 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [25 \ 3] . وَفِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [13 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [22 \ 65] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ الْآيَةَ [6 \ 157] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ وَشَوَاهِدَهُ الْعَرَبِيَّةَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ الْآيَةَ [16 \ 61] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ يس قَوْلُهُ تَعَالَى: يس. التَّحْقِيقُ إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَالْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ ذُكِرَتْ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كهيعص [19 \ 1] ، وَالسِّينُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ ذُكِرَتْ فِي أَوَّلِ «الشُّعَرَاءِ» وَ «الْقَصَصِ» ، فِي قَوْلِهِ: طسم [26 \ 1] وَفِي أَوَّلِ «النَّمْلِ» ، فِي قَوْلِهِ: طس [27 \ 1] ، وَفِي أَوَّلِ «الشُّورَى» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حم عسق [42 \ 1 - 2] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُوجِبَ التَّوْكِيدِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، هُوَ إِنْكَارُ الْكُفَّارِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [13 \ 43] ، فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [2 \ 252] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ. لَفْظَةُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، قِيلَ: نَافِيَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِتُنْذِرَ، وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ، وَأَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَرْتِيبُهُ بِالْفَاءِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَهُمْ غَافِلُونَ ; لِأَنَّ كَوْنَهُمْ غَافِلِينَ يُنَاسِبُ عَدَمَ الْإِنْذَارِ لَا الْإِنْذَارَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مَعَ آيَاتٍ أُخَرَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ ; كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الْآيَةَ [41 \ 25] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا الْآيَةَ [28 \ 63] . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [36 \ 70] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ [37 \ 31] ، وَالْكَلِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [39 \ 71] ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ وَالْكَلِمَةِ أَوِ الْكَلِمَاتِ عَلَى قِرَاءَةِ: حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [11 \ 119] ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ «هُودٍ» : وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [11 \ 118 - 119] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «السَّجْدَةِ» : وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 13] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُخْرَيَاتِ «ص» : قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 84 - 85] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [11 \ 17] ، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، [12 \ 103] وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71] ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 174] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [6 \ 116] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 وَبَيَّنَّا بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» : أَنَّ نَصِيبَ النَّارِ مِنَ الْأَلْفِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَتِسْعُمِائَةٍ، وَأَنَّ نَصِيبَ الْجَنَّةِ مِنْهَا وَاحِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. الْأَغْلَالُ: جَمْعُ غُلٍّ وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ الْأَيْدِي إِلَى الْأَعْنَاقِ. وَالْأَذْقَانُ: جَمْعُ ذَقَنٍ وَهُوَ مُلْتَقَى اللَّحْيَيْنِ. وَالْمُقْمَحُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الرَّافِعُ رَأْسَهُ. وَالسَّدُّ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: هُوَ الْحَاجِزُ الَّذِي يَسُدُّ طَرِيقَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ. وَقَوْلُهُ: فَأَغْشَيْنَاهُمْ، أَيْ: جَعَلَنَا عَلَى أَبْصَارِهِمُ الْغِشَاوَةَ، وَهِيَ الْغِطَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْعَيْنِ يَمْنَعُهَا مِنَ الْإِبْصَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [2 \ 7] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [45 \ 23] ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ: هَوَيْتُكِ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ صَرْفًا عَظِيمًا مَانِعًا مِنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ مَنْ جُعِلَ فِي عُنُقِهِ غُلٌّ، وَصَارَ الْغُلُّ إِلَى ذَقَنِهِ، حَتَّى صَارَ رَأْسُهُ مَرْفُوعًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يُطَأْطِئَهُ، وَجَعَلَ أَمَامَهُ سَدًّا، وَخَلْفَهُ سَدًّا، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ الْغِشَاوَةَ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَلَا فِي جَلْبِ نَفْعٍ لِنَفْسِهِ، وَلَا فِي دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا، فَالَّذِينَ أَشْقَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ جَلَّ وَعَلَا يَصْرِفُ الْأَشْقِيَاءَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فِي عِلْمِهِ عَنِ الْحَقِّ وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [18 \ 57] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [2 \ 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [45 \ 23] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [6 \ 125] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [7 \ 186] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [5 \ 41] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [16 \ 108] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [11 \ 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [18 \ 101] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الطَّبْعَ وَالْخَتْمَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَكَذَلِكَ الْأَغْلَالُ فِي الْأَعْنَاقِ، وَالسَّدُّ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمَنْ خَلْفِهِمْ، أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْمَوَانِعِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَوُصُولِ الْخَيْرِ إِلَى الْقُلُوبِ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَهَا عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مُسَارَعَتِهِمْ لِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، بِطَمْسِ الْبَصَائِرِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا، وَالْغِشَاوَةِ عَلَى الْأَبْصَارِ ; لِأَنَّ مِنْ شُؤْمِ السَّيِّئَاتِ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يُعَاقِبُ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا بِتَمَادِيهِ عَلَى الشَّرِّ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَيْرِ جَزَاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِهِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] ، فَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ. وَفِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [63 \ 3] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، أَيْ: فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [6 \ 110] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [2 \ 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ شُؤْمَ السَّيِّئَاتِ يَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى التَّمَادِي فِي السَّيِّئَاتِ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ، أَنَّ فِعْلَ الْخَيْرِ يُؤَدِّي إِلَى التَّمَادِي فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [47 \ 17] ، وَقَوْلُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 تَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [29 \ 69] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [64 \ 11] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا، أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَغْلَالُ الَّتِي يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [40 \ 71 - 72] ، خِلَافَ التَّحْقِيقِ، بَلِ الْمُرَادُ بِجَعْلِ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فِي الْآيَةِ هُوَ صَرْفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى فِي دَارِ الدُّنْيَا ; كَمَا أَوْضَحْنَا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ: سَدًّا، بِالْفَتْحِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمِّ السِّينِ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ عَلَى الصَّوَابِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مَعَ نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [35 \ 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلَ: أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ. الثَّانِيَ: أَنَّهُ يَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا. الثَّالِثَ: أَنَّهُ يَكْتُبُ آثَارَهُمْ. الرَّابِعَ: أَنَّهُ أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، أَيْ: فِي كِتَابٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ كَوْنُهُ يُحْيِي الْمَوْتَى بِالْبَعْثِ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [64 \ 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [10 \ 53] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [16 \ 38] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَسُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى بَرَاهِينِ الْبَعْثِ، وَقَدَّمْنَا الْإِحَالَةَ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا. وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ كَوْنُهُ يَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [43 \ 80] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13 - 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا الْآيَةَ [18 \ 49] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18] . وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» . وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا وَهُوَ كَوْنُهُمْ تُكْتَبُ آثَارُهُمْ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَآثَارَهُمْ، فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ مَعْنَى مَا قَدَّمُوا: مَا بَاشَرُوا فِعْلَهُ فِي حَيَاتِهِمْ، وَأَنَّ مَعْنَى آثَارَهَمْ: هُوَ مَا سَنُّوهُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ، فَهُوَ مِنْ آثَارِهِمُ الَّتِي يُعْمَلُ بِهَا بِعَدَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى آثَارَهُمْ: خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَنَحْوُهَا مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ خُطَاهُمْ إِلَى الشَّرِّ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ» ، يَعْنِي: خُطَاكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ إِلَى مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَ مَنْ أَضَلُّوهُمْ وَسَنُّوا لَهُمُ السُّنَنَ السَّيِّئَةَ ; كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [16 \ 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [29 \ 13] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [16 \ 25] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 وَذَكَرْنَا حَدِيثَ جَرِيرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي إِيضَاحِ ذَلِكَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مُؤَاخَذَةِ الْإِنْسَانِ بِمَا عُمِلَ بِهِ بَعْدَهُ مِمَّا سَنَّهُ مِنْ هُدًى أَوْ ضَلَالَةٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [75 \ 13] ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى بِمَا قَدَّمَ: مُبَاشِرًا لَهُ، وَأَخَّرَ: مِمَّا عُمِلَ بِهِ بَعْدَهُ مِمَّا سَنَّهُ مِنْ هُدًى أَوْ ضَلَالٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [82 \ 5] ، عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى آثَارَهُمْ: خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَنَحْوُهَا، فَقَدْ جَاءَ بَعْضُ الْآيَاتِ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ [9 \ 121] ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تُكْتَبَ لَهُمْ خُطَاهُمُ الَّتِي قَطَعُوا بِهَا الْوَادِيَ فِي غَزْوِهِمْ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، فَقَدْ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَمْرِ الثَّانِي، وَهُوَ كِتَابَةُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي قَدَّمُوهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ خُصُوصُ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا عَلَى فَرْضِ كَوْنِهِ عَامًّا، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [72 \ 28] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [6 \ 38] ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ الْكُفَّارِ: وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [67 \ 8 - 9] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ أَنْكَرُوا إِنْزَالَ اللَّهِ الْوَحْيَ كَهَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أَيْ: لَنْ يُعَظِّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [6 \ 91] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [7 \ 131] ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ الْآيَةَ [27 \ 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [11 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قَوْلُهُ: فَطَرَنِي، مَعْنَاهُ: خَلَقَنِي وَابْتَدَعَنِي، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «فَاطِرٍ» . وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ ثَبْتَ لِي يَمْنَعُنِي مِنْ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِي خَلَقَنِي، وَابْتَدَعَنِي، وَأَبْرَزَنِي مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [25 \ 3] ، وَفِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ الْآيَةَ [13 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَتَّخِذُ لِلْإِنْكَارِ، وَهُوَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: لَا أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْبُودَاتٍ، إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ لَا تَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنِّي، وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ كَرْبٍ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ عَدَمِ فَائِدَةِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [39 \ 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [17 \ 56] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [10 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [10 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا، أَيْ: لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ أَصْلًا حَتَّى تُغْنِيَ شَيْئًا، وَنَحْوُ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ الْعُودُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا فَقَوْلُهُ: لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ، أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى يُهْتَدَى بِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ... وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أَيْ: لَا أَرْنَبَ فِيهَا، حَتَّى تُفْزِعَهَا أَهْوَالُهَا، وَلَا ضَبَّ فِيهَا حَتَّى يَنْجَحِرَ، أَيْ: يَتَّخِذُ جُحْرًا. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ، بِقَوْلِهِمِ: السَّالِبَةُ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الْعِبَادَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ غَيْرَ مُكْتَفِينَ بِتَكْذِيبِهِ، بَلْ جَامِعِينَ مَعَهُ الِاسْتِهْزَاءَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ، نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَكْذِيبِ الْأُمَمِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إِذَا زِيدَتْ قَبْلَهَا مِنْ، فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. وَهَذَا الْعُمُومُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ إِخْرَاجُ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ حُكْمِ هَذَا الْعُمُومِ بِمُخَصَّصٍ مُتَّصِلٍ، وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ. فَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا الْعُمُومِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [34 \ 34] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [43 \ 23] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 94 - 95] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ الْآيَةَ [23 \ 44] . وَقَدَّمْنَا طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا الْآيَةَ [6 \ 123] . وَأَمَّا الْأُمَّةُ الَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ فَهِيَ أُمَّةُ يُونُسَ، وَالْآيَةُ الَّتِي بَيَّنَتْ ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [37 \ 147 - 148] ، وَالْحَسْرَةُ أَشَدُّ النَّدَامَةِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى عَامِلٌ فِي الْمَجْرُورِ بَعْدَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُنَادَى الْمُضَافَ. وَالْمَعْنَى: يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ تَعَالِي وَاحْضُرِي فَإِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالرُّسُلِ هُوَ أَعْظَمُ الْمُوجِبَاتِ لِحُضُورِكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ، إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلَا يَشْكُرُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى الْبَعْثِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 22] . وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ الْآيَةَ [16 \ 10] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَأَوْضَحْنَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ، بَقِيَّةَ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا الْآيَةَ [16 \ 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. ذَمَّ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ الْآيَةَ [6 \ 4 - 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ «يُوسُفَ» : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [12 \ 105] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [54 \ 1 - 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ [37 \ 13 - 14] ، وَأَصْلُ الْإِعْرَاضِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ بِالضَّمِّ، وَهُوَ الْجَانِبُ ; لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ يُوَلِّيهِ بِجَانِبِ عُنُقِهِ صَادًّا عَنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ النَّفْخَةَ الْأَخِيرَةَ، وَالصُّورُ قَرْنٌ مِنْ نُورٍ يَنْفُخُ فِيهِ الْمَلَكُ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ، وَإِذَا نَفَخَهَا قَامَ جَمِيعُ أَهْلِ الْقُبُورِ مِنْ قُبُورِهِمْ، أَحْيَاءً إِلَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ: فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ، جَمْعُ جَدَثٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْقَبْرُ، وَقَوْلُهُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 يَنْسِلُونَ، أَيْ: يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَحْشَرِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [70 \ 43] ، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا الْآيَةَ [50 \ 44] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي الْآيَةَ [54 \ 7] ، وَقَوْلُهُ: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي، أَيْ: مُسْرِعِينَ مَادِّي أَعْنَاقِهِمْ عَلَى أَشْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ نَسَلَ بِمَعْنَى أَسْرَعَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [21 \ 96] ، وَقَوْلُ لَبِيدٍ: عَسَلَانُ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا ... بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يَقُومُونَ أَحْيَاءً عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [39 \ 68] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [36 \ 53] ، وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [50 \ 42] ، أَيِ: الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [79 \ 13 - 14] ، وَالزَّجْرَةُ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. وَالسَّاهِرَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ وَالْفَلَاةُ الْوَاسِعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ: يَرْتَدْنَ سَاهِرَةً، كَأَنَّ جَمِيمَهَا ... وَعَمِيمَهَا أَسْدَافُ لَيْلٍ مُظْلِمِ وَقَوْلُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: وَسَاهِرَةٍ يَضْحَى السَّرَابُ مُجَلِّلًا ... لِأَقْطَارِهَا قَدْ جِئْتُهَا مُتَلَثِّمَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ [37 \ 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [30 \ 25] ، وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [17 \ 52] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الرُّومِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ الْآيَةَ [30 \ 56] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] ، وَأَوْضَحْنَا فِيهِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ النُّظُمِ الْوَضْعِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. قَوْلُهُ: جِبِلًّا كَثِيرًا، أَيْ: خَلْقًا كَثِيرًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [26 \ 184] ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِ الشَّيْطَانِ أَضَلَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ بَنِي آدَمَ جَاءَ مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [6 \ 128] ، أَيْ: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ أَيُّهَا الشَّيَاطِينُ، مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ إِبْلِيسُ: لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [17 \ 62] ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الظَّنَّ الَّذِي ظَنَّهُ بِهِمْ مِنْ أَنَّهُ يُضِلُّهُمْ جَمِيعًا إِلَّا الْقَلِيلَ صَدَّقَهُ عَلَيْهِمْ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [34 \ 20] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ: جِبِلًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: جُبُلًا، بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: جُبْلًا، بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَسْكِينِ الْبَاءِ مَعَ تَخْفِيفِ اللَّامِ، وَجَمِيعُ الْقِرَاءَاتِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ: خَلْقًا كَثِيرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ شَهَادَةِ بَعْضِ جَوَارِحِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النُّورِ» : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [24 \ 24] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «فُصِّلَتْ» : حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [40 \ 20 - 21] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [4 \ 42] . وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ آيَةَ «يس» هَذِهِ تُوَضِّحُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَاتِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [4 \ 42] مَعَ قَوْلِهِ عَنْهُمْ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ، أَيْ: نُقَلِّبُهُ فِيهِ، فَنَخْلُقُهُ عَلَى عَكْسِ مَا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَا خَلَقْنَاهُ عَلَى ضَعْفٍ فِي جَسَدِهِ، وَخُلُوٍّ مِنْ عَقْلٍ وَعِلْمٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ يَتَزَايَدُ وَيَنْتَقِلُ مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيَرْتَقِي مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَيَسْتَكْمِلَ قُوَّتَهُ وَيَعْقِلَ وَيَعْلَمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، فَإِذَا انْتَهَى نَكَّسْنَاهُ فِي الْخَلْقِ، فَجَعَلْنَاهُ يَتَنَاقَصُ حَتَّى يَرْجِعَ فِي حَالٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِ الصَّبِيِّ فِي ضَعْفِ جَسَدِهِ، وَقِلَّةِ عَقْلِهِ، وَخُلُوِّهِ مِنَ الْعِلْمِ. وَأَصْلُ مَعْنَى التَّنْكِيسِ: جَعْلُ أَعْلَى الشَّيْءِ أَسْفَلَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً الْآيَةَ [30 \ 54] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ الْآيَةَ [95 \ 4 - 5] ، عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْحَجِّ» : وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [22 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «النَّحْلِ» : وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [16 \ 70] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [40 \ 67] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: نُنَكِّسْهُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى، وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ، مِنَ التَّنْكِيسِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى، وَإِسْكَانِ الثَّانِيَةِ، وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً مُضَارِعُ نَكَسَهُ الْمُجَرَّدِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [26 \ 124] ، وَذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِذَلِكَ هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ الْآيَةَ [27 \ 80] . وَفِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [35 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ إلى قوله تعالى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَ «النَّحْلِ» ، مَعَ بَيَانِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [16 \ 40] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَا تُنَافِي مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقِرَاءَتَيْنِ وَتَوْجِيهَهُمَا فِي قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ، هُنَاكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الصَّافَّاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ. أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ب ِـ: الصَّافَّاتِ هُنَا، وَالزَّاجِرَاتِ، وَالتَّالِيَاتِ: جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ صَافُّونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [37 \ 165 - 166] ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ صَافِّينَ: أَنْ يَكُونُوا صُفُوفًا مُتَرَاصِّينَ بَعْضُهُمْ جَنْبَ بَعْضٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَصُفُّونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي السَّمَاءِ، يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ لَنَا تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاتِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [67 \ 5 - 6] فَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا كَقَوْلِهِ هُنَا: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي تَتْلُوهُ تُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى نَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَوْلُهُ: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، أَيْ: بِذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي نَتْلُوهُ وَتُلْقِيهِ، وَالْإِعْذَارُ: قَطْعُ الْعُذْرِ بِالتَّبْلِيغِ. وَالْإِنْذَارُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 1 - 2] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ، وَقِيلَ: تَزْجُرُ الْخَلَائِقَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِالذِّكْرِ الَّذِي تَتْلُوهُ، وَتُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّافَّاتِ وَالزَّجِرَاتِ وَالتَّالِيَاتِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ ; كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا. وَزَادُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ بِهِ: مَسْرُوقًا وَالسُّدِّيَّ وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الصَّافَّاتِ فِي الْآيَةِ الطَّيْرُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ، وَاسْتَأْنَسَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [67 \ 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ الْآيَةَ [24 \ 41] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِـ: الصَّافَّاتِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ يَصُفُّونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ لِلصَّلَاةِ، وَيَصُفُّونَ فِي غَزْوِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [61 \ 4] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا: الْمُرَادُ بِـ: فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، وَفَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا: جَمَاعَاتُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ يُلْقُونَ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، وَيَزْجُرُونَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِآيَاتِهِ، وَمَوَاعِظِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمِ: الْمُرَادُ بِـ: فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا: جَمَاعَاتُ الْغُزَاةِ يَزْجُرُونَ الْخَيْلَ لِتُسْرِعَ إِلَى الْأَعْدَاءِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ قَائِلًا. وَوَجْهُ تَوْكِيدِهِ تَعَالَى قَوْلَهُ: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَبِأَنَّ وَاللَّامِ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلَهِ وَاحِدًا إِنْكَارًا شَدِيدًا وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا شَدِيدًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [38 \ 5] ، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ، فَكَوْنُهُ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي جَعَلَ فِيهَا الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. وَهَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي أَقَامَهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، أَقَامَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [2 \ 163] فَقَدْ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مُتِّصِلًا بِهِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا حُكْمُ الْفَاءِ إِذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً فِي الصِّفَاتِ؟ قُلْتُ: إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرَتُّبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ ; كَقَوْلِهِ: يَا لَهْفَ زِيَابَةَ لِلْحَارِثِ الْـ ... صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآئِبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ، وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; كَقَوْلِكَ: خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ. وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِ مَوْصُوفَاتِهَا فِي ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ، فَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ الثَّلَاثَةِ يَنْسَاقُ أَمْرُ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ فِي الصِّفَاتِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْقَوَانِينِ هِيَ فِيمَا أَنْتَ بِصَدَدِهِ؟ قُلْتُ: إِنْ وَحَّدْتَ الْمَوْصُوفَ كَانَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الصِّفَاتِ فِي التَّفَاضُلِ، وَإِنْ ثَلَّثْتَهُ فَهِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْمَوْصُوفَاتِ فِيهِ. بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذَا أَجْرَيْتَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَجَعَلْتَهُمْ جَامِعِينَ لَهَا فَعَطْفُهَا بِالْفَاءِ يُفِيدُ تَرَتُّبًا لَهَا فِي الْفَضْلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِلصَّفِّ، ثُمَّ لِلزَّجْرِ ثُمَّ لِلتِّلَاوَةِ. وَإِمَّا عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَرَدْتَ الْعُلَمَاءَ وَقُوَّادَ الْغُزَاةِ. وَإِنْ أَجْرَيْتَ الصِّفَةَ الْأُولَى عَلَى طَوَائِفَ وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ عَلَى أُخَرَ، فَقَدْ أَفَادَتْ تَرَتُّبَ الْمَوْصُوفَاتِ فِي الْفَضْلِ أَعْنِي أَنَّ الطَّوَائِفَ الصَّافَّاتِ ذَوَاتِ فَضْلٍ، وَالزَّاجِرَاتُ أَفْضَلُ، وَالتَّالِيَاتُ أَبْهَرُ فَضْلًا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ بِالصَّافَّاتِ الطَّيْرَ، وَبِالزَّاجِرَاتِ كُلَّ مَا يَزْجُرُ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَبِالتَّالِيَاتِ كُلَّ نَفْسٍ تَتْلُو الذِّكْرَ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» . قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ هَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ اعْتِرَافُ الزَّمَخْشَرِيِّ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا ذَكَرَهُ: هَلْ هُوَ كَذَا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا يَقُولُهُ ; لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ جَوَّزَ فِيهِ النَّقِيضَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا جَزَمَ بِهِ. وَالْأَظْهَرُ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ إِشْكَالٌ أَنَّ التَّرْتِيبَ بِالْفَاءِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وَالْإِتْيَانِ بِأَدَاةِ التَّرْتِيبِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ فَقَطْ، دُونَ إِرَادَةِ تَرْتِيبِ الصِّفَاتِ أَوِ الْمَوْصُوفَاتِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [90 \ 11 - 17] ، فَلَا يَخْفَى أَنْ ثُمَّ حَرْفُ تَرْتِيبٍ وَأَنَّ الْمُرَتَّبَ بِهِ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرَتُّبَ لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ إِلَّا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [6 \ 153 - 154] كَمَا لَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ ذِكْرِيٌّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [2 \ 199] ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ: إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَرَبُّ الْمَشَارِقِ، لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْمَشَارِقَ وَحْدَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمَغَارِبَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «دَفْعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» : وَجْهُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، فَقُلْنَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [2 \ 115] ، مَا لَفْظُهُ أُفْرِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَثَنَّاهُمَا فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [55 \ 17] ، وَجَمَعَهُمَا فِي سُورَةِ «سَأَلَ سَائِلٌ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [70 \ 40] ، وَجَمَعَ الْمَشَارِقَ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [2 \ 115] الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَهُوَ صَادِقٌ بِكُلِّ مَشْرِقٍ مِنْ مَشَارِقِ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ، وَكُلُّ مَغْرِبٍ مِنْ مَغَارِبِهَا الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الَّذِي تُشْرِقُ مِنْهُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ وَالْمَغْرِبُ الَّذِي تَغْرُبُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ. فَتَأْوِيلُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: وَلِلَّهِ مَا بَيْنَ قُطْرَيِ الْمَشْرِقِ وَقُطْرَيِ الْمَغْرِبِ إِذَا كَانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا تَعُودُ لِشُرُوقِهَا مِنْهُ إِلَى الْحَوْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَوْلُهُ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [55 \ 17] ، يَعْنِي مَشْرِقَ الشِّتَاءِ، وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ وَمَغْرِبَهُمَا، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: مَشْرِقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَهُمَا. وَقَوْلُهُ: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ أَيْ: مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ الْآيَةَ [37 \ 6] . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا الْآيَةَ [6 \ 97] . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ السَّبْعَةُ غَيْرُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ، بِإِضَافَةِ زِينَةِ إِلَى الْكَوَاكِبِ، أَيْ: بِلَا تَنْوِينٍ فِي زِينَةِ مَعَ خَفْضِ الْبَاءِ فِي الْكَوَاكِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ، وَخَفْضِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ زِينَةٍ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ، وَنَصْبِ الْكَوَاكِبِ، وَأَعْرَبَ أَبُو حَيَّانَ الْكَوَاكِبَ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ إِعْرَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَوَاكِبَ بَدَلٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ [37 \ 6] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ: زِينَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا الْآيَةَ [90 \ 14 - 15] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَعْنِي الْكَوَاكِبَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» : وَيُحْذَفُ النَّاصِبُهَا إِنْ عُلِمَا وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُهُ مُلْتَزَمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ إِلَى قَوْلِهِ: شِهَابٌ ثَاقِبٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ الْآيَةَ [15 \ 17 - 18] فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بُرْهَانَيْنِ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ، الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ. الْأَوَّلُ: هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ; لِأَنَّ مَعْنَى: فَاسْتَفْتِهِمْ، اسْتَخْبِرْهُمْ وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَاهُ: اطْلُبْ مِنْهُمُ الْفَتْوَى، وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِالْوَاقِعِ فِيمَا تَسْأَلُهُمْ عَنْهُ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَيْ: أَصْعَبُ إِيجَادًا وَاخْتِرَاعًا، أَمْ مَنْ خَلَقْنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْهُمْ، وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْ جَمَاعَاتِهِمْ بِالصَّافَّاتِ، وَالزَّاجِرَاتِ، وَالتَّالِيَاتِ، وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمَرَدَةِ الشَّيَاطِينِ ; كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [37 \ 5 - 7] . وَجَوَابُ الِاسْتِفْتَاءِ الْمَذْكُورِ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْ يُقَالَ: مَنْ خَلَقْتَ يَا رَبَّنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَرَدَةِ الْجِنِّ، وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَشَارِقِ، وَالْمَغَارِبِ، وَالْكَوَاكِبِ، أَشَدُّ خَلْقًا مِنَّا ; لِأَنَّهَا مَخْلُوقَاتٌ عِظَامٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنَّا، فَيَتَّضِحُ بِذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى قُدْرَتِهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْأَصْغَرَ الْأَقَلَّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، أَيْ: وَمَنْ قَدَرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [36 \ 81] ، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [46 \ 33] ، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [17 \ 99] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي «النَّازِعَاتِ» ، مُوَضِّحًا الِاسْتِفْتَاءَ الْمَذْكُورَ فِي آيَةِ «الصَّافَّاتِ» هَذِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 27 - 33] . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَجْهَ الْعِبَارَةِ بِمَنِ الَّتِي هِيَ لِلْعَالِمِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا، عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ تَغْلِيبُ مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ الْعَالِمِ كَالْمَلَائِكَةِ عَلَى غَيْرِ الْعَالِمِ، وَذَلِكَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الثَّانِي: فَهُوَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ; لِأَنَّ مَنْ خَلَقَهُمْ أوَّلًا مَنْ طِينٍ، وَأَصْلُهُ التُّرَابُ الْمَبْلُولُ بِالْمَاءِ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ أَنْ صَارُوا تُرَابًا، لِأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ أَصْعَبَ مِنَ الْبَدْءِ وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَيْنَ الْبُرْهَانَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَ «النَّحْلِ» ، وَ «الْحَجِّ» وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، اللَّازِبُ: هُوَ مَا يَلْزَقُ بِالْيَدِ مَثَلًا إِذَا لَاقَتْهُ، وَعِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ تَدُورُ حَوْلَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اللَّازِبَ وَاللَّاتِبَ وَاللَّازِمَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ فِي اللَّازِبِ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعْلَّمْ فَإِنَّ اللَّهَ زَادَكَ بَسْطَةً ... وَأَخْلَاقَ خَيْرٍ كُلُّهَا لَكَ لَازِبُ وَقَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 وَلَا يَحْسَبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ فَقَوْلُهُ: ضَرْبَةَ لَازِبِ، أَيْ: شَيْئًا مُلَازِمًا لَا يُفَارِقُ، وَمِنْهُ فِي اللَّاتِبِ قَوْلُهُ: فَإِنَّ يَكُ هَذَا مِنْ نَبِيذٍ شَرِبْتُهُ ... فَإِنِّيَ مِنْ شُرْبِ النَّبِيذِ لَتَائِبُ صُدَاعٌ وَتَوْصِيمُ الْعِظَامِ وَفَتْرَةٌ ... وَغَمٌّ مَعَ الْإِشْرَاقِ فِي الْجَوْفِ لَاتِبُ وَالْبُرْهَانَانِ الْمَذْكُورَانِ عَلَى الْبَعْثِ يُلْقِمَانِ الْكُفَّارَ حَجَرًا فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ الْمَذْكُورَ بِعَدِّهِمَا قَرِيبًا مِنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ [37 \ 15 19] . قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: عَجِبْتَ بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَهِيَ تَاءُ الْخِطَابِ، الْمُخَاطَبُ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بَلْ عَجِبْتُ، بِضَمِّ التَّاءِ وَهِيَ تَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ يَحْكُمُ لَهُمَا بِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فِيهَا إِثْبَاتُ الْعَجَبِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ إذًا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا طَرِيقَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَأَحَادِيثِهَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [7 \ 54] ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرُّومِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ. الْآيَةَ [30 \ 56] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 قَوْلُهُ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ. الْمُرَادُ بِـ: الَّذِينَ ظَلَمُوا الْكُفَّارُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِطْلَاقَ الظُّلْمِ عَلَى الشِّرْكِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الظُّلْمَ بِالشِّرْكِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [6 \ 82] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَزْوَاجَهُمْ، جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ: عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَشْبَاهُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ، فَعَابِدُ الْوَثَنِ مَعَ عَابِدِ الْوَثَنِ، وَالسَّارِقُ مَعَ السَّارِقِ، وَالزَّانِي مَعَ الزَّانِي، وَالْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ، وَهَكَذَا وَإِطْلَاقُ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْأَصْنَافِ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا الْآيَةَ [43 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [36 \ 36] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى الْآيَةَ [20 \ 53] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [15 \ 88] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ، أَيِ: اجْمَعُوا الظَّالِمِينَ وَأَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ، فَاهْدُوهُمْ إِلَى النَّارِ لِيَدْخُلَهَا جَمِيعُهُمْ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِـ أَزْوَاجَهُمْ نِسَاؤُهُمُ اللَّاتِي عَلَى دِينِهِمْ، خِلَافَ الصَّوَابِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيِ: احْشَرُوا مَعَ الْكُفَّارِ الشُّرَكَاءَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لِيَدْخُلَ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودَاتُ جَمِيعًا النَّارَ ; كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [21 \ 98 - 99] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالصَّالِحِينَ ; كَعِيسَى وَعُزَيْرٍ خَارِجُونَ عَنْ هَذَا، وَذَلِكَ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [21 \ 101] ، إِلَى قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [21 \ 103] ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ الْآيَةَ [43 \ 57 - 59] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ الْآيَةَ [17 \ 57] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاهْدُوهُمْ، مِنَ الْهُدَى الْعَامِّ، أَيْ: دُلُّوهُمْ وَأَرْشِدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ، أَيْ: طَرِيقِ النَّارِ لِيَسْلُكُوهَا إِلَيْهَا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاهْدُوهُمْ، رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي: الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْهُدَى يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الشَّرِّ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 4] ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِلشَّرِّ أَئِمَّةٌ يُؤْتَمُّ بِهِمْ فِيهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ الْآيَةَ [28 \ 41] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 6] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [28 \ 78] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [55 \ 39] ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [15 \ 92 - 93] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ الْآيَةَ [7 \ 6] . وَقَوْلِهِ هُنَا: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ التَّعَرُّضِ لِإِزَالَةِ إِشْكَالَيْنِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ، فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [23 \ 101] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لِلْمُرَادِ بِالْقَوْلِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ «يس» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ الْآيَةَ [36 \ 7] ، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ لَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، الَّذِي هُوَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 13] ، فَكَانُوا غَاوِينَ أَغْوَوْا أَتْبَاعَهُمْ ; لِأَنَّ مُتَّبِعَ الْغَاوِي فِي غَيِّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَاوِيًا مِثْلَهُ، ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» : قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا الْآيَةَ [28 \ 63] ، وَالْإِغْوَاءُ: الْإِضْلَالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الضَّالِّينَ وَالْمُضِلِّينَ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» ، أَنَّ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكَ لَيْسَ بِنَافِعِهِمْ شَيْئًا ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [43 \ 39] ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْأَتْبَاعَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ، أَنْ يُعَذِّبَ الْمَتْبُوعِينَ عَذَابًا مُضَاعَفًا لِإِضْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ [7 \ 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [33 \ 67 - 68] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «ص» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [38 \ 64] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ الْآيَةَ [37 \ 34 - 35] . بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ الَّذِي فَعَلَهُ بِهَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَذَائِقُونَ [37 \ 31] ، أَيِ: الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [37 \ 33] ، أَنَّهُ يَفْعَلُ مِثْلَهُ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّنْكِيلِ بِالْمُجْرِمِينَ، وَالْمُجْرِمُونَ جَمْعُ مُجْرِمٍ، وَهُوَ مُرْتَكِبُ الْجَرِيمَةِ وَهِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ التَّنْكِيلَ الشَّدِيدَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ لِذَلِكَ التَّعْذِيبِ ; لِأَنَّهَا هِيَ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الَّتِي هِيَ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ، إِذَا طَلَبَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا. فَلَفْظَةُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ ; كَمَا تُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ. وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا، إِذَا قِيلَ لَهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، أَيْ: يَتَكَبَّرُونَ عَنْ قَبُولِهَا وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعًا لِلرُّسُلِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ تَعْذِيبِهِمْ بِالنَّارِ، دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُبَيِّنًا دُخُولَهُمُ النَّارَ: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [40 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ صِفَاتِ الْكُفَّارِ وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [39 \ 45] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [26 \ 224] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ مَعَ ذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [5 \ 90] ، وَبَيَّنَّا هُنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي نَجَاسَةِ عَيْنِ خَمْرِ الدُّنْيَا دُونَ خَمْرِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [76 \ 21] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ صِفَاتٍ مِنْ صِفَاتِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: الْأُولَى: أَنَّهُنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، وَهُوَ الْعَيْنُ، أَيْ: عُيُونُهُنَّ قَاصِرَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ لِشِدَّةِ اقْتِنَاعِهِنَّ وَاكْتِفَائِهِنَّ بِهِمْ. الثَّانِيَةَ: أَنَّهُنَّ عِينٌ، وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ، وَهِيَ وَاسِعَةُ دَارِ الْعَيْنِ، وَهِيَ النَّجْلَاءُ. الثَّالِثَةَ: أَنَّ أَلْوَانَهُنَّ بِيضٌ بَيَاضًا مُشْرَبًا بِصُفْرَةٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ لَوْنُ بَيْضِ النَّعَامِ الَّذِي شَبَّهَهُنَّ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ: كَبِكْرِ الْمُقَانَاتِ الْبَيَاضُ بِصُفْرَةٍ ... غَذَّاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَبِكْرِ الْمُقَانَاتِ الْبَيَاضُ بِصُفْرَةٍ: أَنَّ لَوْنَ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ كَلَوْنِ الْبَيْضَةِ الْبِكْرِ الْمُخَالِطِ بَيَاضُهَا بِصُفْرَةٍ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِهِنَّ الْجَمِيلَةِ، فَبَيَّنَ كَوْنَهُنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «ص» : وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [38 \ 52] ، وَكَوْنُ الْمَرْأَةِ قَاصِرَةُ الطَّرَفِ مِنْ صِفَاتِهَا الْجَمِيلَةِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَذَكَرَ كَوْنَهُنَّ عِينًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِنَّ: وَحُورٌ عِينٌ [56 \ 22] ، وَذكَرَ صَفَا أَلْوَانِهِنَّ وَبَيَاضَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [56 \ 23] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [55 \ 58] ، وَصِفَاتُهُنَّ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْهِنَّ بِنَوْعَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَصْرِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، وَالطَّرْفُ الْعَيْنُ، وَهُوَ لَا يُجْمَعُ وَلَا يُثَنَّى ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مُفْرَدًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [14 \ 43] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، وَمَعْنَى كَوْنِهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ بِخِلَافِ نِسَاءِ الدُّنْيَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 وَالثَّانِي مِنْ نَوْعَيِ الْقَصْرِ: كَوْنُهُنَّ مَقْصُورَاتٌ فِي خِيَامِهِنَّ، لَا يَخْرُجْنَ مِنْهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى لِأَزْوَاجِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [33 \ 33] ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [55 \ 72] ، وَكَوْنُ الْمَرْأَةِ مَقْصُورَةٌ فِي بَيْتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ مِنْ صِفَاتِهَا الْجَمِيلَةِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مَنْ كَانَ حَرْبًا لِلنِّسَاءِ ... فَإِنَّنِي سِلْمٌ لَهُنَّهْ فَإِذَا عَثَرْنَ دَعَوْنَنِي ... وَإِذَا عَثَرْتُ دَعُوتُهُنَّهْ وَإِذَا بَرَزْنَ لِمَحْفِلٍ ... فَقِصَارُهُنَّ مِلَاحُهُنَّهْ فَقَوْلُهُ: قِصَارُهُنَّ، يَعْنِي: الْمَقْصُورَاتِ مِنْهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ اللَّاتِي لَا يَخْرُجْنَ إِلَّا نَادِرًا، كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ كُلَّ قَصِيرَةٍ ... إِلَيَّ وَمَا تَدْرِي بِذَاكَ الْقَصَائِرُ عَنَيْتُ قَصِيرَاتِ الْحِجَالِ وَلَمْ أُرِدْ ... قِصَارَ الْخُطَا شَرُّ النِّسَاءِ الْبَحَاتِرُ وَالْحِجَالُ: جَمْعُ حَجْلَةٍ، وَهِيَ الْبَيْتُ الَّذِي يُزَيَّنُ لِلْعَرُوسِ، فَمَعْنَى قَصِيرَاتِ الْحِجَالِ: الْمَقْصُورَاتِ فِي حِجَالِهِنَّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ رَجُلًا سَمِعَ آخَرَ، قَالَ: لَقَدْ أَجَادَ الْأَعْشَى فِي قَوْلِهِ: غَرَّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُهَا ... تَمْشِي الْهُوَيْنَا كَمَا يَمْشِي الْوَجَى الْوَحِلُ كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَرُّ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ لَيْسَتْ كَمَنْ يَكْرَهُ الْجِيرَانُ طَلْعَتَهَا ... وَلَا تَرَاهَا لِسِرِّ الْجَارِ تَخْتَتِلُ فَقَالَ لَهُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، تَسْتَحْسِنُ غَيْرَ الْحَسَنِ هَذِهِ الْمَوْصُوفَةُ خَرَّاجَةٌ وَلَّاجَةٌ، وَالْخَرَّاجَةُ الْوَلَّاجَةُ لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا مَلَاحَةَ لَهَا، فَهَلَّا قَالَ كَمَا قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ: وَتَكْسَلُ عَنْ جَارَاتِهَا فَيَزُرْنَهَا ... وَتَعْتَلُّ مِنْ إِتْيَانِهِنَّ فَتُعْذَرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [25 \ 15] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [17 \ 60] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي النَّارِ يَأْكُلُونَ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَيَمْلَئُونَ مِنْهَا بُطُونَهُمْ، وَيَجْمَعُونَ مَعَهَا: لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ، أَيْ: خَلْطًا مِنَ الْمَاءِ الْبَالِغِ غَايَةَ الْحَرَارَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْوَاقِعَةِ» : ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [56 \ 51 - 52] . وَقَوْلِهِ: شُرْبَ الْهِيمِ، الْهِيمُ: جَمْعُ أَهْيَمَ وَهَيْمَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ مَثَلًا الَّتِي أَصَابَهَا الْهُيَامُ، وَهُوَ شِدَّةُ الْعَطَشِ بِحَيْثُ لَا يَرْوِيهَا كَثْرَةُ شَرَابِ الْمَاءِ فَهِيَ تَشْرَبُ كَثِيرًا مِنَ الْمَاءِ، وَلَا تَزَالُ مَعَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْعَطَشِ. وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ: فَأَصْبَحْتُ كَالْهَيْمَاءِ لَا الْمَاءُ مُبَرِّدٌ ... صَدَاهَا وَلَا يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْوَاقِعَةِ» : فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [56 \ 54 - 55] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّوْبَ، أَيِ: الْخَلْطُ مِنَ الْحَمِيمِ الْمَخْلُوطِ لَهُمْ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي «الصَّافَّاتِ» ، أَنَّهُ شَوْبٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحَمِيمِ لَا قَلِيلٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ، الشَّوْبُ: الْخَلْطُ، وَالشَّوْبُ وَالشُّوبُ لُغَتَانِ، كَالْفَقْرِ وَالْفُقْرِ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: شَابَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ إِذَا خَلَطَهُمَا بِشَيْءٍ يَشُوبُهُمَا شَوْبًا وَشِيَابَةً، انْتَهَى مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ. مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ، أَيْ: وَجَدُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 أَيْ: يَتْبَعُونَهُمْ فِي ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ مُسْرِعِينَ فِيهِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [2 \ 170] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [5 \ 104] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [43 \ 23] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْآيَةَ [14 \ 10] . وَرَدُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مَعْرُوفٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [2 \ 170] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [43 \ 24] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ، أَيْ: فَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [43 \ 23] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُهْرَعُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، أَنَّ مَعْنَى: يُهْرَعُونَ: يُسْرِعُونَ وَيُهَرْوِلُونَ، وَأَنَّ مِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلٍ: فَجَاءُوا يُهْرَعُونَ وَهُمْ أُسَارَى ... تَقُودُهُمْ عَلَى رَغْمِ الْأُنُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71] . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «يس» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [36 \ 7] ، وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [6 \ 116] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَتَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الْآيَةَ [21 \ 76] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا الْآيَةَ [19 \ 41 - 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ بِذَبْحِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ لَمَّا بَاشَرَ عَمَلَ ذَبْحِهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، هَلْ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ؟ وَقَدْ وَعَدْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، بِأَنَّا نُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» ، وَهَذَا وَقْتُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ. اعْلَمْ، وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ، أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدْ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ، عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقَ. أَحَدِهِمَا فِي «الصَّافَّاتِ» ، وَالثَّانِي فِي «هُودٍ» . أَمَّا دَلَالَةُ آيَاتِ «الصَّافَّاتِ» عَلَى ذَلِكَ، فَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [37 \ 99 - 110] ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَاطِفًا عَلَى الْبِشَارَةِ الْأُولَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [37 \ 112] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْأُولَى شَيْءٌ غَيْرُ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَاءِ قِصَّةِ ذَبْحِهِ يَقُولُ أَيْضًا: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، فَهُوَ تَكْرَارٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ أَوَّلًا الَّذِي فُدِيَ بِالذَّبْحِ الْعَظِيمِ، هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا مُسْتَقِلَّةً بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [16 \ 97] ، أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 النَّصَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا احْتَمَلَ التَّأْسِيسَ وَالتَّأْكِيدَ مَعًا وَجَبَ حَمَلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَآيَةُ «الصَّافَّاتِ» هَذِهِ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِلْمُنْصِفِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا إِسْحَاقُ يَقِينًا عُبِّرَ عَنْهُ فِي كُلِّهَا بِالْعِلْمِ لَا الْحِلْمِ، وَهَذَا الْغُلَامُ الذَّبِيحُ وَصَفَهُ بِالْحِلْمِ لَا الْعِلْمِ. وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [11 \ 71] ; لِأَنَّ رُسُلَ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَشَّرَتْهَا بِإِسْحَاقَ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ يَلِدُ يَعْقُوبَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُؤْمَرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ عِلْمٌ يَقِينٌ بِأَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَلِدَ يَعْقُوبَ. فَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُنْصِفِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ الذَّبِيحِ هَذِهِ تُؤَيِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي حِكْمَةِ التَّكْلِيفِ، هَلْ هِيَ لِلِامْتِثَالِ فَقَطْ، أَوْ هِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ؟ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ حِكْمَةَ تَكْلِيفِهِ لِإِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ وَلَدَهُ لَيْسَتْ هِيَ امْتِثَالُهُ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَبْحُهُ كَوْنًا وَقَدَرًا، وَإِنَّمَا حِكْمَةُ تَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ مُجَرَّدُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، هَلْ يُصَمِّمُ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [37 \ 106 - 107] ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ. وَإِلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ: لِلِامْتِثَالِ كَلَّفَ الرَّقِيبُ ... فَمُوجِبٌ تَمَكُّنًا مُصِيبُ أَوْ بَيْنَهُ وَالِابْتِلَا تَرَدَّدَا ... شَرْطُ تَمَكُّنٍ عَلَيْهِ انْفَقَدَا وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَمُوجِبٌ تَمَكُّنًا مُصِيبُ، وَقَوْلُهُ: شَرْطُ تَمَكُّنٍ عَلَيْهِ انْفَقَدَا، إِلَى أَنَّ شَرْطَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ فِي التَّكْلِيفِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، فَمَنْ قَالَ: إِنِ الْحِكْمَةَ فِي التَّكْلِيفِ هِيَ الِامْتِثَالُ فَقَطِ اشْتَرَطَ فِي التَّكْلِيفِ التَّمَكُّنَ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ لَا امْتِثَالَ إِلَّا مَعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحِكْمَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ، لَمْ يَشْتَرِطْ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّ حِكْمَةَ الِابْتِلَاءِ تَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَمِنَ الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنْ تَعْلَمَ الْمَرْأَةُ بِالْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّهَا تَحِيضُ بَعْدَ الظُّهْرِ غَدًا مِنْ نَهَارِ رَمَضَانَ، ثُمَّ حَصَلَ لَهَا الْحَيْضُ بِالْفِعْلِ، فَتُصْبِحُ مُفْطِرَةٌ قَبْلَ إِتْيَانِ الْحَيْضِ، فَعَلَى أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ الِامْتِثَالُ فَقَطْ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وَلَهَا أَنْ تُفْطِرَ ; لِأَنَّهَا عَالِمَةٌ بِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَعَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تَارَةً تَكُونُ الِامْتِثَالَ، وَتَارَةً تَكُونُ الِابْتِلَاءَ، فَإِنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا تَبْيِيتُ الصَّوْمِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْإِفْطَارُ إلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الْحَيْضِ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ أَفْطَرَتْ قَبْلَهُ كَفَّرَتْ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَفْطَرَ لِحُمَّى تُصِيبُهُ غَدًا، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ، فَهُوَ أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [2 \ 124] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا مِنَّتَهُ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي «طه» : قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [20 \ 36 - 37] ; لِأَنَّ مِنْ سُؤْلِهِ الَّذِي أُوتِيَهُ إِجَابَةَ دَعْوَتِهِ فِي رِسَالَةِ أَخِيهِ هَارُونَ مَعَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّسَالَةَ مِنْ أَعْظَمَ الْمِنَنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. قَوْلُهُ: وَقَوْمَهُمَا، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نَجَّى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ مَا كَانَ يَسُومُهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنَ الْعَذَابِ، كَذَبْحِ الذُّكُورِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِهَانَةِ الْإِنَاثِ، وَكَيْفِيَّةِ إِنْجَائِهِ لَهُمْ مُبَيَّنَةٌ فِي انْفِلَاقِ الْبَحْرِ لَهُمْ، حَتَّى خَاضُوهُ سَالِمِينَ، وَإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 50] ، وَقَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [21 \ 76] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ نَصَرَ مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا عَلَى فِرْعَوْنِ وَجُنُودِهِ، فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، أَيْ: وَفِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ هُمُ الْمَغْلُوبُونَ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا بِالْغَرَقِ، وَأَنْجَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْهَلَاكِ، وَفِي ذَلِكَ نَصْرٌ عَظِيمٌ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [28 \ 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ. الْكِتَابُ هُوَ التَّوْرَاةُ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [6 \ 154] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [23 \ 49] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [21 \ 48] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ الْآيَةَ [2 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 76] . وَفِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [5 \ 32] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. تَسْبِيحُ يُونُسَ هَذَا، عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَذْكُورُ فِي «الصَّافَّاتِ» ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [21 \ 87 - 88] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِيضَاحَهَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ. مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِ يُونُسَ وَأَنَّ اللَّهَ مَتَّعَهُمْ إِلَى حِينٍ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [10 \ 98] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [16 \ 57 - 59] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ الْآيَةَ [6 \ 157] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَأَتْبَاعُهُمْ مَنْصُورُونَ دَائِمًا عَلَى الْأَعْدَاءِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَمَنْ أُمِرَ مِنْهُمْ بِالْجِهَادِ مَنْصُورٌ أَيْضًا بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [58 \ 21] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [40 \ 51] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [14 \ 13 - 14] . وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ الْآيَةَ [3 \ 146] ، وَسَيَأْتِي لَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ ص َبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ [13 \ 6] . وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [10 \ 15] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ بِالسَّلَامِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [37 \ 182] ، مُعَلَّمًا خَلْقَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ حَمْدِهِ هَذَا الْحَمْدَ الْعَظِيمَ، وَالسَّلَامَ عَلَى رُسُلِهِ الْكِرَامِ، ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى الْآيَةَ [27 \ 59] ، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [10 \ 10] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ ص قَوْلُهُ تَعَالَى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: ص بِالسُّكُونِ مِنْهُمُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ كَـ (ص) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كهيعص [19 \ 1] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَبِذَلِكَ التَّحْقِيقِ الْمَذْكُورِ، تَعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الدَّالِّ مُنَوَّنَةً، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الدَّالِّ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّهَا غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ، كُلُّهَا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ تَفَاسِيرُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ، فَإِنَّهَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَيْضًا. كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ صَادِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ صَادَى يُصَادِي مُصَادَاةً إِذَا عَارَضَ، وَمِنْهُ الصَّدَى. وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الصُّلْبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَجْسَامِ، أَيْ عَارِضْ بِعَمَلِكَ الْقُرْآنَ وَقَابِلْهُ بِهِ، يَعْنِي امْتَثِلْ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبْ نَوَاهِيَهُ وَاعْتَقِدْ عَقَائِدَهُ وَاعْتَبِرْ بِأَمْثَالِهِ وَاتَّعَظْ بِمَوَاعِظِهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: أَنَّ ص بِمَعْنَى حَادِثٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقِرَاءَةُ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ: مَرْوِيَّةٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي السِّمَالِ وَابْنِ أَبِي عَيْلَةَ وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ. وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، أَنَّ كَسْرَ الدَّالِّ سَبَبُهُ التَّخْفِيفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُوَ حَرْفُ هِجَاءٍ لَا فِعْلُ أَمْرٍ مَنْ صَادَى. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّهُ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 مَجْرُورٌ بِحَرْفِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ كَمَا تَرَى، فَسُقُوطُهُ ظَاهِرٌ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ص بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، فَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ وَالتَّفَاسِيرُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهَا سَاقِطَةٌ. كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ النَّاسِ وَاسْتَمَالَهُمْ حَتَّى آمَنُوا بِهِ. وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ. أَيِ الْزَمُوا صَادَ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ اتْلُ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفُ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، أَنَّ الدَّالَّ فُتِحَتْ تَخْفِيفًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَاخْتِيرَ فِيهَا الْفَتْحُ إِتْبَاعًا لِلصَّادِّ، وَلِأَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ قِرَاءَةُ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَتُرْوَى عَنْ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صَادُ بِضَمِّ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ لِلسُّورَةِ، وَأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ صَادُ وَأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَابْنِ السَّمَيْقَعِ وَهَارُونَ الْأَعْوَرِ. وَمَنْ قَرَأَ صَادَ بِفَتْحِ الدَّالِّ قَرَأَ: ق، وَن كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَهَا ص بِضَمِّ الدَّالِّ فَإِنَّهُ قَرَأَ ق: وَن بِضَمِّ الْفَاءِ وَالنُّونِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَجَمِيعَ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا، كُلُّهَا سَاقِطَةٌ، لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا هِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ ص مِفْتَاحُ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّبُورِ وَالصَّمَدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 الْأَقْوَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْقُرْآنِ مَصْدَرٌ، زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ. كَمَا زِيدَتَا فِي الطُّغْيَانِ، وَالرُّجْحَانِ، وَالْكُفْرَانِ، وَالْخُسْرَانِ، وَأَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ أُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ هُوَ اسْمُ الْمَفْعُولِ. وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: قَرَأْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتُهُ وَأَبْرَزْتُهُ، وَمِنْهُ قَرَأَتِ النَّاقَةُ السَّلَا وَالْجَنِينَ إِذَا أَظْهَرَتْهُ وَأَبْرَزَتْهُ مِنْ بَطْنِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ وَقَدْ ... أَمِنَتْ عُيُونُ الْكَاشِحِينَا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هَجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ. وَمَعْنَى الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمَقْرُوءُ الَّذِي يُظْهِرُهُ الْقَارِئُ، وَيُبْرِزُهُ مِنْ فِيهِ، بِعِبَارَاتِهِ الْوَاضِحَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ، هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ. وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ قَرَأْتُ، بِمَعْنَى جَمَعْتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ أَيِ الْجَامِعِ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهِ جَمِيعَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ذِي الذِّكْرِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَى الشَّرَفِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فُلَانٌ مَذْكُورٌ يَعْنُونَ لَهُ ذِكْرٌ أَيْ شَرَفٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [43 \ 44] أَيْ شَرَفٌ لَكُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوَاعِظُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الشَّيْءِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ مَذْكُورٌ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كُلُّهَا ظَاهِرَةُ السُّقُوطِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [38 \ 64] . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] كَقَوْلِهِ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَقَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [86 \ 1 - 4] . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إِنِ الْأَصْلَ لَكَمْ أَهْلَكْنَا وَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ، حُذِفَتْ لَامُ الْقَسَمِ، فَقَالَ: كَمْ أَهْلَكْنَا بِدُونِ لَامٍ. قَالُوا: وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [91 \ 1] لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، الَّذِي هُوَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، حُذِفَتْ مِنْهُ لَامُ الْقَسَمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: ص قَالُوا مَعْنَى ص صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ ذِي الذَّكَرِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ صِدْقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَعْنَى: هَذِهِ ص أَيِ السُّورَةِ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْعَرَبَ، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا يَخْفَى سُقُوطُهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 فِي الْكَشَّافِ، التَّقْدِيرُ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. إِنَّهُ لِمُعْجِزٌ، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ فَقَالَ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ صَوَابُهُ بِدَلِيلِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ: أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ وَأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ، وَأَنَّ قَوْلَهُمُ: الْمُقْسَمُ عَلَى نَفْيِهِ شَامِلٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مُتَلَازِمَةٍ. الْأَوَّلِ: مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ حَقًّا وَأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [13 \ 43] . وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِلَهَ الْمَعْبُودَ جَلَّ وَعَلَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [38 \ 5] . وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [16 \ 38] وَقَوْلِهِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [64 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [34 \ 3] . أَمَّا الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [38 \ 2] ; لِأَنَّ الْإِضْرَابَ بِقَوْلِهِ بَلْ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى الْمَقْسَمِ عَلَيْهِ الْمَحْذُوفِ. أَيْ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ، أَيْ فِي حَمِيَّةٍ وَأَنَفَةٍ وَاسْتِكْبَارٍ عَنِ الْحَقِّ، وَشِقَاقٍ، أَيْ مُخَالَفَةٍ وَمُعَانَدَةٍ. وَأَمَّا دَلَالَةُ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ الْمَحْذُوفَ شَامِلٌ لِلْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلِدَلَالَةِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَمَّا صِحَّةُ رِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنُ الْإِلَهِ الْمَعْبُودِ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَدْ أَشَارَ لَهُمَا هُنَا. أَمَّا كَوْنُ الرَّسُولِ مُرْسَلًا حَقًّا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [38 \ 4] يَعْنِي أَيْ: لَا وَجْهَ لِلْعَجَبِ الْمَذْكُورِ. لِأَنْ يَجِيءَ الْمُنْذِرُ الْكَائِنُ مِنْهُمْ. لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بِإِرْسَالٍ مِنَ اللَّهِ حَقًّا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 وَقَوْلُهُمْ: هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ إِنَّمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ. فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي ضِمْنِ الْمَعْنَى وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَنَّكَ مُرْسَلٌ حَقًّا وَلَوْ عَجِبُوا مِنْ مَجِيئِكَ مُنْذِرًا لَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَيْ فَهُمُ الَّذِينَ عَجِبُوا مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ، سَاحِرٌ كَذَّابٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الْإِلَهِ الْمَعْبُودِ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، فَفِي قَوْلِهِ هُنَا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [38 \ 5] ; لِأَنَّ الْهُمَزَةَ فِي قَوْلِهِ: أَجَعَلَ لِلْإِنْكَارِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ سَبَبِ تَعَجُّبِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْإِلَهَ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ. وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فِيهَا وَإِثْبَاتِهَا بِالْقَسَمِ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُقْسِمًا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ مُرْسَلٌ حَقًّا يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [36 \ 1 - 3] فَهِيَ تُوَضِّحُ مَعْنَى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إِنَّكَ لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ. وَقَدْ جَاءَ تَأْكِيدُ صِحَّةِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [2 \ 252] ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى هُوَ الْمَعْبُودُ الْحَقُّ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [37 \ 1 - 4] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى تَضْمَّنَ مَا ذُكِرَ أَيْ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ الْآيَةَ [38 \ 5] . وَأَمَّا كَوْنُ الْبَعْثِ حَقًّا، فَقَدْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ إِقْسَامًا صَحِيحًا صَرِيحًا، فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [64 \ 7] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [64 \ 3] أَيِ السَّاعَةُ. وَقَوْلِهِ: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ. [10 \ 53] وَأَقْسَمَ عَلَى اثْنَيْنِ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَحَذَفَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الِاثْنَانِ الْمَذْكُورَانِ، وَهِيَ كَوْنُ الرَّسُولِ مُرْسَلًا، وَالْبَعْثِ حَقًّا، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ إِشَارَةً وَاضِحَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [50 \ 1 - 3] فَاتَّضَحَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، إِنَّ الْمُنْذِرَ الْكَائِنَ مِنْكُمُ الَّذِي عَجِبْتُمْ مِنْ مَجِيئِهِ لَكُمْ مُنْذِرًا رَسُولٌ مُنْذِرٌ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ حَقًّا، وَإِنَّ الْبَعْثَ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ وَاسْتَبْعَدْتُمُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَالِاسْتِبْعَادِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْكُمْ: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَيْ: ذَلِكَ الرَّجْعُ الَّذِي هُوَ الْبَعْثُ رَجْعٌ بَعِيدٌ فِي زَعْمِكُمْ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّهُ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا أَكَلَتْهُ الْأَرْضُ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَمَزَّقَتْهُ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعِظَامِهِمْ، يَعْلَمُهُ جَلَّ وَعَلَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى رَدِّهِ كَمَا كَانَ. وَإِحْيَاءُ تِلْكَ الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ، وَالشُّعُورِ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَالْعِظَامِ النَّخِرَةِ كَمَا قَدَّمْنَا مُوَضَّحًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [36 \ 51] وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ حَقًّا، يَسْتَلْزِمُ اسْتِلْزَامًا لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ وَلَا أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ. وَلِذَلِكَ أَقْسَمَ تَعَالَى، فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَيْضًا مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الدُّخَانِ: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [44 \ 1 - 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [43 \ 1 - 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ قَرِيبًا عَلَى الْإِضْرَابِ بِ «بَلْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: فِي عِزَّةٍ أَيْ: حَمِيَّةٍ وَاسْتِكْبَارٍ عِنْدَ قَبُولِ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ أَخْذِ الْعِزَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْإِثْمِ لِلْكُفَّارِ أَمْرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْعِزَّةَ الَّتِي هِيَ الْحَمِيَّةُ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِهِمْ جَهَنَّمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا يُبْطِنُونَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [2 \ 206] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ إِطْلَاقِ الْعِزَّةِ عَلَى الْحَمِيَّةِ وَالِاسْتِكْبَارِ: أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ كَأَنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 يُنْزِلُ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْغَالِبِ الْقَاهِرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ أَصْلَ الْعِزَّةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [63 \ 8] ، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: مَنْ عَزِيزٌ، يَعْنُونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُحْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزِيزَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْخَصْمِ الَّذِينَ تُسَوَّرُوا عَلَى دَاوُدَ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [38 \ 23] أَيْ غَلَبَنِي، وَقَهَرَنِي فِي الْخُصُومَةِ. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْعِزَّةَ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ لِلْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ الْآيَةَ [2 \ 206] ، لَيْسَتْ هِيَ الْعِزَّةُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ بِالْفِعْلِ، أَنَّ اللَّهَ خَصَّ بِهَذِهِ الْعِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [63 \ 8] . وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ، بِأَنَّهَا هِيَ الْحَمِيَّةُ وَالِاسْتِكْبَارُ، عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَالشِّقَاقُ: هِيَ الْمُخَالِفَةُ، وَالْمُعَانَدَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ الْآيَةَ [2 \ 137] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَأَصْلُهُ مِنَ الشِّقِّ الَّذِي هُوَ الْجَانِبُ، لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْمُعَانِدَ، يَكُونُ فِي الشِّقِّ أَيْ فِي الْجَانِبِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَنْ هُوَ مُخَالِفٌ لَهُ وَمُعَانِدٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَصْلُ الشِّقَاقِ مِنَ الْمَشَقَّةِ ; لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْمُعَانِدَ يَجْتَهِدُ فِي إِيصَالِ الْمَشَقَّةِ إِلَى مَنْ هُوَ مُخَالَفٌ مُعَانَدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ الشِّقَاقِ مِنْ شَقِّ الْعَصَا وَهُوَ الْخِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ. كَمْ هُنَا هِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَمَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهِ لَأَهْلَكْنَا وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي أَهْلَكْنَا لِلتَّعْظِيمِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرْنٍ، مُمَيِّزَةٌ لَكُمْ، وَالْقَرْنُ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ وَعَلَى بَعْضٍ مِنَ الزَّمَنِ، أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ أَنَّهُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَالْمَعْنَى أَهْلَكْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ أَجْلِ الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 فَعْلَيْكُمْ أَنْ تَحْذَرُوا يَا كُفَّارَ مَكَّةَ مِنْ تَكْذِيبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءَ بِهِ لِئَلَّا نُهْلِكَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا أَهْلَكْنَا بِهِ الْقُرُونَ الْكَثِيرَةَ الْمَاضِيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، يُهَدِّدُ كُفَّارَ مَكَّةَ بِذَلِكَ. الثَّانِيَةَ: أَنَّهُمْ نَادَوْا أَيْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ أَوَائِلِ الْهَلَاكِ. الثَّالِثَةَ: أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي هُوَ وَقْتُ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ لَيْسَ وَقْتَ نِدَاءٍ، أَيْ فَهُوَ وَقْتٌ لَا مَلْجَأَ فِيهِ، وَلَا مَفَرَّ مِنَ الْهَلَاكِ بَعْدَ مُعَايَنَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [17 \ 17] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ الْآيَةَ [22 \ 45] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [14 \ 9] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ سَبَبَ إِهْلَاكِ تِلْكَ الْأُمَمِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبُ رُسُلِهِ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مُبَيِّنًا سَبَبَ إِهْلَاكِ تِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي صَرَّحَ بِأَنَّهَا: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [14 \ 9] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِهَا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [65 \ 8 - 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [25 \ 37 - 39] وَقَوْلِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 تَعَالَى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [50 \ 14] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ تَهْدِيدُ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِثْلُ مَا نَزَلْ بِأُولَئِكَ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ بِذَلِكَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [11 \ 82 - 83] فَقَوْلُهُ: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ نَبِيِّهِمْ، وَفَوَاحِشِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، وَقَدْ وَبَّخَ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِهِمْ، وَلَمْ يَحْذَرْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مِثْلُ مَا نَزَلَ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137 - 138] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا [25 \ 40] . وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [29 \ 35] . وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ. وَقَوْلِهِ فِيهِمْ وَفِي قَوْمِ شُعَيْبٍ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [15 \ 79] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ نِدَاؤُهُمْ إِذَا أَحَسُّوا بِأَوَائِلِ الْعَذَابِ ; فَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ نَوْعَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ النِّدَاءِ: أَحَدُهُمَا: نِدَاؤُهُمْ بِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ إِلَى قَوْلِهِ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [21 \ 11 - 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [7 \ 4 - 5] . الثَّانِي: مِنْ نَوْعَيِ النِّدَاءِ الْمَذْكُورِ نِدَاؤُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُسْتَغِيثِينَ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 الَّذِي أَحَسُّوا أَوَائِلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [40 \ 84، 3] وَهَذَا النَّوْعُ الْأَخِيرُ هُوَ الْأَنْسَبُ وَالْأَلْيَقُ بِالْمَقَامِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ الَّذِي هُوَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، مَعْنَاهُ: لَيْسَ الْحِينُ الَّذِي نَادَوْا فِيهِ، وَهُوَ وَقْتُ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، حِينَ مَنَاصٍ، أَيْ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ وَلَا مَلْجَأَ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي عَايَنُوهُ. فَقَوْلُهُ: وَلَاتَ هِيَ لَا النَّافِيَةُ زِيدَتْ بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيَّةِ كَمَا زِيدَتْ فِي ثَمَّ، فَقِيلَ فِيهَا ثَمَّتْ، وَفِي رُبَّ، فَقِيلَ فِيهَا رُبَّتْ. وَأَشْهُرُ أَقْوَالِ النَّحْوِيِّينَ فِيهَا، أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ وَأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ إِلَّا فِي الْحِينِ خَاصَّةً، أَوْ فِي لَفْظِ الْحِينِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، كَالسَّاعَةِ وَالْأَوَانِ، وَأَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ يُحْذَفَ اسْمُهَا أَوْ خَبَرُهَا وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ الْمَرْفُوعِ مِنْهُمَا وَإِثْبَاتُ الْمَنْصُوبِ، وَرُبَّمَا عُكِسَ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: فِي النَّكِرَاتِ أُعْمِلَتْ كَلَيْسَ «لَا» ... وَقَدْ تَلِي «لَاتَ» وَ «إِنْ» ذَا الْعَمَلَا وَمَا لِلَاتَ فِي سِوَى حِينٍ عَمَلْ ... وَحَذْفُ ذِي الرَّفْعِ فَشَا وَالْعَكْسُ قَلْ وَالْمَنَاصُ مَفْعَلٌ مِنَ النَّوْصِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: نَاصَهُ يَنُوصُهُ إِذَا فَاتَهُ وَعَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَيُطْلَقُ الْمَنَاصُ عَلَى التَّأَخُّرِ لِأَنَّ مِنْ تَأَخَّرَ وَمَالَ إِلَى مَلْجَأٍ يُنْقِذُهُ مِمَّا كَانَ يَخَافُهُ فَقَدْ وَجَدَ الْمَنَاصَ. وَالْمَنَاصُ وَالْمَلْجَأُ وَالْمَفَرُّ وَالْمَوْئِلُ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اسْتَنَاصَ إِذَا طَلَبَ الْمَنَاصَ، أَيِ السَّلَامَةَ وَالْمَفَرَّ مِمَّا يَخَافُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ: غَمْرُ الْجِرَاءِ إِذَا قَصَرْتُ عِنَانَهُ ... بِيَدِي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ الْمِسْحَلِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّوْصِ عَلَى الْفَوْتِ وَالتَّقَدُّمِ، وَإِطْلَاقِهِ عَلَى التَّأَخُّرِ وَالرَّوَغَانِ كِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمَنَاصَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَعْنَاهُ الْمُنْطَبِقُ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ، أَنْ يَكُونَ صَاحِبَهُ فِي كَرْبٍ وَضِيقٍ، فَيَعْمَلُ عَمَلًا، يَكُونُ بِهِ خَلَاصَهُ وَنَجَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْجَرْيِ وَالْإِسْرَاعِ أَمَامَ مَنْ يُرِيدُهُ بِالسُّوءِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالتَّأَخُّرِ وَالرَّوَغَانِ حَتَّى يَنْجُوَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ النَّوْصَ عَلَى التَّأَخُّرِ. وَالْبُوصُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ التَّحْتِيَّةُ عَلَى التَّقَدُّمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةً وَتَبُوصُ وَأَصْوَبُ الْأَقْوَالِ فِي لَاتَ أَنَّ التَّاءَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ حِينٍ وَأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ، وَلِمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّاءَ مُتَّصِلَةٌ بِحِينٍ وَأَنَّهُ رَآهَا فِي الْإِمَامِ، وَهُوَ مُصْحَفُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَّصِلَةً بِهَا. وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ، أَنَّ التَّاءَ لَيْسَتْ مَوْصُولَةٌ بِحِينٍ، فَالْوَقْفُ عَلَى لَاتَ بِالتَّاءِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، إِلَّا الْكِسَائِيِّ فَإِنَّهُ يَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ. أَمَّا قِرَاءَةُ كَسَرِ التَّاءِ وَضَمِّهَا فَكِلْتَاهُمَا شَاذَّةٌ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ كَسْرِ النُّونِ مِنْ حِينَ، فَهِيَ شَاذَّةٌ لَا تَجُوزُ، مَعَ أَنَّ تَخْرِيجَ الْمَعْنَى عَلَيْهَا مُشْكِلٌ. وَتَعَسَّفَ لَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهًا لَا يَخْفَى سُقُوطُهُ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ تَخْرِيجَ قِرَاءَةِ الْكَسْرِ أَنَّ حِينَ مَجْرُورَةٌ بِمِنْ مَحْذُوفَةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَنَادَوْا أَصْلُ النِّدَاءِ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا مِنْ فُلَانٍ، أَيْ أَرْفَعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَقُلْتُ ادْعِي وَأَدْعُوَ إِنَّ أَنَدَا ... لِصَوْتٍ أَنْ يُنَادِيَ دَاعِيَانِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ الْمُهْلِكَةَ يُنَادُونَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَيْسَ وَقْتَ نِدَاءٍ إِذْ لَا مَلْجَأَ فِيهِ وَلَا مَفَرَّ وَلَا مَنَاصَ. ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا الْآيَةَ [40 \ 84 - 85] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [21 \ 12 - 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى وُقُوعَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [42 \ 47] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ [75 \ 7 - 11] وَالْوَزَرُ: الْمَلْجَأُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالنَّاسُ إِلْبٌ عَلَيْنَا فِيكَ لَيْسَ لَنَا ... إِلَّا الرِّمَاحُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا وَزَرُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [18 \ 58] وَالْمَوْئِلُ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ وَأَلَ يَئِلُ إِذَا وَجَدَ مَلْجَأً يَعْتَصِمُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى مَيْمُونِ بْنِ قَيْسٍ: وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ ... وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثُمَّ مَا يَئِلُ أَيْ: ثُمَّ مَا يَنْجُو. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ عَجِبُوا مِنْ أَجْلِ أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ عَجَبِهِمُ الْمَذْكُورِ، ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ وَأَوْضَحَ تَعَالَى سَبَبَهُ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، فَقَالَ فِي عَجَبِهِمُ الْمَذْكُورِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [50 \ 1 - 2] . وَقَالَ تَعَالَى فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [10 \ 1 - 2] وَذَكَرَ مِثْلَ عَجَبِهِمُ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ، فَقَالَ عَنْ نُوحٍ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [7 \ 63] . وَقَالَ عَنْ هُودٍ مُخَاطِبًا لِعَادٍ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ الْآيَةَ [7 \ 69] ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ عَجَبِهِمْ مَنْ كَوْنِ الْمُنْذِرِ مِنْهُمْ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلَهُمْ زَاعِمِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدًا مَنْ جِنْسِهِمْ. وَأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَحَدًا لَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَشَرًا مِثْلَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ. وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [17 \ 94 - 95] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [23 \ 47] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [23 \ 33 - 34] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا الْآيَةَ [64 \ 6] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [54 \ 23 - 24] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الْآيَةَ [14 \ 10] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [6 \ 8 - 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [41 \ 13 - 14] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [23 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [15 \ 6 - 8] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [25 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ الْآيَةَ [25 \ 21 - 22] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [43 \ 53] . وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكُفَّارِ عَجَبَهُمْ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [25 \ 20] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [13 \ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [12 \ 109] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [21 \ 7 - 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [14 \ 11] أَيْ بِالرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَلَوْ كَانَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [25 \ 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ، أَنْكَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَصَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُنْزِلْهُ عَلَى أَحَدٍ آخَرَ مِنْهُمْ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مَعَ الرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِنْكَارِهِمْ خُصُوصَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [43 \ 31] يَعْنُونَ بِالْقَرْيَتَيْنِ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ، وَبِالرَّجُلَيْنِ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ فِي مَكَّةَ، وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ فِي الطَّائِفِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ مِنْهُ. وَقَدْ رَدَّ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [43 \ 32] لِأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ، لِلْإِنْكَارِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [6 \ 124] . وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [6 \ 124] وَأَشَارَ إِلَى رَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي آيَةِ ص هَذِهِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْآيَةَ [38 \ 8 - 10] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ الرِّسَالَةَ حَيْثُ يَشَاءُ، وَيَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ، إِلَّا مَنْ عِنْدَهُ خَزَائِنُ الرَّحْمَةِ. وَلَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا قَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ ثَمُودَ قَالُوا مِثْلَهُ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [54 \ 25] وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [54 \ 26] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. قَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ الْآيَةَ [22 \ 42] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. [6 \ 57] وَفِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [10 \ 15] وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الْآيَةَ [13 \ 6] . وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ الْآيَةَ [22 \ 47] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقِطَّ، النَّصِيبُ مِنَ الشَّيْءِ، أَيْ عَجِّلْ لَنَا نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي تُوعِدْنَا بِهِ. وَأَنَّ أَصْلَ الْقِطِّ كِتَابُ الْجَائِزَةِ ; لِأَنَّ الْمَلِكَ يَكْتُبُ فِيهِ النَّصِيبَ الَّذِي يُعْطِيهِ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَجَمْعُهُ قُطُوطٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ حِينَ لَقِيتُهُ ... بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ وَقَوْلُهُ: وَيَأْفِقُ أَيْ يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطَاءِ الْمَكْتُوبِ فِي الْقُطُوطِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ إِلَى قَوْلِهِ: أَوَّابٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ الْآيَةَ [21 \ 79] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا صُدُورُ بَعْضِ الشَّيْءِ، مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ طه، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [20 \ 121] . وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ دَاوُدَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَلَا ثِقَةَ بِهِ، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَمَا جَاءَ مِنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، قَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً الْآيَةَ [2] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ دَاوُدَ فِيهِ، بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَنَهَاهُ فِيهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى، عِلَّةٌ لِلضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: سَهَى فَسَجَدَ، وَسَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَوْ لِعِلَّةِ السَّهْوِ فِي الْأَوَّلِ، وَلِعِلَّةِ السَّرِقَةِ فِي الثَّانِي، وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِالتَّهْدِيدِ لِمَنِ اتَّبَعَ الْهَوَى، فَأَضَلَّهُ رَبُّنَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ يَلِيهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [38 \ 26] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ لَا يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى فَيُضِلَّهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَأْمُرُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَنْهَاهُمْ لِيَشْرَعَ لِأُمَمِهِمْ. وَلِذَلِكَ أَمَرَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ دَاوُدَ، وَنَهَاهُ أَيْضًا عَنْ مَثَلِ ذَلِكَ، فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [15 \ 42] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [15 \ 49] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [33 \ 48] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ الْآيَةَ [18 \ 28] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] . وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ يُخَاطَبُ بِخِطَابٍ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ غَيْرُهُ يَقِينًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا الْآيَةَ [17 \ 23] ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَبَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ، وَأَنْ أَمَّهُ مَاتَتْ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ عِنْدَهُ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا، وَلَا كِلَاهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَنَهْيَهُ لَهُ فِي قَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ الْآيَةَ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ عَلَى لِسَانِهِ لِأُمَّتِهِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ هُوَ نَفْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ. إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ، وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ رَجَزَ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ امْرَأَةً، وَهُوَ يَقْصِدُ أُخْرَى وَهِيَ أُخْتُ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ الطَّائِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَهْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَهْ أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الرَّجَزَ الَّذِي أَجَابَتْهُ بِهِ الْمَرْأَةَ، وَقَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الْآيَةَ، هُوَ الْخِطَابُ بِصِيغَةِ الْمُفْرِدِ، الَّذِي يُرَادُ بِهِ عُمُومُ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ. كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ أَيْ سَتُبْدِي لَكَ وَيَأْتِيكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الَّذِي يَصِحُّ خِطَابُكَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ، غَيْرَ صَحِيحٍ، وَفِي سِيَاقِ الْآيَاتِ قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَاضِحَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَيْهِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ، اسْتِدْلَالٌ قُرْآنِيٌّ صَحِيحٌ، وَالْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي خَاطَبَ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتِي أَوَّلُهَا: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ الْآيَةَ. مَا هُوَ صَرِيحٌ، فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا عُمُومُ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْخُطَّابُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [17 \ 39] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [15 \ 85] وَفِي آخِرِ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا الْآيَةَ [23 \ 115] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، ذَلِكَ أَيْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَاطِلًا هُوَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَا، وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ مَا خَلَقْنَا، مُنْصَبٌّ عَلَى الْحَالِ لَا عَلَى عَامِلِهَا الَّذِي هُوَ خَلَقْنَا، لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِأَدَاةِ النَّفْيِ الَّتِي هِيَ مَا: لَيْسَ خَلْقَهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ بِهَا، هُوَ كَوْنُهُ بَاطِلًا، فَهِيَ حَالٌ شِبْهُ الْعُمْدَةِ وَلَيْسَتْ فَضْلَةً صَرِيحَةً ; لِأَنَّ النَّفْيَ مُنْصَبٌّ عَلَيْهَا هِيَ خَاصَّةً، وَالْكَلَامُ لَا يَصِحُّ دُونَهَا. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ، وَنَفْيُ كَوْنِ خَلْقِهِ تَعَالَى لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَاطِلًا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ وَنَزَّهَهُ عَنْهُ عِبَادُهُ الصَّالِحُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ تَعَالَى. أَمَّا تَنْزِيهُهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [23 \ 115] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ، عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَهُمْ عَبَثًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 116] أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَهُمْ عَبَثًا. وَأَمَّا تَنْزِيهُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ سُبْحَانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ، عَنْ أَنْ تَكُونَ خَلَقْتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَاطِلًا. فَقَوْلُهُمْ سُبْحَانَكَ تَنْزِيهٌ لَهُ، كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْآيَةَ [23 \ 116] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَلَهُ النَّارُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ أَرْدَاهُ وَجَعَلَهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَجَعَلَ النَّارَ مَثْوَاهُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ الْآيَةَ [41 \ 22 - 24] . وَقَوْلُنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْمَبْحَثِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْفِعْلَ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا الْفِعْلُ الْحَقِيقِيُّ، وَالثَّانِي الْفِعْلُ الصِّنَاعِيُّ، أَمَّا الْفِعْلُ الْحَقِيقِيُّ، فَهُوَ الْحَدَثُ الْمُتَجَدِّدُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا الْفِعْلُ الصِّنَاعِيُّ، فَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي صِنَاعَةِ عِلْمِ النَّحْوِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَفِعْلِ الْأَمْرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ عَنِ الْمُضَارِعِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ يَنْحَلُّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ وَعِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ، أَنَّهُ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ، وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، كَمَا حَرَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ فِي مَبْحَثِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمَصْدَرَ وَالزَّمَنَ كَامِنَانِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، فَيَصِحُّ رُجُوعُ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرِ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْمَصْدَرِ وَالزَّمَنِ الْكَامِنَيْنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ. فَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ، قَوْلُهُ هُنَا: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الْخَلْقُ كَامِنٌ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ أَيْ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ الْمَذْكُورُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومِ خَلْقِنَا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَمِثَالُ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَنِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [50 \ 20] أَيْ ذَلِكَ الزَّمَنُ الْكَامِنُ فِي الْفِعْلِ هُوَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَمِثَالُ رُجُوعِ الضَّمِيرِ لِلْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [5 \ 8] فَقَوْلُهُ: هُوَ، أَيِ الْعَدْلُ الْكَامِنُ فِي مَفْهُومٍ اعْدِلُوا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. أَمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ، وَقَوْلُهُ: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ، كِلْتَاهُمَا، مُنْقَطِعَةٌ وَأَمِ الْمُنْقَطِعَةُ، فِيهَا لِعُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى هَمْزَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ. الثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى بَلِ الْإِضْرَابِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَشْمَلُ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْإِضْرَابِ مَعًا، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ. وَعَلَيْهِ فَالْإِضْرَابُ بِهَا هُنَا انْتِقَالِيٌّ لَا إِبْطَالِيٌّ وَوَجْهُ الْإِنْكَارِ بِهَا عَلَيْهِمْ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَ الصَّالِحِ الْمُصْلِحِ، وَالْمُفْسِدِ الْفَاجِرِ، فَقَدْ ظَنَّ ظَنًّا قَبِيحًا جَدِيرًا بِالْإِنْكَارِ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَمَّ حُكْمَ مَنْ يَحْكُمُ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [45 \ 21] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَابٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذَا كِتَابٌ، وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ، مُعَظِّمًا نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا، بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَأَنَّهُ كِتَابٌ مُبَارَكٌ وَأَنَّ مِنْ حُكْمِ إِنْزَالِهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ النَّاسَ آيَاتِهِ، أَيْ يَتَفَهَّمُوهَا وَيَتَعَقَّلُوهَا وَيُمْعِنُوا النَّظَرَ فِيهَا، حَتَّى يَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْهُدَى، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ، أَيْ يَتَّعِظَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، مِنْ شَوَائِبَ الِاخْتِلَالِ. وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ وَاضِحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ. أَمَّا كَوْنُهُ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [44 \ 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [3 \ 7] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْكِتَابِ مُبَارَكًا، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الْآيَةَ [6 \ 92] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [6 \ 155] . وَالْمُبَارَكُ كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ، مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَنَرْجُو اللَّهَ الْقَرِيبَ الْمُجِيبَ، إِذْ وَفَّقَنَا لِخِدْمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، أَنْ يَجْعَلَنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا، وَأَنْ يُبَارِكَ لَنَا وَعَلَيْنَا، وَأَنْ يَشْمَلَنَا بِبَرَكَاتِهِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ إِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ يَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِ بِالْبَرَكَاتِ وَالْخَيِّرَاتِ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 وَأَمَّا كَوْنُ تُدَبِّرُ آيَاتِهِ، مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ: فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، بِالتَّحْضِيضِ عَلَى تَدَبُّرِهِ، وَتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47 \ 24] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4 \ 82] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [23 \ 68] . وَأَمَّا كَوْنُ تَذَكُّرِ أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مُقْتَرِنًا بِبَعْضِ الْحِكَمِ الْأُخْرَى، الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِي آيَةِ (ص) هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [14 \ 52] فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ تَذَكُّرَ أُولِي الْأَلْبَابِ، مَنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ مُبَيِّنًا مِنْهَا حِكْمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، مَنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، وَهُمَا إِنْذَارُ النَّاسِ بِهِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَوْنُ إِنْذَارِ النَّاسِ وَتَذَكُّرُ أُولِي الْأَلْبَابِ، مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 1 - 2] لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ، مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: أُنْزِلَ، وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْآيَةِ لَا يَخْفَى أَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. وَذِكْرُ حِكْمَةِ الْإِنْذَارِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ الْآيَةَ [36 \ 5 - 6] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا الْآيَةَ [36 \ 70] . وَذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ مَعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [18 \ 1 - 2] . وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ أَنْ يُبَيِّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَتَفَكَّرُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [16 \ 44] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا كَوْنَ لَعَلَّ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَذِكْرَ حِكْمَةِ التَّبْيِينِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ حِكْمَةِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [16 \ 64] . وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى وَالْبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [16 \ 102] . وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [4 \ 105] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ أَيْ بِمَا عَلَّمَكَ مِنَ الْعُلُومِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [42 \ 52] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [12 \ 3] . وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ إِخْرَاجَ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [14 \ 1] . وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ التَّذْكِرَةَ لِمَنْ يَخْشَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [20 \ 1 - 3] أَيْ: مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. وَهَذَا الْقَصْرُ عَلَى التَّذْكِرَةِ إِضَافِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ الْآيَةَ [16 \ 64] ، بِدَلِيلِ الْحِكَمِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَتَصْرِيفِ اللَّهِ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ أَنْ يَتَّقِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 النَّاسُ اللَّهَ، أَوْ يُحْدِثَ لَهُمْ هَذَا الْكِتَابُ ذِكْرًا، أَيْ مَوْعِظَةً وَتَذَكُّرًا، يَهْدِيَهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [20 \ 113] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ وَهَبَ سُلَيْمَانَ لِدَاوُدَ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ وَرِثَ الْمَوْهُوبَ لَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [27 \ 16] . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْآيَةَ [19 \ 5 - 6] أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ لَا وِرَاثَةُ مَالٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا، مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا يَخْفَى سُقُوطُهَا، وَأَنَّهَا لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23 - 24] . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَذَ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَطَرَدَ سُلَيْمَانَ إِلَى آخِرِهِ يُوَضِّحُ بُطْلَانَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] وَاعْتِرَافُ الشَّيْطَانِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [15 \ 40] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُوَضَّحًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ الْآيَةَ [21 \ 81] . وَفَسَّرْنَا هُنَاكَ قَوْلَهُ هُنَا حَيْثُ أَصَابَ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَوْجُهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا: رُخَاءً، وَقَوْلِهِ هُنَاكَ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً [21 \ 81] وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَيْضًا بَيْنَ عُمُومِ الْجِهَاتِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ هُنَا: حَيْثُ أَصَابَ أَيْ: حَيْثُ أَرَادَ وَبَيْنَ خُصُوصِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ فِي قَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا الْآيَةَ [21 \ 81] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [21 \ 82] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ إِلَى قَوْلِهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مَعَ التَّعَرُّضِ لِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يَذْكُرَ عَبْدَهُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ الذِّكْرَ بِكَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا الْآيَةَ [19 \ 41] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ. أَطْلَقَ هُنَا أَيْضًا الْأَمْرَ بِذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ وَقَيَّدَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِكَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ الْآيَةَ [19 \ 54] ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ أَيْضًا بِذِكْرِ جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْكِتَابِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهُمْ كُلُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ، فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ، لَا نَفَادَ لَهُ، أَيْ: لَا انْقِطَاعَ لَهُ وَلَا زَوَالَ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ. قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُهُ، مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْآيَةَ [2 \ 166] ، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا الْآيَةَ [7 \ 38] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، مَعَ بَعْضِ الْمَبَاحِثِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [2 \ 34] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْآيَاتِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ. الْحِينُ الْمَذْكُورُ هُنَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [15 \ 99] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحِينُ الْمَذْكُورُ هُنَا، هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ تَتَبَيَّنُ لَهُ حَقَائِقُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. وَاللَّامُ فِي لِتَعْلَمُنَّ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَقَدْ أَكَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ نَبَأَ الْقُرْآنِ أَيْ صِدْقَهُ، وَصِحَّةَ جَمِيعِ مَا فِيهِ بَعْدَ حِينٍ بِالْقَسَمِ، وَنُونِ التَّوْكِيدِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [6 \ 66 - 67] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ، أَيْ: لِكُلِّ خَبَرٍ حَقِيقَةٌ وَوُقُوعٌ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا تَبَيَّنَ كَذِبُهُ، وَسَتَعْلَمُونَ صِدْقَ هَذَا الْقُرْآنِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الزُّمَرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا، إِذَا ذَكَّرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، الْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاتَهُ الْعُلْيَا. فَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، لَمَّا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ كِتَابَهُ، بَيَّنَ أَنَّ مَبْدَأَ تَنْزِيلِهِ كَائِنٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا، وَذَكَرَ اسْمَهُ اللَّهَ، وَاسْمَهُ الْعَزِيزَ، وَالْحَكِيمَ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [45 \ 1 - 3] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [46 \ 1 - 3] . وَقَدْ تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، ذِكْرُهُ بَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَعْدَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [40 \ 1 - 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فُصَّلَتْ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [41 \ 1 - 2] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هُودٍ: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [11 \ 1] وَقَوْلِهِ فِي فُصِّلَتْ: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 41 - 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ يس تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [36 \ 5 - 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْآيَةَ [26 \ 192 - 193] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [69 \ 43 - 44] . وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الْعَظِيمَةَ، بَعْدَ ذِكْرِهِ تَنْزِيلَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَدُلُّ بِإِيضَاحٍ، عَلَى عَظَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ وَأَهَمِّيَّةِ نُزُولِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يَعْبُدَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَيْ مُخْلِصًا لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ صَغِيَرِهَا وَكَبِيرِهَا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ. وَالْإِخْلَاصُ، إِفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْقَصْدِ، فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا بُدَّ مِنْهُ، جَاءَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِعِبَادَةٍ، إِلَّا عِبَادَةً يُخْلِصُ لَهُ الْعَابِدُ فِيهَا. أَمَّا غَيْرُ الْمُخْلِصِ فَكُلُّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ، جَاءَ بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لَا بِأَمْرِ رَبِّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [98 \ 5] ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [39 \ 14، 15] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ أَيِ: التَّوْحِيدُ الصَّافِي مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ وَحْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. وَقَوْلُ مِنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الْخَالِصِ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، بَيَّنَ شُبْهَةَ الْكُفَّارِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا لِلْإِشْرَاكِ بِهِ تَعَالَى، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ تُقَرِّبَهُمْ مِنَ اللَّهِ زُلْفَى، وَالزُّلْفَى: الْقَرَابَةُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 فَقَوْلُهُ: زُلْفَى، مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ لِيُقَرِّبُونَا، أَيْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَيْهِ قَرَابَةً تَنْفَعُنَا بِشَفَاعَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ. وَلِذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكْ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [6 \ 35] أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنِ ادِّعَاءِ الشُّفَعَاءِ، وَاتِّخَاذِ الْمَعْبُودَاتِ مَنْ دُونِ اللَّهِ وَسَائِطَ مَنْ أَصُولِ كُفْرِ الْكُفَّارِ. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [10 \ 18] . فَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ، مِنِ ادِّعَاءِ الشُّفَعَاءِ شِرْكٌ بِاللَّهِ، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَنْهُ، بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي آيَةِ الزُّمَرِ هَذِهِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَا قَالَ عَنْهُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [39 \ 3] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [39 \ 3] . وَقَوْلُهُ: كُفَّارٌ، صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى جَامِعُونَ بِذَلِكَ، بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْكُفْرِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ النَّاسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ، بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [16 \ 57] . قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هِيَ أَبُوهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ، زَوْجَهَا يَعْنِي حَوَّاءَ. أَيْ: وَبَثَّ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ مِنْهُمَا، وَأَوْضَحَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [4 \ 1] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ [7 \ 189] ، وَتَأْنِيثُ الْوَصْفِ، بِقَوْلِهِ وَاحِدَةٍ، مَعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ آدَمُ نَظَرًا إِلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مُذَكَّرًا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ: أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةُ ذَاكَ الْكَمَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [3 \ 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [22 \ 5] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْمُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. قَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ الْغِنَى الْمُطْلِقَ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ بِهِ، وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [64 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْآيَةَ [10 \ 68] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [47 \ 38] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا بِالْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ مَعَ إِزَالَةِ الْإِشْكَالِ، وَالْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ، عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ، مَعَ إِزَالَةِ الْإِشْكَالِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [16 \ 25] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا الْآيَةَ [10 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَحْثِ أُصُولِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [15 \ 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ. الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهُ، فِي مَنَاكِبِ أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، حَتَّى يَجِدَ مَحَلًّا تُمَكِّنُهُ فِيهِ إِقَامَةَ دِينِهِ. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [4 \ 97] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [29 \ 56] ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، مِنْ أَوْجُهٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [10 \ 45] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ الْآيَةَ [21 \ 39] ، وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [17 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [1 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ، مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ وَحْيِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الْآيَةَ [23 \ 68] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [86 \ 13 - 14] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [39 \ 18] أَيْ: يُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ حُسْنًا، عَلَى الْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُسْنِ، وَيُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ مُطْلَقًا عَلَى الْحَسَنِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْأَحْسَنَ الْمُتَّبَعَ. مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ، فَهُوَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [39 \ 55] وَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى يَأْمُرُهُ بِالْأَخْذِ بِأَحْسَنِ مَا فِي التَّوْرَاةِ: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [7 \ 145] . وَأَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ فِيهِ الْأَحْسَنُ وَالْحَسَنُ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِهِ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ أَحْسَنُ مِنَ الْمَنْدُوبِ، وَأَنَّ الْمَنْدُوبَ أَحْسَنُ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 مُطْلَقِ الْحَسَنِ، فَإِذَا سَمِعُوا مَثَلًا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [22 \ 77] قَدَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ الْوَاجِبَ، عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الْمَنْدُوبِ، وَقَدَّمُوا هَذَا الْأَخِيرَ، عَلَى مُطْلَقِ الْحَسَنِ الَّذِي هُوَ الْجَائِزُ، وَلِذَا كَانَ الْجَزَاءُ بِخُصُوصِ الْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، لَا عَلَى مُطْلَقِ الْحَسَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] وَقَالَ تَعَالَى وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [39 \ 35] كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي: مَا رَبُّنَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَسَنُ وَغَيْرُهُ الْقَبِيحُ وَالْمُسْتَهْجَنُ وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْأَخْذِ بِالْأَحْسَنِ وَأَفْضَلِيَّتِهِ مَعَ جَوَازِ الْأَخْذِ بِالْحَسَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [16 \ 126] فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ لِلْجَوَازِ، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِحَسَنٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَامَ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّبْرَ، خَيْرٌ مِنْهُ وَأَحْسَنُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِبَاحَةِ الِانْتِقَامِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [42 \ 43] ، مَعَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الصَّبْرَ وَالْغُفْرَانَ خَيْرٌ مِنْهُ، فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42 \ 43] ، وَكَقَوْلِهِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَامِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [4 \ 148] مَعَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [4 \ 149] . وَكَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا مُثْنِيًا عَلَى مَنْ تَصَدَّقَ، فَأَبْدَى صَدَقَتَهُ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [2 \ 271] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِخْفَاءَهَا وَإِيتَاءَهَا الْفُقَرَاءَ، خَيْرٌ مِنْ إِبْدَائِهَا الَّذِي مَدَحَهُ بِالْفِعْلِ الْجَامِدِ، الَّذِي هُوَ لِإِنْشَاءِ الْمَدْحِ الَّذِي هُوَ نَعِمَّ، فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [2 \ 271] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 وَكَقَوْلِهِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ اللَّازِمِ، لِلزَّوْجَةِ بِالطَّلَاقِ، قَبْلَ الدُّخُولِ، فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [2 \ 237] وَلَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ النِّصْفَ حَسَنٌ، لِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ مَعَ أَنَّهُ رَغَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَنْ يَعْفُوَ لِلْآخَرِ عَنْ نِصْفِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [2 \ 237] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [42 \ 40] ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى الْأَحْسَنِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [42 \ 40] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [5 \ 45] ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى الْأَحْسَنِ، فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [5 \ 45] . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالًا غَيْرَ الَّذِي اخْتَرْنَا. مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي مَعْنَى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ قَالَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ فَيَتَحَدَّثُ بِالْحَسَنِ، وَيَنْكَفُّ عَنِ الْقَبِيحِ، فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ» . وَقِيلَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ، فَيَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَحْسَنِ الْقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَبَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَقُولُ: إِنِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، فَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَكِنَّ فِيهَا حَذْفًا، وَحَذْفُ مَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ وَاضِحٌ، لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، تُخَلِّصُهُ أَنْتَ مِنْهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا تُخَّلِصُ أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَحَدًا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَهَذَا الْمَحْذُوفُ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا قَوْلِي الْمُفَسِّرِينَ فِي أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَدَاةِ عَطْفٍ كَالْفَاءِ وَالْوَاوِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 وَثُمَّ كَقَوْلِهِ هُنَا: أَفَمَنْ حَقَّ وَقَوْلَهُ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ. أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ شَرْطِيَّةٌ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُ الْكَلَامِ: أَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، فَأَنْتِ تُنْقِذُهُ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، دَخَلَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ فَاءُ الْجَزَاءِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، تَقْدِيرُهُ: أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ، فَمِنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى كُرِّرَتْ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَوَضْعِ مَنْ فِي النَّارِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ الْآيَةَ [36 \ 7] ، وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى الْمُرَادِ بِكَلِمَةِ الْعَذَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ وَعْدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْغُرَفِ الْمَبْنِيَّةِ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [34 \ 37] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الْآيَةَ [9 \ 72] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [61 \ 12] ، لِأَنَّ الْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّوْبَةِ وَالصَّفِّ صَادِقَةٌ بِالْغُرَفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الزُّمَرِ وَسَبَأٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا الْآيَةَ [25 \ 75] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ. الْيَنَابِيعُ: جَمْعُ يَنْبُوعٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ. وَقَوْلُهُ: فَسَلَكَهُ أَيْ أَدْخَلَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [11 \ 40] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ، قَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْآيَةَ [34 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الرُّومِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [30 \ 22] وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا الْآيَةَ [35 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَهِيجُ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ نَضَارَةِ ذَلِكَ الزَّرْعِ وَخُضْرَتِهِ يَيْبَسُ، وَيَتِمُّ جَفَافُهُ وَيَثُورُ مِنْ مَنَابِتِهِ فَتَرَاهُ أَيُّهَا النَّاظِرُ مُصْفَرًّا يَابِسًا، قَدْ زَالَتْ خُضْرَتُهُ وَنَضَارَتُهُ. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا أَيْ فُتَاتًا، مُتَكَسِّرًا، هَشِيمًا، تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ حَالَاتِ ذَلِكَ الزَّرْعِ، الْمُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ، لَذِكْرَى أَيْ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً وَتَذْكِيرًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، أَيْ لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا مَصِيرَ هَذَا الزَّرْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ مَا وَعَظَ بِهِ خَلْقَهُ هُنَا مِنْ حَالَاتِ هَذَا الزَّرْعِ شَبِيهٌ أَيْضًا بِالدُّنْيَا. فَوَعَظَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ وَشَبَّهَ بِهِ حَالَةَ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [257 \ 20] . وَيُبَيِّنُ فِي سُورَةِ الرُّومِ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ اصْفِرَارِهِ الْمَذْكُورِ إِرْسَالُ الرِّيحِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [30 \ 51] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [6 \ 125] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [16 \ 37] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا الْآيَةَ [18 \ 1 - 2] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُرْآنًا انْتُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَرَبِيًّا، وَقُرْآنًا تَوْطِئَةٌ لَهُ وَقِيلَ انْتُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَرَبِيًّا، أَيْ: لِأَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] . وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [43 \ 3] . وَقَالَ فِي أَوَّلِ الزُّخْرُفِ: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [43 \ 3] . وَقَالَ فِي طه وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [20 \ 113] وَقَالَ تَعَالَى فِي فُصِّلَتْ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [41 \ 44] وَقَالَ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 192 - 195] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا الْآيَةَ [42 \ 7] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الرَّعْدِ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ [13 \ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَعِظَمِهَا، دَلَالَةً لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ. أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الَّذِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [29 \ 33 - 34] . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ «الَّذِي» تَأْتِي بِمَعْنَى الَّذِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّمَرِ هَذِهِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [2 \ 17] أَيِ: الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [2 \ 17] وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [2 \ 264] أَيْ: كَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [9 \ 69] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَشْهَبَ بْنِ رُمَيْلَةَ: وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ وَقَوْلُ عُدَيْلِ بْنِ الْفَرْخِ الْعِجْلِيِّ: فَبِتُّ أُسَاقِي الْقَوْمَ إِخْوَتِي الَّذِي ... غَوَايَتُهُمْ غَيٌّ وَرُشْدُهُمْ رُشْدُ وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: يَا رَبَّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهَا وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ الْآيَةَ [16 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [39 \ 17 - 18] وَفِي سُورَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [8 \ 64] وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِكَافٍ عَبْدَهُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، بِإِفْرَادِ الْعَبْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [2 \ 137] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الْآيَةَ [8 \ 64] . وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ عِبَادَهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتَحِ الْبَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْمَلُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، يُخَوِّفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْأَوْثَانِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّهَا سَتَضُرُّهُ وَتَخْبِلُهُ، وَهَذِهِ عَادَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، يُخَوِّفُونَ الرُّسُلَ بِالْأَوْثَانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا سَتَضُرُّهُمْ وَتَصِلُ إِلَيْهِمْ بِالسُّوءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، لَا يَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا سِيَّمَا الْأَوْثَانُ، الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَوَّفُوهُ بِهَا: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الْآيَةَ [6 \ 81] . وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ وَمَا ذَكَرَهُ لَهُ قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [11 \ 54 - 56] . وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، مُخَاطِبًا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَخْوِيفَهُمْ لَهُ بِأَصْنَامِهِمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [39 \ 38] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَنْ أَشْنَعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [3 \ 175] . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ حُذِفَ فِيهِ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِهِ، لَا تَقْدِرُ أَنْ تَكْشِفَ ضُرًّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ أَحَدًا، أَوْ تُمْسِكَ رَحْمَةً أَرَادَ بِهَا أَحَدًا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [19 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [26 \ 72 - 74] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [35 \ 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [10 \ 107] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [34 \ 35] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ، لَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ الَّذِي عَايَنُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَصَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ لَا فِدَاءَ الْبَتَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [3 \ 91] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [5 \ 36 - 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [57 \ 15] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [6 \ 70] . وَقَوْلِهِ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أَيْ: وَإِنْ تَفْتَدِ كُلَّ فِدَاءِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ الْآيَةَ [2 \ 48] . وَقَوْلِهِ: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ الْآيَةَ [2 \ 123] ، وَالْعَدْلُ الْفِدَاءُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [13 \ 18] . وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ الْآيَةَ [3 \ 91] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا. قَوْلُهُ: وَبَدَا لَهُمْ أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا، أَيْ: جَزَاءُ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا فِي الدُّنْيَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَطْلَقَ السَّيِّئَاتِ هُنَا مُرَادًا بِهَا جَزَاؤُهَا. وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [42 \ 40] . وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا إِطْلَاقُ الْعِقَابِ، عَلَى جَزَاءِ الْعِقَابِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ الْآيَةَ [22 \ 60] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّهُمْ يَبْدُو لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَقِيقَةَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [75 \ 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [82 \ 5] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا الْآيَةَ [18 \ 49] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13 - 14] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ الْآيَةَ [10 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [39 \ 17 - 18] وَقَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مِنْ جِهَاتٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الْآيَةَ [3 \ 106] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، مَعَ بَيَانِ جُمْلَةً مِنْ آثَارِ الْكِبْرِ السَّيِّئَةِ، فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [7 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [6 \ 88] . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الْآيَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْقَيْدِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الْآيَةَ [5 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يس، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [36 \ 51] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [18 \ 49] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [17 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا يُحْصُونَ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [50 \ 21] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الشُّهَدَاءُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 وَقِيلَ: الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ عِنْدِي، أَنَّ الشُّهَدَاءَ هُمُ الرُّسُلُ مِنَ الْبَشَرِ، الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى الْأُمَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي بَيْنَ الْأُمَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُهَا، كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [10 \ 47] فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ يَسْأَلُ الرُّسُلَ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [5 \ 109] وَقَالَ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 6] وَقَدْ يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [4 \ 41] لِأَنَّ كَوْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الشَّهِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أُمَّتُهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ رَسُولُهَا. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الشَّهِيدَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أَنْفُسِ الْأُمَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [16 \ 89] وَالرُّسُلُ مِنْ أَنْفُسِ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [9 \ 128] . وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 164] . وَالْمُسَوِّغُ لِلْإِيجَازِ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ [39 \ 69] هُوَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِمْ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرُ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَجِيءَ بِكَسْرِ الْجِيمِ كَسْرَةٍ خَالِصَةٍ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِإِشْمَامِ الْكَسْرَةِ الضَّمِّ. وَإِنَّمَا كَانَ الْإِشْمَامُ هُنَا جَائِزًا، وَالْكَسْرُ جَائِزًا، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الْآيَةِ الْبَتَّةَ، لَبْسٌ بَيْنَ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، وَالْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَجِيءَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ بِوَجْهٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِيهِ الْكَسْرُ الْخَالِصُ وَإِشْمَامُ الْكَسْرَةِ الضَّمَّ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَاكْسِرْ أَوْ أَشْمِمْ فَا ثُلَاثِيٍّ أُعِلْ ... عَيْنًا وَضُمَّ حَاءَ كَبُوعَ فَاحْتُمِلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى اللَّبْسِ، فَيُشْتَبَهُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ، بِالْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ اجْتِنَابُ الشَّكْلِ الَّذِي يُوجِبُ اللَّبْسَ، وَالْإِتْيَانَ بِمَا يُزِيلُ اللَّبْسَ مِنْ شَكْلٍ أَوْ إِشْمَامٍ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ بِشَكْلٍ خِيفَ لَبْسٌ يُجْتَنَبْ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَإِنِّي عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ قَلَّ نَفْعُهُ ... دُفُوعٌ إِذَا مَا ضُمْتُ غَيْرُ صَبُورِ فَقَوْلُهُ: ضُمْتُ أَصْلُهُ ضِيمْتُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَيَجِبُ الْإِشْمَامُ أَوِ الضَّمُّ ; لِأَنَّ الْكَسْرَ الْخَالِصَ يَجْعَلُهُ مُحِتَمِلًا لِلْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ كَبِعْتُ وَسِرْتُ. وَقَوْلُ جَرِيرٍ يَرْثِي الْمَرَّارَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ: وَأَقُولُ مِنْ جَزَعٍ وَقَدْ فُتْنَا بِهِ ... وَدُمُوعُ عَيْنِي فِي الرِّدَاءِ غِزَارُ لِلدَّافِنِينَ أَخَا الْمَكَارِمِ وَالنَّدَا ... لِلَّهِ مَا ضُمِنَتْ بِكَ الْأَحْجَارُ أَصْلُهُ فُوتْنَا بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَيَجِبُ الْكَسْرُ أَوِ الْإِشْمَامُ ; لِأَنَّ الضَّمَّ الْخَالِصَ يَجْعَلُهُ مُحْتَمِلًا لِلْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، كَقُلْنَا وَقُمْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا. الزُّمَرُ: الْأَفْوَاجُ الْمُتَفَرِّقَةُ، وَاحِدُهُ زُمْرَةٌ، وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى عَنْهَا هُنَا بِالزُّمَرِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا فِي الْمُلْكِ بِالْأَفْوَاجِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ الْآيَةَ [67 \ 8] ، وَعَبَّرَ عَنْهَا فِي الْأَعْرَافِ بِالْأُمَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ الْآيَةَ [7 \ 38] . وَقَالَ فِي فُصِّلَتْ: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [41 \ 25] وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ [38 \ 59] . وَمِنْ إِطْلَاقِ الزُّمَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 وَتَرَى النَّاسَ إِلَى مَنْزِلِهِ ... زُمَرًا تَنْتَابُهُ بَعْدَ زُمَرْ وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: إِنَّ الْعُفَاةَ بِالسُّيُوبِ قَدْ غَمَرَ ... حَتَّى احْزَأَلَّتْ زُمَرًا بَعْدَ زَمَرْ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. لَمْ يُبَيِّنْ جَلَّ وَعَلَا هُنَا عَدَدَ أَبْوَابِهَا الْمَذْكُورَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ، فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [16 \ 43 - 44] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: (فُتِّحَتْ) بِالتَّاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [16 \ 32] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا وَعَايَنُوا مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ، حَمِدُوا رَبَّهُمْ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، وَنَوَّهُوا بِصِدْقِ وَعْدِهِ لَهُمْ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا الْآيَةَ [7 \ 44] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [35 \ 33 - 34] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ غَافِرٍ قَوْلُهُ تَعَالَى : غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ. جَمَعَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ مَطَامِعَ الْعُقَلَاءِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضُّرِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [15 \ 49 - 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الْآيَةَ [7 \ 156] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. [6 \ 165] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [7 \ 167] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ لَا يُخَاصِمُ فِيهَا مُحَاوِلًا رَدَّهَا، وَإِبْطَالَ مَا جَاءَ فِيهَا إِلَّا الْكُفَّارُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْغَرَضَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْجِدَالِ فِيهَا مَعَ بَعْضِ صِفَاتِهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا [18 \ 56] وَأَوْضَحَ ذَلِكَ الْغَرَضَ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي قَوْلِهِ: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [40 \ 5] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ أَنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ مِنْهُمْ، أَتْبَاعٌ يَتَّبِعُونَ رُؤَسَاءَهُمُ الْمُضِلِّينَ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 3 - 4] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 وَأَنَّ مِنْهُمْ قَادَةً هُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمَتْبُوعُونَ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [22 \ 8 - 9] . وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ جِدَالِ الْكُفَّارِ، جِدَالَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ، لِيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [42 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ. نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، لِيَشْرَعَ لِأُمَّتِهِ عَنْ أَنْ يَغُرَّهُ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي بِلَادِ اللَّهِ، بِالتِّجَارَاتِ وَالْأَرْبَاحِ، وَالْعَافِيَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفِيضُ عَلَيْهَا الْأَمْوَالُ مِنْ أَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [106 \ 2] أَيْ: إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَفَرَةٌ فَجَرَةٌ، يُكَذِّبُونَ نَبِيَّ اللَّهِ وَيُعَادُونَهُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَغْتَرَّ بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَقَلُّبِهِمْ فِي بِلَادِهِ فِي إِنْعَامٍ وَعَافِيَةٍ ; فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يَسْتَدْرِجُهُمْ بِذَلِكَ الْإِنْعَامِ، فَيُمَتِّعُهُمْ بِهِ قَلِيلًا، ثُمَّ يُهْلِكُهُمْ فَيَجْعَلُ مَصِيرَهُمْ إِلَى النَّارِ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [3 \ 196 - 197] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 23 - 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [2 \ 26] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 69 - 70] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا يَغْرُرْكَ، سَبَبِيَّةٌ أَيْ: لَا يُمْكِنُ تَقَلُّبُهُمْ فِي بِلَادِ اللَّهِ. مُتَنَعِّمِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 بِالْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ، سَبَبًا لِاغْتِرَارِكَ بِهِمْ، فَتَظُنُّ بِهِمْ ظَنًّا حَسَنًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ التَّنَعُّمَ، تَنَعُّمُ اسْتِدْرَاجٍ، وَهُوَ زَائِلٌ عَنْ قَرِيبٍ، وَهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ الدَّائِمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (كَلِمَاتُ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (كَلِمَةُ رَبِّكَ) بِالْإِفْرَادِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَاتِ فِيمَا يُمَاثِلُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [36 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْآيَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِوَعْدِهِمْ بِالْجَنَّاتِ، هُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ الْآيَةَ [22 \ 23 - 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ. التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِمَاتَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، الْإِمَاتَةُ الْأُولَى، الَّتِي هِيَ كَوْنُهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ نُطَفًا وَعَلَقًا وَمُضَغًا، قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِمْ، فَهَلْ قَبِلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِمْ لَا حَيَاةَ لَهُمْ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ اسْمَ الْمَوْتِ. وَالْإِمَاتَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ إِمَاتَتُهُمْ وَصَيْرُورَتُهُمْ إِلَى قُبُورِهِمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْيَاءَتَيْنِ: الْإِحْيَاءَةَ الْأُولَى فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَالْإِحْيَاءَةُ الثَّانِيَةُ، الَّتِي هِيَ الْبَعْثُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ وَالْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ، الَّذِي لَا مَوْتَ فِيهِ، إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْآيَةِ هُوَ التَّحْقِيقُ، أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِهِ وَاضِحًا فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [2 \ 28] وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُسَوِّغَ الَّذِي سَوَّغَ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَوْتِ عَلَى الْعَلَقَةِ، وَالْمُضْغَةِ مَثَلًا، فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، أَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، لَهُ أَطْوَارٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [39 \ 6] ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ، تَكُونُ فِيهِ الْحَيَاةُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ، وَفِي بَعْضِهَا لَا حَيَاةَ لَهُ، صَحَّ إِطْلَاقُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْحَيَاةُ تَارَةً وَتَكُونُ فِيهِ أُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُسَوِّغًا غَيْرَ هَذَا، فَانْظُرْهُ إِنْ شِئْتَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ. قَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالذَّنْبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَنْفَعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 11] وَقَالَ تَعَالَى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ الْآيَةَ [37 \ 34 - 35] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الَّذِي يُرِي خَلْقَهُ آيَاتِهِ، أَيِ: الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ ; لِيَجْعَلَهَا عَلَامَاتٍ لَهُمْ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ، وَمِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [41 \ 37] . وَمِنْهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُونَ، وَمَا فِيهِمَا وَالنُّجُومُ، وَالرِّيَاحُ وَالسَّحَابُ، وَالْبِحَارُ وَالْأَنْهَارُ، وَالْعُيُونُ وَالْجِبَالُ وَالْأَشْجَارُ وَآثَارُ قَوْمٍ هَلَكُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى قَوْلِهِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [45 \ 3 - 5] ، وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [10 \ 6] . وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ، مِنْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرِي خَلْقَهُ آيَاتِهِ، بَيَّنَهُ وَزَادَهُ إِيضَاحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يُرِيهِمْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ الْبَيَانِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [41 \ 53] . وَالْآفَاقُ جَمْعَ أُفُقٍ وَهُوَ النَّاحِيَةُ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَدْ بَيَّنَ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ فِي نُوَاحِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ، وَالدَّوَابِّ وَالْبِحَارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يُرِيهِمْ وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا شَيْئًا مِنْهَا تَسْخِيرُهُ لَهُمُ الْأَنْعَامَ لِيَرْكَبُوهَا وَيَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِهَا، وَيَنْتَفِعُوا بِأَلْبَانِهَا، وَزُبْدِهَا وَسَمْنِهَا، وَأَقِطِهَا وَيَلْبَسُوا مِنْ جُلُودِهَا، وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [40 \ 79 - 81] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 وَبَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يُرِيهَا بَعْضَ خَلْقِهِ مُعْجِزَاتِ رُسُلِهِ ; لِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ آيَاتٌ أَيْ: دَلَالَاتٌ وَعَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي فِرْعَوْنَ: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [20 \ 56] وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يُرِيهَا خَلْقَهُ عُقُوبَتَهُ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِهْلَاكِهِ قَوْمَ لُوطٍ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [29 \ 35] . وَقَالَ فِي عُقُوبَتِهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بِالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ. . . إِلَخْ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ الْآيَةَ [7 \ 133] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا. أَطْلَقَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرِّزْقَ وَأَرَادَ الْمَطَرَ ; لِأَنَّ الْمَطَرَ سَبَبُ الرِّزْقِ، وَإِطْلَاقُ الْمُسَبِّبِ وَإِرَادَةُ سَبَبِهِ لِشِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَهُمَا، أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ الَّذِي هُوَ إِطْلَاقُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبِّبِ كَقَوْلِهِ: أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضُرَّةٍ ... بَعِيدَةَ مُهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةَ النَّشْرِ فَأَطْلَقَ الدَّمَ وَأَرَادَ الدِّيَةَ ; لِأَنَّهُ سَبَبُهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ: مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ، فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ، أَنَّ أَمْثَالَ هَذَا أَسَالِيبُ عَرَبِيَّةٌ، نَطَقَتْ بِهَا الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا، وَنَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ مِنْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يُسَمُّونَهُ الْمَجَازَ الْمُرْسَلَ الَّذِي يَعُدُّونَ مِنْ عَلَاقَاتِهِ السَّبَبِيَّةَ وَالْمُسَبِّبِيَّةَ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَإِطْلَاقُ الرِّزْقِ فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ عَلَى الْمَطَرِ جَاءَ مِثْلُهُ، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الْآيَةَ 5] فَأَوْضَحَ بِقَوْلِهِ: فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا أَنَّ مُرَادَهُ بِالرِّزْقِ الْمَطَرُ ; لِأَنَّ الْمَطَرَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَطَرُ رِزْقًا ; لِأَنَّ الْمَطَرَ سَبَبُ الرِّزْقِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 22] ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَخْرَجَ بِهِ سَبَبِيَّةٌ كَمَا تَرَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ الْآيَةَ [14 \ 32] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ [50 \ 9 - 11] . وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ الرِّزْقَ الْمَذْكُورَ شَامِلٌ لِمَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، وَمَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ ; لِأَنَّ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ، يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ لِلنَّاسِ الِانْتِفَاعُ بِلُحُومِهَا، وَجُلُودِهَا وَأَلْبَانِهَا، وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [32 \ 27] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [16 \ 10 - 11] . فَقَوْلُهُ: فِيهِ تُسِيمُونَ، أَيْ: تَتْرُكُونَ أَنْعَامَكُمْ سَائِمَةً فِيهِ، تَأْكُلُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَكَلَّفُوا لَهَا مَئُونَةَ الْعَلَفِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ الْآيَةَ [20 \ 53 - 54] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 31 - 33] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ النَّاسَ مَا يَتَذَكَّرُ مِنْهُمْ، أَيْ: مَا يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أَيْ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ. وَالْإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُنِيبُونَ، الْمُتَذَكِّرُونَ، الْمُتَّعِظُونَ، هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ، الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [3 \ 7] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [14 \ 52] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، عَلَى أَنَّ غَيْرَ أُولِي الْأَلْبَابِ الْمُتَذَكِّرِينَ الْمَذْكُورِينَ آنِفًا، لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَتَّعِظُ بِالْآيَاتِ، بَلْ يُعْرِضُ عَنْهَا أَشَدَّ الْإِعْرَاضِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [12 \ 105] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [54 \ 2] وَقَوْلِهِ: وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ [37 \ 14] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 101] وَقَوْلِهِ: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [36 \ 46] فِي الْأَنْعَامِ وَيس إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى نَحْوِهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [39 \ 2 - 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [16 \ 2] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ جَاءَ مِثْلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي بُرُوزِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [14 \ 48] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا الْآيَةَ [14 \ 21] . وَكَقَوْلِهِ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [69 \ 18] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [100 \ 11] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [3 \ 5] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ الْآيَةَ [11 \ 5] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [34 \ 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ. الْإِنْذَارُ، وَالْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ خَاصَّةً، فَكُلُّ إِنْذَارٍ إِعْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْإِنْذَارِ وَأَنْوَاعَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ الْآيَةَ [7 \ 2] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: يَوْمَ الْآزِفَةِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْإِنْذَارِ لَا ظَرْفَ لَهُ ; لِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاقِعٌ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَالْآزِفَةُ الْقِيَامَةُ. أَيْ: أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَعْنَى خَوِّفْهُمْ إِيَّاهُ وَهَدِّدْهُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعِظَامِ لِيَسْتَعِدُّوا لِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْقِيَامَةِ بِـ الْآزِفَةِ لِأَجْلِ أُزُوفِهَا أَيْ: قُرْبِهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ بِكَسْرِ الزَّايِ، يَأْزَفُ بِفَتْحِهَا، أَزَفًا بِفَتْحَتَيْنِ، عَلَى الْقِيَاسِ، وَأُزُوفًا فَهُوَ آزِفٌ، عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ، فِي الْمَصْدَرِ الْأَخِيرِ، وَالْوَصْفُ بِمَعْنَى قَرُبَ وَقْتُهُ وَحَانَ وُقُوعُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ وَيُرْوَى أَفِدَ التَّرَحُّلُ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَالْمَعْنَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْقَرِيبُ مَجِيؤُهَا وَوُقُوعُهَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ اقْتِرَابِ قِيَامِ السَّاعَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [53 \ 57 - 58] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ الْآيَةَ [54 \ 1] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الْآيَةَ [21 \ 1] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَحْزَابِ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [33 \ 63] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الشُّورَى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [42 \ 17] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [16 \ 1] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ إِذْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمٍ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْعُولِ بِهِ لَا الْمَفْعُولِ فِيهِ، كَمَا بَيَّنَّا آنِفًا. وَالْقُلُوبُ: جَمْعُ قَلْبٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَلَدَى: ظَرْفٌ بِمَعْنَى عِنْدَ. وَالْحَنَاجِرُ: جَمْعُ حَنْجَرَةٍ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُلُوبِ لَدَى الْحَنَاجِرِ، فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِيهِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ ; مِنْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ يَوْمَئِذٍ تَرْتَفِعُ مِنْ أَمَاكِنِهَا فِي الصُّدُورِ، حَتَّى تَلْتَصِقَ بِالْحُلُوقِ، فَتَكُونُ لَدَى الْحَنَاجِرِ، فَلَا هِيَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلَا هِيَ تَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا فِي الصُّدُورِ فَيَتَنَفَّسُوا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ الْقُلُوبِ لَدَى الْحَنَاجِرِ، بَيَانُ شِدَّةِ الْهَوْلِ، وَفَظَاعَةِ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [33 \ 10 - 11] وَهُوَ زِلْزَالُ خَوْفٍ وَفَزَعٍ لَا زِلْزَالُ حَرَكَةِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَاظِمِينَ مَعْنَاهُ مَكْرُوبِينَ مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا وَغَمًّا وَحُزْنًا. وَالْكَظْمُ: تَرَدُّدُ الْخَوْفِ وَالْغَيْظِ وَالْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى يَمْتَلِئَ مِنْهُ، وَيَضِيقَ بِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: كَظَمْتُ السِّقَاءَ إِذَا مَلَأْتُهُ مَاءً، وَشَدَدْتُهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ كَاظِمِينَ، أَيْ سَاكِتِينَ، لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالْغَمَّ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْكَظْمِ عَلَى السُّكُوتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 قَوْلُ الْعَجَّاجِ: وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ وَيَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: كَاظِمِينَ أَيْ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ اللَّهُ، وَقَالَ الصَّوَابَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [78 \ 38] . وَقَوْلُهُ: كَاظِمِينَ حَالٌ مِنْ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَعْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ، أَيْ: إِذْ قُلُوبُهُمْ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ كَاظِمِينَ، أَيْ: مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا وَغَمًّا وَحُزْنًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ نَفْسِ الْقُلُوبِ ; لِأَنَّهَا وُصِفَتْ بِالْكَظْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ أَصْحَابِهَا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [12 \ 4] فَإِنَّهُ أَطْلَقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَلَى الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ صِفَةَ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وَالْمُسَوِّغُ لِذَلِكَ وَصْفُهُ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِصِفَةِ الْعُقَلَاءِ الَّتِي هِيَ السُّجُودُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [26 \ 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [41 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ وَفِي غَيْرِهَا وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ أَيْضًا مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِآيَاتِهِ وَحُجَجِهِ الْوَاضِحَةِ كَالْعَصَا وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 فَكَذَّبُوهُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ سَاحِرٌ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى، فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا [7 \ 132] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [20 \ 71] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [26 \ 34] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَاذَ بِرَبِّهِ، أَيِ: اعْتَصَمَ بِهِ، وَتَمْنَّعُ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ، أَيْ: مُتَّصِفٍ بِالْكِبْرِ، لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، أَيْ لَا يُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَسَبَبُ عِيَاذِ مُوسَى بِرَبِّهِ الْمَذْكُورِ، أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لِقَوْمِهِ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [40 \ 26] . فَعِيَاذُ مُوسَى الْمَذْكُورُ بِاللَّهِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَارَةُ أَعَمَّ مِنْ خُصُوصِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَكَبِّرٌ، لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ، مِنْ عِيَاذِ مُوسَى بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ كَفِرْعَوْنَ وَعُتَاةِ قَوْمِهِ، ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى مُخَاطِبًا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ الْآيَةَ [44 \ 20] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ رَجُلًا مُؤْمِنًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَيْ: يُخْفِي عَنْهُمْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، أَنْكَرَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِرَادَتَهُمْ قَتْلَ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الْآيَةَ [40 \ 26] . مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ، يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْلَ، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّنْكِيلَ بِهِمْ، وَإِخْرَاجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَيَقُولُونَ: رَبُّنَا اللَّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، الَّذِينَ حَرَّقُوا الْمُؤْمِنِينَ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [85 \ 4 - 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [22 \ 39 - 40] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً لِفِرْعَوْنَ، وَصَارُوا مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ، لَمَّا هَدَّدَهُمْ فِرْعَوْنُ قَائِلًا: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [7 \ 124] أَنَّهُمْ أَجَابُوهُ، بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فِي قَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا [7 \ 125 - 126] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جَمَاعَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» . فَدَعْوَى أَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ وَأَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقِدِيمًا وَتَأْخِيرًا. وَأَنَّ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَكْتُمُ) ، أَيْ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أَيْ يُخْفِي إِيمَانَهُ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ خِلَافَ التَّحْقِيقِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي قَالَ لِمُوسَى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ [28 \ 20] وَقِيلَ غَيْرُهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْمِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَقِيلَ: اسْمُهُ حَبِيبٌ، وَقِيلَ: اسْمُهُ شَمْعَانُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ حِزْقِيلُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ فِي إِعْرَابِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مَنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، وَدَفَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ؟ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ. الظَّاهِرُ أَنَّ أَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِلْمِيَّةٌ عِرْفَانِيَّةٌ، تَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وَظَنِّ تُهْمَهْ تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُعَلِّمُكُمْ وَأُعَرِّفُكُمْ مِنْ حَقِيقَةِ مُوسَى وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ، خَوْفَ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، وَيُظْهِرَ الْفَسَادَ فِي أَرْضِكُمْ، إِلَّا مَا أَرَى، أَيْ: أَعْلَمُ وَأَعْرِفُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ فَمَا أُخْفِي عَنْكُمْ خِلَافَ مَا أُظْهِرُهُ لَكُمْ، وَمَا أَهْدِيكُمْ بِهَذَا إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، أَيْ: طَرِيقَ السَّدَادِ وَالصَّوَابِ. وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَاذِبٌ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى كَذِبَهُ فِيهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَوْضَحَ فِيهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ وَيَتَيَقَّنُ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَهُ بِهَا مُوسَى حَقٌّ، وَأَنَّهَا مَا أَنْزَلَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّهُ جَحَدَهَا هُوَ وَمَنِ اسْتَيْقَنَهَا مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ لِيَسْتَخِفُّوا بِهَا عُقُولَ الْجَهَلَةِ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [27 \ 12 - 14] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [17 \ 102] فَقَوْلُ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُؤَكِدًا إِخْبَارَهُ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ عَالِمٌ بِذَلِكَ بِالْقَسَمِ، وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى. وَكَانَ غَرَضُ فِرْعَوْنَ بِهَذَا الْكَذِبِ التَّدْلِيسَ وَالتَّمْوِيهَ ; لِيَظُنَّ جَهَلَةُ قَوْمِهِ أَنَّ مَعَهُ الْحَقَّ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [43 \ 54] . وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى كَذِبَهُ فِيهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [11 \ 97] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [20 \ 79] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى أَيْ: مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِمَا أَرَى لِنَفْسِي، مِنْ قَتْلِ مُوسَى. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَنْ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُضَاعَفُ وَلَا تُجْزَى إِلَّا بِمِثْلِهَا، بَيَّنَهَا وَبَيَّنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ رُبَّمَا ضُوعِفَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [17 \ 75] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نِسَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [33] إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [27 \ 90] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَبَيَّنَّا الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَأَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [16 \ 97] . وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [18 \ 2 - 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ. الظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ قَوْلِهِ تَدْعُونَنِي تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ; لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ دَعْوَةٌ إِلَى النَّارِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ مُسْتَوْجِبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [5 \ 72] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ ذَلِكَ، فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [22 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ كَلَامِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِمُوسَى فِيهِ دَخْلٌ. وَقَوْلُهُ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُونَ صِحَّةَ مَا كَانَ يَقُولُ لَهُمْ، وَيَذْكُرُونَ نَصِيحَتَهُ، فَيَنْدَمُونَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ تَنْكَشِفُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقَائِقُ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا - كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [6 \ 66 - 67] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [38 \ 88] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [78 \ 4 - 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [102 \ 3 - 4] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [50 \ 22] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [40 \ 44 - 45] دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ الصَّادِقَ عَلَى اللَّهِ، وَتَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ سَبَبٌ لِلْحِفْظِ وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: سَهَا فَسَجَدَ، أَيْ: سَجَدَ لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، وَسَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ سَبَبًا لِلْحِفْظِ، وَالْوِقَايَةِ مِنَ السُّوءِ، جَاءَ مُبِيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [65 \ 3] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [3 \ 173 - 174] . وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ بِكَثْرَةٍ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [17 \ 2] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [40 \ 45] مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَكْرِهِمْ، أَيْ: أَضْرَارَ مَكْرِهِمْ وَشَدَائِدَهُ، وَالْمَكْرُ: الْكَيْدُ. فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ أَرَادُوا أَنْ يَمْكُرُوا بِهَذَا الْمُؤْمِنِ الْكَرِيمِ وَأَنَّ اللَّهَ وَقَاهُ، أَيْ حَفِظَهُ وَنَجَّاهُ، مِنْ أَضْرَارِ مَكْرِهِمْ وَشَدَائِدِهِ بِسَبَبِ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ، وَتَفْوِيضِهِ أَمْرَهُ إِلَيْهِ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ مَعَ مُوسَى وَقَوْمِهِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: صَعِدَ جَبَلًا فَأَعْجَزَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ وَنَجَّاهُ مِنْهُمْ، وَكُلُّ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ وَقَاهُ سَيِّئَاتِ مَكْرِهِمْ، أَيْ حَفِظَهُ وَنَجَّاهُ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَمْكُرُوا بِهَذَا الْمُؤْمِنِ وَقَاهُ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، وَرَدَّ الْعَاقِبَةَ السَّيِّئَةَ عَلَيْهِمْ، فَرَدَّ سُوءَ مَكْرِهِمْ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُ الْمَذْكُورُ نَاجِيًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ هَالِكِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْبَرْزَخِ. فَقَالَ فِي هَلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ، وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي مَصِيرِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [40 \ 46] . وَقَالَ فِي عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [40 \ 46] . وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ حَيْقِ الْمَكْرِ السَّيِّئِ بِالْمَاكِرِ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 43] . وَالْعَرَبُ تَقُولُ حَاقَ بِهِ الْمَكْرُوهُ يَحِيقُ بِهِ حَيْقًا وَحُيُوقًا، إِذَا نَزَلَ بِهِ وَأَحَاطَ بِهِ، وَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى إِحَاطَةِ الْمَكْرُوهِ خَاصَّةً. يُقَالُ: حَاقَ بِهِ السُّوءُ وَالْمَكْرُوهُ، وَلَا يُقَالُ: حَاقَ بِهِ الْخَيْرُ، فَمَادَّةُ الْحَيْقِ مِنَ الْأَجْوَفِ الَّذِي هُوَ يَائِيُّ الْعَيْنِ، وَالْوَصْفُ مِنْهُ حَائِقٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَوْطَأَ جُرْدَ الْخَيْلِ عُقْرَ دِيَارِهِمْ ... وَحَاقَ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ ضَبَّةَ حَائِقُ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ وَزْنَ السَّيِّئَةِ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ فَيْعَلَةٌ مِنَ السُّوءِ، فَأُدْغِمَتْ يَاءُ الْفَيْعَلَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْوَاوِ، الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، بَعْدَ إِبْدَالِ الْوَاوِ يَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا ... وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا فَيَاءُ الْوَاوِ فَلَيِّنْ مُدْغِمَا ... وَشَذَّ مُعْطِي غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ أَصْلُهُ يَتَفَاعَلُونَ مِنَ الْحُجَّةِ أَيْ: يَخْتَصِمُونَ، وَيَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [38 \ 64] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [34 \ 31 - 33] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [7 \ 38 - 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [2 \ 166 - 167] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ [14 \ 21 - 22] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ أَهْلَ النَّارِ طَلَبُوا مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمُ اللَّهَ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ عَذَابِ النَّارِ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ أَنَّهُمْ نَادَوْا مَالِكًا خَاصَّةً مِنْ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ: لِيُمِيتَهُمْ فَيَسْتَرِيحُوا بِالْمَوْتِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، أَنَّهُمْ لَا يُحَابُونَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ; فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، الَّذِي سَأَلُوا تَخْفِيفَهُ، فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْمَوْتُ الَّذِي سَأَلُوهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي عَدَمِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 هَذِهِ الْآيَةِ: أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [40 \ 50] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [35 \ 36] وَقَالَ تَعَالَى: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [78] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [43 \ 75] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [25 \ 65] وَقَالَ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [25 \ 77] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [3 \ 88] . وَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [5 \ 37] . وَقَالَ تَعَالَى فِي عَدَمِ مَوْتِهِمْ فِي النَّارِ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [35 \ 36] . وَقَالَ تَعَالَى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [14 \ 17] . وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [4 \ 56] . وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [20 \ 74] . وَقَالَ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [87 \ 11 - 13] وَلِمَا قَالُوا: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [43 \ 77] أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [43 \ 77] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ الْآيَةَ [3 \ 14] ، وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [37 \ 171 - 172] وَسَتَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي آتَيْنَا وَأَوْرَثْنَا لِلتَّعْظِيمِ. وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْرَاةُ مِنَ الْهُدَى فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ: وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَهُوَ التَّوَرَاةُ، وَقَوْلُهُ: هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْهُدَى وَالتَّذْكِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُدًى حَالٌ، وَوُرُودُ الْمَصْدَرِ الْمُنْكَّرِ حَالًا مَعْرُوفٌ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَصْدَرٍ مُنَكَّرٍ حَالًا يَقَعْ بِكَثْرَةٍ كَـ بَغْتَةً زِيدٌ طَلَعْ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُدًى بَدَلٌ مِنَ الْكِتَابِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَأَنْزَلَ فِيهَا الْهُدَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [17 \ 2] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [32 \ 23] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ [5 \ 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [28 \ 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [6 \ 154] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [7 \ 145] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [7 \ 13] ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ بَعْضَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْكِبَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَأَوْضَحْنَا كُلَّ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ النَّحْلِ، وَأَحَلْنَا عَلَى مَوَاضِعِ ذَلِكَ مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ الْآيَةَ [11 \ 24] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ مَعْنَاهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ ص فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [38 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ: اعْبُدُونِي أُثِبْكُمْ مِنْ عِبَادَتِكُمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أَيِ: اسْأَلُونِي أُعْطِكُمْ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [2 \ 186] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [25 \ 47] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [17 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [22 \ 5] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [16 \ 40] . وَبَيَّنَّا أَوْجُهَ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: فَيَكُونُ هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا جَلَّ وَعَلَا عَدَدَ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [15 \ 43 - 44] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَصَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْبَاءَ بَعْضِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 الرُّسُلِ ; أَيْ: كَنُوحٍ وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، وَمُوسَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ أَنْبَاءَ رُسُلٍ آخَرِينَ، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [4 \ 164] ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الْآيَةَ [14 \ 9] . وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [25 \ 38] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ. قَوْلُهُ هُنَا: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ أَيْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [16 \ 1] أَيْ: فَإِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ حَيْفٌ وَلَا جَوْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [39 \ 69] . وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [39 \ 75] . وَالْحُقُّ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: هُوَ الْمُرَادُ بِالْقِسْطِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [10 \ 47] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [45 \ 27] . وَالْمُبْطِلُ هُوَ: مَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْبَاطِلِ. وَخُسْرَانُ الْمُبْطِلِينَ الْمَذْكُورُ هُنَا قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [10 \ 45] . قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَةَ جَعَلَ تَأْتِي فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ ; ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ: الْأَوَّلُ: إِتْيَانُ جَعَلَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [43 \ 19] أَيِ: اعْتَقَدُوهُمْ إِنَاثًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ تَنْصِبُ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ. الثَّانِي: جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، كَقَوْلِهِ: حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [21 \ 15] وَهَذِهِ تَنْصِبُ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ أَيْضًا. الثَّالِثُ: جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [6 \ 1] أَيْ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَخَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ هُنَا: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ أَيْ: خَلَقَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ [16 \ 5] ، وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا الْآيَةَ [36 \ 71] . الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ جَعَلَ بِمَعْنَى شَرَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهَضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِنَ الِامْتِنَانِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ، الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا بِسَبَبِ خَلْقِهِ لَهُمُ الْأَنْعَامَ وَهِيَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [3 \ 14] بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [16 \ 5 - 7] . وَالدِّفْءُ مَا يَتَدَفَّئُونَ بِهِ فِي الثِّيَابِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [16 \ 80] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [36 \ 71 - 73] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [61 \ 66] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [23 \ 21 - 22] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [6 \ 142 - 144] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39 \ 6] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [42 \ 11] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ الْآيَةَ [43 \ 12] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. قَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَبَيَّنَّا مَوَاضِعَهَا فِي سُورَةِ الرُّومِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [10 \ 51] ، وَفِي سُورَةِ ص فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [38 \ 3] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فُصِّلَتْ قَوْلُهُ تَعَالَى: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَاب ٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ. (كِتَابٌ) خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا كِتَابٌ، وَالْكِتَابُ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَكْتُوبٌ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ (كِتَابٌ) لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [85 \ 21 - 22] . وَمَكْتُوبٌ أَيْضًا فِي صُحُفٍ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ ; كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [80 \ 11 - 16] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الصُّحُفُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا الْقُرْآنُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [98 \ 2 - 3] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فُصِّلَتْ آيَاتُهُ التَّفْصِيلُ ضِدُّ الْإِجْمَالِ، أَيْ فَصَّلَ اللَّهُ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ، أَيْ بَيَّنَهَا وَأَوْضَحَ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَالْمُسَوِّغُ لِحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فُصِّلَتْ آيَاتُهُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ تَفْصِيلَ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَفْصِيلِ آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مُبَيَّنًا فِيهَا أَنَّ اللَّهَ فَصَّلَهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ، وَأَنَّ الَّذِي فَصَّلَهُ حَكِيمٌ خَبِيرٌ، وَأَنَّهُ فَصَّلَهُ لِيَهْدِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 بِهِ النَّاسَ وَيَرْحَمَهُمْ، وَأَنَّ تَفْصِيلَهُ شَامِلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 52] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [11 \ 1] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [10 \ 37] ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [11 \ 111] ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [6 \ 114] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ قَوْلُهُ: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [39 \ 28] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [41 \ 3] أَيْ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) . وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِهِ، كَمَا خَصَّهُمْ بِتَفْصِيلِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [10 \ 5] وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [6 \ 97 - 98] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمُنْتَفِعِينَ بِالْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [35 \ 18] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالْإِنْذَارِ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي آيَةِ «فَاطِرٍ» هَذِهِ، وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «يس» : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [36 \ 11] ، وَقَوْلِهِ فِي النَّازِعَاتِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [79 \ 45] ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 الْآيَةَ [6 \ 51] . مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْإِنْذَارِ عَامٌّ شَامِلٌ لِلْمَذْكُورِينَ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] . وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَذْكُورِينَ بِالْإِنْذَارِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْإِنْذَارِ، وَمَنْ لَمْ يُنْذَرْ أَصْلًا - سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [36 \ 10] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَشِيرًا وَنَذِيرًا [41 \ 4] حَالٌ بَعْدَ حَالٍ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَبَعْضَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [18 \ 2] ، وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 2] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [36 \ 7] وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [6 \ 116] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ وَانْتِفَاعٍ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ الْآيَةَ [27 \ 80] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ. ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ صَرَّحُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ ; فَقَالُوا لَهُ: قُلُوبُنَا الَّتِي نَعْقِلُ بِهَا وَنَفْهَمُ (فِي أَكِنَّةٍ) أَيْ أَغْطِيَةٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ، وَهُوَ الْغِطَاءُ وَالْغِلَافُ الَّذِي يُغَطِّي الشَّيْءَ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَيَعْنُونَ أَنَّ تِلْكَ الْأَغْطِيَةَ مَانِعَةٌ لَهُمْ مِنْ فَهْمِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالُوا: إِنَّ فِي آذَانِهِمُ الَّتِي يَسْمَعُونَ بِهَا وَقْرًا، أَيْ ثِقَلًا، وَهُوَ الصَّمَمُ، وَإِنَّ ذَلِكَ الصَّمَمَ مَانِعٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا وَمِمَّا يَقُولُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [41 \ 26] . وَأَنَّ مِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَهُ حِجَابًا مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الِاتِّصَالِ وَالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِجَابَ يَحْجُبُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ مَا يُبْدِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَقِّ. وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، مَعَ أَنَّهُ - تَعَالَى - صَرَّحَ بِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْأَكِنَّةَ، وَفِي آذَانِهِمُ الْوَقْرَ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِ حِجَابًا عِنْدَ قِرَاءَتِهِ الْقُرْآنَ، قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» : وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [17 \ 45 - 46] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [6 \ 25] . وَقَالَ - تَعَالَى - «فِي الْكَهْفِ» : إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [18 \ 57] . وَهَذَا الْإِشْكَالُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَوِيٌّ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ مُشْكِلًا ظَاهِرٌ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - ذَمَّهُمْ عَلَى دَعْوَاهُمُ الْأَكِنَّةَ وَالْوَقْرَ وَالْحِجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ «فُصِّلَتْ» ، وَبَيَّنَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى أَنَّ مَا ذَمَّهُمْ عَلَى ادِّعَائِهِ وَاقِعٌ بِهِمْ فِعْلًا، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِمْ. فَيُقَالُ: فَكَيْفَ يُذَمُّونَ عَلَى قَوْلِ شَيْءٍ هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؟ وَالتَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْأَكِنَّةَ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ الْوَقْرَ فِي آذَانِهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ مِنَ الْهُدَى - بِسَبَبِ أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ الْأَعْظَمِ طَمْسَ الْبَصِيرَةِ، وَالْعَمَى عَنِ الْهُدَى، جَزَاءً وِفَاقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 فَالْأَكِنَّةُ وَالْوَقْرُ وَالْحِجَابُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ. وَمِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ تَمَادِي صَاحِبِهَا فِي الضَّلَالِ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ. وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَعْنَى هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] . فَقَوْلُ الْيَهُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ كَقَوْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ; لِأَنَّ الْغُلْفَ جَمْعُ أَغْلُفَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِلَافٌ، وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ، وَالْغِلَافُ وَالْكِنَانُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْغِطَاءِ السَّاتِرِ. وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ دَعْوَاهُمْ بِ (بَلِ) الَّتِي هِيَ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ، فِي قَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] . فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِكُفْرِهِمْ) سَبَبِيَّةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ كَفْرُهُمْ، وَالْأَكِنَّةُ وَالْوَقْرُ وَالطَّبْعُ كُلُّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [63 \ 3] ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَطُبِعَ) سَبَبِيَّةٌ، أَيْ ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكُفْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ. وَكَذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ فَهِيَ سَبَبِيَّةٌ أَيْضًا، أَيْ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الطَّبْعِ (لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ بَرَاهِينِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ شَيْئًا. وَذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّبْعَ وَالْأَكِنَّةَ يَئُولُ مَعْنَاهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ عَدَمِ الْفَهْمِ. لِأَنَّهُ قَالَ فِي الطَّبْعِ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ. وَقَالَ فِي الْأَكِنَّةِ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [6 \ 25] أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ لِأَجْلِ أَلَّا يَفْقَهُوهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] فَبَيَّنَ أَنَّ زَيْغَهُمُ الْأَوَّلَ كَانَ سَبَبًا لِإِزَاغَةِ اللَّهِ قُلُوبَهُمْ، وَتِلْكَ الْإِزَاغَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْأَكِنَّةِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [2 \ 10] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [6 \ 110] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [9 \ 125] . وَإِيضَاحُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إِخْبَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بِوَجْهٍ، وَلَا يَتَّبِعُونَهُ بِحَالٍ، وَلَا يُقِرُّونَ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ كَوْنُ كُفْرِهِمْ هَذَا هُوَ الْجَرِيمَةُ وَالذَّنْبُ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي الْأَكِنَّةِ وَالْوَقْرِ وَالْحِجَابِ. فَدَعْوَاهُمْ كَاذِبَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ قُلُوبًا يَفْهَمُونَ بِهَا، وَآذَانًا يَسْمَعُونَ بِهَا، خِلَافًا لِمَا زَعَمُوا، وَلَكِنَّهُ سَبَّبَ لَهُمُ الْأَكِنَّةَ وَالْوَقْرَ وَالْحِجَابَ بِسَبَبِ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحَهُ رَدُّهُ - تَعَالَى - عَلَى الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ. وَقَدْ حَاوَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْجَوَابَ عَلَى الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ - تَعَالَى - حَكَى هَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، فَقَالَ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [2 \ 88] ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِعَيْنِهَا فِي مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَقَالَ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [6 \ 25] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَا هُنَا إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا الَّذِي ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا إِذَا كُنَّا كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُنَا وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْنَا، وَهَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ. اهـ مِنْهُ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) - فَائِدَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ، لَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ حِجَابًا حَاصِلٌ وَسَطَ الْجِهَتَيْنِ. وَأَمَّا بِزِيَادَةِ (مِنْ) فَالْمَعْنَى أَنَّ حِجَابًا ابْتَدَأَ مِنَّا وَابْتَدَأَ مِنْكَ، فَالْمَسَافَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ لِجِهَتِنَا وَجِهَتِكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالْحِجَابِ، لَا فَرَاغَ فِيهَا. انْتَهَى مِنْهُ. وَاسْتَحْسَنَ كَلَامَهُ هَذَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، فَأَوْضَحَ سُقُوطَهُ، وَالْحَقُّ مَعَهُ فِي تَعَقُّبِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ وَإِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [17 \ 45] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مَلَكٌ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُ: مِثْلُكُمْ فِي الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي بِمَا أَوْحَى إِلَيَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ. كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [14 \ 11] أَيْ كَمَا مَنَّ عَلَيْنَا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ. وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [18 \ 110] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وَقَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَ حَصْرِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَضْمُونِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ إِنْكَارَ الْمُشْرِكِينَ كَوْنَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ ص، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [38 \ 4] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَى قَوْلِهِ: لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [17 \ 94 - 95] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ. قَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالْوَيْلِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِالْآخِرَةِ، وَعَدَمِ إِيتَائِهِمُ الزَّكَاةَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْآيَةِ هِيَ زَكَاةُ الْمَالِ الْمَعْرُوفَةُ، أَوْ زَكَاةُ الْأَبْدَانِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي. وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ ; لِأَنَّ سُورَةَ فُصِّلَتْ هَذِهِ مِنَ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَزَكَاةُ الْمَالِ الْمَعْرُوفَةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [6 \ 141] . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ. أَعْنِي امْتِثَالَ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابَ نَوَاهِيهِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُعَذَّبُونَ عَلَى الْمَعَاصِي - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [74 \ 42 - 47] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 فَصَرَّحَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ أَنَّ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَلَكَتْهُمْ فِي سَقَرَ - أَيْ أَدْخَلَتْهُمُ النَّارَ - عَدَمُ الصَّلَاةِ، وَعَدَمُ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَعْدَّ ذَلِكَ مَعَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [69 \ - 32] ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [69 \ 33 - 36] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. الْأَجْرُ جَزَاءُ الْعَمَلِ، وَجَزَاءُ عَمَلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ الْجَزَاءُ (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَالْمَمْنُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْهُ بِمَعْنَى قَطَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ ... غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا فَقَوْلُهُ: مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا، أَيْ مَا يُقْطَعُ. وَقَوْلُ ذِي الْأُصْبُعِ: إِنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ ... عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَجَرَهُمْ غَيْرُ مَمْنُونٍ - نَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [84 \ 25] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التِّينِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [95 \ 6] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ هُودٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] . فَقَوْلُهُ: (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وَ (غَيْرَ مَمْنُونٍ) - مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ص» : إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] أَيْ مَا لَهُ مِنِ انْتِهَاءٍ وَلَا انْقِطَاعٍ. وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ بِهِ. وَعَلَيْهِ ; فَالْمَنُّ فِي الْآيَةِ مِنْ جِنْسِ الْمَنِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [2 \ 264] . وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غَيْرُ مَنْقُوصٍ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْمَمْنُونَ عَلَى الْمَنْقُوصِ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فَضْلُ الْجِيَادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا ... يُعْطَى بِذَلِكَ مَمْنونًا وَلَا نَزَقَا فَقَوْلُهُ: مَمْنُونًا، أَيْ مَنْقُوصًا. وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ لُغَةً، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ. بَلْ مَعْنَاهَا هُوَ مَا قَدَّمْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَتَتِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ حَاصِلَةٌ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ قَالَ: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. ثُمَّ قَالَ: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 12] فَتَضُمُّ الْيَوْمَيْنِ إِلَى الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا - سِتَّةَ أَيَّامٍ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - صَرَّحَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [25 \ 59] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي السَّجْدَةِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [32 \ 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ق» : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [50 \ 38] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 [7 \ 54] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَوْ لَمْ يُفَسَّرْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ - لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ إِذَا فُسِّرَ بِأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ جُمِعَتْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَتْ فِيهِمَا الْأَرْضُ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 9] ، وَالْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَتْ فِيهِمَا السَّمَاوَاتُ الْمَذْكُورَيْنَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 12]- لَكَانَ الْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالنُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ صِحَّةُ التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَصِحَّةُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [16 \ 15] ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَارَكَ فِيهَا أَيْ أَكْثَرَ فِيهَا الْبَرَكَاتِ، وَالْبَرَكَةُ الْخَيْرُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا. التَّقْدِيرُ وَالْخَلْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَالْأَقْوَاتُ جَمْعُ قُوتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْوَاتِ أَرْزَاقُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَمَعَايِشُهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» أَنَّ آيَةَ «فُصِّلَتْ» هَذِهِ، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يُفْهَمُ مِنْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ بِـ (ثُمَّ) قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ إِلَى قَوْلِهِ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ مَعَ بَعْضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّازِعَاتِ» : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [79 \ 27 - 30] . فَقُلْنَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [2 \ 29] ، الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، بِدَلِيلِ لَفْظَةِ (ثُمَّ) الَّتِي هِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالِانْفِصَالِ. وَكَذَلِكَ آيَةِ «حم السَّجْدَةِ» تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ. مَعَ أَنَّ آيَةَ «النَّازِعَاتِ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَحْوَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ آيَةِ «السَّجْدَةِ» وَآيَةِ «النَّازِعَاتِ» فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا قَبْلَ السَّمَاءِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَالْأَنْهَارَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَأَصْلُ خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوُهَا بِجِبَالِهَا وَأَشْجَارِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وَلَمْ يَقُلْ: خَلَقَهَا، ثُمَّ فَسَّرَ دَحْوَهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [79 \ 31] ، وَهَذَا الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَّا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ مِنْ آيَةِ «الْبَقَرَةِ» هَذِهِ. وَإِيضَاحُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بِأَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوَهَا بِمَا فِيهَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ الْآيَةَ. وَقَدْ مَكَثْتُ زَمَنًا طَوِيلًا أُفَكِّرُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ إِلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَفَهِمْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ مَرْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ - الْخَلْقُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ التَّقْدِيرُ، لَا الْخَلْقُ بِالْفِعْلِ، الَّذِي هُوَ الْإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي التَّقْدِيرَ خَلْقًا. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخَلْقِ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ - تَعَالَى - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» ; حَيْثُ قَالَ: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ وَهِيَ أَصْلٌ لِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ كُلَّ مَا فِيهَا كَأَنَّهُ خُلِقَ بِالْفِعْلِ لِوُجُودِ أَصْلِهِ فِعْلًا. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْأَصْلِ يُمْكِنُ بِهِ إِطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى الْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ الْآيَةَ [7 \ 11] ، فَقَوْلُهُ: خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ بِخَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُكُمْ. وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَيْ مَعَ ذَلِكَ، فَلَفْظَةُ (بَعْدَ) بِمَعْنَى مَعَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ وَعَلَيْهِ ; فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ. وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ - وَبِهَا قَرَأَ مُجَاهِدٌ -: (وَالْأَرْضَ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا) . وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ ; لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. مِنْهَا: أَنَّ (ثُمَّ) بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [90 \ 17] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا. الْمَصَابِيحُ: النُّجُومُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَزْيِينِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالنُّجُومِ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا [6 \ 97] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحِفْظًا قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الْآيَةَ [15 \ 17] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «ص» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [38 \ 4] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ. الصَّرْصَرُ: وَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فَعَفَلُ» ، وَفِي مَعْنَى الصَّرْصَرِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّيحَ الصَّرْصَرَ هِيَ الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ الَّتِي يُسْمَعُ لِهُبُوبِهَا صَوْتٌ شَدِيدٌ، وَعَلَى هَذَا ; فَالصَّرْصَرُ مِنَ الصَّرَّةِ الَّتِي هِيَ الصَّيْحَةُ الْمُزْعِجَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أَيْ فِي صَيْحَةٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى صَرِيرُ الْبَابِ وَالْقَلَمِ، أَيْ صَوْتُهُمَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّرْصَرَ مِنَ الصَّرِّ الَّذِي هُوَ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُحْرِقُ، وَمِنْهُ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ الْآيَةَ [3 \ 117] ، أَيْ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَرُّ ... وَالرِّيحَ يَا وَاقِدُ رِيحٌ صِرُّ عَلَّ يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُرُّ ... إِنْ جَلَبَتْ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُرّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 فَقَوْلُهُ: رِيحٌ صِرٌّ، أَيْ بَارِدَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ، وَأَنَّ الرِّيحَ الْمَذْكُورَةَ جَامِعَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَهِيَ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، بَارِدَةٌ شَدِيدةُ الْبَرْدِ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ إِهْلَاكِهِ عَادًا بِهَذِهِ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ، فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ النَّحِسَاتِ - أَيِ الْمَشْئُومَاتِ النَّكِدَاتِ; لِأَنَّ النَّحْسَ ضِدُّ السَّعْدِ، وَهُوَ الشُّؤْمُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي بَعْضِهَا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [69 \ 6 - 8] ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [51 \ 41 - 42] ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [54 \ 19 - 20] ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا الْآيَةَ [46 \ 24 - 25] . وَهَذِهِ الرِّيحُ الصَّرْصَرُ هِيَ الْمُرَادُ بِصَاعِقَةِ عَادٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ الْآيَةَ [41 \ 13] . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ (نَحْسَاتٍ) بِسُكُونِ الْحَاءِ; وَعَلَيْهِ فَالنَّحْسُ وَصْفٌ أَوْ مَصْدَرٌ، نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْوَصْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ (نَحِسَاتٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى النَّحِسَاتِ الْمَشْئُومَاتُ النَّكِدَاتُ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: فِي يَوْمِ نَحْسٍ [54 \ 19] . قَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 النَّحْسُ الْبَلَاءُ وَالشِّدَّةُ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ زُهَيْرَ بْنَ أَبِي سُلْمَى يَقُولُ: سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ يَوْمٍ أَتَيْتُهُ ... أَسَاعَةَ نَحْسٍ تَتَّقِي أَمْ بِأَسْعَدِ وَتَفْسِيرُ النَّحْسِ بِالْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الشُّؤْمَ بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، وَمُقَابَلَةُ زُهَيْرٍ النَّحْسَ بِالْأَسْعَدِ فِي بَيْتِهِ يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ. وَيَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مِنْ آخَرِ شَوَّالٍ، وَأَنَّ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَآخِرَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ يَوْمَ النَّحْسِ الْمُسْتَمِرِّ هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرُ مِنَ الشَّهْرِ، أَوْ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ مُطْلَقًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنَ الْعَوَامِّ صَارُوا يَتَشَاءَمُونَ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّزَوُّجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيهِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ يَوْمُ نَحْسٍ وَشُؤْمٍ، وَأَنَّ نَحْسَهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ - لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ; لِأَنَّ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَادٍ فَقَطِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَاتَّصَلَ لَهُمْ عَذَابُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، فَصَارَ ذَلِكَ الشُّؤْمُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمُ اسْتِمْرَارًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ. أَمَّا غَيْرُ عَادٍ فَلَيْسَ مُؤَاخَذًا بِذَنْبِ عَادٍ ; لِأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَقَدْ أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا مَنْ ظَنَّ اسْتِمْرَارَ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ; لِنُبَيِّنَ أَنَّهَا لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا. قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. وَقَالَ: يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَيَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» .ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَوْمُ نَحْسٍ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَيَّامِ، وَسُئِلَ عَنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ: يَوْمُ نَحْسٍ. قَالُوا كَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَغْرَقَ فِيهِ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَأَهْلَكَ عَادًا وَثَمُودَ» . وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ فِي الْغَرَرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آخِرُ أَرْبِعَاءَ فِي الشَّهْرِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» . فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَأَمْثَالُهَا لَا تَدُلُّ عَلَى شُؤْمِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَعْصِهِ; لِأَنَّ أَغْلَبَهَا ضَعِيفٌ، وَمَا صَحَّ مَعْنَاهُ مِنْهَا فَالْمُرَادُ بِنَحْسِهِ شُؤْمُهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ الْعُصَاةِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَسَبَبُهُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي. أَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورِ - فَلَا نَحْسَ وَلَا شُؤْمَ فِيهِ عَلَيْهِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ وَالنَّكَدَ وَالْبَلَاءَ وَالشَّقَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَعَدَمِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى. قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَدَيْنَاهُمْ الْمُرَادُ بِالْهُدَى فِيهِ هُدَى الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ، لَا هُدَى التَّوْفِيقِ وَالِاصْطِفَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هِدَايَةَ تَوْفِيقٍ لَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُهَا عَنِ الْهُدَى إِلَى الْعَمَى. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أَيِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَآثَرُوهُ عَلَيْهِ، وَتَعَوَّضُوهُ مِنْهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ [9 \ 23] فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّوْبَةِ» هَذِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ هُنَا: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [14 \ 3] . فَلَفْظَةُ اسْتَحَبَّ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا مَا تَتَعَدَّى بِعَلَى; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى اخْتَارَ وَآثَرَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى - أَنَّ الْعَمَى الْكُفْرُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَى فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ الْكَافِرُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْهُدَى يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ - لَا يُنَافِي أَنَّ الْهُدَى قَدْ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى الْهُدَى الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ التَّوْفِيقُ وَالِاصْطِفَاءُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] . فَمِنْ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ الْهُدَى عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ هُنَا: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَأَمَرْنَاهُمْ بِسُلُوكِهَا، وَطُرُقِ الشَّرِّ وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْ سُلُوكِهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَالِحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أَيِ اخْتَارُوا الْكَفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ إِيضَاحِ الْحَقِّ لَهُمْ. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [76 \ 3] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُدَى تَوْفِيقٍ لَمَا قَالَ: وَإِمَّا كَفُورًا. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْخَاصِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [47 \ 17] . وَقَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [18 \ 17] . وَبِمَعْرِفَةِ هَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ تَتَيَسَّرُ إِزَالَةُ إِشْكَالٍ قُرْآنِيٍّ وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى -: أَثْبَتَ الْهُدَى لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] وَنَفَاهُ عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28 \ 56] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 فَيُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهُدَى الْمُثْبَتَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ، حَتَّى تَرَكَهَا لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا هَالِكٌ. وَالْهُدَى الْمَنْفِيُّ عَنْهُ فِي آيَةِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28 \ 56]- هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، الَّذِي هُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ بِيَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ الْآيَةَ [5 \ 41] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [16 \ 37] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ الْآيَةَ [2 \ 185]- لَا مُنَافَاةَ فِيهِ بَيْنَ عُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لِأَنَّ الْهُدَى الْعَامَّ لِلنَّاسِ هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، وَالْهُدَى الْخَاصُّ بِالْمُتَّقِينَ هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ. الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَأَخَذَتْهُمْ) سَبَبِيَّةٌ، أَيْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ أَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - عَبَّرَ عَنِ الْهَلَاكِ الَّذِي أَهْلَكَ بِهِ ثَمُودَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَذَكَرَهُ هَنَا بَاسِمِ الصَّاعِقَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ، وَقَوْلِهِ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [41 \ 31] . وَعَبَّرَ عَنْهُ أَيْضًا بِالصَّاعِقَةِ فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [51 \ 43 - 44] . وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالصَّيْحَةِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي إِهْلَاكِهِ ثَمُودَ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 [11 \ 67 - 68] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحِجْرِ» : وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [15 \ 82 - 83] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْقَمَرِ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [54 \ 31] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْعَنْكَبُوتِ» وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يَعْنِي بِهِ ثَمُودَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ الْآيَةَ [29 \ 38] . وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالرَّجْفَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الْآيَةَ [7 \ 77 - 51] . وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّدْمِيرِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [27 \ 51] . وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالطَّاغِيَةِ فِي «الْحَاقَّةِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [69 \ 5] . وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالدَّمْدَمَةِ فِي «الشَّمْسِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [91 \ 14] . وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَذَابِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [26 \ 157 - 158] . وَمَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ كُلِّهَا رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً أَهْلَكَتْهُمْ، وَالصَّيْحَةُ الصَّوْتُ الْمُزْعِجُ الْمُهْلِكُ. وَالصَّاعِقَةُ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الصَّوْتِ الْمُزْعِجِ الْمُهْلِكِ، وَعَلَى النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَعَلَيْهِمَا مَعًا، وَلِشِدَّةِ عِظَمِ الصَّيْحَةِ وَهَوْلِهَا مِنْ فَوْقِهِمْ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِمْ، أَيْ تَحَرَّكَتْ حَرَكَةً قَوِيَّةً، فَاجْتَمَعَ فِيهَا أَنَّهَا صَيْحَةٌ وَصَاعِقَةٌ وَرَجْفَةٌ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَدْمِيرًا وَاضِحٌ. وَقِيلَ لَهَا طَاغِيَةٌ ; لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ فِي الْقُوَّةِ وَشِدَّةِ الْإِهْلَاكِ. وَالطُّغْيَانُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ الْآيَةَ [69 \ 11] أَيْ جَاوَزَ الْحُدُودَ الَّتِي يَبْلُغُهَا الْمَاءُ عَادَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّاغِيَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [69 \ 5] أَنَّهَا الصَّيْحَةُ الَّتِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [69 \ 6] . خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاغِيَةَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِطُغْيَانِهِمْ، أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ، كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [91 \ 11] . وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاغِيَةَ هِيَ أَشْقَاهُمُ الَّذِي انْبَعَثَ فَعَقَرَ النَّاقَةَ، وَأَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِسَبَبِ فِعْلِهِ، وَهُوَ عَقْرُهُ النَّاقَةَ، وَكُلُّ هَذَا خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَالصَّوَابُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ [91 \ 14] فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ مَعْنَى دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، أَيْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ وَأَلْبَسَهُمْ إِيَّاهُ، بِسَبَبِ ذَنْبِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَعْنَى دَمْدَمَ: وَهُوَ مِنْ تَكْرِيرِ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مَدْمُومَةٌ، إِذَا أُلْبِسَهَا الشَّحْمُ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فَوَاضِحٌ، فَاتَّضَحَ رُجُوعُ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ - مِنَ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ ; لِأَنَّ الْهُونِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْهَوَانِ، وَالنَّعْتُ بِالْمَصْدَرِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا ... فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا وَهُوَ مُوَجَّهٌ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ الْعَذَابِ ذِي الْهُونِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، فَكَأَنَّ الْعَذَابَ لِشِدَّةِ اتِّصَافِهِ بِالْهَوَانِ اللَّاحِقِ بِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ - صَارَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهَوَانِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَالتَّوْكِيدِ فِي الْمَعْنَى ; لِقَوْلِهِ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ لِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَأَخَذَتْهُمْ) سَبَبِيَّةٌ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِمَا كَانُوا) سَبَبِيَّةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَهْلَكَ ثَمُودَ بِالصَّاعِقَةِ، وَنَجَّى مِنْ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «هُودٍ» فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [11 \ 66] ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّمْلِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [27 \ 45] إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ثَمُودَ» فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [27 \ 52 - 53] أَيْ وَهُمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ نَافِعٍ (يُحْشَرُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (أَعْدَاءُ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ، مِنَ السَّبْعَةِ (نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ) بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَضَمِّ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، (أَعْدَاءَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ وَاذْكُرْ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَيْ يُجْمَعُونَ إِلَى النَّارِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ أَعْدَاءً، وَأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ - جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ; فَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ لَهُ أَعْدَاءً، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ هُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ جَزَاءَهُمُ النَّارُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [2 \ 98] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [8 \ 60] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الْآيَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 [60 \ 1] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [20 \ 39] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ الْآيَةَ [41 \ 28] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ يُرَدُّ أَوَّلُهُمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَيَلْحَقُ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا جَمْيعًا، ثُمَّ يُدْفَعُونَ فِي النَّارِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَزَّعْتُ الْجَيْشَ، إِذَا حَبَسْتَ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ. وَأَصْلُ الْوَزَعِ الْكَفُّ، تَقُولُ الْعَرَبُ وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزَعًا فَهُوَ وَازِعٌ لَهُ، إِذَا كَفَّهُ عَنِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحَ وَالشَّيْبُ وَازِعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَلَنْ يَزَعَ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الْهَوَى ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرُ الْعَقْلِ كَامِلُهُ وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى (يُوزَعُونَ) أَيْ يَكُفُّ أَوَّلَهُمْ عَنِ التَّقَدُّمِ وَآخِرَهُمْ عَنِ التَّأَخُّرِ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا جَمِيعًا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ سَوْقًا عَنِيفًا، يُجْمَعُ بِهِ أَوَّلُهُمْ مَعَ آخِرِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ عِطَاشًا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [19 \ 86] . وَلَعَلَّ الْوَزَعَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ يَكُونُ فِي الزُّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ زُمَرِ أَهْلِ النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ زُمَرًا زُمَرًا، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا الْآيَةَ [39 \ 71] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [36 \ 65] . وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [4 \ 42] .ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا مَعَ قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «ص» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ. قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [16 \ 84] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ. لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قَيَّضْنَا عِبَارَاتٌ يَرْجِعُ بَعْضُهَا فِي الْمَعْنَى إِلَى بَعْضٍ. كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ أَيْ جِئْنَاهُمْ بِهِمْ، وَأَتَحْنَاهُمْ لَهُمْ. وَكَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ هَيَّأْنَا. وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ سَلَّطْنَا. وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَيْ بَعَثْنَا وَوَكَلْنَا. وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ سَبَّبْنَا. وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَدَرْنَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ; فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - هَيَّأَ لِلْكَافِرِينَ قُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَيُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، وَقَدَّرَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَالْقُرَنَاءُ: جَمْعُ قَرِينٍ، وَهُمْ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقَوْلُهُ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ - أَيْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى آثَرُوهُ عَلَى الْآخِرَةِ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 وَمَا خَلْفَهُمْ أَيْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَيَّضَ لِلْكُفَّارِ قُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى - بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ. وَزَادَ فِي بَعْضِهَا سَبَبَ تَقْيِيضِهِمْ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَعَ إِضْلَالِهِمْ لَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَنَّ الْكَافِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِينِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ بُعْدٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ يَذُمُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [43 \ 36 - 38] . فَتَرْتِيبُهُ قَوْلَهُ: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) عَلَى قَوْلِهِ: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) - تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ تَقْيِيضِهِ لَهُ هُوَ غَفْلَتُهُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [114 \ 4] لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ هُوَ كَثِيرُ الْوَسْوَسَةِ لِيُضِلَّ بِهَا النَّاسَ، وَالْخَنَّاسَ هُوَ كَثِيرُ التَّأَخُّرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ إِضْلَالِ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَنَسَ - بِالْفَتْحِ - يَخْنُسُ - بِالضَّمِّ - إِذَا تَأَخَّرَ. فَهُوَ وَسْوَاسٌ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، خَنَّاسٌ عِنْدَ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الزُّخْرُفِ» الْمَذْكُورَةُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100] لِأَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ - غَافِلُونَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ قَيَّضَهُ اللَّهُ لَهُمْ فَأَضَلَّهُمْ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقْيِيضِ الشَّيَاطِينِ لِلْكُفَّارِ لِيُضِلُّوهُمْ، قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [19 \ 83] وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ الْآيَةَ. وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَؤُزُّهُمْ أَزًّا. وَبَيَّنَّا أَيْضًا هُنَاكَ أَنَّ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [6 \ 128] أَيِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [7 \ 202] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 وَمِنْهَا أَيضًا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [36 \ 60 - 62] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : فَبِئْسَ الْقَرِينُ [43 \ 38] عَلَى أَنَّ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ «فُصِّلَتْ» وَآيَةِ «الزُّخْرُفِ» وَغَيْرِهِمَا - جَدِيرِينَ بِالذَّمِّ الشَّدِيدِ، وَقَدْ صَرَّحَ - تَعَالَى - بِذَلِكَ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [4 \ 38] لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَسَاءَ قَرِينًا بِمَعْنَى فَبِئْسَ الْقَرِينُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ «سَاءَ» وَ «بِئْسَ» فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجْعَلْ فِعْلًا ... مِنْ ذِي ثَلَاثَةٍ كَنِعْمَ مُسْجَلَا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ - يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَشَدَّ الضَّلَالِ أَحْسَنَ الْهُدَى، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [43 \ 37] وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [7] . وَبَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ الْفَاسِدِ هُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [18 \ 103 - 104] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ [43 \ 36] مِنْ قَوْلِهِمْ: عَشَا - بِالْفَتْحِ - عَنِ الشَّيْءِ يَعْشُو - بِالضَّمِّ - إِذَا ضَعُفَ بَصَرُهُ عَنْ إِدْرَاكِهِ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ أَعْمَى الْقَلْبِ، فَبَصِيرَتُهُ تَضْعُفُ عَنِ الِاسْتِنَارَةِ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ الْآيَةَ [36 \ 7] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [2 \ 93] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينِ قَالُوا: (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) - ذَكَرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَحْقَافِ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [46 \ 13 - 14] لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْوَعْدِ الصَّادِقِ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ - يَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ «فُصِّلَتْ» . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. قَدْ أَوْضَحْنَاهُ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [7 \ 199 - 200] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ الْآيَةَ [17 \ 12] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ الْآيَةَ [41 \ 37] . قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [27 \ 25] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا، أَيْ فَإِنْ تَكَبَّرَ الْكُفَّارُ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ) أَيْ يَعْبُدُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) أَيْ لَا يَمَلُّونَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ ; لِاسْتِلْذَاذِهِمْ لَهَا وَحَلَاوَتِهَا عِنْدَهُمْ، مَعَ خَوْفِهِمْ مِنْهُ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [13 \ 13] . وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ «فُصِّلَتْ» عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ خَلْقِهِ، فَإِنَّ بَعْضًا آخَرَ مِنْ خَلْقِهِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُطِيعُونَهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَيُلَازِمُونَ طَاعَتَهُ دَائِمًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ دَائِمًا لَا يَفْتُرُونَ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ دَلَّتْ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - قَدْ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: فَقَدْ ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [6 \ 89] . وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَقَدْ أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [21 \ 19 - 20] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «الْأَعْرَافِ» إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [7 \ 206] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ أَيْ لَا يَمَلُّونَ، وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مَعَ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَّا أَنَُُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 تِلْكَ الْآيَاتِ فِيهَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَكَرْنَا مَعَهَا الْآيَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ بَرَاهِينَ قُرْآنِيَّةٍ. ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مَعَ مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الْآيَةَ [15 \ 15] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 2] وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [17 \ 82] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [41 \ 7] وَفِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [27 \ 40] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ - ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا [3 \ 182] . وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْفَالِ» ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ [8 \ 51 - 52] . وَقَوْلِهِ فِي «الْحَجِّ» : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ الْآيَةَ [22 \ 10 - 11] . وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «ق» : مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [50 \ 29] . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (ظَلَّامٍ) فِيهَا صِيغَةُ مُبَالِغَةٍ، وَمَعْلُومٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 أَنَّ نَفْيَ الْمُبَالِغَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ مِنْ أَصْلِهِ. فَقَوْلُكُ مَثَلًا: زِيدٌ لَيْسَ بِقَتَّالٍ لِلرِّجَالِ - لَا يَنْفِي إِلَّا مُبَالَغَتَهُ فِي قَتْلِهِمْ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ رُبَّمَا قَتَلَ بَعْضَ الرِّجَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ - هُوَ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْيَ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ. وَنَفْيُ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِذَا دَلَّتْ أَدِلَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَلَا إِشْكَالَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُرَادِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الْآيَةَ [4 \ 40] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [10 \ 44] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18 \ 49] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا الْآيَةَ [21 \ 47] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَ «الْأَنْبِيَاءِ» . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - نَفَى ظُلْمَهُ لِلْعَبِيدِ، وَالْعَبِيدُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالظُّلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَتُهُمْ كَثْرَتَهُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَنْفِيِّ التَّابِعَةِ لِكَثْرَةِ الْعَبِيدِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُمُ الظُّلْمُ، إِذْ لَوْ وَقَعَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ ظُلْمٌ، وَلَوْ قَلِيلًا، كَانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، كَمَا تَرَى. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اتِّجَاهَ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ عَنْ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» الْحَدِيثَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسَوِّغَ لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ عَذَابَهُ - تَعَالَى - بَالِغٌ مِنَ الْعِظَمِ وَالشِّدَّةِ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِحْقَاقُ الْمُعَذَّبِينَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ بِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ - لَكَانَ مُعَذِّبُهُمْ بِهِ ظَلَّامًا بَلِيغَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 الظُّلْمِ مُتَفَاقِمَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَشَارَ لَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نَفْيُ نِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَّالٍ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَتُغْنِي عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَعَ فَاعِلٍ وَفَعَّالٍ فَعِلَ ... فِي نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ الْيَا فَقُبِلْ وَمَعْنَى الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الصِّيَغَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي هِيَ فَاعِلٌ كَظَالِمٍ وَفَعَّالٌ كَظَلَّامٍ وَفَعِلٌ كَفَرِحٍ - كُلٌّ مِنْهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، وَمِثَالُهُ فِي فَاعِلٍ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ فِي هَجْوِهِ الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ التَّمِيمِيِّ: دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الطَّاعِمُ الْكَاسِي - النِّسْبَةُ، أَيْ ذُو طَعَامٍ وَكُسْوَةٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ - وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ -: وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ ... لَابِنٌ فِي الصَّيْفِ تَامِرْ أَيْ ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ. وَقَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: كِلِينِي لَهُمْ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ ... وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ فَقَوْلُهُ: «نَاصِبِ» ، أَيْ ذُو نَصَبٍ. وَمِثَالُهُ فِي فَعَّالٍ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنُنِي بِهِ ... وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّالِ فَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ، أَيْ لَيْسَ بِذِي نَبْلٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ، وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ. وَقَالَ الْأُشْمُونِيُّ بَعْدَ الِاسْتِشْهَادِ بِالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ: قَالَ الْمُصَنَّفُ - يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ -: وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ بِذِي ظُلْمٍ. اهـ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 وَمَا عَزَاهُ لِابْنِ مَالِكٍ جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَمِثَالُهُ فِي فَعِلٍ قَوْلُ الرَّاجِزِ - وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ -: لَيْسَ بِلَيْلِي وَلَكِنِّي نَهِرٌ ... لَا أَدْلُجُ اللَّيْلَ وَلَكِنْ أَبْتَكِرْ فَقَوْلُهُ: نَهِرٌ بِمَعْنَى نَهَارِيٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ مَعْنَى الظُّلْمِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [7 \ 187] . وَفِي «الْأَنْعَامِ» عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ الْآيَةَ [13 \ 8] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ. الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ، وَشَاهَدُوا الْحَقَائِقَ - عَلِمُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مَفَرٌّ وَلَا مَلْجَأٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحِيصَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، مِنْ حَاصَ يَحِيصُ بِمَعْنَى حَادَ وَعَدَلَ وَهَرَبَ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الظَّنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ - هُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - ; لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَنْكَشِفُ فِيهِ الْحَقَائِقُ، فَيَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ الْعِلْمُ بِهَا لَا يُخَالِجُهُمْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12] . وَقَالَ - تَعَالَى -: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [19 \ 38] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [50 \ 22] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [6] . وَقَدُُْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [27 \ 66] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّنَّ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الشَّكُّ، كَقَوْلِهِ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [53 \ 28] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنِ الْكُفَّارِ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [45 \ 32] . وَالثَّانِي: هُوَ إِطْلَاقُ الظَّنِّ مُرَادًا بِهِ الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [41 \ 48] أَيْ أَيْقَنُوا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَحِيصٌ، أَيْ لَا مَفَرَّ وَلَا مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [18 \ 53] أَيْ أَيْقَنُوا ذَلِكَ وَعَلِمُوهُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [2 \ 46] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [2 \ 249] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [69 \ 19 - 20] . فَالظَّنُّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سُرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ وَقَوْلُ عَمِيرَةَ بْنِ طَارِقٍ: بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدَ فِيكُمُ ... وَأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا وَالظَّنُّ فِي الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالْفِعْلُ الْقَلْبِيُّ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مُعَلِّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ النَّفْيِ بِلَفْظَةِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْتَزِمِ التَّعْلِيقَ قَبْلَ نَفْيِ «مَا » قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ وَبَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةَ الْمُوَافِقَةِ لَهَا فِي سُورَةِ «يُونُسَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [10 \ 12] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [40 \ 13] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ. الْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ شَكِّ الْكُفَّارِ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ - قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الشُّورَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» . وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَحْيِ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبِلَكَ اللَّهُ. يَعْنِي أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ مِثْلَهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، وَأَوْحَاهُ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى رُسُلِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَاللُّطْفِ الْعَظِيمِ، لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. اهـ مِنْهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ: (كَذَلِكَ يُوحِي) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوحَى بِاسْمِ الْمَفْعُولِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي هُوَ الْإِيحَاءُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الَّذِينَ فِي قَبْلِهِ الَّذِينَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ، كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَقْصُصْ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ لِقَطْعِ حُجَجِ الْخَلْقِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 [4 \ 163 - 165] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْمِهِ الْعَزِيزِ وَاسْمِهِ الْحَكِيمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَهُ وَحْيَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةِ: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا بَعْدَ ذِكْرِهِ إِيحَاءَهُ إِلَى رُسُلِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الزُّمَرِ» أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِذَا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْضَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ: (يُوحِي) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ: (اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) - فَاعِلُ يُوحِي. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ (يُوحَى إِلَيْكَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَوْلُهُ: (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يُوحَى، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [24 \ 36 - 37] . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الْوَحْيِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [16 \ 68] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وَصَفَ نَفْسَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، وَهُمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [7 \ 54] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ وَصْفِهِ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكُلِّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ - جَاءَ مِثْلُهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [2 \ 255] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [4 \ 34] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [13 \ 9] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [45 \ 37] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ (تَكَادُ) بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ ; لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ (يَكَادُ) بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ السَّمَاوَاتِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ أَبِي عَمْرٍو، وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ (يَتَفَطَّرْنَ) بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، مُضَارِعُ تَفَطَّرَ، أَيْ تَشَقَّقُ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ (يَنْفَطِرْنَ) بِنُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، مُضَارِعُ انْفَطَرَتْ، كَقَوْلِهِ: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] أَيِ انْشَقَّتْ. وَقَوْلُهُ: تَكَادُ، مُضَارِعُ كَادَ، الَّتِي هِيَ فِعْلُ مُقَارَبَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا تَعْمَلُ فِي الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا فِعْلَ مُقَارَبَةٍ، أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ اتِّصَافِ الْمُبْتَدَإِ بِالْخَبَرِ. وإذًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ السَّمَاوَاتِ قَارَبَتْ أَنْ تَتَّصِفَ بِالتَّفَطُّرِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَالِانْفِطَارِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ مُقَارَبَةِ السَّمَاوَاتِ لِلتَّفَطُّرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ كِلَاهُمَا يَدُلُّ لَهُ قُرْآنٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرُنَّ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَهِيبَةً وَإِجْلَالًا، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - قَبْلَهُ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [42 \ 4] ; لِأَنَّ عُلُوَّهُ وَعَظَمَتَهُ سَبَّبَ لِلسَّمَاوَاتِ ذَلِكَ الْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالْإِجْلَالَ، حَتَّى كَادَتْ تَتَفَطَّرُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ وَاضِحَةٌ; لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ السَّمَاوَاتِ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ مِنْهُ - تَعَالَى - وَالْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ لَهُ، وَكَذَلِكَ سُكَّانُهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُمْ (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ مَعَ إِثْبَاتِهِمْ لَهُ كُلَّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، خَوْفًا مِنْهُ وَهِيبَةً وَإِجْلَالًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [13 \ 13] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [16 \ 49 - 50] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 فَهُمْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ وَإِجْلَالِهِمْ لَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيَخَافُونَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلِذَا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْوَجْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [33 \ 72] ; لِأَنَّ الْإِشْفَاقَ الْخَوْفُ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي لِخُصُوصِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَهُ، كَمَا أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [40 \ 7] . فَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ آمَنُوا - يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. \ 5 وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا قَوْلُهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ -: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [40 \ 7] لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى عَدَمِ اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْكُفَّارِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ شِدَّةِ عِظَمِ الْفِرْيَةِ الَّتِي افْتَرَاهَا الْكُفَّارُ عَلَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ كَوْنِهِ اتَّخَذَ وَلَدًا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَذَا الْوَجْهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [19 \ 88 - 93] . كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ آيَةَ «الشُّورَى» هَذِهِ فِيهَا إِجْمَالٌ فِي سَبَبِ تَفَطُّرِ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُوَضَّحًا فِي آيَةِ «مَرْيَمَ» الْمَذْكُورَةِ. وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَقٌّ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ. قِيلَ: (يَتَفَطَّرْنَ) ، أَيِ السَّمَاوَاتُ. (مِنْ فَوْقِهِنَّ) أَيِ الْأَرَضِينَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَرَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 وَقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ فَوْقِهِنَّ) ، أَيْ كُلُّ سَمَاءٍ تَتَفَطَّرُ فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ: مِنْ فَوْقِهِنَّ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ أَعْظَمَ الْآيَاتِ وَأَدُلَّهَا عَلَى الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَهِيَ: الْعَرْشُ، وَالْكُرْسِيُّ، وَصُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ الْمُرْتَجَّةُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَمَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ آثَارِ مَلَكُوتِهِ الْعُظْمَى، فَلِذَلِكَ قَالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ يَبْتَدِئُ الِانْفِطَارُ مِنْ جِهَتِهِنَّ الْفَوْقَانِيَّةِ. أَوْ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ جَاءَتْ مِنَ الَّذِي تَحْتَ السَّمَاوَاتِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِنْ تَحْتِهِنَّ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْهَا الْكَلِمَةُ، وَلَكِنَّهُ بُولِغَ فِي ذَلِكَ، فَجُعِلَتْ مُؤَثِّرَةً فِي وِجْهَةِ الْفَوْقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَكَدْنَ يَتَفَطَّرْنَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَهُنَّ، دَعِ الْجِهَةَ الَّتِي تَحْتَهُنَّ. وَنَظِيرُهُ فِي الْمُبَالَغَةِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ فَجَعَلَ الْحَمِيمَ مُؤَثِّرًا فِي أَجْزَائِهِمُ الْبَاطِنَةِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ التَّفَطُّرِ الْمَذْكُورِ هُوَ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [19 \ 88] . وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ «مَرْيَمَ» الْمَذْكُورَةُ، وَعَلَيْهِ فَمُنَاسِبَةُ قَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ لِمَا قَبْلَهُ - أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ قَالُوا أَعْظَمَ الْكُفْرِ وَأَشْنَعَهُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ بِخِلَافِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُدَاوِمُونَ ذِكْرَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [41 \ 38] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [6 \ 89] . كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «فُصِّلَتْ» . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. أَكَّدَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - قَدْ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا اخْتِصَاصُهُ هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [3 \ 135] . وَالْمَعْنَى لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ «وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ; فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» . وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ - هُوَ أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ تَوْكِيدُهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ; فَإِنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ هُنَا بِحَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي هُوَ (أَلَا) ، وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ الَّذِي هُوَ (إِنَّ) . وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [39 \ 53] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ الْآيَةَ [20 \ 82] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [53 \ 32] . وَقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [8 \ 38] . وَقَوْلِهِ فِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5 \ 74] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَنَرْجُو اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - الْكَرِيمَ الرَّءُوفَ الْغَفُورَ الرَّحِيمَ - أَنْ يَغْفِرَ لَنَا جَمِيعَ ذُنُوبِنَا، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ جَمِيعِ سَيِّئَاتِنَا، وَيُدْخِلَنَا جَنَّتَهُ عَلَى مَا كَانَ مِنَّا، وَيَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ. أَيْ أَشْرَكُوا مَعَهُ شُرَكَاءَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ، كَمَا أَوْضَحَ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ [39 \ 3] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [2 \ 257] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [3 \ 175] . أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [4 \ 76] . وَقَدْ وَبَّخَهُمْ - تَعَالَى - عَلَى اتِّخَاذِهِمُ الشَّيْطَانَ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا. وَقَدْ أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، نَاهِيًا عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَّخَذِينَ مِنْ دُونِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [7 \ 3] . وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ وَعَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: الشَّيَاطِينُ، وَمَعْنَى عِبَادَتِهِمْ لِلشَّيْطَانَ طَاعَتُهُمْ لَهُ فِيمَا يُزَيِّنُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَشِرْكُهُمْ بِهِ شِرْكُ طَاعَةٍ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عِبَادَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [36 \ 60] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [19 \ 44] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [4 \ 117] ، أَيْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [34 \ 41] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 100] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [6 \ 121] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: هُوَ الْأَوْثَانُ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى الْآيَةَ [39 \ 3] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ حَافَظٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَفِي أَوَّلِهِ اتِّخَاذُهُمُ الْأَوْلِيَاءَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِكُلِّ مُشْرِكٍ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. أَيْ لَسْتَ يَا مُحَمَّدُ بِمُوَكَّلٍ عَلَيْهِمْ تَهْدِي مَنْ شِئْتَ هِدَايَتَهُ مِنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ فَحَسْبُ، وَقَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ. وَالْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ هُوَ اللَّهُ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [11 \ 12] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [10 \ 99 - 100] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [6 \ 35] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ مَنْسُوخًا بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 194 - 195] . وَفِي «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [39 \ 28] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا. خَصَّ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِنْذَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِأُمِّ الْقُرَى مَكَّةُ - حَرَسَهَا اللَّهُ -. وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ إِنْذَارَهُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الْآيَةَ [34 \ 28] . كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ تَخْصِيصِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا هُنَا، وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ الْآيَةَ [6 \ 92] . فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فَقُلْنَا فِيهِ: وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ حَوْلَهَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَرْضِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ حَوْلَهَا لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْقَرِيبَ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ - كَجَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَثَلًا، فَإِنَّ الْآيَاتِ الْأُخَرَ، نَصَّتْ عَلَى الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] . وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ - لَا يُخَصِّصُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ وَاضِحًا بِأَدِلَّتِهِ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [26 \ 214] ; فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِنْذَارِ غَيْرِهِمْ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - اهـ مِنْهُ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [42 \ 7] . تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ حُكْمِ إِيحَائِهِ - تَعَالَى - إِلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ - إِنْذَارَ يَوْمِ الْجَمْعِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَأَنْ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ، فَحُذِفَ فِي الْأَوَّلِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَحُذِفَ فِي الثَّانِي أَحَدَهُمَا، فَكَانَ مَا أُثْبِتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى مَا حُذِفَ فِي الثَّانِي، فَفِي الْأَوَّلِ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى» ، أَيْ أَهْلَ مَكَّةَ «وَمَنْ حَوْلَهَا» ، عَذَابًا شَدِيدًا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَفِي الثَّانِي حُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ وَتُنْذِرَ النَّاسَ يَوْمَ الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ تُخَوِّفُهُمْ مِمَّا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأَوْجَالِ; لِيَسْتَعِدُّوا لِذَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 وَالثَّانِي: أَنَّ يَوْمَ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ (لَا رَيْبَ فِيهِ) ، أَيْ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - جَاءَا مُوَضَّحَيْنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. أَمَّا تَخْوِيفُهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 281] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ الْآيَةَ [40 \ 18] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [73 \ 17 - 18] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [83 \ 4 - 6] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: وَهُوَ كَوْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (لَا رَيْبَ فِيهِ) فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [4 \ 87] . وَقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [3 \ 25] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا الْآيَةَ [22 \ 7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الْآيَةَ [45 \ 32] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ فِيهِ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ. وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [56 \ 49 - 50] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [77 \ 38] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [4 \ 87] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [64 \ 9] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [11 \ 103] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [3 \ 25] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [18 \ 47] . وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - شُمُولَ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِجَمِيعِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [6 \ 38] . وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ الْمَذْكُورَةُ كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ فَرِيقًا سُعَدَاءَ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَفَرِيقًا أَشْقِيَاءَ وَهُمْ أَصْحَابُ السَّعِيرِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [11 \ 118 - 119] ، أَيْ وَلِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَشَقِيٍّ وَسَعِيدٍ - خَلَقَهُمْ - عَلَى الصَّحِيحِ -. وَنُصُوصُ الْوَحْيِ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» - وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [11 \ 119] عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] . وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى السَّعِيرِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ الْآيَةَ [22 \ 4] . وَالْجَنَّةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْبُسْتَانُ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبِيِّ مَقْتَلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا فَقَوْلُهُ: جَنَّةً سُحُقًا، يَعْنِي بُسَتَانًا طَوِيلَ النَّخْلِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ هِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ، وَيَجُوزُ تَعَدُّدُهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُصَيْبٍ: فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ، لَا وَفَرِيقُهُمْ نَعَمْ، وَفَرِيقٌ قَالَ وَيْحَكَ مَا نَدْرِي وَالْمُسَوِّغُ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) ، أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّفْصِيلِ. وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَمَّا دَنَوْتُ تَسَدَّيْتُهَا ... فَثَوْبًا نَسِيتُ وَثَوبًا أَجُرْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَحْكَامِ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 فَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ فِي حُكْمِهِ كَالْإِشْرَاكِ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ، قَالَ فِي حُكْمِهِ: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] . وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَلَا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا بِصِيغَةِ النَّهْيِ. وَقَالَ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [18 \ 110] ، فَالْأَمْرَانِ سَوَاءٌ كَمَا تَرَى إِيضَاحَهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَلَالَ هُوَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ هُوَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَالدِّينَ هُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، فَكُلُّ تَشْرِيعٍ مَنْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ بَدَلَ تَشْرِيعِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ - كُفْرُ بَوَاحٍ لَا نِزَاعَ فِيهِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَ تَشْرِيعِ غَيْرِهِ كُفْرٌ بِهِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [12 \ 40] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [12 \ 67] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [6 \ 57] . وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [5 \ 44] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 88] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 70] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] . وَأَمَّا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ تَشْرِيعِ غَيْرِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ كُفْرٌ، فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 100] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [16 \ 121] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [36 \ 60] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي «الْكَهْفِ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 مَسْأَلَةٌ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لَهُ، فَعَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي سَنُوَضِّحُهَا الْآنَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - وَيُقَابِلَهَا مَعَ صِفَاتِ الْبَشَرِ الْمُشَرِّعِينَ لِلْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، فَيَنْظُرُ هَلْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ صِفَاتُ مَنْ لَهُ التَّشْرِيعُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ - وَلَنْ تَكُونَ - فَلْيَتَّبِعْ تَشْرِيعَهُمْ. وَإِنْ ظَهَرَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَحْقَرُ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ وَأَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَقِفْ بِهِمْ عِنْدَ حَدِّهِمْ، وَلَا يُجَاوِزْهُ بِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ حُكْمِهِ أَوْ مُلْكِهِ. فَمِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي أَوْضَحَ بِهَا - تَعَالَى - صِفَاتِ مِنْ لَهُ الْحُكْمُ وَالتَّشْرِيعُ قَوْلُهُ هُنَا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا صِفَاتِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [42 \ 10 - 12] . فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ لِلنُّظُمِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُخْتَرِعُهُمَا - عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لِلْبَشَرِ أَزْوَاجًا، وَخَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجَ الْأَنْعَامِ الثَّمَانِيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [6 \ 143] ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَأَنَّهُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ - أَيْ يُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ - وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ تَتَفَهَّمُوا صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُشَرِّعَ وَيُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ، وَلَا تَقْبَلُوا تَشْرِيعًا مِنْ كَافِرٍ خَسِيسٍ حَقِيرٍ جَاهِلٍ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [4 \ 59] ، فَقَوْلُهُ فِيهَا: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ: فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 وَقَدْ عَجِبَ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمُحَاكَمَةَ إِلَى مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالطَّاغُوتِ، وَكُلُّ تَحَاكُمٍ إِلَى غَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ فَهُوَ تَحَاكُمٌ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [4 \ 60] . فَالْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ الَّذِي صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [2 \ 256] . فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِهَا فَهُوَ مُتَرَدٍّ مَعَ الْهَالِكِينَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] . فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَأَنْ يُبَالَغَ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ لِإِحَاطَةِ سَمْعِهِ بِكُلِّ الْمَسْمُوعَاتِ وَبَصَرِهِ بِكُلِّ الْمُبْصَرَاتِ؟ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ دُونَهُ مِنْ وَلِيٍّ؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 88] . فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ؟ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ؟ وَأَنَّ الْخَلَائِقَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ؟ تَبَارَكَ رَبُّنَا وَتَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ أَنْ يُوصَفَ أَخَسُّ خَلْقِهِ بِصِفَاتِهِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [40 \ 12] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ النُّظُمَ الشَّيْطَانِيَّةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ فِي أَعْظَمِ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ؟ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِكَ وَجَلَالِكَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [28 \ 73] . فَهَلْ فِي مُشَرِّعِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الْأَوْلَى وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَرِّفُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، مُبَيِّنًا بِذَلِكَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَعَظَمَةَ إِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ. سُبْحَانَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حُكْمِهِ أَوْ عِبَادَتِهِ أَوْ مُلْكِهِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [12 \ 40] . فَهَلْ فِي أُولَئِكَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ هِيَ الدِّينُ الْقَيِّمُ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [12 \ 67] . فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَتُفَوِّضَ الْأُمُورُ إِلَيْهِ؟ وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [5 \ 49 - 50] . فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى؟ وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ أَصَابَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ؟ لِأَنَّ الذُّنُوبَ لَا يُؤَاخَذُ بِجَمِيعِهَا إِلَّا فِي الْآخِرَةِ؟ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟ سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [6 \ 57] . فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ يَقُصُّ الْحَقَّ، وَأَنَّهُ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ؟ وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا الْآيَةَ [6 \ 114 - 115] . فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، الَّذِي يَشْهَدُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، وَبِأَنَّهُ تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا - أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ - وَأَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؟ سُبْحَانَ رَبِّنَا، مَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَجَلَّ شَأْنَهُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] . فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الرِّزْقَ لِلْخَلَائِقِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ لِأَنَّ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مَنْ خَلَقَ الرِّزْقَ وَأَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ؟ سُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [5 \ 44] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ؟ سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [16 \ 116 - 117] . فَقَدْ أَوْضَحَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرَ مَا شَرَّعَهُ اللَّهُ إِنَّمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ، لِأَجْلِ أَنْ يَفْتَرُوهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ، وَأَنَّهُمْ يُمَتَّعُونَ قَلِيلًا ثُمَّ يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي بُعْدِ صِفَاتِهِمْ مِنْ صِفَاتِ مَنْ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [6 \ 150] . فَقَوْلُهُ: هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ صِيغَةُ تَعْجِيزٍ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ بَيَانِ مُسْتَنَدِ التَّحْرِيمِ. وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ التَّحْلِيلِ وَلَا التَّحْرِيمِ. وَلَمَّا كَانَ التَّشْرِيعُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ - شَرْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً - مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ - كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ - كَانَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ تَشْرِيعِ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمُشَرِّعَ رَبًّا، وَأَشْرَكَهُ مَعَ اللَّهِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا وَسَنُعِيدُ مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ - وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِهِ وَأَصْرِحِهِ - أَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ حِزْبِ الرَّحْمَنِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، وَحِزْبُ الرَّحْمَنِ يَتَّبِعُونَ تَشْرِيعَ الرَّحْمَنِ فِي وَحْيِهِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ يَتَّبِعُونَ وَحْيَ الشَّيْطَانِ فِي تَحْلِيلِهِ. وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَأَفْتَى فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ فَتْوَى سَمَاوِيَّةً قُرْآنِيَّةً تُتْلَى فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» . وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَوْحَى إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَقَالَ لَهُمْ فِي وَحْيِهِ: سَلُوا مُحَمَّدًا عَنِ الشَّاةِ تُصْبِحُ مَيْتَةً، مَنْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا؟ فَأَجَابُوهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا. فَقَالُوا: الْمَيْتَةُ إِذًا ذَبِيحَةُ اللَّهِ، وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ كَيْفَ تَقُولُونَ إِنَّهُ حَرَامٌ؟ مَعَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 إِنَّمَا ذَبَحْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ حَلَالٌ، فَأَنْتُمْ إِذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ وَأَحَلُّ ذَبِيحَةً. فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [6 \ 121] ، يَعْنِي الْمَيْتَةَ، أَيْ وَإِنْ زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَّاهَا بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ بِسِكِّينٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [6 \ 121] ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَكْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَأْكُلُوا، وَقَوْلُهُ: لَفِسْقٌ، أَيْ خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعٌ لِتَشْرِيعِ الشَّيْطَانِ. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [6 \ 121] . أَيْ بِقَوْلِهِمْ: مَا ذَبَحْتُمُوهُ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ حَرَامٌ، فَأَنْتُمْ إذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ، وَأَحَلُّ تَذْكِيَةً، ثُمَّ بَيَّنَ الْفَتْوَى السَّمَاوِيَّةِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [6 \ 121] فَهِيَ فَتْوَى سَمَاوِيَّةٌ مِنَ الْخَالِقِ - جَلَّ وَعَلَا - صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ مُتَّبِعَ تَشْرِيعِ الشَّيْطَانِ الْمُخَالِفِ لِتَشْرِيعِ الرَّحْمَنِ - مُشْرِكٌ بِاللَّهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَثَّلَ بِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ لِحَذْفِ اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ الْمَحْذُوفَةِ عَدَمُ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بِالْفَاءِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمْ يَسْبِقْهُ قَسَمٌ لَقِيلَ: فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَاقرُنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَو جُعِلْ ... شَرْطًا لِأَنْ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَنْجَعِلْ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحَذْفُ الْفَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَأَنَّ ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [42] بِحَذْفِ الْفَاءِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. بَلِ الْمُسَوِّغُ لِحَذْفِ الْفَاءِ فِي آيَةِ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ تَقْدِيرُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الشَّرْطِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْفَاءِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أَحْرَتْ فَهُوَ مُلْتَزَمْ وَعَلَيْهِ، فَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِحَذْفِ الْفَاءِ الْمَذْكُورِ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 وَالْمُسَوِّغُ لَهُ فِي آيَةِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أَنَّ (مَا) فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ مَوْصُولَةٌ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، أَيْ وَالَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: فَمَا مَوْصُولَةٌ أَيْضًا، وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ عَدَمَهُ جَائِزٌ، فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَارِيَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ. وَمِثَالُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 274] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ (مَا) فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ شَرْطِيَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَاقْتِرَانُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَاجِبٌ. أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ فَهِيَ مَوْصُولَةٌ لَيْسَ إِلَّا، كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. وَكَوْنُ (مَا) شَرْطِيَّةً عَلَى قِرَاءَةٍ، وَمَوْصُولَةً عَلَى قِرَاءَةٍ - لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْآيَتَيْنِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 100] . فَصَرَّحَ بِتَوَلِّيهِمْ لِلشَّيْطَانِ، أَيْ بِاتِّبَاعِ مَا يُزَيِّنُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مُخَالِفًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِشْرَاكٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَصَرَّحَ أَنَّ الطَّاعَةَ فِي ذَلِكَ الَّذِي يُشَرِّعُهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ وَيُزَيِّنُهُ عِبَادَةٌ لِلشَّيْطَانِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِالرَّحْمَنِ، قَالَ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مُتَّبِعُو نِظَامِ الشَّيْطَانِ دُخُولًا أَوْلِيَاءُ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [36 \ 60 - 62] . ثُمَّ بَيَّنَ الْمَصِيرَ الْأَخِيرَ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [36 \ 63 - 65] . وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [19 \ 44] فَقَوْلُهُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 (لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) أَيْ بِاتِّبَاعِ مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، مُخَالِفًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ. وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [4 \ 117] ، فَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا يَعْنِي مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [34 \ 40 - 41] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَيْ يَتَّبِعُونَ الشَّيَاطِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يُشَرِّعُونَ وَيُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ. وَالشَّيْطَانُ عَالِمٌ بِأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَهُ الْمَذْكُورَةَ إِشْرَاكٌ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [14 \ 22] . فَقَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِهِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكْفُرْ بِشِرْكِهِمْ ذَلِكَ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَوْضَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْحَدِيثِ لَمَّا سَأَلَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [9 \ 31] كَيْفَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ وَأَجَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ - فَاتَّبَعُوهُمْ، وَبِذَلِكَ الِاتِّبَاعِ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَحَلُّوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ، وَحَرَّمُوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ - فَإِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ كُفْرًا جَدِيدًا بِذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [9 \ 37] . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ غَيْرَ اللَّهِ فِي تَشْرِيعٍ مُخَالِفٍ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ - فَقَدْ أَشْرَكَ بِهِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [6 \ 137] . فَسَمَّاهُمْ شُرَكَاءَ لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فِي قَتْلِ الْأَوْلَادِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [42 \ 21] فَقَدْ سَمَّى - تَعَالَى - الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ - شُرَكَاءَ، وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ لِلَّذِينِ كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ) - أَنَّ ذَلِكَ الْإِشْرَاكَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي الْآيَةَ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «فَاطِرٍ» . وَقَوْلُهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، أَيْ خَلَقَ لَكُمْ أَزْوَاجًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [16 \ 72] . وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْوَاجِ الْإِنَاثُ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً الْآيَةَ [30 \ 21] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [53 \ 45 - 46] . وَقَوْلُهُ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 39] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [92 \ 1 - 3] . وَقَوْلُهُ فِي آدَمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا الْآيَةَ [4 \ 1] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِيهِ أَيْضًا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ [7 \ 189] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِيهِ أَيْضًا: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا الْآيَةَ [39 \ 6] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا هِيَ الثَّمَانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [6 \ 143] . وَفِي قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39 \ 6] . وَهِيَ ذُكُورُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَإِنَاثُهَا، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [3 \ 14] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ شَامِلٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ، وَتَغْلِيبُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْأَنْعَامِ فِي ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: (يَذْرَؤُكُمْ) وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: «فِيهِ» رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلْآدَمِيِّينَ إنَاثًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْأَنْعَامِ أَيْضًا إِنَاثًا كَذَلِكَ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْوَاجِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْهُمَا مَعًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ (يَذْرَؤُكُمْ) ، أَيْ يَخْلُقُكُمْ وَيَبُثُّكُمْ وَيَنْشُرُكُمْ (فِيهِ) ، أَيْ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، أَيْ فِي ضِمْنِهِ عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَيُوَضَّحُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [4 \ 1] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) مَعَ أَنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ عَائِدٌ إِلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ أَوِ الْإِشَارَةِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ إِلَى مُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ مَثَلًا. وَمِثَالُهُ فِي الضَّمِيرِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ الْآيَةَ [6 \ 46] . فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) مُفْرَدٌ، مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ. فَقَوْلُهُ: يَأْتِيكُمْ بِهِ أَيْ بِمَا ذَكَرَ مِنْ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعَ الْبَهَقْ فَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ خُطُوطٍ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقٍ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 وَمِثَالُهُ فِي الْإِشَارَةِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [2 \ 68] أَيْ بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ فَارِضٍ وَبِكْرٍ، وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيِّ: إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلْ أَيْ كِلَا ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ، إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (فِيهِ) رَاجِعٌ إِلَى الرَّحِمِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى الْبَطْنِ، وَمَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى الْجَعْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ (جَعَلَ) وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى التَّدْبِيرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ خِلَافُ الصَّوَابِ. وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [7 \ 54] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ. مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ مَفَاتِيحُهُمَا، وَهُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَمُفْرَدُهَا إِقْلِيدٌ، وَجَمْعُهَا مَقَالِيدُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْإِقْلِيدُ الْمِفْتَاحُ. وَقِيلَ: وَاحِدُهَا مِقْلِيدٌ، وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ. وَكَوْنُهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مَفَاتِيحُهُمَا، كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ وَحْدَهُ الْمَالِكُ لِخَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّ مِلْكَ مَفَاتِيحِهَا يَسْتَلْزِمُ مِلْكَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - مِثْلَ هَذَا فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [39 \ 62 - 63] . وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الشُّورَى» هَذِهِ وَآيَةُ «الزُّمَرِ» الْمَذْكُورَتَانِ مِنْ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ مَالِكُ خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [63 \ 7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [15 \ 21] .ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ خَزَائِنَ رَحْمَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [38 \ 9] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ [52 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [17 \ 100] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ الْآيَةَ [34 \ 39] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [34 \ 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [13 \ 26] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [16 \ 71] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [43 \ 32] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا الْآيَةَ [4 \ 135] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْآيَةَ [65 \ 7] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [65 \ 7] أَيْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ لِقِلَّتِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. أَيْ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ بَسْطَهُ لَهُ وَيَقْدِرُ، أَيْ يُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ تَضْيِيقَهُ عَلَيْهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [21 \ 87] . وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي بَعْضِ الْآيَاتِ حِكْمَةَ تَضْيِيقِهِ لِلرِّزْقِ عَلَى مَنْ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ أَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ لِلْإِنْسَانِ، قَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [42 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [96 \ 6] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ [33 \ 7] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (فِيهِ) ، رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ فِي قَوْلِهِ: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِافْتِرَاقِ فِي الدِّينِ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُ وَصَّى خَلْقَهُ بِذَلِكَ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا الْآيَةَ [3 \ 103] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [6 \ 153] . وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَجْتَنِبُونَ هَذَا النَّهْيَ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [6 \ 159] . لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: يَفْعَلُونَ - فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» : وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [23 \ 52 - 54] . فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ: إِنَّ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمْ شَرِيعَةً وَاحِدَةً، وَدِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ، وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ فَلَا تَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَنِبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ فِيهِ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ عَظِيمٌ عَلَى ذَلِكَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [21 \ 92 - 93] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فِيهِ أَيْضًا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً الْآيَةَ [21 \ 93] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ افْتِرَاقُ الْيَهُودِ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَافْتِرَاقُ النَّصَارَى إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَعَظُمَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَطَاعَتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَلِعِظَمِ ذَلِكَ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي عَدَمِ سَمَاعِهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ، بَلْ يَكَادُونَ يَبْطِشُونَ بِمَنْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهَا. وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَادَةُ الْكَافِرِينَ مَعَ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - مَشَقَّةَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَكِبْرَهُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [10 \ 71] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [71 \ 7] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ، فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُمْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [22 \ 72] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الْآيَةَ - يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهِيَتِهِمْ لِسَمَاعِ تِلْكَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ الْآيَةَ [41 \ 26] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الزُّخْرُفِ» : لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [43 \ 78] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» : أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [23 \ 70] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْقِتَالِ» : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 9] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [45 \ 6 - 8] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [31 \ 7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ الْآيَةَ [41 \ 5] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يُطِيعَهُمْ فِي بَعْضِ أَمْرِهِمْ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَتَائِجَ سَيِّئَةً مُتَنَاهِيَةً فِي السُّوءِ، كَمَا أَوْضَحَ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 24 - 28] . فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ ثُمَّ يَحْذَرَ ثُمَّ يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا، الَّذِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ -: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ لَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَكْفِيهِ زَجْرًا وَرَدْعًا عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 27 - 28] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. الِاجْتِبَاءُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْنَاهُ الِاخْتِيَارُ وَالِاصْطِفَاءُ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - يَجْتَبِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَشَاءُ اجْتِبَاءَهُ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَعْضَ مَنْ شَاءَ اجْتِبَاءَهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 77 - 78] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [35 \ 32] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْهُمْ آدَمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [20 \ 122] . وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً إِلَى قَوْلِهِ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ الْآيَةَ [16 \ 120 - 121] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اجْتِبَاءِ بَعْضِ الْخَلْقِ بِالتَّعْيِينِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أَيْ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُنِيبُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» : قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [13 \ 27] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ. تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [2 \ 136] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَقَوْلُهُ: الْكِتَابَ اسْمُ جِنْسٍ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» أَنَّ الْمُفْرَدَ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُطْلَقُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْمِيزَانَ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمِيزَانَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمِيزَانُ فِي الْآيَةِ هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِيزَانَ مِفْعَالٌ، وَالْمِفْعَالُ قِيَاسِيٌّ فِي اسْمِ الْآلَةِ. وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ - فَالْمِيزَانُ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ دَاخِلٌ فِيهِ ; لِأَنَّ إِقَامَةَ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي أَنْزِلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ - أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [57 \ 25] . فَصَرَّحَ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ أَنْزَلَ مَعَ رُسُلِهِ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» : وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [55 \ 7 - 9] . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ: أَنَّ الْمِيزَانَ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَسُورَةِ «الْحَدِيدِ» هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَنَّ الْمِيزَانَ فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» هُوَ الْمِيزَانُ الْمَعْرُوفُ، أَعْنِي آلَةَ الْوَزْنِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا بَعْضُ الْمَبِيعَاتِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَسُورَةِ «الْحَدِيدِ» عَبَّرَ بِإِنْزَالِ الْمِيزَانِ لَا بِوَضْعِهِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» : اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ. وَقَالَ فِي «الْحَدِيدِ» : وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [57 \ 25] . وَأَمَّا فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» فَقَدْ عَبَّرَ بِالْوَضْعِ لَا الْإِنْزَالِ، قَالَ: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [55 \ 7] . ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [55 \ 9] لِأَنَّ الْمِيزَانَ الَّذِي نُهُوا عَنْ إِخْسَارِهِ هُوَ أَخُو الْمِكْيَالِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [26 \ 181 - 183] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [83 \ 1 - 3] . وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [11 \ 84] . وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْهُ أَيْضًا: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [7 \ 85] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [6 \ 152] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «بَنِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 إِسْرَائِيلَ» : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدِ اخْتَرْتُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَسُورَةِ «الْحَدِيدِ» - هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ، وَذَكَرْتُمْ نَظَائِرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْتُمْ يُشَكَّلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ ; لِأَنَّ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ كُلُّهَا عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ جَازَ عَطْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ بَيْنَ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [87 \ 1 - 4] . فَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ وَالصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ سَاغَ الْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ. وَأَمَّا الْمِيزَانُ: فَيَصْدُقُ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِي لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهَا. فَالتَّأْفِيفُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [17 \ 23] . مِنَ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْعُ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ مَثَلًا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَلَى التَّأْفِيفِ مِنَ الْمِيزَانِ، أَيْ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ. وَقَبُولُ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ ; لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِيهِ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 وَقَبُولُ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ. وَتَحْرِيمُ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا الْآيَةَ [4 \ 10]- مِنَ الْكِتَابِ. وَتَحْرِيمُ إِغْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ وَإِحْرَاقِهِ الْمَعْرُوفُ مِنْ ذَلِكَ - مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ. وَجَلْدُ الْقَاذِفِ الذَّكَرِ لِلْمُحْصَنَةِ الْأُنْثَى ثَمَانِينَ جِلْدَةً وَرَدُّ شَهَادَتِهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ [24 \ 4 - 5]- مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ. وَعُقُوبَةُ الْقَاذِفِ الذَّكَرِ لِذَكَرٍ مِثْلِهِ، وَالْأُنْثَى الْقَاذِفَةِ لِلذَّكَرِ أَوْ لِأُنْثَى بِمِثْلِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْقُرْآنِ - مِنَ الْمِيزَانِ الْمَذْكُورِ. وَحِلِّيَّةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْتُوتَةً، بِسَبَبِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَاقِهِ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا [2 \ 230] أَيْ فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُولِ وَذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ - فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْتُوتَةً، وَالزَّوْجُ الَّذِي كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ - أَنْ يَتَرَاجَعَا بَعْدَ نِكَاحِ الثَّانِي وَطَلَاقِهِ لَهَا - مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ. وَأَمَّا إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا وَكَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَحِلِّيَّتُهَا لِلْأَوَّلِ الَّذِي كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ - مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمَذْكُورِ، وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [21 \ 78] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ الْآيَةَ [16 \ 1] . وَفِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 - تَعَالَى -: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [33 \ 63] . وَفِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ الْآيَةَ [40 \ 18] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ. ذَكَرَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالسَّاعَةِ يَسْتَعْجِلُونَ بِهَا، أَيْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ إِنْكَارِهِمْ لَهَا. وَالثَّانِيَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ مِنْهَا، أَيْ خَائِفُونَ مِنْهَا. وَالثَّالِثَةَ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَيْ أَنَّ قِيَامَهَا وَوُقُوعَهَا حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا اسْتِعْجَالُهُمْ لَهَا فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ [13 \ 6] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ إِشْفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ وَخَوْفُهُمْ مِنَ السَّاعَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [21 \ 49] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [24 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [76 \ 7] . وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ عِلْمُهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهَا لَا رَيْبَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَفْيَ الرَّيْبِ فِيهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [3 \ 9] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [4 \ 87] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [3 \ 25] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [42 \ 7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22 \ 6 - 7] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُمَارُونَ، مُضَارِعُ مَارَى يُمَارِي مِرَاءً وَمُمَارَاةً، إِذَا خَاصَمَ وَجَادَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [18 \ 22] . وَقَوْلُهُ: لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، أَيْ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، مَعَ الشَّوَاهِدِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [26 \ 20] . وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا الْآيَةَ [11 \ 29]- أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ وَالسَّلَامُ - لَا يَأْخُذُونَ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَآيَةِ «الشُّورَى» هَذِهِ، فَقُلْنَا فِيهِ: اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ - أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَتَكُفُّوا عَنِّي أَذَاكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِنْ أَذَى النَّاسِ، كَمَا تَمْنَعُونَ كُلَّ مَنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مِثْلُ قَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ رَحِمٌ، فَهَذَا الَّذِي سَأَلَهُمْ لَيْسَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 بِأَجْرٍ عَلَى التَّبْلِيغِ ; لِأَنَّهُ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَوَدُّهُ أَهْلُ قَرَابَتِهِ وَيَنْتَصِرُونَ لَهُ مِنْ أَذَى النَّاسِ. وَقَدْ فَعَلَ لَهُ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَلَمْ يَكُنْ يَسْأَلُ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ. وَإِذَا كَانَ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا إِلَّا هَذَا الَّذِي لَيْسَ بِأَجْرٍ - تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَمِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ لَا تُؤْذُوا قَرَابَتِي وَعِتْرَتِي، وَاحْفَظُونِي فِيهِمْ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا. لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَحْرَى قَرَابَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ - تَعَالَى -: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [9 \ 71] . وَفِي الْحَدِيثِ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا أُصِيبَ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَإِذَا كَانَ نَفْسُ الدِّينُ يُوجِبُ هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ عِوَضٍ عَنِ التَّبْلِيغِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ. فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لَكِنْ أُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي فِيكُمْ. وَعَلَى الثَّانِي: لَكِنْ أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي قَرَابَتِي، فَاحْفَظُونِي فِيهِمْ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ -: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أَيْ إِلَّا أَنْ تَتَوَدَّدُوا إِلَى اللَّهِ، وَتَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 الْقَوْلُ الرَّابِعُ: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أَيْ إِلَّا أَنْ تَتَوَدَّدُوا إِلَى قَرَابَاتِكُمْ وَتَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَاسِمٍ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا فَلَا إِشْكَالَ. لِأَنَّ صِلَةَ الْإِنْسَانِ رَحِمَهُ لَيْسَتْ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ، فَقَدْ عَلِمْتَ الصَّحِيحَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَظَهَرَ لَكَ رَفْعُ الْإِشْكَالِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى - مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [34 \ 47]- فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. مَعَ أَنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَعْنَى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي أَهْلِ قَرَابَتِي. وَمِمَّنْ ظَنَّ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ السَجَّادُ ; حَيْثُ قَالَ لِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْجَمَلِ: أُذَكِّرُكَ «حم» يَعْنِي سُورَةَ «الشُّورَى» هَذِهِ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَلْزَمُ حِفْظَهُ فِيهِمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي «حم» هَذِهِ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فَهُوَ يُرِيدُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ، يَظُنُّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَلِذَا قَالَ قَاتِلُهُ فِي ذَلِكَ: يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرُ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَيْتَ وَالْأَبْيَاتَ الَّتِي قَبْلَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي قَائِلِ الْأَبْيَاتِ الَّذِي قَتَلَ مُحَمَّدًا السَّجَّادَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يَوْمَ الْجَمَلِ، هَلْ هُوَ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيُّ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، أَوِ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، أَوْ عِصَامُ بْنُ مُقْشَعِرٍّ، أَوْ مُدْلِجُ بْنُ كَعْبٍ السَّعْدِيُّ، أَوْ كَعْبُ بْنُ مُدْلِجٍ. وَمِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا ظَنَّهُ مُحَمَّدٌ السَّجَّادُ الْمَذْكُورُ - الْكُمَيْتُ فِي قَوْلِهِ فِي أَهْلِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً ... تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي فِيكُمْ وَتَحْفَظُونِي فِيهَا، فَتَكُفُّوا عَنِّي أَذَاكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِنْ أَذَى النَّاسِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَهْلُ الْقُرَابَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا. الِاقْتِرَافُ مَعَنَاهُ الِاكْتِسَابُ، أَيْ مَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ وَيَكْتَسِبْهَا - نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا، أَيْ نُضَاعِفْهَا لَهُ. فَمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ هِيَ الزِّيَادَةُ فِي حُسْنِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تُوَضِّحُهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 40] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [6 \ 160] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [2 \ 245] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [73 \ 20] . فَكَوْنُهُ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا زِيَادَةٌ فِي حُسْنِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [9 \ 104] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الْآيَةَ [66 \ 8] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [3 \ 135] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى التَّوْبَةِ وَأَرْكَانَهَا وَإِزَالَةَ مَا فِي أَرْكَانِهَا مِنَ الْإِشْكَالِ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [24 \ 31] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُنَزِّلُ مَا يَشَاءُ تَنْزِيلَهُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَغَيْرِهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 بِقَدَرٍ، أَيْ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَهُوَ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي مِقْدَارِ كَلِّ مَا يُنَزِّلُهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [15 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النُّورِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ الْآيَةَ [24 \ 57] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ. قَوْلُهُ: (وَمِنْ آيَاتِهِ) أَيْ مِنْ عَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - الْجَوَارِي وَهِيَ السُّفُنُ، وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [69 \ 11] يَعْنِي سَفِينَةَ نُوحٍ، وَسُمِّيَتْ جَارِيَةً لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ: (كَالْأَعْلَامِ) ، أَيْ كَالْجِبَالِ، شَبَّهَ السُّفُنَ بِالْجِبَالِ لِعِظَمِهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْأَعْلَامَ الْقُصُورُ، وَعَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ كُلَّ مُرْتَفِعٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ عَلَمًا، وَجَمْعُ الْعَلَمِ أَعْلَامٌ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ تَرْثِي أَخَاهَا صَخْرًا: وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ جَرَيَانَ السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ مِنْ آيَاتِهِ - تَعَالَى - الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [36 \ 41 - 44] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [29 \ 15] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» : وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [19 \ 14] . وَقَوْلِهِ فِي «فَاطِرٍ» :ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [35 \ 12] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو (الْجَوَارِي) بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ فِي الْوَصْلِ فَقَطْ دُونَ الْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (الْجِوَارِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (كَبِيرَ الْإِثْمِ) ، بِكَسْرِ الْبَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَرَاءٌ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ فَهَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ قَبْلَ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ وَخَيْرٌ وَأَبْقَى أَيْضًا لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ. وَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ. وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الْفَوَاحِشَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ أَشْنَعِهَا; لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْخَصْلَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْقُبْحِ، وَكُلُّ مُتَشَدِّدٍ فِي شَيْءٍ مُبَالِغٍ فِيهِ فَهُوَ فَاحِشٌ فِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ فَقَوْلُهُ: الْفَاحِشُ، أَيِ الْمُبَالِغُ فِي الْبُخْلِ الْمُتَنَاهِي فِيهِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ وَعْدِهِ - تَعَالَى - الصَّادِقِ لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ بِمَا عِنْدَهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» أَنَّ مِنْ ذَلِكَ تَكْفِيرَهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهُمْ، وَإِدْخَالَهُمُ الْمُدْخَلَ الْكَرِيمَ وَهُوَ الْجَنَّةُ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [4 \ 31] . وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ «النَّجْمِ» أَنَّهُمْ بِاجْتِنَابِهِمْ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ - يَصْدُقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْمُحْسِنِينَ، وَوَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْحُسْنَى.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْجَنَّةُ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ «الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [10 \ 26] كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَآيَةُ «النَّجْمِ» الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [53 \ 31] . ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [53 \ 23] . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا اللَّمَمَ) - أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّمَمِ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةَ [4 \ 31] . فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَيَدُلُّ لِهَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تُمَنِّي وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا اللَّمَمَ) مُنْقَطِعٌ; لِأَنَّ اللَّمَمَ الَّذِي هُوَ الصَّغَائِرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَدْخُلُ فِي الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [19 \ 62] . وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى (إِلَّا اللَّمَمَ) إِلَّا أَنْ يَلُمَّ بِفَاحِشَةٍ مَرَّةً، ثُمَّ يَجْتَنِبُهَا وَلَا يَعُودُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ مَا أَلَمَّا وَرَوَى هَذَا الْبَيْتَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا. وَفِي صِحَّتِهِ مُرْفُوعًا نَظَرٌ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِاللَّمَمِ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ هُوَ مَا قَدَّمَنَا لِدَلَالَةِ آيَةِ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَبَائِرَ الْإِثْمِ لَيْسَتْ مَحْدُودَةً فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ جَاءَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا، كَالسَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، أَيِ الْمُهَلِكَاتِ لِعِظَمِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذَفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ. وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْيِينِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ كَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَاسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبَادِيَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَالسَّرِقَةِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْكَلَإِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ قَتْلُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ، ثُمَّ زِنَاهُ بِحَلِيلَةِ جَارِهِ. وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ تَسَبُّبَ الرَّجُلِ فِي سَبِّ وَالِدَيْهِ» . وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ سِبَابَ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالَهُ كُفْرٌ» . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ الْوُقُوعَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّبَّتَيْنِ بِالسَّبَّةِ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ مِنْهَا جَمْعَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ» . وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ» . وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [12 \ 87] . وَقَوْلُهُ: فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [7 \ 99] . وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ» . وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [48 \ 6] . وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْغَلُولَ» . وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [3 \ 161] . وَقَدَّمْنَا مَعْنَى الْغَلُولِ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» ، وَذَكَرْنَا حُكْمَ الْغَالِّ. وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا» . وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [3 \ 77] . وَلَمْ نَذْكُرْ أَسَانِيدَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَنُصُوصَ مُتُونِهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَأَسَانِيدُ بَعْضِهَا لَا تَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، لَكِنَّهَا لَا يَكَادُ يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الصَّحِيحَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ اسْتَوْجَبَ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَدَّ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ دَلَّ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِ صَاحِبِهِ بِالدِّينِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْكَبَائِرَ أَقْرَبُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ فِي سَبْعٍ، وَأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهَا سَبْعٌ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَهَا فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ السَّبْعِ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالْحَقُّ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ. وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ - لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ أَيْضًا; لِأَنَّ زِيَادَةَ الْكَبَائِرِ عَلَى السَّبْعِ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِالْمَنْطُوقِ. وَقَدْ جَاءَ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعٍ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ مِنْ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي ضَابِطِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ اقْتَرَنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ مُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ، أَوْ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ وَتَوْكِيدِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْآيَةَ [4 \ 31] . وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّمَمَ [53 \ 32] يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، وَبَعْضَهَا صَغَائِرُ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُه - تَعَالَى -: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [16 \ 126] . وَفِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ الْآيَةَ [39 \ 17 - 18] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّحْلِ» وَآيَةِ «الزُّمَرِ» الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ الْآيَةَ [7 \ 53] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [16 \ 2] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا. قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ - يُبَيِّنُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ مِنَّتَهُ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، بِأَنَّهُ عَلَّمَهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ تَفَاصِيلَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 فَقَوْلُهُ: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) أَيْ مَا كُنْتَ تَعْلَمُ مَا هُوَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ، وَمَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ تَفَاصِيلُ هَذَا الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - أَنَّ الْإِيمَانَ شَامِلٌ لِلْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الِاعْتِقَادِ. وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا. . .» الْحَدِيثَ، فَسَمَّى فِيهِ قِيَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَحَدِيثُ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» . وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مَا كَانَ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَأَوْقَاتَهَا، وَلَا صَوْمَ رَمَضَانَ، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الزَّكَاةِ وَلَا مَا تَجِبُ فِيهِ وَلَا قَدْرَ النِّصَابِ وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ، وَلَا تَفَاصِيلَ الْحَجِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا الْإِيمَانُ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذِهِ الْأُمُورَ حَتَّى عَلَّمَهُ إِيَّاهَا بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ هَذَا النُّورَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ كِتَابُ اللَّهِ - جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الْآيَةَ [4 \ 113] . وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [12 \ 3] . فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «يُوسُفَ» هَذِهِ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ، كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [93 \ 7] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [26 \ 20] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (جَعَلْنَاهُ) رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 وَقَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، أَيْ وَلَكِنْ جَعْلَنَا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِنَا. وَسُمِّي الْقُرْآنُ نُورًا ; لِأَنَّهُ يُضِيءُ الْحَقَّ وَيُزِيلُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نُورٌ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [4 \ 174] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [7 \ 157] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [5 \ 15 - 16] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [64 \ 8] . وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنُ نُورًا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكْشِفُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَيَظْهَرُ فِي ضَوْئِهِ الْحَقُّ، وَيَتَمَيَّزُ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ. فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْتَضِيءَ بِنُورِهِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَمْتَثِلَ أَوَامِرَهُ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَعْتَبِرَ بِقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ. وَالسُّنَّةُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ قَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1 \ 6 - 7] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي الْآيَةَ، قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ الْآيَةَ [41 \ 17] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28 \ 56] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 وَالصِّرَاطُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَالْمُسْتَقِيمُ: الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: أمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْأُمُورِ كُلِّهَا تَصِيرُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [11 \ 123] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [3 \ 109 - 110] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.ُُُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 194 - 195] . وَفِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الْآيَةَ [39 \ 28] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (مِنْهُمْ) عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ الْمُسْرِفِينَ، الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [43 \ 5] . وَفِيهِ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ بِالِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَقَوْلُهُ: أَشَدَّ مِنْهُمْ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ (أَهْلَكَنَا) ، وَأَصْلُهُ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فَأَهْلَكْنَا قَوْمًا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ... يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ وَقَوْلُهُ: (بَطْشًا) تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ مِنَ الْفَاعِلِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْفَاعِلُ الْمَعْنَى انْصَبَنْ بِأَفْعَلَا مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعَلَا مَنْزِلَا وَالْبَطْشُ: أَصْلُهُ الْأَخْذُ بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ. وَالْمَعْنَى: فَأَهْلَكْنَا قَوْمًا أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، فَلْيَحْذَرِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ أَنْ نُهْلِكَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا أَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، أَيْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وعُدَدًا وَجَلَدًا.ُُُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 فَعَلَى الْأَضْعَفِ الْأَقَلِّ أَنْ يُتَّعَظَ بِإِهْلَاكِ الْأَقْوَى الْأَكْثَرِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ صِفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ إِهْلَاكُهُمُ الْمُسْتَأْصِلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ عُقُوبَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمُ - رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ هُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ، لِيَحْذَرُوا أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مِثْلَ مَا فُعِلَ بِأُولَئِكَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الْآيَةَ [30 \ 9] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [40 \ 82] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا إِلَى قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ الْآيَةَ [6 \ 6] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [34 \ 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [35 \ 44] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ، إِهْلَاكُهُمْ وَسُنَّتُهُ فِيهِمُ الَّتِي هِيَ الْعُقُوبَةُ وَعَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [35 \ 42 - 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [40 \ 83 - 85] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الْآيَةَ [18 \ 55] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [43 \ 55 - 56] . وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [5 \ 32] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَهْدًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ مِهَادًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفِرَاشُ. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ لِبَنِي آدَمَ مَهْدًا أَيْ فِرَاشًا، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا سُبُلًا أَيْ طُرُقًا لِيَمْشُوا فِيهَا وَيَسْلُكُوهَا، فَيَصِلُوا بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِهِ - تَعَالَى - جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا الطُّرُقَ لِيَنْفُذُوا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [71 \ 19 - 20] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [21 \ 31] . وَذَكَرَ كَوْنَ الْأَرْضُ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [51 \ 48] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً الْآيَةَ [40 \ 64] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [16 \ 15] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَلَالَةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 22] مَعَ بَقِيَّةِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [16 \ 10] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» مَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَالنُّشُورِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ اللُّغَاتِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِقَدَرٍ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِقَدَرٍ سَابِقٍ وَقَضَاءٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِمِقْدَارٍ يَكُونُ بِهِ إِصْلَاحُ الْبَشَرِ، فَلَمْ يَكْثُرِ الْمَاءُ جِدًّا فَيَكُونُ طُوفَانًا فَيُهْلِكُهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَلِيلًا دُونَ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، بَلْ نَزَّلَهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [23 \ 18] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [15 \ 21 - 22] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا. الْأَزْوَاجُ الْأَصْنَافُ، وَالزَّوْجُ تُطْلِقُهُ الْعَرَبُ عَلَى الصِّنْفِ. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ الْأَزْوَاجَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا تَشْمَلُ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَبَنِي آدَمَ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [36 \ 36] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 وَقَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [20 \ 53] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [22 \ 5] . أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [31 \ 10] . وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْأَصْنَافِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [38 \ 58] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [20 \ 131] . وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ الْآيَةَ [37 \ 22] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا الْآيَةَ [40 \ 79] . وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ - رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. يَعْنِي - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ جَعَلَ لِبَنِي آدَمَ مَا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْفُلْكِ الَّتِي هِيَ السُّفُنُ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ لِيَسْتَوُوا، أَيْ يَرْتَفِعُوا مُعْتَدِلِينَ عَلَى ظُهُورِهِ، ثُمَّ يَذْكُرُوا فِي قُلُوبِهِمْ نِعْمَةَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْمَرْكُوبَاتِ، ثُمَّ يَقُولُوا - بِأَلْسِنَتِهِمْ مَعَ تَفَهُّمِ مَعْنَى مَا يَقُولُونَ -: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَقَوْلُهُ: «سُبْحَانَ» قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» مَعْنَاهُ بِإِيضَاحٍ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَكْمَلَ التَّنْزِيهِ وَأَتَمَّهُ، عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا رَاجِعَةٌ إِلَى لَفْظِ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ وَجَمَعَ الظُّهُورَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى مَا ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا عَامٌّ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهَا، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ، فَالْجَمْعُ فِي الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 وَقَوْلُهُ: الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا أَيِ الَّذِي ذَلَّلَ لَنَا هَذَا الَّذِي هُوَ مَا نَرْكَبُهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالسُّفُنِ ; لِأَنَّ الْأَنْعَامَ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهَا اللَّهُ لَهُمْ لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمَلَ أَقْوَى مِنَ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ الْبَحْرُ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهُ لَهُمْ وَيُسَخِّرْ لَهُمْ إِجْرَاءَ السُّفُنِ فِيهِ لَمَا قَدَرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَقْرَنَ الرَّجُلُ لِلْأَمْرِ وَأَقْرَنَهُ إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ كُفُؤًا لِلْقِيَامِ بِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقَرَنْتُ الدَّابَّةَ لِلدَّابَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا قَرَنْتَهُمَا فِي حَبْلٍ قَدَرْتَ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ أَضْعَفَ مِنْهَا فَتَجُرَّهَا; لِأَنَّ الضَّعِيفَ إِذَا لُزَّ فِي الْقَرَنِ، أَيِ الْحَبْلِ، مَعَ الْقَوِيِّ - جَرَّهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ: وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ وَقَدْ أَنْشَدَهُ قُطْرُبُ لِهَذَا الْمَعْنَى: لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عَقِيلُ ... لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا وَقَوْلُ ابْنِ هَرْمَةَ: وَأَقْرَنَتْ مَا حَمَلَتْنِي وَلَقَلَّمَا ... يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدْيَادِ عَدُوِّ الْهَجْرِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: رَكِبْتُمْ صَعْبَتَيْ أَشَرًا وَحَيْفًا ... وَلَسْتُمْ لِلصِّعَابِ بِمُقْرِنِينَا وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ السُّفُنِ وَالْأَنْعَامِ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهُ اللَّهُ لَهُمْ لَمَا أَقْرَنُوا لَهُ وَلَمَا أَطَاقُوهُ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ; قَالَ - تَعَالَى - فِي رُكُوبِ الْفُلْكِ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [36 \ 41 - 42] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا الْآيَةَ [16 \ 14] . وَقَالَ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [45 \ 12] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 الْآيَةَ [14 \ 32] . وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَةَ [2 \ 164] . وَقَالَ - تَعَالَى -: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي تَسْخِيرِ الْأَنْعَامِ: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [36 \ 72] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [22 \ 36 - 37] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ عِدْلًا وَنَظِيرًا، يَعْنِي الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ وَلَدًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا يَعْنِي الْبَنَاتَ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْجُزْءَ النَّصِيبُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَةِ «الْأَنْعَامِ» ، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا الْآيَةَ [6 \ 136] . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرُ صَوَابٍ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الْمَجْعُولَ لِلَّهِ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» هُوَ النَّصِيبُ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَالْمَجْعُولَ لَهُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ عِبَادِهِ لَا مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ. وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَأَنَّ قَوْلَ قَتَادَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ الْعِدْلُ وَالنَّظِيرُ الَّذِي هُوَ الشَّرِيكُ - غَيْرُ صَوَابٍ أَيْضًا; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْجُزْءِ عَلَى النَّظِيرِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْجَزَاءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدَ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ خُصُوصَ الْإِنَاثِ - فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْآيَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 وَإِطْلَاقُ الْجُزْءِ عَلَى الْوَلَدِ يُوَجَّهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْجُزْءَ مُرَادًا بِهِ الْبَنَاتُ، وَيَقُولُونَ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ الْبَنَاتِ، وَامْرَأَةُ مُجْزِئَةٌ، أَيْ تَلِدُ الْبَنَاتِ، قَالُوا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةً يَوْمًا فَلَا عَجَبَ ... قَدْ تُجْزِيءُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانًا وَقَوْلُ الْآخَرِ: زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً ... لِلْعَوْسَجِ اللَّدْنِ فِي أَبْيَاتِهَا زَجَلُ وَأَنْكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ اللُّغَةَ قَائِلًا: إِنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الْعَرَبِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ بِالْإِنَاثِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْجُزْءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْإِنَاثِ، وَمَا هُوَ إِلَّا كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ، وَوَضْعٌ مُسْتَحْدَثٌ مَنْحُولٌ، وَلَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى اشْتَقُّوا مِنْهُ (أَجَزَأَتِ الْمَرْأَةُ) ثُمَّ صَنَعُوا بَيْتًا وَبَيْتًا: إِنْ أَجَزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ ... زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ: وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَمَّا افْتَرَوْا، قَالَ: وَقَدْ أَنْشَدْتُ بَيْتًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى جُزْءًا مَعْنَى الْإِنَاثِ ; قَالَ - وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مَصْنُوعٌ -: إِنْ أَجَزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ الْبَيْتَ. وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، أَيْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ مِنَ الْوَلَدُُِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 الْإِنَاثَ، قَالَ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي شِعْرٍ قَدِيمٍ وَلَا رَوَاهُ عَنِ الْعَرَبِ الثِّقَاتِ، وَأَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَتِ الْإِنَاثَ، وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ: زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً الْبَيْتَ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ اللِّسَانِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ الزُّجَاجِ أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ الْإِنَاثَ - مَعْرُوفٌ ; وَلِذَا ذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْشَدَهُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَالْمُسَلِّمِ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدُ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجُزْءِ ; لِأَنَّ الْفَرْعَ كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْوَلَدَ كَأَنَّهُ بِضْعَةٌ مِنَ الْوَالِدِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ - خُصُوصُ الْإِنَاثِ، فَقَرِينَةُ السِّيَاقِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً ; لِأَنَّ جَعْلَ الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللَّهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا، وَقَرَّعَ مُرْتَكِبَهُ تَقْرِيعًا شَدِيدًا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 16 - 18] . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ جُزْءًا بِضَمِّ الزَّايِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْكَانِهَا، وَحَمْزَةُ عِنْدَ الْوَقْفِ يُسْقِطُ الْهَمْزَةَ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الزَّايِ مَعَ حَذْفِ التَّنْوِينِ لِلْوَقْفِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ. (أَمْ) هُنَا بِمَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ ; فَالْكُفَّارُ لَمَّا قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ - أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، مُوَبِّخًا لَهُمْ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ ; حَيْثُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ الْوَلَدَ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَحْقَرَهُمَا، وَهُوَ الْأُنْثَى، كَمَا قَالَ هُنَا: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ، وَهِيَ النَّصِيبُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَوْلَادِ، (وَأَصْفَاكُمْ) أَنْتُمْ، أَيْ خُصِّكُمْ وَآثَرَكُمْ (بِالْبَنِينَ) الَّذِينَ هُمُ النَّصِيبُ الْأَعْلَى مِنَ الْأَوْلَادِ. وَإِنْكَارُ هَذَا عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ هُنَا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا [43 \ 17] . يَعْنِي الْأُنْثَى، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [16 \ 58] يَعْنِي فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْإِنَاثَ وَأَنْتُمْ لَوْ بُشِّرَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ أُنْثَى لَظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، يَعْنِي مِنَ الْكَآبَةِ، وَهُوَ كَظِيمٌ، أَيْ مُمْتَلِئٌ حُزْنًا وَغَمًّا، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - هُنَا: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 18] فَفِيهِ إِنْكَارٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ عَظِيمٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ افْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ - جَلَّ وَعَلَا - الْوَلَدَ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ، الَّذِي لِنَقْصِهِ الْخُلُقِيِّ يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ - مِنَ الْحُلِيِّ، وَالْحُلَلِ وَأَنْوَاعِ الزِّينَةِ - مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ; لِيَجْبُرَ بِتِلْكَ الزِّينَةِ نَقْصَهُ الْخُلُقِيَّ الطَّبِيعِيَّ، وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ; لِأَنَّ الْأُنْثَى غَالِبًا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِحُجَّتِهَا وَلَا الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [16 \ 57] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [16 \ 62] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [53 \ 21 - 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [37 \ 149 - 157] . وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [16 \ 57] . وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْأُنْثَى بِمَا ضُرِبَ مَثَلًا لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا الْآيَةَ [43 \ 17]- ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْبَنَاتِ الْمَزْعُومَةَ يُلْزِمُ ادِّعَاؤُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا يُشْبِهُ الْآخَرَ فِي صِفَاتِهِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ عِنْدَ الرَّحْمَنِ بِسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ، ظَرْفٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [7 \ 206] . وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَضَمِّ الدَّالِ، جَمْعُ عَبْدٍ، كَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الْآيَةَ [25 \ 63] . وَقَوْلُهُ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ. قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ (أَشَهِدُوا) بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ فَتْحِ الشِّينِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ (أَأُشْهِدُوا) . بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ مُحَقَّقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةٌ مُسَهَّلَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَالُوا: يُجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ أَلِفُ الْإِدْخَالِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ افْتَرَوْا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخًا شَدِيدًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ يَعْنِي هَلْ حَضَرُوا خَلْقَ اللَّهِ لَهُمْ فَعَايَنُوهُمْ إنَاثًا. الثَّالِثَةُ: أَنَّ شَهَادَتَهُمُ الْكَاذِبَةَ بِذَلِكَ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الْأُولَى مِنْهَا. وَهِيَ كَوْنُهُمُ اعْتَقَدُوا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا، فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى الْآيَةَ [53 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا الْآيَةَ [37 \ 149 - 150] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ سُؤَالُهُ - تَعَالَى - لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 هَلْ شَهِدُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَحَضَرُوهُ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ خُلِقُوا إنَاثًا؟ فَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ [37 \ 150] . وَبَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدِ الْكُفَّارَ خَلْقَ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [18 \ 51] . وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي هِيَ كَوْنُ شَهَادَتِهِمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ - فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 10 - 12] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 29] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [43 \ 80] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [10 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ الْآيَةَ [17 \ 13، 14] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [19 \ 79] . وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ كَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [29 \ 13] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [15 \ 92 - 93] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [43 \ 44] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [16 \ 56] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ الْكُفَّارِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ هُنَا، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [43 \ 20]- هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى ظَاهِرِهِ كَلَامٌ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [6 \ 107] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [6 \ 35] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الْآيَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 [32 \ 13] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [6 \ 149] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [10 \ 99] . وَهَذَا الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هُوَ بِعَيْنِهِ وَاقِعٌ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» ، وَآيَةِ «النَّحْلِ» . أَمَّا آيَةُ «الْأَنْعَامِ» فَهِيَ قَوْلُهُ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [6 \ 148] . وَأَمَّا آيَةُ «النَّحْلِ» فَهِيَ قَوْلُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا الْآيَةَ [16 \ 35] . فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ «الزُّخْرُفِ» وَآيَةِ «الْأَنْعَامِ» وَآيَةِ «النَّحْلِ» - أَنَّ مَا قَالَهُ الْكُفَّارُ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ مَا عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَلَا أَشْرَكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةِ قَرِيبًا - فَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ، أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِكَذِبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي ظَاهَرُهَا حَقٌّ، قَالَ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [43 \ 20] . أَيْ يَكْذِبُونَ، وَقَالَ فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» : كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [6 \ 148] . وَقَالَ فِي آيَةِ «النَّحْلِ» : كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [16 \ 35] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ لَهُ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مُرَادَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَقَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [6 \ 148]- مُرَادَهُمْ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ رَاضٍ مِنْهُمْ بِالشِّرْكِ فِي زَعْمِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ لَصَرَفَنَا عَنْهُ، فَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مُنْصَبٌّ عَلَى دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يُكَذِّبُ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [39 \ 7] . فَالْكُفَّارُ زَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الرِّضَى، وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَهُوَ الَّذِي كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَيْثُ قَالَ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [43 \ 21] . أَيْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا رَاضُونَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ هُوَ تَقْلِيدُ آبَائِهِمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [43 \ 22] . أَيْ شَرِيعَةٍ وَمِلَّةٍ، وَهِيَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [43 \ 22] . فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: (مُهْتَدُونَ) وَهُوَ مَصَبُّ التَّكْذِيبِ ; لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَرْضَى بِالِاهْتِدَاءِ لَا بِالضَّلَالِ. فَالِاهْتِدَاءُ الْمَزْعُومُ أَسَاسُهُ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ الْأَعْمَى، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «النَّحْلِ» بَعْدَ ذِكْرِهِ دَعْوَاهُمُ الْمَذْكُورَةَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [16 \ 36] . فَأَوْضَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَيَجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، أَيْ يَتَبَاعَدُوا عَنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ. وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بَعْضَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالشَّقَاءُ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الْأَنْعَامِ» : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [6 \ 149] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 فَمِلْكُهُ - تَعَالَى - وَحْدَهُ لِلتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، هُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، يَعْنِي فَمَنْ هَدَيْنَاهُ وَتَفَضَّلْنَا عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ، فَهُوَ فَضْلٌ مِنَّا وَرَحْمَةٌ. وَمَنْ لَمْ نَفْعَلْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ عَدْلٌ مِنَّا وَحِكْمَةٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْنَا، وَلَا وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْنَا، بَلْ إِنْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ فَعَدْلٌ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَعَلِمَ أَنَّ قَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى الشَّقَاءِ وَقَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى السَّعَادَةِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى الْجَمِيعِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَتَأْيِيدِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، فَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ بِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - وَفَّقَ مَنْ شَاءَ تَوْفِيقَهُ، وَلَمْ يُوَفِّقْ مَنْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ الشَّقَاءُ الْأَزَلِيُّ، وَخَلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَصَرَفَ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَاتِهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ إِلَى مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ، وَأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلشَّقَاءِ. فَأَتَوْا كُلَّ مَا أَتَوْا وَفَعَلُوا كُلَّ مَا فَعَلُوا، طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ، غَيْرَ مَجْبُورِينَ وَلَا مَقْهُورِينَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [76] . قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [6 \ 149] . وَادِّعَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ لَا إِرَادَةَ لَهُ ضَرُورِيُّ السُّقُوطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْ أَعْظَمِ الضَّرُورِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَ الْحَرَكَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْحَرَكَةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ - فَرْقًا ضَرْورِيًا، لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ. وَأَنَّكَ لَوْ ضَرَبْتَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْخَلْقَ مَجْبُورُونَ، وَفَقَأَتْ عَيْنَهُ مَثَلًا، وَقَتَلْتَ وَلَدَهُ وَاعْتَذَرْتَ لَهُ بِالْجَبْرِ، فَقُلْتَ لَهُ: أَنَا مَجْبُورٌ وَلَا إِرَادَةَ لِي فِي هَذَا السُّوءِ الَّذِي فَعَلْتُهُ بِكَ، بَلْ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَنَا لَا دَخْلَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِلَا شَكٍّ. بَلْ يُبَالِغُ فِي إِرَادَةِ الِانْتِقَامِ مِنْكَ قَائِلًا: إِنَّ هَذَا بِإِرَادَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَفْعَالِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ - أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُنْكِرَ عِلْمَ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ. وَسَبْقُ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ تِلْكَ الدَّعْوَى. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلْقَدَرِيِّ: إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ تَعَلَّقَ بِأَنَّكَ تَقَعُ مِنْكَ السَّرِقَةُ أَوِ الزِّنَا فِي مَحَلِّ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَرَدْتَ أَنْتَ بِإِرَادَتِكَ الْمُسْتَقِلَّةِ فِي زَعْمِكَ دُونَ إِرَادَةِ اللَّهِ أَلَّا تَفْعَلَ تِلْكَ السَّرِقَةَ أَوِ الزِّنَا الَّذِي سَبَقَ بِعِلْمِ اللَّهِ وُقُوعُهُ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ؟ وَتُصَيِّرَ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدِّدِ لَهُ؟ وَالْجَوَابُ بِلَا شَكٍّ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [76] . وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [6 \ 149] . وَلَا إِشْكَالَ أَلْبَتَّةَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، ثُمَّ يَصْرِفُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَإِرَادَتَهُ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، فَيَأْتِيهِ الْعَبْدُ طَائِعًا مُخَتَارًا غَيْرَ مَقْهُورٍ وَلَا مَجْبُورٍ، وَغَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وَالْمُنَاظَرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ تُوَضِّحُ هَذَا. وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا لَيْسَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ فِي زَعْمِهِ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّذَائِلُ بِمَشِيئَتِهِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ. فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَتَرَاكَ تَفْعَلُهُ جَبْرًا عَلَيْهِ، آنْتَ الرَّبُّ وَهُوَ الْعَبْدُ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَانِي إِلَى الْهُدَى، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدِيءِ، دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ دُونِي؟ أَتَرَاهُ أَحْسَنَ أَمْ أَسَاءَ؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي مَنَعَكَ إِنْ كَانَ حَقًّا وَاجِبًا لَكَ عَلَيْهِ - فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَقَدْ أَسَاءَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ الْمَحْضُ فَإِنْ أَعْطَاكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ مَنْعَكَ فَعَدْلٌ. فَبُهِتَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَقَالَ الْحَاضِرُونَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا جَوَابٌ. وَمَضْمُونُ جَوَابِ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا الَّذِي أَفْحَمَ بِهِ عَبْدَ الْجَبَّارِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [6 \ 149] . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِيَرُدَّهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ عَمْرٌو مَا مَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا; لِأَنَّكَ أَنْزَهُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُدَبِّرَ هَذَا الْخَنَا. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا هَذَا، إِلَّا مَا كَفَفْتَ عَنِّي مِنْ دُعَائِكَ هَذَا الْخَبِيثِ، إِنْ كَانَتْ سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلَا تُرَدُّ، وَلَا ثِقَةَ لِي بِرَبٍّ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاؤُهُ. فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَنْ آيَةِ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَفِي سُورَةِ «الشَّمْسِ» فِي الْكَلَامِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ. (أَمْ) هُنَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، يَعْنِي - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ الْكُفَّارُ مِنْ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَجَعْلِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ - لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ ; وَلِذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ آتَاهُمْ كِتَابًا يَحِلُّ فِيهِ ذَلِكَ وَأَنَّ يَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ فِي ذَلِكَ بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا هُنَا إِنْكِارًا دَالًّا عَلَى النَّفْيِ لِلتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، مَعَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ كُفْرَهُمُ الْمَذْكُورَ لَمْ يَكُنْ عَنْ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَلَا كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» : الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [35 \ 40] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَحْقَافِ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [46 \ 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الرُّومِ» : أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [30 \ 35] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [37 \ 156 - 157] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّمْلِ» : أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [27 \ 64] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» وَ «لُقْمَانَ» : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [22 \ 8] وَ [31 \ 20] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [6 \ 148] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ الْآيَةَ [23 \ 44] . وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [6 \ 123] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [43 \ 24] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: (قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا أَلْفٌ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَتَقْتَدُونَ بِآبَائِكُمْ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى، أَيْ بِدِينٍ أَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ أَصْلًا. وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ فَالْمَعْنَى: قَالَ هُوَ: أَيْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَسْفِيهِ رَأْيِ الْكُفَّارِ وَبَيَانِ شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ آبَاءَهُمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [2 \ 170] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمَائِدَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] . وَأَوْضَحَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «لُقْمَانَ» أَنَّ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الشَّيْطَانِ يَدْعُوهُمْ بِسُلُوكِهَا إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [31 \ 21] . كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [37 \ 69 - 70] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [21 \ 51 - 54] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّهُ بَرَاءٌ، أَيْ بَرِيءٌ، مِنْ جَمِيعِ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ يَعْنِي أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ، إِلَّا الْمَعْبُودَ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ مَعْبُودُهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ - تَعَالَى - هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الْآيَةَ [26 \ 57 - 78] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 78 - 79] . وَزَادَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «الْمُمْتَحَنَةِ» بَرَاءَتَهُ أَيْضًا مِنَ الْعَابِدِينَ، وَعَدَاوَتَهُ لَهُمْ، وَبُغْضَهُ لَهُمْ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [60 \ 4] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [26 \ 78] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [37 \ 99] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [6 \ 77] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ خَلَقَنِي - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا الْخَالِقُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [26 \ 184] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْآيَةَ [16 \ 17] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الْآيَةَ [25 \ 2 - 3] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ. الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (جَعَلَهَا) عَلَى التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [43 \ 26 - 27] . لِأَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا هُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى صَيَّرَ إِبْرَاهِيمَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ (بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أَيْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ بَاقِيَةً فِيهِمْ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصَّيْتُهُ لِأَوْلَادِهِ بِذَلِكَ، وَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ عَنْهُ، فَيُوصِي بِهِ السَّلَفُ مِنْهُمُ الْخَلْفَ، كَمَا أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ الْآيَةَ [2 \ 130 - 132] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 وَالْأَمْرُ الثَّانِي هُوَ سُؤَالُهُ رَبَّهُ - تَعَالَى - لِذُرِّيَّتِهِ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [2 \ 124] . أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْضًا أَئِمَّةً، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [14 \ 40] . وَقَوْلِهِ عَنْهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [14 \ 35] . وَقَوْلِهِ عَنْهُ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [2 \ 129] . وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي بَعْثِ الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ» . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [29 \ 27] . وَقَالَ عَنْهُ وَعَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الْآيَةَ [57 \ 26] . وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا إِشْكَالَ. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِي جَمِيعِ عَقِبِهِ ; لِأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَقِبِهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: إِنَّهُ سَاحِرٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ وَآبَاءَهُمْ، حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الْكَلِمَةَ الْمَذْكُورَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [2 \ 124] . أَيِ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [37 \ 113] . فَالْمُحْسِنُ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي الْكَلِمَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُبِينُ مِنْهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «النِّسَاءِ» : فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي «الْحَدِيدِ» أَنَّ غَيْرَ الْمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [57 \ 26] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ جَعَلَ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ; لَعَلَّ الزَّائِغَيْنِ الضَّالَّيْنِ مِنْهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ بِإِرْشَادِ الْمُؤْمِنِينَ الِمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْحَقَّ مَا دَامَ قَائِمًا فِي جُمْلَتِهِمْ فَرُجُوعُ الزَّائِغَيْنِ عَنْهُ إِلَيْهِ مَرْجُوٌّ مَأْمُولٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَالرَّجَاءُ الْمَذْكُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَنِي آدَمَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنْ يَصِيرُ إِلَى الْهُدَى، وَمَنْ يَصِيرُ إِلَى الضَّلَالِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَالْمَعْنَى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، أَيْ قَالَ لَهُمْ، يَتُوبُونَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. اهـ مِنْهُ. وَإِيضَاحُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) لِأَجْلِ أَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْحَقِّ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عَلَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ ضَلَّ مِنْ عَقِبِهِ ; لِأَنَّ الضَّالِّينَ مِنْهُمْ دَاخِلُونَ فِي لَفْظِ الْعَقِبِ. فَرُجُوعُ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الْعَقِبِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. مَسْأَلَةٌ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَعْنَى الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [14 \ 35] . وَقَالَ عَنْهُ فِي بَعْضِهَا: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [14 \ 40] . وَفِي بَعْضِهَا: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ [14 \ 37] . وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [29 \ 27] . وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ. فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَنِينَ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْعَقِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ جَمِيعَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ وَقْفًا أَوْ تَصَدَّقَ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ عَقِبِهِ - أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ. وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ وَاسْمِ الْبَنِينَ. وَإِذَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعَقِبَ بِمَعْنَاهُمَا - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْعَقِبِ أَيْضًا، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ [6 \ 84 - 85] . وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ ; لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدُ بِنْتٍ، إِذْ لَا أَبَ لَهُ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الْبَنِينَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [4 \ 23] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [4 \ 23] . لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنَاتِ فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ - شَامِلٌ لِبَنَاتِ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنَّ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَحِيحٌ فِي اسْتِوَاءِ بَنَاتِ بَنِيهِنَّ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنَّ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ دُخُولَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ وَالْعَقِبِ، هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ. وَكَلَامُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ مَعْرُوفٌ، وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ نَبْسُطْ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامَ هُنَا ; لِأَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى تَرْجِيحِهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَطْ. أَمَّا لَفْظُ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ [4 \ 11] . فَإِنَّ قَوْلَهُ: (فِي أَوْلَادِكُمْ) لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ قُرْآنِيٌّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي اسْمِ الْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَقِبَ وَالْوَلَدَ سَوَاءٌ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. أَمَّا لَفْظُ النَّسْلِ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ شُمُولُهُ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [32 \ 6 - 8]- ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَفْظَةَ النَّسْلِ فِي الْآيَةِ شَامِلَةٌ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ هِيَ أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا ذَكَرْنَا خَمْسَةً مِنْهَا وَهِيَ: الذُّرِّيَّةُ وَالْبَنُونَ وَالْعَقِبُ وَالْوَلَدُ وَالنَّسْلُ. وَذَكَرْنَا أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهَا يَدْخُلُ فِيهَا أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَوَاحِدٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ الْوَلَدُ. وَأَمَّا السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ: الْآلُ وَالْأَهْلُ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَالْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ وَالْقَوْمُ وَالْمَوَالِي، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مُضْطَرِبٌ. وَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ تَحْدِيدٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ مَا يَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمَا يَخْرُجُ عَنْهُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، إِلَّا لَفْظَيْنِ مِنْهَا وَهُمَا الْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ. أَمَّا الْقَرَابَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَعْطَى مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ» ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [8 \ 41] . كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْخُمُسِ هَذِهِ. وَأَمَّا الْعَشِيرَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [26 \ 214]- صَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ تَحْدِيدُ الْعَشِيرَةِ الْأَقْرَبِينَ بِجَمِيعِ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الْعَاشِرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، الْحَدِيثَ، وَقُرَيْشٌ هُمْ أَوْلَادُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. تَنْبِيهٌ [فَإِنْ قِيلَ] : ذَكَرْتُمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي لَفْظِ الْبَنِينَ، وَالشَّاعِرُ يَقُولُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ: بَنُونَا بَنُوا أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ يَذْكُرُونَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيمِ لَهُ، قَالُوا: وَمِمَّا يُوَضِّحُ صِدْقَهُ أَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى رِجَالٍ آخَرِينَ، رُبَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً لِأَهْلِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَاهُ وَعُصْبَتَهُ فِي عَدَاوَةِ أَخْوَالِهِ وَبُغْضِهِمْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. [فَالْجَوَابُ] أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَهُ جِهَتَانِ، فَمَعْنَى لَفْظِ الِابْنِ لَهُ جِهَةٌ خَاصَّةٌ هِيَ مَعْنَى كَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ مَاءِ هَذَا الرَّجُلِ عَلَى وَجْهٍ يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبُهُ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ عَنْ وَالِدِ أُمِّهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ: ابْنٌ - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَثَابِتٌ لِأَبِيهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ مَائِهِ، وَلَهُ جِهَةٌ أُخْرَى هِيَ كَوْنُهُ خَارِجًا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ، سَوَاءً كَانَ بِالْمُبَاشِرَةِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ وَإِنْ سَفُلَ، فَالْبُنُوَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتَةٌ لِوَلَدِ الْبِنْتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي عَنَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «وَإِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [4 \ 23] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [4 \ 23] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:ُُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ الْآيَةَ [33 \ 55] . فَلَفْظُ الْبَنَاتِ وَالْأَبْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفُلُوا، وَإِنَّمَا شَمِلَهُمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الِابْنِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّخْصِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ بَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ الْأُولَى وَالِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ. فَإِنَّ بَنِي الْبَنَاتِ لَيْسُوا أَبْنَاءً لِآبَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَائِهِمْ، وَإِنَّمَا خُلِقُوا مِنْ مَاءِ رِجَالٍ آخَرِينَ، رُبَّمَا كَانُوا أَبَاعِدَ، وَرُبَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً. فَصَحَّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ نَفْيُ الْبُنُوَّةِ عَنِ ابْنِ الْبِنْتِ. وَصَحَّ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ الْبُنُوَّةِ لَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ مَعَ انْفِكَاكِ الْجِهَةِ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى إِحْدَاهُمَا تَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ لِابْنِ الْبِنْتِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْأُخْرَى تَنْتَفِي عَنْهُ. فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» ، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [4 \ 23] . وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ يَنْزِلُ عَلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [33 \ 40]- يَتَنَزَّلُ عَلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ الَّتِي يَعْنِي الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا أَنَّ قَبَائِلَ الْعَرَبِ قَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَمُقَاتَلَاتٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْقِتَالُ بَيْنَ أَعْمَامِ الرَّجُلِ وَأَخْوَالِهِ، فَيَكُونُ مَعَ عُصْبَتِهِ دَائِمًا عَلَى أَخْوَالِهِ، كَمَا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي أَخْوَالِهِ فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةً دُونَ مُعَامَلَتِهِمْ لِأَبْنَائِهِمْ. كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ غَسَّانُ بْنُ وَعْلَةَ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ: إِذَا كُنْتَ فِي سَعْدٍ وَأُمُّكَ مِنْهُمُ شَطِيرًا ... فَلَا يَغْرُرْكَ خَالُكَ مِنْ سَعْدُُِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 فَإِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مُصْغِي إِنَاؤُهُ ... إِذَا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ فَقَوْلُهُ: مُصْغِي إِنَاؤُهُ مِنَ الْإِصْغَاءِ وَهُوَ الْإِمَالَةُ ; لِأَنَّ الْإِنَاءَ إِذَا أُمِيلَ وَلَمْ يُتْرَكْ مُعْتَدِلًا لَمْ يَتَّسِعْ إِلَّا لِلْقَلِيلِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نَقْصِ نَصِيبِهِ فِيهِمْ وَقِلَّتِهِ. وَعَلَى الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ يَتَنَزَّلُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ. فَمَنْ رَأَى مِنْهُمْ أَنَّهُ أَبٌ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ، فَقَدْ رَاعَى فِي الْجَدِّ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَمَنْ رَأَى مِنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ وَأَنَّهُ لَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ، فَقَدْ لَاحَظَ الْجِهَةَ الْأُخْرَى. وَلَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ هُنَا فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَلِأَنَّنَا لَمْ نَجِدْ نُصُوصًا مِنَ الْوَحْيِ تُحَدِّدُ شَيْئًا مِنْهَا تَحْدِيدًا دَقِيقًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْقَوْمِ مِنْهَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَأَنَّ الْإِنَاثَ قَدْ يَدْخُلْنَ فِيهِ بِحُكْمِ التَّبَعِ إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ الْآيَةَ [49 \ 11] . فَعَطْفُهُ النِّسَاءَ عَلَى الْقَوْمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِنَّ فِي لَفْظِ الْقَوْمِ. وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَأَمَّا دُخُولُ النِّسَاءِ فِي الْقَوْمِ بِحُكْمِ التَّبَعِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ - فَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي مَلِكَةِ سَبَإٍ: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [27 \ 43] . وَأَمَّا الْمَوَالِي فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَاللُّغَةُ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ سَبَبٌ يُوَالِي وَيَوَالَى بِهِ. وَلِذَا أَطْلَقَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُ بِالطَّاعَةِ وَيُوَالِيهِمْ بِالْجَزَاءِ. وَنَفَى وِلَايَةَ الطَّاعَةِ عَنِ الْكَافِرِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47 \ 11] .ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 وَأَثْبَتَ لَهُ عَلَيْهِمْ وِلَايَةَ الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [10] . كَمَا أَثْبَتَ لَهُمْ وِلَايَةَ النَّارِ فِي قَوْلِهِ: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ الْآيَةَ [57 \ 15] . وَأَطْلَقَ - تَعَالَى - اسْمَ الْمَوَالِي عَلَى الْعُصَبَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [4 \ 33] . وَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَوْلَى عَلَى الْأَقَارِبِ وَنَحْوِهِمْ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [44 \ 41] . وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْمَوَالِي عَلَى الْعَصَبَةِ وَابْنِ الْعَمِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا لَا تُظْهِرَنَّ لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونًا وَقَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: وَأَعْلَمُ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِّ أَنَّهُ ... إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهُوَ ذَلِيلٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ، أَوْ صَدَقَةٌ عَلَى قَوْمِي، أَوْ مَوَالِيَّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ خَاصٌّ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ فَلَا نَعْلَمُ نَصًّا مِنْ كِتَابِ وَلَا سُنَّةٍ يُحَدِّدُ ذَلِكَ تَحْدِيدًا دَقِيقًا. وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ مَعْرُوفٌ فِي مَحَالِّهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. (وَقَالُوا) أَيْ قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ: (لَوْلَا) أَيْ هَلَّا (نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، وَهُمَا مَكَّةُ وَالطَّائِفُ (عَظِيمٍ) يَعْنُونَ بِعِظَمِهِ كَثْرَةَ مَالِهِ وَعِظَمَ جَاهِهِ، وَعُلُوَّ مَنْزِلَتِهِ فِي قَوْمِهِ، وَعَظِيمُ مَكَّةَ الَّذِي يُرِيدُونَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَفِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ يَجْتَمِعُ نَسَبُهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَعَظِيمُ الطَّائِفِ هُوَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِيضَاحُ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا أَوَّلًا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسْولًا مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا. ثُمَّ لَمَّا سَمِعُوا الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ تَنَازَلُوا عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ إِرْسَالَ رُسُلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى اقْتِرَاحٍ آخَرَ، وَهُوَ اقْتِرَاحُ تَنْزِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَهَذَا الِاقْتِرَاحُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ جَهْلِهِمْ، وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ ; حَيْثُ يَجْعَلُونَ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي الدُّنْيَا مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ النُّبُوَّةِ وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ. وَلِذَا زَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ أَهْلًا لِإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَأَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَحَقُّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شِدَّةَ جَهْلِهِمْ، وَسَخَافَةَ عُقُولِهِمْ، بِقَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ النُّبُوَّةُ وَإِنْزَالُ الْوَحْيِ. وَإِطْلَاقُ الرَّحْمَةِ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الدُّخَانِ» : إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [44 \ 5 - 6] . وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الْقَصَصِ» : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [28 \ 86] . وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الْأَنْبِيَاءِ» : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 107] . وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ عَلَى النُّبُوَّةِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا الْآيَةَ [18 \ 65] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 وَقَدَّمْنَا مَعَانِيَ إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا الْآيَةَ [35 \ 2] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ يَعْنِي أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ أَمْرَ مَعَايِشِهِمْ وَحُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ تَوَلَّى هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - قِسْمَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقِيرًا، وَهَذَا رَفِيعًا وَهَذَا وَضِيعًا، وَهَذَا خَادِمًا وَهَذَا مَخْدُومًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ حُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُحَكِّمْهُمْ فِيهَا، بَلْ كَانَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، فَكَيْفَ يُفَوِّضُ إِلَيْهِمْ أَمْرَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ حَتَّى يَتَحَكَّمُوا فِيمَنْ يَنْزِلُ إِلَيْهِ الْوَحْيُ؟ فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ وَلَا يَظُنُّهُ إِلَّا غَبِيٌّ جَاهِلٌ كَالْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [43 \ 32] التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّهُ مِنَ التَّسْخِيرِ. وَمَعْنَى تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ - خِدْمَةُ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَعَمَلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ; لِأَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ فِي الدُّنْيَا يَتَوَقَّفُ قِيَامُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ حِكْمَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَقِيرًا مَعَ كَوْنِهِ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ، وَيَجْعَلَ هَذَا ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - يُهَيِّئُ لَهُ دَرَاهِمَ يُؤَجِّرُ بِهَا ذَلِكَ الْفَقِيرَ الْقَوِيَّ، فَيَنْتَفِعُ الْقَوِيُّ بِدَرَاهِمِ الضَّعِيفِ، وَالضَّعِيفُ بِعَمَلِ الْقَوِيِّ ; فَتَنْتَظِمُ الْمَعِيشَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَهَكَذَا. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ كُلُّهَا مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْقَصُ شَرَفًا وَقَدْرًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي «ص» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي الْآيَةَ [38 \ 8] . فَقَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا مَعْنَاهُ إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوَحْي مِنْهُ، لِكَثْرَةِ مَالِهِ وَجَاهِهِ وَشَرَفِهِ فِيهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 وَقَدْ قَالَ قَوْمُ صَالِحٍ مِثْلَ ذَلِكَ لِصَالِحٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [54 \ 25] . فَقُلُوبُ الْكُفَّارِ مُتَشَابِهَةٌ، فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ مُتَشَابِهَةً. كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [2 \ 118] . وَقَالَ - تَعَالَى -: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [51 \ 53] . وَأَمَّا اقْتِرَاحُهُمْ إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ خُصُوصِيَّتَهُ بِذَلِكَ دُونَهُمْ - فَقَدْ ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [6 \ 124] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الْمُدَّثِّرِ» : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [74 \ 52] . أَيْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ صُحُفٌ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ. وَأَمَّا إِنْكَارُهُ - تَعَالَى - اقْتِرَاحُ إِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَى غَيْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنَةُ مَعَ الْإِنْكَارِ لِتَجِهِيلِهِمْ وَتَسْفِيهِ عُقُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ - فَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَيْهِ مَعَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي «الْأَنْعَامِ» ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا قَالَ: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [6 \ 124] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَإِنْكَارًا لِمَقَالَتِهِمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [6 \ 124] . ثُمَّ أَوعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [6 \ 124] . وَأَمَّا كَوْنُهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي تَوَلَّى قِسْمَةَ مَعِيشَتِهِمْ بَيْنَهُمْ - فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [16 \ 71] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [17 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [39 \ 52] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 [42 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [4 \ 135] . وَقَدْ أَوْضَحَ - تَعَالَى - حِكْمَةَ هَذَا التَّفَاضُلِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - بِقَوْلِهِ هُنَا: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، يَعْنِي أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالِاهْتِدَاءَ بِهُدَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَنَالُهُ الْمُهْتَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حُطَامِهَا. وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [10 \ 85] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [3 \ 157] . مَسْأَلَةٌ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [16 \ 71] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ - عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا وَلَا تَحْوِيلَهَا، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [35 \ 43] . وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ النُّبُوَّاتِ وَالرَّسَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ - إِلَى ابْتِزَازِ ثَرَوَاتِ النَّاسِ، وَنَزْعِ مِلْكِهِمُ الْخَاصِّ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، بِدَعْوَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ - أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الَّذِي يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ اسْتِئْثَارَهُمْ بِأَمْلَاكِ جَمِيعِ النَّاسِ، لِيَتَمَتَّعُوا بِهَا وَيَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا، تَحْتَ سِتَارِ كَثِيرٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ، كَمَا يَتَحَقَّقُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مُطَّلِعٍ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ فِي بِلَادِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 فَالطَّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا - هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ وَهَذَا غَنِيَ، وَقَدْ نَهَى - جَلَّ وَعَلَا - عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ، بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [4 \ 135] . وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ. قَوْلُهُ: (لِبُيُوتِهِمْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَرَأَهُ وَرْشٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ - بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: لِبُيُوتِهِمْ بِكَسْرِ الْبَاءِ لِمُجَانِسَةِ الْكَسْرَةِ لِلْيَاءِ. وَقَوْلُهُ: (سُقُفًا) قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ - سُقُفًا بِضَمَّتَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ الْمُرَادِ بِهِ الْجَمْعُ. وَقَوْلُهُ: وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ هِشَامٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ: لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ (لَمَا) . وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنْ (لَمَّا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ حَقَارَةَ الدُّنْيَا وَعِظَمَ شَأْنِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [43 \ 32]- أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ شِدَّةِ حَقَارَتِهَا، وَأَنَّهُ جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَجَعَلَ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي اشْتِرَاكِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْكَافِرِ فِي نَعِيمِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ لَوْلَا كَرَاهَتُنَا لِكَوْنِ جَمِيعِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى الْكُفْرِ، لَأَعْطَيْنَا زَخَارِفَ الدُّنْيَا كُلَّهَا لِلْكُفَّارِ. وَلَكِنَّنَا لِعِلْمِنَا بِشِدَّةِ مَيْلِ الْقُلُوبِ إِلَى زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحُبِّهَا لَهَا، لَوْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْكُفَّارِ لَحَمَلَتِ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا، فَجَعَلْنَا فِي كُلٍّ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ غَنِيًّا وَفَقِيرًا، وَأَشْرَكْنَا بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. ثُمَّ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - اخْتِصَاصَ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ، أَيْ خَالِصَةٌ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [7 \ 32] . فَقَوْلُهُ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ خَاصَّةٌ بِهِمْ دُونَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; إِذْ لَا نَصِيبَ لِلْكُفَّارِ الْبَتَّةَ فِي طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ. فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - صَرِيحٌ فِي اشْتِرَاكِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ الْمَذْكُورُ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الِامْتِنَاعِ لِلْوُجُودِ الَّذِي هُوَ (لَوْلَا) فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. وَخُصُوصُ طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ «الْأَعْرَافِ» بِقَوْلِهِ: خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [7 \ 32]- هُوَ الَّذِي أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [43 \ 35] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْجُمْلَةِ فِي لَفْظِ الْمُتَّقِينَ ; لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ اتَّقَى الشِّرْكَ بِاللَّهِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَنَّهُ - تَعَالَى - يُعْطِي الْكُفَّارَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [2 \ 126] . وَقَوْلِهِ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 24] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [10 \ 23] . وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 69 - 70] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إِنْعَامَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ لَيْسَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لِلِاسْتِدْرَاجِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 44 - 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [6 \ 44 - 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 95] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [19 \ 75] عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [22 \ 44] . وَدَعْوَى الْكُفَّارِ أَنَّ اللَّهَ مَا أَعْطَاهُمُ الْمَالَ وَنَعِيمَ الدُّنْيَا إِلَّا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا أَعْطَاهُمْ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ - قَدْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 - 56] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [34 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [7 \ 48] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [111 \ 2] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 11] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [6 \ 94] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] . وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَوْلُهُ: جَعَلْنَا أَيْ صَيَّرْنَا، وَقَوْلُهُ: لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مَعَ إِعَادَةِ الْعَامِلِ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ وَعَلَى قِرَاءَةِ سُقُفًا بِضَمَّتَيْنِ، فَهُوَ جَمْعُ سَقْفٍ، وَسَقْفُ الْبَيْتِ مَعْرُوفٌ. وَعَلَى قِرَاءَةِ سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ: فَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [22 \ 5]- أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ. يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَمَعَارِجَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمْعُ مِعْرَجٍ، بِلَا أَلْفٍ بَعْدِ الرَّاءِ. وَالْمِعْرَجُ وَالْمِعْرَاجُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْآلَةُ الَّتِي يُعْرَجُ بِهَا أَيْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى الْعُلُوِّ. وَقَوْلُهُ: (يَظْهَرُونَ) ، أَيْ يَصْعَدُونَ وَيَرْتَفِعُونَ حَتَّى يَصِيرُوا عَلَى ظُهُورِ الْبُيُوتِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [18 \ 97] . وَالسُّرُرُ جَمْعُ سَرِيرٍ، وَالِاتِّكَاءُ مَعْرُوفٌ. وَالْأَبْوَابُ جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْمَعَارِجَ الَّتِي هِيَ الْمَصَاعِدُ وَالْأَبْوَابُ وَالسُّرُرُ - كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ: زُخْرُفًا - مَفْعُولٌ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ زُخْرُفًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْضُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعْضُهُ مِنْ زُخْرُفٍ، أَيْ ذَهَبٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ إِعْرَابَ قَوْلِهِ: وُزُخْرُفًا - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ فِضَّةٍ، وَمِنْ زُخْرُفٍ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَانْتَصَبَ زُخْرُفًا. وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ النَّحْوِ عَلَى أَنَّ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ لَيْسَ مُطَّرِدًا وَلَا قِيَاسِيًّا، وَمَا سُمِعَ مِنْهُ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ دَرَجَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ نَقْلًا. . . إِلَخْ. وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ يَرَى اطِّرَادَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أُمِنَ فِيهِ اللَّبْسُ، كَمَا أَشَارَ فِي الْكَافِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَابْنُ سُلَيْمَانَ اطِّرَادَهُ رَأَى ... إِنْ لَمْ يُخَفْ لَبْسٌ كَمِنْ زَيْدٍ نَأَى وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [43 \ 35] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ (لَمَا) ، فَـ (إِنْ) هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَ (إِنِ) النَّافِيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَخُفِّفَتْ إِنْ فَقَلَّ الْعَمَلُ ... وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ وَ (مَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَابْنِ عَامِرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ هِشَامٍ (لَمَّا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَـ (إِنْ) نَافِيَةٌ، وَ (لَمَّا) حَرْفُ إِثْبَاتٍ بِمَعْنَى إِلَّا. وَالْمَعْنَى: وَمَا كُلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَشْدِيدَ مِيمِ (لَمَّا) عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ «الطَّارِقِ» إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [86 \ 4]- لُغَةُ بَنِي هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ.ُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ الْآيَةَ [41 \ 25] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي «الصَّافَّاتِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [37 \ 33] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [27 \ 80] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ يَتَمَسَّكَ بِهَدْيِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ طَرِيقٍ وَاضِحٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي تَضْمَّنَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا أَمْرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ - فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [18 \ 27] . وَأَمَّا إِخْبَارُهُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْضَحَ ذَلِكَ فِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [45 \ 18] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [42 \ 52 - 53] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [23 \ 73 - 74] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [22 \ 67] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [27 \ 79] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 وَآيَةُ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ جَاءُوا بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] . وَذَلِكَ التَّوْحِيدُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ كُلُّ نَبِيِّ أُمَّتَهُ. قَالَ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 50] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 61] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 61] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الْآيَةَ [7 \ 85] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» وَسُورَةِ «طه» . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الْعَذَابِ الَّذِي أَخَذَهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ [7 \ 132 - 133] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [7 \ 130] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - أَوْضَحَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ. وَالرِّجْزُ الْمَذْكُورُ فِي «الْأَعْرَافِ» هُوَ بِعَيْنِهِ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي «طه» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُوسَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي الْآيَةَ [20 \ 27] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا الْآيَةَ [25 \ 7] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ. (آسَفُونَا) مَعْنَاهُ أَغْضَبُونَا وَأَسْخَطُونَا، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْأَسَفِ الْغَضَبَ - يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الْأَسَفِ عَلَى أَشَدِّ الْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [7 \ 150] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ (يَصُدُّونَ) بِضَمِّ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (يَصِدُّونَ) بِكَسْرِ الصَّادِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 فَعَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَمَعْنَى (يَصِدُّونَ) يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ، وَقِيلَ: يَضْحَكُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، كَيَعْرُشُونَ وَيَعْرِشُونَ، وَيَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ فَهُوَ مِنَ الصُّدُودِ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: (ضُرِبَ) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبْعَرَى السَّهْمِيُّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. أَيْ وَلَمَّا ضَرَبَ ابْنُ الزِّبَعْرَى الْمَذْكُورُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَاجَأَكَ قَوْمُكَ بِالضَّجِيجِ وَالصِّيَاحِ وَالضَّحِكِ، فَرَحًا مِنْهُمْ وَزَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى خَصْمُكَ، أَوْ فَاجَأَكَ صُدُودُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَثَلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ (مِنْ) هُنَا سَبَبِيَّةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مِنْ مَعَانِي (مِنْ) السَّبَبِيَّةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [71 \ 25] . أَيْ بِسَبَبِ خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَالِفِينَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ: أُقْسِمَ بِاللَّهِ لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ. وَإِيضَاحُ مَعْنَى ضَرَبَ ابْنُ الزِّبَعْرَى عِيسَى مَثَلًا - أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [21 \ 98] قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ، وَإِنَّنَا وَأَصْنَامَنَا جَمِيعًا فِي النَّارِ، وَهَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَدْ عَبَدَهُ النَّصَارَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ مَرْيَمَ مَعَ النَّصَارَى الَّذِينَ عَبَدُوهُ فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِينَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا مَعَهُ. وَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّ عُزَيْرًا عَبَدَهُ الْيَهُودُ، وَالْمَلَائِكَةَ عَبَدَهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ. فَاتَّضَحَ أَنَّ ضَرْبَهُ عِيسَى مَثَلًا، يَعْنِي أَنَّهُ عَلَى مَا يَزْعُمُ أَنْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ، مِنْ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ وَعَابِدِهِ فِي النَّارِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِيسَى مَثَلًا لِأَصْنَامِهِمْ، فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ فِي النَّارِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُثْنِي عَلَى عِيسَى الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَيُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. فَزَعَمَ ابْنُ الزِّبَعْرَى أَنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اقْتَضَى مُسَاوَاةَ الْأَصْنَامِ مَعَ عِيسَى فِي دُخُولِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 النَّارِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَرِفُ بِأَنَّ عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّارِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ كَلَامِهِ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الْآيَةَ [21 \ 101 - 103] . وَأَنْزَلَ اللَّهُ أَيْضًا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، أَيْ مَا ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: إِنَّ (جَدَلًا) حَالٌ، وَإِتْيَانُ الْمَصْدَرِ الْمُنَكَّرِ حَالًا كَثِيرٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَوْجِيهَهُ مِرَارًا. وَالْمُرَادُ بِالْجَدَلِ هُنَا الْخُصُومَةُ بِالْبَاطِلِ لِقَصْدِ الْغَلَبَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا الْجَدَلَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَذَرَّعُوا بِهَا إِلَى الْجَدَلِ لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى مَا زَعَمُوهُ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ مَعَانِي الْكَلِمَاتِ. وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا عَبَّرَ اللَّهُ فِيهَا بِلَفْظَةِ «مَا» الَّتِي هِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْعَرَبِيِّ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ [21 \ 98] وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ تَعْبُدُونَ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ عِيسَى وَلَا عُزَيْرًا وَلَا الْمَلَائِكَةَ، كَمَا أَوْضَحَ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى الْآيَةَ [21 \ 101] . وَإِذَا كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ عِيسَى بِمُقْتَضَى لِسَانِهِمُ الْعَرَبِيِّ، الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ - تَحَقَّقْنَا أَنَّهُمْ مَا ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا إِلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ. وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا مَعَ أَنَّ ضَارِبَ الْمَثَلِ وَاحِدٌ وَهُوَ ابْنُ الزِّبَعْرَى - يَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادُ فِعْلِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ إِلَى جَمِيعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 الْقَبِيلَةِ، وَمِنْ أَصْرَحِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ... نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ فَإِنَّهُ نَسَبَ الضَّرْبَ إِلَى جَمِيعِ بَنِي عَبْسٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ السَّيْفَ فِي يَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَالشَّاعِرُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قَتْلِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ لِزُهَيْرِ بْنِ جُذَيْمَةَ الْعَبْسِيِّ، وَأَنَّ وَرَقَّاءَ بْنَ زُهَيْرٍ ضَرَبَ بِسَيْفِ بَنِي عَبْسٍ رَأْسَ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ، الَّذِي قَتَلَ أَبَاهُ وَنَبَا عَنْهُ، أَيْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي رَأْسِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى: نَبَا السَّيْفُ - ارْتَفَعَ عَنِ الضَّرِيبَةِ وَلَمْ يَقْطَعْ. وَالشَّاعِرُ يَهْجُو بَنِي عَبْسٍ بِذَلِكَ. وَالْحُرُوبُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَتْلُ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ الْمُرِّيِّ لِخَالِدٍ الْمَذْكُورِ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ صَوَّبُوا ضَرْبَ ابْنِ الزِّبَعْرَى عِيسَى مَثَلًا، وَفَرِحُوا بِذَلِكَ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، فَصَارُوا كَالْمُتَمَالِئِينَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ جَمَعَ الْمُفَسِّرُونَ بَيْنَ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [7 \ 77] وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [91 \ 14] وَبَيْنَ صِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [54 \ 29] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) هُوَ عَامَّةُ قُرَيْشٍ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ عِيسَى، وَسَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ - تَعَالَى -: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59]- قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تُرِيدُ بِذِكْرِ عِيسَى إِلَّا أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا عَبَدَ النَّصَارَى عِيسَى. وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِبَادَةِ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا عُبِدَ عِيسَى. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، أَيْ مَا ضَرَبُوا لَكَ هَذَاُُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 الْمَثَلَ إِلَّا لِأَجْلِ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ لَا تَرْضَى أَنْ تُعْبَدَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [3 \ 64] . وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَدَنِيِّ النَّازِلِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَمَعْنَاهُ يُكَرِّرُهُ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [3 \ 80] . وَلَا شَكَّ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مُتَيَقِّنُونَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَقَامَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً - أَنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعْبُدُوهُ افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ التَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، لَا إِلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمُرَادُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ تَفْضِيلُ مَعْبُودَاتِهِمْ عَلَى عِيسَى. قِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْمَلَائِكَةَ آلِهَةً، وَالْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ عِنْدِهِمْ مِنْ عِيسَى. وَعَلَى هَذَا فَمُرَادُهُمْ أَنَّ عِيسَى عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِهِ فِي النَّارِ، وَمَعْبُودَاتُنَا خَيْرٌ مِنْ عِيسَى، فَكَيْفَ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَرَادُوا تَفْضِيلَ عِيسَى عَلَى آلِهَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: عِيسَى خَيْرٌ مِنْ آلِهَتِنَا، أَيْ فِي زَعْمِكَ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ بِمُقْتَضَى عُمُومِ مَا تَتْلُوهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [21 \ 98] . وَعِيسَى عَبَدَهُ النَّصَارَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَدَلَالَةُ قَوْلِكِ عَلَى أَنَّ عِيسَى فِي النَّارِ، مَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 اعْتِرَافِكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَقُولُهُ مَنْ أَنَّا وَآلِهَتَنَا فِي النَّارِ - لَيْسَ بِحَقٍّ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أَيْ لُدٌّ، مُبَالِغُونَ فِي الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] أَيْ شَدِيدِي الْخُصُومَةِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [2 \ 204] لِأَنَّ الْفِعْلَ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ كَخَصِمَ - مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الْآيَةَ - إِنَّمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا بِبَيَانِ سَبَبِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا بِبَيَانِ سَبَبِهَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِأَصْنَامِهِمْ فِي دُخُولِ النَّارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَثَلَ يُفْهَمُ مِنْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ نُزُولُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - قَبْلَهَا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ; لِأَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: إِنْ عِيسَى عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَآلِهَتِهِمْ، فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ. وَقَدْ عَلِمْتَ بُطْلَانَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنَّ عِيسَى قَدْ عُبِدَ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا عُبِدَ عِيسَى، فَكَوْنُ سَبَبِ ذَلِكَ سَمَاعَهُمْ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59] . وَسَمَاعَهُمْ لِلْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ النَّازِلَةِ فِي شَأْنِ عِيسَى - يُوَضِّحُ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ. وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي بَيَّنَتْ قَوْلَهُ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا فَبَيَانُهَا لَهُ وَاضِحٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (هُوَ) عَائِدٌ إِلَى عِيسَى أَيْضًا، لَا إِلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَوْلُهُ هُنَا: عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنَ الْأَنْعَامِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 عِيسَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي «الْمَائِدَةِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [5 \ 110] . وَفِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الصَّالِحِينَ [3 \ 45 - 46] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا. التَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ) رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى لَا إِلَى الْقُرْآنِ، وَلَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ - هُوَ أَنَّ نُزُولَ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَيًّا عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، أَيْ عَلَامَةٌ لِقُرْبِ مَجِيئِهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا الدَّالَّةِ عَلَى قُرْبِهَا. وَإِطْلَاقُ عِلْمِ السَّاعَةِ عَلَى نَفْسِ عِيسَى - جَارٍ عَلَى أَمْرَيْنِ، كِلَاهُمَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ نُزُولَ عِيسَى الْمَذْكُورَ لَمَّا كَانَ عَلَامَةً لِقُرْبِهَا، كَانَتْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ سَبَبًا لِعِلْمِ قُرْبِهَا، فَأُطْلِقَ فِي الْآيَةِ الْمُسَبَّبُ وَأُرِيدُ السَّبَبُ. وَإِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ - أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [40 \ 13] . فَالرِّزْقُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَطَرِ، وَالْمَطَرُ سَبَبُهُ، فَأُطْلِقَ الْمُسَبَّبُ الَّذِي هُوَ الرِّزْقُ وَأُرِيدَ سَبَبُهُ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ، لِلْمُلَابَسَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَلَاغِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ مَا يُسَمُّونَهُ الْمَجَازَ الْمُرْسَلَ، وَأَنَّ الْمُلَابَسَةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مِنْ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وَالثَّانِي مِنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنَّ غَايَةَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِلسَّاعَةِ، أَيْ وَإِنَّهُ لَصَاحِبُ إِعْلَامِ النَّاسِ بِقُرْبِ مَجِيئِهَا، لِكَوْنِهِ عَلَامَةً لِذَلِكَ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِ خَلَفًا عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا وَهَذَا الْأَخِيرُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ وَجَّهَ بِهِمَا عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ النَّعْتَ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرَمٌ وَعَمْرٌو عَدْلٌ، أَيْ ذُو كَرَمٍ وَذُو عَدْلٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا أَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ ": وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [4 \ 159] أَيْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عِيسَى حَيٌّ وَقْتَ نُزُولِ آيَةِ " النِّسَاءِ " هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (قَبْلَ مَوْتِهِ) رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ، أَيْ إِلَّا لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ الْكِتَابِيِّ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ. فَالْجَوَابُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى عِيسَى، يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ ; لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ تَنْسَجِمُ الضَّمَائِرُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا قَتَلُوهُ، أَيْ عِيسَى، وَمَا صَلَبُوهُ أَيْ عِيسَى، وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أَيْ عِيسَى، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ عِيسَى، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أَيْ عِيسَى، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَيْ عِيسَى، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا أَيْ عِيسَى، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 أَيْ عِيسَى، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [4 \ 159] أَيْ عِيسَى، قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ عِيسَى، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [4 \ 157 - 159] أَيْ يَكُونُ هُوَ - أَيْ عِيسَى - عَلَيْهِمْ شَهِيدًا. فَهَذَا السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ الَّذِي تَرَى - ظَاهِرٌ ظُهُورًا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (قَبْلَ مَوْتِهِ) رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، فَمُفَسِّرُ الضَّمِيرِ مَلْفُوظٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [4 \ 157] . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَمُفَسِّرٌ الضَّمِيرِ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ، تَقْدِيرُهُ: مَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ مَوْتِ أَحَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّرِ. وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ أَرْجَحَ وَأَوْلَى مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ عِيسَى حَيٌّ الْآنَ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَكَمًا مُقْسِطًا. وَلَا يُنْكِرُ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ بِذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الصَّحِيحَ وَنَسَبَهُ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - اهـ. وَقَوْلُهُ: بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ - يَعْنِي السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ ; لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ " الزُّخْرُفِ " هَذِهِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا ". اهـ مِنْهُ. وَهُوَ صَادِقٌ فِي تَوَاتُرِ الْأَحَادِيثِ بِذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ - فَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الصَّحِيحَ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَلَا تَخْصِيصٍ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَكَادُ يَصْدُقُ إِلَّا مَعَ تَخْصِيصٍ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الَّتِي يَرْوُونَهَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ظَاهِرَةُ الْبُعْدِ وَالسُّقُوطِ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، فَلَا إِشْكَالَ وَلَا خَفَاءَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَا إِلَى تَخْصِيصٍ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ فَإِنَّهُ مُشْكِلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَنْ فَاجَأَهُ الْمَوْتُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَالَّذِي يَسْقُطُ مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ، وَالَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ غَافِلٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ فِي نَوْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْعُمُومُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَّا إِذَا ادَّعَى إِخْرَاجَهُمْ مِنْهُ بِمُخَصِّصٍ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَمَا يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: إِنَّ رَأْسَهُ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ بِعِيسَى، وَإِنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ يُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي - لَا يَخْفَى بَعْدُهُ وَسُقُوطُهُ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ الْبَتَّةَ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى. وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، وَأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ " النِّسَاءِ " تُبَيِّنُ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ، وَيَعْتَقِدُونَ مِثْلَ مَا يَعْتَقِدُهُ ضُلَّالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [3 \ 55] . وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [5 \ 117] . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فَإِنَّ دَلَالَتَهُ الْمَزْعُومَةَ عَلَى ذَلِكَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مُتَوَفِّيكَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِ الشَّيْءِ كَامِلًا غَيْرَ نَاقِصٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَوَفَّى فُلَانٌ دِينَهُ يَتَوَفَّاهُ فَهُوَ مُتَوَفٍّ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ. فَمَعْنَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَيْ حَائِزُكَ إِلَيَّ كَامِلًا بِرُوحِكَ وَجِسْمِكَ. وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ خَصَّصَتِ التَّوَفِّيَ الْمَذْكُورَ بِقَبْضِ الرُّوحِ دُونَ الْجِسْمِ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا دَارَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ بِهَا. وَهَذَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْفُرُوعِ رُبَّمَا لَمْ يَعْتَمِدُوهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ. وَإِلَى تَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ ... إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقٌ الْعُرْفِيِّ فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ ... بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبَ الْمَذْهَبُ الثَّانِي: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ - وَإِنْ تَرَجَّحَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ - فَإِنَّ اللُّغَوِيَّةَ مُتَرَجِّحَةٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا تُقَدَّمُ الْعُرْفِيَّةُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَلَا اللُّغَوِيَّةُ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، بَلْ يُحْكَمُ بِاسْتِوَائِهِمَا وَمُعَادَلَةِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِمَا، فَيُحْكَمُ عَلَى اللَّفْظِ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِاحْتِمَالِ هَذِهِ وَاحْتِمَالِ تِلْكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ السُّبْكِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَمَذْهَبُ النُّعْمَانِ عَكْسِ مَا مَضَى ... وَالْقَوْلُ بِالْإِجْمَالِ فِيهِ مُرْتَضَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَهُ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ أَصْلًا، كَمَا أَنَّ تَوَفِّي الْغَرِيمِ لِدَيْنِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِ دَيْنِهِ. وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ [[الأول]] (*) : وَهُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَفِّي حِينَئِذٍ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْمَوْتِ. وَلَكِنْ سَتَرَى إِنْ - شَاءَ اللَّهُ - أَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " - وَجْهَ عَدَمِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فَقُلْنَا مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مُتَوَفِّيكَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَدْ مَضَى، وَهُوَ مُتَوَفِّيهِ قَطْعًا يَوْمًا مَا، وَلَكِنْ لَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَدْ مَضَى. وَأَمَّا عَطْفُهُ (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) عَلَى قَوْلِهِ: (مُتَوَفِّيكَ) فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْجَمْعَ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ. وَقَدِ ادَّعَى السِّيرَافِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ إِجْمَاعَ النُّحَاةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَاهُ الْأَكْثَرُ لِلْمُحَقَّقَيْنِ، وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا، لِمَا قَالَهُ قُطْرُبُ وَالْفَرَّاءُ وَثَعْلَبُ وَأَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ وَهِشَامٌ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ. وَقَدْ أَنْكَرَ السِّيرَافِيُّ ثُبُوتَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الْفَرَّاءِ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ وَلِيُّ الدِّينِ: أَنْكَرَ أَصْحَابُنَا نِسْبَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الشَّافِعِيِّ. حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " يَعْنِي الصَّفَا - لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى اقْتِضَائِهَا التَّرْتِيبَ.   (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوعة (دار الفكر) [[الثاني]] ، والتصويب من ط عالم الفوائد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مَا قَالَهُ الْفِهْرَيُّ كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ. وَهُوَ أَنَّهَا كَمَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْمَعِيَّةَ، فَكَذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُمَا. فَقَدْ يَكُونُ الْعَطْفُ بِهَا مَعَ قَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 158] بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا مُرَتَّبًا، كَقَوْلِ حَسَّانَ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ. وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [29 \ 15] . وَقَوْلِهِ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [75 \ 9] . وَلَكِنْ لَا تُحْمَلُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَا عَلَى الْمَعِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُنِيمُكَ، (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أَيْ فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْوَفَاةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [6 \ 60] ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [39 \ 42] ، وَعَزَى ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ لِلْأَكْثَرِينَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُتَوَفِّيَكَ، اسْمُ فَاعِلٍ؛ تَوَفَّاهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَوَفَّى فُلَانٌ دَيْنَهُ إِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ عَلَى هَذَا: قَابِضَكَ مِنْهُمْ إِلَيَّ حَيًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَأَمَّا الْجَمْعُ بِأَنَّهُ تَوَفَّاهُ سَاعَاتٍ أَوْ أَيَّامًا ثُمَّ أَحْيَاهُ - فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. اهـ. مِنْ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُتَوَفِّيكَ عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا - مَنْفِيَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا ثَلَاثَةً مِنْ غَيْرِ تَنْظِيمٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 أَوَّلُهَا: أَنَّ مُتَوَفِّيكَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ. الثَّانِي: أَنَّ مُتَوَفِّيكَ وَصْفٌ مُحْتَمِلٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالْمَاضِي، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّوَفِّيَ قَدْ وَقَعَ وَمَضَى، بَلِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالْقُرْآنُ دَالَّانِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَوَفِّيَ نَوْمٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ النُّوَّمَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْوَفَاةُ، فَكُلٌّ مِنَ النَّوْمِ وَالْمَوْتِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّوَفِّي، وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ. فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرْنَاهَا كُلَّهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَا مِنْ كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ". وَذَكَرْنَا الْأَوَّلَ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ ; لِنُبَيِّنَ مَذَاهِبَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي الْآيَةَ [5 \ 117] ، فَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ عِيسَى مَاتَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ عِيسَى يَقُولُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِخْبَارُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَوْتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْآنَ قَدْ مَاتَ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَفِّيَ رَفْعٍ وَقَبْضٍ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، لَا تَوَفِّيَ مَوْتٍ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِذَلِكَ التَّوَفِّي بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي الْآيَةَ [5 \ 117]- تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوَفِّي مَوْتٍ، لَقَالَ مَا دُمْتُ حَيًّا، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ; لَأَنَّ الَّذِي يُقَابَلُ بِالْمَوْتِ هُوَ الْحَيَاةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [19 \ 31] . أَمَّا التَّوَفِّي الْمُقَابَلُ بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوَفِّي انْتِقَالٍ عَنْهُمْ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ. وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ هُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ قَصْدِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا: أَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَدْ مَاتَ، قَالُوا: إِنَّهُ لَا سَبَبَ لِذَلِكَ الْمَوْتِ إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ نَفْيُ هَذَا السَّبَبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 وَقَطْعُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِسَبَبٍ غَيْرِهِ - تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ أَصْلًا، وَذَلِكَ السَّبَبُ الَّذِي زَعَمُوهُ، مَنْفِيٌّ يَقِينًا بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - قَالَ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [4 \ 157] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 157 - 158] . وَضَمِيرُ رَفْعِهِ ظَاهِرٌ فِي رَفْعِ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ مَعًا كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - مُسْتَنَدَ الْيَهُودِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، بِأَنَّ اللَّهَ أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَصَارَ مَنْ يَرَاهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى. فَرَآهُ الْيَهُودُ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى فَاعْتَقَدُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّبَهِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى ; فَقَتَلُوهُ. فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِدْقَهُمْ فِي أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَلَكِنَّ الْعَلِيمَ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَلَمْ يَصْلُبُوهُ. فَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرِ عِيسَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى، كَمَا أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 157 - 158] . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِلَاهُمَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ عِيسَى حَيٌّ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنَّ نُزُولَهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ مُعْتَمَدَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ هُوَ إِلْقَاءُ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَاعْتِقَادُهُمُ الْكَاذِبُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولَ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى هُوَ عِيسَى. وَقَدْ عَرَفْتَ دَلَالَةَ الْوَحْيِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مُتَوَفِّيكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِ فِعْلًا. وَقَدْ رَأَيْتَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَأَنَّهُ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِعْلًا. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ، فَالْمُقَرِّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَحْمِلَ لَا يُحْمَلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، وَلَا مَعَانِيهِ، بَلْ يُطْلَبُ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ هُنَا وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ حَيٌّ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّوْمِ، وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَوَفِّي مَوْتٍ، فَالصِّيغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِعْلًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ بِتَقْدِيمِ الْعُرْفِيَّةِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُوجَدُ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْ إِرَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ وَجَبَ تَقْدِيمُ اللُّغَوِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى إِرَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ هَنَا، دُونَ الْعُرْفِيَّةِ. وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ تُتَنَاسَ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ أُمِيتَتِ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ إِجْمَاعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: أَجَمْعٌ إِنْ حَقِيقَةٌ تُمَاتُ ... عَلَى التَّقَدُّمِ لَهُ الْإِثْبَاتُ فَمَنْ حَلِفَ لَيَأْكُلَنَّ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، فَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ يَمِينَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ نَفْسِ النَّخْلَةِ، لَا مِنْ ثَمَرَتِهَا. وَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرَتِهَا لَا مِنْ نَفْسِ جِذْعِهَا. وَالْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ هُنَا وَاجِبٌ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا أُمِيتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَقْصِدُ عَاقِلٌ الْبَتَّةَ الْأَكْلَ مِنْ جِذْعِ النَّخْلَةِ. أَمَّا الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمُمَاتَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ تُسَمَّى حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَمَجَازًا لُغَوِيًّا، وَأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ تُسَمَّى عِنْدَهُمْ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، وَمَجَازًا عُرْفِيًّا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّا أَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَا مَجَازَ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ " مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ ". فَاتَّضَحَ مِمَّا ذَكَرْنَا كُلَّهُ أَنَّ آيَةَ " الزُّخْرُفِ " هَذِهِ تُبَيِّنُهَا آيَةُ " النِّسَاءِ " الْمَذْكُورَةُ، وَأَنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَيْ عَلَامَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ مَجِيئِهَا ; لِأَنَّ وَقْتَ مَجِيئِهَا بِالْفِعْلِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا أَيْ لَا تَشُكُّنَّ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ ; فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مِرَارًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا [22 \ 7] . وَقَوْلِهِ: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [42 \ 7] . وَقَوْلِهِ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [6 \ 12] . وَقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [3 \ 25] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ مِرَارًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا الْآيَةَ [35 \ 6] . وَقَوْلِهِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ الْآيَةَ [18 \ 50] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ. قَوْلُهُ هُنَا: ظَلَمُوا أَيْ كَفَرُوا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَرْيَمَ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [19 \ 37] . وَقَوْلُهُ: مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ هُنَا: مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] . وَقَوْلِهِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] . وَقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أَيْ بِشِرْكٍ، كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. الِاسْتِفْهَامُ بِهَلْ هُنَا بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَ (يَنْظُرُونَ) بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُ الْكُفَّارُ إِلَّا السَّاعَةَ، أَيِ الْقِيَامَةَ، (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُبَاغِتَةً لَهُمْ، أَيْ مُفَاجِئَةً لَهُمْ، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أَيْ بِمُفَاجَأَتِهَا فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ وَعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِمَجِيئِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَأْتِيَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّاعَةِ، وَكَوْنَ يَنْظُرُونَ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَإِنَّكُمَا إِنْ تُنْظِرَانِي سَاعَةً مِنَ ... الدَّهْرِ تَنْفَعُنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [7 \ 187] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْقِتَالِ» : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [47 \ 18] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً الْآيَةَ [36 \ 49 - 50] . فَالْمُرَادُ بِالصَّيْحَةِ: الْقِيَامَةُ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً الْآيَةَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَأْتِيهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَعَدَمِ شُعُورٍ بِإِتْيَانِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْضَ صِفَاتِ الَّذِينَ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْخَوْفُ وَالْحَزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; فَذَكَرَ مِنْهَا هُنَا الْإِيمَانَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ بَعْضًا مِنْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 فَمِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [10 \ 62 - 63] . وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقَامَةُ، وَقَوْلُهُمْ: رَبُّنَا اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «فُصِّلَتْ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا [41] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَحْقَافِ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [46 \ 13] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْخَوْفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَالْحَزَنُ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مَاضٍ. وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ. وَإِطْلَاقُ الْخَوْفِ عَلَى الْغَمِّ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [2 \ 229] . قَالَ مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَعْلَمَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامِي فِي الْمَمَاتِ عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَلَّا أَذُوقَهَا فَقَوْلُهُ: أَخَافُ، أَيْ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ لَا يَشْرَبُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ظَاهِرُهُ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَقَدْ دَلَّتْ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى اتِّحَادِهِمَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 35 - 36] . وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى جَمِيعِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 وَمِنْ أَصَرَحِهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ: «وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» . فَقَدْ سَمَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» إِيمَانًا. وَقَدْ أَطَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، فِي ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِتَسْمِيَتِهَا إِيمَانًا. فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ التَّامُّ وَالْإِسْلَامُ الشَّرْعِيُّ التَّامُّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ إِطْلَاقًا آخَرُ عَلَى خُصُوصِ رُكْنِهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ. وَالْقَلْبُ مُضْغَةٌ فِي الْجَسَدِ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، فَغَيْرُهُ تَابِعٌ لَهُ، وَعَلَى هَذَا تَحْصُلُ الْمُغَايَرَةُ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. فَالْإِيمَانُ، عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ اعْتِقَادٌ، وَالْإِسْلَامُ شَامِلٌ لِلْعَمَلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُغَايَرَتَهُ - تَعَالَى - بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [49 \ 14] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هُنَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّ إِذْعَانَ الْجَوَارِحِ وَانْقِيَادَهَا دُونَ إِيمَانِ الْقَلْبِ - إِسْلَامٌ لُغَةً لَا شَرْعًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَلَكِنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ، يُرَادُ بِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ هَذَا نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، لَا نَفْيُ أَصْلِهِ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ صِيغَةُ عُمُومٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَكَّدْ بِمَصْدَرٍ، وَوَجْهُهُ وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ، كَمَا حَرَّرُوهُ فِي مَبْحَثِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَهُوَ أَصْوَبُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ إِجْمَاعًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ لَمْ تَتَعَرَّفْ بِشَيْءٍ، فَيَئُولُ إِلَى مَعْنَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، بِقَوْلِهِ: وَنَحْوُ لَا شَرِبْتَ أَوْ وَإِنْ شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا وَوَجْهُ إِهْمَالِ (لَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا خَوْفٌ [46 \ 13]- أَنَّ (لَا) الثَّانِيَةَ الَّتِي هِيَ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [46 \ 13] بَعْدَهَا مَعْرِفَةٌ، وَهِيَ الضَّمِيرُ، وَهِيَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَعَارِفِ، بَلْ فِي النَّكِرَاتِ، فَلَمَّا وَجَبَ إِهْمَالُ الثَّانِيَةِ أُهْمِلَتِ الْأُولَى لِيَنْسَجِمَ الْحَرْفَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ فِي إِهْمَالِهِمَا مَعًا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ. قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَزْوَاجُكُمْ فِيهِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمُرَادَ بِأَزْوَاجِهِمْ نُظَرَاؤُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَتَقْوَى اللَّهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْنُ كَثِيرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَزْوَاجِهِمْ نِسَاؤُهُمْ فِي الْجَنَّةِ; لِأَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ أَبْلَغُ فِي التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ مِنَ الْأَوَّلِ. وَلِذَا يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إِكْرَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِكَوْنِهِمْ مَعَ نِسَائِهِمْ دُونَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، بِكَوْنِهِمْ مَعَ نُظَرَائِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ فِي الطَّاعَةِ. قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [36 \ 55] . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّغُلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، هُوَ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [52 \ 20] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [56 \ 22 - 23] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ إِلَى قَوْلِهِ: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [55 \ 22 - 23] . وَقَالَ: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 وَقَالَ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [38 \ 52] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُفْرَدَ الْأَزْوَاجِ زَوْجٌ بِلَا هَاءٍ، وَأَنَّ الزَّوْجَةَ بِالتَّاءِ لُغَةٌ لَا لَحْنٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَحْنٌ مِنْ لَحْنِ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا أَصَلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ: فَبَكَى بَنَاتِي شَجُوَهُنَّ وَزَوْجَتِي ... وَالظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي صَفِيَّةَ: «إِنَّهَا زَوْجَتِي» . وَقَوْلُهُ: تُحْبَرُونَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُكْرَمُونَ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ وَأَتَمِّهَا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَنْعَامُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالتَّحَلِّي بِهِمَا، وَلُبْسُ الْحَرِيرِ، وَمِنْهُ السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ، وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، أَيْ تَلْتَذُّ بِهِ الْأَعْيُنُ، أَيْ بِرُؤْيَتِهِ لِحُسْنِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [2 \ 69] . وَأَسْنَدَ اللَّذَّةَ إِلَى الْعَيْنِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُسْنَدَةٌ لِصَاحِبِ الْعَيْنِ، كَإِسْنَادِ الْكَذِبِ وَالْخَطِيئَةِ إِلَى النَّاصِيَةِ، وَهِيَ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرَّأْسِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [96 \ 16] وَكَإِسْنَادِ الْخُشُوعِ وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ إِلَى الْوُجُوهِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ الْآيَةَ [88 \ 2 - 3] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَذِبَ وَالْخَطِيئَةَ مُسْنَدَانِ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ النَّاصِيَةِ، كَمَا أَنَّ الْخُشُوعَ وَالْعَمَلَ وَالنَّصَبَ مُسْنَدَاتٌ إِلَى أَصْحَابِ الْوُجُوهِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا كُلُّ مُشْتَهًى، وَكُلُّ مُسْتَلِذٍّ - جَاءَ مَبْسُوطًا مُوَضَّحَةً أَنْوَاعُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَجَاءَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا إِجْمَالًا شَامِلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ. أَمَّا إِجْمَالُ ذَلِكَ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [32 \ 17] . وَأَمَّا بَسْطُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ - الْمَشَارِبَ، وَالْمَآكِلَ وَالْمَنَاكِحَ، وَالْفُرُشَ وَالسُّرُرَ، وَالْأَوَانِيَ، وَأَنْوَاعَ الْحُلِيِّ وَالْمَلَابِسَ، وَالْخَدَمَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا الْمَآكِلُ فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [43 \ 73] . وَقَالَ: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [56 \ 32 - 33] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [56 \ 32 - 33] . وَقَالَ - تَعَالَى -: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا الْآيَةَ [2 \ 25] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. أَمَّا الْمَشَارِبُ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [76 \ 5 - 6] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا الْآيَةَ [76 \ 17 - 18] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 17 - 19] . وَقَالَ - تَعَالَى -: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [37 \ 45 - 47] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [47 \ 15] . وَقَالَ - تَعَالَى -: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [69 \ 24] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 وَأَمَّا الْمَلَابِسُ وَالْأَوَانِي وَالْحُلِيُّ، فَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» . وَأَمَّا الْمَنَاكِحُ فَقَدْ قَدَّمَنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا قَرِيبًا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ الْآيَةَ [2 \ 25] . وَيَكْفِي مَا قَدَّمْنَا مِنْ ذَلِكَ قَرِيبًا. وَأَمَّا مَا يَتَّكِئُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْفُرُشِ وَالسُّرُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [55 \ 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [36 \ 56] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [56 \ 15 - 16] . وَالسُّرُرُ الْمَوْضُونَةُ هِيَ الْمَنْسُوجَةُ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [15 \ 47] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [88 \ 13] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [55 \ 76] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا خَدَمُهُمْ فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ الْآيَةَ [56 \ 17] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْإِنْسَانِ» فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [76 \ 19] وَذَكَرَ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَبْلَغِ صِيغَةٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [76 \ 20] . وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنْوَاعِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَحُسْنِهَا وَكَمَالِهَا كَالظِّلَالِ وَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلْنَكْتَفِ مِنْهَا بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [43 \ 71]- قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ ; لِأَنَّ خُلُودَهُمُ الْمَذْكُورَ لَا انْقِطَاعَ لَهُ الْبَتَّةَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [19 \ 63] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [32 \ 17] . وَبَيَّنَّا أَقْرَبَ أَوْجُهِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَمَا بِمَعْنَاهَا مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» . قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» . وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي بَيَّنَتِ الْآيَاتُ كَوْنَهُ سَبَبَ دُخُولِ الْجَنَّةِ - هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي تَقَبَّلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَقَبَّلْهُ اللَّهُ. وَاللَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [5 \ 27] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْضِ لَامُ الدُّعَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ سُؤَالُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمْ بِالْمَوْتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا دُعَاءَ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يُمِيتَهُمْ لَمَا نَادَوْا: يَا مَالِكُ، وَلَمَا خَاطَبُوهُ فِي قَوْلِهِمْ: رَبُّكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَطْلُبُونَ مِنْ خَزَنَةِ النَّارِ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ لَهُمْ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [40 \ 49] . وَقَوْلِهِ: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أَيْ لِيُمِتْنَا، فَنَسْتَرِيحَ بِالْمَوْتِ مِنَ الْعَذَابِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [28 \ 15] أَيْ أَمَاتَهُ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 إِلَى الْمَوْتِ، بَلْ يَمْكُثُونَ فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا فَيَسْتَرِيحُوا بِالْمَوْتِ، وَلَا تُغْنِيَ هِيَ عَنْهُمْ، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ عَذَابُهَا، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. أَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [20 \ 74] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [87 \ 11 - 13] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا الْآيَةَ [35 \ 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ الْآيَةَ [14 \ 17] . وَأَمَّا كَوْنُ النَّارِ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ، فَقَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [17 \ 97] . فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّ لِلنَّارِ خَبْوَةً نِهَائِيَّةً وَفَنَاءً - رُدَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْعَذَابِ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [35 \ 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [16 \ 85] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [78 \ 30] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ الْآيَةَ [43 \ 75] . وَقَوْلِهِ: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [25 \ 65] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [25 \ 77] عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْأَخِيرَيْنِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [2 \ 167] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمَائِدَةِ» : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [5 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» : كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ [22 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «السَّجْدَةِ» : كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [32 \ 20] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْجَاثِيَةِ» : فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [45 \ 35] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَوْضَحَنَا هَذَا الْمَبْحَثَ إِيضَاحًا شَافِيًا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [6 \ 128] . وَفِي سُورَةِ «النَّبَإِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [78 \ 23] وَسَنُوَضِّحُهُ أَيْضًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّبَإِ» الْمَذْكُورَةِ، وَنُوَضِّحُ هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - إِزَالَةَ إِشْكَالٍ يُورِدُهُ الْمُلْحِدُونَ عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحُ هَذَا الْمَبْحَثِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [42 \ 13] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [43 \ 9] وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ الْآيَةَ [19 \ 79] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ عَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُ وَلَدًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ جَازِمِينَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ: إِنَّ لَفْظَةَ إِنْ فِي الْآيَةِ نَافِيَةٌ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَافِيَةٌ فَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَقْرَبُهَا -: أَنَّ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ الْمُنَزِّهِينَ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 عَنِ الْوَلَدِ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أَيِ الْآنِفَيْنِ الْمُسْتَنْكِفَيْنِ مِنْ ذَلِكَ، يَعْنِي الْقَوْلَ الْبَاطِلَ الْمُفْتَرَى عَلَى رَبِّنَا الَّذِي هُوَ ادِّعَاءُ الْوَلَدِ لَهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَبِدَ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - يَعْبَدُ - بِفَتْحِهَا - فَهُوَ عَبِدٌ - بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ - عَلَى الْقِيَاسِ، وَعَابِدٌ أَيْضًا سَمَاعًا إِذَا اشْتَدَّتْ أَنَفَتُهُ وَاسْتِنْكَافُهُ وَغَضَبُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: أُولَئِكَ قَوْمِي إِنْ هَجَوْنِي هَجَوْتُهُمْ ... وَأَعْبِدُ أَنْ أَهْجُوَ كُلَيْبًا بِدَارِمِ فَقَوْلُهُ: وَأَعْبِدُ، يَعْنِي آنَفُ وَأَسْتَنْكِفُ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ: مَتَى مَا يَشَأْ ذُو الْوُدِّ يَصْرُمُ خَلِيلَهُ وَيَعْبَدُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ظَالِمًا وَفِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَشْهُورَةِ، أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ تَزَوَّجَتْ، فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَبَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ لِتُرْجَمَ، اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا قَبْلَ الْعَقْدِ لِوِلَادَتِهَا قَبْلَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [46 \ 15] وَيَقُولُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [31 \ 14] فَلَمْ يَبْقَ عَنِ الْفِصَالِ مِنَ الْمُدَّةِ إِلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ. فَمَا عَبِدَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ بَعَثَ إِلَيْهَا لِتُرَدَّ وَلَا تُرْجَمَ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَوَاللَّهِ: (مَا عَبِدَ عُثْمَانُ) أَيْ مَا أَنِفَ وَلَا اسْتَنْكَفَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أَيِ الْجَاحِدِينَ النَّافِينَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا -. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) نَافِيَةٌ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِهَا شَرْطِيَّةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ لَهُ مَعْنًى بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَإِنْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنَّ إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ لَا الشَّرْطِيَّةُ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ فِي نَظَرِنَا - لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ جَرَيَانًا وَاضِحًا، لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَكَوْنُ (إِنْ كَانَ) بِمَعْنَى مَا كَانَ - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [36 \ 29] أَيْ مَا كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً. فَقَوْلُكَ مَثَلًا مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الْخَاضِعِينَ لِلْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْوَلَدِ، أَوِ الْآنِفَيْنِ الْمُسْتَنْكِفَيْنِ مِنْ أَنْ يُوصَفَ رَبُّنَا بِمَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، أَوِ الْجَاحِدِينَ النَّافِينَ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّنَا وَلَدٌ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، دَالٌّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَنْزِيهًا تَامًّا عَنِ الْوَلَدِ، مِنْ غَيْرِ إِيهَامٍ الْبَتَّةَ لِخِلَافِ ذَلِكَ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنِ الْوَلَدِ بِالْعِبَارَاتِ الَّتِي لَا إِيهَامَ فِيهَا - هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الْآيَةَ [18 \ 4] . وَفِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [19 \ 88 - 89] . وَالْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ تُبَيِّنُ أَنَّ (إِنْ) نَافِيَةٌ. فَالنَّفْيُ الصَّرِيحُ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ - النَّفْيُ الصَّرِيحُ. وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ ; فَكَوْنُ الْمُعَبَّرِ بِهِ فِي الْآيَةِ (مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) [43 \ 81] بِصِيغَةِ النَّفْيِ الصَّرِيحِ - مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» : وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا الْآيَةَ [17 \ 111] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْفُرْقَانِ» : وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الْآيَةَ [25 \ 2] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ الْآيَةَ [23 \ 91] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [112 \ 3] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [37 \ 151 - 152] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ - جَزَاءٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 لِذَلِكَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا نَظِيرَ لَهُ الْبَتَّةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا تُوجَدُ فِيهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ لَهُ مَعْنًى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِلَّا مَعْنًى مَحْذُورٌ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ بِحَالٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعَانٍ مَحْذُورَةٍ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهَا. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلَهُ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ جَزَاءُ الشَّرْطِ - لَا مَعْنَى لِصِدْقِهِ الْبَتَّةَ إِلَّا بِصِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ - مُنْصَبٌّ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ مُقَدَّمِهَا الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ، وَتَالِيهَا الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ، وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا هُوَ كَوْنُ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ تَكُونُ فِي غَايَةِ الصِّدْقِ مَعَ كَذِبِ طَرَفَيْهَا مَعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا لَوْ أُزِيلَتْ أَدَاةُ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَمِثَالُ كَذِبِهِمَا مَعًا مَعَ صِدْقِهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي غَايَةِ الصِّدْقِ كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّهَا لَوْ أُزِيلَتْ أَدَاةُ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهَا قَضِيَّةً كَاذِبَةً بِلَا شَكٍّ، وَنَعْنِي بِأَدَاةِ الرَّبْطِ لَفْظَةَ (لَوْ) مِنَ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَاللَّامَ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي، فَإِنَّهُمَا لَوْ أُزِيلَا وَحُذِفَا صَارَ الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي مُنْتَهَى الْكَذِبِ، وَصَارَ الطَّرَفُ الثَّانِي فَسَدَتَا، أَيِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ كَمَا تَرَى. فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ الرَّبْطُ صَحِيحًا فَهِيَ صَادِقَةٌ، وَلَوْ كُذِّبَ طَرَفَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ. وَإِنْ كَانَ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا كَاذِبًا كَانَتْ كَاذِبَةً كَمَا لَوْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا لَكَانَ حَجَرًا، فَكَذِبُ الرَّبْطِ بَيْنَهُمَا وَكَذِبُ الْقَضِيَّةِ بِسَبَبِهِ كِلَاهُمَا وَاضِحٌ. وَأَمْثِلَةُ صِدْقِ الشَّرْطِيَّةِ مَعَ كَذِبِ طَرَفَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَكَقَوْلِكَ: لَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا لَكَانَ جَمَادًا، وَلَوْ كَانَ الْفَرَسُ يَاقُوتًا لَكَانَ حَجَرًا، فَكُلُّ هَذِهِ الْقَضَايَا وَنَحْوُهَا صَادِقَةٌ مَعَ كَذِبِ طَرَفَيْهَا لَوْ أُزِيلَتْ أَدَاةُ الرَّبْطِ. وَمِثَالُ صِدْقِهَا مَعَ كَذِبِ أَحَدِهِمَا قَوْلُكَ: لَوْ كَانَ زَيْدٌ فِي السَّمَاءِ مَا نَجَا مِنَ الْمَوْتِ ; الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 فَإِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ صَادِقَةٌ لِصِدْقِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ عَدَمَ النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ صِدْقٌ، وَكَوْنُ زَيْدٍ فِي السَّمَاءِ كَذِبٌ، هَكَذَا مَثَّلَ بِهَذَا الْمِثَالِ الْبُنَانِيُّ، وَفِيهِ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ الَّتِي مَثَّلَ بِهَا اتِّفَاقِيَّةٌ لَا لُزُومِيَّةٌ، وَلَا دَخْلَ لِلِاتِّفَاقِيَّاتِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ. وَالْمِثَالُ الصَّحِيحُ: لَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا لَكَانَ جِسْمًا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ مُنْصَبٌّ عَلَى خُصُوصِ التَّالِي الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ، وَأَنَّ الْمُقَدَّمَ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ قَيْدٌ فِي ذَلِكَ. وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. وَالتَّحْقِيقُ الْأَوَّلُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ الْبَتَّةَ بِقَوْلٍ ثَالِثٍ فِي مَدَارِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ. فَإِذَا حَقَقْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ - عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا جُمْلَةُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ - لَا يَصِحُّ الرَّبْطُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا الْبَتَّةَ بِحَالٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَحْذُورٍ لَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِهِ بِحَالٍ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ: أَنَّ مَصَبَّ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ إِنَّمَا هُوَ التَّالِي الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ، وَأَنَّ الْمُقَدَّمَ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ قَيْدٌ فِي ذَلِكَ - فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، بَلْ هُوَ كُفْرٌ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا -. لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَكُنْ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ، وَفَسَادُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَرَى. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الشَّرْطِيَّةِ. فَإِنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ جُمْلَةُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ - لَا يَصِحُّ الرَّبْطُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا الْبَتَّةَ أَيْضًا، إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَحْذُورٍ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِحَالٍ; لِأَنَّ كَوْنَ الْمَعْبُودِ ذَا وَلَدٍ، وَاسْتِحْقَاقَهُ هُوَ أَوْ وَلَدُهُ الْعِبَادَةَ، لَا يَصِحُّ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى مَعْنَى، هُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ لَا يُعْقَلُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَزْعُومَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ - إِنَّمَا يُعَلَّقُ بِهِ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الرَّحْمَنِ ذَا وَلَدٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَالَ لَا يُعَلَّقُ عَلَيْهِ إِلَّا الْمُحَالُ. فَتَعْلِيقُ عِبَادَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الدِّينِ عَلَى كَوْنِهِ ذَا وَلَدٍ - ظُهُورُ فَسَادِهِ كَمَا تَرَى، وَإِنَّمَا تَصْدُقُ الشَّرْطِيَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا لَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلًا، فَادِّعَاءُ أَنَّ (إِنْ) فِي الْآيَةِ شَرْطِيَّةٌ مِثْلُ مَا لَوْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ لَكُنْتُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ لَهُ، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ بِحَالٍ; لَأَنَّ وَاحِدًا مِنْ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ، فَالرَّبْطُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا مِثْلُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَا يَصِحُّ بِحَالٍ. وَيَتَّضِحُ لَكَ ذَلِكَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْآيَةَ [23 \ 91] . فَإِنَّ قَوْلَهُ: (إذًا) أَيْ لَوْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْآلِهَةِ لَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا خَلَقَ وَاسْتَقَلَّ بِهِ، وَغَالَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَمْ يَنْتَظِمْ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ نِظَامٌ، وَلَفَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [17 \ 42] عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ. وَمَعْنَى ابْتِغَائِهِمْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - سَبِيلًا - هُوَ طَلَبُهُمْ طَرِيقًا إِلَى مُغَالَبَتِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ مَعَ بَعْضِهِمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْطَ إِنْ عُلِّقَ بِهِ مُسْتَحِيلٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ الرَّبْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْجَزَاءُ مُسْتَحِيلًا أَيْضًا ; لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمُسْتَحِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ بِهِ إِلَّا الْجَزَاءُ الْمُسْتَحِيلُ. أَمَّا كَوْنُ الشَّرْطِ مُسْتَحِيلًا وَالْجَزَاءُ هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ وَعِمَادُ الْأَمْرِ - فَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا شَكَّ فِي غَلَطِهِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ شَرْطِيَّةٍ صَدَقَتْ مَعَ بُطْلَانِ مُقَدَّمِهَا الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ، وَصِحَّةِ تَالِيهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ - لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهَا لِهَذِهِ الْآيَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ مَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ مِنْ صِحَّةِ التَّمْثِيلِ لَهَا بِذَلِكَ غَلَطٌ فَاحِشٌ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرْطِيَّةٍ كَاذِبَةِ الشَّرْطِ صَادِقَةِ الْجَزَاءِ عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ - لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ ذَلِكَ فِيهَا أَحَدَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا الْبَتَّةَ. وَكِلَاهُمَا يَكُونُ الصِّدْقُ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَمْرٍ خَاصٍّ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَلْ هُوَ مُنَاقِضٌ لِمَعْنَى الْآيَةِ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِوُجُودِ أَحَدِ الْمُتَنَاقِضَيْنَ عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ ضَرُورِيُّ الْبُطْلَانِ، وَنَعْنِي بِأَوَّلِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَوْنَ الشَّرْطِيَّةِ اتِّفَاقِيَّةً لَا لُزُومِيَّةً أَصْلًا. وَبِالثَّانِي مِنْهُمَا كَوْنَ الصِّدْقِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدْقَ مِنْ أَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْكَذِبِ لِعَدَمِ اضْطِرَادِهِ; لِأَنَّهُ يَصْدُقُ فِي مَادَّةٍ، وَيَكْذِبُ فِي أُخْرَى. وَالْمُعْتَبَرُ إِنَّمَا هُوَ الصِّدْقُ اللَّازِمُ الْمُضْطَرِدُ، الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَادَّةِ بِحَالٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ شَرْطُهَا مُحَالٌ لَا يَضْطَرِدُ صِدْقُهَا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاؤُهَا مُحَالًا خَاصَّةً. فَإِنْ وُجِدَتْ قَضِيَّةٌ بَاطِلَةُ الشَّرْطِ صَحِيحَةُ الْجَزَاءِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، لِكَوْنِهَا اتِّفَاقِيَّةً، أَوْ لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ فَقَطْ. فَمِثَالُ وُقُوعِ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا اتِّفَاقِيَّةً قَوْلُكُ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ فِي السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْمَوْتِ. فَالشَّرْطُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ فِي السَّمَاءِ بَاطِلٌ، وَالْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْمَوْتِ صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا لِكَوْنِ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ اتِّفَاقِيَّةً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاتِّفَاقِيَّةَ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا أَصْلًا، فَلَا يَقْتَضِي ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا وَلَا نَفْيُهُ ثُبُوتَ الْآخَرِ وَلَا نَفْيَهُ، فَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْمَعْنَى أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ. فَكَوْنُ زَيْدٍ فِي السَّمَاءِ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِعَدَمِ نَجَاتِهِ مِنَ الْمَوْتِ أَصْلًا، وَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنِهِمَا إِلَّا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْفَرَسُ صَاهِلٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ فِي سُورَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [18 \ 57] فَرَاجِعْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهَا لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا أَصْلًا. وَمِثَالُ وُقُوعِ ذَلِكَ لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ فَقَطْ - مَا مَثَّلَ بِهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مَعَ عَدَمِ انْتِبَاهِهِ لِشِدَّةِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَبَيْنَ مَا مَثَّلَ لَهَا بِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّ الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ بَاطِلٌ، وَالْجَزَاءَ الَّذِي هُوَ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ صَحِيحٌ. مَثَّلَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ، يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا شَرْطٌ بَاطِلٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَكَوْنُ الْإِنْسَانِ حَجَرًا، وَكَوْنُ الرَّحْمَنِ ذَا وَلَدٍ - كِلَاهُمَا شَرْطٌ بَاطِلٌ. فَلَمَّا صَحَّ الْجَزَاءُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ الصَّحِيحَ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ يَصِحُّ تَرْتِيبُهُ عَلَى الشَّرْطِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ. وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ جِدًّا، وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ غَايَةَ الْمُنَافَاةِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الشَّرْطِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ - إِنَّمَا صَدَقَ لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ، لَا لِمَعْنًى اقْتَضَاهُ الرَّبْطُ الْبَتَّةَ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْجِسْمِ وَالْحَجَرِ، وَالنِّسْبَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْجِسْمِ - هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فِي كِلَيْهِمَا. فَالْجِسْمُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الْحَجَرِ، وَالْحَجَرُ أَخَصُّ مُطْلَقًا مِنَ الْجِسْمِ، كَمَا أَنَّ الْجِسْمَ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ أَيْضًا عُمُومًا مُطْلَقًا، وَالْإِنْسَانَ أَخَصُّ مِنَ الْجِسْمِ أَيْضًا خُصُوصًا مُطْلَقًا ; فَالْجِسْمُ جِنْسٌ قَرِيبٌ لِلْحَجَرِ، وَجِنْسٌ بَعِيدٌ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جِنْسٌ مُتَوَسِّطٌ لَهُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ فِي التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ: الْجِسْمُ إِمَّا نَامٍ؛ أَيْ يَكْبُرُ تَدْرِيجًا أَوْ غَيْرُ نَامٍ، فَغَيْرُ النَّامِي كَالْحَجَرِ مَثَلًا، ثُمَّ تُقَسِّمُ النَّامِي تَقْسِيمًا ثَانِيًا، فَتَقُولُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 النَّامِي إِمَّا حَسَّاسٌ أَوْ غَيْرُ حَسَّاسٍ، فَغَيْرُ الْحَسَّاسِ مِنْهُ كَالنَّبَاتِ. ثُمَّ تُقَسِّمُ الْحَسَّاسَ تَقْسِيمًا ثَالِثًا، فَتَقُولُ: الْحَسَّاسُ إِمَّا نَاطِقٌ أَوْ غَيْرُ نَاطِقٍ، وَالنَّاطِقُ مِنْهُ هُوَ الْإِنْسَانُ. فَاتَّضَحَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَجَرِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْجِسْمِ، وَالْحُكْمُ بِالْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ صَادِقٌ فِي الْإِيجَابِ بِلَا نِزَاعٍ وَلَا تَفْصِيلٍ. فَقَوْلُكَ: الْإِنْسَانُ جِسْمٌ صَادِقٌ فِي كُلِّ تَرْكِيبٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُكَذَّبَ بِوَجْهٍ، وَذَلِكَ لِلْمُلَابَسَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ كَوْنِ الْجِسْمِ جِنْسًا لِلْإِنْسَانِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ أَنْوَاعِ الْجِسْمِ، فَلِأَجْلِ خُصُوصِ هَذِهِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَهُمَا - كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ جِسْمٌ صَادِقًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءً كَانَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ غَيْرَ مُعَلَّقٍ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى بَاطِلٍ أَوْ حَقٍّ. فَالِاسْتِدْلَالُ: يَصْدُقُ هَذَا الْمِثَالُ عَلَى صِدْقِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ بُطْلَانُهُ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ عَاقِلٍ يَقُولُهُ; لِأَنَّ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا صَدَقَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْمَلُهُ مُسَمَّى الْجِسْمِ. أَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ هِيَ تَبَايُنُ الْمُقَابَلَةِ ; لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَبَيْنَ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ هِيَ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُسَاوِي نَقِيضِهِ ; لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ أَوْ يُولَدُ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِحَقٍّ بِحَالٍ. وَإِيضَاحُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الْإِنْسَانُ جِسْمٌ - لَقُلْتَ الْحَقَّ، وَلَوْ قُلْتَ: الْمَوْلُودُ لَهُ مَعْبُودٌ، أَوِ الْمَوْلُودُ مَعْبُودٌ - قُلْتَ الْبَاطِلَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا إِجْمَاعُ جَمِيعِ النُّظَّارِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِحْدَى مُقَدِّمَتَيِ الدَّلِيلِ بَاطِلَةً، وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ صَحِيحَةً - أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ فَقَطْ، وَأَنَّ ذَلِكَ الصِّدْقَ لَا عِبْرَةَ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَذِبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا الصِّدْقُ اللَّازِمُ الْمُضْطَرِدُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. فَلَوْ قُلْتَ مَثَلًا: كُلُّ إِنْسَانٍ حَجْرٌ، وَكُلُّ حَجْرٍ جِسْمٌ ; لَأُنْتِجَ مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُلُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 إِنْسَانٍ جِسْمٌ، وَهَذِهِ النَّتِيجَةُ فِي غَايَةِ الصِّدْقِ كَمَا تَرَى. مَعَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الصُّغْرَى مِنَ الدَّلِيلِ الَّتِي هِيَ قَوْلُكَ: كُلُّ إِنْسَانٍ حَجَرٌ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ كَمَا تَرَى. وَإِنَّمَا صَدَقَتِ النَّتِيجَةُ لِخُصُوصِ الْمَادَّةِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ كَاذِبَةً ; لِأَنَّ النَّتِيجَةَ لَازِمُ الدَّلِيلِ، وَالْحَقُّ لَا يَكُونُ لَازِمًا لِلْبَاطِلِ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلِخُصُوصِ الْمَادَّةِ كَمَا أَوْضَحْنَا. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ لَا يَلْزَمُ، وَتَطَّرِدُ صِحَّةُ رَبْطِهِ، إِلَّا بِجَزَاءٍ بَاطِلٍ مِثْلِهِ. وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [10 \ 94] كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ - فَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ شَاسِعٌ، فَظَنُّ اسْتِوَائِهَا فِي الْمَعْنَى بَاطِلٌ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الْآيَةَ، مَعْنَاهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ، لَا إِبْهَامَ فِيهِ ; لِأَنَّا أَوْضَحْنَا سَابِقًا أَنَّ مَدَارَ صِدْقِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَزَائِهَا، فَهِيَ صَادِقَةٌ وَلَوْ كَذَبَ طَرَفَاهَا عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا. فَرَبْطُ قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بِقَوْلِهِ: فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ - رَبْطٌ صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ الشَّاكَّ فِي الْأَمْرِ شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَلَ الْعَالِمَ بِهِ عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَهِيَ قَضِيَّةٌ صَادِقَةٌ، مَعَ أَنَّ شَرْطَهَا وَجَزَاءَهَا كِلَاهُمَا بَاطِلٌ بِانْفِرَادِهِ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] فَهِيَ شَرْطِيَّةٌ صَادِقَةٌ لِصِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الطَّرَفَانِ بَاطِلَيْنِ عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ - لَا تُمْكِنُ صِحَّةُ الرَّبْطِ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَزَائِهَا الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الْمَعْبُودِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ. وَلِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَشُكُّ، وَلَا أَسْأَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ» فَنَفَى الطَّرَفَيْنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 مَعَ أَنَّ الرَّبْطَ صَحِيحٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَلَا غَيْرُهُ الطَّرَفَيْنِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يَقُولُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَا أَعْبُدُهُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّكِّ وَسُؤَالِ الشَّاكِّ لِلْعَالِمِ أَمْرٌ صَحِيحٌ، بِخِلَافِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَكَوْنِ الْمَعْبُودِ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا، فَلَا يَصِحُّ. فَاتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَحَدِيثُ: «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ مُرْسَلًا. وَبِنَحْوِهِ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ. وَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَسْتَغْرِبُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ ; لِقُبْحِهِ وَشَنَاعَتِهِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْكُفَّارِ فِي مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْهُمْ يَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، وَهَذَا مَعَ عَدَمِ فَهْمِهِ لِمَا يَقُولُ وَتَنَاقُضِ كَلَامِهِ. وَسَنَذْكُرُ هُنَا كَلَامَهُ الْقَبِيحَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَنَاعَةِ غَلَطِهِ الدِّينِيِّ وَاللُّغَوِيِّ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ مَا نَصُّهُ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ وَصَحَّ ذَلِكَ وَثَبَتَ بِبُرْهَانٍ صَحِيحٍ تُورِدُونَهُ وَحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ تُدْلُونَ بِهَا، (فَأَنَا أَوَّلُ) مَنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْوَلَدَ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، كَمَا يُعَظِّمُ الرَّجُلُ وَلَدَ الْمَلِكِ لِتَعْظِيمِ أَبِيهِ. وَهَذَا كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ لِغَرَضٍ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ، وَأَلَّا يُتْرَكَ لِلنَّاطِقِ بِهِ شُبْهَةٌ إِلَّا مُضْمَحِلَّةٌ، مَعَ التَّرْجَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ الْقِدَمِ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِبَادَةَ بِكَيْنُونَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مُحَالٌ فِي نَفْسِهَا، فَكَانَ الْمُعَلَّقُ بِهَا مُحَالًا مِثْلَهَا، فَهُوَ فِي صُورَةِ إِثْبَاتِ الْكَيْنُونَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَفِي مَعْنَى نَفْيِهِمَا عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَاهَا. وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلِيُّ لِلْمُجَبِّرِ: إِنْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ عَذَابًا سَرْمَدًا، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ شَيْطَانٌ، وَلَيْسَ بِإِلَهٍ. فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَمَا وُضِعَ لَهُ أُسْلُوبُهُ وَنَظْمُهُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلْكُفْرِ، وَتَنْزِيهُهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَقْدِيسُهُ، وَلَكِنْ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى سَمَاحَةِ الْمَذْهَبِ وَضَلَالَةِ الذَّاهِبِ إِلَيْهِ، وَالشَّهَادَةِ الْقَاطِعَةِ بِإِحَالَتِهِ وَالْإِفْصَاحِ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 نَفْسِهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَغَايَةِ النِّفَارِ وَالِاشْمِئْزَازِ مِنِ ارْتِكَابِهِ. وَنَحْوُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْحَجَّاجِ حِينَ قَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَأُبَدِّلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَارًا تَلَظَّى -: لَوْ عَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا عَبَدْتُ إِلَهًا غَيْرَكُ. وَقَدْ تَمَحَّلَ النَّاسُ بِمَا أَخْرَجُوهُ بِهِ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ الشَّرِيفِ الْمَلِيءِ بِالنُّكَتِ وَالْفَوَائِدِ، الْمُسْتَقِلِّ بِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِهِ، فَقِيلَ: (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) فِي زَعْمِكُمْ (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) الْمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ الْمُكَذِّبِينَ قَوْلَكُمْ لِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ. اهـ الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَفِي كَلَامِهِ هَذَا مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَشِدَّةِ الْجَرَاءَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّخَبُّطِ وَالتَّنَاقُضِ فِي الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ - مَا اللَّهُ عَالِمٌ بِهِ. وَلَا أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ تَأَمَّلَهُ. وَسَنُبَيِّنُ لَكَ مَا يَتَّضِحُ بِهِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ أَوَّلًا قَالَ: (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) وَضَّحَ ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ صَحِيحٍ تُورِدُونَهُ وَحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ تُدْلُونَ بِهَا (فَأَنَا أَوَّلُ) مَنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْوَلَدَ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، كَمَا يُعَظِّمُ الرَّجُلُ وَلَدَ الْمَلِكِ لِتَعْظِيمِ أَبِيهِ. فَكَلَامُهُ هَذَا لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ عَلَى عَاقِلٍ ; لِأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَقِيَامِ الْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ وَالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى أَنَّهُ لَهُ وَلَدٌ - فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِأَبِيهِ ; لِأَنَّ أَبَاهُ مِثْلُهُ فِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، وَالْكُفْرُ بِعِبَادَةِ كُلِّ وَالِدٍ وَكُلِّ مَوْلُودٍ شَرْطٌ فِي إِيمَانِ كُلِّ مُوَحِّدٍ، فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحًا. أَمَّا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا الْبَتَّةَ. وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ فِي لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَجَمِ ; فَالرَّبْطُ بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَهَذَا الْجَزَاءِ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ. فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ ; لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمُحَالِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحَالًا مِثْلَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَلَامِهِ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثَالٍ فِي الْآيَةِ خَارِجًا عَنْهَا اضْطُرَّ إِلَى أَنْ لَا يُعَلِّقَ عَلَى الْمُحَالِ فِي زَعْمِهِ إِلَّا مُحَالًا. فَضَرْبُهُ لِلْآيَةِ الْمَثَلَ بِقِصَّةِ ابْنِ جُبَيْرٍ مَعَ الْحَجَّاجِ - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَعَلَى تَنَاقُضِهِ وَتَخَبُّطِهِ. فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَأُبَدِّلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَارًا تَلَظَّى. قَالَ سَعِيدٌ لِلْحَجَّاجِ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا عَبَدْتُ إِلَهًا غَيْرَكَ. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَّقَ الْمُحَالَ عَلَى الْمُحَالِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ لِلْمَعْنَى الَّذِي مَثَّلَ لَهُ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ لَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَكُنْتُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ. فَقَوْلُهُ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ فِي مَعْنَى قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَنِسْبَةُ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ إِلَيْهِ مَعْنَاهُمَا فِي الِاسْتِحَالَةِ وَادِّعَاءِ النَّقْصِ وَاحِدٌ. فَلَوْ كَانَ سَعِيدٌ يَفْهَمُ الْآيَةَ كَفَهْمِكَ الْبَاطِلِ لَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَكُنْتُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي كَلَامِهِ الْقَبِيحِ الْبَشِعِ الشَّنِيعِ الَّذِي يَتَقَاصَرُ عَنِ التَّلَفُّظِ بِهِ كُلُّ كَافِرٍ. فَقَدِ اضْطُرَّ فِيهِ أَيْضًا إِلَى أَلَّا يُعَلِّقَ عَلَى الْمُحَالِ فِي زَعْمِهِ إِلَّا مُحَالًا شَنِيعًا ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلِيُّ لِلْمُجَبِّرِ: إِنْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ، وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ عَذَابًا سَرْمَدًا، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ هُوَ شَيْطَانٌ، وَلَيْسَ بِإِلَهٍ. فَانْظُرْ قَوْلَ هَذَا الضَّالِّ فِي ضَرْبِهِ الْمَثَلَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِ الضَّالِّ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعَدْلِيَّ: إِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ. . . إِلَخْ. فَخَلْقُ اللَّهِ لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ وَتَعْذِيبُهُ الْكُفَّارَ عَلَى كُفْرِهِمْ - مُسْتَحِيلٌ عِنْدَهُ كَاسْتِحَالَةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، وَهَذَا الْمُسْتَحِيلُ فِي زَعْمِهِ الْبَاطِلِ، إِنَّمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ أَفْظَعَ أَنْوَاعِ الْمُسْتَحِيلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 وَهُوَ زَعْمُهُ الْخَبِيثُ أَنَّ اللَّهَ إِنْ كَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ - فَهُوَ شَيْطَانٌ لَا إِلَهٌ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا -. فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ فَظَاعَةَ جَهْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ بِاللَّهِ، وَشِدَّةَ تَنَاقُضِهِ فِي الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ لِلْآيَةِ. لِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى «إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ» فِي أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِمَا مُسْتَحِيلٌ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ فِي اللَّهِ إِنَّهُ شَيْطَانٌ لَا إِلَهٌ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا -. كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. فَاللَّازِمُ لِكَلَامِهِ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِادِّعَاءَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ شَيْطَانٌ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. وَقَدْ أَعْرَضْتُ عَنِ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ كَلَامِهِ وَشَدَّةِ ضَلَالِهِ وَتَنَاقُضِهِ ; لِشَنَاعَتِهِ وَوُضُوحِ بُطْلَانِهِ، فَهِيَ عِبَارَاتٌ مُزَخْرَفَةٌ، وَشَقْشَقَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَهِيَ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ بِالْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ لِلْآيَةِ، وَالتَّنَاقُضَ الْوَاضِحَ، وَكَمْ مِنْ كَلَامٍ مَلِيءٍ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، وَهُوَ عَقِيمٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ كَمَا قِيلَ: وَإِنِّي وَإِنِّي ثُمَّ إِنِّي وَإِنَّنِي إِذَا انْقَطَعَتْ نَعْلِي جَعَلْتُ لَهَا شِسْعًا فَظَلَّ يُعْمِلُ أَيَّامًا رَوِيَّتَهُ وَشَبَّهَ الْمَاءَ بَعْدَ الْجَهْدِ بِالْمَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْقَدَرِ وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، قَدَّمْنَا مِنْهُ جُمَلًا كَافِيَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [43 \ 20] . وَلَا يَخْفَى تَصْرِيحُ الْقُرْآنِ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [13 \ 16] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [25 \ 2] . وَقَالَ: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [35 \ 2] . وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 \ 49] . فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَقْتَضِي أَنَّ لِلَّهِ شَيْطَانٌ - سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عُلُوًّا كَبِيرًا -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 وَجَزَى الزَّمَخْشَرِيَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: هُوَ دَلَالَةُ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْمُسْتَحِيلَ لِيُبَيِّنَ الْحَقَّ بِفَرْضِهِ - عَلَّقَهُ أَوَّلًا بِالْأَدَاةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ، وَهِيَ لَفْظَةُ (لَوْ) ، وَلَمْ يُعَلِّقْ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ إِلَّا مُحَالًا مِثْلَهُ، كَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [39 \ 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا الْآيَةَ [21 \ 17] . وَأَمَّا تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِأَدَاةٍ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِ كَلَفْظَةِ (إِنْ) مَعَ كَوْنِ الْجَزَاءِ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ - فَلَيْسَ مَعْهُودًا فِي الْقُرْآنِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا - الْمُحَاوَرَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا غَيْرَ قَائِمَةٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيَّ صَحِيحٌ. وَهِيَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَ يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ. فَقَالَ النَّضْرُ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ صَدَقَنِي؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَا، مَا صَدَقَكَ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، أَيِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُنَزِّهِينَ لَهُ عَنِ الْوَلَدِ. فَمُحَاوَرَةُ هَذَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، الْعَالِمَيْنِ بِالْعَرَبِيَّةِ مُطَابِقَةٌ لِمَا قَرَّرْنَا. لِأَنَّ النَّضْرَ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ مُطَابِقٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ الْكُفَّارُ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَعْنًى مَحْذُورٌ وَأَنَّ الْوَلِيدَ قَالَ: إِنَّ (إنْ) نَافِيَةٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مُخَالَفَةُ الْكُفَّارِ وَتَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْوَلَدِ. وَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا يَتَّضِحُ أَنَّ (إِنْ) فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَافِيَةٌ. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ (إِنْ) نَافِيَةٌ - يَلْزَمُهُ إِيهَامُ الْمَحْذُورِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ ; فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ إِلَّا فِي الْمَاضِي، فَلِلْكُفَّارِ أَنْ يَقُولُوا: إِذًا صَدَقْتَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَاضِي وَلَدٌ. وَلَكِنَّ الْوَلَدَ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا صَاهَرَ الْجِنَّ، وَوَلَدَتْ لَهُ بَنَاتَهُ الَّتِي هِيَ الْمَلَائِكَةُ. وَإِنَّ هَذَا الْمَحْذُورَ يَمْنَعُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى النَّفْيِ لَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ ; لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِيهَامَ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ لَمَا كَانَ اللَّهُ يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِلَفْظَةِ (كَانَ) الدَّالَّةِ عَلَى خُصُوصِ الزَّمَنِ الْمَاضِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [4 \ 158] . وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [4 \ 17] . وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [4 \ 96] . وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [33 \ 27] . إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [4 \ 34] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يَصْعُبُ حَصْرُهَا. فَإِنَّ مَعْنَى كُلِّ تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّهُ كَانَ وَلَمْ يَزَلْ. فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ ذَلِكَ الَّذِي زَعَمُوهُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: صَدَقْتَ، مَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ لَهُ - لَقَالُوا مِثْلَهُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا. كَأَنْ يَقُولُوا: كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [4 \ 11] فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ عَدَمُ ذَلِكَ. وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا. وأَيْضًا فَإِنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي زَعَمُوهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِطْلَاقِ نَفْيِ الْكَوْنِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [19 \ 64] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [18 \ 51] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [28 \ 59] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَمِنْ أَوْضَحِهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ الْآيَةَ [23 \ 91] . وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ نَفْيِ الْقُرْآنِ لِلْوَلَدِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [23 \ 91] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَقُولُوا يَوْمًا مَا: صَدَقْتَ، مَا اتَّخَذَهُ فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [17 \ 111] . وَقَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ [112 \ 3] ; لِأَنَّ (لَمْ) تَنْقُلِ الْمُضَارِعَ إِلَى مَعْنَى الْمَاضِي. وَالْكُفَّارُ لَمْ يَقُولُوا يَوْمًا: صَدَقْتَ، لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ، وَلَمْ يَقُولُوا: لَمْ يَلِدْ فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ وَلَدَ أَخِيرًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ لَا فِي الْمَاضِي وَلَا فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوِلَادَةَ الْمَزْعُومَةَ حَدَثٌ مُتَحَدِّدٌ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا زَعَمُوهُ مِنْ إِيهَامِ الْمَحْذُورِ فِي كَوْنِ (إِنْ) فِي الْآيَةِ نَافِيَةً - لَا أَسَاسَ لَهُ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِهَا شَرْطِيَّةً لَيْسَ لَهَا مَعْنًى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِلَّا الْمَعْنَى الْمَحْذُورُ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ بِحَالٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّذِي يَقْتَضِي إِمْكَانَ صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ لَا شَكَّ فِي غَلَطِهِ فِيهِ. وَأَمَّا إِبْطَالُهُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لَهُ وَالْمُكَذِّبِينَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ إِبْطَالٌ صَحِيحٌ، وَكَلَامُهُ فِيهِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالدِّقَّةِ، وَهُوَ يَقْتَضِي إِبْطَالَهُ بِنَفْسِهِ، لِجَمِيعِ مَا كَانَ يُقَرِّرُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَوْنَ مَعْنَى (إِنْ) فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ النَّفْيُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا مَحْذُورَ وَلَا إِيهَامَ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ تَشْهَدُ لَهُ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا كَوْنُ مَعْنَى الْآيَةِ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ فَلَا يَصِحُّ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ مَحْذُورٍ فِي اللُّغَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَظِيرٌ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى فِي التَّعْلِيقِ بِإِنْ وَالتَّعْلِيقِ بِلَوْ. لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِـ (لَوْ) يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِ، وَعَدَمُ الشَّرْطِ اسْتَلْزَمَ عَدَمَ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ (إِنْ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 فَالتَّعْلِيقُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ بِلَا نِزَاعٍ. وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيقِ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ أَوِ الْعِلْمِ بِنَفْيِهِ، فَلِأَسْبَابٍ أُخَرَ، وَأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ (لَوْ) تَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَأَنَّ (إِنْ) تَقْتَضِي الشَّكَّ فِيهِ - لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْآيَةَ [10 \ 94] . كَمَا أَشَرْنَا لَهُ قَرِيبًا. لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [17 \ 22]- دَلَالَةَ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ مِنَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، وَلَا يُرَادُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَتَّةَ بِذَلِكَ الْخِطَابِ. وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الْآيَةَ [17 \ 23] . فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ لَا هُوَ نَفْسُهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ لَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَوْ مَعْنَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَيْ إِنْ يَبْلُغْ عِنْدَكَ الْكِبَرَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالِدَاكَ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا: أُفٍّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَهُوَ حَمْلٌ، وَأَمَّهُ مَاتَتْ وَهُوَ فِي صِبَاهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِنْ يَبْلُغِ الْكِبَرَ عِنْدَكَ هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمَا قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَزْمَانٍ. وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ الَّذِي يُمْكِنُ إِدْرَاكُ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ عِنْدَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَوْرَدْنَا شَاهِدًا لِذَلِكَ؛ رَجَزَ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحِضَارَهْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَهْ أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ وَقَدْ بَسَطْنَا الْقِصَّةَ هُنَاكَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الْآيَةَ [17 \ 23] لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا لَهُ هُوَ نَفْسُهُ - بَاطِلٌ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْآيَةَ [17 \ 39] . وَالْحَاصِلُ أَنَّ آيَةَ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْآيَةَ [10 \ 94] لَا يُنْقَضُ بِهَا الضَّابِطُ الَّذِي ذَكَرْنَا ; لِأَنَّهَا كَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [17 \ 22] . لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] . فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [10 \ 94] . وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [33 \ 48] . وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى لِيُشَرِّعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اطِّرَادَ الضَّابِطِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي لَفْظَةِ لَوْ، وَلَفْظَةِ إِنْ، وَأَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ وَلَا غَرَرَ وَلَا إِيهَامَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى لَفْظَةِ سُبْحَانَ، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَإِعْرَابَ لَفْظَةِ سُبْحَانَ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَلَمَّا قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ - نَزَّهَ نَفْسَهُ تَنْزِيهًا تَامًّا عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، مُبَيِّنًا أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ - جَدِيرٌ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ الْوَلَدِ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وَصْفَ الْكُفَّارِ لَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ مُعْلِمًا خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ - جَاءَ مِثْلُهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [23 \ 91 - 92] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [17 \ 42 - 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [21 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [4 \ 171] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ الْآيَةَ [15 \ 3] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الْآيَةَ [6 \ 3] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [6 \ 59] . وَفِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [7 \ 178] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ الْآيَةَ [2 \ 48] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «بَنِي» إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ -: (وَقِيلَهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: (وَقِيلِهِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْهَاءِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِعْرَابُهُ بِأَنَّهُ عَطْفُ مَحَلٍّ عَلَى (السَّاعَةِ) لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [43 \ 85]- مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ. فَلَفْظُ السَّاعَةِ مَجْرُورٌ لَفْظًا بِالْإِضَافَةِ، مَنْصُوبٌ مَحَلًّا بِالْمَفْعُولِيَّةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِي تَابِعِهِ النَّصْبُ نَظَرًا إِلَى الْمَحَلِّ، وَالْخَفْضُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَجُرَّ مَا يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ رَاعَى فِي الِاتِّبَاعِ الْمَحَلَّ فَحَسَنْ وَقَالَ فِي نَظِيرِهِ فِي الْوَصْفِ: وَاخْفِضْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذِي انْخَفَضْ كَمُبْتَغِي جَاهٍ وَمَالًا مَنْ نَهَضْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى سِرَّهُمْ [43 \ 80] . وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [43 \ 80] . وَقِيلِهِ يَارَبِّ الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. أَيْ، وَقَالَ: قِيلَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَافَ لَمَّا كُسِرَتْ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِمُجَانِسَةِ الْكَسْرَةِ. قَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا الْإِعْرَابِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ : تَمْشِي الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَيْلَهُمُ ... إِنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سَلْمَى لَمَقْتُولُ أَيْ وَيَقُولُونَ قَيْلَهُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِيَعْلَمُ مَحْذُوفَةً ; لِأَنَّ الْعَطْفَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِهِ: سَرَّهُمْ، وَالْعَطْفَ عَلَى (السَّاعَةِ) يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَصْلُحُ لِكَوْنِهِ اعْتِرَاضًا، وَتَقْدِيرُ النَّاصِبِ إِذَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيُحْذَفُ النَّاصِبُهَا إِنْ عُلِمَا وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُهُ مُلْتَزِمَا وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّاعَةِ، أَيْ وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَعَلَمُ (قِيلِهِ يَا رَبِّ) . وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ مَخْفُوضٌ بِالْقِسْمِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (قِيلِهِ) لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدُ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ [43 \ 89]- خِطَابٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا نِزَاعٍ، فَادِّعَاءُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (قِيلِهِ) لِعِيسَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا وَجْهَ لَهُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ شَكْوَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ عَدَمَ إِيمَانِ قَوْمِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [25] . وَذُكِرَ مِثْلُهُ عَنْ مُوسَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الدُّخَانِ» : فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [44 \ 22] . وَعَنْ نُوحٍ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا [71 \ 5 - 6] . إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ -: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَضَمَّنَتْ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّفْحِ عَنِ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ لَهُمْ سَلَامٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 وَالثَّالِثُ: تَهْدِيدُ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَصِحَّةَ مَا يُوعَدُ بِهِ الْكَافِرُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْأَوَّلِ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [15 \ 85] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ [22 \ 48] . وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ. قَالُوا: لِأَنَّ الصَّفْحَ أَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، فَكَأَنَّهُ يُوَلِّي الْمُذْنِبَ بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ مُعْرِضًا عَنْ عِتَابِهِ فَمَا فَوْقَهُ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُ هُوَ شَأْنُ عِبَادِهِ الطَّيِّبِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُهُمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [25 \ 63] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [28 \ 55] . وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ أَبُوهُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [19 \ 46] . قَالَ لَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ [19 \ 47] . وَمَعْنَى السَّلَامِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ إِخْبَارُهُمْ بِسَلَامَةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَذَاهُمْ، وَمِنْ مُجَازَاتِهِمْ لَهُمْ بِالسُّوءِ، أَيْ سَلِمْتُمْ مِنَّا لَا نُسَافِهُكُمْ، وَلَا نُعَامِلُكُمْ بِمِثْلِ مَا تُعَامِلُونَنَا. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ الَّذِي هُوَ تَهْدِيدُ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ الْحَقِيقَةَ - قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتِ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [38 \ 88] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [6 \ 67] . وَقَوْلِهِ: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [78 \ 4 - 5] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [102 \ 3 - 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [102 \ 6 - 7] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَمَا فِي مَعْنَاهُ - مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ، وَجَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ يَقُولُونَ: هُوَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ. وَالْقِتَالُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقِتَالُ وَالصَّفْحُ عَنِ الْجَهَلَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ - وَصْفٌ كَرِيمٌ، وَأَدَبٌ سَمَاوِيٌّ، لَا يَتَعَارَضُ مَعَ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الدُّخَانِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ. أَبْهَمَ - تَعَالَى - هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] وَبَيَّنَ كَوْنَهَا (مُبَارَكَةٍ) الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [97 \ 3] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَقَوْلُهُ: فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، إِلَى آخِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي سُورَةِ «الْقَدْرِ» - كَثِيرَةُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ جِدًّا. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [2 \ 185] . فَدَعْوَى أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِنَصِّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحِ. وَلَا شَكَّ كُلُّ مَا خَالَفَ الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَالْأَحَادِيثُ - الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُهُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ شَعْبَانَ - الْمُخَالِفَةُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ - لَا أَسَاسَ لَهَا، وَلَا يَصِحُّ سَنَدُ شَيْءٍ مِنْهَا، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ. فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ مُسْلِمٍ يُخَالِفُ نَصَّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَ بِلَا مُسْتَنَدِ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا. مَعْنَى قَوْلِهِ: يُفْرَقُ، أَيْ يُفْصَلُ وَيُبَيَّنُ، وَيُكْتَبُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ - كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَيْ ذِي حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَكِيمٌ، أَيْ مُحْكَمٌ، لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا تَبْدِيلَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَقٌّ ; لِأَنَّ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ. وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ وَضْعُ الْأُمُورِ فِي مَوَاضِعِهَا وَإِيقَاعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا. وَإِيضَاحُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ يُبَيِّنُ لِلْمَلَائِكَةِ وَيَكْتُبُ لَهُمْ بِالتَّفْصِيلِ وَالْإِيضَاحِ جَمِيعَ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ السَّنَةِ الْجَدِيدَةِ. فَتَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ، وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى، وَالْخِصْبُ وَالْجَدْبُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَالْحُرُوبُ وَالزَّلَازِلُ، وَجَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَّةِ كَائِنًا مَا كَانَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَمَعْنَى (يُفْرَقُ) يُفْصَلُ وَيُكْتَبُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَآجَالِهِمْ، وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِيهَا إِلَى الْأُخْرَى الْقَابِلَةِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَتُدْفَعُ نُسْخَةُ الْأَرْزَاقِ إِلَى مِيكَائِيلَ، وَنُسْخَةُ الْحُرُوبِ إِلَى جِبْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ الزَّلَازِلُ وَالصَّوَاعِقُ وَالْخَسْفُ، وَنُسْخَةُ الْأَعْمَالِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ صَاحِبِ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَهُوَ مَلَكٌ عَظِيمٌ، وَنُسْخَةُ الْمَصَائِبِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمُرَادُنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا الْتِزَامُ صِحَّةِ دَفْعِ النُّسَخِ الْمَذْكُورَةِ لِلْمَلَائِكَةِ الْمَذْكُورِينَ ; لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ لَهُ مُسْتَنَدًا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ; فَهُوَ بَيَانٌ قُرْآنِيٌّ آخَرُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ فِي لَيْلَةِ التَّقْدِيرِ لِجَمِيعِ أُمُورِ السَّنَةِ، مِنْ رِزْقٍ وَمَوْتٍ، وَحَيَاةٍ وَوِلَادَةٍ، وَمَرَضٍ وَصِحَّةٍ، وَخِصْبٍ وَجَدْبٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِ السَّنَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيَتَصَرَّفُ فِي أُمُورِهِ وَيُولَدُ لَهُ، وَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَالتَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ هُوَ بِعَيْنِهِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [21 \ 87]- أَنَّ قَدَرَ بِفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفًا يَقْدِرُ، وَيَقْدُرُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ كَيَضْرِبُ وَيَنْصُرُ قَدْرًا بِمَعْنَى قَدَّرَ تَقْدِيرًا، وَأَنَّ ثَعْلَبًا أَنْشَدَ لِذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَرْوَقَ السَّلَمُ النَّضِرُ وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تَقْدُرْ يَقَعْ وَلَكَ الشُّكْرُ وَبَيَّنَّا هُنَاكَ، أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقْدُرُ فِيهَا وَقَائِعَ السَّنَةِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَأَوْضَحنَا هُنَاكَ أَنَّ الْقَدَرَ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَالْقَدْرَ بِسُكُونِهَا - هُمَا مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنْ قَضَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ الْخَشْرَمِ: أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدْرِ ... وَلِلْأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِعِظَمِهَا وَشَرَفِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِي مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ ذُو قَدْرٍ، أَيْ ذُو شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ رَفِيعَةٍ - لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ; لِاتِّصَافِهَا بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَصِحَّةُ وَصْفِهَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا، كَمَا أَوْضَحْنَا مِثْلَهُ مِرَارًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَصْدَرٌ مُنْكَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالِ كَوْنِنَا آمِرِينَ بِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَخْفَشُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: (أَنْزَلْنَاهُ) ، وَجَعَلَ (أَمْرًا) بِمَعْنَى: إِنْزَالًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ (يُفْرَقُ) ، فَجُعِلَ (أَمْرًا) بِمَعْنَى فَرْقًا، أَوْ فَرْقٌ بِمَعْنَى (أَمْرًا) . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ حَالٌ مِنْ (أَمْرًا) ، أَيْ (يُفْرَقُ فِيهَا بَيْنَ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فِي حَالِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 كَوْنِهِ (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) وَهَذَا الْوَجْهُ جَيِّدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا سَاغَ إِتْيَانُ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا ; لِأَنَّ النَّكِرَةَ الَّتِي هِيَ (أَمْرٌ) وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ (حَكِيمٍ) كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ (أَمْرًا) مَفْعُولٌ بِهِ لِقَوْلِهِ: (مُنْذِرِينَ) [44 \ 3] . وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالِاخْتِصَاصِ، فَقَالَ: جَعَلَ كُلَّ أَمْرٍ جَزْلًا فَخْمًا، بِأَنَّ وَصْفَهُ بِالْحَكِيمِ، ثُمَّ زَادَهُ جَزَالَةً وَأَكْسَبَهُ فَخَامَةً، بِأَنْ قَالَ: أَعْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَمْرًا حَاصِلًا مِنْ عِنْدِنَا، كَائِنًا مِنْ لَدُنَّا، وَكَمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُنَا وَتَدْبِيرُنَا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَيْضًا مُمْكِنٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا الْآيَةَ [18 \ 65] . وَفِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا الْآيَةَ [35 \ 2] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. هَذَا الَّذِي ادَّعَوْهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتِرَاءً، مِنْ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ، يَعْنُونَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَّمَهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْنُونٌ - قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِإِبْطَالِهِ. أَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَى فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [16 \ 103] . وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ إِلَى قَوْلِهِ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [25 \ 4 - 5] . وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِافْتِرَائِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] . وَفِي الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا الْآيَةَ [25 \ 4 - 5] . وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهَا وَلِإِبْطَالِهَا فِي سُورَةِ «قَدْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [23 \ 70] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. الرَّسُولُ الْكَرِيمُ هُوَ مُوسَى، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي أُرْسِلَ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ - كَثِيرَةٌ وَمَعْرُوفَةٌ. وَقَوْلُهُ: أَدُّوا إِلَيَّ أَيْ سَلِّمُوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَرْسِلُوهُمْ مَعِي. فَقَوْلُهُ: عِبَادَ اللَّهِ مَفْعُولٌ بِهِ لِقَوْلِهِ: أَدُّوا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مُوسَى طَلَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُرْسِلَهُمْ مَعَهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مُصَرَّحًا فِيهَا بِأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «طه» : فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [20 \ 47] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [26 \ 16 - 17] . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَدُّوا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ ; لِأَنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، لَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: عِبَادَ اللَّهِ مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَمَا أَوْضَحَتْهُ آيَةُ «طه» وَآيَةُ «الشُّعَرَاءِ» لَا مُنَادَى مُضَافٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [40 \ 27] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ أَوْرَثَهُمْ مَا ذَكَرَهُ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» أَنَّهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 [26 \ 59] كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِي «الْأَعْرَافِ» . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ. مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ نَجَّى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ الَّذِي كَانَ يُعَذِّبُهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مُصَرَّحًا فِيهَا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 49 - 50] . وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ الْآيَةَ [7 \ 141] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمُؤْمِنِ» : فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ الْآيَةَ [40 \ 25] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ «إِبْرَاهِيمَ» : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ الْآيَةَ [14 \ 16] . وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 \ 22] فَتَعْبِيدُهُ إِيَّاهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهِ لَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ - أَوْضَحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «يُونُسَ» : وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [10 \ 83] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْقَصَصِ» : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [28 \ 4] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [22 \ 19] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 وَقَدْ تَرَكْنَا إِحَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةً بَيَّنَّا فِيهَا بَعْضَ آيَاتِ سُورَةِ «الدُّخَانِ» هَذِهِ، خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ بِكَثْرَةِ الْإِحَالَةِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الْآيَةَ [19 \ 97] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْجَاثِيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَوَّلِ سُورَة ِ «الْجَاثِيَةِ» - سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - تَعَالَى -. الْأَوَّلُ مِنْهَا: خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. الثَّانِي: خَلْقُهُ النَّاسَ. الثَّالِثُ: خَلْقُهُ الدَّوَابَّ. الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. الْخَامِسُ: إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ. السَّادِسُ: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ. وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ. وَلِذَا قَالَ: لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [50 \ 6 - 8] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [34 \ 9] . وَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [10 \ 101] . وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 158] . وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [30 \ 22] فِي «الرُّومِ» وَ «الشُّورَى» [42 \ 29] . وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [40 \ 64] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [40 \ 64] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [51 \ 47 - 48] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [78 \ 6 - 12] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ. وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. [30 \ 20] . وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [71 \ 13 - 14] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [39 \ 6] . وَقَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [51 \ 21] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الشُّورَى» : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [42 \ 29] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ الْآيَةَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [39 \ 6] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39 \ 6] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3 \ 190] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «فُصِّلَتْ» : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [41 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا الْآيَةَ [36 \ 37 - 38] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [24 \ 44] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [28 \ 71 - 73] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [23 \ 80] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا إِلَى قَوْلِهِ: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 24 - 32] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ. هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ؟ الْجَوَابُ: لَا. ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [24 \ 43] ؟ . الْجَوَابُ: لَا. ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ؟ الْجَوَابُ: لَا. ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ؟ الْجَوَابُ: لَا. ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ؟ الْجَوَابُ: لَا. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [6 \ 99] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [78 \ 14 - 16] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [36 \ 33] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ - تَعَالَى - الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [40 \ 13] . وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [30 \ 46] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [15 \ 22] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَظِيمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ، كَثْرَةً مُسْتَفِيضَةً. وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَسُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَسَنُعِيدُ طَرَفًا مِنْهَا هُنَا لِأَهَمِّيَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَالْأَوَّلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ خَلْقَهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - مِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَضْعَفِ الْأَصْغَرِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] أَيْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [36 \ 81] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [46 \ 33] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ الْآيَةَ [17 \ 99] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 27 - 33] . وَنَظِيرُ آيَةِ «النَّازِعَاتِ» هَذِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الصَّافَّاتِ» : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا الْآيَةَ [37 \ 11] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِلَى قَوْلِهِ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 5 - 10] . وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ خَلْقُهُ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ - خَلْقَهُمْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ - لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا لَا يَخْفَى. وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَعْثِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 78 - 79] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ الْآيَةَ [19 \ 66 - 68] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [30 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [17 \ 51] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [50 \ 15] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [56 \ 62] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [53 \ 45 - 47] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 36 - 40] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 إِلَى قَوْلِهِ: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [95 \ 1 - 7] يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ يَحْمِلُكَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ - أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ - وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي خَلَقْتُكَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتٍ. فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [41 \ 39] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22 \ 5 - 7] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [30 \ 50] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 \ 57] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى أَيْ نَبْعَثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَمَا أَخْرَجْنَا تِلْكَ الثَّمَرَاتِ بَعْدَ عَدَمِهَا، وَأَحْيَيْنَا بِإِخْرَاجِهَا ذَلِكَ الْبَلَدَ الْمَيِّتَ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [30 \ 19] يَعْنِي تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [50 \ 11] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. أَشَارَ - جَلَّ وَعَلَا - لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ يَتْلُوهَا عَلَيْهِ مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ بِلَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [2 \ 251 - 252] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ [3 \ 107 - 108] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تِلْكَ - بِمَعْنَى هَذِهِ. وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ [2 \ 2] بِمَعْنَى: هَذَا الْكِتَابُ. كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نَدْبَةَ السُّلَمِيِّ: فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكًا أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا يَعْنِي أَنَا هَذَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ، وَذَكَرْنَا أَوْجُهَهُ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) - فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: نَتْلُوهَا أَيْ نَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ. وَأَسْنَدَ - جَلَّ وَعَلَا - تِلَاوَتَهَا إِلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّهَا كَلَامُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَأَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ - جَلَّ وَعَلَا -. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 16 - 19] . فَقَوْلُهُ: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ، أَيْ قَرَأَهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ الْمُرْسَلُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا مُبَلِّغًا عَنَّا، وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أَيْ فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ وَاقْرَأْهُ كَمَا سَمِعْتَهُ يَقْرَؤُهُ. وَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [20 \ 114] . وَسَمَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ مِنَ الْمَلَكِ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ كَلَامَ اللَّهِ وَفَهْمُهُ لَهُ - هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ إِيَّاهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 عَلَى قَلْبِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [2 \ 97] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 192 - 195] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [45 \ 6] يَعْنِي آيَاتِهِ الشَّرْعِيَّةَ الدِّينِيَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقَيْنِ أَيْضًا. أَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا - وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ - فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانٍ: تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْآيَاتِ عَلَامَاتُ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُ وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، يَقُولُونَ: جَاءَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ، أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ بُرْجُ بْنُ مُسْهِرٍ: خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا ... بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا وَقَوْلُهُ: بِآيَاتِنَا، يَعْنِي بِجَمَاعَتِنَا. وَأَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، كَآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ. وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3 \ 190] . أَمَّا الْآيَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ فَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَامَاتٌ قَاطِعَةٌ، عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا أَيْضًا مِنَ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ - عَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ بُرْهَانِ الْإِعْجَازِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا عَلَامَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا مَبْدَأُ الْآيَاتِ وَمُنْتَهَاهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، لِتَضَمُّنِهَا جُمْلَةً وَجَمَاعَةً مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ. وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ أَيَيَةٌ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْيَاءَيْنِ بَعْدَهَا - فَاجْتَمَعَ فِي الْيَاءَيْنِ مُوجِبَا إِعْلَالٍ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَحَرِّكَةٌ حَرَكَةً أَصْلِيَّةً بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: مِنْ وَاوٍ وَيَاءٍ بِتَحْرِيكِ أُصِلْ ... أَلِفًا أَبْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ إِنْ حُرِّكَ التَّالِي. . . ... . . . . . . . . إِلَخْ. وَالْمَعْرُوفُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ أَنَّهُ إِنِ اجْتَمَعَ مُوجِبَا إِعْلَالٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تَصْحِيحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَإِعْلَالُ الثَّانِي بِإِبْدَالِهِ أَلِفًا، كَالْهَوَى وَالنَّوَى وَالطَّوَى وَالشَّوَى، وَرُبَّمَا صُحِّحَ الثَّانِي وَأُعِلَّ الْأَوَّلُ، كَغَايَةٍ وَرَايَةٍ، وَآيَةٍ - عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعْلَالَهُمَا لَا يَصِحُّ، وَلِهَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ لِحَرْفَيْنِ ذَا الْإِعْلَالُ اسْتُحِقْ ... صُحِّحَ أَوَّلٌ وَعَكْسٌ قَدْ يَحِقْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنَّ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى لُزُومِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ ; أَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُؤْمِنَ بِشَيْءٍ آخَرَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُؤْمِنُ بِحَدِيثٍ لَآمَنَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ ; لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ اللَّهِ مُتَوَعَّدٌ بِالْوَيْلِ، وَأَنَّهُ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ، وَالْأَفَّاكُ: كَثِيرُ الْإِفْكِ، وَهُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَهُوَ مُجْرِمٌ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ - قَدْ ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَتَوَعَّدَ الْمُكَذِّبِينَ لِهَذَا الْقُرْآنِ بِالْوَيْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ اسْتِبْعَادَ إِيمَانِهِمْ بِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْمُرْسَلَاتِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [47 \ 48 - 50] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَقَوْلِهِ هُنَا: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. وَقَدْ كَرَّرَ - تَعَالَى - وَعِيدَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْوَيْلِ فِي سُورَةِ «الْمُرْسَلَاتِ» كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ «الْمُرْسَلَاتِ» : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ هُنَا فِي «الْجَاثِيَةِ» : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ - تَعَالَى - وَقَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ يُتْلَى، ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي حَالَةِ كَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا عَنِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَاتُ الْقُرْآنِ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ آيَاتِ اللَّهِ، لَهُ الْبِشَارَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «لُقْمَانَ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ [31 \ 7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [22 \ 72] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [47 \ 16] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: مَاذَا قَالَ آنِفًا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُبَالُونَ بِمَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَاتِ وَالْهُدَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَبْحَثِ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ [41 \ 4 - 5] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا خُفِّفَتْ فِيهِ لَفْظَةُ (كَأَنْ) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَأَنَّ إِذَا خُفِّفَتْ كَانَ اسْمُهَا مُقَدَّرًا، وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهَا، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 وَخُفِّفَتْ كَأَنَّ أَيْضًا فَنُوِي ... مَنْصُوبُهَا وَثَابِتًا أَيْضًا رُوِي وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» أَنَّ الْبِشَارَةَ تُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُرُّ، وَأَنَّهَا رُبَّمَا أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ أَيْضًا. وَأَوْضَحنَا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَةَ وَيْلٌ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ، وَأَنَّهَا مَصْدَرٌ لَا لَفْظَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا مَعَ أَنَّهَا نَكِرَةٌ كَوْنُهَا فِي مَعْرِضِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ. قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ -: يُؤْمِنُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ -: تُؤْمِنُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو -: يُومَنُونَ، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا فِي الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ. وَالْبَاقُونَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ مُطْلَقًا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَوَعُّدُ الْأَفَّاكِ الْأَثِيمِ بِالْوَيْلِ، وَالْبِشَارَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ أَصَرَّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا، أَيْ مَهْزُوءًا بِهَا، مُسْتَخِفًّا بِهَا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَأَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - قَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 «الْكَهْفِ» : ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [18 \ 106] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْكَهْفِ» أَيْضًا: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ الْآيَةَ [18 \ 56 - 35] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [45 \ 34 - 35] . وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ -: هُزُؤًا بِضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الزَّايِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ هُزْءًا، بِسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ. وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ، فَعَنْ حَمْزَةَ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الزَّايِ، فَتَكُونُ الزَّايُ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا أَلْفٌ، وَعَنْهُ إِبْدَالُهَا وَاوًا مُحَرَّكَةً بِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أَيْ لِأَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِءُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا إِهَانَتُهُمْ وَخِزْيُهُمْ وَشِدَّةُ إِيلَامِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَلَيْسَ فِيهِ تَطْهِيرٌ وَلَا تَمْحِيصٌ لَهُمْ، بِخِلَافِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عُذِّبُوا فَسَيَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَذَابِ. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِعَذَابِهِمْ مُجَرَّدَ الْإِهَانَةِ، بَلْ لِيَئُولُوا بَعْدَهُ إِلَى الرَّحْمَةِ وَدَارِ الْكَرَامَةِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ. الْآيَةَ [14 \ 15 - 16] . وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ (وَرَاءَ) بِمَعْنَى أَمَامَ. فَمَعْنَى مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أَيْ أَمَامَهُ جَهَنَّمُ يَصْلَاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [18 \ 79] أَيْ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الشَّوَاهِدَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ أَيْ أَمَامَهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ. أَوْضَحَ فِيهِ أَنَّ مَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ بِشَيْءٍ، فَلَا يُجْلَبُ لَهُمْ بِسَبَبِهِ نَفْعٌ وَلَا يُدْفَعُ عَنْهُمْ بِسَبَبِهِ ضُرٌّ، وَإِنَّمَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لِلَّهِ - لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا بِشَيْءٍ. وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، قَدْ أَوْضَحَهُمَا اللَّهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا - فَقَدْ أَوْضَحَهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [111 \ 1 - 2] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 11] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ الْآيَةَ [104 \ 2 - 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [39 \ 50] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ الْآيَةَ [69 \ 27 - 28] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [7 \ 48] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ الْآيَةَ [26 \ 87 - 88] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الْآيَةَ [34 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [3 \ 10] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [3 \ 116] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمُجَادَلَةِ» : الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [58 \ 16 - 17] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا تَنْفَعُهُمُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - فَقَدْ أَوْضَحَهَا - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «هُودٍ» : وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [11 \ 101] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [46 \ 28] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [28 \ 64] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [18 \ 52] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً الْآيَةَ [46 \ 5 - 6] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [35 \ 13 - 14] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 81 - 82] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [29 \ 25] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، الْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ. وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلِيَاءِ هُنَا: الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي يُوَالُونَهَا بِالْعِبَادَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَسَبُوا وَمَا اتَّخَذُوا - مَوْصُولَةٌ - وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لِأَنَّ مَا الْأُولَى فَاعِلُ يُغْنِي، وَمَا الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، وَزِيَادَةُ لَا قَبْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَنْفِيٍّ - مَعْرُوفَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُغْنِي أَيْ لَا يَنْفَعُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْغَنَاءِ - بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ - وَهُوَ النَّفْعُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقَلَّ غَنَاءً عَنْكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ ... إِذَا صَارَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لَاحِدُ فَقَوْلُهُ: قَلَّ غَنَاءً، أَيْ قَلَّ نَفْعًا. وَقَوْلُ الْآخَرِ : قَلَّ الْغَنَاءُ إِذَا لَاقَى الْفَتَى تَلَفًا ... قَوْلُ الْأَحِبَّةِ لَا تَبْعَدْ وَقَدْ بَعِدَا فَقَوْلُهُ: الْغَنَاءُ أَيِ النَّفْعُ. وَالْبَيْتُ مِنْ شَوَاهِدِ إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَوْلُ الْأَحِبَّةِ، فَاعِلُ قَوْلِهِ: الْغَنَاءُ. وَأَمَّا الْغِنَاءُ - بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ - فَهُوَ الْأَلْحَانُ الْمُطْرِبَةُ. وَأَمَّا الْغِنَى - بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ - فَهُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ. وَأَمَّا الْغَنَى - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - فَهُوَ الْإِقَامَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَنِيَ بِالْمَكَانِ - بِكَسْرِ النُّونِ - يَغْنَى - بِفَتْحِهَا - غَنَى - بِفَتْحَتَيْنِ - إِذَا أَقَامَ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [10 \ 24] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [7 \ 92] كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا. وَأَمَّا الْغُنَى - بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ - فَهُوَ جَمْعُ غُنْيَةٍ، وَهِيَ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ الْإِنْسَانُ. وَأَمَّا الْغُنَاءُ - بِالْمَدِّ وَالضَّمِّ - فَلَا أَعْلَمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَهَذِهِ اللُّغَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي مَادَّةِ غَنِيَ كُنْتُ تَلَقَّيْتُهَا فِي أَوَّلِ شَبَابِي فِي دَرْسٍ مِنْ دُرُوسِ الْفِقْهِ لَقَّنَنِيهَا شَيْخِي الْكَبِيرُ أَحْمَدُ الْأَفْرَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارُ الْجَكَنِيُّ، وَذَكَرَ لِي بَيْتَيْ رَجَزٍ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ الْقُطْرِ، وَهُمَا قَوْلُهُ: وَضِدُّ فَقْرٍ كَإِلَى، وَكَسَحَابِ ... النَّفْعُ، وَالْمُطْرِبُ أَيْضًا كَكِتَابِ وَكَفَتًى إِقَامَةٌ وَكَهُنَا ... جَمْعٌ لِغُنْيَةٍ لِمَا بِهِ الْغَنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ. الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا هُدًى رَاجِعَةٌ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [45 \ 6] . وَقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْآيَةَ [45 \ 6] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وَقَوْلِهِ: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ [45 \ 8] . وَقَوْلِهِ: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا [45 \ 9] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هَدًى، وَأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ هُدًى، فَقَدْ ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 52] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [16 \ 89] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [2 \ 185] . وَقَوْلِهِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 1 - 2] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [41 \ 44] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا كَوْنُ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [11 \ 17] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا [20 \ 99 - 101] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [18 \ 106] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ الْآيَةَ [41 \ 17] . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ - أَنَّ الْهُدَى يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقًا عَامًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الْهُدَى هُوَ الْبَيَانُ وَالْإِرْشَادُ وَإِيضَاحُ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، وَكَقَوْلِهِ: هُدًى لِلنَّاسِ [2 \ 185] . وَقَوْلِهِ هُنَا: هَذَا هُدًى - وَأَنَّهُ يُطْلَقُ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ، وَهُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالِاصْطِفَاءِ، كَقَوْلِهِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 2] . وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [41 \ 44] . وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 [47 \ 17] . وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» أَنَّ مَعْرِفَةَ إِطْلَاقِ الْهُدَى الْمَذْكُورِينَ، يَزُولُ بِهَا الْإِشْكَالُ الْوَاقِعُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَالْهُدَى مَصْدَرُ هَدَاهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ هُنَا مِنْ جِنْسِ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ، وَبَيَّنَا فِيمَا مَضَى مِرَارًا أَنَّ تَنْزِيلَ الْمَصْدَرِ مَنْزِلَةَ الْوَصْفِ إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى: هَذَا الْقُرْآنُ ذُو هُدًى، أَيْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ الْهُدَى لِمَنِ اتَّبَعَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّصَافِ الْقُرْآنِ بِالْهُدَى حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُ الْهُدَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجْزِ الْعَذَابُ، وَلَا تَكْرَارَ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْأَلِيمُ مَعْنَاهُ الْمُؤْلِمُ. أَيْ: الْمَوْصُوفُ بِشِدَّةِ الْأَلَمِ وَفَظَاعَتِهِ. وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْفَعِيلَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ، فَمَا يُذْكَرُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَذَابٌ أَلِيمٌ [2 \ 104] أَيْ مُؤْلِمٌ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [2 \ 117] أَيْ مُبْدِعُهُمَا، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ الْآيَةَ [34 \ 46] أَيْ مُنْذِرٍ لَكُمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ فَقَوْلُهُ: الدَّاعِي السَّمِيعُ، يَعْنِي الدَّاعِيَ الْمُسْمِعَ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَخَيْلٍ قَدْ دَلِفْتَ لَهَا بَخِيلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ أَيْ مُوجِعٌ. وَقَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورٍ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ أَيْ مُؤْلِمٌ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، بِخَفْضٍ أَلِيمٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِرِجْزٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، بِرَفْعِ أَلِيمٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِعَذَابٍ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا الْآيَةَ [16 \ 14] . وَفِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [43 \ 12 - 13] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ [17 \ 7] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [45 \ 16] . ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [2 \ 47 - 122] فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلِهِ فِي «الدُّخَانِ» : وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [44 \ 32] . وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [7 \ 140] . وَلَكِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الْآيَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 [3 \ 110] . فَـ (خَيْرَ) صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَالْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ. وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي أُمَّتِهِ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» : وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْمَذْكُورِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ الْمَعْصُومُ الْمُتَوَاتِرُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [3 \ 110] وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [2 \ 143] . وَقَوْلُهُ: وَسَطًا أَيْ خِيَارًا عُدُولًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ - لَا يُعَارِضُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ آنِفًا فِي تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ الْوَارِدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ذُكِرَ فِيهِمْ حَالَ عَدَمِ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمَعْدُومُ فِي حَالِ عَدَمِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُفَضَّلَ أَوْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - بَعْدَ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّهَا خَيْرُ الْأُمَمِ. وَهَذَا وَاضِحٌ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ذِكْرُ أَحْوَالٍ سَابِقَةٍ. لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَذَّبُوا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [2 \ 89] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فَضْلًا إِلَّا مَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِهِمُ السَّابِقِ، لَا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهَا هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، كَمَا أَوْضَحْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [43 \ 43] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22]- أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَأْمُرُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْهَاهُ، لِيُشَرِّعَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأُمَّتِهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [45 \ 18] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ فِيهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [68 \ 8] . وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [68 \ 10] . وَقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [17 \ 39] . وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَدِلَّةَ الْقُرْآنِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَاطَبُ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، فِي آيَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» الْمَذْكُورَةِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الشُّورَى» : وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [42 \ 15] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [6 \ 150] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الْقَصَصِ» : فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [28 \ 50] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» أَنَّ الْحَقَّ لَوِ اتَّبَعَ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَ الْعَالَمُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [23 \ 71] . وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى بِفَتْحَتَيْنِ وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا أَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ وَضْعَ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَنْ خَلَقَ وَرَزَقَ هُوَ أَشْنَعُ أَنْوَاعِ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَلِذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [25 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ لُقْمَانَ: يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [6 \ 82] بِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ مِنْ أَنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ - جَاءَ مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «الْأَنْفَالِ» : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [8 \ 73] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [6 \ 129] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [2 \ 257] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [4 \ 76] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [3 \ 175] . وَقَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ الْآيَةَ [16 \ 100] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ وَيَجْتَنِبُونَ نَهْيَهُ. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُوَ وَلِيُّهُمْ وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ ; لِأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْجَزَاءِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِأَوْلِيَائِهِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [10 \ 63] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَانُوا يَتَّقُونَ كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْآيَةَ [5 \ 55] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2 \ 257] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [47 \ 11] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [7 \ 196] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمَلَائِكَةِ: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ الْآيَةَ [34 \ 41] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [12 \ 108] أَيْ عَلَى عِلْمٍ وَدَلِيلٍ وَاضِحٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ بَرَاهِينُ قَاطِعَةٌ، وَأَدِلَّةٌ سَاطِعَةٌ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقٌّ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أُخْرَيَاتِ «الْأَعْرَافِ» : الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 203] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [6 \ 104] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَائِرُ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ، ذَكَرَ - تَعَالَى - مِثْلَهُ فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» عَنْ كِتَابِ مُوسَى الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [28 \ 43] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَرَحْمَةً - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا كَوْنُهُ هُدًى فَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ قَرِيبًا. وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً فَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [18 \ 1] . وَفِي أَوَّلِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [18 \ 1] . وَفِي «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [35 \ 2] . وَفِي «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ الْآيَةَ [43 \ 32] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: هَذَا اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى مُذَكَّرٍ مُفْرَدٍ، وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ بَصَائِرُ جَمْعٌ مُكَسَّرٌ مُؤَنَّثٌ. فَيُقَالُ: كَيْفَ يُسْنَدُ الْجَمْعُ الْمُؤَنَّثُ الْمُكَسَّرُ إِلَى الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُرْآنِ كِتَابٍ وَاحِدٍ، تَصِحُّ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِهَذَا، وَهَذَا الْكِتَابُ الْوَاحِدُ يَشْتَمِلُ عَلَى بَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، فَصَحَّ إِسْنَادُ الْبَصَائِرِ إِلَيْهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهَا كَمَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ (ص) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [38 \ 28] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [25 \ 43] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً. قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [2 \ 7] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] . وَقَوْلِهِ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [23 \ 35 - 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [50 \ 3] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [79 \ 10 - 12] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ الْقُرْآنِيَّةَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَبَيَّنَّا دَلَالَتَهَا عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ - فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَسُورَةِ «النَّحْلِ» ، وَسُورَةِ «الْحَجِّ» ، وَأَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا. وَبَيَّنَّا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 فِيهَا وَعِيدُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِالنَّارِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [40 \ 78] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [18 \ 49] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [19 \ 79] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «طه» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [20 \ 115] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ. قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: يُسْتَعْتَبُونَ، فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [16 \ 84] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا - قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [43 \ 77] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَتْبَعَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَمْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 وَالْأَرْضِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَالَمِينَ - مُسْتَحِقٌّ لِكُلِّ حَمْدٍ وَلِكُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [1 \ 2] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «الزُّمَرِ» : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [39 \ 75] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [6 \ 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْأَنْعَامِ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [6 \ 1] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «سَبَإٍ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [34 \ 1] . وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ «فَاطِرٍ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [35 \ 1] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَهُ الْكِبْرِيَاءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَعْنِي أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالسُّلْطَانِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ هُوَ مَعْبُودُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي يَلْزَمُهُمْ تَكْبِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ وَتَمْجِيدُهُ، وَالْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لَهُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [43 \ 84 - 85] . فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يُعَظَّمُ وَيُعْبَدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيُكَبَّرُ وَيُخْضَعُ لَهُ وَيُذِلُّ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [30 \ 27] . فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ الْوَصْفَ الْأَكْمَلَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَوْصَافِ وَأَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: الْعَظَمَةُ إِزَارِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَسْكَنْتُهُ نَارِي» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْأَحْقَافِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» ، وَقَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الزُّمَرِ» . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقْنَا - لِلتَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ. وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَمَعْنَى كَوْنِ خَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا لِحَكَمٍ بَاهِرَةٍ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا، وَلَا عَبَثًا، وَلَا لَعِبًا، فَمِنَ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ خَلْقُهُمَا مُتَلَبِّسًا بِهِ - إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تَكَادُ تُحْصِيهَا فِي الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [2 \ 163] ثُمَّ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . فَتَلَبُّسُ خَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ وَاضِحٌ جِدًّا، مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ; لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - هُوَ أَعْظَمُ الْحَقِّ. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [2 \ 21 - 22] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فِيهِ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَتَمِّهِ. وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِخَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا - فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً الْآيَةَ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِأَعْظَمِ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ، عَلَى تَوْحِيدِهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَمِنْ كَثْرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ الْمَذْكُورِ عَلَى تَوْحِيدِهِ - جَلَّ وَعَلَا - عُلِمَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْعَلَامَةَ الْفَارِقَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، هِيَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِغَيْرِهِ، فَمَنْ كَانَ خَالِقًا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، وَمَنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ مُحْتَاجٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ بِحَالٍ. فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الْبَقَرَةِ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ. فَقَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [13 \ 16] . يَعْنِي وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ - تَعَالَى - هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا ذَكَرَ فِيهَا الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ عَلَى تَوْحِيدِهِ - جَلَّ وَعَلَا -، فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [16 \ 3 - 16]- أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17] . وَذَلِكَ وَاضِحٌ جِدًّا فِي أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ غَيْرَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَأَنَّ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى - قَرِيبًا مِنْهُ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [16 \ 20] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [22 \ 73] أَيْ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِحَالٍ، وَقَالَ - تَعَالَى -: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى الْآيَةَ [87 \ 1 - 2] . وَلَمَّا بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ - قَالَ فِي صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [25 \ 2] . وَقَالَ فِي صِفَاتِ مَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الْآيَةَ [25 \ 3] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكُلُّ تِلْكَ الْآيَاتِ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِهِ - تَعْلِيمَهُ خَلْقَهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [65 \ 12] . فَلَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِتَعْلَمُوا، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ الْآيَةَ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ يَتَنَزَّلُ بَيْنَهُنَّ - إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ. وَمِنَ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِهِ، هُوَ تَكْلِيفُ الْخَلْقِ وَابْتِلَاؤُهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، ثُمَّ جَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 سُورَةِ «هُودٍ» : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [11 \ 7] . فَلَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا خَلَقَهُمَا إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْكَهْفِ» : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18 \ 7] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْمُلْكِ» : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 2] . وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ - قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «الذَّارِيَاتِ» : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [51 \ 56 - 57] . سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ مَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، أَيْ لِآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي فَيَعْبُدُنِي السُّعَدَاءُ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ يَحْصُلُ بِهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [6 \ 89] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [41 \ 38] . أَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، أَيْ إِلَّا لِيُقِرُّوا لِي بِالْعُبُودِيَّةِ، وَيَخْضَعُوا وَيُذْعِنُوا لِعَظَمَتِي ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَوْعًا، وَالْكُفَّارُ يُذْعِنُونَ لِقَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ - تَعَالَى - كَرْهًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حِكْمَةَ الِابْتِلَاءِ وَالتَّكْلِيفِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِهِ - جَزَاءَ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّجْمِ» : وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [53 \ 31] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ هُوَ خَالِقُهَا وَمِنْ فِيهِمَا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا الْآيَةَ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «يُونُسَ» : الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 4] . وَلَمَّا ظَنَّ الْكُفَّارُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا، لَا لِحِكْمَةِ تَكْلِيفٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ - هَدَّدَهُمْ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ السَّيِّئِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] . وَقَدْ نَزَّهَ - تَعَالَى - نَفْسَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ عَبَثًا، لَا لِتَكْلِيفٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ ظَنَّهُ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 115 - 116] . فَقَوْلُهُ: (فَتَعَالَى اللَّهُ) أَيْ تَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ لَا لِحِكْمَةِ تَكْلِيفٍ وَبَعْثٍ، وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ. وَهَذَا الَّذِي نَزَّهَ - تَعَالَى - عَنْهُ نَفْسَهُ - نَزَّهَهُ عَنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [3 \ 190 - 191] . فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: سُبْحَانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أَنْ تَكُونَ خَلَقْتَ هَذَا الْخَلْقَ بَاطِلًا، لَا لِحِكْمَةِ تَكْلِيفٍ وَبَعْثٍ، وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ - يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ بَاطِلًا، وَلَا لَعِبًا وَلَا عَبَثًا. وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا الْآيَةَ [38 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [3 \ 191] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [44 \ 38 - 39] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ: وَأَجَلٍ مُسَمًّى مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ أَيْ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، وَبِتَقْدِيرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 أَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مُحَدَّدٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمَدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي أُخْرَيَاتِ «الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ الْآيَةَ [15 \ 85] . فَقَوْلُهُ فِي «الْحِجْرِ» : وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي «الْأَحْقَافِ» : إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُهُمَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [39 \ 67] . وَقَالَ - تَعَالَى -: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [21 \ 104] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [14 \ 48] . وَقَوْلُهُ: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ [81 \ 11] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ الْآيَةَ [73 \ 14] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ. مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ مُعْرِضُونَ عَمَّا أَنْذَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [2 \ 6] . وَقَوْلِهِ فِي «يس» : وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [36 \ 10] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [6 \ 4] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ: الصُّدُودُ عَنْهُ، وَعَدَمُ الْإِقْبَالِ إِلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَأَصْلُهُ مِنَ الْعُرْضِ - بِالضَّمِّ - وَهُوَ الْجَانِبُ; لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيِّ يُوَلِّيهِ بِجَانِبِ عُنُقِهِ صَادًّا عَنْهُ. وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ، فَكُلُّ إِنْذَارٍ إِعْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعَانِيَ الْإِنْذَارِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» . وَمَا فِي قَوْلِهِ: عَمَّا أُنْذِرُوا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْرِضُونَ عَنِ الَّذِي أَنْذَرُوهُ، أَيْ خَوَّفُوهُ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 الْقِيَامَةِ. وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ مُضْطَرَدٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِنْذَارِ، وَلِكِلَيْهِمَا وَجْهٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَدْ ذَكَرْنَا قَرِيبًا أَنَّ قَوْلَهُ: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [15 \ 85]- يَتَضَمَّنُ الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَنَّ الْعَلَامَةَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ هِيَ كَوْنُهُ خَالِقًا. وَأَوَّلُ سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، وَذَكَرَ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي عِبَادَتُهَا كُفْرٌ مُخَلِّدٌ فِي النَّارِ أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [46 \ 4] أَيْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرَوْنِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ. فَقَوْلُهُ: أَرَوْنِي - يُرَادُ بِهِ التَّعْجِيزُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ خَلْقِهِمْ شَيْئًا. وَعَلَى أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَذَا مَوْصُولَةٌ - فَالْمَعْنَى أَرُونِي مَا الَّذِي خَلَقُوهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَعَلَى أَنَّ مَا وَذَا بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُرَادُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ - فَالْمَعْنَى: أَرُونِي أَيَّ شَيْءٍ خَلَقُوهُ مِنَ الْأَرْضِ؟ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِحَالٍ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «فَاطِرٍ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا الْآيَةَ [35 \ 40] . وَقَوْلِهِ فِي «لُقْمَانَ» : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [31 \ 11] . وَقَوْلِهِ فِي «سَبَأٍ» : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [34 \ 22] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا قَرِيبًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا - قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [43 \ 21] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ [45 \ 10] . وَفِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [19 \ 81] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قُرِئَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، ادَّعَوْا أَنَّهَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَاضِحٌ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ افْتِرَائِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ سِحْرٌ، وَعَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَاحِرٌ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «سَبَأٍ» : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [34 \ 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الزُّخْرُفِ» : وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [21 \ 2 - 3] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [11 \ 7] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. أَمْ هَذِهِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ، وَتَأْتِي بِمَعْنَاهُمَا مَعًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. فَأَمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ مَعًا، فَهُوَ بِمَعْنَى دَعْ هَذَا، وَاسْمَعْ قَوْلَهُمُ الْمُسْتَنْكَرَ لِظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِيهِ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 هَذِهِ الدَّعْوَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ الْآيَةَ [10 \ 38] . وَقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [11 \ 13] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [10 \ 37] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أَيْ إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُ هَذَا الْقُرْآنَ، عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ. وَالتَّقْدِيرُ: عَاجَلَنِي اللَّهُ بِعُقُوبَتِهِ الشَّدِيدَةِ، وَأَنْتُمْ لَا تَمْلِكُونَ لِي مِنْهُ شَيْئًا، أَيْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَدْفَعُوا عَنِّي عَذَابَهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَذِّبَنِيَ عَلَى الِافْتِرَاءِ، فَكَيْفَ أَفْتَرِيهِ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عَذَابِ اللَّهِ عَنِّي؟ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [69 \ 44 - 47] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الْحَاقَّةِ» هَذِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» : قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ. وَقَوْلُهُ فِي «الْحَاقَّةِ» : فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَحْجِزُوا عَنْهُ، أَيْ يَدْفَعُوا عَنْهُ عِقَابَ اللَّهِ لَهُ بِالْقَتْلِ، لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عَذَابِهِ عَنِّي. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [5 \ 17] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [5 \ 41] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ وَآيَةُ «الْحَاقَّةِ» الْمُبَيِّنَةُ لَهَا، مِنْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 أَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ عَاجَلَهُ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِ عَنْهُ - جَاءَ مَعْنَاهُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «يُونُسَ» : قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] أَيْ إِنِّي أَخَافُ - إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بِالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ بِتَبْدِيلِ قُرْآنِهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ - عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وَذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِثْلَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الرُّسُلِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ عَنْ صَالِحٍ: قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ الْآيَةَ [11 \ 63] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نُوحٍ: قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ الْآيَةَ] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ. الْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: بِدْعًا أَنَّهُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَهُوَ بِمَعْنَى مُبْتَدِعٍ، وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الَّذِي أَبْدَعَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا كُنْتُ أَوَّلَ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى الْبَشَرِ، بَلْ قَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ قَبْلِي جَمِيعَ الرُّسُلِ إِلَى الْبَشَرِ، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِبْعَادِكُمْ رِسَالَتِي، وَاسْتِنْكَارِكُمْ إِيَّاهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ قَبْلِي رُسُلًا كَثِيرَةً. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [13 \ 38] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الْآيَةَ [30 \ 47] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ الْآيَةَ [4 \ 163] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [42 \ 1 - 3] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [41 \ 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الْآيَةَ [3 \ 144] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا الْآيَةَ [6 \ 34] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَمَا أَدْرِي أَأُخْرَجُ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِي، أَوْ أُقْتَلُ كَمَا فُعِلَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمَا أَدْرِي مَا ينَالُنِي مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْأُمُورِ فِي تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ. وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ: أَيُخْسَفُ بِكُمْ، أَوْ تَنْزِلُ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الْآيَةَ [7 \ 188] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - آمِرًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ الْآيَةَ [6 \ 50] . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ - فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ - أَنَّهُ لَمَّا نَزَلْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ - فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِنَا، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ ابْتَدَعَ الَّذِي يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، لَأَخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِمَا يُفْعَلُ بِهِ. فَنَزَلَتْ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [48 \ 2] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَتِ الصَّحَابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ لَكَ اللَّهُ مَا يُفْعَلُ بِكَ، فَلَيْتَ شِعْرَنَا مَا هُوَ مَا فَاعِلٌ بِنَا. فَنَزَلَتْ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الْآيَةَ [48 \ 5] . وَنَزَلَتْ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [33 \ 47] . فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجْهَلُ مَصِيرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعِصْمَتِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَقَدْ قَالَ لَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 4 - 5] وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، كَمَا قَدَّمْنَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: مَا يُفْعَلُ بِي أَيْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ حَدِيثَهَا فِي قِصَّةِ وَفَاةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَهُمْ، وَدُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، أَنَّهَا قَالَتْ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، شَهَادَتِي عَلَيْكَ ; لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - تَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُ؟» فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي» الْحَدِيثَ. فَالْجَوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أُمِّ الْعَلَاءِ الْمَذْكُورَ بِالسَّنَدِ الَّذِي رَوَاهُ بِهِ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ «مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُفْعَلُ بِهِ» ، وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظُ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهَا: فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَهُوَ الصَّوَابُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ. جَوَابُ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي تَقْدِيرِهِ: إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَجَحَدْتُمُوهُ - فَأَنْتُمْ ضُلَّالٌ ظَالِمُونَ. وَكَوْنُ جَزَاءِ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُهُمْ ضَالِّينَ ظَالِمِينَ - بَيَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «فُصِّلَتْ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [41 \ 52] . وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: مَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ ; لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ حَالَكُمْ، إِنْ كَانَ كَذَا، أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ. فَالْأَوَّلُ: حَالُكُمْ، وَالثَّانِي: أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَقَدْ ظَلَمْتُمْ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّ أَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ. التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ جَارِيَةٌ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ إِطْلَاقُ الْمَثَلِ عَلَى الذَّاتِ نَفْسِهَا، كَقَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَفْعَلُ هَذَا، يَعْنُونَ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْتَ أَنْ تَفْعَلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مُنَزَّلٌ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا أَنَّهُ شَهِدَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ مُمَاثِلٍ لَهُ; وَلِذَا قَالَ - تَعَالَى -: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا تَكَرُّرُ إِطْلَاقِ الْمَثَلِ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ الْآيَةَ [6 \ 122] . فَقَوْلُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ، أَيْ كَمَنْ هُوَ نَفْسُهُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [2 \ 137] أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، لَا بِشَيْءٍ آخَرَ مُمَاثِلٍ لَهُ - عَلَى التَّحْقِيقِ -. وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْقِرَاءَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ الْآيَةَ. الْقَوْلُ بِأَنَّ لَفْظَةَ (مَا) فِي الْآيَةِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِالْإِيمَانِ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِإِيمَانٍ مِثْلِ إِيمَانِكُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، لَا يَخْفَى بُعْدُهُ. وَالشَّاهِدُ فِي الْآيَةِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَعَلَيْهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الشَّاهِدَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، أَنَّهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ فَقُرَّاءَ الْمُسْلِمِينَ وَضُعَفَاءَهُمْ: كَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَنَحْوِهِمْ - أَحْقَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمُ الطَّرِيقَ الَّتِي فِيهَا الْخَيْرُ. وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَظَمَةٌ وَجَاهٌ وَاسْتِحْقَاقُ السَّبْقِ لِكُلِّ خَيْرٍ ; لِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ لَا مَالَ لَهُمْ وَلَا جَاهَ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ فِي الدُّنْيَا يَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَظْهَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - تَدُلُّ لَهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. أَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ مَا أُعْطُوا مِنَ الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجَاهِ فِي الدُّنْيَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَيُعْطَوْنَ مِثْلَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 - 56] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا الْآيَةَ [19 \ 77 - 79] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [34 \ 35] مَعَ قَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الْآيَةَ [34 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [41 \ 50] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] . وَأَمَّا احْتِقَارُ الْكُفَّارِ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفُقَرَائِهِمْ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ أَحْقَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِخَيْرٍ، وَأَنَّمَا هُمْ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْغِنَى وَالْجَاهِ وَالْوَلَدِ مِنَ الْكُفَّارِ - فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [6 \ 53] . فَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا، تَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ بِخَيْرٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [6 \ 53 - 54] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [7 \ 48 - 49] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ص» : وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ [38 \ 62 - 63] . فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ ينَالَهُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا وَسَيَسْخَرُ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [83 \ 29 - 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [2 \ 212] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 194 - 195] وَفِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الْآيَةَ [39 \ 28] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِنْذَارِ فِي الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ الْآيَةَ [7 \ 2] . وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [18 \ 2] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْآيَةَ [41] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: حُسْنًا بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: إِحْسَانًا بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ، وَأَلْفٍ بَعْدِ السِّينِ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [17 \ 23] . وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: قِيلَ: ضَمَّنَ وَوَصَّيْنَا مَعْنَى أَلْزَمْنَا، فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَانْتَصَبَ حُسْنًا وَإِحْسَانًا عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَصَّيْنَا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ إِيصَاءً ذَا حُسْنٍ أَوْ ذَا إِحْسَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُسْنًا بِمَعْنَى إِحْسَانٍ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ وَوَصَّيْنَاهُ بِهَا لِإِحْسَانِنَا إِلَيْهِمَا، فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى أَحْسَنَّا بِالْوَصِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا. اهـ مِنْهُ، وَكُلُّهَا لَهُ وَجْهٌ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: كَرْهًا بِفَتْحِ الْكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَهُمَا لُغَتَانِ كَالضُّعْفِ وَالضَّعْفِ. وَمَعْنَى حَمَلَتْهُ كُرْهًا أَنَّهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا بِهِ تُلَاقِي مَشَقَّةً شَدِيدَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 وَمِنَ الْمَعْلُومِ مَا تُلَاقِيهِ الْحَامِلُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالضَّعْفِ، إِذَا أَثْقَلَتْ وَكَبَرَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا. وَمَعْنَى وَضَعَتْهُ كُرْهًا: أَنَّهَا فِي حَالَةِ وَضْعِ الْوَلَدِ تُلَاقِي مِنْ أَلَمِ الطَّلْقِ وَكَرْبِهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَهَذِهِ الْمَشَاقُّ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تُلَاقِيهَا الْأُمُّ فِي حَمْلِ الْوَلَدِ وَوَضْعِهِ، لَا شَكَّ أَنَّهَا يَعْظُمُ حَقُّهَا بِهَا، وَيَتَحَتَّمُ بِرُّهَا وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهَا، كَمَا لَا يَخْفَى. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تُعَانِيهَا الْحَامِلُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «لُقْمَانَ» : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [31 \ 14] أَيْ تَهِنُ بِهِ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، أَيْ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ; لِأَنَّ الْحَمْلَ كُلَّمَا تَزَايَدَ وَعَظُمَ فِي بَطْنِهَا، ازْدَادَتْ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ كُرْهًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ - مَصْدَرٌ مُنْكَّرٌ، وَهُوَ حَالٌ، أَيْ حَمَلَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ وَوَضَعَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ، وَإِتْيَانُ الْمَصْدَرِ الْمُنْكَّرِ حَالًا كَثِيرٌ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَصْدَرٌ مُنْكَّرٌ حَالًا يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُرْهًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ حَمَلَتْهُ حَمْلًا ذَا كُرْهٍ، وَوَضَعَتْهُ وَضْعًا ذَا كُرْهٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَيْسَ فِيهَا بِانْفِرَادِهَا تَعَرُّضٌ لِبَيَانِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَكِنَّهَا بِضَمِيمَةِ بَعْضِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى إِلَيْهَا يُعْلَمُ أَقَلُّ أَمَدِ الْحَمْلِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» صَرَّحَتْ بِأَنَّ أَمَدَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ مَعًا - ثَلَاثُونَ شَهْرًا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «لُقْمَانَ» : وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ. وَقَوْلُهُ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [2 \ 233]- يُبَيِّنُ أَنَّ أَمَدَ الْفِصَالِ عَامَانِ، وَهُمَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، فَإِذَا طَرَحْتَهَا مِنَ الثَّلَاثِينَ بَقِيَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُهَا أَمَدًا لِلْحَمْلِ، وَهِيَ أَقَلُّهُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَمَدُ الْحَمْلِ - هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَبَاحِثِ الْحَجِّ، فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي مَبْحَثِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَأَشَرْنَا لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [6 \ 152] وَفِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ مُكَذِّبٍ بِالْبَعْثِ. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ (الَّذِي) بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعُمُومُ - أَنَّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الْآيَةَ. وَالْإِخْبَارُ عَنْ لَفْظَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ - صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي الْعُمُومُ لَا الْإِفْرَادُ. وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَبِهَذَا الدَّلِيلِ الْقُرْآنِيِّ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَيْسَ بِصَحِيحٍ، كَمَا جَزَمَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِبُطْلَانِهِ. وَفِي نَفْسِ آيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ دَلِيلٌ آخَرُ وَاضِحٌ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 13] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَغَايَةُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ إِطْلَاقُ (الَّذِي) وَإِرَادَةُ (الَّذِينَ) ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الَّذِي مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهَا عَامٌّ لِكُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْمَوْصُولَاتِ كَالَّذِي وَالَّتِي وَفُرُوعِهِمَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: صِيغَةُ كُلٍّ أَوِ الْجَمِيعُ ... وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعُ فَمِنْ إِطْلَاقِ الَّذِي وَإِرَادَةِ الَّذِينَ فِي الْقُرْآنِ - هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا الْآيَةَ [2 \ 17] . أَيْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [2 \ 17] بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الضَّمَائِرِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ، وَالْوَاوُ فِي لَا يُبْصِرُونَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» أَيْضًا: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [2 \ 264] أَيْ كَالَّذِينِ يُنْفِقُونَ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [2 \ 264] . وَقَوْلِهِ فِي «الزُّمَرِ» : وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [39 \ 33] . وَقَوْلِهِ فِي «التَّوْبَةِ» : وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [9 \ 69] أَيْ كَالَّذِينِ خَاضُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَشْهَبِ بْنِ رُمَيْلَةَ: فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدٍ وَقَوْلُ عُدَيْلِ بْنِ الْفَرْخِ الْعِجْلِيِّ: وَبِتُّ أُسَاقِي الْقَوْمَ إِخْوَتِي الَّذِي ... غَوَايَتُهُمْ غَيِّي وَرُشْدُهُمُ رُشْدِي وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: يَا رَبِّ عَبْسٌ لَا تُبَارِكُ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِي مَنْ قَعَدْ إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِإِطْرَافِ الْمَسَدْ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أُفٍّ لَكُمَا كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ. وَقَائِلُ ذَلِكَ عَاقٌّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 لِوَالِدَيْهِ غَيْرُ مُجْتَنِبٍ نَهْيَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الْآيَةَ [17 \ 23] . وَقَوْلُهُ: أَتَعِدَانِنِي فِعْلٌ، مُضَارِعُ وَعَدَ، وَحَذْفُ وَاوِهِ فِي الْمُضَارِعِ مُطَّرِدٌ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: فَا أَمْرٍ أَوْ مُضَارِعٍ مِنْ كَوَعَدْ ... احْذِفْ وَفِي كَعِدَةٍ ذَاكَ اطَّرَدْ وَالنُّونُ الْأُولَى نُونُ الرَّفْعِ، وَالثَّانِيَةُ نُونُ الْوِقَايَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: أَتَعِدَانِنِي، بِنُونَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَبِيَاءٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ بِنُونَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ وَيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ أُخْرَجَ أَيْ أُبْعَثَ مِنْ قَبْرِي حَيًّا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِتَعِدَانِنِي، يَعْنِي أَتَعِدَانِنِي الْخُرُوجَ مِنْ قَبْرِي حَيًّا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْحَالُ قَدْ مَضَتِ الْقُرُونُ، أَيْ هَلَكَتِ الْأُمَمُ الْأُولَى، وَلَمْ يَحْيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ أَنْ مَاتَ. وَهُمَا، أَيْ وَالِدَاهُ، يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ، أَيْ يَطْلُبَانِهِ أَنْ يُغِيثَهُمَا بِأَنْ يَهْدِيَ وَلَدَهُمَا إِلَى الْحَقِّ وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، وَيَقُولَانِ لِوَلَدِهِمَا: وَيْلَكَ آمِنْ، أَيْ بِاللَّهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمَا: وَيْلَكَ - حَثُّهُ عَلَى الْإِيمَانِ. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، أَيْ وَعْدَهُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْوَلَدُ الْعَاقُّ الْمُنْكِرُ لِلْبَعْثِ: مَا هَذَا إِنَّ الَّذِي تَعِدَانِنِي إِيَّاهُ مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ أُسْطُورَةٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ إِسْطَارَةٍ، وَمُرَادُهُ بِهَا مَا سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ، أَيْ كَتَبُوهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَقَوْلُهُ: أُولَئِكَ تَرْجِعُ الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى الْعَاقِّينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا الْآيَةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 وَقَوْلُهُ: حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [36 \ 7] . وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مُنْكِرِي الْبَعْثِ يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ لِكُفْرِهِمْ - قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ. مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ. فَقَوْلُ: يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ - قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ يُبَاشِرُونَ حَرَّهَا، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضَهُمُ عَلَى السَّيْفِ إِذَا قَتَلَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَدْ ذَكَرَ - تَعَالَى - مِثْلَ مَا ذَكَرَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [46 \ 34] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَرْضِ مُبَاشَرَةُ الْعَذَابِ ; لِقَوْلِهِ: قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [6] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [40 \ 45 - 46] ; لِأَنَّهُ عَرْضُ عَذَابٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ هُوَ تَقْرِيبُهُمْ مِنْهَا، وَالْكَشْفُ لَهُمْ عَنْهَا حَتَّى يَرَوْهَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ الْآيَةَ [18 \ 53] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [89 \ 23] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. قَالُوا: وَالْمَعْنَى: وَيَوْمَ تُعْرَضُ النَّارُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالُوا: وَهُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. يَعْنُونَ عَرَضْتُ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [18 \ 100] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذَا النَّوْعُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنَ الْقَلْبِ فِي الْآيَةِ، كَقَلْبِ الْفَاعِلِ مَفْعُولًا، وَالْمَفْعُولِ فَاعِلًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ - اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ، فَمَنَعَهُ الْبَلَاغِيُّونَ إِلَّا فِي التَّشْبِيهِ، فَأَجَازُوا قَلْبَ الْمُشَبَّهِ مُشَبَّهًا بِهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مُشَبَّهًا بِشَرْطِ أَنْ يَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نُكْتَةً وَسِرًّا لَطِيفًا، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فِي مَبْحَثِ التَّشْبِيهِ الْمَقْلُوبِ. وَأَجَازَهُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُحْفَظُ مَا سَمِعَ مِنْهُ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي التَّشْبِيهِ قَوْلُ الرَّاجِزِ: وَمَنْهَلٌ مُغْبَرَّةٌ أَرْجَاؤُهُ ... كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ أَيْ كَأَنَّ سَمَاءَهُ لَوْنُ أَرْضِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ ... وَجْهُ الْخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُرَادِ تَشْبِيهُ وَجْهِ الْخَلِيفَةِ بِغُرَّةِ الصَّبَاحِ، فَقَلَبَ التَّشْبِيهَ لِيُوهِمَ أَنَّ الْفَرْعَ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ. قَالُوا: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [28 \ 76] ; لِأَنَّ الْعُصْبَةَ مِنَ الرِّجَالِ هِيَ الَّتِي تَنُوءُ بِالْمَفَاتِيحِ، أَيْ تَنْهَضُ بِهَا بِمَشَقَّةٍ وَجُهْدٍ لِكَثْرَتِهَا وَثِقَلِهَا، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ [28 \ 66] . أَيْ عَمُوا عَنْهَا. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا إِذَا عَرِقَتْ ... وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالْقَوْرِ الْعَسَاقِيلِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: تَلَفَّعَ لَبِسَ اللِّفَاعَ وَهُوَ اللِّحَافُ، وَالْقَوْرُ: الْحِجَارَةُ الْعِظَامُ، وَالْعَسَاقِيلُ: السَّرَابُ. وَالْكَلَامُ مَقْلُوبٌ ; لِأَنَّ الْقَوْرَ هِيَ الَّتِي تَلْتَحِفُ بِالْعَسَاقِيلِ لَا الْعَكْسُ، كَمَا أَوْضَحَهُ لَبِيدٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ بِقَوْلِهِ: فَبِتِلْكَ إِذْ رَقَصَ اللَّوَامِعُ بِالضُّحَى ... وَاجْتَابَ أَرْدِيَةَ السَّرَابِ إِكَامُهَا فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْإِكَامَ الَّتِي هِيَ الْحِجَارَةُ اجْتَابَتْ، أَيْ لَبِسَتْ، أَرْدِيَةَ السَّرَابِ. وَالْأَرْدِيَةُ جَمْعُ رِدَاءٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَلْبِ وَإِنْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ، كَمَا أَوْضَحَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: أَأَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ، وَهُمَا عَلَى أُصُولِهِمَا فِي ذَلِكَ. فَابْنُ كَثِيرٍ يُسَهِّلُ الثَّانِيَةَ بِدُونِ أَلْفِ إِدْخَالٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ. وَهِشَامٌ يُحَقِّقُهَا وَيُسَهِّلُهَا مَعَ أَلْفِ الْإِدْخَالِ. وَابْنُ ذَكْوَانَ يُحَقِّقُهَا مِنْ غَيْرِ إِدْخَالٍ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ كَلَامًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَائِلِينَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّقَشُّفُ وَالْإِقْلَالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ مَنْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا الْآيَةَ. وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ هُنَا آثَارًا كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ، وَأَحْوَالِ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَمَا لَاقَوْهُ مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ، وَلَيْسَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِاللَّذَّاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ لَهُمْ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - مَا أَبَاحَهَا لَهُمْ لِيُذْهِبَ بِهَا حَسَنَاتِهِمْ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَالَّانِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [4 \ 59] . أَمَّا كَوْنُ الْآيَةِ فِي الْكُفَّارِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ الْآيَةَ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا مُطَابِقًا لِلشَّرْعِ، مُخْلِصًا فِيهِ لِلَّهِ، كَالْكَافِرِ الَّذِي يَبَرُّ وَالِدَيْهِ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُنَفِّسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَيُعِينُ الْمَظْلُومَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ - يُثَابُ بِعَمَلِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا خَاصَّةً بِالرِّزْقِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 وَالْعَافِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [11 \ 15 - 16] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [42 \ 20] . وَقَدْ قَيَّدَ - تَعَالَى - هَذَا الثَّوَابَ الدُّنْيَوِيَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَاتِ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [17 \ 18] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً; يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يَجْزِي بِهَا» . هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْكَافِرَ يُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنُ يُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَعْيِينًا لَا مَحِيصَ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا هُوَ الْكَافِرُ; لِأَنَّهُ لَا يُجْزَى بِحَسَنَاتِهِ إِلَّا فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُجْزَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا - فَلَمْ يُذْهِبْ طَيِّبَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ حَسَنَاتِهِ مُدَّخَرَةٌ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُثِيبُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [65 \ 2 - 3] فَجَعَلَ الْمَخْرَجَ مِنَ الضِّيقِ لَهُ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - ثَوَابًا فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ يَنْقُصُ أَجْرَ تَقْوَاهُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَبَاحَ لِعِبَادِهِ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّيِّبَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَجَازَ لَهُمُ التَّمَتُّعَ بِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهَا خَاصَّةً بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [7 \ 32] . فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ أَنَّ تَمَتُّعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّنَعُّمِ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُذْهِبُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا. وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ يُعَانِي شِدَّةَ الْفَقْرِ فِي الدُّنْيَا كَأَصْحَابِ الصُّفَّةِ، يَكُونُ لَهُمْ أَجْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْجَرُونَ بِمَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي يُذْهِبُ طَيِّبَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ يُجْزَى فِي الدُّنْيَا فَقَطْ كَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ - قَدْ قَدَّمْنَاهَا مُوَضَّحَةً فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَسَانِيدَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَأَلْفَاظَهُ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أَيْ عَذَابَ الْهَوَانِ، وَهُوَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِمَا كُنْتُمْ - سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ تُجْزُونَ عَذَابَ الْهُونِ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْتَكْبِرِينَ فِي الْأَرْضِ، وَكَوْنِكُمْ فَاسِقِينَ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الِاسْتِكْبَارِ فِي الْأَرْضِ وَالْفِسْقِ مِنْ أَسْبَابِ عَذَابِ الْهُونِ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [39 \ 60] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ الْآيَةَ [32 \ 20] . وَقَدْ قَدَّمْنَا النَّتَائِجَ الْوَخِيمَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ التَّكَبُّرِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا الْآيَةَ [7 \ 13] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِغَيْرِ الْحَقِّ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا اسْتِكْبَارًا مُتَلَبِّسًا بِغَيْرِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [6 \ 38] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَطِيرُ إِلَّا بِجَنَاحَيْهِ، وَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [2 \ 79] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَكْتُبُونَهُ إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ. أَبْهَمَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَخَا عَادٍ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُ هُودٌ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» [7 \ 65] . وَسُورَةِ «هُودٍ» [11 \ 50] . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّبِيَّ هُودًا نَهَى قَوْمَهُ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ خَوَّفَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِنْ تَمَادَوْا فِي شِرْكِهِمْ بِهِ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» [7 \ 65] . وَسُورَةِ «هُودٍ» [11 \ 50] . وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا خَوْفُهُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [26 \ 132 - 135] . وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالُوا أَجِئْتِنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا، أَيْ لِتَصْرِفَنَا عَنْ عِبَادَتِهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَمْرَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 أَحَدُهُمَا: إِنْكَارُ عَادٍ عَلَى هُودٍ أَنَّهُ جَاءَهُمْ، لِيَتْرُكُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ وَعَجِّلْهُ لَنَا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ، عِنَادًا مِنْهُمْ وَعُتُوًّا. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [7 \ 70] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ هُودًا قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّهُ يُبَلِّغُهُمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [7 \ 67 - 68] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «هُودٍ» : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ الْآيَةَ [11 \ 57] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [41 \ 16] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنَّ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ. لَفْظَةُ إنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهَا لِلْمُفَسِّرِينَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، يَدُلُّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا هُوَ الْحَقُّ، دُونَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ طَغَيْتُمْ وَبَغَيْتُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ زَائِدَةٌ بَعْدَ مَا الْمَوْصُولَةِ حَمْلًا لِـ مَا الْمَوْصُولَةِ عَلَى مَا النَّافِيَةِ ; لِأَنَّ مَا النَّافِيَةَ تُزَادُ بَعْدَهَا لَفْظَةُ إِنْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 كَقَوْلِ قُتَيْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَوِ النَّضْرِ الْعَبْدَرِيَّةِ: أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً ... مَا إِنْ نَزِلَّ بِهَا النَّجَائِبَ تُخْفِقُوا وَقَوْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ فِي الْخَنْسَاءِ: مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِهِ ... كَالْيَوْمِ طَالِي أَيَنُقٍ جُرْبِ فَـ (إِنْ) زَائِدَةٌ بَعْدَ (مَا) النَّافِيَةِ فِي الْبَيْتَيْنِ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقَدْ حَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ (مَا) الْمَوْصُولَةَ، فَقَالُوا: تُزَادُ بَعْدَهَا (إِنْ) كَآيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ. وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ الْأَخْفَشُ: يُرَجِّي الْمَرْءُ مَا إِنْ لَا يَرَاهُ وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الْخُطُوبُ أَيْ يُرْجِّي الْمَرْءُ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَرَاهُ، وَإِنْ زَائِدَةٌ، وَهَذَانِ هُمَا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ لَا تَظْهَرُ صِحَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا فِيهِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرٌ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا فِيهِ زِيَادَةُ كَلِمَةٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. أَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (إِنْ) نَافِيَةٌ بَعْدَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ، أَيْ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْعَدَدِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ يُهَدِّدُ كُفَّارَ مَكَّةَ بِأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ كَانَتْ أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَقُوَّةً، وَأَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وَأَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، فَلَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ لِيَخَافُوا مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِهِ، كَمَا أَهْلَكَ الْأُمَمَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمُؤْمِنِ» : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [40 \ 82] . وَقَوْلُهُ فِيهَا أَيْضًا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ الْآيَةَ [40 \ 21] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الرُّومِ» : أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الْآيَةَ [30 \ 9] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [43 \ 10] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الْآيَةَ \ 10] . قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» أَنَّهُ صَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ وَالنَّفَرُ دُونَ الْعَشَرَةِ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَأَنَّهُمْ لَمَّا حَضَرُوهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنصِتُوا أَيِ اسْكُتُوا مُسْتَمِعِينَ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَضَى، أَيِ انْتَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِرَاءَتِهِ وَلَّوْا أَيْ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُنْذِرِينَ، أَيْ مُخَوِّفِينَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، وَيُجِيبُوا دَاعِيَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرُوا قَوْمَهُمْ أَنَّ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي سَمِعُوهُ يُتْلَى، الْمَنَزَّلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى - يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَنَّ اسْتِمَاعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ مِنَ الْجِنِّ، وَقَوْلَهُمْ مَا قَالُوا عَنِ الْقُرْآنِ كُلَّهُ - وَقَعَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا مَعَ بَيَانِهَا وَبَسْطِهَا، بِتَفْصِيلِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَتْهَا الْجِنُّ، بَعْدَ اسْتِمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [82 \ 1 - 2] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. مَنْطُوقُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ اللَّهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنَ بِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَأَجَارَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَمَفْهُومُهَا، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهَا الْمَعْرُوفَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، أَنَّ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ، وَلَمْ يُجِرْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، بَلْ يُعَذِّبُهُ وَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [11 \ 119] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 13] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ [7 \ 38] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [26 \ 94 - 95] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. أَمَّا دُخُولُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجِيبِينَ دَاعِيَ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ الْجَنَّةَ - فَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 46 - 47] . وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ جَزَاءَ إِيمَانِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ دَاعِيَ اللَّهِ، هُوَ الْغُفْرَانُ وَإِجَارَتُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقَطْ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْآيَةِ - كُلِّهِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» فَقُلْنَا فِيهِ مَا نَصُّهُ: هَذِهِ الْآيَةُ يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِهَا، أَنَّ جَزَاءَ الْمُطِيعِ مِنَ الْجِنِّ غُفْرَانُ ذُنُوبِهِ، وَإِجَارَتُهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، لَا دُخُولُهُ الْجَنَّةَ. وَقَدْ تَمَسَّكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ، الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّهُ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُؤْمِنِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ شُمُولَهُ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [55 \ 56] . فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ فِي الْجَنَّةِ جِنًّا يَطْمِثُونَ النِّسَاءَ كَالْإِنْسِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ آيَةَ «الْأَحْقَافِ» نَصَّ فِيهَا عَلَى الْغُفْرَانِ وَالْإِجَارَةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَآيَةُ «الرَّحْمَنِ» نَصَّ فِيهَا عَلَى دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِيهَا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خَافَ، يَعُمُّ كُلَّ خَائِفٍ مَقَامَ رَبِّهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِشُمُولِ ذَلِكَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مَعًا بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَعْدَ بِالْجَنَّتَيْنِ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ مِنْ آلَائِهِ، أَيْ نِعَمِهِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ; لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا بَيَّنَتْ مَا لَمْ تَعْرِضْ لَهُ الْأُخْرَى. وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالْمَفْهُومِ، وَقَوْلَهُ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ بِعُمُومِ الْمَنْطُوقِ. وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا تَحْقِيقَ هَذَا الْمَفْهُومِ الْمُدَّعَى وَجَدْنَاهُ مَعْدُومًا مِنْ أَصْلِهِ ; لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْمَفْهُومِ ثُنَائِيَّةٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ أَوْ مُخَالَفَةٍ، وَلَا ثَالِثَ. وَلَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَفْهُومُ الْمُدَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْسَامِ الْمَفْهُومَيْنِ. أَمَّا عَدَمُ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ بِقِسْمَيْهِ فَوَاضِحٌ. وَأَمَّا عَدَمُ دُخُولِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَلِأَنَّ عَدَمَ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ الْحَصْرِ أَوِ الْغَايَةِ أَوِ الْعَدَدِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الظَّرْفِ - وَاضِحٌ. فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ يُتَوَهَّمُ دُخُولُهُ فِيهِ إِلَّا مَفْهُومُ الشَّرْطِ أَوِ اللَّقَبِ، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَظَهَرَ عَدَمُ دُخُولِهِ فِيهِ أَصْلًا. أَمَّا وَجْهُ تَوَهُّمِ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ، فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِكَوْنِهِ جَزَاءَ الطَّلَبِ. وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، لَا بِالْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، كَمَا قِيلَ بِهِ. وَعَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، فَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ إِنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ يَغْفِرْ لَكُمْ، فَيُتَوَهَّمُ فِي الْآيَةِ مَفْهُومُ هَذَا الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ الشَّرْطِ لَا فِي جَزَائِهِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ هُنَا فِي فِعْلِ الشَّرْطِ عَلَى عَادَتِهِ، فَمَفْهُومُ أَنْ تُجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَتُؤْمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ، أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ; لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ، وَهُوَ كَذَلِكَ. أَمَّا جَزَاءُ الشَّرْطِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَى الشَّرْطِ الْوَاحِدِ مَشْرُوطَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَيُذْكَرُ بَعْضُهَا جَزَاءً لَهُ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِهِ. كَمَا لَوْ قُلْتَ لَشَخْصٍ مَثَلًا: إِنْ تَسْرِقْ يَجِبُ عَلَيْكَ غُرْمُ مَا سَرَقْتَ. فَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ الْغُرْمِ كَالْقَطْعِ ; لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ مُرَتَّبٌ أَيْضًا عَلَى السَّرِقَةِ، كَالْغُرْمِ. وَكَذَلِكَ الْغُفْرَانُ وَالْإِجَارَةُ مِنَ الْعَذَابِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ - كُلُّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِيَ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ بَعْضَهَا وَسَكَتَ فِيهَا عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا وَجْهُ تَوَهُّمِ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ، فَلِأَنَّ اللَّقَبَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ مَا لَمْ يُمْكِنِ انْتِظَامُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ دُونَهُ، أَعْنِي الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ، سَوَاءً كَانَ لَقَبًا أَوْ كُنْيَةً أَوِ اسْمًا أَوِ اسْمَ جِنْسٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا اللَّقَبَ غَايَةً فِي «الْمَائِدَةِ» . وَالْجَوَابُ عَنْ عَدَمِ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ، أَنَّ الْغُفْرَانَ وَالْإِجَارَةَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُدَّعَى بِالْفَرْضِ أَنَّهُمَا لَقَبَانِ لِجِنْسِ مَصْدَرَيْهِمَا، وَأَنَّ تَخْصِيصَهُمَا بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِهِمَا فِي الْآيَةِ سَنَدَانِ لَا مُسْنَدَ إِلَيْهِمَا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِمَا كَامِنٌ فِي الْفِعْلِ، وَلَا يَسْتَنِدُ إِلَى الْفِعْلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 إِجْمَاعًا، مَا لَمْ يَرِدْ مُجَرَّدُ لَفْظِهِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ. وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ اللَّقَبُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، كَمَا عَلَّلُوا بِهِ مَفْهُومَ الصِّفَةِ. وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ: بِأَنَّ اللَّقَبَ ذُكِرَ لِيُمَكِّنَ الْحُكْمَ، لَا لِتَخْصِيصِهِ بِالْحُكْمِ; إِذْ لَا يُمْكِنُ الْإِسْنَادُ بِدُونِ مُسْنَدٍ إِلَيْهِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ اللَّقَبُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ - إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَا فِي الْمُسْنَدِ ; لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي تُرَاعَى أَفْرَادُهُ وَصِفَاتُهَا، فَيُقْصَدُ بَعْضُهَا بِالذِّكْرِ دُونَ بَعْضٍ فَيَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِالْمَذْكُورِ. أَمَّا الْمُسْنَدُ فَإِنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْأَوْصَافِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ مُجَرَّدُ الْمَاهِيَةِ الَّتِي هِيَ الْحَقِيقَةُ الذِّهْنِيَّةُ. وَلَوْ حَكَمْتَ مَثَلًا عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ - فَإِنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمِثَالِ يُقْصَدُ بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ ; لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا حَيَوَانٌ بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ الَّذِي هُوَ الْحَيَوَانُ فِي هَذَا الْمِثَالِ، فَلَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا مُطْلَقُ مَاهِيَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ الذِّهْنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْأَفْرَادِ; لِأَنَّهُ لَوْ رُوعِيَتْ أَفْرَادُهُ لَاسْتَلْزَمَ الْحُكْمُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ فَرْدٌ آخَرُ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ كَالْفَرْشِ مَثَلًا. وَالْحُكْمُ بِالْمُبَايِنِ عَلَى الْمُبَايِنِ بَاطِلٌ إِذَا كَانَ إِيجَابِيًّا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَعَامَّةُ النُّظَّارِ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَ الْقَضِيَّةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ طَبِيعِيَّةٍ يُرَاعَى فِيهِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ عُنْوَانُهَا مِنَ الْأَفْرَادِ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ إِنْ كَانَتْ خَارِجِيَّةً، أَوِ الذِّهْنِيِّ إِنْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً. أَمَّا الْمَحْمُولُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَلَا تُرَاعَى فِيهِ الْأَفْرَادُ الْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ مُطْلَقُ الْمَاهِيَةِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ - فَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ اعْتِبَارُهُ كُفْرًا، كَمَا لَوِ اعْتَبَرَ مُعْتَبِرٌ مَفْهُومَ اللَّقَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) [48 \ 29] فَقَالَ: يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ لَقَبِهِ أَنَّ غَيْرَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ رَسُولَ اللَّهِ، فَهَذَا كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اعْتِبَارَ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ شَرْعًا وَلَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا، سَوَاءً كَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 اسْمَ جِنْسٍ، أَوِ اسْمَ عَيْنٍ، أَوِ اسَمَ جَمْعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَقَوْلُكَ: جَاءَ زَيْدٌ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ مَجِيءِ عَمْرٍو. وَقَوْلُكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ رُؤْيَتِكَ لِغَيْرِ الْأَسَدِ. وَالْقَوْلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ فَيُعْتَبَرُ، وَاسْمِ الْعَيْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ، لَا يَظْهَرُ. فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَلَا بِقَوْلِ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادَ وَابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ ; لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّقَبُ مُخْتَصًّا بِالْحُكْمِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، كَمَا عَلَّلَ بِهِ مَفْهُومَ الصِّفَةِ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: ذُكِرَ اللَّقَبُ لِيُسْنَدَ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى تَعْرِيفِ اللَّقَبِ بِالِاصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّ، وَأَنَّهُ أَضْعَفُ الْمَفَاهِيمِ - بِقَوْلِهِ: أَضْعَفُهَا اللَّقَبُ وَهُوَ مَا أُبِي مِنْ دُونِهِ نَظْمُ الْكَلَامِ الْعَرَبِ وَحَاصِلُ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ كَافِرَهُمْ فِي النَّارِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [11 \ 119] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [26 \ 94 - 95] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ [7 \ 38] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَنَّ مُؤْمِنِيهِمُ اخْتُلِفَ فِي دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ كَمَا بَيَّنَّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 «الْبَقَرَةِ» وَ «النَّحْلِ» وَ «الْجَاثِيَةِ» ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِقَادِرٍ يُسَوِّغُهُ أَنَّ النَّفْيَ مُتَنَاوَلٌ لِ (أَنَّ) فَمَا بَعْدَهَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ؟ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ: بَلَى. مُقَرِّرًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِأُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَأَشْهُرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ خَمْسَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ فِي «الْأَحْزَابِ» وَ «الشُّورَى» ، وَهُمْ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى و َمُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالرُّسُلُ الَّذِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصْبِرَ كَمَا صَبَرُوا - أَرْبَعَةٌ، فَصَارَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَامِسَهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْعَزْمِ جَمِيعُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَنَّ لَفْظَةَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرُّسُلِ بَيَانِيَّةٌ يَظْهَرُ أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ الْآيَةَ [68 \ 48] ، فَأَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ فِي آيَةِ «الْقَلَمِ» هَذِهِ بِالصَّبْرِ، وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ يُونُسَ ; لِأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْحُوتِ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [20 \ 115] . فَآيَةُ «الْقَلَمِ» ، وَآيَةُ «طه» الْمَذْكُورَتَانِ كِلْتَاهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِمْ لَيْسُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ. نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يَسْتَعْجِلَ الْعَذَابَ لِقَوْمِهِ، أَيْ يَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ بِتَعْجِيلِهِ لَهُمْ، فَمَفْعُولُ (تَسْتَعْجِلْ) مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ الْعَذَابُ، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [73 \ 11] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [86 \ 17] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، وَقَوْلَهُ: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا مُوَضِّحٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ طَلَبِ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ لَا مَحَالَةَ، عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ الْمُحَدِّدَةِ لِلْإِمْهَالِ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [19 \ 84] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 24] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ الْآيَةَ [2 \ 126] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [3 \ 196 - 197] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 69 - 70] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [10 \ 45] . وَفِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [23 \ 113] . وَبَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» وَجْهَ إِزَالَةِ إِشْكَالٍ مَعْرُوفٍ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَاغٌ. التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ أَصْوَبَ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: بَلَاغٌ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا بَلَاغٌ، أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ بَلَاغٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» : هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [14 \ 52] . وَقَوْلُهُ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [21 \ 106] . وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ، وَقَدْ عُلِمَ بِاسْتِقْرَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْفِعَالَ يَأْتِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 كَثِيرًا بِمَعْنَى التَّفْعِيلِ، كَبَلَّغَهُ بَلَاغًا، أَيْ تَبْلِيغًا، وَكَلَّمَهُ كَلَامًا، أَيْ تَكْلِيمًا، وَطَلَّقَهَا طَلَاقًا، وَسَرَّحَهَا سَرَاحًا، وَبَيَّنَهُ بَيَانًا. كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى التَّفْعِيلِ ; لِأَنَّ فَعَّلَ - مُضَعَّفَةَ الْعَيْنِ، غَيْرُ مُعْتَلَّةِ اللَّامِ وَلَا مَهْمُوزَتِهِ - قِيَاسُ مَصْدَرِهَا التَّفْعِيلُ. وَمَا جَاءَ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ - يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى: وَذَلِكَ اللَّبْثُ بِلَاغٌ، فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ مُحَمَّدٍ سُورَةُ الْقِتَالِ وَهِيَ سُورَة ُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ. قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنَ الصُّدُودِ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ لَازِمَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنَ الصَّدِّ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ. وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ لَازِمَةٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ: كَفَرُوا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ مُتَعَدِّيَةٌ فَلَا تَكْرَارَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، مُضِلُّونَ لِغَيْرِهِمْ بِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ الْآيَةَ [16 \ 97] ، أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَيْ أَبْطَلَ ثَوَابَهَا، فَمَا عَمِلَهُ الْكَافِرُ مِنْ حَسَنٍ فِي الدُّنْيَا، كَقَرْيِ الضَّيْفِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَحَمْيِ الْجَارِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، يَبْطُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَضْمَحِلُّ وَيَكُونُ لَا أَثَرَ لَهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَقِيلَ: أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمُ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَيْ غَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ أَيْ أَصْلَحَ لَهُمْ شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ إِصْلَاحًا لَا فَسَادَ مَعَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْ يُبْطِلَ أَعْمَالَ الْكَافِرِينَ، وَيُبْقِيَ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [1 \ 15 - 16] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [42 \ 20] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [25 \ 23 - 24] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا مَعَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ، مَعَ زِيَادَةِ إِيضَاحٍ مُهِمَّةٍ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [17 \ 19] . وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [16 \ 97] . وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا الْآيَةَ [46 \ 20] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَصْلُهُ مِنَ الضَّلَالِ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ، لَا مِنَ الضَّالَّةِ كَمَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [6 \ 24] . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [26 \ 20] . وَفِي آخِرِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [18 \ 104] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [18 \ 2] . وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [16 \ 97] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [47 \ 2] . قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ مِنْهُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [11 \ 17] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ الْحَقُّ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ اللَّهِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [6 \ 66] . قَالَ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [69 - 51] . وَقَالَ - تَعَالَى -: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ [10 \ 108] . وَقَالَ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [4 \ 170] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [47 \ 3] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، أَيْ إِبْطَالِهَا وَاضْمِحْلَالِهَا وَبَقَاءِ ثَوَابِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ، كُلُّهُ وَاقِعٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ. وَالزَّائِلُ الْمُضْمَحِلُّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ بَاطِلًا، وَضِدُّهُ الْحَقُّ. وَبِسَبَبِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ أَعْمَالُهُ حَقٌّ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ، لَا زَائِلَةٌ مُضْمَحِلَّةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الثَّوَابِ، لَا يَتَوَهَّمُ اسْتِوَاءَهُمَا إِلَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [68 \ 35 - 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [38 \ 28] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [45 \ 21] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ. قَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ؟ قُلْتُ: فِي جَعْلِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الْكُفَّارِ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ. أَوْ فِي أَنَّ جَعَلَ الْإِضْلَالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ. اهـ مِنْهُ. وَأَصْلُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ يُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهُ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَضَرْبَ الرِّقَابِ مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صِيَغَ الْأَمْرِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَرْبَعٌ: وَهِيَ فِعْلُ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ الْآيَةَ [17 \ 78] . وَاسْمُ فِعْلِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [5 \ 105] . وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الْمَجْزُومُ بِلَامِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ الْآيَةَ [22 \ 29] . وَالْمَصْدَرُ النَّائِبُ عَنْ فِعْلِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَضَرْبَ الرِّقَابِ، أَيْ فَاضْرِبُوا رِقَابَهُمْ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ، أَيْ أَوَجُعْتُمْ فِيهِمْ قَتْلًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 فَالْإِثْخَانُ هُوَ الْإِكْثَارُ مِنْ قَتْلِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَضْعُفَ وَيَثْقُلَ عَنِ النُّهُوضِ. وَقَوْلُهُ: فَشُدُّوَا الْوَثَاقَ، أَيْ فَأْسِرُوهُمْ، وَالْوَثَاقُ - بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ - اسْمٌ لِمَا يُؤْسَرُ بِهِ الْأَسِيرُ مِنْ قَيْدٍ وَنَحْوِهِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ حَتَّى يُثْخِنَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْسِرُونَهُمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [8 \ 68] . وَقَدْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الْآيَةَ [9 \ 5] . وَقَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [8 \ 12] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً الْآيَةَ [9 \ 36] . وَقَوْلِهِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ الْآيَةَ [8 \ 57] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً أَيْ فَإِمَّا تَمُنُّونَ عَلَيْهِمْ مَنًّا، أَوْ تُفَادُونَهُمْ فِدَاءً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا سِيقَ لِتَفْصِيلٍ وَجَبَ حَذْفُ عَامِلِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا لِتَفْصِيلٍ كَإِمَّا مَنَّا ... عَامِلُهُ يُحْذَفُ حَيْثُ عَنَّا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَأَجْهَدَنَّ فَإِمَّا دَرْءَ وَاقِعَةٍ تُخْشَى ... وَإِمَّا بُلُوغُ السُّؤْلِ وَالْأَمَلِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يُؤَيِّدُهُ. وَنَسْخُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْمَنُّ وَلَا الْفِدَاءُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ عِنْدَهُ، بَلْ يُخَيَّرُ عِنْدَهُ الْإِمَامُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ آيَاتِ السَّيْفِ النَّازِلَةَ فِي بَرَاءَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْقِتَالِ هَذِهِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَإِنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 مُحْكَمَةٌ، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ، وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ مَنٍّ وَفِدَاءٍ وَقَتْلٍ وَاسْتِرْقَاقٍ. قَالُوا: قَتَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ أَسِيرَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَخَذَ فِدَاءَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأُسَارَى. وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ سَيِّدِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ يَسْتَرِقُّ السَّبْيَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي جِنْسِ أَسَارَى الْكُفَّارِ جَوَازُ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَاهِضٍ يُخَصَّصُ الْعُمُومَاتِ، وَالْمُجَوَّزُ قَائِمٌ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَانِعِينَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ ذُكُورِ الْعَرَبِ حُجَّةٌ، وَقَدِ اسْتَرَقَّ بَنِي نَاجِيَةَ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ وَبَاعَهُمْ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَنِي نَاجِيَةَ مِنَ الْعَرَبِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي جَوَازِ الْمِلْكِ بِالرِّقِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَبَبَهُ أَسْرُ الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّارَ فِي الْجِهَادِ، وَاللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي كِتَابِهِ يُعَبِّرُ عَنِ الْمِلْكِ بِالرِّقِّ بِعِبَارَةٍ هِيَ أَبْلَغُ الْعِبَارَاتِ، فِي تَوْكِيدِ ثُبُوتِ مِلْكِ الرَّقِيقِ، وَهِيَ مِلْكُ الْيَمِينِ ; لِأَنَّ مَا مَلَكَتْهُ يَمِينُ الْإِنْسَانِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ تَمَامًا، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ تَمَامًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 3] . وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» [23 \ 5 - 6] . وَ «سَأَلَ سَائِلٌ» [70 \ 29 - 30] . وَقَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [4 \ 24] . وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ الْآيَةَ [24 \ 33] . وَقَوْلِهِ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [4 \ 36] . وَقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ الْآيَةَ [33 \ 52] . وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْآيَةَ [33 \ 50] . وَقَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [24 \ 31] . وَقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [16 \ 71] . وَقَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [16 \ 71] . وَقَوْلِهِ: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ الْآيَةَ [30 \ 28] . فَالْمُرَادُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا الْمِلْكُ بِالرِّقِّ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ حَصْرُهَا، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ، فَلَا يُنْكِرُ الرِّقَّ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا مُكَابِرٌ أَوْ مُلْحِدٌ أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا بِسُّنَّةِ رَسُولِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا حِكْمَةَ الْمِلْكِ بِالرِّقِّ وَإِزَالَةَ الْإِشْكَالِ فِي مِلْكِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَجِلَّاءِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَدِّثِيهِمُ الْكِبَارِ كَانُوا أَرِقَّاءَ مَمْلُوكِينَ، أَوْ أَبْنَاءَ أَرِقَّاءَ مَمْلُوكِينَ. فَهَذَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَانَ أَبُوهُ سِيرِينُ عَبْدًا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَهَذَا مَكْحُولٌ كَانَ عَبْدًا لِامْرَأَةٍ مِنْ هُذَيْلٍ، فَأَعْتَقَتْهُ. وَمِثْلُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ بَعْضٌ مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِنَفْيِ الرِّقِّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ آيَةَ «الْقِتَالِ» هَذِهِ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الرِّقِّ مِنْ أَصْلِهِ ; لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ وَاحِدًا مِنْ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَهُمَا الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ فَقَطْ - فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِالْآيَةِ، عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا، وَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ أَصْلًا، وَالِاسْتِدْلَالُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَسُقُوطُهُ كَمَا تَرَى. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا تَقْسِيمُ حُكْمِ الْأُسَارَى إِلَى مَنٍّ وَفِدَاءٍ، لَمْ تَتَنَاوَلْ قَطْعًا إِلَّا الرِّجَالَ الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَضَرْبَ الرِّقَابِ، وَقَوْلَهُ: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ - صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ كَمَا تَرَى. وَعَلَى إِثْخَانِ هَؤُلَاءِ الْمُقَاتِلِينَ رَتَّبَ بِالْفَاءِ قَوْلَهُ: فَشُدُّوا الْوَثَاقَ. فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ أُنْثَى وَلَا صَغِيرًا الْبَتَّةَ. وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ وَصِبْيَانِهِمْ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 وَأَكْثَرُ أَهْلِ الرِّقِّ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَدَّعِي نَفْيَ الرِّقِّ مِنْ أَصْلِهِ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْآيَةَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ الرِّجَالِ الْمُقَاتِلِينَ، لِقَصْرِ نَفْيِ الرِّقِّ الَّذِي زَعَمَهُ عَلَى الرِّجَالِ الَّذِينَ أُسِرُوا فِي حَالَ كَوْنِهِمْ مُقَاتِلِينَ، وَلَوْ قَصَرَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ، لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِنَفْيِ الرِّقِّ مَنْ أَصْلِهِ كَمَا تَرَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَا قَدَّمَنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الرِّقِّ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَيْ: إِذَا لَقِيتُمُ الْكُفَّارَ فَاضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ قَتْلًا فَأْسِرُوهُمْ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَيْ حَتَّى تَنْتَهِيَ الْحَرْبُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى وَضْعِ الْحَرْبِ أَوْزَارَهَا أَنَّهُ وَضْعُ السِّلَاحِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السِّلَاحَ وَزَرًا، وَتُطْلِقُ الْعَرَبُ الْأَوْزَارَ عَلَى آلَاتِ الْحَرْبِ وَمَا يُسَاعِدُ فِيهَا كَالْخَيْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا رِمَاحًا طُوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورًا وَفِي مَعْنَى أَوْزَارِ الْحَرْبِ أَقْوَالٌ أُخَرُ مَعْرُوفَةٌ تَرَكْنَاهَا، لِأَنَّ هَذَا أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَصَرُوا رَبَّهُمْ، نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، أَيْ عَصَمَهُمْ مِنَ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا صِفَاتِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بِهَذَا النَّصْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [22 \ 40] ، ثُمَّ بَيَّنَ صِفَاتِ الْمَوْعُودِينَ بِهَذَا النَّصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [22 \ 41] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [40 \ 51] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 171 - 173] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ صِفَاتِ مَنْ وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ [22 \ 41] . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَلَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَيْسَ لَهُمْ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ الْبَتَّةَ. فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ لِمُسْتَأْجِرِهِ شَيْئًا، ثُمَّ جَاءَهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْأُجْرَةَ. فَالَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي مِمَّنْ يَتَسَمَّوْنَ بِاسْمِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُنَا - مَغْرُرُونَ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ اللَّهِ الْمَوْعُودِينَ بِنَصْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَمَعْنَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ - نَصْرُهُمْ لِدِينِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَسَعْيُهُمْ وَجِهَادُهُمْ فِي أَنْ تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ تُقَامَ حُدُودُهُ فِي أَرْضِهِ، وَتُمْتَثَلَ أَوَامِرُهُ وَتُجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ، وَيُحْكَمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [11 \ 83] ، وَأَحَلْنَا عَلَى الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ [30 \ 9] ، وَأَوْضَحْنَاهَا فِي الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا [43 \ 8] ، وَفِي الْأَحْقَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [46 \ 26] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ. الْآيَاتُ الَّتِي تُوَضِّحُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي نَفْسِ الْآيَةِ، الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ إِخْرَاجِ كُفَّارِ مَكَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [60 \] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [8 - 30] . وَقَدْ أَخْرَجُوهُ فِعْلًا بِمَكْرِهِمُ الْمَذْكُورِ، وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ لَا ذَنْبَ لَهُمْ يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْإِخْرَاجَ إِلَّا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [22 \ 40] ، وَقَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [60 \ 1] ، أَيْ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِكُمْ بِرَبِّكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى فِي إِخْرَاجِهِمْ لَهُ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ [9 \ 13] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ، غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: «وَكَائِنْ» بِأَلِفٍ بَعْدِ الْكَافِ، وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ. وَكُلُّهُمْ عِنْدُ الْوَقْفِ يَقِفُونَ عَلَى النُّونِ السَّاكِنَةِ، كَحَالِ الصِّلَةِ، إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَإِنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْيَاءِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَوْجُهَ الْقِرَاءَةِ فِي «كَأَيِّنْ» وَمَعْنَاهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ اللُّغَاتِ، مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ [22 \ 45] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أَنْهَارُ الْمَاءِ وَأَنْهَارُ الْخَمْرِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ بَعْضَ صِفَاتِهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [47 \ 12] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَوْلِهِ: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [56 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ [77 \ 41] ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [88 \ 12] ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ خَمْرِ الْجَنَّةِ أَنَّهَا لَا تُسْكِرُ شَارِبَهَا، وَلَا تُسَبِّبُ لَهُ الصُّدَاعَ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [37 \ 47] . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [5 \ 90] . الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: غَيْرِ آسِنٍ أَيْ غَيْرُ مُتَغَيِّرِ اللَّوْنِ وَلَا الطَّعْمِ. وَالْآسِنُ وَالْآجِنُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَمَنْهَلٌ آجِنٌ قَفْرٌ مَحَاضِرُهُ ... تَذْرُو الرِّيَاحُ عَلَى جُمَّاتِهِ الْبَعَرَا وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: وَمَنْهَلٌ فِيهِ الْغُرَابُ مَيِّتُ ... كَأَنَّهُ مِنَ الْأُجُونِ زَيِّتُ سَقَيْتُ مِنْهَا الْقَوْمَ وَاسْتَقَيْتُ وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعَلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرِ آسِنٍ كَقَوْلِهِ: مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ. قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الثِّمَارَ الَّتِي يُرْزَقُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْجَوْدَةِ وَالْحُسْنِ وَالْكَمَالِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ رَدِيءٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [2 \ 25] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ [22 \ 19] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [47 \ 18] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [43 \ 66] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ. التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، يَتَذَكَّرُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَنْفَعُهُمْ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، فَقَوْلُهُ: ذِكْرَاهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ فَأَنَّى لَهُمْ أَيْ كَيْفَ تَنْفَعُهُمْ ذِكْرَاهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ، وَقَدْ فَاتَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ الْإِيمَانُ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي جَاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَامَةُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْمِنُونَ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [34 \ 52] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [86 \ 23] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] . فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَنَّى لَهُمْ نَفْعُ ذِكْرَاهُمْ. وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ الْحَامِلِ عَلَى الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِذَا أَنْزَلَ سُورَةً مُحْكَمَةً، أَيْ مُتْقَنَةَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَاضِحَةَ الدَّلَالَةِ، لَا نَسْخَ فِيهَا وَذَكَرَ فِيهَا وُجُوبَ قِتَالِ الْكُفَّارِ، تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ، كَوْنُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ، يَنْظُرُونَ كَنَظَرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ نَظَرَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ تَدُورُ فِيهِ عَيْنُهُ وَيَزِيغُ بَصَرُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 وَهَذَا إِنَّمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ بَأْسِ الْكَفَّارِ الْمَأْمُورِ بِقِتَالِهِمْ. وَقَدْ صَرَّحَ - جَلَّ وَعَلَا - بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [33 \ 19] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةً فِيهَا الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ، اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَذَمَّهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [9 \ 86] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُعْرِضُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا «أَمْ» فِيهِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ، فَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ الَّتِي هِيَ الْهَمْزَةُ، وَبَيَّنَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهَا أَقْفَالٌ لَا تَنْفَتِحُ لِخَيْرٍ، وَلَا لِفَهْمِ قُرْآنٍ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْ تَدَبُّرِ كِتَابِ اللَّهِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4 \ 82] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [23 \ 68] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] . وَقَدْ ذَمَّ - جَلَّ وَعَلَا - الْمُعْرِضَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [18 \ 57] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [32 \ 22] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِتَدَبُّرِ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَيْ تَصَفُّحِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَإِدْرَاكِ مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهَا، غَيْرُ مُتَدَبِّرٍ لَهَا فَيَسْتَحِقُّ الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَاتِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَعْطَاهُ فَهْمًا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى التَّدَبُّرِ، وَقَدْ شَكَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ مِنْ هَجْرِ قَوْمِهِ هَذَا الْقُرْآنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [25 - 30] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمَهُ وَتَعَلُّمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِذَلِكَ هُمْ خَيْرُ النَّاسِ. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» وَقَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [3 \ 79] . فَإِعْرَاضُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَتَفَهُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُبِيِّنَةِ لَهُ، مَنْ أَعْظَمِ الْمُنَاكِرِ وَأَشْنَعِهَا، وَإِنْ ظَنَّ فَاعِلُوهُ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى. وَلَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ الْقَوْلَ بِمَنْعِ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكْتِفَاءً عَنْهُمَا بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ، وَانْتِفَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى تَعَلُّمِهِمَا ; لِوُجُودِ مَا يَكْفِي عَنْهُمَا مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ - مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَمُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 فَمُرْتَكِبُهُ مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَصْحَابِ رَسُولِهِ جَمِيعًا وَلِلْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ تَدَبُّرَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَفَهُّمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ خَاصَّةً، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ بِشُرُوطِهِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَهُمُ الَّتِي لَمْ يَسْتَنِدِ اشْتِرَاطُ كَثِيرٍ مِنْهَا إِلَى دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَلَا أَثَرٍ عَنِ الصَّحَابَةِ - قَوْلٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَصْلًا. بَلِ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى التَّعَلُّمِ وَالتَّفَهُّمِ، وَإِدْرَاكِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُهُمَا، وَالْعَمَلُ بِمَا عَلِمَ مِنْهُمَا. أَمَّا الْعَمَلُ بِهِمَا مَعَ الْجَهْلِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْهُمَا فَمَمْنُوعٌ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا مَا عَلِمَهُ مِنْهُمَا عِلْمًا صَحِيحًا نَاشِئًا عَنْ تَعَلُّمٍ صَحِيحٍ. فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. وَلَوْ آيَةً وَاحِدَةً أَوْ حَدِيثًا وَاحِدًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الذَّمَّ وَالْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ يَتَدَبَّرُ كِتَابَ اللَّهِ - عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ الْأَوَّلِينَ بِهِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ، لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُسْتَكْمِلًا لِشُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا أَصْلًا. فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ إِلَّا الْمُجْتَهِدُونَ بِالْإِصْلَاحِ الْأُصُولِيِّ لَمَا وَبَّخَ اللَّهُ الْكَفَّارُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ الِاهْتِدَاءِ بِهُدَاهُ، وَلَمَا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِهِ حَتَّى يُحَصِّلُوا شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمُقَرَّرَةَ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا تَرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، وَإِذًا فَدُخُولُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَطْعِيٌّ، وَلَوْ كَانَ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ إِلَّا لِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمَا أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ عَدَمَ تَدَبُّرِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَعَدَمَ عَمَلِهِمْ بِهِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ذَلِكَ قَطْعًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ لَا تُشْتَرَطُ إِلَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 فِيمَا فِيهِ مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ. وَالْأُمُورُ الْمَنْصُوصَةُ فِي نُصُوصٍ صَحِيحَةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا لِأَحَدٍ، حَتَّى تُشْتَرَطَ فِيهَا شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الِاتِّبَاعُ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرُهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ تَبَعًا لِلْقَرَافِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَالْعَمَلُ مِنْهُ بِمَعْنَى النَّصِّ مِمَّا يُحْظَلُ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ بِحَالٍ لِمُعَارَضَتِهِ لِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ عُمُومَاتِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حَثِّ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» الْحَدِيثَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى. فَتَخْصِيصُ جَمِيعِ تِلْكَ النُّصُوصِ بِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَتَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ تَحْرِيمًا بَاتًّا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ تِلْكَ النُّصُوصِ بِآرَاءِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقِرِّينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُقَلِّدَ الصِّرْفَ، لَا يَجُوزُ عَدُّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحِهِ لِبَيْتِهِ الْمَذْكُورِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 آنِفًا مَا نَصُّهُ: يَعْنِي أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ يُحْظَلُ لَهُ، أَيْ يُمْنَعُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَعْنَى نَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهَا لِاحْتِمَالِ عَوَارِضِهِ مِنْ نَسْخٍ وَتَقْيِيدٍ، وَتَخْصِيصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي لَا يَضْبُطُهَا إِلَّا الْمُجْتَهِدُ، فَلَا يُخَلِّصُهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ، قَالَهُ الْقَرَافِيُّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَلَا لِلْقَرَافِيُّ الَّذِي تَبِعَهُ فِي مَنْعِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، إِلَّا مُطْلَقَ احْتِمَالِ الْعَوَارِضِ، الَّتِي تَعْرِضُ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنَ النَّسْخِ حَتَّى يَثْبُتَ وُرُودُ النَّاسِخِ، وَالْعَامُّ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ حَتَّى يَثْبُتَ وُرُودُ الْمُخَصِّصِ، وَالْمُطْلَقُ ظَاهِرٌ فِي الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَثْبُتَ وُرُودُ الْمُقَيِّدِ، وَالنَّصُّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ النُّسَخُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَالظَّاهِرُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عُمُومًا كَانَ أَوْ إِطْلَاقًا أَوْ غَيْرَهُمَا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْهُ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. وَأَوَّلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ حَتَّى يُبْحَثَ عَنِ الْمُخَصَّصِ فَلَا يُوجَدُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ - أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى حَكَمُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ حِكَايَةً لَا أَسَاسَ لَهَا. وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْعَبَّادِيُّ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ غَلَطَهُمْ فِي ذَلِكَ، فِي كَلَامِهِ عَلَى شَرْحِ الْمَحَلِّ لِقَوْلِ ابْنِ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَيُتَمَسَّكُ بِالْعَامِّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، وَكَذَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، خِلَافًا لِابْنِ سُرَيْجٍ اهـ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ مِنْ عُمُومٍ وَإِطْلَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، مِنْ مُخَصِّصٍ أَوْ مُقَيِّدٍ، لَا لِمُجَرَّدِ مُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 فَادِّعَاءُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، أَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى يُبْحَثَ عَنِ الْمُخَصِّصِ وَالْمُقَيِّدِ مَثَلًا - خِلَافُ التَّحْقِيقِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا تَعَلَّمَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَوْ بَعْضَ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَعْمَلَ بِهَا، تَعَلَّمَ ذَلِكَ النَّصَّ الْعَامَّ أَوِ الْمُطْلَقَ، وَتَعَلَّمَ مَعَهُ مُخَصِّصَهُ وَمُقَيِّدَهُ إِنْ كَانَ مُخَصَّصًا أَوْ مُقَيَّدًا، وَتَعَلَّمَ نَاسِخَهُ إِنْ كَانَ مَنْسُوخًا، وَتَعَلُّمُ ذَلِكَ سَهْلٌ جِدًّا، بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِهِ، وَمُرَاجَعَةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ الْمُعْتَدِّ بِهَا فِي ذَلِكَ، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يَتَعَلَّمُ أَحَدُهُمْ آيَةً فَيَعْمَلُ بِهَا، وَحَدِيثًا فَيَعْمَلُ بِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ حَتَّى يُحَصِّلَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ، وَرُبَّمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ بِمَا عَلِمَ فَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، كَمَا يُشِيرُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [2 \ 282] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [8 \ 29] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفَرْقَانَ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ الْآيَةَ [57 \ 28] . وَهَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَلِّمُ صَاحِبَهَا بِسَبَبِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، لَا تَزِيدُ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا عَلِمَ، مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ فَهِيَ عَمَلٌ بِبَعْضِ مَا عَلِمَ زَادَهُ اللَّهُ بِهِ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ. فَالْقَوْلُ بِمَنْعِ الْعَمَلِ بِمَا عَلِمَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَتَّى يُحَصِّلَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ، هُوَ عَيْنُ السَّعْيِ فِي حِرْمَانِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الانْتِفَاعِ بِنُورِ الْقُرْآنِ، حَتَّى يُحَصِّلُوا شَرْطًا مَفْقُودًا فِي اعْتِقَادِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ. وَادِّعَاءُ مِثْلِ هَذَا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ - هُوَ كَمَا تَرَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَخَافُ الْعَرْضَ عَلَى رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهِ لِيَرَى لِنَفَسِهِ الْمَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعُظْمَى، وَالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، الَّتِي عَمَّتْ جُلَّ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَعْمُورَةِ. وَهِيَ ادِّعَاءُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، اسْتِغْنَاءً تَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَحُدُودٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ. وَبِنَاءُ هَذَا عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مَعْدُومُونَ عَدَمًا كُلِّيًّا، لَا وُجُودَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، يُمْنَعُ الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهُ مَنْعًا بَاتًّا عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُسْتَغْنَى عَنْهُمَا بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ. وَزَادَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا مَنْعَ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ. فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي رَحِمَكَ اللَّهُ: كَيْفَ يَسُوغُ لِمُسْلِمٍ، أَنْ يَقُولَ بِمَنْعِ الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ وُجُوبِ تَعَلُّمِهِمَا وَالْعَمَلِ بِهِمَا اسْتِغْنَاءً عَنْهُمَا بِكَلَامِ رِجَالٍ غَيْرِ مَعْصُومِينَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يُخْطِئُونَ. فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، لَا حَاجَةَ إِلَى تَعَلُّمِهِمَا، وَأَنَّهُمَا يُغْنِي غَيْرُهُمَا، فَهَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَمُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ. وَإِنْ كَانَ قَصْدَهُمْ أَنَّ تَعَلُّمَهُمَا صَعْبٌ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا زَعْمٌ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ تَعَلُّمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْسَرُ مِنْ تَعَلُّمِ مَسَائِلِ الْآرَاءِ وَالِاجْتِهَادِ الْمُنْتَشِرَةِ، مَعَ كَوْنِهَا فِي غَايَةِ التَّعْقِيدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 وَالْكَثْرَةِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [54 \ 17 - 22 - 32 - 40] ، وَيَقُولُ تَعَالَى فِي الدُّخَانِ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [44 \ 58] ، وَيَقُولُ فِي مَرْيَمَ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] . فَهُوَ كِتَابٌ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [29 \ 49] ، وَيَقُولُ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 52] . فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتَبَاعَدُ عَنْ هُدَاهُ يُحَاوِلُ التَّبَاعُدَ عَنْ هُدَى اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَرْضِهِ، لِيُسْتَضَاءَ بِهِ، فَيُعْلَمَ فِي ضَوْئِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالنَّافِعُ مِنَ الضَّارِّ، وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [4 \ 174] . وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [5 \ 15] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [42 \ 52] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [64 \ 8] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [7 \ 157] . فَإِذَا عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، هُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ لِيُسْتَضَاءَ بِهِ، وَيُهْتَدَى بِهُدَاهُ فِي أَرْضِهِ، فَكَيْفَ تَرْضَى لِبَصِيرَتِكَ أَنْ تَعْمَى عَنِ النُّورِ. فَلَا تَكُنْ خُفَّاشِيَّ الْبَصِيرَةِ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِمْ: خَفَافِيشٌ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [2 \ 20] ، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [13 \ 19] . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ عَنِ النُّورِ تَخَبَّطَ فِي الظَّلَامِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا، فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْمُنْصِفُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَسَائِلِ النَّافِعَةِ الْمُنْتِجَةِ، وَالْعَمَلُ بِكُلِّ مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا عِلْمًا صَحِيحًا. وَلْتَعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّمَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَيْسَرُ مِنْهُ بِكَثِيرٍ فِي الْقُرُونِ الْأَوْلَى، لِسُهُولَةِ مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَعَامٍّ وَخَاصٍّ، وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، وَمُجْمَلٍ وَمُبَيَّنٍ وَأَحْوَالِ الرِّجَالِ، مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ ضَبَطَ وَأَتْقَنَ وَدَوَّنَ، فَالْجَمِيعُ سَهَّلَ التَّنَاوُلَ الْيَوْمَ. فَكُلُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَدْ عُلِمَ مَا جَاءَ فِيهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَكِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ. وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُفِظَتْ وَدُوِّنَتْ، وَعُلِمَتْ أَحْوَالُ مُتُونِهَا وَأَسَانِيدِهَا، وَمَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا مِنَ الْعِلَلِ وَالضَّعْفِ. فَجَمِيعُ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا فِي الِاجْتِهَادِ يَسْهُلُ تَحْصِيلُهَا جِدًّا عَلَى كُلِّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا وَعِلْمًا. وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ تَسْهُلُ مَعْرِفَتُهُ الْيَوْمَ عَلَى كُلِّ نَاظِرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا وَوَفَّقَهُ لِتَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْمُنْصِفُ، أَنَّ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِ الْقَوْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، عَلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَعَلَى النَّبِيِّ وَسُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَلَالَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَآلِ عِمْرَانَ وَاغْتَرَّ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ خَلْقٌ لَا يُحْصَى مِنَ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ; لِكَوْنِهِمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 فَقَدْ قَالَ الصَّاوِيُّ أَحْمَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [18 \ 23] بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ فِي انْفِصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِزَمَانٍ - مَا نَصُّهُ: وَعَامَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّ شَرْطَ حَلِّ الْأَيْمَانِ بِالْمَشِيئَةِ أَنْ تَتَّصِلَ، وَأَنْ يُقْصَدَ بِهَا حَلُّ الْيَمِينِ، وَلَا يَضُرَّ الْفَصْلُ بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ عُطَاسٍ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَا عَدَا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَلَوْ وَافَقَ قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْآيَةَ، فَالْخَارِجُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ لِلْكُفْرِ ; لِأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَانْظُرْ يَا أَخِي - رَحِمَكَ اللَّهُ - مَا أَشْنَعَ هَذَا الْكَلَامَ وَمَا أَبْطَلَهُ، وَمَا أَجْرَأَ قَائِلَهُ عَلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَعَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. أَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ مُخَالِفَةً لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا سَنَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالَّذِي يَنْصُرُهُ هُوَ الضَّالُّ الْمُضِلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَشْنَعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ، وَقَائِلُهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ انْتِهَاكًا لِحُرْمَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ صَارِفٌ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ لَا يَصْدُرُ الْبَتَّةَ عَنْ عَالِمٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ لِجَهْلِهِ بِهِمَا يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُمَا كُفْرًا، وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ ظَاهِرَهُمَا بَعِيدٌ مِمَّا ظَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْدِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ: أَنَّ آيَةَ الْكَهْفِ هَذِهِ الَّتِي ظَنَّ الصَّاوِيُّ أَنَّ ظَاهِرَهَا حَلَّ الْأَيْمَانِ بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهَا عَنِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَسَاسَ لَهُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ بَعِيدٌ مِمَّا ظَنَّ، بَلِ الظَّنُّ الَّذِي ظَنَّهُ وَالزَّعْمُ الَّذِي زَعَمَهُ لَا تُشِيرُ الْآيَةُ إِلَيْهِ أَصْلًا، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَلَا التَّضَمُّنِ وَلَا الِالْتِزَامِ، فَضْلًا عَلَى أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً فِيهِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الرُّوحِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ لَهُمْ: سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَعَاتَبَهُ رَبُّهُ بِعَدَمِ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ تَعْلِيقِهِ بِمَشِيئَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْوَحْيُ. ثُمَّ عَلَّمَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأَدَبَ مَعَهُ، فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23 - 24] . ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [18 \ 24] ، يَعْنِي إِنْ قُلْتَ سَأَفْعَلُ كَذَا غَدًا، ثُمَّ نَسِيتَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَذَكَّرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاذْكُرْ رَبَّكَ، أَيْ قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ لِتَتَدَارَكَ بِذَلِكَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي فَاتَكَ عِنْدَ وَقْتِهِ، بِسَبَبِ النِّسْيَانِ، وَتَخْرُجَ مِنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 وَالتَّعْلِيقُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الصَّحِيحُ لَا يُخَالِفُ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي مُرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا أَوْضَحَهُ كَبِيرُ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْكَهْفِ هَذِهِ. فَيَا أَتْبَاعَ الصَّاوِيِّ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ تَقْلِيدًا أَعْمَى عَلَى جَهَالَةٍ عَمْيَاءَ، أَيْنَ دَلَّ ظَاهِرُ آيَةِ الْكَهْفِ هَذِهِ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالْعِتْقِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَيْمَانِ؟ هَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ لَمَّا قَالَ لِلْكُفَّارِ: سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا؟ وَهَلْ قَالَ اللَّهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي حَالِفٌ سَأَفْعَلُ ذَلِكَ غَدًا؟ وَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ بِالْيَمِينِ، حَتَّى قُلْتُمْ: إِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ هُوَ حَلُّ الْأَيْمَانِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا، وَبَنَيْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَصُولُ الْكُفْرِ؟ وَمِمَّا يَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا إِيضَاحًا مَا قَالَهُ الصَّاوِيُّ أَيْضًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [3 \ 7] ، فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى كَلَامِ الْجَلَالِ مَا نَصُّهُ: زَيْغٌ أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ، قَوْلُهُ: بِوُقُوعِهِمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسِ، أَيْ كَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اهـ. فَانْظُرْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - مَا أَشْنَعَ هَذَا الْكَلَامَ، وَمَا أَبْطَلَهُ، وَمَا أَجْرَأَ قَائِلَهُ عَلَى انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ وَسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَدَلَّهُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَدْرِي مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ. فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا قَالَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ هُوَ ظَاهِرُ كِتَابِ اللَّهِ، وَلِذَا جَعَلَ مِثْلَهُمْ مَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَجْهَ ادِّعَاءِ نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَفَرَ، مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَنَّ ادِّعَاءَهُمْ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَفَّرَهُمْ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمُ ادِّعَاءٌ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَسْتَ تَقُولُ: إِنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالُوا: حَسْبُنَا، أَيْ كَفَانَا ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَاتَّضَحَ أَنَّ الصَّاوِيَّ يَعْتَقِدُ أَنَّ ادِّعَاءَ نَصَارَى نَجْرَانَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [4 \ 171] ، هُوَ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ ادِّعَاءٌ صَحِيحٌ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ، فَالْآيَةٌ لَا يُفْهَمُ مَنْ ظَاهِرِهَا الْبَتَّةَ، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا بِدَلَالَةٍ مِنَ الدَّلَالَاتِ، أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَادِّعَاءُ نَصَارَى نَجْرَانَ ذَلِكَ كَذِبٌ بَحْتٌ. فَقَوْلُ الصَّاوِيِّ كَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَ بِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْ كَوْنِ عِيسَى ابْنَ اللَّهِ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، حَاشَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكُفْرُ الْبَوَاحُ ظَاهِرَهُ، بَلْ هُوَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ، وَقَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [45 \ 13] ، أَيْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِيسَى وَمِنْ تَسْخِيرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَبْدَؤُهُ وَمَنْشَؤُهُ - جَلَّ وَعَلَا. فَلَفْظَةُ «مِنْ» فِي الْآيَتَيْنِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الصَّاوِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ نَصَارَى نَجْرَانَ. وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ لَا يَعْلَمُونَ مَا هِيَ الظَّوَاهِرُ، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ شَيْئًا ظَاهِرَ النَّصِّ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ النَّصَّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ. فَبَنَوْا بَاطِلًا عَلَى بَاطِلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ إِلَّا الْبَاطِلُ. وَلَوْ تَصَوَّرُوا مَعَانِيَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا مَا قَالُوا. فَتَصَوُّرُ الصَّاوِيِّ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ الْكَهْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ حَلُّ الْأَيْمَانِ، بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهَا عَنِ الْيَمِينِ، وَبِنَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةَ ظَاهِرِ الْآيَةِ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تُشِيرُ أَصْلًا إِلَى مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ ظَاهِرُهَا. وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا زَعَمَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ، مِنْ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا زَعَمَ - ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ. وَقَوْلُ الصَّاوِيِّ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ، قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِهِ مِنْ عِنْدِهِ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ. وَمَنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَصُولُ الْكُفْرِ؟ سَمُّوهُمْ لَنَا، وَبَيِّنُوا لَنَا مَنْ هُمْ؟ وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَقُولُهُ عَالِمٌ، وَلَا مُتَعَلِّمٌ ; لِأَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ نُورُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُسْتَضَاءَ بِهِ فِي أَرْضِهِ وَتُقَامَ بِهِ حُدُودُهُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَوَامِرُهُ، وَيُنْصَفَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ. وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِنْهَا إِلَّا أَمْثِلَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [2 \ 196] . وَالْغَالِبُ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ هُوَ كَوْنُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَوَاهِرُ. وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ صَارِفٌ عَنْهُ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ. فَتَنْفِيرُ النَّاسِ وَإِبْعَادُهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِهِمَا مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 أُصُولِ الْكُفْرِ هُوَ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ كَمَا تَرَى. وَأُصُولُ الْكُفْرِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ مِنْهَا كُلَّ الْحَذَرِ، وَيَتَبَاعَدَ مِنْهَا كُلَّ التَّبَاعُدِ وَيَتَجَنَّبَ أَسْبَابَهَا كُلَّ الِاجْتِنَابِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وُجُوبُ التَّبَاعُدِ مِنَ الْأَخْذِ بِظَوَاهِرَ الْوَحْيِ. وَهَذَا كَمَا تَرَى، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الضَّلَالِ ادِّعَاءَ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ قَبِيحَةٍ، لَيْسَتْ بِلَائِقَةٍ. وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بُعْدُهَا وَبَرَاءَتُهَا مِنْ ذَلِكَ. وَسَبَبُ تِلْكَ الدَّعْوَى الشَّنِيعَةِ عَلَى ظَوَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَةِ مُدَّعِيهَا. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى، وَالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ فَهْمٌ، أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا غَيْرُ لَائِقَةٍ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا الْمُتَبَادِرَةَ مِنْهَا هُوَ تَشْبِيهُ صِفَاتِ اللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، وَعَقَدَ ذَلِكَ الْمُقْرِئُ فِي إِضَاءَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّصُّ إِنْ أَوْهَمَ غَيْرَ اللَّائِقِ بِاللَّهِ كَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلَائِقِ فَاصْرِفْهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعَا وَاقْطَعْ عَنِ الْمُمْتَنِعِ الْأَطْمَاعَا وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ مَنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، لِكُلِّ مُسْلِمٍ رَاجِعَ عَقْلَهُ، هِيَ مُخَالَفَةُ صِفَاتِ اللَّهِ لِصِفَاتِ خَلْقِهِ. وَلَا بُدَّ أَنْ نَتَسَاءَلَ هُنَا، فَنَقُولُ: أَلَيْسَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مُخَالَفَةَ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ؟ وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: بَلَى. وَهَلْ تَشَابَهَتْ صِفَاتُ اللَّهِ مَعَ صِفَاتِ خَلْقِهِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى صِفَتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 تَعَالَى ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ تَشْبِيهُهُ بِصِفَةِ الْخَلْقِ؟ وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: لَا. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنَّ لَفْظًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَثَلًا دَالًّا عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ أَثْنَى بِهَا تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ مُشَابَهَتَهُ لِصِفَةِ الْخَلْقِ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. فَالْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ مُتَخَالِفَانِ كُلَّ التَّخَالُفِ وَصِفَاتُهُمَا مُتَخَالِفَةٌ كُلَّ التَّخَالُفِ. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُعْقَلُ دُخُولُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ؟ أَوْ دُخُولُ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ كَمَالِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؟ فَكُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَائِقًا بِالْخَالِقِ مُنَزَّهًا عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ. وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ صِفَةُ الْخَالِقِ. فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ، هُوَ كَوْنُهَا جَارِحَةً هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] . وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِقِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، لَائِقَةٌ بِاللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - ثَابِتَةٌ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - عِظَمَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَالْقُدْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [39 \ 67] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 وَبَيِّنَ أَنَّهَا صِفَةُ تَأْثِيرٍ كَالْقُدْرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، فَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَلَقَ نَبِيَّهُ آدَمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَمَا تَرَى. وَلَا يَصِحُّ هُنَا تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ الْبَتَّةَ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَثْنِيَةُ الْقُدْرَةِ. وَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِ الْمُسْلِمِ الْمَرَاجِعِ عَقْلَهُ دُخُولُ الْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ فِي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُدَّعِي أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْيَدِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالَهَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهَا التَّشْبِيهُ بِجَارِحَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ الْخَبِيثِ، وَلَمْ تَكْتَفِ بِهَذَا حَتَّى ادَّعَيْتَ الْإِجْمَاعَ عَلَى صَرْفِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا - أَنَّ قَوْلَكَ هَذَا كُلَّهُ افْتِرَاءٌ عَظِيمٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّكَ بِسَبَبِهِ كُنْتَ أَعْظَمَ الْمُشَبِّهِينَ وَالْمُجَسِّمِينَ، وَقَدْ جَرَّكَ شُؤْمُ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى وَرْطَةِ التَّعْطِيلِ، فَنَفَيْتَ الْوَصْفَ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لِنَفْسِهِ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَوَّلْتَهُ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَمَاذَا عَلَيْكَ لَوْ صَدَقْتَ اللَّهَ، وَآمَنْتَ بِمَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ؟ وَبِأَيِّ مُوجِبٍ سَوَّغْتَ لِذِهْنِكَ أَنْ يَخْطُرَ فِيهِ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ ذِكْرِ صِفَةِ الْخَالِقِ؟ هَلْ تَلْتَبِسُ صِفَةُ الْخَالِقِ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ عَنْ أَحَدٍ حَتَّى يَفْهَمَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ؟ فَاخْشَ اللَّهَ يَا إِنْسَانُ، وَاحْذَرْ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَآمِنْ بِمَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفِ اللَّائِقِ بِهِ وَالْوَصْفِ غَيْرِ اللَّائِقِ بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ إِنْسَانٌ فَيَتَحَكَّمَ فِي ذَلِكَ فَيَقُولَ: هَذَا الَّذِي وَصَفْتَ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 نَفْسَكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِكَ، وَأَنَا أَنْفِيهِ عَنْكَ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنْكَ، وَلَا مِنْ رَسُولِكَ، وَآتِيكَ بَدَلَهُ بِالْوَصْفِ اللَّائِقِ بِكَ. فَالْيَدُ مَثَلًا الَّتِي وَصَفْتَ بِهَا نَفْسَكَ لَا تَلِيقُ بِكَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْجَارِحَةِ، وَأَنَا أَنْفِيهَا عَنْكَ نَفْيًا بَاتًّا، وَأُبْدِلُهَا لَكَ بِوَصْفٍ لَائِقٍ بِكَ، وَهُوَ النِّعْمَةُ أَوِ الْقُدْرَةُ مَثَلًا أَوِ الْجُودُ. سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ بَعْضَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَاتِ اللَّهِ الْمُئَوِّلِينَ لَهَا بِمَعَانٍ لَمْ تَرِدْ عَنِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ رَسُولِهِ يُؤْمِنُونَ فِيهَا بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ. فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الصِّفَاتِ السَّبْعَ الَّتِي تُشْتَقُّ مِنْهَا أَوْصَافٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ مَعَ التَّنْزِيهِ، وَنَعْنِي بِهَا الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْحَيَاةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ ; لِأَنَّهَا يُشْتَقُّ مِنْهَا قَادِرٌ حَيٌّ عَلِيمٌ إِلَخْ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْمُلْكِ وَالْجَلَالِ مَثَلًا ; لِأَنَّهَا يُشْتَقُّ مِنْهَا الْعَظِيمُ الْمُتَكَبِّرُ وَالْجَلِيلُ وَالْمَلِكُ، وَهَكَذَا يَجْحَدُونَ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُشْتَقَّ مِنْهَا غَيْرُهَا كَصِفَةِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ بَيْنَ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهَا لَهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَلَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِذْنُ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ وَجَحْدِ بَعْضِهَا وَتَأْوِيلِهِ ; لِأَنَّهَا لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا. وَهَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الِاشْتِقَاقِ مُسَوِّغًا لَجَحْدِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ؟ وَلَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ رَاجَعَ عَقْلَهُ، أَنَّ عَدَمَ الِاشْتِقَاقِ لَا يُرَدُّ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ فِيمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا كَلَامُ رَسُولِهِ فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ. وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْإِيمَانِ إِيجَابًا حَتْمًا كُلِّيًّا هُوَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الَّذِي عَلِمَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ الْمُوجِبُ لِلْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ، سَوَاءٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 بِعِلْمِهِ كَالْمُتَشَابِهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [3 \ 7] . فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [2 \ 284] مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْجَمِيعِ ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. أَمَّا الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، بِأَنَّ هَذَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يُشْتَقُّ مِنْهُ فَقَدْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُتَشَابِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُشْتَقُّ مِنْهُ أَوْ لَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُئِلَ كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ. وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ مَثَلًا وَنَحْوَهُمَا لَيْسَتْ كَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ مَثَلًا ظَهَرَتْ آثَارُهُمَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا كَصِفَةِ الْيَدِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْيَدِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ آدَمَ. وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلَّذِينِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ تَشْبِيهَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ تَنْزِيهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ. فَقَصْدُهُمْ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ طَرِيقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ سَيِّئَةٌ. وَإِنَّمَا نَشَأَ لَهُمْ ذَلِكَ السُّوءُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا لَفْظَ الصِّفَةِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مُشَابَهَةِ صِفَةِ الْخَلْقِ فَنَفَوُا الصِّفَةَ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا لَا تَلِيقُ قَصْدًا مِنْهُمْ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ، وَأَوَّلُوهَا بِمَعْنًى آخَرَ يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ فِي ظَنِّهِمْ فَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقًا وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا دَاخِلِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [33 \ 5] . وَخَطَؤُهُمُ الْمَذْكُورُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوَّلًا، وَجَزَمُوا بِأَنَّ ظَاهِرَ صِفَةِ الْخَالِقِ هُوَ التَّنْزِيهُ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، لَسَلِمُوا مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَالِمٌ كُلَّ الْعِلْمِ، بِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ، مِمَّا مَدَحَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَلَوْ كَانَ يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَلِيقُ ; لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ، لَبَادَرَ كُلَّ الْمُبَادَرَةِ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ وَالتَّشْبِيهُ. فَسُكُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيَانِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا زَعَمَهُ الْمُئَوِّلُونَ لَا أَسَاسَ لَهُ كَمَا تَرَى. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مَثَلًا، إِلَّا كَيْفِيَّةَ الْمَعَانِي الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهَا كَالْجَارِحَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ مَعَانِي الْيَدِ الْمَعْرُوفَةِ فِي اللُّغَةِ، فَبَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مُلَائِمَةً لِمَا ذَكَرْتُمْ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْرِكُ كَيْفِيَّاتِ صِفَاتِ اللَّهِ مِنْ لُغَتِهَا، لِشِدَّةِ مُنَافَاةِ صِفَةِ اللَّهِ لِصِفَةِ الْخَلْقِ. وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ عُقُولُهُمْ كَيْفِيَّاتٍ إِلَّا لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، فَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ كَيْفِيَّةً لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، إِلَّا هَذِهِ الْمُشَاهَدَةَ فِي حَاسَّةِ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ، أَمَّا سَمْعٌ لَا يَقُومُ بِأُذُنٍ، وَبَصَرٌ لَا يَقُومُ بِحَدَقَةٍ، فَهَذَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ كَيْفِيَّةً الْبَتَّةَ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَبَيْنَ الْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ، فَالَّذِي تَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَتِهَا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 وَأَمَّا الَّذِي اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ كَيْفِيَّةً، وَلَا حَدًّا لِمُخَالَفَةِ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَصْلَ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ. كَمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَنَّ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَالرَّازِقِ وَالْمَرْزُوقِ، وَالْمُحْيِي وَالْمُحْيَا، وَالْمُمِيتِ وَالْمَمَاتِ - فَوَارِقَ عِظْيَمَةً لَا حَدَّ لَهَا تَسْتَلْزِمُ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ، بَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لِمَنْ قَالَ: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مُلَائِمَةً لِمَا ذَكَرْتُمْ، مِنْ كَوْنِهَا صِفَةَ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، مُنَزَّهَةً عَنْ مُشَابَهَةِ جَارِحَةِ الْمَخْلُوقِ. هَلْ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْيَدِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: لَا. فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ. قُلْنَا: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ. فَالذَّاتُ وَالصِّفَاتُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ. فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ - جَلَّ وَعَلَا - تُخَالِفُ جَمِيعَ الذَّوَاتِ، فَإِنَّ صِفَاتِهِ تُخَالِفُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَاتِ تَخْتَلِفُ وَتَتَبَايَنُ بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفَاتِهَا. أَلَّا تَرَى مَثَلًا أَنَّ لَفْظَةَ رَأْسٍ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؟ إِنْ أَضَفْتَهَا إِلَى الْإِنْسَانِ، فَقُلْتَ: رَأَسُ الْإِنْسَانِ، وَإِلَى الْوَادِي، فَقُلْتَ: رَأَسُ الْوَادِي، وَإِلَى الْمَالِ، فَقُلْتَ: رَأْسُ الْمَالِ، وَإِلَى الْجَبَلِ، فَقُلْتَ: رَأَسُ الْجَبَلِ. فَإِنَّ كَلِمَةَ الرَّأْسِ اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا، وَتَبَايَنَتْ تَبَايُنًا شَدِيدًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ إِضَافَتِهَا، مَعَ أَنَّهَا فِي مَخْلُوقَاتٍ حَقِيرَةٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 فَمَا بَالُكَ بِمَا أُضِيفَ مِنَ الصِّفَاتِ إِلَى اللَّهِ، وَمَا أُضِيفَ مِنْهَا إِلَى خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ يَتَبَايَنُ كَتَبَايُنِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا لَا يَخْفَى. فَاتَّضَحَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِ الْمُقْرِئِ فِي إِضَاءَتِهِ: وَالنَّصُّ إِنْ أَوْهَمَ غَيْرَ اللَّائِقِ شَرْطٌ مَفْقُودٌ قَطْعًا ; لِأَنَّ نُصُوصَ الْوَحْيِ الْوَارِدَةَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ لَا تَدُلُّ ظَوَاهِرُهَا الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِخَلْقِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرَاجِعُونَ عُقُولَهُمْ، لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى ذِهْنِ الْمُسْلِمِ هُوَ مُخَالَفَةُ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [42 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [112 \ 4] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَاصْرِفْهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا إِجْمَاعٌ مَفْقُودٌ أَصْلًا، وَلَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ لَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ. فَالْإِجْمَاعُ الْمَعْدُومُ الْمَزْعُومُ لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ تَابِعِيهِمْ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْمَعْرُوفِينَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ظَوَاهِرَ نُصُوصِ الْوَحْيِ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، وَهَذَا الظَّاهِرُ الَّذِي هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ لَا دَاعِيَ لِصَرْفِهَا عَنْهُ كَمَا تَرَى. وَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ قُلْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا ; لِأَنَّا نَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَكٌّ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا، لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى التَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ وَاتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. وَإِثْبَاتُ التَّنْزِيهِ وَالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ لِلَّهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا - لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ. وَمِمَّا يَدْعُو إِلَى التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ، وَنَفْيِ الْمَجَازِ، كَثْرَةُ الْجَاهِلِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مَجَازَاتٌ. وَجَعَلُوا ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى نَفْيِهَا ; لِأَنَّ الْمَجَازَ يَجُوزُ نَفْيُهُ، وَالْحَقِيقَةُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا. فَقَالُوا مَثَلًا: الْيَدُ مَجَازٌ يُرَادُ بِهِ الْقُدْرَةُ وَالنِّعْمَةُ أَوِ الْجُودُ، فَنَفَوْا صِفَةَ الْيَدِ، لِأَنَّهَا مَجَازٌ. وَقَالُوا: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مَجَازٌ فَنَفَوُا الِاسْتِوَاءَ ; لِأَنَّهُ مَجَازٌ. وَقَالُوا: مَعْنَى «اسْتَوَى» اسْتَوْلَى، وَشَبَّهُوا اسْتِيلَاءَهُ بِاسْتِيلَاءِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ. وَلَوْ تَدَبَّرُوا كِتَابَ اللَّهِ لِمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَبْدِيلِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَتَبْدِيلِ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ أَوِ النِّعْمَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [2 \ 59] ، وَيَقُولُ فِي الْأَعْرَافِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ [7 \ 162] ، فَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ هُوَ قَوْلُهُ «حِطَّةٌ» وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ بِمَعْنَى الْوَضْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ دُعَاؤُنَا وَمَسْأَلَتُنَا لَكَ حِطَّةٌ لِذُنُوبِنَا، أَيْ حَطٌّ وَوَضْعٌ لَهَا عَنَّا فَهِيَ بِمَعْنَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ زَادُوا نُونًا فَقَالُوا: حِنْطَةٌ، وَهِيَ الْقَمْحُ. وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ قِيلَ لَهُمْ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، فَزَادُوا لَامًا، فَقَالُوا: اسْتَوْلَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 وَهَذِهِ اللَّامُ الَّتِي زَادُوهَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالنُّونِ الَّتِي زَادَهَا الْيَهُودُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ. وَيَقُولُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَنْعِ تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ بَدَّلَ اسْتَوَى بِاسْتَوْلَى مَثَلًا لَمْ يَتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِعْلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ التَّبْدِيلَ وَيَخَافَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، الَّذِي خَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ عَصَى اللَّهَ فَبَدَّلَ قُرْآنًا بِغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وَالْيَهُودُ لَمْ يُنْكِرُوا أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ: هُوَ لَفْظُ حِطَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ حَرَّفُوهُ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَمْ يُنْكِرُوا أَنَّ كَلِمَةَ الْقُرْآنِ هِيَ اسْتَوَى، وَلَكِنْ حَرَّفُوهَا وَقَالُوا فِي مَعْنَاهَا: اسْتَوْلَى وَإِنَّمَا أَبْدَلُوهَا بِهَا ; لِأَنَّهَا أَصْلَحُ فِي زَعْمِهِمْ مِنْ لَفْظِ كَلِمَةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقُرْآنِ تُوهِمُ غَيْرَ اللَّائِقِ، وَكَلِمَةُ اسْتَوْلَى فِي زَعْمِهِمْ هِيَ الْمُنَزِّهَةُ اللَّائِقَةُ بِاللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ تَشْبِيهٌ أَشْنَعُ مِنْ تَشْبِيهِ اسْتِيلَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَزْعُومِ، بِاسْتِيلَاءِ بِشْرٍ عَلَى الْعِرَاقِ. وَهَلْ كَانَ أَحَدٌ يُغَالِبُ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ حَتَّى غَلَبَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يُوجَدُ شَيْءٌ إِلَّا وَاللَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ الْعَرْشِ؟ فَافْهَمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْمُئَوِّلَ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ يُوهِمُ غَيْرَ اللَّائِقِ بِاللَّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ مُشَابَهَةَ اسْتِوَاءِ الْخَلْقِ، وَجَاءَ بَدَلَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ هُوَ اللَّائِقُ بِهِ فِي زَعْمِهِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ. لِأَنَّ تَشْبِيهَ اسْتِيلَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِاسْتِيلَاءِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ هُوَ أَفْظَعُ أَنْوَاعِ التَّشْبِيهِ، وَلَيْسَ بِلَائِقٍ قَطْعًا، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْمَزْعُومَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ اسْتِيلَاءِ الْخَلْقِ، مَعَ أَنَّهُ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِاسْتِيلَاءِ بِشَرٍ عَلَى الْعِرَاقِ وَاللَّهُ يَقُولُ: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 74] . وَنَحْنُ نَقُولُ: أَيُّهَا الْمُئَوِّلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، نَحْنُ نَسْأَلُكَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْزِيهِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي لَفْظَ اسْتَوَى الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْمَلَكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْآنًا يُتْلَى، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَفَرَ. وَلَفْظَةُ اسْتَوْلَى الَّتِي جَاءَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ. فَأَيُّ الْكَلِمَتَيْنِ أَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ فِي رَأْيِكَ. الْأَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ كَلِمَةُ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ، أَمْ كَلِمَتُكُمُ الَّتِي جِئْتُمْ بِهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ أَصْلًا؟ وَنَحْنُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، عَنْ هَذَا السُّؤَالِ إِنْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ صِفَةٍ يُشْتَقُّ مِنْهَا وَصْفٌ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ. وَبَيْنَ صِفَةٍ لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ. وَأَنَّ تَأْوِيلَ الصِّفَاتِ كَتَأْوِيلِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ. هُوَ مُعْتَقَدُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مُعْتَقَدُ عَامَّةِ السَّلَفِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ. فَمَنِ ادَّعَى عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ يُئَوِّلُ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِ افْتِرَاءً عَظِيمًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 بَلِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي صَنَّفَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنِ الِاعْتِزَالِ، (كَالْمُوجَزِ) ، (وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ) ، (وَالْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ) أَنَّ مُعْتَقَدَهُ الَّذِي يَدِينُ اللَّهَ بِهِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيْرٍ كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُ، وَلَا الْقَوْلُ بِالْمَجَازِ فِيهِ. وَأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ. وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ إِمَامٍ فِي مَذْهَبِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ، وَسَنَذْكُرُ لَكَ هُنَا بَعْضَ نُصُوصِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَعْلَمَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ) الَّذِي قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ آخِرُ كِتَابٍ صَنَّفَهُ، مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمُ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ، وَدِيَانَتَكُمُ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ، قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا، التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ، وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ، وَلِمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ. لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ بِهِ الْحَقَّ وَرَفَعَ بِهِ الضَّلَالَ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ، وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إِمَامٍ مُقَدَّمٍ وَخَلِيلٍ مُعَظَّمٍ مُفَخَّمٍ، وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا: أَنَّا نُقِرُّ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَرْدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حُقٌّ، وَالسَّاعَةُ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5] ، وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [55 \ 27] ، وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، وَكَمَا قَالَ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [5 \ 64] ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنَانِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [54 \ 14] . انْتَهَى مَحَلٌّ الْغَرَضُ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَفْتَرِي عَلَى الْأَشْعَرِيِّ - أَنَّهُ مِنَ الْمُئَوِّلِينَ الْمُدَّعِينَ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ - كَاذِبٌ عَلَيْهِ كَذِبًا شَنِيعًا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ أَيْضًا فِي إِثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى مَا نَصُّهُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ: نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [35 \ 10] ، وَقَدْ قَالَ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 158] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [32 \ 5] ، وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [40 \ 36] . فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ) . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ. فَالسَّمَاوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ قَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ، فَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ. هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَطَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ، وَصِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا. وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَا نَصُّهُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْقُدْرَةِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ذَكَرُوهُ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ، وَعَلَى كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ. فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ عَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اسْتِوَاءً يَخْتَصُّ الْعَرْشَ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَزَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَرُورِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ. وَهَذَا خِلَافُ الدِّينِ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. اهـ. هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ، وَهُوَ كِتَابُ الْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ. وَتَرَاهُ صَرَّحَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ لَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَقَامَ الْبَرَاهِينَ الْوَاضِحَةَ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ. فَلْيَعْلَمْ مُئَوِّلُو الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ أَنَّ سَلَفَهُ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْحَرُورِيَّةُ، لَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الْآيَةَ [6 \ 3] أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ - قَوْلٌ بَاطِلٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَةِ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ وَأَصْغَرُ، مِنْ أَنْ يَسَعَ شَيْءٌ مِنْهَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ. فَانْظُرْ إِيضَاحَ ذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ، مِنْ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْجِهَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَتَأْوِيلُهَا بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي كُلُّهُ بَاطِلٌ. وَسَبَبُهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمُدَّعِي لُزُومِ الْجِهَةِ لِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَاسْتِلْزَامُ ذَلِكَ لِلنَّقْصِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْوِيلِ يُقَالُ لَهُ: مَا مُرَادُكَ بِالْجِهَةِ؟ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَكَانًا مَوْجُودًا انْحَصَرَ فِيهِ اللَّهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ الْعَدَمَ الْمَحْضَ. فَالْعَدَمُ عِبَارَةٌ عَنْ لَا شَيْءٍ. فَمَيِّزْ أَوَّلًا بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ، وَبَيْنَ لَا شَيْءٍ. وَقَدْ قَالَ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ: فَإِنْ سُئِلْنَا: أَتَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ يَدَيْنِ؟ قِيلَ: نَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [48 \ 10] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] . وَأَطَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَلَامَ فِي ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةِ الْيَدَيْنِ لِلَّهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ مَا نَصُّهُ: وَيُقَالُ لَهُمْ: لِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنَى بِقَوْلِهِ: يَدَيَّ يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ. فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّ الْيَدَ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 قِيلَ لَهُمْ: وَلِمَ قَضَيْتُمْ أَنَّ الْيَدَ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً؟ فَإِنَّ رُجُوعَنَا إِلَى شَاهِدِنَا، وَإِلَى مَا نَجِدُهُ فِيمَا بَيْنَنَا مِنَ الْخَلْقِ؟ فَقَالُوا: الْيَدُ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً فِي الشَّاهِدِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً. قِيلَ لَهُمْ: إِنْ عَمِلْتُمْ عَلَى الشَّاهِدِ وَقَضَيْتُمْ بِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ حَيًّا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا جِسْمًا لَحْمًا وَدَمًا، فَاقْضُوا بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِلَّا فَأَنْتُمْ لِقَوْلِكُمْ مُتَأَوِّلُونَ وَلِاعْتِلَالِكُمْ نَاقِضُونَ. وَإِنْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا لَا كَالْأَحْيَاءِ مِنَّا. فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْيَدَانِ اللَّتَانِ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمَا، يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ، وَلَا جَارِحَتَيْنِ، وَلَا كَالْأَيْدِي؟ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: لَمْ تَجِدُوا مُدَبِّرًا حَكِيمًا إِلَّا إِنْسَانًا، ثُمَّ أَثْبَتُّمْ أَنَّ لِلدُّنْيَا مُدَبِّرًا حَكِيمًا، لَيْسَ كَالْإِنْسَانِ، وَخَالَفْتُمُ الشَّاهِدَ وَنَقَضْتُمُ اعْتِلَالَكُمْ. فَلَا تَمْنَعُوا مِنْ إِثْبَاتِ يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الشَّاهِدِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُئَوِّلُونَ كَصِفَةِ الْيَدِ، مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَالْحَيَاةِ وَنَحْوِهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ صِفَةِ الْيَدِ وَصِفَةِ الْحَيَاةِ فَمَا اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْخَلْقُ مِنْهُ. وَاللَّازِمُ لِمَنْ شَبَّهَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَنَزَّهَ فِي بَعْضِهَا أَنْ يُشْبِّهَ فِي جَمِيعِهَا أَوْ يُنَزِّهَ فِي جَمِيعِهَا، كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ. أَمَّا ادِّعَاءُ ظُهُورِ التَّشْبِيهِ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ خَلْقِهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ مَا نَصُّهُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [36 \ 71] ، وَقَوْلُهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] عَلَى الْمَجَازِ؟ . قِيلَ لَهُ: حُكْمُ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَا يَخْرُجُ الشَّيْءُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا لِحُجَّةٍ. أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ الْعُمُومَ، فَإِذَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، فَلَيْسَ هُوَ عَلَى حَقِيقَةِ الظَّاهِرِ؟ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ عَنِ الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؟ كَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ ظَاهِرِ الْيَدَيْنِ إِلَى مَا ادَّعَاهُ خُصُومُنَا إِلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَهُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا ظَاهَرُهُ الْخُصُوصُ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا لِمُدَّعِيهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ لَمْ يَجُزْ لَكُمْ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ أَنَّهُ مَجَازٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إِثْبَاتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ نِعْمَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ النِّعْمَتَانِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: فَعَلْتُ بِيَدِيَّ وَهُوَ يَعْنِي النِّعْمَتَيْنِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِيهِ تَصْرِيحُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ كَصِفَةِ الْيَدِ ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَأَنَّ الْمُدَّعِينَ أَنَّهَا مَجَازٌ هُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ كَمَا تَرَى. وَإِنَّمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِهَا حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ ظَاهِرَ صِفَةِ اللَّهِ هُوَ مُخَالَفَةُ صِفَةِ الْخَلْقِ، وَتَنْزِيهُهَا عَنْ مُشَابَهَتِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ كُلِّهِمْ. فَإِثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ وَنَفْيُ الْمَجَازِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ هُوَ اعْتِقَادُ كُلِّ مُسْلِمٍ طَاهِرِ الْقَلْبِ مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الصِّفَةِ كَصِفَةِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ إِلَّا أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 فَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ التَّشْبِيهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ نَفْيِ الصِّفَةِ وَتَأْوِيلِهَا بِمَعْنًى لَا أَصْلَ لَهُ. تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ فَإِنْ قِيلَ: دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [5 \ 64] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الْآيَةَ [39 \ 67] . وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ كَثِيرَةٌ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ الْأَيْدِي مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [36 \ 71] ، فَلِمَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَقْدِيمِ آيَةِ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَلَى آيَةِ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صِيَغَ الْجُمُوعِ تَأْتِي لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إِرَادَةُ التَّعْظِيمِ فَقَطْ، فَلَا يَدْخُلُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ تَعَدُّدٌ أَصْلًا، لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ الْمُرَادَ بِهَا التَّعْظِيمُ - إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ. وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَكْثُرُ فِيهِ جِدًّا إِطْلَاقُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى نَفْسِهِ صِيغَةَ الْجَمْعِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَدُّدًا وَلَا أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا وَفِي قَوْلِهِ: نَحْنُ وَفِي قَوْلِهِ: نَزَّلْنَا وَقَوْلِهِ: لَحَافِظُونَ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ مَعَهُ مُنَزِّلًا لِلذِّكْرِ، وَحَافِظًا لَهُ غَيْرَهُ تَعَالَى. بَلْ هُوَ وَحْدَهُ الْمُنَزِّلُ لَهُ وَالْحَافِظُ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 58 - 59] ، وَقَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69] ، وَقَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [56 \ 72] ، وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا. وَفِي قَوْلِهِ: خَلَقْنَا وَفِي قَوْلِهِ: عَمِلَتْ أَيْدِينَا إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، وَلَا يُرَادُ بِهَا التَّعَدُّدُ أَصْلًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 وَإِذَا كَانَ يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، لَا التَّعَدُّدُ؛ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِهَا مُعَارِضَةُ قَوْلِهِ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى صِفَةِ الْيَدَيْنِ. وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: أَيْدِينَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ فَيَطْلُبُ الدَّلِيلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْظِيمِ وَاحِدٌ حُكِمَ بِذَلِكَ، كَالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ حُكِمَ بِهِ. فَقَوْلُهُ مَثَلًا: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ، قَامَ فِيهِ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ أَنَّهُ حَافِظٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 59] ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69] ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [56 \ 72] ، فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ وَاحِدٌ، وَمُنْزِلٌ وَاحِدٌ، وَمُنْشِئٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [36 \ 71] ، فَقَدْ دَلَّ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا. وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 59] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69] ، وَقَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [56 \ 72] ، وَقَوْلِهِ: خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [36 \ 71] ، لَا يُرَادُ بِشَيْءٍ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ فَقَطْ. وَقَدْ أَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فِي الْمَعْنَى. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِعْمَالًا خَاصًّا، بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا تُقْصَدُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّعْمَةُ وَلَا الْجَارِحَةُ وَلَا الْقُدْرَةُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَى أَمَامٍ. وَاللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ لَفْظَةُ الْيَدَيْنِ الَّتِي أُضِيفَتْ إِلَيْهَا لَفْظَةُ «بَيْنَ» خَاصَّةً، أَعْنِي لَفْظَةَ «بَيْنَ يَدَيْهِ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَمَامُهُ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يُقْصَدُ فِيهِ مَعْنَى الْجَارِحَةِ وَلَا النِّعْمَةِ وَلَا الْقُدْرَةِ، وَلَا أَيَّ صِفَةٍ كَائِنَةٍ مَا كَانَتْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَمَامٌ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [34 \ 31] ، أَيْ وَلَا بِالَّذِي كَانَ أَمَامَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ. وَكَقَوْلِهِ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ [5 \ 46] ، أَيْ مُصَدِّقًا لِمَا كَانَ أَمَامَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَكَقَوْلِهِ: فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [41 \ 25] ، فَالْمُرَادُ بِلَفْظِ «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» مَا أَمَامَهُمْ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [7 \ 57] ، أَيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ أَمَامَ رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَطَرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُ الْيَدَيْنِ فِي ذَلِكَ بِنِعْمَتَيْنِ وَلَا قُدْرَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ. وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَهَذَا أُسْلُوبٌ خَاصٌّ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ. بِلَفْظٍ خَاصٍّ مَشْهُورٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا صِلَةَ لَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْجَارِحَةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَلَا بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. فَافْهَمْ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ «مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ الْمُصَلِّينَ» الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالْمُئَوِّلِينَ وَالنَّافِينَ لِصِفَاتِ اللَّهِ أَوْ بَعْضِهَا مَا نَصُّهُ: جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا قَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5] ، وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، وَكَمَا قَالَ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [5 \ 64] . إِلَى أَنْ قَالَ فِي كَلَامِهِ هَذَا بَعْدَ أَنْ سَرَدَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - مَا نَصُّهُ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ وَيَرَوْنَهُ، وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ، وَإِلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 نَذْهَبُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلَّا بِاللَّهِ، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَنْفِيهِ بَلْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيُثْبِتُهُ لِلَّهِ، بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَإِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَا نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فِي الْقَوْلِ، بَلْ نَقُولُ: اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ. ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَتَرَاهُ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ، بِأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا قَوْلُهُ هُوَ، وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَزَادَ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ الْجَهْمِيَّةَ وَالْحَرُورِيَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا. وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنِ الِاعْتِزَالِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ بِالْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [7 \ 54] . وَاعْلَمْ أَنَّ أَئِمَّةَ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ رَجَعُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَأْمُونِ الْعَاقِبَةِ ; لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا، لَا تَلِيقُ بِاللَّهِ لِظُهُورِهَا وَتَبَادُرِهَا فِي مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ. ثُمَّ نَفْيِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، لِأَجْلِ تِلْكَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ الْمَشْئُومَةِ، ثُمَّ تَأْوِيلِهَا بِأَشْيَاءَ أُخَرَ، دُونَ مُسْتَنَدٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَكُلُّ مَذْهَبٍ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِنَّهُ جَدِيرٌ بِالْعَاقِلِ الْمُفَكِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ صَادِرٌ عَنْ خَبِيرٍ بِاللَّهِ، وَبِصِفَاتِهِ عَالِمٌ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَبِمَا لَا يَلِيقُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [25 \ 59] . فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا، بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ، تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ وَصَفَ الرَّحْمَنَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ خَبِيرٌ بِالرَّحْمَنِ وَبِصِفَاتِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ اللَّائِقُ مِنَ الصِّفَاتِ وَغَيْرُ اللَّائِقِ. فَالَّذِي نَبَّأَنَا بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ هُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [35 \ 14] . وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ - غَيْرُ خَبِيرٍ، نَعَمْ وَاللَّهِ هُوَ غَيْرُ خَبِيرٍ. وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمَشْهُورِينَ رَجَعُوا كُلُّهُمْ عَنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ. أَمَّا كَبِيرُهُمُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمِنُ بِالصِّفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَيَمْنَعُ تَأْوِيلَهَا مَنْعًا بَاتًّا، وَيَقُولُ فِيهَا بِمِثْلِ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَسَنَذْكُرُ لَكَ هُنَا بَعْضَ كَلَامِهِ. قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ: بَابٌ فِي أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجْهًا وَيَدَيْنِ؟ قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [55 \ 27] . وَقَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ. فَإِنْ قَالُوا: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ، لِأَنَّ الْيَدَ فِي اللُّغَةِ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَبِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، كَمَا يُقَالُ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدٌ بَيْضَاءُ. يُرَادُ بِهِ نِعْمَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 وَكَمَا يُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ فِي يَدِ فُلَانٍ وَتَحْتَ يَدِ فُلَانٍ، يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَفِي مُلْكِهِ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَيْدٍ إِذَا كَانَ قَادِرًا. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [36 \ 71] ، يُرِيدُ عَمِلْنَا بِقُدْرَتِنَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يَعْنِي بِقُدْرَتِي أَوْ نِعْمَتِي. يُقَالُ لَهُمْ هَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِيَدَيَّ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ يَدَيْنِ هُمَا صِفَةٌ لَهُ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْقُدْرَةُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُدْرَتَانِ. وَأَنْتُمْ لَا تَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْبَارِّي سُبْحَانَهُ قُدْرَةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتُوا لَهُ قُدْرَتَيْنِ؟ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَالنَّافِينَ لَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَعَالَى قُدْرَتَانِ فَبَطَلَ مَا قُلْتُمْ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِنِعْمَتَيْنِ ; لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَعَلَى غَيْرِهِ لَا تُحْصَى. وَلِأَنَّ الْقَائِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: رَفَعْتُ الشَّيْءَ بِيَدَيَّ أَوْ وَضَعْتُهُ بِيَدَيَّ أَوْ تَوَلَّيْتُهُ بِيَدَيَّ وَهُوَ يَعْنِي نِعْمَتَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدَانِ يَعْنِي نِعْمَتَيْنِ. وَإِنَّمَا يُقَالُ لِي عِنْدَهُ يَدَانِ بَيْضَاوَانِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ: يَدٌ - لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ ذَلِكَ إِبْلِيسُ، وَعَنْ أَنْ يَقُولَ: وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلِيَّ يَقْتَضِي أَنْ أَسْجُدَ لَهُ، وَأَنَا أَيْضًا بِيَدِكَ خَلَقْتَنِي الَّتِي هِيَ قُدْرَتُكَ وَبِنِعْمَتِكَ خَلَقْتَنِي؟ وَفِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ آدَمَ عَلَيْهِ بِخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ - دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً؟ إِذْ كُنْتُمْ لَمْ تَعْقِلُوا يَدَ صِفَةٍ وَوَجْهَ صِفَةٍ لَا جَارِحَةً. يُقَالُ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجِبُ إِذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إِلَّا جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَكَمَا لَا يَجِبُ مَتَى كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا، لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمَ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إِلَّا كَذَلِكَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَرَى أَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ، وَصِفَةَ الْيَدِ، وَصِفَةَ الْعِلْمِ، وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ كُلَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي، وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا، وَجَمِيعُ صِفَاتِ اللَّهِ مُخَالَفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالُوا: فَهَلْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ قِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [35 \ 10] ، وَقَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ. وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَكَانَ فِي جَوْفِ الْإِنْسَانِ وَفَمِهِ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الْأَمَاكِنِ إِذْ خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُ، وَيَنْقُصَ بِنُقْصَانِهَا إِذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ. وَلَصَحَّ أَنْ يُرْغَبَ إِلَيْهِ إِلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى وَرَاءِ ظُهُورِنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَشَمَائِلِنَا. وَهَذَا مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقَهْرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَادِرًا قَاهِرًا عَزِيزًا مُقْتَدِرًا. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [25 \ 59] ، يَقْتَضِي اسْتِفْتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَيُبْطِلُ مَا قَالُوهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَفَصِّلُوا لِي صِفَاتَ ذَاتِهِ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ، لِأَعْرِفَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: صِفَاتُ ذَاتِهِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا. وَهِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ وَالْبَقَاءُ وَالْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ وَالْيَدَانِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ نَقَلْنَاهُ مِنْ نُسْخَةٍ هِيَ أَجْوَدُ نُسْخَةٍ مَوْجُودَةٍ لِكِتَابِ التَّمْهِيدِ لِلْبَاقِلَانِيِّ الْمَذْكُورِ. وَتَرَى تَصْرِيحَهُ فِيهَا بِأَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ، أَبَا الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيَّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ قَرَّرَ التَّأْوِيلَ وَانْتَصَرَ لَهُ فِي كِتَابِهِ الْإِرْشَادِ. وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ الْعَقِيدَةُ النِّظَامِيَّةُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَامْتَنَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ فَحْوَاهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مُوجَبِ مَا تُبْرِزُهُ أَفْهَامُ أَرْبَابِ اللِّسَانِ مِنْهَا. فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا، وَالْتِزَامَ هَذَا الْمَنْهَجِ فِي آيِ الْكِتَابِ، وَفِيمَا صَحَّ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَالَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ لِلَّهِ بِهِ عَقَدًا - اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَالْأَوْلَى الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعَ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُشْتَغِلُونَ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ. وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جُهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدَ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوِّغًا أَوْ مَحْتُومًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. فَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنِ التَّأْوِيلِ كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ بِحَقٍّ. فَعَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ. وَمِمَّا اسْتُحْسِنَ مِنْ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5] ، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. فَلْتُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَقَوْلَهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [55 \ 27] ، وَقَوْلَهُ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [54 \ 14] ، وَمَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَذَا بَيَانُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ أَنَّ رُجُوعَ الْجُوَيْنِيِّ فِيهَا إِلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ. وَكَذَلِكَ أَبُو حَامِدِ الْغَزَالِيِّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ. وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إِلْجَامُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ - هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ، أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْبُرْهَانَ الْكُلِّيَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ وَحْدَهُ يَنْكَشِفُ بِتَسْلِيمِ أَرْبَعَةِ أُصُولٍ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِصَلَاحِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَلَّغَ كُلَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ صَلَاحِ الْعِبَادِ فِي مَعَادِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ بِمَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَحْرَاهُمْ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِهِ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ. وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي طُولِ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ أَعْمَارِهِمْ مَا دَعَوُا الْخَلْقَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنَ الدِّينِ أَوْ عِلْمِ الدِّينِ لَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَدَعَوْا إِلَيْهِ أَوْلَادَهُمْ وَأَهْلَهُمْ. ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ نَعْلَمُ بِالْقَطْعِ أَنَّ الْحَقَّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابَ مَا رَأَوْهُ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْغَزَالِيِّ هَذَا لِأَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ - اسْتِدْلَالٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَوُضُوحِ وَجْهِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ سَائِغًا أَوْ لَازِمًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَلِقَالَ بِهِ أَصْحَابُهُ وَتَابَعُوهُمْ كَمَا لَا يَخْفَى. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ إِلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَحِفْظِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَعَلَى صَدْرِهِ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ أَعْظَمَ أَئِمَّةِ التَّأْوِيلِ - رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ هِيَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابَهُ: أَقْسَامُ اللَّذَّاتِ: لَقَدِ اخْتَبَرْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَلَمْ أَجِدْهَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَلَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5] ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [35 \ 10] ، وَفِي النَّفْيِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [42 \ 11] ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [19 \ 65] ، وَمُنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. اهـ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَبْيَاتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلٌ وَقَالُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 إِلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ. وَكَذَلِكَ غَالِبُ أَكَابِرِ الَّذِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِهِمْ أَمْرُهُمْ إِلَى الْحَيْرَةِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا كَانُوا يُقَرِّرُونَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْفَلْسَفَةِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنِ الَّذِي قَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ؟ وَذَكَرُوا عَنِ الشِّهْرِسْتَانِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ: لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارَعًا سِنَّ نَادِمٍ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ. فَيَا أَيُّهَا الْمُعَاصِرُونَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِدَعْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا خَبِيثٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ التَّشْبِيهَ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ نَفْيُهَا وَتَأْوِيلُهَا بِمَعَانٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَقُلْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ. فَمَنْ هُوَ سَلَفُكُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ الْمُخَالِفَةِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ؟ إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِكُمْ، وَأَنَّهُ سَلَفُكُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْكُمْ وَمِنْ دَعْوَاكُمْ. وَهُوَ مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ، كَمَا أَوْضَحْنَا كَلَامَهُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْمَقَالَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسَاطِينَ الْقَوْلِ بِالتَّأْوِيلِ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ التَّأْوِيلَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَأَنَّ الْحَقَّ هُوَ اتِّبَاعُ مَذْهَبِ السَّلَفِ كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرْنَا. فَنُوصِيكُمْ وَأَنْفُسَنَا بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَلَّا تُجَادِلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاكُمْ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [40 \ 56] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 وَيَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [31 \ 20 - 21] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاجْتِهَادِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدَّمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ مَا هُوَ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ الْكَرِيمِ، وَبَسَطْنَا أَدِلَّةَ ذَلِكَ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [21 \ 78] . وَبَيَّنَّا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 \ 36] ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَغَرَضُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَانْتِفَاعَ مُتَدَبِّرِهِ بِالْعَمَلِ بِمَا عَلِمَ مِنْهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْصِيلِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ بِشُرُوطِهِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ. اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِمَنْعِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُطْلَقًا إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ، يَقُولُونَ: إِنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ هِيَ كَوْنُ الْمُجْتَهِدِ بَالِغًا، عَاقِلًا شَدِيدَ الْفَهْمِ. طَبْعًا عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، الَّذِي هُوَ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، حَتَّى يَرِدُ نَقْلٌ صَارِفٌ عَنْهُ. عَارِفًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالنَّحْوِ مِنْ صَرْفٍ وَبَلَاغَةٍ مَعَ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ فَنِّ الْمَنْطِقِ كَشَرَائِطِ الْحُدُودِ، وَالرُّسُومِ، وَشَرَائِطِ الْبُرْهَانِ. عَارِفًا بِالْأُصُولِ، عَارِفًا بِأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ حِفْظُ النُّصُوصِ، بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمْ عِلْمُهُ بِمَدَارِكِهَا فِي الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ. عَارِفًا بِمَوَاقِعَ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ. عَارِفًا بِشُرُوطِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْآحَادِ وَالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ. عَارِفًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. عَارِفًا بِأَسْبَابِ النُّزُولِ. عَارِفًا بِأَحْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَأَحْوَالِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، اخْتَلَفُوا فِي شَرْطِ عَدَمِ إِنْكَارِهِ لِلْقِيَاسِ. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِمْ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ لَيْسَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ يُصَرِّحُ بِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كُلَّهَا لَا يَصِحُّ دُونَهَا عَمَلٌ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعًا دَالًّا عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فِي ظَنِّهِمْ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشْتَرَطُ لَهُ إِلَّا شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِحُكْمِ مَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْهُمَا. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ بِالْوَحْيِ شَرْطٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ بِحُكْمِهِ الْبَتَّةَ. وَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ. وَمُرَادُ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ بِجَمِيعِ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ. لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْوَحْيِ لَمَّا كَانَ هُوَ مَنَاطَ الْعَمَلِ بِهِ أَرَادُوا أَنْ يُحَقِّقُوا هَذَا الْمَنَاطَ، أَيْ يُبَيِّنُوا الطُّرُقَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا حُصُولُ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْعَمَلِ. فَاشْتَرَطُوا جَمِيعَ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ دُونَهَا. وَهَذَا الظَّنُّ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ فَهْمٌ إِذَا أَرَادَ الْعَمَلَ بِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَلَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَعْنَاهُ وَيَبْحَثَ عَنْهُ، هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُخَصَّصٌ أَوْ مُقَيَّدٌ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ فَيَعْمَلَ بِهِ. وَسُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَلْ لِهَذَا النَّصِّ نَاسِخٌ أَوْ مُخَصِّصٌ أَوْ مُقَيِّدٌ مَثَلًا. وَإِخْبَارُهُمْ بِذَلِكَ لَيْسَ مَنْ نَوْعِ التَّقْلِيدِ، بَلْ هُوَ مَنْ نَوْعِ الِاتِّبَاعِ. وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهَ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فِي مَسْأَلَةِ التَّقْلِيدِ الْآتِيَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَارِدَةٌ بِإِلْزَامِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّخْصِيصُ بِمَنْ حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمَذْكُورَةَ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهَا لِنُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِتَحْصِيلِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [7 \ 3] ، وَالْمُرَادُ بِـ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ هُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ لَا آرَاءُ الرِّجَالِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [4 \ 61] . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَصَدَّ عَنْ ذَلِكَ - أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ. وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [4 \ 59] ، وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ. وَتَعْلِيقُهُ الْإِيمَانَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ عَلَى رَدِّ التَّنَازُعِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يَرُدُّ التَّنَازُعَ إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [39 \ 55] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، وَالسُّنَّةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 مُبَيِّنَةٌ لَهُ، وَقَدْ هَدَّدَ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [39 \ 18] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ أَحْسَنُ مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [59 \ 7] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَقْوَالَ الرِّجَالِ تَكْفِي عَنْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [33 \ 21] ، وَالْأُسْوَةُ: الِاقْتِدَاءُ، فَيَلْزَمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَجْعَلَ قُدْوَتَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [4 \ 65] ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [28 \ 50] . وَالِاسْتِجَابَةُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى سُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَّبِعُ شَيْئًا إِلَّا الْوَحْيَ، وَأَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [6 \ 50] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَحْقَافِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [46 \ 9] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ الْآيَةَ [21 \ 45] ، فَحَصَرَ الْإِنْذَارَ فِي الْوَحْيِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي الْآيَةَ [34 \ 50] ، فَبَيَّنَ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ إِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَإِذَا عَلِمْتَ مِنْهَا أَنَّ طَرِيقَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ اتِّبَاعُ الْوَحْيِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 80] ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [3 \ 31] . وَلَمْ يَضْمَنِ اللَّهُ لِأَحَدٍ أَلَّا يَكُونَ ضَالًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لِمُتَّبِعِي الْوَحْيِ وَحْدَهُ. قَالَ تَعَالَى فِي طه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [20 \ 123] ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ طه هَذِهِ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّلَالِ وَالشَّقَاوَةِ عَنْ مُتَّبِعِي الْوَحْيِ. وَدَلَّتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ عَلَى انْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 38] . وَلَا شَكَّ أَنَّ انْتِفَاءَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْ مُتَّبِعِي الْوَحْيِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ يُقَلِّدُ عَالِمًا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، لَا يَدْرِي أَصَوَابٌ مَا قَلَّدَهُ فِيهِ أَمْ خَطَأٌ. فِي حَالِ كَوْنِهِ مُعْرِضًا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ آرَاءَ الْعَالِمَ الَّذِي قَلَّدَهُ، كَافِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ، عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ الْوَحْيِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، لَا تَكَادُ تُحْصَى، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَكَادُ تُحْصَى ; لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةُ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [59 \ 7] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 وَقَالَ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [3 \ 132] . وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [3 \ 32] . وَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [4 \ 69] . وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [33 \ 71] . وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [4 \ 80] . وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [4 \ 59] . وَقَالَ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [4 \ 13 - 14] . وَقَالَ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [5 \ 92] . وَقَالَ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [8 \ 1] . وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [24 \ 54] . وَقَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [24 \ 56] . وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [47 \ 33] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [24 \ 51 - 52] . وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] . وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [9 \ 71] . وَلَا شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ، مَحْصُورَةٌ فِي الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَنُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى لُزُومٍ تُدَبُّرِ الْوَحْيِ، وَتَفَهُّمِهِ وَتَعْلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَتَخْصِيصُ تِلْكَ النُّصُوصِ كُلِّهَا، بِدَعْوَى أَنَّ تَدَبُّرَ الْوَحْيِ وَتَفَهُّمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ: لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا لِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ الْجَامِعِينَ لِشُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ - يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ. بَلْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ تَدَبُّرِ الْوَحْيِ وَتَفَهُّمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مِنْهُ، عِلْمًا صَحِيحًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ يَتَدَاخَلُ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهَا، مَعَ بَعْضِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَهُمَا شِبْهُ الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي التَّقْلِيدِ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَأَقْسَامِهِ وَبَيَانِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ اعْلَمْ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي اللُّغَةِ: هُوَ جَعْلُ الْقِلَادَةِ فِي الْعُنُقِ. وَتَقْلِيدُ الْوُلَاةِ هُوَ جَعْلُ الْوِلَايَاتِ قَلَائِدَ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَقِيطٍ الْإِيَادِيِّ: وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ رَحْبَ ... الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: فَهُوَ الْأَخْذُ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ مُعَرَّفَةِ دَلِيلِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَذْهَبِ هُوَ مَا يَصِحُّ فِيهِ الِاجْتِهَادُ خَاصَّةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 وَلَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ الْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةً ثَابِتَةً، سَالِمًا مِنَ الْمُعَارِضِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، لَا تَسُوغُ مُخَالَفَتُهُمَا الْبَتَّةَ لِأَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَيَجِبُ التَّفَطُّنُ ; لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي فِيهِ التَّقْلِيدُ يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ الْوَحْيِ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارِضِ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: مُخْتَصَرًا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مَا نَصُّهُ: (وَالْمَذْهَبُ لُغَةً: الطَّرِيقُ وَمَكَانُ الذَّهَابِ، ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِمَامٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ) انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَقَوْلُهُ: مِنَ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَذْهَبِ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَوَاقِعَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ السَّالِمَةِ مِنَ الْمُعَارِضِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ ; لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ إِذَا أَقَامَ بِاجْتِهَادِهِ دَلِيلًا، مُخَالِفًا لِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَنَّ دَلِيلَهُ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَنَّهُ يَرُدُّ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى فِي الْأُصُولِ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ. وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ الَّذِي هُوَ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ لِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مِنَ الْقَوَادِحِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِي إِبْطَالِ الدَّلِيلِ بِهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي الْقَوَادِحِ: وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادًا ... لِاعْتِبَارِ كُلِّ مَنْ وَعَى وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ أَصْلًا وَلَا تَقْلِيدَ أَصْلًا فِي شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَجَازَ التَّقْلِيدَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ الْوَحْيِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الصَّاوِيِّ وَأَضْرَابِهِ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَذَاهِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَأَزْمَانٍ قَبْلَهُ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَنَعَ التَّقْلِيدَ مُطْلَقًا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّوْكَانِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمُفِيدِ فِي أَدِلَّةِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ التَّقْلِيدَ مِنْهُ مَا هُوَ جَائِزٌ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَمِنْهُ مَا خَالَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ. وَسَنَذْكُرُ كُلَّ الْأَقْسَامِ هُنَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ بَيَانِ الْأَدِلَّةِ. أَمَّا التَّقْلِيدُ الْجَائِزُ الَّذِي لَا يَكَادُ يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ تَقْلِيدُ الْعَامِّيِّ عَالِمًا أَهْلًا لَلْفُتْيَا فِي نَازِلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَانَ شَائِعًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خِلَافَ فِيهِ. فَقَدْ كَانَ الْعَامِّيُّ يَسْأَلُ مَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حُكْمِ النَّازِلَةِ تَنْزِلُ بِهِ، فَيُفْتِيهِ فَيَعْمَلُ بِفُتْيَاهُ. وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أُخْرَى لَمْ يَرْتَبِطْ بِالصَّحَابِيِّ الَّذِي أَفْتَاهُ أَوَّلًا بَلْ يَسْأَلُ عَنْهَا مَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَعْمَلُ بِفُتْيَاهُ. قَالَ صَاحِبُ نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: رُجُوعُهُ لِغَيْرِهِ فِي آخَرِ يَجُوزُ ... لِلْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مَا نَصُّهُ : يَعْنِي أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي اسْتَفْتَاهُ أَوَّلًا فِي حُكْمٍ آخَرَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لِلْعَامِّيِّ السُّؤَالُ لِكُلِّ عَالِمٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَهَا حُكْمُ نَفْسِهَا. فَكَمَا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْأَوَّلُ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى. قَالَهُ الْحَطَّابُ شَارِحُ مُخْتَصَرِ الْخَلِيلِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ. وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَفْتَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَلَّدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَغَيْرَهُمَا، وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمْ بِغَيْرِ نَكِيرٍ. فَمَنِ ادَّعَى رَفْعَ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعَيْنِ صَحِيحٌ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالْأَقْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لَهُمَا مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ كُلِّهَا - مُخَالِفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّ تَقْلِيدَ الْعَامِّيِّ الْمَذْكُورِ لِلْعَالَمِ وَعَمَلِهِ بِفُتْيَاهُ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَشْرُوعٌ مُجْمَعٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ بِجَائِزٍ بِلَا خِلَافٍ، فَهُوَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ، مُجْتَهِدًا آخَرَ يَرَى خِلَافَ مَا ظَهَرَ لَهُ هُوَ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ الْمُخَالِفَ لِرَأْيِهِ. وَأَمَّا نَوْعُ التَّقْلِيدِ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، فَهُوَ تَقْلِيدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ، مِنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ، لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْجُمُودِ عَلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ، مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَتَقْلِيدُ الْعَالِمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ بِدَعِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ، وَمَنْ يَدَّعِي خِلَافَ ذَلِكَ، فَلْيُعَيِّنْ لَنَا رَجُلًا وَاحِدًا مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، الْتَزَمَ مَذْهَبَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ ذَلِكَ أَبَدًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْبَتَّةَ. وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ وَحُجَجِ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَمُنَاقَشَتِهَا، وَبَعْدَ إِيضَاحِ ذَلِكَ كُلِّهِ نُبَيِّنُ مَا يَظْهَرُ لَنَا بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ جَامِعِ بَيَانِ الْعَلَمِ وَفَضْلِهِ وَمَا يَنْبَغِي فِي رِوَايَتِهِ وَحَمْلِهِ، مَا نَصُّهُ: بَابُ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَنَفْيِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ: قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [9 \ 31] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: «لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ» . وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي عُنُقِي الصَّلِيبُ، فَقَالَ لِي: «يَا عَدِيُّ: أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: قَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا لَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا. قَالَ: بَلَى، أَلَيْسَ يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَتُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: تِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» . حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ، فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ، وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ فَأَطَاعُوهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمُ الْحَرَامَ فَيُحِلُّونَهُ، وَيَحْرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ. وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [43 \ 23 - 24] . فَمَنَعَهُمُ الِاقْتِدَاءُ بِآبَائِهِمْ مِنْ قَبُولِ الِاهْتِدَاءِ، فَقَالُوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [43 \ 24] . وَفِي هَؤُلَاءِ وَمِثْلِهِمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [8 \ 22] . وَقَالَ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [2 \ 166 - 167] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ عَائِبًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَذَامًّا لَهُمْ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [21 \ 52 - 53] . وَقَالَ: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [33 \ 67] . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ ذَمِّ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ. وَقَدِ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ كُفْرُ أُولَئِكَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَةِ كُفْرِ أَحَدِهِمَا وَإِيمَانِ الْآخَرِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ التَّقْلِيدَيْنِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلْمُقَلِّدِ، كَمَا لَوْ قَلَّدَ رَجُلٌ فَكَفَرَ وَقَلَّدَ آخَرُ فَأَذْنَبَ، وَقَلَّدَ آخَرُ فِي مَسْأَلَةِ دُنْيَاهُ فَأَخْطَأَ وَجْهَهَا، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَلُومًا عَلَى التَّقْلِيدِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْآثَامُ فِيهِ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [9 \ 115] ، وَقَدْ ثَبَتَ الِاحْتِجَاجُ بِمَا قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ هَذَا، وَفِي ثُبُوتِهِ إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ أَيْضًا. فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ التَّسْلِيمُ لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا بِدَلِيلٍ جَامِعٍ بَيْنَ ذَلِكَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» . وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ» . هَذَا لَفْظُ أَبِي عُمَرَ فِي جَامِعِهِ. وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ ضَعِيفٌ، وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ مَقْبُولٌ، وَلَكِنَّ الْمَتْنَيْنِ الْمَرْوِيَّيْنِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كِلَاهُمَا لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ صَحِيحٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ عَالَمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. ثُمَّ ذَكَرَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْحُسْنِ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّ فِيمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ. ثُمَّ أَخْرَجَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ كُلَّ يَوْمٍ، قَلَّمَا يُخْطِئُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ: «اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ، إِنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ، وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتْبَعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ» إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ مِنْ أَخْوَفِ الْمَخَاوِفِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَإِنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ تَقْلِيدًا أَعْمَى يُقَلِّدُهُ فِيمَا زَلَّ فِيهِ فَيَتَقَوَّلُ عَلَى اللَّهِ أَنَّ تِلْكَ الزَّلَّةَ الَّتِي قَلَّدَ فِيهَا الْعَالِمَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَمُرَادُنَا أَيْضًا بِإِيرَادِ الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ مَا نَصُّهُ: وَشَبَّهَ الْحُكَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ، لِأَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَإِذَا صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَزِلُّ وَيُخْطِئُ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ وَيَدِينَ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ وَجْهَهُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. ثُمَّ سَاقَ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِهِمُ الْإِمَّعَةَ، وَمَعْنَى الْإِمَّعَةِ مَعْرُوفٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صَحَاحِهِ: يُقَالُ الْإِمَّعُ وَالْإِمَّعَةُ أَيْضًا لِلَّذِي يَكُونُ لِضَعْفِ رَأْيِهِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَكُونَنَّ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً. انْتَهَى مِنْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 وَلِقَدْ أَصَابَ مَنْ قَالَ: شَمِّرْ وَكُنْ فِي أُمُورِ الدِّينِ مُجْتَهِدًا ... وَلَا تَكُنْ مِثْلَ عِيرٍ قِيدَ فَانْقَادَا وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ الْإِمَّعَةِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَدْعُو الْإِمَّعَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِيكُمُ الْيَوْمَ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ، قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ ثُمَّ تَمْضِي الْأَتْبَاعُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُسْتَغْنَى عَنِ الْإِسْنَادِ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ: يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوَعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رِعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِيهِ: أُفٌّ لِحَامِلِ حَقٍّ لَا يُصَيِّرُهُ لَهُ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إِنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ غَيْرَهُ تَقْلِيدًا أَعْمَى يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَنْ دِينِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ الْفُلَانِيَّ عَمِلَ بِهَذَا. فَعِلْمُهُ مَحْصُورٌ فِي أَنَّ مَنْ يُقَلِّدُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ ذَهَبَ إِلَى كَذَا وَلَا يَدْرِي أَمُصِيبٌ هُوَ فِيهِ أَمْ مُخْطِئٌ. وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَسْتَضِئْ بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأْ إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ لِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَى مَتْبُوعِهِ، وَعَدَمِ مَيْزِهِ هُوَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَلَّا لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 وَقَالَ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ: وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا أَنَّهُ قَالَ: «تَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ تَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يُسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ» . وَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ لِلتَّقْلِيدِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ لِمَنْ فَهِمَهُ وَهُدًى لِرُشْدِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ آثَارًا نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ بَهِيمَةٍ تُقَادُ وَإِنْسَانٍ يُقَلِّدُ. وَهَذَا كُلُّهُ لِغَيْرِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْعَامَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَقْلِيدِ عُلَمَائِهَا عِنْدَ النَّازِلَةِ تَنْزِلُ بِهَا ; لِأَنَّهَا لَا تَتَبَيَّنُ مَوْقِعَ الْحُجَّةِ، وَلَا تَصِلُ لِعَدَمِ الْفَهْمِ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ دَرَجَاتٌ لَا سَبِيلَ مِنْهَا إِلَى أَعْلَاهَا إِلَّا بِنَيْلِ أَسْفَلِهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ طَلَبِ الْحُجَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَثِقُ بِمَيْزِهِ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ. فَكَذَلِكَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا بَصَرَ بِمَعْنًى مَا يَدِينُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا الْفُتْيَا. وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِجَهْلِهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي مِنْهَا يَجُوزُ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، وَالْقَوْلُ فِي الْعِلْمِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنِ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدِهِ فَقَدْ خَانَهُ، وَمَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» . ثُمَّ ذَكَرَ بِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا وَهُوَ يَعْمَى عَنْهَا كَانَ إِثْمُهَا عَلَيْهِ اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ أَعْمَى عَمَّا يُفْتَى بِهِ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهِ مَحْصُورٌ فِي أَنَّ فُلَانًا قَالَهُ مَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 عِلْمِهِ بِأَنَّ فُلَانًا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ حَدُّ الْعِلْمِ التَّبْيِينُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، فَمَنْ بَانَ لَهُ الشَّيْءُ فَقَدْ عَلِمَهُ. قَالُوا: وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالِاتِّبَاعُ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: كُلُّ مَنِ اتَّبَعْتَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْكَ قَبُولُهُ لِدَلِيلٌ يُوجِبُ عَلَيْكُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ، وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْكَ الدَّلِيلُ اتِّبَاعَ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ، وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مُسَوَّغٌ وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا نَصُّهُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي فَسَادِ التَّقْلِيدِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ الْإِكْثَارِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ عَنِ التَّقْلِيدِ مَا نَصَّهُ: وَقَدِ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ النَّظَرِ عَلَى مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ بِحُجَجٍ نَظَرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ. فَأَحْسِنُ مَا رَأَيْتُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُزْنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَنَا أُورِدُهُ قَالَ: يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ هَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ فِيمَا حَكَمْتَ بِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ. وَإِنْ قَالَ: حَكَمْتُ بِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ، وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ وَأَتْلَفْتَ الْأَمْوَالَ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا [10 \ 68] ، أَيْ مِنْ حُجَّةٍ بِهَذَا؟ فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ، لِأَنِّي قَلَّدْتُ كَبِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ. قِيلَ لَهُ: إِذَا جَازَ تَقْلِيدُ مُعَلِّمِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْكَ، فَتَقْلِيدُ مُعَلِّمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 مُعَلِّمِكَ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَى مُعَلِّمِكَ: كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْكَ. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلَّمِ مُعَلِّمِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ أَعَلَى حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نَقَضَ قَوْلَهُ. وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ، وَأَقَلُّ عِلْمًا؟ وَلَا تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ عِلْمًا، وَهَذَا تَنَاقُضٌ؟ فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ مُعَلِّمِي وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ أَبْصَرُ بِمَا أَخَذَ وَأَعْلَمُ بِمَا تَرَكَ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمِكَ، فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مُعَلِّمِكَ وَعَلَمَ مَنْ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِهِ فَيَلْزَمُكَ تَقْلِيدُهُ وَتَرْكُ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ، وَكَذَلِكَ أَنْتَ أَوْلَى أَنْ تَقَلِّدَ نَفْسَكَ مِنْ مُعَلِّمِكَ. لِأَنَّكَ جَمَعْتَ عِلْمَ مُعَلِّمِكَ وَعَلَمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِكَ. فَإِنْ قَلَّدَ قَوْلَهُ جَعَلَ الْأَصْغَرَ وَمَنْ يُحَدِّثُ مِنْ صِغَارِ الْعُلَمَاءِ، أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ التَّابِعِ وَالتَّابِعِ مِنْ دُونِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ. وَالْأَعْلَى لِلْأَدْنَى أَبَدًا. وَكَفَى بِقَوْلٍ يَئُولُ إِلَى هَذَا تَنَاقُضًا وَفَسَادًا اهـ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا مَا نَصُّهُ: يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِالتَّقْلِيدِ: لِمَ قُلْتَ بِهِ، وَخَالَفْتَ السَّلَفَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا؟ فَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا عِلْمَ لِي بِتَأْوِيلِهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ أُحْصِهَا، وَالَّذِي قَلَّدْتُهُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَقَلَّدْتُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْعُلَمَاءُ، إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ أَوْ حِكَايَةٍ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا قَلَّدْتَ فِيهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا حُجَّتُكَ فِي تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 وَكُلُّهُمْ عَالِمٌ، وَالْعَالِمُ الَّذِي رَغِبْتَ عَنْ قَوْلِهِ أَعْلَمُ مِنَ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَى مَذْهَبِهِ. فَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُهُ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ صَوَابٌ. قِيلَ لَهُ: عَلِمْتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ وَطُولِبَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُهُ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي. قِيلَ لَهُ: فَقَلِّدْ كُلَّ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلَا تَخُصَّ مَنْ قَلَّدْتَهُ إِذْ عِلَّتُكَ فِيهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْكَ. فَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُهُ ; لِأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ إِذًا أَعْلَمُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَفَى بِقَوْلٍ مِثْلِ هَذَا قُبْحًا. فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُقَلِّدُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ. قِيلَ لَهُ: فَمَا حُجَّتُكَ فِي تَرْكِ مَنْ لَمْ تُقَلِّدْ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ مَنْ تَرَكْتَ قَوْلَهُ مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَخَذْتَ بِقَوْلِهِ؟ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ لِفَضْلِ قَائِلِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتَّبَعُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [39 \ 18] . فَإِنْ قَالَ قِصَرِي وَقِلَّةُ عِلْمِي يَحْمِلُنِي عَلَى التَّقْلِيدِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَنْ قَلَّدَ فِيمَا يَنْزِلُ مِنَ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ عَالِمًا يَتَّفِقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَيَصْدُرُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُخْبِرُهُ فَمَعْذُورٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمٍ فِيمَا جَهِلَهُ، لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ، هَلْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ؟ فَيَحْمِلُ غَيْرَهُ عَلَى إِبَاحَةِ الْفُرُوجِ، وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَاسْتِرْقَاقِ الرِّقَابِ، وَإِزَالَةِ الْأَمْلَاكِ وَيُصَيِّرُهَا إِلَى غَيْرِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدَيْهِ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ قَائِلَهُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَأَنَّ مُخَالِفَهُ فِي ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ الْمُصِيبَ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ، فَإِنَ أَجَازَ الْفَتْوَى لِمَنْ جَهِلَ الْأَصْلَ وَالْمَعْنَى لِحِفْظِهِ الْفُرُوعَ، لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ لِلْعَامَّةِ. وَكَفَى بِهَذَا جَهْلًا وَرَدًّا لِلْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [7 \ 36] ، وَقَالَ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 28] . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ وَيَتَيَقَّنْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. انْتَهَى كُلُّهُ مِنْ جَامِعِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِ حُجَجِ الْمُقَلِّدِينَ مُنْحَصِرٌ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] . فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنْ يُسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَا يَعْلَمُ إِلَى سُؤَالِ مَنْ يَعْلَمُ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ: «أَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، إِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِيِّ السُّؤَالُ» . وَقَالَ أَبُو الْعَسِيفِ: الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةٍ مُسْتَأْجَرَةٍ: «وَإِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ» : وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ. فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقْضِي فِيهَا فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ: هُوَ مَا دُونُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّنِي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ: كَانَ سِتَّةٌ مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْتُونَ النَّاسَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مُوسَى. وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَكَانَ زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ جُنْدُبٌ: مَا كُنْتُ أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا» فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ. قَالَ الْمُقَلِّدَةُ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ أَوِ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ، وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [9 \ 100] . وَتَقْلِيدُهُمُ اتِّبَاعٌ لَهُمْ فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَكْفِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» . وَقَالَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بِعَدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ: أَنِ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ. وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَتَبِعُوهُ أَيْضًا. وَاحْتَلَمَ مَرَّةً، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِكَ، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتُهَا صَارَتْ سُنَّةً. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ لَهُمْ قَطْعًا ; إِذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [9 \ 122] ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُمْ لِلْعُلَمَاءِ. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا» فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقْلِيدِهِ لَهُ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ. وَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ، وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ لِلْمُتْلَفَاتِ، وَغَيْرِهَا وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُتَرْجِمِ وَالرَّسُولِ وَالْمُعَرِّفِ وَالْمُعَدِّلِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ لِهَؤُلَاءِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ اللُّحْمَانِ، وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ أَسْبَابِ حِلِّهَا، وَتَحْرِيمِهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا. وَلَوْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمُ الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَتَعَطَّلَتِ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ شَرْعًا، وَالْقَدَرُ قَدْ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يَهْدِينَ إِلَيْهِ زَوْجَتَهُ، وَجَوَازِ وَطْئِهَا تَقْلِيدًا لَهُنَّ فِي كَوْنِهَا هِيَ زَوْجَتُهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَمَا يَصِحُّ بِهِ الِاقْتِدَاءُ، وَعَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّ حَيْضَهَا قَدِ انْقَطَعَ فَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا بِالتَّقْلِيدِ. وَيُبَاحُ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا بِالتَّقْلِيدِ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِينَ فِي دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاجْتِهَادُ وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ. وَقَدْ قَالَتِ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَرْضَعْتُكَ وَأَرْضَعْتُ امْرَأَتَكَ، فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِرَاقِهَا، وَتَقْلِيدِهَا فِيمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ، فَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى تَحْرِيمَهُ فَلَا تَنْهَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ، فَقَالَ: فِي الضَّبْعِ بَعِيرٌ، قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُمْرَ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجِدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ إِنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْتُ بِقَوْلِ زِيدٍ. وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ. قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْجَدِيدِ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا الْعَطَاءَ. وَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا إِلَّا تَقْلِيدُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ التَّابِعَيْنِ فِيهَا. وَهَذَا مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيُصَرِّحُ فِي مُوَطَّئِهِ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَمَلَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 وَيَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَفْعَلُهُ، وَلَوْ جَمَعَنَا ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَطَالَ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الصَّحَابَةِ: رَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا، وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ أَنَّ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ مَعَهُ لَنَا خَيْرٌ مَنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْأُسْتَاذِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ إِلَّا بِهَذَا، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ. وَقَدْ فَاوَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ، كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ الْأَبْدَانِ، فَلَا يَحْسُنُ فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ مُعَارِضِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ، بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا عَالِمًا، وَهَذَا مُتَعَلِّمًا وَهَذَا مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ، وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْجَاهِلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ مُقَلِّدًا لَهُ يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالنَّوَازِلَ كُلَّ وَقْتٍ نَازِلَةٌ بِالْخَلْقِ، فَهَلْ فَرْضٌ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ عَيْنٌ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَ نَازِلَةٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِشُرُوطِهَا وَلَوَازِمِهَا؟ وَهَلْ ذَلِكَ فِي إِمْكَانِ أَحَدٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا؟ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَكَانَ الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ يَسْأَلُهُمْ فَيُفْتُونَهُ. وَلَا يَقُولُونَ لَهُ عَلَيْكَ أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنِ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ. وَهَلِ التَّقْلِيدُ إِلَّا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمِ الْوُجُودِ؟ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ. وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ وَلَا بُدَّ. وَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا. وَنَقُولُ لِمَنِ احْتَجَّ عَلَى إِبْطَالِهِ: كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ ذَكَرْتَهَا فَأَنْتَ مُقَلِّدٌ لِحَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَلَيْسَ بِيَدِكَ إِلَّا تَقْلِيدُ الرَّاوِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إِلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِ الْعَامِّيِّ إِلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكَ تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ، وَمَنَعَنَا مِنْ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ، وَهَذَا سَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا رَوَاهُ، وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ مَا سَمِعَهُ فَأَدَّى هَذَا مَسْمُوعَهُ، وَأَدَّى هَذَا مَعْقُولَهُ. وَفَرَضَ عَلَى هَذَا تَأْدِيَةَ مَا سَمِعَهُ، وَعَلَى هَذَا تَأْدِيَةَ مَا عَقَلَهُ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا الْقَبُولَ مِنْهُمَا. ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ مِنَ التَّقْلِيدِ: أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلِّدِ فِي الْخَطَأِ، بِأَنْ يَكُونَ مُقَلِّدُهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبَ مِنِ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ اهـ. هَذَا هُوَ غَايَةُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَهُ مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ وَجْهًا. وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا مُخْتَصَرَةً مِنْ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ تَكْفِي الْمُنْصِفَ، وَتَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحًا وَإِقْنَاعًا. قَالَ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ بَعْدَ ذِكْرِهِ حُجَجَ الْمُقَلِّدِينَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا مَا نَصُّهُ: قَالَ أَصْحَابُ الْحُجَّةِ: عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ، الشَّاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ أَهْلِهِ، وَلَا مَعْدُودِينَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ، بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ، فَمَا لِلْمُقَلِّدِ وَمَا لِلِاسْتِدْلَالِ؟ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ مِنْ مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ؟ وَهَلْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا، مِنْ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّهِينَ بِمَا لَمْ تُعْطَوْهُ، نَاطِقِينَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تُؤْتَوْهُ، وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ، وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ مِنَ أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ. فَأَخْبِرُونَا: هَلْ صِرْتُمْ إِلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إِلَيْهِ، وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عَلَيْهِ، فَنَزَلْتُمْ بِهِ مِنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ، وَكُنْتُمْ بِهِ عَنِ التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ، أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا، وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَلَيْسَ إِلَى خُرُوجِكُمْ عَنِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَسَمَيْنِ سَبِيلٌ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ، وَالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ مِنْهُ لَازِمٌ. وَنَحْنُ إِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ، قُلْتُمْ لَسْنَا مِنَ أَهْلِ هَذِهِ السَّبِيلِ، وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ، فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ، وَكُلَّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى حَقٍّ، حَاشَا فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَلَوِ ادَّعَوْهُ لَكَانُوا مُبْطِلِينَ، فَإِنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَيْهَا، وَبُرْهَانٍ دَلَّهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا الْحَالِيَّ مِنَ الْعَاطِلِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ نَهَوْهُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَعَصَوْهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا نَحْنُ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ دَانُوا بِخِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى الْحُجَّةِ وَنَهَوْا عَنِ التَّقْلِيدِ وَأَوْصَوْهُمْ إِذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ أَنْ يَتْرُكُوا أَقْوَالَهُمْ وَيَتْبَعُوهُ، فَخَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالُوا: نَحْنُ مِنَ أَتْبَاعِهِمْ، تِلْكَ أَمَانِيهِمْ، وَمَا أَتْبَاعُهُمْ إِلَّا مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِي أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي كُتُبِهِمْ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَتَحْرِيمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَوِ اشْتَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ التَّوْلِيَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ. وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ وَفَسَادِهِ إِذْ طَرِيقُ ذَلِكَ مَسْدُودَةٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَتْبُوعِهِ لَا يُفَارِقُ قَوْلَهُ، وَيَتْرُكُ لَهُ كُلَّ مَا خَالَفَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ، أَوْ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مَتْبُوعِهِ أَوْ نَظِيرِهِ، وَهَذَا مِنَ أَعْجَبِ الْعَجَبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، رَجُلٌ وَاحِدٌ اتَّخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَلِّدُهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، فَلَمْ يُسْقِطْ مِنْهَا شَيْئًا وَأَسْقَطَ أَقْوَالَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا. وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ، وَلَا تَابِعِي التَّابِعِينَ. فَلْيُكَذِّبْنَا الْمُقَلِّدُونَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، سَلَكَ سَبِيلَهُمُ الْوَخِيمَةَ فِي الْقُرُونِ الْفَضِيلَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْمُقَلِّدُونَ لِمَتْبُوعِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ، يُبِيحُونَ بِهِ الْفُرُوجَ، وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، وَيُحَرِّمُونَهَا وَلَا يَدْرُونَ أَذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَلَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَوْقِفٌ شَدِيدٌ يَعْلَمُ فِيهِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُقَلِّدُونَ: تَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْوَحْيِ إِلَّا بِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ فَلِمَ سَوَّغْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى التَّقْلِيدِ بِآيَةِ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] ، وَآيَةِ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ الْآيَةَ [9 \ 122] . هَلْ رَجَعْتُمْ عَنْ قَوْلِكُمْ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْوَحْيِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، أَوِ ارْتَكَبْتُمْ مَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ حَرَّمَ مِنِ اسْتِدْلَالِكُمْ بِالْقُرْآنِ مَعَ شِدَّةِ بُعْدِكُمْ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ؟ وَفِي هَذَا رَدُّ إِجْمَالِيٌّ لِجَمِيعِ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَى التَّقْلِيدِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُقَالُ: أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا فِي زَعْمِكُمْ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، الَّتِي سَنَّ لَكُمُ الصَّاوِيُّ وَأَمْثَالُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنْ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ. فَلِمَ تَجَرَّأْتُمْ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ وَسَوَّغْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْقُرْآنِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ. وَسَنُذَكِّرُ رَدَّ اسْتِدْلَالِ الْمُقَلِّدِينَ تَفْصِيلًا، بِإِيجَازٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِآيَةِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامِ جَمِيعِ أَقْوَالِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَتَرْكِ جَمِيعِ مَا سِوَاهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلُ الْوَحْيِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَعُلَمَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ لِيُفْتُوهُمْ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْوَحْيُ. وَمَنْ سَأَلَ عَنِ الْوَحْيِ وَأُعْلِمَ بِهِ وَبُيِّنَ لَهُ كَانَ عَمَلُهُ بِهِ اتِّبَاعًا لِلْوَحْيِ لَا تَقْلِيدًا، وَاتِّبَاعُ الْوَحْيِ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَوْعِ تَقْلِيدٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَهِيَ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى التَّقْلِيدِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ تَقْلِيدُ الْعَامِّيِّ الَّذِي تَنْزِلُ بِهِ النَّازِلَةُ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَمَلُهُ بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ مِنْهُ لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ ذَلِكَ الْعَالِمُ، وَلَا تَرْكُهُ لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ غَيْرُهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي أَصَابَتْهُ شَجَّةٌ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ: هَلْ يَعْلَمُونَ لَهُ رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَرَى لَكُ رُخْصَةً وَأَنْتُ قَادِرٌ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِيِّ السُّؤَالُ» . فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا عَلَى الْمُقَلِّدِينَ لَا لَهُمْ. قَالَ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ فِي بَيَانِ وَجْهِ ذَلِكَ مَا نَصُّهُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَرْشَدَ الْمُسْتَفْتِينَ، كَصَاحِبِ الشَّجَّةِ بِالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ، وَسُنَّتِهِ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتْلَهُمُ اللَّهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ حِينَ أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَفِي هَذَا تَحْرِيمُ الْإِفْتَاءِ بِالتَّقْلِيدِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ عِلْمًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. فَإِنَّمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَاعِلِهِ، فَهُوَ حَرَامٌ وَذَلِكَ أَحَدُ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ، فَمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ هُوَ مِنَ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ سُؤَالُ أَبِي الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرُوهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِكْرِ الزَّانِي أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُمْ عَنْ رَأْيِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: إِنِّي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ مِنْهُ لَهُ. فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَيْضًا. وَخِلَافُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَشْهَرُ مِنَ أَنْ يُذْكَرَ. كَمَا خَالَفَهُ فِي سَبْيِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَسَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَخَالَفَهُ عُمَرُ. وَبَلَغَ خِلَافُهُ إِلَى أَنْ رَدَّهُنَّ حَرَائِرَ إِلَى أَهْلِهِنَّ إِلَّا لِمَنْ وَلَدَتْ لِسَيِّدِهَا مِنْهُنَّ، وَنَقَضَ حُكْمَهُ، وَمِنْ جُمْلَتِهِنَّ خَوْلَةُ الْحَنَفِيَّةُ أَمُّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَخَالَفَهُ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَقَسَمَهَا أَبُو بَكْرٍ وَوَقَفَهَا عُمَرُ. وَخَالَفَهُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي الْعَطَاءِ، فَرَأَى أَبُو بَكْرٍ التَّسْوِيَةَ، وَرَأَى عُمْرُ الْمُفَاضَلَةَ. وَخَالَفَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، فَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ أَحَدًا إِيثَارًا لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَخَالَفَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، مَعَ أَنَّ خِلَافَ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي اسْتَحْيَا مِنْهُ عُمَرُ هُوَ خِلَافُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ - هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فَاسْتَحْيَا عُمَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِرَافِهِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَلَامُهُ كُلُّهُ صَوَابًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ الْخَطَأُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ بِشَيْءٍ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهَا، قَالَهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ. وَمِنَ الْعَجَبِ اسْتِدْلَالُ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ، بِاسْتِحْيَاءِ عُمَرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحْيُوا مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَجَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِمْ. وَكَمَا أَوْضَحَهُ الصَّاوِيُّ فِي الْكَلَامِ الَّذِي قَدَّمْنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23 - 24] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 فَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَلَوْ وَافَقَ الصَّحَابَةَ، وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْآيَةَ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ ; لِأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ. فَمَنْ هَذَا مَذْهَبُهُ وَدِينُهُ كَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِاسْتِحْيَاءِ عُمَرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ؟ بَلْ كَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِنَصٍّ مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ، أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةٌ رَاشِدٌ أَمَرَ النَّبِيُّ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» الْحَدِيثَ، فَلَيْسَ الِاقْتِدَاءُ بِالْخُلَفَاءِ كَالِاقْتِدَاءِ بِغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ بِقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، فَيَكْفِي فِي رَدِّهِ مَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا، مِنْ مُخَالَفَةِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ، مَعَ الْقِصَّةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا: رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، رَدَّ فِيهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ بَعْضَ مَا قَالَهُ. وَأَيَّدَ الصَّحَابَةُ مَا قَالَ عُمْرُ فِي رَدِّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي وَفْدِ بُزَاخَةَ مِنَ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ حِينَ قَدِمُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ، فَخَيَّرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ. فَقَالُوا: هَذِهِ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الْمُخْزِيَةُ؟ قَالَ: تُنْزَعُ مِنْكُمُ الْحَلْقَةُ وَالْكُرَاعُ، وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا لَكُمْ وَتَرُدُّونَ لَنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا؟ وَتُدَوَّنُ لَنَا قَتْلَانَا إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَفِيهِ: فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا سَنُشِيرُ عَلَيْكَ، أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ فَنِعْمَ مَا ذَكَرْتَ، وَمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنْ نَغْنَمَ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ، وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا، فَنِعْمَ مَا ذَكَرْتَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ أَنْ تُدَوَّنَ قَتْلَانَا وَتَكُونَ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَإِنَّ قَتْلَانَا قَدْ قَاتَلَتْ فَقُتِلَتْ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، أُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ، لَيْسَ لَهَا دِيَاتٌ. فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى مَا قَالَ عُمْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الثَّابِتَةُ: هِيَ الَّتِي فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: وَرَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 وَأَنْتَ تَرَى عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُقَلِّدْ فِيهَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَّا فِيمَا يَعْتَقِدُ صَوَابَهُ. فَإِنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ صَوَابٌ قَالَ لَهُ فِيهِ: نِعْمَ مَا ذَكَرْتَ. وَمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ رَدَّهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بِدَفْعِ دِيَاتِ الشُّهَدَاءِ ; لِأَنَّ عُمَرَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّهِيدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا دِيَةَ لَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9 \ 111] . وَذَلِكَ يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَقْلِيدِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِعُمْرَ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَلَوْ وَافَقَ عُمَرَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مُوَافَقَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِبَعْضٍ، لِاتِّفَاقِ رَأْيِهِمْ لَا لِتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، كَمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهَا: إِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُطَبِّقُ فِي رُكُوعِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَعُمَرُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ: هِيَ يَمِينٌ، وَعُمْرُ يَقُولُ: إِنَّهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُحَرِّمُ النِّكَاحَ بَيْنَ الزَّانِيَيْنِ وَعُمَرُ يُتَوِّبُهُمَا، وَيُنْكِحُ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا، وَعُمْرُ يُرَى عَدَمَ ذَلِكَ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. مَعَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّهُ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ بِهِ لَرَحَلَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ قَوْلَهُ: كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَكُنِ إِمَّعَةً. فَلَيْسَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنِ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِتَقْلِيدِ ابْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 لِعُمْرَ، لَا يُقَلِّدُونَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلَا عُمَرَ وَلَا غَيْرَهُمَا مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا يَأْخُذُونَ بُقُولِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَإِنَّمَا يُفَضِّلُونَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَقْلِيدَ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهَ كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ. وَأَبُو مُوسَى كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلَيٍّ. وَزَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعَّبٍ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْمَذْكُورِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَدَعُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ أَحَدٍ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدَعُ قَوْلَ عُمَرَ، إِذَا ظَهَرَتْ لَهُ السُّنَّةُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِأَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى مَسْبُوقًا فَصَلَّى مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْبَاقِي. وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي ذَلِكَ: «إِنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً، فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا» ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً إِلَّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا لَا يَخْفَى. فَلَا حُجَّةَ قَطْعًا فِي قَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْجُودٌ. وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [4 \ 59] . قَائِلِينَ إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْعُلَمَاءَ، وَأَنَّ طَاعَتَهُمُ الْمَأْمُورَ بِهَا فِي الْآيَةِ هِيَ تَقْلِيدُهُمْ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ إِجْمَاعًا فِيمَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، وَلَا طَاعَةَ لَهُمْ إِلَّا فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ: مَا يَشْمَلُ الْأُمَرَاءَ وَالْعُلَمَاءَ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، وَالْأُمَرَاءُ مُنَفِّذُونَ، وَلَا تَجُوزُ طَاعَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا فِيمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ ; لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ أُولُو الْأَمْرِ لَا يَخْلُو مِنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ نِزَاعٌ، هَلْ هُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ لَا؟ وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَجُوزُ الطَّاعَةُ الْعَمْيَاءُ لِأُولِي الْأَمْرِ وَلَا التَّقْلِيدُ الْأَعْمَى كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ. لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [4 \ 59] ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [4 \ 59] ، فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي رَدِّ كُلِّ نِزَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [2 - 30] بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» . وَحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي النَّارِ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [60 \ 12] . وَلَا يَخْفَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ الْمَأْمُورَ بِهَا فِي الْآيَةِ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَهْيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 وَالْمُقَلِّدُونَ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا نَهْيَهُ، وَلَا أَمْرَ رَسُولِهِ وَلَا نَهْيَهُ. وَغَايَةُ مَا يَدَّعُونَ عِلْمَهُ هُوَ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ قَالَ كَذَا، مَعَ عَجْزِهِمْ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا هُوَ خَطَأٌ وَمَا هُوَ صَوَابٌ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ قَوْلِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ مَا أَلْحَقَهُ أَتْبَاعُهُ بَعْدَهُ مِمَّا قَاسُوهُ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ هِيَ اقْتِفَاءُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَعَلَى كُلِّ رَأْيٍ كَائِنًا مَا كَانَ. فَمَنْ قَلَّدَهُمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى وَتَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِأَقْوَالِهِمْ، فَهُوَ الْمُخَالِفُ لَهُمُ الْمُتَبَاعِدُ عَنْ طَاعَتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [9 \ 100] ، قَائِلِينَ: إِنَّ تَقْلِيدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ، فَمُقَلِّدُهُمْ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَصِّ الْآيَةِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ هُمُ الَّذِينَ سَارُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُقَلِّدُ رَجُلًا وَيَتْرُكُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِقَوْلِهِ. فَالْمُقَلِّدُونَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى لَيْسُوا مِمَّنِ اتَّبَعُوهُمُ الْبَتَّةَ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُخَالَفَةً لَهُمْ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، فَأَتْبَعُ النَّاسِ لِمَالِكٍ مَثَلًا ابْنُ وَهْبٍ وَنُظَرَاؤُهُ، مِمَّنْ يَعْرِضُونَ أَقْوَالَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا مَا وَافَقَهُمَا دُونَ غَيْرِهِ. وَأَتْبَعُ النَّاسِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمَا لَهُ، لِأَجْلِ الدَّلِيلِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَأَتْبَعُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْأَثْرَمُ، لِتَقْدِيمِهِمُ الدَّلِيلَ عَلَى قَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ، بِحَدِيثِ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، فَجَمِيعُ طُرُقِهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ قَائِمٌ، قَالَ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ الْجُرَيِّ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ ; أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُضَرِّحٍ حَدَّثَهُمْ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبٍ الصَّمُوتُ قَالَ: قَالَ لَنَا الْبَزَّارُ: وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَضَعْفُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَعْرُوفٌ عَنِ أَهْلِ الْعِلْمِ. مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهِ يَمْنَعُونَ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ، وَيُحَرِّمُونَ الِاهْتِدَاءَ بِتِلْكَ النُّجُومِ. وَهُوَ تَنَاقُضٌ عَجِيبٌ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا نَفْسَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ عَلَى مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْحَدِيثُ، وَهُوَ تَقْدِيمُهُمْ تَقْلِيدَ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ. مَعَ أَنَّ قِيَاسَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ لَا يَصِحُّ لِعِظَمِ الْفَارِقِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ سُقُوطَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا ذَكَرُوا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ كَانَ مُسْتَنًا مِنْكُمْ فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ» . وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [2 \ 44] . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بِعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ ; لِأَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْرُونَةٌ بِسُنَّتِهِ لَيْسَ فِيهَا الْبَتَّةَ تَقْلِيدٌ أَعْمَى، وَلَا الْتِزَامُ قَوْلِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 بَلْ سُنَّتُهُمْ هِيَ اتِّبَاعُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّهُمْ هُمْ أَتْبَعُ النَّاسِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشَدُّهُمْ حِرْصًا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ. فَالَّذِي يُقَدِّمُ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ، هُوَ كَمَا تَرَى. وَأَقْوَالُ الْخُلَفَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ مُدَوَّنَةٌ إِلَى الْآنِ لَيْسَ فِيهَا تَقْلِيدٌ أَعْمَى، وَلَا جُمُودٌ عَلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا هِيَ عَمَلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُشَاوَرَةٌ لِأَصْحَابِهِ فِيمَا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ وَاسْتِنْبَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَتْقَنِهَا، وَأَقْرَبِهَا لِرِضَا اللَّهِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي طَاعَتِهِ. وَكَانُوا إِذَا بَلَغَهُمْ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعُوا إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِمْ. فَقَدْ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى قَوْلِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ لِلْجَدَّةِ السُّدْسَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَرَى أَنَّهَا لَا مِيرَاثَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ لَهَا لِمَا جَاءَتْهُ: «لَا أَرَى لَكِ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا أَعْلَمُ لَكِ شَيْئًا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ فِيهَا غُرَّةَ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ. وَرَجَعَ عُمَرُ أَيْضًا إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. وَرَجَعَ عُمَرُ أَيْضًا إِلَى قَوْلِ الضِّحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. وَرَجَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى حَدِيثِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا بِالسُّكْنَى فِي الْبَيْتِ الَّذِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَكَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْتِي بِوُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنَ أَنْ تُحْصَى، وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ، لِأَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هِيَ الْمُتَابَعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقْدِيمُ سُنَّتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَعَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَعْمَلَ بِمِثْلِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِنَكُونَ مُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتِهِمْ. أَمَّا الْمُقَلِّدُ الْمُعْرِضُ عَنْ سُنَّتِهِمْ، وَعَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفَضِّلًا عَلَى ذَلِكَ تَقْلِيدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَمَا كَانَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِمُقْتَضَى تَقْلِيدِهِ بِأَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمْرَ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ: أَنِ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا لَهُمْ ; لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْعَمَلِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، وَخَيْرُهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ كَانَ الْمُقَلِّدُونَ يَمْتَثِلُونَ هَذَا، لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْعَمَلَ بِفَتَاوَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُوجِبُونَ الْجُمُودَ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدُوهُ وَالْتَزَمُوا بِمَذْهَبِهِ. وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ، فَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنَعَ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ. وَأَلْزَمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُتَابَعَةَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِبَعْضٍ إِنَّمَا هِيَ لِاتِّفَاقِهِمْ فِيمَا رَأَوْهُ، لَا لِأَنَّ بَعْضَهُمْ مُقَلِّدٌ بَعْضًا تَقْلِيدًا أَعْمَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ ذَلِكَ بِمَا يَكْفِي. مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا يَمْنَعُونَ تَقْلِيدَ عُمَرَ، وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، فَمِنْ عَجَائِبِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَمْنُوعٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ لِعُمْرَ لَمَّا احْتَلَمَ: خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِكَ، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتُ صَارَتْ سُنَّةً. فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَافَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَيَعْتَقِدَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ سُنَّةً، فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَحْذُورِ. مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ يَرَى مَنْعَ تَقْلِيدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا ذَكَرُوهُ عَنْ أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا لَهُمْ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ فَاعْمَلْ بِهِ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا اسْتَبَانَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ. وَهَذَا نَقِيضُ مَا عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ، فَهُمْ دَائِمًا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِمَا يُنَاقِضُهُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِقَوْلِهِ: فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ، أَيْ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ. فَمُرَادُهُ بِمَا اشْتَبَهَ الْمُتَشَابِهُ، وَمُرَادُهُ بِعَالِمِهِ: اللَّهُ. فَهُوَ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [3 \ 7] . فَالَّذِينَ قَالُوا «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» فَقَدْ وَكَلُوا مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ إِلَى عَالِمِهِ وَهُوَ اللَّهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ أُبَيٍّ بِقَوْلِهِ: فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ أَيْ فَكِلْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ مِنْ كَلَامِ أُبَيٍّ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا لِلْمُقَلِّدِينَ ; لِأَنَّ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ فَوَكَلَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، فَقَدْ أَصَابَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بَلْ هُوَ عَمَلٌ بِالْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 \ 36] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْجُودٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُمْ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُفْتُونَهُمْ فِي حَالَةِ وُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إِلَّا بِمَا عَلَّمَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَمَنْ أَفْتَى مِنْهُمْ وَغَلِطَ فِي فَتْوَاهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتْوَاهُ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِلْحَقِّ، وَرَدَّهَا عَلَيْهِ كَإِنْكَارِهِ عَلَى أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بِعَكَكَ قَوْلَهُ لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ لَمَّا مَاتَ زَوْجُهَا وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ: «إِنَّهَا لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ» . وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو السَّنَابِلِ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [2 \ 234] . وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتْوَاهُ مُبَيِّنًا أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [2 \ 234] مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] . وَكَإِنْكَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الَّذِينَ أَفْتَوْا صَاحِبَ الشَّجَّةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا لَهُ رُخْصَةً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّتَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِمْ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ» الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِي فَتْوَاهُمْ لِمَا فَهِمُوهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [4 \ 43] ، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى [4 \ 43] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [9 \ 122] ، قَائِلِينَ إِنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ قَبُولَ إِنْذَارِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُمْ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْإِنْذَارَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ لَا يَكُونُ بِرَأْيٍّ. وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ خَاصَّةً، وَقَدْ حَصَرَ تَعَالَى الْإِنْذَارَ فِي الْوَحْيِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ الَّتِي هِيَ «إِنَّمَا» فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [21 \ 45] . وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ فَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، لَمْ يَكُنْ قَدْ أُنْذِرَ، كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 أَنَّ النَّذِيرَ مَنْ أَقَامَ الْحُجَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ فَلَيْسَ بِنَذِيرٍ. فَمَا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْإِنْذَارَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُنْذِرُوا، وَالتَّحْذِيرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا اجْتِهَادٍ. وَإِنَّمَا هُوَ إِنْذَارٌ بِالْوَحْيِ مِمَّنْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَصَارَ يُنْذِرُ بِمَا عَلِمَهُ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [9 \ 122] ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أَيْ بِمَا تَفَقَّهُوا فِيهِ مِنَ الدِّينِ. وَلَيْسَ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ إِلَّا عِلْمَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلِيلَ فِيهَا الْبَتَّةَ لِطَائِفَةِ التَّقْلِيدِ، الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَقْلِيدَ إِمَامٍ بِعَيْنِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَدَّ مِنَ أَقْوَالِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذَ مِنَ أَقْوَالِ غَيْرِهِ شَيْءٌ. وَنَجْعَلُ أَقْوَالَهُ عِيَارًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَمَا وَافَقَ أَقْوَالَهُ مِنْهُمَا قُبِلَ وَمَا لَمْ يُوَافِقْهَا مِنْهُمَا رُدَّ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّقْلِيدِ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ، وَعَدَمِ جَوَازِهِ. فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمُقَلِّدِينَ بِهَا عَلَى تَقْلِيدِهِمُ اسْتِدْلَالٌ بِشَيْءٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مَمْنُوعٌ بَاتًّا، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِقُرْآنٍ. وَأَمَّا قَبُولُ إِنْذَارِهِمْ فَهُوَ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ، قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْلِيدِهِ لِأَبِي بَكْرِ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّ الْجَدَّ يَحْجِبُ الْإِخْوَةَ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا فِي رَدِّ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَا يَكْفِي، فَأَغْنَى عَنِ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ فِي الْحُقُوقِ. قَائِلِينَ: إِنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ تَقْلِيدٌ لَهُ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِهِ. مِنْ تَقْلِيدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ مِنَ أَقْوَالِهِ شَيْءٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِمَّا خَالَفَهَا شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ أَخْذٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] ، وَيَقُولُ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَالْأَخْذُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ إِذًا مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ تَقْلِيدًا أَعْمَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّاهِدَ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا أَدْرَكَهُ بِإِحْدَى حَوَاسِّهِ، وَالْمُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ لِمَنْ أَدْرَكَهُ بِخِلَافِ الرَّأْيِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ. وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى حِسٍّ، وَبَيْنَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى عَقْلٍ. فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ يُوجِبُ الْعِلْمَ الْمُفِيدَ لِلْقَطْعِ لِاسْتِنَادِهِ إِلَى الْحِسِّ. وَأَنَّ الثَّانِيَ لَا يُوجِبُهُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْمَعْقُولَاتِ لَكَانَ قِدَمُ الْعَالَمِ مَقْطُوعًا بِهِ ; لِأَنَّهُ تَوَاتَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ خَلْقٌ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ. مَعَ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، فَالَّذِينَ تَوَاتَرُوا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ لَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ لَوْ تَوَاتَرَ عُشْرُهُمْ عَلَى أَمْرٍ مَحْسُوسٍ لَأَفَادَ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ فِيهِ. فَالشَّاهِدُ إِنْ أَخْبَرَ عَنْ مَحْسُوسٍ، وَكَانَ عَدْلًا، فَهُوَ عَدْلٌ مُخْبِرٌ عَمَّا قُطِعَ بِهِ قَطْعًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الشَّكُّ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّهُ عَدْلٌ أَخْبَرَ عَمَّا ظَنَّهُ، فَوُضُوحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا تَرَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْمُقَوِّمِ وَالْحَاكِمَيْنِ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَتَقْلِيدِ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ. وَتَقْلِيدِ الْمُؤَذِّنِينَ فِي الْوَقْبِ وَالْمُتَرْجِمِينَ وَالْمُعَرِّفِينَ، وَالْمُعَدِّلِينَ، وَالْمُجَرِّحِينَ. وَتَقْلِيدِهِ الْمَرْأَةَ فِي طُهْرِهَا، فَهُوَ كُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا. لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، فَالْعَمَلُ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى. وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِمَا عَرَفَهُ الْقَائِفُ وَالْخَارِصُ إِلَى آخِرِهِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْفَتْوَى فِي الدِّينِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ بِسُرُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ الْمُدْلِجِيِّ فِي أُسَامَةَ وَزَيْدٍ: «هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . فَلَوْ كَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ لَا يُقْبَلُ؛ لَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَا بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ سُرُورًا بِهِ. فَقَبُولُهُ لِذَلِكَ، فَهُوَ اتِّبَاعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْخَارِصِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَهَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَرَدَ قَوْلُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [6 \ 141] ، فَهَذَا مِثَالُ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمَذْكُورِينَ. وَمِثَالُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ قَبُولُ قَوْلِ الْحَكَمَيْنِ فِي الْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [5 \ 95] . وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ ذَكَرُوا، فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا صَحَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 مَعَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ إِخْبَارٌ عَنْ مَحْسُوسٍ، وَالتَّقْلِيدُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِ إِخْبَارٌ عَنْ مَعْقُولٍ مَظْنُونٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا أَعْمَى بِدُونِ حُجَّةٍ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ بِجَوَازِ شِرَاءِ اللُّحُومِ وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنِ أَسْبَابِ حِلِّهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِقَوْلِ الذَّابِحِ وَالْبَائِعِ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ أَعْمَى فِي حُكْمٍ دِينِيٍّ لَهُمَا. وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ; لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَا فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ اللُّحُومِ وَالسِّلَعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ، حَتَّى يَظْهَرَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، مَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «إِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا، قَالَ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ» . قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالَ تُحْمَلُ عَلَى حَالِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ إِلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْفَسَادِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا، فَالْعَمَلُ بِهِ عَمَلٌ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ كَلَّفَ النَّاسَ أَلَّا يَشْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا حَتَّى يَعْلَمَ حِلِيَّتَهُ فَوَقَعُوا فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ تَتَعَطَّلُ بِهِ الْمَعِيشَةُ وَيَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُهَا. فَأَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِرَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، وَلَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ كَلَّفَ النَّاسَ كُلَّهُمُ الِاجْتِهَادَ، وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ ضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَتَعَطَّلَتِ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ شَرْعًا وَقَدَرًا، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى سُقُوطِهِ أَنَّ الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ تَقْلِيدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 وَلَمْ تَتَعَطَّلْ مَتَاجِرُهُمْ، وَلَا صَنَائِعُهُمْ، وَلَمْ يَرْتَكِبُوا مَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ وَلَا الْقَدَرُ، بَلْ كَانُوا كُلُّهُمْ لَا يُقَدِّمُونَ شَيْئًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ فِيهِمْ عُلَمَاءُ مُجْتَهِدُونَ يَعْلَمُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُفْتُونَ بِهِمَا، وَكَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ دُونَ رُتْبَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ، يَتَعَلَّمُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَحْتَاجُونَ لِلْعَمَلِ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ مُتَّبِعُونَ لَا مُقَلِّدُونَ. وَفِيهِمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، هِيَ الْعَوَامُ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى التَّعَلُّمِ، وَكَانُوا يَسْتَفْتُونَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ مَنْ شَاءُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَتَارَةً يَسْأَلُونَهُ عَنِ الدَّلِيلِ فِيمَا أَفْتَاهُمْ بِهِ. وَتَارَةً يَكْتَفُونَ بِفَتْوَاهُ وَلَا يَسْأَلُونَ، وَلَمْ يَتَقَيَّدُوا بِنَفْسِ ذَلِكَ الْعَالِمِ الَّذِي يَسْتَفْتُونَهُ، فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ أُخْرَى، سَأَلُوا عَنْهَا غَيْرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ شَاءُوا، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْطِيلُ صَنَائِعَ وَلَا مَتَاجِرَ، وَلَا يَمْنَعُهُ شَرْعٌ وَلَا قَدَرٌ. فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ مُنْصِفٌ لِلتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، بِأَنَّ النَّاسَ لَوْ لَمْ تَرْتَكِبْهُ لَوَقَعُوا فِي الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَكُلُّ عَاقِلٍ لَمْ يُعْمِهِ التَّعَصُّبُ، يَعْلَمُ أَنَّ تَقْلِيدَ إِمَامٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ مِنَ أَقْوَالِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ أَقْوَالِ غَيْرِهِ شَيْءٌ، وَجَعْلَ أَقْوَالِهِ عِيَارًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَمَا وَافَقَ أَقْوَالَهُ مِنْهُمَا جَازَ الْعَمَلُ بِهِ، وَمَا خَالَفَهَا مِنْهُمَا وَجَبَ اطِّرَاحُهُ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ - لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَعَلُّمُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا عَلِمُوا مِنْهُمَا. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَوْهُمْ بِهِ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ وَإِقْنَاعٍ لِلْمُنْصِفِ فِي التَّنْبِيهَاتِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَا بُطْلَانَ جَمِيعِ الْحُجَجِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمُقَلِّدُونَ التَّقْلِيدَ الْمَذْكُورَ، وَمَا لَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 نَذْكُرْ مِنْ حُجَجِهِمْ، قَدْ أَوْضَحْنَا رَدَّهُ وَإِبْطَالَهُ فِيمَا ذَكَرْنَا. تَنْبِيهَاتٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ اغْتَرُّوا بِقَضِيَّتَيْنِ ظَنُّوهُمَا صَادِقَتَيْنِ، وَهُمَا بَعِيدَتَانِ مِنَ الصِّدْقِ. وَظَنُّ صِدْقِهِمَا يَدْخُلُ أَوَّلِيًّا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [10 \ 36] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا فَهِيَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَعَلَى جَمِيعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ آيَةٍ وَكُلَّ حَدِيثٍ قَدْ خَالَفَا قَوْلَهُ فَلَا شَكَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ اطَّلَعَ عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ وَعَلِمَ مَعْنَاهَا، وَعَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَعَلِمَ مَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ مَا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِمَا إِلَّا لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُمَا وَأَرْجَحُ. وَلِذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ ذَلِكَ الْأَرْجَحِ الَّذِي تَخَيَّلُوهُ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. وَهَذَا الظَّنُّ كَذِبٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَالْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ مَا أَحَاطُوا بِجَمِيعِ نُصُوصِ الْوَحْيِ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ أَصْرَحِ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ، إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ الْمَجْمَعُ عَلَى عِلْمِهِ وَفَضْلِهِ وَجَلَالَتِهِ، لِمَّا أَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا جَمَعَهُ فِي مُوَطَّئِهِ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنَ أَبِي جَعْفَرٍ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ. وَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَرَّقُوا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، كُلُّهُمْ عِنْدَهُ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ. وَلَمْ يَجْمَعِ الْحَدِيثَ جَمْعًا تَامًّا بِحَيْثُ أَمْكَنَ جَمْعُ جَمِيعِ السُّنَّةِ إِلَّا بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا رُوِيَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 الْأَحَادِيثِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَتَيَسَّرِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ أَزْمَانٍ، وَكَثْرَةُ عِلْمِ الْعَالِمِ لَا تَسْتَلْزِمُ اطِّلَاعَهُ عَلَى جَمِيعِ النُّصُوصِ. فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَجِزَ عَنِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى الْكَلَالَةِ حَتَّى مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا كَثِيرًا فَبَيَّنَهَا لَهُ وَلَمْ يَفْهَمْ. فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ لِي: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» ، فَهَذَا مِنَ أَوْضَحِ الْبَيَانِ ; لِأَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةِ الصَّيْفِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [4 \ 176] ، وَالْآيَةُ تُبَيِّنُ مَعْنَى الْكَلَالَةِ بَيَانًا شَافِيًا، لِأَنَّهَا أَوْضَحَتْ أَنَّهَا: مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. فَبَيَّنَتْ نَفْيَ الْوَلَدِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [4 \ 176] ، وَبَيَّنَتْ نَفْيَ الْوَالِدِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [4 \ 176] ; لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأُخْتِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوَلَدِ. وَمَعَ هَذَا الْبَيَانِ النَّبَوِيِّ الْوَاضِحِ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَفْهَمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ لَمْ تَزَلْ مُشْكِلَةً عَلَيْهِ. وَقَدْ خَفِيَ مَعْنَى هَذَا أَيْضًا عَلَى أَبِي بَكْرِ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي. فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، هُوَ مَا دُونُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. فَوَافَقَ رَأْيُهُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَاهِمًا لِلْآيَةِ لَكَفَتْهُ عَنِ الرَّأْيِ ; كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ فِي الْآيَةِ كِفَايَةً عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا فِي الْحُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَ الْآيَةِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا أَحَالَ عُمَرُ عَلَى الْآيَةِ إِلَّا لِأَنَّ فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي. وَقَدْ خَفِيَ عَلَى أَبِي بَكْرِ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدْسَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدْسَ» فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمَا. وَلَمْ يَعْلَمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَضَى فِي دِيَةِ الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمَذْكُورَانِ قَبْلُ. وَلَمْ يَعْلَمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْضًا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِيِّ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. وَلَمْ يَعْلَمْ بِحُكْمِ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا حَتَّى أَخْبَرَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَمْ يَعْلَمْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْهُ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْزَمَهَا بِالسُّكْنَى فِي الْمَحَلِّ الَّذِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنَ أَنْ تُحْصَرَ، فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَهُمْ هُمْ، خَفِيَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ قَضَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَادِيثُهُ مَعَ مُلَازَمَتِهِمْ لَهُ، وَشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ، فَتَعْلَمُوهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ. فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَشَأُوا وَتَعَلَّمُوا بَعْدَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا؟ وَرَوَى عَنْهُ الْأَحَادِيثَ عُدُولٌ مِنَ الْأَقْطَارِ الَّتِي ذَهَبُوا إِلَيْهَا؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَنَّ إِحَاطَةِ الْإِمَامِ بِجَمِيعِ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَمَعَانِيهَا ظَنٌّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَفُوتُهُ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا وَيَرْوِيهِ بَعْضُ الْعُدُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَيَثْبُتُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، بِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ بَذَلَ الْمَجْهُودَ فِي الْبَحْثِ ; وَلِذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَالْعُذْرِ فِي الْخَطَأِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 وَقَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ اطَّلَعَ عَلَى الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ السَّنَدَ الَّذِي بَلَغَهُ بِهِ ضَعِيفٌ فَيَتْرُكُهُ لِضَعْفِ السَّنَدِ. وَيَكُونُ غَيْرُهُ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْحَدِيثُ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ إِلَّا عَلَى السَّنَدِ الضَّعِيفِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ الطَّرِيقُ الصَّحِيحَةُ الْأُخْرَى. وَقَدْ يَتْرُكُ الْحَدِيثَ لِشَيْءٍ يَظُنُّهُ أَرْجَحَ مِنْهُ، وَيَكُونُ الْوَاقِعُ أَنَّ الْحَدِيثَ أَرْجَحُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي ظَنَّهُ لِقِيَامِ أَدِلَّةٍ أُخْرَى عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إِلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَتَرْكِ الْأَئِمَّةِ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ. وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ ظَنَّ اطِّلَاعِ الْإِمَامِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِصَابَتِهِ فِي مَعَانِيهَا كُلِّهَا - ظَنٌّ بَاطِلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ يُصَرِّحُ بِبُطْلَانِ هَذَا الظَّنِّ كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَاللَّازِمُ هُوَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ أَنْفُسُهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ، وَنَهَوْا عَنِ اتِّبَاعِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. فَالْمُتَّبِعُ لَهُمْ حَقِيقَةً، هُوَ مَنْ لَا يُقَدِّمُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ شَيْئًا. أَمَّا الَّذِي يُقَدِّمُ أَقْوَالَ الرِّجَالِ عَلَى الْكِتَابِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُمْ لَا مُتَّبِعٌ لَهُمْ، وَدَعْوَاهُ اتِّبَاعَهُمْ كَذِبٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ ظَنُّ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ لَهُمْ مِثْلَ مَا لِلْإِمَامِ مِنَ الْعُذْرِ فِي الْخَطَأِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَخْطَأَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَقَلَّدُوهُ فِي ذَلِكَ الْخَطَأِ يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْعُذْرِ فِي الْخَطَأِ وَالْأَجْرِ مِثْلَ مَا لِذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدُوهُ ; لِأَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَهُ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا جَرَى عَلَيْهِ. وَهَذَا ظَنٌّ كَاذِبٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ وَفَتَاوَاهُمْ. فَقَدْ شَمَّرَ وَمَا قَصَّرَ فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّمِ الْوَحْيِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى ضَوْءِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْعُذْرِ فِي خَطَئِهِ وَالْأَجْرِ فِي اجْتِهَادِهِ. وَأَمَّا مُقَلِّدُوهُ فَقَدْ تَرَكُوا النَّظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْ تَعَلُّمِهِمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 إِعْرَاضًا كُلِّيًّا مَعَ يُسْرِهِ وَسُهُولَتِهِ وَنَزَّلُوا أَقْوَالَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ مَنْزِلَةَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ. فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ؟ وَهَذَا الْفَرْقُ الْعَظِيمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً، عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَأْجُورِينَ فِي الْخَطَأِ فِي تَقْلِيدٍ أَعْمَى إِذْ لَا اقْتِدَاءَ وَلَا أُسْوَةَ فِي غَيْرِ الْحَقِّ. وَلَيْسُوا مَعْذُورِينَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا يَلْزَمُهُمْ تَعَلُّمُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ عَلَى ضَوْءِ وَحْيِهِ الْمُنَزَّلِ. وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعَلُّمِ ذَلِكَ هُوَ مَا تَدْعُوهُمُ الْحَاجَةُ لِلْعَمَلِ بِهِ، كَأَحْكَامِ عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ. وَأَغْلَبُ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصٌ وَاضِحَةٌ، سَهْلَةُ التَّنَاوُلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْرِضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُفَرِّطَ فِي تَعَلُّمِ دِينِهِ، مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمَا سَنَّهُ رَسُولُهُ، الْمُقَدِّمَ كَلَامَ النَّاسِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لَا يَكُونُ لَهُ الْبَتَّةَ مَا لِلْإِمَامِ الَّذِي لَمْ يُعْرِضْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهِمَا شَيْئًا وَلَمْ يُفَرِّطْ فِي تَعَلُّمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي اعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِ تَقْلِيدِهِمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى الَّذِي يَتَعَصَّبُ لَهُ مَنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُمْ. وَلَوْ كَانُوا أَتْبَاعَهُمْ حَقًّا لَمَا خَالَفُوهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمُ الَّذِي مُنِعُوا مِنْهُ وَنُهُوا عَنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثْنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ عِلْمِهِ وَجَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ يَعْتَرِفُ بِالْخَطَأِ وَيَنْهَى عَنِ الْقَوْلِ بِمَا خَالَفَ الْوَحْيَ مِنْ رَأْيِهِ، فَمَنْ كَانَ مَالِكِيًّا فَلْيَمْتَثِلْ قَوْلَ مَالِكٍ وَلَا يُخَالِفْهُ بِلَا مُسْتَنَدٍ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ فَوَجَدْتُهُ بَاكِيًا فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ ثُمَّ سَكَتَ عَنِّي يَبْكِي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا الَّذِي يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ قَعْنَبٍ، إِنَّا لِلَّهِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنِّي، لَيْتَنِي جُلِدْتُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَكَلَّمْتُ بِهَا فِي هَذَا الْأَمْرِ بِسَوْطٍ، وَلَمْ يَكُنْ فَرَطَ مِنِّي مَا فَرَطَ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ كَانَتْ لِي سَعَةٌ فِيمَا سَبَقْتُ إِلَيْهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسُرُّهُ وَلَا يُرْضِيهِ تَقْدِيمُ رَأْيِهِ هَذَا الَّذِي يَسْتَرْجِعُ وَيَبْكِي نَدَمًا عَلَيْهِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ وَلَمْ يَكُنْ صَدَرَ مِنْهُ، عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلِيَسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ مَنْ يُقَدِّمُ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ زَاعِمًا أَنَّهُ مُتَّبِعٌ مَالِكًا فِي ذَلِكَ. وَهُوَ مُخَالِفٌ فِيهِ لِمَالِكٍ، وَمُخَالِفٌ فِيهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلِأَصْحَابِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَذَمُّوا مَنْ أَخَذَ أَقْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ، كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ: اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ؛ لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ مَعَ إِعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ؛ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ، وَيَحْتَاطَ فِيهِ لِنَفْسِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تُقَلِّدْنِي، وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا، وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا. وَقَالَ: مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنَ أَيْنَ قُلْنَا. وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَ إِبْرَاهِيمَ أَوْ مِثْلُهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي كُلِّ مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَصْحَابُهُمْ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَائِلِ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي. وَكُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ كَانَ غَيْرُهُمْ مَنْ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ يَمْنَعُونَ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَقَدْ يَتَحَفَّظُونَ مِنْهُ وَلَا يَرْضَوْنَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ فِي أَخْبَارِ سَحْنُونَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَحْنُونَ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إِلَى ابْنِ هُرْمُزَ، فَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا. وَإِذَا سَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَذَوُوهُ لَمْ يُجِبْهُمْ فَقَالَ لَهُ: يَسْأَلُكَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا، وَأَسْأَلُكُ أَنَا وَذَوِيَّ فَلَا تُجِيبُنَا؟ فَقَالَ: أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ، إِذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ، وَإِذَا سَمِعَا خَطَأً تَرَكَاهُ، وَأَنْتَ وَذَوُوكَ مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ، لَا كَمَنْ يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْقُلُوبِ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ. انْتَهَى مِنْهُ. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اعْلَمْ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى قَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَإِجْمَاعُ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ; لِأَنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ. وَلَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا الْحُكْمُ قَالَهُ الْإِمَامُ الَّذِي قَلَّدْتُهُ أَوْ أَفْتَى بِهِ. أَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [16 \ 116] ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ، لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَأَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْمُقَلِّدَ الَّذِي يَقُولُ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَطْعًا. فَهُوَ دَاخِلٌ بِلَا شَكٍّ فِي عُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 33] . فَدُخُولُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 تَرَى، وَهُوَ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [2 \ 169] . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثْنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ سُفْيَانَ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرْنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَمْلَاهُ عَلَيْنَا إِمْلَاءً. ح وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنِ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنَ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي، أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَفِيهِ النَّهْيُ الصَّرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِسْبَةِ حُكْمٍ إِلَى اللَّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ بِأَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يَتَجَرَّءُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبُغَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ: إِيَّاكُمْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا أَوْ نَهَى عَنْهُ، فَيَقُولَ اللَّهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحَرِّمْهُ وَلَمْ أَنْهَ عَنْهُ. قَالَ: أَوْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ هَذَا وَأَمَرَ بِهِ، فَيَقُولَ: كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّهُ وَلَمْ آمُرْ بِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ وَهَبٍ وَعَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنَّهُمَا سَمِعَا مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ مِنَ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا وَلَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. مَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ هَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا، وَنَتَّقِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 وَزَادَ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ: وَلَا يَقُولُونَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ. أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] . الْحَلَّالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا أَنَّ مَا أُخِذَ مِنَ الْعِلْمِ رَأْيًا وَاسْتِحْسَانًا لَمْ نُقِلْ فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [16 \ 116] مَا نَصُّهُ: أَسْنَدَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَسْنَدِهِ أَخْبَرَنَا هَارُونُ عَنْ حَفْصٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ قَطُّ يَقُولُ: حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ. وَقَالَ ابْنُ وَهَبٍ: قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَلَكِنْ يَقُولُونَ: إِيَّاكُمْ وَكَذَا وَكَذَا. وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَوْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ تَعَالَى صَرَّحَ بِذَلِكَ عَنْهُ. وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ: إِنِّي أَكْرَهُ كَذَا. وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ اقْتِدَاءً بِمَنْ تَقَدَّمُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ مَالِكٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَتَجَرَّءُونَ أَنْ يَقُولُوا فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ: هَذَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ. فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِشَيْءٍ مِنْ نُورِ الْوَحْيِ؟ فَتَجَرُّؤُهُمْ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنَ الْكِتَابِ إِنَّمَا نَشَأَ لَهُمْ مِنَ الْجَهْلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَآيَةُ يُونُسَ الْمُتَقَدِّمَةُ صَرِيحَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَا صَرَاحَةً تُغْنِي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا [10 \ 59] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 وَلَمْ يَجْعَلْ وَاسِطَةً بَيْنَ إِذْنِهِ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ بِتَحْرِيمِ هَذَا أَوْ تَحْلِيلًا فَلْيَعْتَمِدْ عَلَى إِذْنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ لَا بِخُصُوصِ سَبَبِهَا. فَالَّذِينَ يَقُولُونَ مِنَ الْجَهَلَةِ الْمُقَلِّدِينَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدُوهُ تَقُومُ مَقَامَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتُغْنِي عَنْهُمَا، وَأَنَّ تَرْكَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاكْتِفَاءَ بِأَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ أَسْلَمَ لِدِينِهِ أَعْمَتْهُمْ ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ الْمُتَرَاكِمَةُ عَنِ الْحَقَائِقِ حَتَّى صَارُوا يَقُولُونَ هَذَا. فَهُمْ كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ، مَا كَانَ يَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِ الَّذِي تَجَرَّءُوا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [39 \ 9] . التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ اعْلَمْ أَنَّ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ مَعْرِفَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَنَّ مَحَلَّ الِاتِّبَاعِ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ بِحَالٍ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ظَهَرَ دَلِيلُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ كُلَّ اجْتِهَادٍ يُخَالِفُ النَّصَّ، فَهُوَ اجْتِهَادٌ بَاطِلٌ، وَلَا تَقْلِيدَ إِلَّا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ; لِأَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا إِذْ لَا أُسْوَةَ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، فَلَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ إِلَّا الِاتِّبَاعُ فَقَطْ. وَلَا اجْتِهَادَ، وَلَا تَقْلِيدَ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ، مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ - سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارِضِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يَكَادُ يُنَازِعُ فِي صِحَّةِ مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالِاتِّبَاعُ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: كُلُّ مَنِ اتَّبَعْتَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْكَ قَوْلُهُ لِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ، وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْكَ الدَّلِيلُ اتِّبَاعَ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ، وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مُسَوَّغٌ وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْقِيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: وَقَدْ فَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ. فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ هُوَ مِنْ بَعْدٍ فِي التَّابِعَيْنِ مُخَيَّرٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ: أَمَّا كَوْنُ الْعَمَلِ بِالْوَحْيِ اتِّبَاعًا لَا تَقْلِيدًا فَهُوَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ اتِّبَاعًا كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [7 \ 3] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [39 \ 55] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 203] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [6 \ 155] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 106] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [46 \ 9] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. فَالْعَمَلُ بِالْوَحْيِ، هُوَ الِاتِّبَاعُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّ اتِّبَاعَ الْوَحْيِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَاتِ لَا يَصِحُّ اجْتِهَادٌ يُخَالِفُهُ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي شَيْءٍ يُخَالِفُهُ. فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَنَّ مَوَاضِعَ الِاتِّبَاعِ لَيْسَتْ مَحَلًّا أَصْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَلَا لِلتَّقْلِيدِ، فَنُصُوصُ الْوَحْيِ الصَّحِيحَةُ الْوَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ السَّالِمَةُ مِنَ الْمُعَارِضِ لَا اجْتِهَادَ وَلَا تَقْلِيدَ مَعَهَا الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا وَالْإِذْعَانَ لَهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَمَا لَا يَخْفَى. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ شُرُوطَ الْمُجْتَهِدِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْأُصُولِيُّونَ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الِاجْتِهَادِ، وَمَوْضِعُ الِاتِّبَاعِ لَيْسَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ. فَجَعْلُ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمُتَّبِعِ مَعَ تَبَايُنِ الِاجْتِهَادِ وَالِاتِّبَاعِ وَتَبَايُنِ مَوَاضِعِهِمَا خَلْطٌ وَخَبْطٌ، كَمَا تَرَى. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْوَحْيِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إِلَّا عِلْمُهُ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَحْيِ الَّذِي يَتَّبِعُهُ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ عِلْمُ حَدِيثٍ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَعِلْمُ آيَةٍ وَالْعَمَلُ بِهَا. وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى تَحْصِيلِ جَمِيعِ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ، فَيَلْزَمُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَعْمَلُ بِكُلِّ مَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ. التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَنِ الْمُقَلِّدِينَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى الْمَذْكُورِ، يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ وَتَأْمُرُونَنَا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَقْدِيمِهِمَا عَلَى آرَاءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 الرِّجَالِ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ; لِأَنَّا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى نَعْمَلَ بِهِمَا. وَلَا يُمْكِنُنَا مَعْرِفَةُ شَيْءٍ مِنَ الشَّرْعِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْإِمَامِ الَّذِي نُقَلِّدُهُ ; لِأَنَّا لَمْ نَتَعَلَّمْ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ. فَإِذَا لَمْ نُقَلِّدْ إِمَامَنَا بَقِينَا فِي حَيْرَةٍ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ عِبَادَاتِنَا وَلَا مُعَامَلَاتِنَا، وَتَعَطَّلَتْ بَيْنَنَا الْأَحْكَامُ إِذْ لَا نَعْرِفُ قَضَاءً وَلَا فَتْوَى وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ مَذْهَبِ إِمَامِنَا ; لِأَنَّ أَحْكَامَهُ مُدَوَّنَةٌ عِنْدَنَا وَهِيَ الَّتِي نَتَعَلَّمُهَا وَنَتَدَارَسُهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْآخَرِينَ. وَنَحْنُ نَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ ضَيَّقْتُمْ وَاسِعًا. وَادَّعَيْتُمُ الْعَجْزَ، وَعَدَمَ الْقُدْرَةِ فِي أَمْرٍ سَهْلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْوَالَ الرَّاهِنَةَ لِلْمُقَلِّدِينَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى لِلْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ تَقْتَضِي صُعُوبَةً شَدِيدَةً جِدًّا فِي طَرِيقِ التَّحَوُّلِ مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى إِلَى الِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِ الْوَحْيِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ شِدَّةِ التَّفْرِيطِ فِي تَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا إِعْرَاضًا كُلِّيًّا يَتَوَارَثُهُ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ، وَالْآبَاءُ عَنِ الْأَجْدَادِ، فَالدَّاءُ الْمُسْتَحْكِمُ مِنْ مِئَاتِ السِّنِينَ لَا بُدَّ لِعِلَاجِهِ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إِنَّ الْجَاهِلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْمَلُ بِهِمَا بِاجْتِهَادِهِ، بَلْ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ نَقُولَ ذَلِكَ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَجِبُ تَعَلُّمُهُمَا، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمَا وَأَنَّ كُلَّ مَا عَلِمَهُ الْمُكَلَّفُ مِنْهُمَا عِلْمًا صَحِيحًا نَاشِئًا عَنْ تَعَلُّمٍ صَحِيحٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، فَالْبَلِيَّةُ الْعُظْمَى إِنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ تَوَارُثِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا إِعْرَاضًا كُلِّيًّا اكْتِفَاءً عَنْهُمَا بِغَيْرِهِمَا، وَهَذَا مِنَ أَعْظَمِ الْمُنْكِرِ وَأَشْنَعِ الْبَاطِلِ. فَالَّذِي نَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ الْمُبَادَرَةُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمَا بِتَعَلُّمِهِمَا أَوَّلًا ثُمَّ الْعَمَلِ بِهِمَا وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا. وَدَعْوَى أَنَّ تَعَلُّمَهُمَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، لَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِهَا عَاقِلٌ، وَنُعِيذُ أَنْفُسَنَا وَإِخْوَانَنَا بِاللَّهِ أَنْ يَدَّعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ فَهْمِ كِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الْكُفَّارِ لَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [41 \ 1 - 5] . فَاحْذَرْ يَا أَخِي وَارْحَمْ نَفْسَكَ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ وَكُنْتَ تَسْمَعُ رَبَّكَ يَقُولُ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [54 \ 17] ، وَيَقُولُ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [44 \ 58] . وَيَقُولُ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] . فَلَا تُخْرِجْ نَفْسَكَ مِنْ عُمُومِ أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ ; لِأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ اعْتَرَفْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ لَسْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَخْلُو الْمُقَلِّدُونَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى، مِنْ أحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَلْتَفِتُوا إِلَى نُصْحِ نَاصِحٍ، بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى تَقْلِيدِهِمُ الْأَعْمَى، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ نُورِ الْوَحْيِ عَمْدًا، وَتَقْدِيمِ رَأْيِ الرِّجَالِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقِسْمُ مِنْهُمْ لَا نَعْلَمُ لَهُ عُذْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا أَحَدٍ مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَمْدًا مَعَ سُهُولَةِ تَعَلُّمِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ بِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ. وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ وَهُوَ تَامُّ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ قَادِرٌ عَلَى التَّعَلُّمِ فَعَدَمُ عُذْرِهِ كَمَا تَرَى. الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ يَنْدَمَ الْمُقَلِّدُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي تَعَلُّمِ الْوَحْيِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُبَادِرُوا إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَشْرَعُوا فِي ذَلِكَ بِجِدٍّ. تَائِبِينَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِيطِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي نَدْعُو إِخْوَانَنَا إِلَيْهِ. التَّنْبِيهُ السَّادِسُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الضَّرُورَةَ لَهَا أَحْوَالٌ خَاصَّةٌ تَسْتَوْجِبُ أَحْكَامًا غَيْرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 أَحْكَامِ الِاخْتِيَارِ. فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَلْجَأَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى شَيْءٍ إِلْجَاءً صَحِيحًا حَقِيقِيًّا، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ. وَقَدِ اسْتَثْنَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - حَالَةَ الِاضْطِرَارِ فِي خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، ذَكَرَ فِيهَا الْمُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَغْلَظِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا ذَكَرَ تَحْرِيمَهَا اسْتَثْنَى مِنْهَا حَالَةَ الضَّرُورَةِ، فَأَخْرَجَهَا مَنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [6 \ 145] . وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [6 \ 119] . وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّحْلِ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [16 \ 115] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [2 \ 173] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5 \ 3] . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لِلتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى اضْطِرَارًا حَقِيقِيًّا، بِحَيْثُ يَكُونُ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ، عَلَى غَيْرِهِ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ لِكَوْنِهِ لَا قُدْرَةَ لَهُ أَصْلًا عَلَى الْفَهْمِ، أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْفَهْمِ وَقَدْ عَاقَتْهُ عَوَائِقُ قَاهِرَةٌ عَنِ التَّعَلُّمِ. أَوْ هُوَ فِي أَثْنَاءِ التَّعَلُّمِ وَلَكِنَّهُ يَتَعَلَّمُ تَدْرِيجًا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 أَوْ لَمْ يَجِدْ كُفْئًا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ لِلضَّرُورَةِ ; لِأَنَّهُ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنْهُ. أَمَّا الْقَادِرُ عَلَى التَّعَلُّمِ الْمُفَرِّطُ فِيهِ، وَالْمُقَدِّمُ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنَ الْوَحْيِ، فَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمَعْذُورٍ. التَّنْبِيهُ السَّابِعُ اعْلَمْ أَنَّ مَوْقِفَنَا مِنَ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ هُوَ مَوْقِفُ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ. وَهُوَ مُوَالَاتُهُمْ، وَمَحَبَّتُهُمْ، وَتَعْظِيمُهُمْ، وَإِجْلَالُهُمْ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ، بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَاتِّبَاعُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَقْدِيمِهِمَا عَلَى رَأْيِهِمْ، وَتَعَلُّمُ أَقْوَالِهِمْ لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى الْحَقِّ، وَتَرْكُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْهَا. وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَالصَّوَابُ النَّظَرُ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ اتِّبَاعُ اجْتِهَادِهِمْ أَصْوَبُ مِنِ اجْتِهَادِنَا لِأَنْفُسِنَا ; لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَتَقْوَى مِنَّا. وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ وَنَحْتَاطَ لِأَنْفُسِنَا فِي أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ إِلَى رِضَا اللَّهِ وَأَحْوَطِهَا وَأَبْعَدِهَا مِنَ الِاشْتِبَاهِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» . وَقَالَ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» . وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ الْفَصْلِ فِي الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ مِنْ خِيَارِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ، فَكُلُّ مَا أَصَابُوا فِيهِ فَلَهُمْ فِيهِ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَمَا أَخْطَئُوا فِيهِ فَهُمْ مَأْجُورُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ مَعْذُورُونَ فِي خَطَئِهِمْ فَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا يَلْحَقُهُمْ ذَمٌّ وَلَا عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ فِي ذَلِكَ. وَلَكِنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِمَانِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَقْوَالِهِمْ كَمَا لَا يَخْفَى. فَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ فَلَا تَكُ مِمَّنْ يَذُمُّهُمْ وَيَنْتَقِصُهُمْ وَلَا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَقْوَالَهُمْ مُغْنِيَةً عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ اعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَئِمَّةِ أُخِذَتْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ، وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُهُمْ رَأْيًا. وَلِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا الْقِيلُ وَالْقَالُ مِنْ ذَلِكَ لَا نَحْتَاجُ إِلَى بَسْطِ تَفْصِيلِهَا. وَبَعْضُ الْمَسَائِلِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِيهَا، وَبَعْضُهَا قَدْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ تَرَكَهَا لِشَيْءٍ آخَرَ ظَنَّهُ أَرْجَحَ مِنْهَا، كَتَرْكِهِ الْعَمَلَ لِحَدِيثِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ. وَحَدِيثِ تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ ; لِأَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ احْتِرَامًا لِلنُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ظَنِّهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَأَنَّ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ نَسْخٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] . فَاحْتَرَمَ النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ الْمُتَوَاتِرَ، فَلَمْ يَرْضَ نَسْخَهُ بِخَبَرٍ آحَادٍ سَنَدُهُ دُونَ سَنَدِهِ ; لِأَنَّ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ عِنْدَهُ رَفْعٌ لِلْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ فَهُوَ عِنْدُهُ زِيَادَةٌ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [24 \ 2] ، وَالْمُتَوَاتِرُ لَا يُنْسَخُ بِالْآحَادِ. فَتَرْكُهُ الْعَمَلَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَحَادِيثِ بَنَاهُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُنْسَخُ بِالْآحَادِ. وَخَالَفَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَوَافَقُوهُ فِي الثَّانِيَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا وَنَعْتَقِدُهُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّ كِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ. أَمَّا الزِّيَادَةُ فَيَجِبُ فِيهَا التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْبَتَتْ حُكْمًا نَفَاهُ النَّصُّ أَوْ نَفَتْ حُكْمًا أَثْبَتَهُ النَّصُّ فَهِيَ نَسْخٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلنَّصِّ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ بَلْ زَادَتْ شَيْئًا سَكَتَ عَنْهُ النَّصُّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَسْخًا لِأَنَّهَا إِنَّمَا رَفَعَتِ الْإِبَاحَةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَرَفْعُهَا لَيْسَ نَسْخًا إِجْمَاعًا. وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ، فَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَ تَأَخُّرُهَا عَنِ الْمُتَوَاتِرِ لَا وَجْهَ لِرَدِّهَا، وَلَا تَعَارُضَ الْبَتَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ إِذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ خَبَرَيْنِ اخْتَلَفَ زَمَنُهُمَا، لِجَوَازِ صِدْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهِ. فَلَوْ أَخْبَرَكَ مَثَلًا عَدَدٌ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، بِأَنَّ أَخَاكَ الْغَائِبَ لَمْ يَزَلْ غَائِبًا وَلَمْ يَأْتِ مَنْزِلَهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِمَنْزِلِهِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، ثُمَّ أَخْبَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِأَنَّ أَخَاكَ مَوْجُودٌ فِي مَنْزِلِهِ الْآنَ، فَهَلْ يَسُوغُ لَكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ كَذَبْتَ، لِأَنِّي أَخْبَرَنِي عَدَدٌ كَثِيرٌ قَبْلَكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ؟ وَلَوْ قُلْتَ لَهُ ذَلِكَ لَقَالَ لَكَ هُمْ فِي وَقْتِ إِخْبَارِهِمْ لَكَ صَادِقُونَ، وَلَكِنَّ أَخَاكَ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَالْمُتَوَاتِرُ فِي وَقْتِ نُزُولِهِ صَادِقٌ، وَخَبَرُ الْآحَادِ الْوَارِدُ بَعْدَهُ صَادِقٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ أَفَادَ تَجَدُّدَ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ، فَحَصْرُ الْمُحَرَّمَاتِ مَثَلًا فِي الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الْآيَةَ [6 \ 145] صَادِقٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا يُوجَدُ مُحَرَّمٌ عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعَ. فَلَا تَحْرُمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، وَلَا ذُو النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا الْخَمْرُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا جَاءَ بَعْدُ خَبَرٌ آحَادٌ صَحِيحٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِخَيْبَرَ، فَهَلْ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ يُعَارِضُ حَصْرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا [6 \ 145] ؟ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ لَا تُنَاقِضُهُ الْآيَةُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَفَادَ حُكْمًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 جَدِيدًا طَارِئًا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا مِنْ قَبْلُ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ تَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْآيَةُ لَمْ تَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ زِيَادَةَ حُكْمٍ طَارِئٍ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا كَانَ قَبْلَهَا. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ إِنَّمَا رَفَعَ اسْتِمْرَارَ حُكْمِ الْمُتَوَاتِرِ وَدَلَالَةُ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً حَتَّى يُمْنَعَ نَسْخُهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَصْدُنَا مُطْلَقُ الْمِثَالِ لِمَا يُقَالُ: إِنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ بِرَأْيِهِ. وَغَرَضُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا لِشَيْءٍ اعْتَقَدَهُ مُسَوِّغًا لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ السُّنَّةَ إِلَّا لِشَيْءٍ يَرَاهُ مُسْتَوْجِبًا لِذَلِكَ شَرْعًا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عَلَى الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ مَا نَصُّهُ: وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ. وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى مَذْهَبَهُ كَمَا قَدَّمَ حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ. وَقَدَّمَ حَدِيثَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. وَمَنَعَ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ لِسَرِقَةٍ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ. وَجَعَلَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ. وَشَرَطَ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ الْمِصْرَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ كَذَلِكَ. وَتَرَكَ الْقِيَاسَ الْمَحْضَ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ لِآثَارٍ فِيهَا غَيْرِ مَرْفُوعَةٍ. فَتَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ قَوْلُهُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ هُوَ الضَّعْفُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ ; بَلْ مَا يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ حَسَنًا قَدْ يُسَمِّيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ ضَعِيفًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا ذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ لُزُومُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَعَيُّنُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الدُّخُولِ فِيهَا، وَالسَّلَامُ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا، وَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. وَلَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ هُنَا لِذِكْرِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَمُنَاقَشَةِ الْأَدِلَّةِ. بَلِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنْ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهِ شَيْءٌ خَالَفَ فِيهِ سُنَّةً وَأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوهَا إِلَّا لِشَيْءٍ سَوَّغَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الْمُنَاقَشَةِ الدَّقِيقَةِ قَدْ يَظْهَرُ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُمْ وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُمْ مَأْجُورُونَ وَمَعْذُورُونَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشْيَاءَ قَالَ: إِنَّهُ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ: وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ غَانِمٍ فِي مَجْلِسِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ يُحَدِّثُ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَحْصَيْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ سَبْعِينَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا قَالَ مَالِكٌ فِيهَا بِرَأْيِهِ، قَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ كَلَامِ اللَّيْثِ هَذَا عَنْ مَالِكٍ لَا أَثَرَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ وَلَا أَدِلَّتَهَا. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ فِيهَا مَعَ مَالِكٍ لِأَدِلَّةٍ خَفِيَتْ عَلَى اللَّيْثِ، فَلَيْسَ خَفَاؤُهَا عَلَى مَالِكٍ بِأَوْلَى مِنْ خَفَائِهَا عَلَى اللَّيْثِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمُدَوَّنَ فِيهِ فُرُوعٌ تُخَالِفُ بَعْضَ نُصُوصِ الْوَحْيِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَبْلُغْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ بَلَغَهُ لِعَمِلَ بِهِ. وَأَنَّ بَعْضَهَا بَلَغَهُ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ لِشَيْءٍ آخَرَ يَعْتَقِدُهُ دَلِيلًا أَقْوَى مِنْهُ. وَمِنَ أَمْثِلَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ فِيهِ - صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالَ بَعْدَ صَوْمِ رَمَضَانَ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ مَا نَصُّهُ: إِنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، وَلَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَأَوْهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِيهِ تَصْرِيحُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَهُ التَّرْغِيبُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ يَصُومُهَا وَيَأْمُرُ بِصَوْمِهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ بِكَرَاهَتِهَا. وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْأَفُ وَأَرْحَمُ بِالْأُمَّةِ مِنْهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] . فَلَوْ كَانَ صَوْمُ السُّنَّةِ يَلْزَمُهُ الْمَحْذُورُ الَّذِي كَرِهَهَا مَالِكٌ مِنْ أَجْلِهِ لَمَا رَغَّبَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَرَاعَى الْمَحْذُورَ الَّذِي رَاعَاهُ مَالِكٌ. وَلَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْغَى الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ وَأَهْدَرَهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ بِشَيْءٍ مِنْ شَوَّالَ. كَمَا أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُرَغَّبَ فِيهَا قَبْلَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا لَمْ يَكْرَهْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَشْيَةَ أَنْ يُلْحِقَهَا الْجَهَلَةُ بِالْمَكْتُوبَاتِ لِشُهْرَةِ الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ وَعَدَمِ الْتِبَاسِهَا بِغَيْرِهَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِإِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكْرُوهٌ لِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنَّهُ الْجُهَّالُ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ. وَصِيَامُ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَتَرْغِيبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ ثَابِتٌ عَنْهُ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا عَنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّرْغِيبِ فِي صَوْمِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَالْقَوْلُ بِكَرَاهَتِهَا مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 غَيْرِ مُسْتَنَدٍ مِنَ أَدِلَّةِ الْوَحْيِ خَشْيَةَ إِلْحَاقِ الْجُهَّالِ لَهَا بِرَمَضَانَ، لَا يَلِيقُ بِجَلَالَةِ مَالِكٍ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِهِ نَفْسِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ لِعَمِلَ بِهِ ; لِأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْرَصِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النِّسَائِيَّ، وَصَوْمُ السُّنَّةِ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ ثَوْبَانُ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ نَيْلِ الْأَوْطَارِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ إِسْنَادُ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورُ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَلَامِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ لِتَوْثِيقِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ وَاعْتِمَادِ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ فِي صَحِيحِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا لَمْ تَبْلُغْ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِفْرَادُ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ مَا نَصُّهُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِيهِ تَصْرِيحُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَنْهَى عَنْ صَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَحَرَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَصُومَهُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، وَأَمْرُهُ مَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ يَوْمًا غَيْرَهُ وَإِلَّا أَفْطَرَ إِنِ ابْتَدَأَ صِيَامَهُ نَاوِيًا إِفْرَادَهُ. وَلَوْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَمِلَ بِهَا وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِغَيْرِهَا ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ: يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ. حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» . حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ، ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أُبَيٍّ عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةَ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: أَصْمُتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَأَفْطِرِي» . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ سَمِعَ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبٍ: أَنَّ جُوَيْرِيَّةَ حَدَّثَتْهُ فَأَمَرَهَا، فَأَفْطَرَتْ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ» . وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، ح وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَاللَّفْظُ لَهُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» . وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةَ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يُصُومُهُ أَحَدُكُمْ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَوْ بَلَغَتْ مَالِكًا مَا خَالَفَهَا، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي كَوْنِهَا لَمْ تَبْلُغْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ بِهِ يُقْتَدَى نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ. فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي رَآهُ، وَقَدْ رَأَى غَيْرَهُ خِلَافَ مَا رَأَى هُوَ، وَالسُّنَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَا رَآهُ هُوَ وَغَيْرُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَمَالِكٌ مَعْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا هَذَا الْحَدِيثَ وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ; لِأَنَّ مَالِكًا مِنْ أَوْرَعِ الْعُلَمَاءِ وَأَكْثَرِ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَدَعُهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِهَا. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» أَيْ كَأَنْ يَنْذُرَ أَحَدٌ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَشْفِي اللَّهُ فِيهِ مَرِيضَهُ، فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ ; لِأَنَّ صَوْمَهُ لَهُ لِأَجْلِ النَّذْرِ، الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ بِأَصْلِهِ تَعْيِينَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَإِنَّمَا النَّهْيُ فِيمَنْ قَصَدَ بِصَوْمِهِ نَفْسَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْغَرَضُ عِنْدَنَا إِنَّمَا هُوَ الْمِثَالُ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ مَالِكًا فِيهَا السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ بَلَغَتْهُ لَعَمِلَ بِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هُنَالِكَ بَعْضًا مِنَ النُّصُوصِ تَرَكَ مَالِكٌ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ بَلَغَهُ ; لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا تَرَكَ النَّصَّ مِنْ أَجْلِهِ أَرْجَحُ مِنَ النَّصِّ. وَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُنَاقَشَاتٍ دَقِيقَةٍ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَعَ هَذَا الْإِمَامِ تَارَةً وَمَعَ غَيْرِهِ أُخْرَى. فَقَدْ تَرَكَ مَالِكٌ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَلَغَ مَالِكًا. وَقَدْ حَلَفَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْتِي بِثَلَاثٍ. قَالَهَا مَالِكٌ. وَمُرَادُهُ بِالثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ - عَدَمُ الْقَوْلِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ هَذَا مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ. وَجِنْسِيَّةُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ مَعَ صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ. وَالتَّدْمِيَةُ الْبَيْضَاءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَالِكًا بَلَغَهُ حَدِيثُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ هَذَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 فَقَدْ رَوَى فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ; أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» . قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. مَعَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: وَأَشَارَ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَى بَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَعَتْهُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَمْ يُحَدَّدْ بِحَدٍّ مَعْرُوفٍ. فَصَارَ الْقَوْلُ بِهِ مَانِعًا مِنِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ إِلَى حَدٍّ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، وَقَدْ يَكُونَانِ مَسْجُونَيْنِ فِي مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُهُمَا التَّفَرُّقُ فِيهِ. وَقَدْ حَمَلَ مَالِكٌ التَّفَرُّقَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الْكَلَامِ، وَصِيغَةِ الْعَقْدِ، قَالَ: وَقَدْ أُطْلِقَ التَّفَرُّقُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْأَبْدَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [4 \ 130] ، فَالتَّفَرُّقُ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ الطَّلَاقِ لَا بِالْأَبْدَانِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [98 \ 4] ، فَالتَّفَرُّقُ فِي الْآيَةِ تَفَرُّقٌ بِالْكَلَامِ وَالِاعْتِقَادِ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِالْأَبْدَانِ. وَحُجَجُ مَنِ احْتَجَّ لِمَالِكٍ فِي عَدَمِ أَخْذِهِ بِحَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. مِنْهَا مَا هُوَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [2 \ 282] ، وَقَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [5 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [4 \ 29] . وَمِنْهَا مَا هُوَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا بَسْطُ الْحُجَجِ وَمُنَاقَشَتُهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا الْمِثَالُ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتْرُكُ نَصًّا بَلَغَهُ لِاعْتِقَادِ أَنَّ مَا تُرِكَ مِنْ أَجْلِهِ النَّصُّ أَرْجَحُ مِنْ نَفْسِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ مُرَاعَاةُ الْمَخْرَجِ وَالنَّجَاةِ لِنَفْسِهِ فَيَنْظُرُ فِي الْأَدِلَّةِ، وَيَعْمَلُ بِأَقْوَاهَا وَأَقْرَبِهَا إِلَى رَضَا اللَّهِ. كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ، لَا يُفْتِي بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ مَالِكِيٌّ، لِأَنَّهُ رَأَى الْأَدِلَّةَ وَاضِحَةً وُضُوحًا لَا لَبْسَ فِيهِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّقِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْصِفَ إِذَا تَأَمَّلَ تَأَمُّلًا صَادِقًا خَالِيًا مِنَ التَّعَصُّبِ عَرَفَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ ثُبُوتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّقِ التَّفَرُّقُ فِي الْأَبْدَانِ لَا بِالْكَلَامِ ; لِأَنَّ مَعْنَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ هُوَ حُصُولُ الْإِيجَابِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْقَبُولِ مِنَ الْمُشْتَرِي. وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْخِيَارَ حَاصِلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ضَرُورَةً قَبْلَ حُصُولِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَحَمْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا حَمْلٌ لَهُ عَلَى تَحْصِيلِ حَاصِلٍ، وَهُوَ كَمَا تَرَى. مَعَ أَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَسَاوِمَانِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْمُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةً إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. وَحَمْلُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَنْعَقِدْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ أَيْضًا كَمَا تَرَى. وَأَمَّا كَوْنُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ جِنْسًا وَاحِدًا، فَقَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ مَالِكٌ بِبَعْضِ الْآثَارِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ فِي الْمُوَطَّأِ: إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ قَالَ: فَنِيَ عَلَفُ حِمَارِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ فَابْتَعْ بِهَا شَعِيرًا، وَلَا تَأْخُذْ إِلَّا مِثْلَهُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدَ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَنِيَ عَلَفُ دَابَّتِهِ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلَكَ فَابْتَعْ بِهَا شَعِيرًا وَلَا تَأْخُذْ إِلَّا مِثْلَهُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا: أَنَّ مَالِكًا بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ مُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِيِّ مِثْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَهَذِهِ الْآثَارُ هِيَ عُمْدَةُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَوْنِ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ جِنْسًا وَاحِدًا، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِتَقَارُبِ مَنْفَعَتِهِمَا. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ جِنْسَانِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَصِحُّ مُعَارَضَتُهَا الْبَتَّةَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَمَّنْ ذَكَرَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى إِلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، كَاخْتِلَافِهِمَا مَعَ التَّمْرِ وَالْمِلْحِ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ جَائِزٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ: وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا. قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى لَمَّا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ - مَا نَصُّهُ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ جِنْسَيْنِ، وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى. وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ صَرَاحَةِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ جِنْسَانِ لَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَا مَعَ صِحَّتِهَا وَوُضُوحِهَا، وَلَا أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا أَثَرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَا أَثَرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَلَا أَثَرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مُعَيْقِيبٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ لِكَوْنِ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ جِنْسًا وَاحِدًا بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْمَرًا الْمَذْكُورَ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ طَعَامُهُمْ يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ، فَقَدْ عَيَّنَ أَنَّ عُرْفَهُمُ الْمُقَارِنَ لِلْخِطَابِ يُخَصِّصُ الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ بِالشَّعِيرِ. وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكٍ: أَنَّ الْعُرْفَ الْمُقَارِنَ لِلْخِطَابِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ الَّتِي يُخَصَّصُ بِهَا الْعَامُ قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي ذَلِكَ: وَالْعُرْفُ حَيْثُ قَارَنَ الْخِطَابَا ... وَدَعْ ضَمِيرَ الْبَعْضِ وَالْأَسْبَابَا الْأَمْرُ الثَّانِي: إِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى فَرْضِ اعْتِبَارِ عُمُومِهِ، وَعَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْعُرْفِ الْمَذْكُورِ، يَقْتَضِي أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَيَدْخُلُ التَّمْرُ وَالْمِلْحُ لِصِدْقِ الطَّعَامِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ كَمَا تَرَى. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ، بِأَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ أَجْنَاسٌ. وَأَنَّ الْقَمْحَ يُبَاعُ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شَاءَ الْمُتَبَايِعَانِ إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ. وَأَمَّا التَّدْمِيَةُ الْبَيْضَاءُ فَقَوْلُ مَالِكٍ فِيهَا يُظْهِرُ لَنَا قُوَّتَهُ وَاتِّجَاهَهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ بَيَّنَ وَجْهَ قَوْلِ مَالِكٍ فِيهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَالْمَسَائِلُ الَّتِي قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ مَالِكًا خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ سُجُودِ الشُّكْرِ وَسَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَعَدَمُ الْجَهْرِ بِآمِينَ، وَعَدَمُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَعَدَمُ قَوْلِ الْإِمَامِ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَعَدَمُ ضَفْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ ثَلَاثَ ضَفَائِرَ، وَتَرْكُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْحَجِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ بَعْضَ مَا تَرَكَ مَالِكٌ مِنَ النُّصُوصِ قَدْ بَلَغَتْهُ فِيهِ السُّنَّةُ وَلَكِنَّهُ رَأَى غَيْرَهَا أَرْجَحَ مِنْهَا، وَأَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَبْلُغْهُ، وَأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ مَقْبُولٌ وَمَرْدُودٌ، إِلَّا كَلَامَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ. وَهُوَ تَارَةٌ يُقَدِّمُ دَلِيلَ الْقُرْآنِ الْمُطْلِقَ أَوِ الْعَامَّ عَلَى السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ ; لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 الْقُرْآنَ أَقْوَى سَنَدًا وَإِنْ كَانَتِ السُّنَّةُ أَظْهَرُ دَلَالَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُبِحْ مَيْتَةَ الْجَرَادِ بِدُونِ ذَكَاةٍ ; لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ عُمُومَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [5 \ 3] . عَلَى حَدِيثِ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» الْحَدِيثَ، وَقَدَّمَ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [7 \ 55] ، عَلَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْجَهْرِ بِآمِينَ لِأَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ، وَالدُّعَاءُ مَأْمُورٌ بِإِخْفَائِهِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَالْآيَةُ أَقْوَى سَنَدًا وَأَحَادِيثُ الْجَهْرِ بِالتَّأْمِينِ أَظْهَرُ دَلَالَةً فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ يُقَدِّمُونَ السُّنَّةَ فِي نَحْوِ هَذَا. وَقَدْ قَدَّمَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ دَلِيلَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذَكَرْنَا كَمَا قَدَّمَهُ أَيْضًا فِي الثَّانِيَةِ مِنْ سَجْدَتَيِ الْحَجِّ لِأَنَّ نَصَّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ سُجُودُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِيهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ [22 \ 77] ، فَذِكْرُ الرُّكُوعِ مَعَ السُّجُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سُجُودُ الصَّلَاةِ. وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ سُجُودَ التِّلَاوَةِ كَقَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [108 \ 2] . وَلِذَلِكَ لَا يَسْجُدُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْحِجْرِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [15 \ 98] . قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أَيْ: صَلِّ لِرَبِّكَ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِهِ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي صَلَاتِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي ثَانِيَةِ الْحَجِّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا الْآيَةَ [22 \ 77] أَصْرَحُ فِي إِرَادَةِ سُجُودِ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَإِنَّنَا نُكَرِّرُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَلْحَقُهُمْ نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ فِيمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي تَعَلُّمِ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اجْتَهَدُوا بِحَسَبِ طَاقَتِهِمْ، فَالْمُصِيبُ مِنْهُمْ لَهُ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ، وَالْمُخْطِئُ مِنْهُمْ مَأْجُورٌ فِي اجْتِهَادِهِ مَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، وَلَا يَسَعُنَا هُنَا مُنَاقَشَةُ الْأَدِلَّةِ فِيمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِعِظَمِ مَنْزِلَتِهِمْ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجِبُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ، وَأَنَّ مَذَاهِبَهُمُ الْمُدَوَّنَةَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ عَلَى التَّعْلِيمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَمَعْرِفَةُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ تُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّظَرُ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ يُعِينُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَرْجَحِ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى رِضَا اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ، وَمُرَادُنَا هُنَا التَّمْثِيلُ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى أَقْوَالِهِمْ جَمِيعًا، وَلَيْسَ قَصْدُنَا الْإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ بِالْمَطْلُوبِ وَكَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْجَأَ إِيرَادَهَا فَنَذْكُرُهَا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِمَا أَرَادَ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَمِمَّا هُوَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنَ الشَّعْبَانِ حِينَمَا يُشَكُّ فِيهِ هَلْ هُوَ تَمَامُ شَعْبَانَ أَوْ أَوَّلُ رَمَضَانَ. وَذَلِكَ حِينَمَا تَكُونُ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً خَشْيَةَ أَنْ يَظْهَرَ الْهِلَالُ خَلْفَ الْغَيْمِ أَوِ الْقَتَرِ. وَلَا يَكُونُ يَوْمَ شَكٍّ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ صَحْوًا لِأَنَّهُ إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ فَهُوَ مِنْ رَمَضَانَ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ شَعْبَانَ. فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ هُوَ صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ احْتِيَاطًا لِرَمَضَانَ، وَهُوَ نَصُّ الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَاتٌ أُخَرُ. وَلَكِنَّ صَوْمَهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْمَذْهَبِ. وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ، قَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةٍ بِغَيْمٍ سَاتِرٍ، أَوْ نَحْوِهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَكَوْنُهُ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِهِ. اهـ. يَعْنِي بِمَا فِي مَعْنَاهُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» وَلِلْبُخَارِيِّ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» . وَشُبْهَةُ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْدِرُوا لَهُ» بِمَعْنَى فَضَيِّقُوا عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [65 \ 7] ، وَلَكِنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ الصَّرِيحِ فِي مَعْنَى «فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» وَقَوْلِهِ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» أَيْ سَوَاءٌ فِي شَعْبَانَ أَوْ فِي تَمَامِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَقُلْ بِصَوْمِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِمَّا هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِدُونِ حَائِلٍ مَعَ مَا جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحَادِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كُنْتُ أَنَامُ مُعْتَرِضَةً فِي الْقِبْلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فِي رِجْلِي فَأَقْبِضُهَا فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَا» . وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ سَتْرِهَا بِحَائِلٍ فَجَاءَ قَوْلُهَا «افْتَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُمْتُ أَطْلُبُهُ وَالْحُجُرَاتُ لَيْسَ فِيهِ آنَذَاكَ السُّرُجُ حَتَّى وَقَعَتْ كَفِّي عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَفِي وَادٍ وَأَنَا فِي وَادٍ» . فَلَمَّا قَامَ لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ظَنَّتْهُ ذَهَبَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ يُصَلِّي عِنْدَهَا فَقَامَتْ وَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي شَعْرِ رَأْسِهِ تَتَحَسَّسُ هَلِ اغْتَسَلَ أَمْ لَا. إِلَخْ. وَلَهُمْ أَجْوِبَةٌ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهَا لَا تَنْهَضُ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ. وَشُبْهَةُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فِي مَعْنَى: لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [4 \ 43] ، وَلَمْ يَقُلْ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْ أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا صَرِيحًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، بِدُونِ أَنْ تَكُونَ لَدَيْهِ شُبْهَةُ مُعَارَضَةٍ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ عَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ إِلَيْهِ، أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذَيْنَ الْمِثَالَيْنِ تَتِمَّةً لِلْبَحْثِ وَلِمُجَرَّدِ الْمَثَّالِ. التَّنْبِيهُ التَّاسِعُ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ الْإِمَامِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعَيْنِ، وَلَا أَحَدٍ غَيْرَ ذَلِكَ الْإِمَامِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَبَّهَ تَنَبُّهًا تَامًّا لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَقْوَالِ ذَلِكَ الْإِمَامِ الَّتِي خَالَهَا حَقًّا، وَبَيْنَ مَا أُلْحِقَ بَعْدَهُ عَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ، وَمَا زَادَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي لَا أَسَاسَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِإِلْحَاقِهِمْ بِمَذْهَبِهِ، لَتَبَرَّأَ مِنْهَا، وَأَنْكَرَ عَلَى مُلْحِقِهَا، فَنِسْبَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ مِنَ الْبَاطِلِ الْوَاضِحِ. وَيَزِيدُهُ بُطْلَانًا نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِدَعْوَى أَنَّهُ شَرَعَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ فِي الْمَذَاهِبِ وَكُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلُ خَلِيلٍ الْمَالِكِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى: كَأَقَلِّ الطُّهْرِ، يَعْنِي أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ مَذْهَبَ مَالِكٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: بِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا لَمْ يُقِلْهُ مَالِكٌ أَبَدًا وَلَمْ يُفْتِ بِهِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَالَّذِي كَانَ يَقُولُهُ مَالِكٌ: أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ أَوْ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ أَجِلَّاءُ أَهْلِ مَذْهَبِهِ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي رِسَالَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَاعْتَمَدَهُ صَاحِبُ التَّلْقِينِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ شَاشٍ الْمَشْهُورَ، أَيْ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ. مَعَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَقُلْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَمِثَالُ اسْتِحْسَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا لَمْ يَقُلْهُ الْإِمَامُ مِمَّا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ الْإِمَامَ لَمْ يَقْبَلْهُ قَوْلُ الْحَطَّابِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الصَّوْمِ: وَعَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ - مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ: صِيَامُ الْمَوْلِدِ كَرِهَهُ بَعْضُ مَنْ قَرُبَ عَصْرُهُ مِمَّنْ صَلُحَ عِلْمُهُ وَوَرَعُهُ. قَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُصَامَ فِيهِ، وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُورِيُّ يَذْكُرُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَيَسْتَحْسِنُهُ. انْتَهَى. قُلْتُ: لَعَلَّهُ يَعْنِي ابْنَ عِبَادٍ. فَقَدْ قَالَ فِي رَسَائِلِهِ الْكُبْرَى مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْمَوْلِدُ فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَوْسِمٌ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ، وَكُلُّ مَا يُفْعَلُ فِيهِ مِمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 يَقْتَضِيهِ وُجُودُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ الْمَوْلِدِ الْمُبَارَكِ مِنْ إِيقَادِ الشَّمْعِ وَإِمْتَاعِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالتَّزَيُّنِ بِلُبْسِ فَاخِرِ الثِّيَابِ وَرُكُوبِ فَارِهِ الدَّوَابِّ - أَمْرٌ مُبَاحٌ لَا يُنْكَرُ عَلَى أَحَدٍ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَوْقَاتِ الْفَرَحِ. وَالْحُكْمُ بِكَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِدْعَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ سِرُّ الْوُجُودِ وَارْتَفَعَ فِيهِ عِلْمُ الشُّهُودِ وَانْقَشَعَ فِيهِ ظَلَامُ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ لَيْسَ مِنَ الْمَوَاسِمِ الْمَشْرُوعَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمُقَارَنَةُ ذَلِكَ بِالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانُ - أَمْرٌ مُسْتَثْقَلٌ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ السَّلِيمَةُ وَتَدْفَعُهُ الْآرَاءُ الْمُسْتَقِيمَةُ. وَلِقَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا مِنَ الزَّمَانِ خَرَجْتُ فِي يَوْمِ مَوْلِدٍ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَاتَّفَقَ أَنْ وَجَدْتُ هُنَاكَ سَيِّدِي الْحَاجَّ ابْنَ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ طَعَامًا مُخْتَلِفًا لِيَأْكُلُوهُ هُنَالِكَ. فَلَمَّا قَدَّمُوهُ لِذَلِكَ أَرَادُوا مِنِّي مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْأَكْلِ، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ صَائِمًا فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنِّي صَائِمٌ، فَنَظَرَ إِلَيَّ سَيِّدِي الْحَاجُّ نَظْرَةً مُنْكَرَةً، وَقَالَ لِي مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ يُسْتَقْبَحُ فِي مَثَلِهِ الصِّيَامُ بِمَنْزِلَةِ الْعِيدِ، فَتَأَمَّلْتُ كَلَامَهُ فَوَجَدْتُهُ حَقًّا، وَكَأَنَّنِي كُنْتُ نَائِمًا فَأَيْقَظَنِي. انْتَهَى بِلَفْظِهِ. فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي يَقْتَضِي قُبْحَ صَوْمِ يَوْمِ الْمَوْلِدِ وَجَعْلَهُ كَيَوْمِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنْ تَابِعِيهِ. وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْمَعْرُوفِينَ الَّذِي أَدْخَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَمَالِكٌ بَرِيءٌ مِنْهُ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ، لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَالْفِطْرِ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَلِّفُ عِبَادَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِبَادَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ وَالْأَمْرُ بِهِمَا عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَطِيعُهُمَا، وَإِحْدَاهُمَا تَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْحَجُّ. وَالثَّانِيَةُ تَجِبُ كُلَّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا، وَهِيَ الصَّوْمُ، فَإِذَا انْتَهَتْ عِبَادَةُ الْحَجِّ أَوْ عِبَادَةُ الصَّوْمِ أَلْزَمَ اللَّهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِي ضِيَافَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ. فَمَنْ صَامَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ أَعْرَضَ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ضِيَافَتِهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 فَإِلْحَاقُ يَوْمِ الْمَوْلِدِ بِيَوْمِ الْعِيدِ إِلْحَاقٌ لَا أَسَاسَ لَهُ، لِأَنَّهُ إِلْحَاقٌ لَيْسَ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا وَلَا نَفْيِ فَارِقٍ، وَلَا إِلْحَاقَ الْبَتَّةَ إِلَّا بِجَامِعٍ أَوْ نَفْيِ فَارِقٍ. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَطْمِسِ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَعْلَ يَوْمِ الْمَوْلِدِ كَيَوْمِ الْعِيدِ فِي مَنْعِ الصَّوْمِ لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَهُوَ تَشْرِيعٌ لِاسْتِقْبَاحِ قُرْبَةِ الصَّوْمِ وَمَنْعِهَا فِي يَوْمِ الْمَوْلِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى وَحْيٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ. وَمِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 107] ، وَرِسَالَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَى الْخَلْقِ، كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا [14 \ 28] ، وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالشَّرُّ كُلُّ الشَّرِّ فِي تَشْرِيعِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ، وَالتَّقَوُّلِ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ. فَالْمُقَلِّدُونَ لِمَالِكٍ مِثْلَ هَذَا التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ عَنْ زَرْوَقٍ وَابْنِ عَبَّادٍ وَابْنِ عَاشِرٍ، أَنَّهُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَنَّهُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ، وَأَنَّهُ مَا دَامَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَاللَّازِمُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ. وَهَذَا مِثَالٌ مِنْ بَلَايَا التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى وَعَظَائِمِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ادِّعَاءَ أَنَّ وُجُودَ نِعَمِ اللَّهِ كَمَوْلِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْبَاحِ طَاعَةِ اللَّهِ بِالصَّوْمِ فِي أَوْقَاتِ وُجُودِ تِلْكَ النِّعَمِ - ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِنِعَمِ اللَّهِ هُوَ طَاعَتُهُ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَالصَّوْمِ. وَلِذَا تَجِدُ النَّاسَ يَنْذُرُونَ لِلَّهِ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يُنْعِمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ بِشِفَاءِ الْمَرِيضِ أَوْ إِتْيَانِ الْغَائِبِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الْمَعْقُولُ لَا عَكْسُهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَى الْبَشَرِ ; وَلِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَّمَهُمُ اللَّهُ حَمْدَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [18 \ 1] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ النِّعْمَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُقْتَضِيًا لِصَوْمِهِ لَا لِجَعْلِ أَيَّامِهِ أَعْيَادًا يُسْتَقْبَحُ صَوْمُهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [2 \ 185] . وَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَقَدْ رَتَّبَ عَلَى هَذَا بِالْفَاءِ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [2 \ 185] ، فَافْهَمْ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْمِثَالِ النَّصِيحَةُ لِلَّذِينِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى لِيَبْحَثُوا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ وَأُمَّهَاتِهِ عَنْ أَقْوَالِ الْإِمَامِ وَكِبَارِ أَصْحَابِهِ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْوَاعِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا، الَّتِي يُدْخِلُهَا الْمُتَأَخِّرُونَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ وَهِيَ ظَاهِرَةُ الْفَسَادِ عِنْدَ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ عَلِمًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ أَقْوَالَ مَالِكٍ وَكُبَرَاءَ أَصْحَابِهِ مَثَلًا أَحْرَى بِالصَّوَابِ فِي الْجُمْلَةِ مِنِ اسْتِحْسَانِ ابْنِ عَبَّادٍ وَابْنِ عَاشِرٍ وَأَمْثَالِهِمَا. التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ اعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا مُتَأَخِّرُو الْأُصُولِيِّينَ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حُكْمَهُمْ عَلَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ يُرِيدُ الْحَقَّ وَالْإِنْصَافَ أَنْ يَعْتَقِدَهَا، وَلَا أَنْ يُصَدِّقَهُمْ فِيهَا لِظُهُورِ عَدَمِ صِحَّتِهَا وَمُخَالَفَتِهَا لِلنَّصِّ، وَالْحُكْمِ فِيهَا عَلَى اللَّهِ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَهُوَ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِي يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةُ هِيَ الْمُتَرَكِّبَةُ مِمَّا يَأْتِي، وَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدِ انْقَرَضَ فِي الدُّنْيَا وَانْسَدَّ بَابُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَخْلُقَ مُجْتَهِدًا وَلَا يُعَلِّمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عِلْمًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُجْتَهِدًا إِلَى ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ. وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا كَائِنًا مَنْ كَانَ غَيْرَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ، كَمَا نَصَّ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى حَاكِيًا إِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهَا صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُجْمَعُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ الْأَرْبَعَهْ ... وَقَفْوُ غَيْرِهَا الْجَمِيعُ مَنَعَهْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 حَتَّى يَجِيءَ الْفَاطِمُ الْمُجَدِّدُ دِينَ الْهُدَى لِأَنَّهُ مُجْتَهِدُ وَمُرَادُهُ بِالْفَاطِمِيِّ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ ; لِأَنَّهُ شَرِيفٌ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَجِيءَ، حَرْفُ غَايَةِ، وَالْمُغَيَّا بِهِ مَنْعُ تَقْلِيدِ أَحَدٍ غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَقَفْوُ غَيْرِهَا الْجَمِيعُ مَنَعَهْ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ حَاكِمُونَ عَلَى اللَّهِ الْقَدِيرِ الْعَلِيمِ، بِأَنَّهُ لَا يَخْلُقُ مُجْتَهِدًا قَبْلَ وُجُودِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ. وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى اللَّهِ الَّذِي كَلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُقُ مُجْتَهِدًا قَبْلَ الْمَهْدِيِّ مِنْ مُدَّةِ انْقِرَاضِ الِاجْتِهَادِ الْمَزْعُومِ هُوَ يَا أَخِي كَمَا تَرَى. وَلَا شَكَّ أَنَّكَ إِنْ لَمْ يُعْمِكَ التَّعَصُّبُ الْمَذْهَبِيُّ تَقْطَعُ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ قَدْ صَرَّحَ بِمَا يُنَاقِضُهُ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَالْأَرْضُ لَا عَنْ قَائِمٍ مُجْتَهِدِ ... تَخْلُو إِلَى تَزَلْزُلِ الْقَوَاعِدِ وَهَذَا النَّقِيضُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقِ لِلْحَقِّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» الْحَدِيثَ. وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهَا لَا تَزَالُ ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ أَنَّهَا طَائِفَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَيْسَتِ الْبَتَّةَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى. لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ [4 \ 170] ، وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [6 \ 66] ، وَقَالَ فِي النَّمْلِ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [27 \ 79] ، وَقَالَ فِي يُونُسَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [10 \ 108] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَدَعْوَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مُجْتَهِدٌ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 الْمُنْتَظَرِ مُنَاقِضَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّابِتِ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنَاقِضُ الْحَقَّ فَهُوَ ضَلَالٌ، لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [10 \ 32] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. التَّنْبِيهُ الْحَادِيَ عَشَرَ اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاعْتِقَادَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمَا بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ الَّذِي عَمَّ جُلَّ مَنْ فِي الْمَعْمُورَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَآسِي وَالْمَصَائِبِ، وَالدَّوَاهِي الَّتِي دَهَتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُدَّةِ قُرُونٍ عَدِيدَةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّتَائِجَ الْوَخِيمَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ جُمْلَتِهَا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي وَاقِعِهِمُ الْآنَ مِنْ تَحْكِيمِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الْمُنَافِي لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا احْتَاجُوهُمْ بِفَصْلِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ عَنْ طُرُقِ الثَّقَافَةِ وَإِدْخَالِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَعَلَّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِمَا لَكَانَ ذَلِكَ حِصْنًا مَنِيعًا لَهُمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ فِي عَقَائِدِهِمْ وَدِينِهِمْ. وَلَكِنْ لَمَّا تَرَكُوا الْوَحْيَ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ أَقْوَالَ الرِّجَالِ لَمْ تَقُمْ لَهُمْ أَقْوَالُ الرِّجَالِ وَمَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَقَامَ كَلَامِ اللَّهِ وَالِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ، وَكَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّحَصُّنِ بِسُنَّتِهِ. وَلِذَلِكَ وَجَدَ الْغَزْوُ الْفِكْرِيُّ طَرِيقًا إِلَى قُلُوبِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ سِلَاحُهُمُ الْمُضَادُّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لَمْ يَجِدْ إِلَيْهِمْ سَبِيلًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُنْصِفٍ يَعْلَمُ أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ، وَلَوْ بَلَغُوا مَا بَلَغُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْغَزْوَ الْفِكْرِيَّ الَّذِي قَضَى عَلَى كِيَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَحْدَتِهِمْ وَفَصَلَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، لَوْ صَادَفَهُمْ وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَرَجَعَ مَدْحُورًا فِي غَايَةِ الْفَشَلِ لِوُضُوحِ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَوْنِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ الْمَذْكُورِ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَّا عَلَى الْبَاطِلِ وَالتَّمْوِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بُعِثَ وَتَحَقَّقُوا أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمَوْصُوفُ فِي كُتُبِهِمْ كَفَرُوا بِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَارْتِدَادُهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوهُ وَتَيَقَّنُوهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْهُدَى الَّذِي تَبَيَّنَ لَهُمْ هُوَ صِحَّةُ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْرِفَتِهِ بِالْعَلَامَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي كُتُبِهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذِهِ الْآيَةُ يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [2 \ 89] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا مُبَيِّنٌ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، وَقَوْلُهُ: كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ مُبَيِّنٌ مَعْنَى قَوْلِهِ: ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ سَبَبَ ارْتِدَادِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، هُوَ إِغْوَاءُ الشَّيْطَانِ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُشِيرًا إِلَى عِلَّةِ ذَلِكَ: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ أَيْ زَيَّنَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالِارْتِدَادَ عَنِ الدِّينِ، وَأَمْلَى لَهُمْ أَيْ مَدَّ لَهُمْ فِي الْأَمَلِ وَوَعَدَهُمْ طُولَ الْعُمُرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّلَ سَهَّلَ لَهُمْ رُكُوبَ الْعَظَائِمِ مِنَ السَّوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ، وَقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ جَمِيعًا، وَأَمْلَى لَهُمْ وَمَدَّ لَهُمْ فِي الْآمَالِ وَالْأَمَانِي. انْتَهَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى وَقَعَ لَهُمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّيْطَانَ سَوَّلَ لَهُمْ ذَلِكَ أَيْ سَهَّلَهُ لَهُمْ وَزَيَّنَهُ لَهُمْ وَحَسَّنَهُ لَهُمْ وَمَنَّاهُمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ ; لِأَنَّ طُولَ الْأَمَلِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَفِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ: قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ أَبِي عَمْرٍو وَأَمْلَى لَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الشَّيْطَانِ. وَأَصْلُ الْإِمْلَاءِ الْإِمْهَالُ وَالْمَدُّ فِي الْأَجَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [7 \ 183] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [3 \ 178] . وَمَعْنَى إِمْلَاءِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَعْدُهُ إِيَّاهُمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120] . وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [17 \ 64] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: وَأَمْلَى لَهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ أَيْ سَهَّلَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، وَزَيَّنَ ذَلِكَ وَحَسَّنَهُ لَهُمْ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَمْلَى لَهُمْ: أَيْ أَمْهَلَهُمْ إِمْهَالَ اسْتِدْرَاجٍ. وَكَوْنُ التَّسْوِيلِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالْإِمْهَالِ مِنَ اللَّهِ، قَدْ تَشْهَدُ لَهُمْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [8 \ 48] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [16 \ 63] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [14 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمُ اسْتِدْرَاجًا: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [19 \ 75] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [6 \ 44] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 95] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 - 56] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ «وَأُمْلِيَ لَهُمْ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ، بَعْدَهَا يَاءٌ مَفْتُوحَةٌ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ، فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ آنِفًا فِي فَاعِلِ: وَأَمْلَى لَهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَرِيبًا مَا يَشْهَدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِمْلَاءِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120] ، وَقَوْلِهِ فِي إِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمْ: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 45] ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. أَيْ ذَلِكَ التَّسْوِيلُ وَالْإِمْلَاءُ الْمُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَمْرِ الَّذِي قَالُوا لَهُمْ سَنُطِيعُكُمْ فِيهِ مِمَّا نَزَّلَ اللَّهُ وَكَرِهَهُ أُولَئِكَ الْمُطَاعُونَ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ فِي مُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِلِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنْ كَانَ كَذَلِكَ: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 27 - 28] . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [42 \ 10] ، وَفِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَبَيَّنَّا فِي سُورَةِ الشُّورَى أَيْضًا شِدَّةَ كَرَاهَةِ الْكُفَّارِ لِمَا نَزَّلَ اللَّهُ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [42 \ 13] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «أَسْرَارَهُمْ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ سِرٍّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ إِسْرَارَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَصْدَرُ أَسَرَّ كَقَوْلِهِ: وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [71 \ 9] ، وَقَدْ قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ سِرًّا فَأَفْشَاهُ اللَّهُ الْعَالِمُ بِكُلِّ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ؟ أَيْ قَبَضَ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ ضَارِبِينَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ يَتَوَفَّوْنَ الْكُفَّارَ وَهُمْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفَالِ: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [8 \ 50] ، وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [6 \ 93] . فَقَوْلُهُ: بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَيْ بِالضَّرْبِ الْمَذْكُورِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ أَعْنِي قَوْلَهُ: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ، أَيْ ذَلِكَ بِضَرْبِ وَقْتِ الْمَوْتِ وَاقِعٌ بِسَبَبٍ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ أَيْ أَغْضَبَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَطَاعَةِ الْكُفَّارِ الْكَارِهِينَ لِمَا نَزَّلَهُ. وَالْإِسْخَاطُ اسْتِجْلَابُ السُّخْطِ، وَهُوَ الْغَضَبُ هُنَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 وَقَوْلُهُ: وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ فَقَدْ كَرِهَ رِضْوَانَ اللَّهِ ; لِأَنَّ رِضْوَانَهُ تَعَالَى لَيْسَ إِلَّا فِي الْعَمَلِ بِمَا نَزَّلَ، فَاسْتَلْزَمَتْ كَرَاهَةُ مَا نَزَّلَ كَرَاهَةَ رِضْوَانِهِ لِأَنَّ رِضْوَانَهُ فِيمَا نَزَّلَ، وَمَنْ أَطَاعَ كَارِهَهُ، فَهُوَ كَكَارِهِهِ. وَقَوْلُهُ: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَيْ أَبْطَلَهَا، لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْمَقَامَ فِي ذَلِكَ إِيضَاحًا تَامًّا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [17 \ 19] . وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [16 \ 97] . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَهُوَ عَدَاوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّعْوِيقُ عَنِ الْجِهَادِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ هُمُ الْيَهُودُ حِينَ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَرَفُوهُ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ عَامٌّ لِمَنِ أَطَاعَ مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ. مَسْأَلَةٌ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَأَمُّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ، مِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ وَتَدَبُّرِهَا، وَالْحَذَرُ التَّامُّ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ دَاخِلُونَ بِلَا شَكٍّ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. لِأَنَّ عَامَّةَ الْكُفَّارِ مِنْ شَرْقِيِّينَ وَغَرْبِيِّينَ كَارِهُونَ لِمَا نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ وَمَا يُبَيِّنُهُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ السُّنَنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 فَكُلُّ مَنْ قَالَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْكَارِهِينَ لِمَا نَزَّلَهُ اللَّهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي وَعِيدِ الْآيَةِ. وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مِنْ يَقُولُ لَهُمْ: سَنُطِيعُكُمْ فِي الْأَمْرِ كَالَّذِينِ يَتَّبِعُونَ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ مُطِيعِينَ بِذَلِكَ لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، وَأَنَّهُ مُحْبِطٌ أَعْمَالَهُمْ. فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الَّذِينَ قَالُوا: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ «لِنَبْلُوَنَّكُمْ» مُوطِّئَةٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ شُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي لَنَبْلُوَنَّكُمْ، وَنَعْلَمَ، وَنَبْلُوَ. وَقَرَأَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ. وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَبْلُو النَّاسَ أَيْ يَخْتَبِرُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ، كَبَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْجِهَادِ لِيَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ صَادِقُهُمْ مِنْ كَاذِبِهِمْ، وَمُؤْمِنُهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [2 \ 214] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [3 \ 142] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [3 \ 142] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [9 \ 16] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [29 \ 1 - 3] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ [3 \ 179] . وَقَدْ قَدَّمْنَا إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ فِي نَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [2 \ 143] . فَقُلْنَا فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ بِقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [3 \ 154] . فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بَعْدَ قَوْلِهِ: «لِيَبْتَلِيَ» - دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالِاخْتِبَارِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ; لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِ غَنِيٌّ عَنِ الِاخْتِبَارِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ عَظِيمٌ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي يَذْكُرُ اللَّهُ فِيهَا اخْتِبَارَهُ لِخَلْقِهِ. وَمَعْنَى إِلَّا لِنَعْلَمَ أَيْ عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِبَارِ ظُهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ، أَمَّا عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، فَهُوَ عَالَمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ، كَمَا لَا يَخْفَى. اهـ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: (وَهَذَا الْعِلْمُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ بِهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِمْ، فَتَأْوِيلُهُ: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ عِلْمَ شَهَادَةٍ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِالْعَمَلِ يَشْهَدُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوا فَالْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَقَعُ عَلَى عِلْمِ الشَّهَادَةِ، وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ نَخْتَبِرُهَا وَنُظْهِرُهَا) انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالْقَتْلِ وَجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ، يَقُولُ: حَتَّى يَعْلَمَ حِزْبِي وَأَوْلِيَائِي أَهْلَ الْجِهَادِ فِي اللَّهِ مِنْكُمْ وَأَهْلَ الصَّبْرِ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَهُمْ وَيُعْرَفُ ذَوُو الْبَصَائِرِ مِنْكُمْ فِي دِينِهِ مِنْ ذَوِي الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ فِيهِ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ فَنَعْرِفَ الصَّادِقَ مِنْكُمْ مِنَ الْكَاذِبِ) انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ الْآيَةَ: حَتَّى يَعْلَمَ حِزْبُنَا وَأَوْلِيَاؤُنَا الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ - لَهُ وَجْهٌ، وَقَدْ يُرْشِدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ أَيْ نُظْهِرَهَا وَنُبْرِزَهَا لِلنَّاسِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [3 \ 179] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَيْزِ الْخَبِيثِ مِنَ الطِّيبِ ظُهُورُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ. وَلِذَا قَالَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [3 \ 179] ، فَتَعْلَمُوا مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَرَّفَكُمْ بِذَلِكَ بِالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ الَّذِي تَظْهَرُ بِسَبَبِهِ طَوَايَا النَّاسِ مِنْ خُبْثٍ وَطِيبٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَجِيهٌ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ «صَدُّوا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَفَرُوا وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [16 \ 97] أَنَّ التَّأْسِيسَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّوْكِيدِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. وَ «صَدُّوا» هُنَا إِنْ قُدِّرَتْ لَازِمَةً فَمَعْنَى الصُّدُودِ الْكُفْرُ، فَتَكُونُ كَالتَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ: كَفَرُوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 وَإِنْ قُدِّرَتْ مُتَعَدِّيَةً كَانَ ذَلِكَ تَأْسِيسًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: كَفَرُوا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَقَوْلُهُ: «وَصَدُّوا» عَلَى أَنَّهُ مُتَعَدٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا غَيْرَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَصَدُّوهُ عَنِ الْحَقِّ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أَيْ خَالَفُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَالَفَةً شَدِيدَةً. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَخَالَفُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بِكُفْرِهِمْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ غَنِيٌّ لِذَاتِهِ الْغِنَى الْمُطْلَقَ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكُفْرَ سَبَبٌ لِإِحْبَاطِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ غِنَى اللَّهِ عَنْ خَلْقِهِ، وَعَدَمُ تَضَرُّرِهِ بِمَعْصِيَتِهِمْ - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [39 \ 7] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [10 \ 68] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [64 \ 6] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّانِي وَهُوَ إِحْبَاطُ أَعْمَالِهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ إِبْطَالُهَا بِهِ - قَوْلُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [14 \ 18] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [11 \ 16] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. قَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الْآيَاتِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُ قَرِيبًا فِي جُمْلَةِ كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ الْآيَةَ [4 \ 82] ، [47 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، لِأَنَّ النَّارَ وَجَبَتْ لَهُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [3 \ 91] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [2 \ 161 - 162] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [4 \ 18] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [2 \ 217] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ إِلَى السَّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَشُعْبَةُ «إِلَى السِّلْمِ» بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَهِنُوا أَيْ لَا تَضْعُفُوا وَتَذِلُّوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [3 \ 146] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [8 \ 18] ، أَيْ مُضَعِّفٌ كَيْدَهُمْ، وَقَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: وَأَخْلَفَتْكَ ابْنَةُ الْبَكْرِيِّ مَا وَعَدَتْ ... فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِنًا خَلِقَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: فَلَا تَضْعُفُوا عَنْ قِتَالِ الْكَفَّارِ وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أَيْ تَبْدَءُوا بِطَلَبِ السَّلْمِ أَيِ الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، أَيِ الْأَقْهَرُونَ وَالْأَغْلَبُونَ لِأَعْدَائِكُمْ، وَلِأَنَّكُمْ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مِنَ النَّصْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَرْجُونَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ هُوَ الصَّوَابُ. وَتَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ وَاللَّهُ مَعَكُمْ لِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْغَالِبُ وَهُوَ الْقَاهِرُ الْمَنْصُورُ الْمَوْعُودُ بِالثَّوَابِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يَضْعُفَ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكَفَّارِ وَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِطَلَبِ الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 173] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [40 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [9 \ 14] . وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَعْنَى آيَةِ الْقِتَالِ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [4 \ 104] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ مِنَ النَّصْرِ الَّذِي وَعَدَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَالْغَلَبَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ هُنَا: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْإِعَانَةِ وَالثَّوَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ آيَةَ الْقِتَالِ هَذِهِ لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ آيَةِ الْأَنْفَالِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ إِحْدَاهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى، بَلْ هُمَا مُحْكَمَتَانِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنَزَّلَةٌ عَلَى حَالٍ غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى. فَالنَّهْيُ فِي آيَةِ الْقِتَالِ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الِابْتِدَاءِ بِطَلَبِ السَّلْمِ. وَالْأَمْرُ بِالْجُنُوحِ إِلَى السَّلْمِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا ابْتَدَأَ الْكَفَّارُ بِطَلَبِ السَّلْمِ وَالْجُنُوحِ لَهَا، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [8 \ 61] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَاللَّهُ مَعَكُمْ قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [16 \ 128] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى وَأَصْوَبُ مِمَّا فَسَّرَهَا بِهِ ابْنُ كَثِيرَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَدْعُوا إِلَى الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أَيْ فِي حَالِ قُوَّتِكُمْ وَقُدْرَتِكُمْ عَلَى الْجِهَادِ، أَيْ: وَإِمَّا إِنْ كُنْتُمْ فِي ضَعْفٍ وَعَدَمِ قُوَّةٍ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أَيِ الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ: السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ أَيْ لَنْ يُنْقِصَكُمْ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ عَدَمِ نَقْصِهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [49 \ 14] ، أَيْ لَا يُنْقِصُكُمْ مِنْ ثَوَابِهَا شَيْئًا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21 \ 47] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَصْلُهُ مِنَ الْوَتْرِ، وَهُوَ الْفَرْدُ. فَأَصْلُ قَوْلِهِ: «لَنْ يَتِرَكُمْ» لَنْ يُفْرِدَكُمْ وَيُجَرِّدَكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ بَلْ يُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ. هَذِهِ الْأُجُورُ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِهَا مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [57 \ 28] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْجُهٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْهَا أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَسْأَلْكُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْوَالَكُمْ أَجْرًا عَلَى مَا بَلَّغَكُمْ مِنَ الْوَحْيِ الْمُتَضَمِّنِ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [34 \ 47] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [38 \ 86] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [52 \ 40] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [11 \ 29] ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [42 \ 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ قَرِيبًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الْآيَةَ [47 \ 32] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [4 \ 133] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْفَتْحِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. التَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي تَهَيَّأَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِالْكُفَّارِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَيَّنُوا لَهُمْ مَحَاسِنَهُ، فَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَامَ سِتٍّ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ. وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَ مَكَّةَ حِينَ نَقَضَ الْكُفَّارُ الْعَهْدَ، كَانَ خُرُوجُهُ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ عَامَ ثَمَانٍ. وَكَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَذَلِكَ يُوَضِّحُ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فَتْحَ مَكَّةَ، وَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْفَتْحِ هَذِهِ نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي طَرِيقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَلَفْظُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَتْحَ قَدْ مَضَى، فَدَعْوَى أَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ وَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِقُرْبِ سَنَتَيْنِ - خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَالْآيَةُ الَّتِي فِي فَتْحِ مَكَّةَ دَلَّتْ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لَا عَلَى الْمُضِيِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الْآيَةَ [110 \ 1] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ الْآيَةَ [48 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ. مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [8 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [9 \ 124] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [74 \ 31] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ لَهُ جُنُودَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبَيَّنَ فِي الْمُدَّثِّرِ أَنَّ جُنُودَهُ هَذِهِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [74 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَصَحُّهَا فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [48 \ 4] . وَإِيضَاحُ الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ، أَيِ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ إِلَى الْحَقِّ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، لِيَزْدَادُوا بِذَلِكَ إِيمَانًا لِأَجْلِ أَنْ يُدْخِلَهُمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَازْدِيَادِ الْإِيمَانِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ قُلُوبَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ وَلِذَا كَانَ جَزَاؤُهُمْ مُخَالِفًا لِجَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 وَإِيضَاحُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى وَفَّقَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ وَازْدِيَادِ الْإِيمَانِ، وَأَشْقَى غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يُوَفِّقْهُمْ بِذَلِكَ لِيُجَازِيَ كُلًّا بِمُقْتَضَى عَمَلِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَحْزَابِ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [33 \ 73] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ يُجَازِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ بِثَلَاثِ عُقُوبَاتٍ وَهِيَ غَضَبُهُ، وَلَعْنَتُهُ، وَنَارُ جَهَنَّمَ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بَعْضَ نَتَائِجِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، كَقَوْلِهِ فِي الْغَضَبِ: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [20 \ 81] ، وَقَوْلِهِ فِي اللَّعْنَةِ: وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [4 \ 52] ، وَقَوْلِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [3 \ 192] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَبْعَثُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ مُبَشِّرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُنْذِرٌ لِلْكَافِرِينَ. قَالَ تَعَالَى فِي شَهَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أُمَّتِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [4 \ 41] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ [16 \ 89] . فَآيَةُ النِّسَاءِ وَآيَةُ النَّحْلِ الْمَذْكُورَتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى شَهَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أُمَّتِهِ تُبَيِّنَانِ آيَةَ الْفَتْحِ هَذِهِ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مُبَشِّرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرٌ لِلْكَافِرِينَ أَوْضَحَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - ذَكَرَهُ وَزِيَادَةً فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [33 \ 45 - 46] . وَقَوْلُهُ هُنَا: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَقَوْلُهُ: وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا كِلَاهُمَا حَالٌ مَعْطُوفٌ عَلَى حَالٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَاعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ كَاذِبَةٍ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [48 \ 11] أَيْ لَا أَحَدَ يَمْلِكُ دَفْعَ الضُّرِّ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ إِنْزَالَهُ بِكُمْ وَلَا مَنْعَ النَّفْعِ الَّذِي أَرَادَ نَفْعَكُمْ بِهِ فَلَا نَافِعَ إِلَّا هُوَ وَلَا ضَارَّ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ضُرٍّ أَرَادَهُ وَلَا مَنْعِ نَفْعٍ أَرَادَهُ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَحْزَابِ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [33 \ 17] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ يُونُسَ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ الْآيَةَ [10 \ 107] . وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [6 \ 17] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [5 \ 17] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي فَاطِرٍ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ الْآيَةَ [35 \ 2] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُلْكِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [67 \ 28] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاطِرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ الْآيَةَ [35 \ 2] . وَفِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [46 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالسَّكِينَةُ تَشْمَلُ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسُّكُونَ إِلَى الْحَقِّ وَالثَّبَاتَ وَالشَّجَاعَةَ عِنْدَ الْبَأْسِ. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْزَالَهُ السَّكِينَةَ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بَرَاءَةَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [9 \ 26] ، وَذَكَرَ إِنْزَالَ سَكِينَتِهِ عَلَى رَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ فِي بَرَاءَةَ: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [9 \ 40] . وَذَكَرَ إِنْزَالَهُ سَكِينَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [48 \ 18] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا لَمْ يُبَيِّنْ فِيهَا مَوْضِعَ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَحَلَّ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ هُوَ الْقُلُوبُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [48 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَسُورَةِ الصَّفِّ، وَزَادَ فِيهِمَا أَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [9 \ 33] ، [61 - 9] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [5 \ 54] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَابْنُ عَامِرٍ «شَطَأَهُ» بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَالْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ بِسُكُونِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ ذَكْوَانَ: فَآزَرَهُ بِأَلْفٍ بَعْدِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنْ عَامِرٍ «فَأَزَرَهُ» بِلَا أَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مُجَرَّدًا. وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ قُنْبُلٍ عَلَى سُوقِهِ بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ قَنْبَلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ، وَعَنْهُ ضَمُّ الْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ، بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّهُ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي الْإِنْجِيلِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ بِأَنَّهُمْ كَالزَّرْعِ يَظْهَرُ فِي أَوَّلِ نَبَاتِهِ رَقِيقًا ضَعِيفًا مُتَفَرِّقًا، ثُمَّ يَنْبُتُ بَعْضُهُ حَوْلَ بَعْضٍ، وَيَغْلَظُ وَيَتَكَامَلُ حَتَّى يَقْوَى وَيَشْتَدَّ وَتُعْجِبَ جَوْدَتُهُ أَصْحَابَ الزِّرَاعَةِ، الْعَارِفِينَ بِهَا، فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي قِلَّةٍ وَضَعْفٍ ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يُكْثِرُونَ وَيَزْدَادُونَ قُوَّةً حَتَّى بَلَغُوا مَا بَلَغُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أَيْ فِرَاخَهُ فَنَبَتَ فِي جَوَانِبِهِ. وَقَوْلُهُ: فَآزَرَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُؤَازَرَةِ، بِمَعْنَى الْمُعَاوَنَةِ وَالتَّقْوِيَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فَآزَرَهُ أَيْ سَاوَاهُ فِي الطُّولِ، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فُسِّرَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الصَّالُ نَبْتَهَا ... مُجْرٍ جُيُوشَ غَانِمِينَ وَخَيَّبَ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ فَآزَرَهُ بِلَا أَلْفٍ، فَالْمَعْنَى شَدَّ أَزْرَهُ أَيْ قَوَّاهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي الْآيَةَ [20 \ 29 - 31] ، وَقَوْلُهُ: فَاسْتَغْلَظَ أَيْ صَارَ ذَلِكَ الزَّرْعُ غَلِيظًا بَعْدَ أَنْ كَانَ رَقِيقًا، وَقَوْلُهُ: فَاسْتَوَى أَيِ اسْتَتَمَّ وَتَكَامَلَ عَلَى سُوقِهِ أَيْ عَلَى قَصَبِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ فِي الْإِنْجِيلِ الْمَضْرُوبِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِمْ فِي قِلَّةٍ وَضَعْفٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكْثُرُونَ وَيَقْوُونَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ [8 \ 26] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [3 \ 123] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْآيَةَ [5 \ 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الْحُجُرَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا تُقَدِّمُوا فِيهِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ مُضَارِعُ «قَدَّمَ» اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ. وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ، وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِيهِمَا، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ «قَدَّمَ» بِمَعْنَى تَقَدَّمَ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ تَمَامُ الْعَشَرَةِ: «لَا تَقَدَّمُوا» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، وَأَصْلُهُ: لَا تَتَقَدَّمُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُضَارِعُ «قَدَّمَ» الْمُتَعَدِّي، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ: لَا تُقَدِّمُوا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَمْسِكُوا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَصْدُرُوا فِيهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُضَارِعُ «قَدَّمَ» الْمُتَعَدِّي، وَلَكِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى اللَّازِمِ، وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْ وُقُوعِهَا عَلَى مَفْعُولِهَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَصْلُ الْفِعْلِ دُونَ وُقُوعِهِ عَلَى مَفْعُولٍ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [40 \ 68] ، أَيْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَلَا يُرَادُ فِي ذَلِكَ وُقُوعُهُمَا عَلَى مَفْعُولٍ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [39 \ 9] ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِالْعِلْمِ لَا يَسْتَوُونَ مَعَ غَيْرِ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ. وَلَا يُرَادُ هُنَا وُقُوعُ الْعِلْمِ عَلَى مَفْعُولٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: لَا تُقَدِّمُوا لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْدِيمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [4 \ 82] أَنَّ لَفْظَةَ: بَيْنَ يَدَيْهِ [2 \ 97] ، مَعْنَاهَا أَمَامَهُ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 وَالْمَعْنَى لَا تَتَقَدَّمُوا أَمَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَتَقُولُوا فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا تَشْرِيعُ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَتَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَتَحْلِيلُ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ، لِأَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [42 \ 10] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] ، وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَهُوَ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَا تَقُولُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ، عَلِيمٌ بِكُلِّ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدُ تَمِيمٍ، أَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمُ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عَدَسٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمُ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، فَقَالَ عُمْرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَّمَ اللَّهُ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعَظِّمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْتَرِمُوهُ وَيُوَقِّرُوهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَعَنْ أَنْ يَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ يُنَادُونَهُ بِاسْمِهِ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَحْمَدُ، كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَإِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يُخَاطِبُوهُ خِطَابًا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ لَيْسَ كَخِطَابِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، كَأَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 يَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ أَيْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ لِئَلَّا تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، أَوْ يَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَيْ: لَا تَعْلَمُونَ بِذَلِكَ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ لُزُومِ تَوْقِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمِهِ وَاحْتِرَامِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [48 \ 9] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [24 \ 63] ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ [7 \ 157] ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أَيْ لَا تُنَادُوهُ بِاسْمِهِ: كَـ: يَا مُحَمَّدُ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَاطِبُهُ فِي كِتَابِهِ بِاسْمِهِ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [9 \ 73] ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [5 \ 41] ، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [73 \ 1] ، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [74 \ 1] ، مَعَ أَنَّهُ يُنَادِي غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَقُلْنَا يَاآدَمُ [2 \ 35] ، وَقَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ [37 \ 104] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [11 \ 46] ، قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا [11 \ 48] ، وَقَوْلِهِ: قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [7 \ 144] ، وَقَوْلِهِ: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [3 \ 55] ، وَقَوْلِهِ: يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً [38 \ 29] . أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي خِطَابٍ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [3 \ 144] ، وَقَوْلِهِ: وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [47 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [48 \ 29] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَوْقِيرَهُ وَاحْتِرَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، أَيْ أَخْلَصَهَا لَهَا وَأَنَّ لَهُمْ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [49 \ 3] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أَيْ لَا تَرْفَعُوا عِنْدَهُ الصَّوْتَ كَرَفْعِ بَعْضِكُمْ صَوْتَهُ عِنْدَ بَعْضٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُنْهُوا عَنِ الْجَهْرِ مُطْلَقًا، حَتَّى لَا يَسُوغَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِالْهَمْسِ وَالْمُخَافَتَةِ، وَإِنَّمَا نُهُوا عَنْ جَهْرٍ مَخْصُوصٍ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ، أَعْنِي الْجَهْرَ الْمَنْعُوتَ بِمُمَاثَلَةِ مَا قَدِ اعْتَادُوهُ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الْخُلُوُّ مِنْ مُرَاعَاةِ أُبَّهَةِ النُّبُوَّةِ، وَجَلَالَةِ مِقْدَارِهَا وَانْحِطَاطِ سَائِرِ الرُّتَبِ وَإِنْ جَلَّتْ عَنْ رُتْبَتِهَا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحْبَطُ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ لَا يَحْبَطُ عَمَلَهُ بِغَيْرِ شُعُورِهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَيْ إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَغْضَبَ مِنْ ذَلِكَ فَيَغْضَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِغَضَبِهِ فَيَحْبَطَ عَمَلُ مَنْ أَغْضَبَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يُكْتَبُ لَهُ بِهَا الْجَنَّةُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ كَحُرْمَتِهِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْيَوْمَ مِنِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ قُرْبَ قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ فِي صَخَبٍ وَلَغَطٍ. وَأَصْوَاتُهُمْ مُرْتَفِعَةٌ ارْتِفَاعًا مُزْعِجًا كُلُّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَلِيقُ، وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ شَدَّدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّكِيرَ عَلَى رَجُلَيْنِ رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَأَوْجَعَتْكُمَا ضَرْبًا. مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ احْتِرَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْعِرَ بِالْغَضِّ مِنْهُ، أَوْ تَنْقِيصَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاسْتِخْفَافَ بِهِ أَوِ الِاسْتِهْزَاءَ بِهِ - رِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ وَكُفْرٌ بِاللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِينَ اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَخِرُوا مِنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمَّا ضَلَّتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 رَاحِلَتُهُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [9 \ 65 - 66] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ، اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ، الَّتِي لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ حُقُوقِ خَلْقِهِ كَحَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ، عَلَى ضَوْءِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - الْتِجَاءَ عَبْدِهِ إِلَيْهِ إِذَا دَهَمَتْهُ الْكُرُوبُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِهَا إِلَّا اللَّهُ. فَالْتِجَاءُ الْمُضْطَرِّ الَّذِي أَحَاطَتْ بِهِ الْكُرُوبُ وَدَهَمَتْهُ الدَّوَاهِي لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَصَرْفُ ذَلِكَ الْحَقِّ لِلَّهِ وَإِخْلَاصُهُ لَهُ هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَرْضَاتِهِ، وَهُوَ عَيْنُ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ هُوَ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْتِجَاءَ الْمُضْطَرِّ مِنْ عِبَادِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي أَوْقَاتِ الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى. مِنْ أَصْرَحِ ذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [27 \ 59 - 64] . فَإِنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ الْعَظِيمَاتِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ [27 \ 59] . ثُمَّ بَيَّنَ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، فَقَالَ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [27 \ 60] . فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنْبَاتُ الْحَدَائِقِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ، الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْبَاتِ شَجَرِهَا إِلَّا اللَّهُ - مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ ; الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهَا: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنْبَاتِ الْحَدَائِقِ بِهِ، وَالْجَوَابُ لَا ; لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [27 \ 61] . فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ أَيْضًا، الَّتِي هِيَ جَعْلُ الْأَرْضِ قَرَارًا، وَجَعْلُ الْأَنْهَارِ خِلَالَهَا، وَجَعْلُ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي فِيهَا، وَجَعْلُ الْحَاجِزِ بَيْنَ الْبَحْرِينِ - مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَلِذَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ؟ وَالْجَوَابُ: لَا. فَالِاعْتِرَافُ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنْزَالَ الْمَاءِ وَإِنْبَاتَ النَّبَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ مِنْ خَصَائِصِ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِ رَسُولِهِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [27 \ 62] . فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ إِجَابَةُ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَا، وَكَشْفُ السُّوءِ وَجَعْلُ النَّاسِ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَلِذَا قَالَ بَعْدَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. فَتَأَمَّلْ قَوْلَهَ تَعَالَى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ مَعَ قَوْلِهِ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ - تَعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّينَ إِذَا الْتَجَئُوا وَدَعَوْا وَكَشْفَ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ، لَا فَرْقَ فِي كَوْنِهِ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ، وَنَصْبِ الْجِبَالِ وَإِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ، لِأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ الْجَمِيعَ بِنَسَقٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَأَتْبَعَ جَمِيعَهُ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ. فَمَنْ صَرَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْإِنْكَارُ السَّمَاوِيُّ الَّذِي هُوَ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَلَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فِي كَوْنِهَا كُلِّهَا مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [27 \ 63] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ هَدْيُ النَّاسِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِرْسَالُ الرِّيَاحِ بُشْرًا، أَيْ مُبَشِّرَاتٍ، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَطَرُ - مِنْ خَصَائِصِ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وَعَلَا. وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ، ثُمَّ نَزَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَ فَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا: تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [27 \ 64] . فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ بَدْءُ خَلْقِ النَّاسِ وَإِعَادَتُهُ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَرِزْقُهُ لِلنَّاسِ مِنَ السَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ - مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَلِذَا قَالَ بَعْدَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ. ثُمَّ عَجَّزَ - جَلَّ وَعَلَا - كُلَّ مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ آمِرًا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِصِيغَةِ التَّعْجِيزِ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَقَدِ اتَّضَحَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّينَ الدَّاعِينَ، وَكَشْفَ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ، مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ، وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ، وَالْحَجْزِ بَيْنَ الْبَحْرِينِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ. وَكَوْنُ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّينَ وَكَشْفُ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [10 \ 107] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [6 \ 17] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ [35 \ 2] . فِعْلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ وَنَعْتَقِدَ مَا تَضَمَّنَتْهُ وَنَعْمَلَ بِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 لِنَكُونَ بِذَلِكَ مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَظِّمِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ; لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ تَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَحْدَهُ. فَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَأْمُرُ بِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [98 \ 5] ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ إِلَى قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [39 \ 11 - 15] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّ وَكَشْفَ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، مِنْ خَصَائِصَ الرُّبُوبِيَّةِ وَكَانُوا إِذَا دَهَمَتْهُمُ الْكُرُوبُ، كَإِحَاطَةِ الْأَمْوَاجِ بِهِمْ فِي الْبَحْرِ فِي وَقْتِ الْعَوَاصِفِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ كَشْفَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ، فَإِذَا أَنْجَاهُمْ مِنَ الْكَرْبِ رَجَعُوا إِلَى الْإِشْرَاكِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [10 \ 22 - 23] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ الْآيَةَ [6 \ 63 - 65] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [6 \ 40] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [17 \ 67 - 69] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [31 \ 32] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [17 \ 67] ، أَنَّ سَبَبَ إِسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَبَشَةِ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ. اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ لَئِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهُ لَأَذْهَبَنَّ فَلَأَضَعَنَّ يَدِي فِي يَدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَأَجِدَنَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا، فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انْتَهَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ ; لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ يَلْجَئُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ طَالِبِينَ مِنْهُ مَا يَطْلُبُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ اللَّهِ، وَبِمَا ذُكِرَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا انْتَشَرَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا مِنَ الِالْتِجَاءِ فِي أَوْقَاتِ الْكُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قُرْبَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَ قُبُورِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الصَّلَاحَ زَاعِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ، كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَحُرُمَاتِ رَسُولِهِ. لِأَنَّ صَرْفَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ بِالْخَالِقِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ فِيهِمُ الصَّلَاحُ - مُسْتَوْجِبٌ سَخَطَ اللَّهِ وَسَخَطَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَخَطَ كُلِّ مُتَّبِعٍ لَهُ بِالْحَقِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [3 \ 79 - 80] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 بَلِ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ مَا يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِالْأَمْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [3 \ 64] . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ إِذَا رَأَى رَجُلًا مُتَدَيِّنًا فِي زَعْمِهِ مُدَّعِيًا حُبَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمَهُ وَهُوَ يُعَظِّمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَمْدَحُهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْبَتَ بِهِ الْحَدَائِقَ ذَاتَ الْبَهْجَةِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا إِلَى آخِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَاقِلَ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَادِحَ الْمُعَظِّمَ فِي زَعْمِهِ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّينَ وَكَشْفِ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ. فِعْلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَنْتَبِهَ مِنْ نَوْمَةِ الْجَهْلِ وَأَنْ نُعَظِّمَ رَبَّنَا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَتَعْظِيمِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ. وَأَلَّا نُخَالِفَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْصِيَهُ، وَأَلَّا نَفْعَلَ شَيْئًا يُشْعِرُ بِعَدَمِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، كَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ قُرْبَ قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصْدُنَا النَّصِيحَةُ وَالشَّفَقَةُ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ لِيَعْمَلُوا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيُعَظِّمُوا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْظِيمَ الْمُوَافِقِ لِمَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَتْرُكُوا مَا يُسَمِّيهِ الْجَهَلَةُ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ احْتِقَارٌ وَازْدِرَاءٌ وَانْتِهَاكٌ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [4 \ 123 - 124] . وَاعْلَمْ أَيْضًا رَحِمَكَ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّ وَكَشْفِ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَبَيْنَ تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ، كَالْحُصُولِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 فَإِنَّ الْتِجَاءَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [10 \ 31] وَقَالَ تَعَالَى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [29 \ 17] وَقَالَ تَعَالَى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [42 \ 49] وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [16 \ 72] وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [4 \ 32] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ» . وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ بِالْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ وَقْتَ الْكَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [8 \ 9] ، فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا أَصَابَهُمْ أَمْرٌ أَوْ كَرْبٌ الْتَجَئُوا إِلَى اللَّهِ وَأَخْلَصُوا لَهُ الدُّعَاءَ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ وَلَا نَبْتَدِعَ. تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقُرُبَاتِ فَيُخْلِصَ تَقَرُّبَهُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ هَيْئَاتِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى كَهَيْئَةِ الْمُصَلِّي، لِأَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ دَاخِلَةٌ فِي جُمْلَتِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ، كَمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ يُخْلِصُونَ الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتِهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَأْتِيَهُمْ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ تَلَقَّوْهُ فَرَحًا بِهِ، فَخَافَ مِنْهُمْ وَظَنَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَعَمَ لَهُ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَدِمَ وَفْدٌ مِنْهُمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ بِكَذِبِ الْوَلِيدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْفَاسِقِ فِي خَبَرِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 وَصَرَّحَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [24 \ 4] ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ جَاءَ بِنَبَأٍ مُمْكِنٍ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، وَهَلْ مَا قَالَهُ فِيهِ الْفَاسِقُ حَقٌّ أَوْ كَذِبٌ - فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّثَبُّتُ. وَالثَّانِي: هُوَ مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا بَدَلٌ بِدَلِيلِ خِطَابِهِ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْجَائِيَ بِنَبَأٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَاسِقٍ بَلْ عَدْلًا لَا يَلْزَمُ التَّبَيُّنُ فِي نَبَئِهِ عَلَى قِرَاءَةِ: فَتَبَيَّنُوا. وَلَا التَّثَبُّتُ عَلَى قِرَاءَةِ: فَتَثَبَّتُوا، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ النُّورِ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْفِسْقِ وَأَنْوَاعِهِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا أَيْ لِئَلَّا تُصِيبُوا قَوْمًا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ، أَيْ لِظَنِّكُمُ النَّبَأَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْفَاسِقُ حَقًّا فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ مِنْ إِصَابَتِكُمْ لِلْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ نَادِمِينَ لِظُهُورِ كَذِبِ الْفَاسِقِ فِيمَا أَنْبَأَ بِهِ عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَتَبَيَّنُوا فِي نَبَأِ الْوَلِيدِ عَنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ لَعَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ؟ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَنَدِمُوا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَتَبَيَّنُوا بِالْبَاءِ التَّحْتِيَّةِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ ثُمَّ نُونٌ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «فَتَثَبَّتُوا» بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ مُوَحَّدَةٌ مُشَدَّدَةٌ، ثُمَّ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ. وَالْأَوَّلُ مِنَ التَّبَيُّنِ، وَالثَّانِي مِنَ التَّثَبُّتِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالتَّأَنِّي وَعَدَمِ الْعَجَلَةِ حَتَّى تَظْهَرَ الْحَقِيقَةُ فِيمَا أَنْبَأَ بِهِ الْفَاسِقُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مُصَرَّحٌ فِيهَا بِأَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [18 \ 17] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ [17 \ 97] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [7 \ 178] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [91 \ 7 - 8] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، نَرْجُو اللَّهَ الرَّحِيمَ الْكَرِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَأَلَّا يُضِلَّنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. هَذِهِ الْأُخُوَّةُ الَّتِي أَثْبَتَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ هِيَ أُخُوَّةُ الدِّينِ لَا النَّسَبِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأُخُوَّةَ تَكُونُ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [33 \ 5] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] أَنَّ الْأُخُوَّةَ الدِّينِيَّةَ أَعْظَمُ وَأَقْوَى مِنَ الْأُخُوَّةِ النَّسَبِيَّةِ، وَبَيَّنَّا أَدِلَّةَ ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ. قَوْلُهُ: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ أَيْ لَا يَسْتَخِفُّوا وَلَا يَسْتَهْزِئُوا بِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَخِرَ مِنْهُ بِكَسْرِ الْخَاءِ، يَسْخَرُ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْقِيَاسِ، إِذَا اسْتَهْزَأَ بِهِ وَاسْتَخَفَّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 وَقَدْ نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ السُّخْرِيَةِ مِنَ النَّاسِ، مُبَيِّنًا أَنَّ الْمَسْخُورَ مِنْهُ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ. وَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيحِ اسْتِخْفَافُ الدَّنِيءِ الْأَرْذَلِ بِالْأَكْرَمِ الْأَفْضَلِ، وَاسْتِهْزَاؤُهُ بِهِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ السُّخْرِيَةِ جَاءَ ذَمُّ فَاعِلِهِ وَعُقُوبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [9 \ 79] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُتْرَفِينَ فِي الدُّنْيَا كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ ضِعَافِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ أُولَئِكَ يَسْخَرُونَ مِنَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [2 \ 212] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [83 \ 29 - 36] . فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ رَأَى مُسْلِمًا فِي حَالَةٍ رَثَّةٍ تَظْهَرُ بِهَا عَلَيْهِ آثَارُ الْفَقْرِ وَالضَّعْفِ أَنْ يَسْخَرَ مِنْهُ؛ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ. أَيْ لَا يَلْمِزْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَقَدْ أَوْعَدَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِينَ يَلْمِزُونَ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [104 \ 12] ، وَالْهُمَزَةُ كَثِيرُ الْهَمْزِ لِلنَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ كَثِيرُ اللَّمْزِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْهَمْزُ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَالْغَمْزِ بِالْعَيْنِ احْتِقَارًا وَازْدِرَاءً، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْغَيْبَةُ. وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [49 \ 12] ، وَنَفَّرَ عَنْهُ غَايَةَ التَّنْفِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [49 \ 12] ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَبَاعَدَ كُلَّ التَّبَاعُدِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ النَّاسَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمَذْكُورَيْنِ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ الذَّكَرَ الَّذِي هُوَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَقَدْ بَيَّنَ الْأَطْوَارَ الَّتِي مَرَّ بِهَا ذَلِكَ التُّرَابُ، كَصَيْرُورَتِهِ طِينًا لَازِبًا وَحَمَأً مَسْنُونًا وَصَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ. وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ تِلْكَ الْأُنْثَى الَّتِي هِيَ حَوَّاءُ مِنْ ذَلِكَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ آدَمُ فَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [4 \ 1] وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [7 \ 189] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الزُّمَرِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [39 \ 6] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ خَلَقَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: خَلَقَهُ لَا مِنْ أُنْثَى وَلَا مِنْ ذَكَرٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: خَلَقَهُ مَنْ ذَكَرٍ بِدُونِ أُنْثَى وَهُوَ حَوَّاءُ. وَالثَّالِثُ: خَلَقَهُ مِنْ أُنْثَى بِدُونِ ذَكَرٍ وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الرَّابِعُ: خَلَقَهُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَهُوَ سَائِرُ الْآدَمِيِّينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا. مَسْأَلَةٌ قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْأُولَى كَانَ وُجُودُهَا الْأَوَّلُ مُسْتَنِدًا إِلَى وُجُودِ الرَّجُلِ وَفَرْعًا عَنْهُ. وَهَذَا أَمْرٌ كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ مِنَ اللَّهِ، أَنْشَأَ الْمَرْأَةَ فِي إِيجَادِهَا الْأَوَّلِ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ الْكَرِيمُ الْمُنَزَّلُ مِنَ اللَّهِ لِيُعْمَلَ بِهِ فِي أَرْضِهِ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ فِي حَيَاةِ الْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي. فَجَعَلَ الرَّجُلَ قَائِمًا عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا مُسْتَنِدَةً إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ الْآيَةَ [4 \ 34] . فَمُحَاوَلَةُ اسْتِوَاءِ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ؛ لِأَنَّ الْفَوَارِقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ كَوْنًا وَقَدَرًا أَوَّلًا، وَشَرْعًا مُنَزَّلًا ثَانِيًا - تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعًا بَاتًّا. وَلِقُوَّةِ الْفَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهَ مِنَ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَ هَذَا اللَّعْنِ هُوَ مُحَاوَلَةُ مَنْ أَرَادَ التَّشَبُّهَ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ، لِتَحْطِيمِ هَذِهِ الْفَوَارِقِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَطَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَوْ كَانَتِ الْفَوَارِقُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يُمْكِنُ تَحْطِيمُهَا وَإِزَالَتُهَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ اللَّعْنَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلِأَجْلِ تِلْكَ الْفَوَارِقِ الْعَظِيمَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَرَّقَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - بَيْنَهُمَا فِي الطَّلَاقِ، فَجَعَلَهُ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَفِي الْمِيرَاثِ، وَفِي نِسْبَةِ الْأَوْلَادِ إِلَيْهِ. وَفِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ دُونَ الْأَزْوَاجِ: صَرَّحَ بِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ الْآيَةَ [2 \ 282] ، فَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمَا لَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَتِهِمَا، وَقَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِقِيَامِ الرَّجُلِ مَقَامَ امْرَأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [53 \ 21 - 22] ، أَيْ غَيْرُ عَادِلَةٍ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ النَّصِيبَيْنِ لِفَضْلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى. وَلِذَلِكَ وَقَعَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ فِي مُشْكِلَةٍ لَمَّا وَلَدَتْ مَرْيَمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهَا: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى الْآيَةَ [3 \ 36] فَامْرَأَةُ عِمْرَانَ تَقُولُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى، وَهِيَ صَادِقَةٌ فِي ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 وَالْكَفَرَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ. وَلَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ فِي صِدْقِ هَذِهِ السَّالِبَةِ وَكَذِبِ هَذِهِ الْمُوجَبَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ وَتَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ وَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَكَوْنِ الْوَلَدِ يُنْسَبُ إِلَى الرَّجُلِ، وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [2 \ 228] ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَوَارِقَ الطَّبِيعِيَّةَ بَيْنَهُمَا كَوْنُ الذُّكُورَةِ شَرَفًا وَكَمَالًا وَقُوَّةً طَبِيعِيَّةً خُلُقِيَّةً، وَكَوْنُ الْأُنُوثَةِ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْعُقَلَاءَ جَمِيعًا مُطْبِقُونَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ، وَأَنَّ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ الْأُنْثَى مِنْ حِينِ نَشْأَتِهَا تُحَلَّى بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنْ حُلِيٍّ وَحُلَلٍ، وَذَلِكَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْجِبِلِّيِّ الْخَلْقِيِّ الَّذِي هُوَ الْأُنُوثَةُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا الْحُلِيُّ إِلَّا زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْضَحَ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 18] ، فَأَنْكَرَ عَلَى الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَعَ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ لَهُ تَعَالَى جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَضْعَفَهُمَا خِلْقَةً وَجِبِلَّةً وَهُوَ الْأُنْثَى. وَلِذَلِكَ نَشَأَتْ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ صِغَرِهَا، لِتَغْطِيَةِ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ الْأُنُوثَةُ وَجَبْرِهِ بِالزِّينَةِ، فَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ. لِأَنَّ الْأُنْثَى لِضَعْفِهَا الْخَلْقِيِّ الطَّبِيعِيِّ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُبِينَ فِي الْخِصَامِ إِبَانَةَ الْفُحُولِ الذُّكُورِ، إِذَا اهْتُضِمَتْ وَظُلِمَتْ لِضَعْفِهَا الطَّبِيعِيِّ. وَإِنْكَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَعَ ادِّعَائِهِمْ لَهُ الْوَلَدَ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَضْعَفَهُمَا - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [37 \ 153 - 154] ، وَقَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [39 \ 4] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 وَأَمَّا الذَّكَرُ فَإِنَّهُ لَا يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ، لِأَنَّ كَمَالَ ذُكُورَتِهِ وَشَرَفَهَا وَقُوَّتَهَا الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى التَّزَيُّنِ بِالْحِلْيَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُنْثَى، لِكَمَالِهِ بِذُكُورَتِهِ وَنَقْصِهَا بِأُنُوثَتِهَا. وَمِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِذَا تَعَاشَرَا الْمُعَاشَرَةَ الْبَشَرِيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي لَا بَقَاءَ لِلْبَشَرِ دُونَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ تَأَثُّرًا طَبَعِيًّا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا مَانِعًا لَهَا مِنْ مُزَاوَلَةِ الْأَعْمَالِ كَالْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ. بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَا يَتَأَثَّرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذِهِ الْفَوَارِقِ لَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُسَاوَاتِهِمَا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ إِلَّا مُكَابِرٌ فِي الْمَحْسُوسِ، فَلَا يَدْعُو إِلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا إِلَّا مَنْ أعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَرْنَا لَهُمَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مَا يَكْفِي الْمُنْصِفَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [49 \ 13] ، يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ النَّاسِ فِي الْأَصْلِ ; لِأَنَّ أَبَاهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهُمْ وَاحِدَةٌ وَكَانَ فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ زَاجِرٍ عَنِ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَتَطَاوُلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَعَارَفُوا أَيْ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَمَيَّزُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ بَعْضِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ وَأَكْرَمَ مِنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَنْسَابِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [49 \ 13] ، فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَضْلَ وَالْكَرَمَ إِنَّمَا هُوَ بِتَقْوَى اللَّهِ لَا بِغَيْرِهِ مِنَ الِانْتِسَابِ إِلَى الْقَبَائِلِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: فَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبٍ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ ... إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمٍ وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ سَمَاوِيٌّ صَحِيحٌ، لَا نَظَرَ فِيهِ إِلَى الْأَلْوَانِ وَلَا إِلَى الْعَنَاصِرِ، وَلَا إِلَى الْجِهَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَطَاعَتُهُ، فَأَكْرَمُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، وَلَا كَرَمَ وَلَا فَضْلَ لِغَيْرِ الْمُتَّقِي، وَلَوْ كَانَ رَفِيعَ النَّسَبِ. وَالشُّعُوبُ جَمْعُ شَعْبٍ، وَهُوَ الطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنَ الطَّبَقَاتِ السِّتِّ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَرَبُ وَهِيَ: الشَّعْبُ، وَالْقَبِيلَةُ، وَالْعِمَارَةُ، وَالْبَطْنُ، وَالْفَخْذُ، وَالْفَصِيلَةُ. فَالشَّعْبُ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ يَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ، وَالْفَخْذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ. خُزَيْمَةُ شَعْبٌ، وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَةٌ، وَقُصَيٌّ بَطْنٌ، وَهَاشِمٌ فَخْذٌ، وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ. وَسُمِّيَتِ الشُّعُوبُ، لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَتَشَعَّبُ مِنْهَا. اهـ. وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ هَذِهِ السِّتِّ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ثَلَاثٌ: الشُّعُوبُ، وَالْقَبَائِلُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْفَصِيلَةُ فِي الْمَعَارِجِ فِي قَوْلِهِ: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [70 \ 13] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُطْلِقُ بَعْضَ هَذِهِ السِّتِّ عَلَى بَعْضٍ كَإِطْلَاقِ الْبَطْنِ عَلَى الْقَبِيلَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَإِنَّ كِلَابًا هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [2 \ 228] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ وَهُمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 قَالُوا آمَنَّا، وَأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَثُبُوتِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ. وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ نَفْيَ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ وَالْإِسْلَامِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ - هُوَ اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ بِالِاعْتِقَادِ وَاللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْجَوَارِحِ بِالْعَمَلِ، فَمُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 35 - 36] . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الْفِرَقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ دُونَ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُسَمَّاهُ الشَّرْعِيُّ الصَّحِيحُ، وَالْإِسْلَامُ الْمُثْبَتُ لَهُمْ فِيهَا هُوَ الْإِسْلَامُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ بِالْجَوَارِحِ دُونَ الْقَلْبِ. وَإِنَّمَا سَاغَ إِطْلَاقُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ هَنَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ الْكَرِيمَ جَاءَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ. وَأَنْ تُوكَلَ كُلُّ السَّرَائِرِ إِلَى اللَّهِ. فَانْقِيَادُ الْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ بِالْعَمَلِ وَاللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ يُكْتَفَى بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ مُنْطَوِيًا عَلَى الْكُفْرِ. وَلِهَذَا سَاغَ إِرَادَةُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ; لِأَنَّ انْقِيَادَ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ إِسْلَامٌ لُغَوِيٌّ مُكْتَفًى بِهِ شَرْعًا عَنِ التَّنْقِيبِ عَنِ الْقَلْبِ. وَكُلُّ انْقِيَادٍ وَاسْتِسْلَامٍ وَإِذْعَانٍ يُسَمَّى إِسْلَامًا لُغَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ مُسْلِمِ الْجَاهِلِيَّةِ: وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا دَحَاهَا فَلِمَا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... جَمِيعًا وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أسْلَمَتْ ... لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالًا فَحَالَا فَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ، وَإِذَا حُمِلَ الْإِسْلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا بِالْأَلْسِنَةِ وَالْجَوَارِحِ. فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فِي الظَّاهِرِ، وَهُمْ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تُؤْمِنُوا نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، لَا نَفْيُهُ مِنْ أصْلِهِ. وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ غَيْرُ تَامٍّ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْلَامِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّ الْأَعْرَابَ الْمَذْكُورِينَ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ أَسْلَمُوا فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ - جَلَّ وَعَلَا: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [49 \ 14] ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً كَمَا تَرَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَدْخُلِ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ: وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا فَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ: فِي مَعْنَى لَا دُخُولَ لِلْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالثَّانِي. قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ دُخُولِهِ نَفْيُ كَمَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ: الْمُرَادُ بِهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ، وَقَدِ اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [9 \ 98] ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِ ق ُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [9 \ 99] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم. لَمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ: آمَنَّا، وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُكَذِّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ أَمَرَ نَبِيَّهُمْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْإِنْكَارِ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَذَلِكَ بِادِّعَائِكُمْ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَالِكُمْ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّكُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَعَالِمٌ بِكُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَقْبِيحِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْكَذِبِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [53 \ 32] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11 \ 5] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ ق . قَوْلُهُ تَعَالَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ الْمَحْذُوفِ فِي سُورَةِ ص، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ ص أَنَّ مِنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِقٌ وَأَنَّ رِسَالَتَهُ حَقٌّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي ص: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [38 \ 4] ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي «ص» أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فِي ص، بِقَوْلِهِ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [38 \ 1] ، وَفِي «ق» بِقَوْلِهِ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ - مَحْذُوفٌ وَهُوَ تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي إِنْكَارِهِمْ رِسَالَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَإِنْكَارِهِمْ كَوْنَ الْمَعْبُودِ وَاحِدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ ص، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ كَوْنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ ق هَذِهِ الْمَحْذُوفِ يَدْخُلُ فِيهِ إِنْكَارُهُمْ لِرِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَتَكْذِيبِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ وَبَيَّنَّا وَجْهَ إِيضَاحِ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ. الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ وَالتَّقْدِيرُ: أَأَعْرَضُوا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالهَا مِنْ فُرُوجٍ. أَيْ لَيْسَ فِيهَا مِنْ شُقُوقٍ وَلَا تَصَدُّعٍ وَلَا تَفَطُّرٍ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ كَيْفِيَّةِ بِنَائِهِ تَعَالَى لِلسَّمَاءِ وَتَزْيِينِهِ لَهَا وَكَوْنِهَا لَا تَصَدُّعَ وَلَا شُقُوقَ فِيهَا جَاءَ كُلُّهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي بِنَائِهِ لِلسَّمَاءِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [79 \ 27 - 28] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [51 \ 47] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [78 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [23 \ 17] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الرَّعْدِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [13 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي لُقْمَانَ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا الْآيَةَ [31 \ 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَزْيِينِهِ لِلسَّمَاءِ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [67 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا الْآيَةَ [41 \ 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [37 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [15 \ 6] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِفْظِهِ لِلسَّمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا فُرُوجٌ أَيْ شُقُوقٌ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [67 \ 3] ، وَالْفُطُورُ وَالْفُرُوجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الشُّقُوقُ وَالصُّدُوعُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [21 \ 32] . أَمَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ السَّمَاءَ تَتَشَقَّقُ وَتَتَفَطَّرُ، وَتَكُونُ فِيهَا الْفُرُوجُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [25 \ 25] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً [55 \ 37] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ الْآيَةَ [69 \ 16] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [84 \ 1 - 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] ، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [73 \ 17 - 18] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ [77 \ 8 - 9] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَدَّ الْأَرْضَ وَأَلْقَى فِيهَا الْجِبَالَ الرَّوَاسِيَ وَأَنْبَتَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَكَقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [31 \ 10 - 11] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، وَقَوْلُهُ: تَبْصِرَةً أَيْ قَدَرْنَا الْأَرْضَ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا أَصْنَافَ النَّبَاتِ الْحَسَنَةِ لِأَجْلِ أَنْ نُبَصِّرَ عِبَادَنَا كَمَالَ قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى اسْتِحْقَاقِنَا لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ. قَوْلُهُ: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يُبَيِّنُ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ فِيهَا بَعْدَ انْعِدَامِهِ وَاضْمِحْلَالِهِ - دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ بَعْدَ كَوْنِهِمْ تُرَابًا وَعِظَامًا، فَقَوْلُهُ: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ يَعْنِي أَنَّ خُرُوجَ النَّاسِ أَحْيَاءً مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ كَخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ عَدَمِهِ، بِجَامِعِ اسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي أَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ عَدَمٍ، وَهَذَا أَحَدُ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَوَّلِ النَّحْلِ وَأَوَّلِ الْجَاثِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، أَيْ يَتَحَتَّمُ وَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ثُبُوتًا لَا يَصِحُّ مَعَهُ تَخَلُّفُهُ عَنْهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَصِحُّ أَنْ يُخْلِفَ وَعِيدَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعِيدَهُ، وَأَنَّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ حَسَنٌ لَا قَبِيحَ، وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ هُوَ إِخْلَافُ الْوَعْدِ، وَأَنَّ الشَّاعِرَ قَالَ: وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لِمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي لَا يَصِحُّ بِحَالٍ، لِأَنَّ وَعِيدَهُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ حَقٌّ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ: سَهَا فَسَجَدَ، أَيْ لِعِلَّةِ سَهْوِهِ وَسَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ، فَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ لِكَوْنِ الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ حَقَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ، فَدَعْوَى جَوَازِ تَخَلُّفِهِ بَاطِلَةٌ بِلَا شَكٍّ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ هُوَ الْوَعِيدُ الَّذِي قَدَّمَ بِهِ إِلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةٍ «ص» إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ إِخْلَافُهُ هُوَ وَعِيدُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ بِتَعْذِيبِهِمْ عَلَى كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4 \ 48] ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَجَاوُزٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَاصِينَ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [6 \ 128] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِ النَّاسِ وَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ إِيجَادِهِمُ الْأَوَّلِ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَتِهِمْ وَخَلْقِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى ; لِأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَصْعَبَ مِنَ الْبَدْءِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [17 \ 51] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، كَخَلْقِ النَّاسِ أَوَّلًا، وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَالْحَجِّ وَالْجَاثِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. قَوْلُهُ إِذْ: مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أَقْرَبُ، أَيْ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَلَقَّى فِيهِ الْمَلَكَانِ جَمِيعَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فِي وَقْتِ كِتَابَةِ الْحَفَظَةِ أَعْمَالَهُ لَا حَاجَةَ لَهُ لِكُتُبِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِكِتَابَةِ الْحَفَظَةِ لِلْأَعْمَالِ لِحِكَمٍ أُخْرَى كَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13 - 14] ، وَمَفْعُولُ التَّلَقِّي فِي الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يَتَلَقَّى، وَالْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْمُتَلَقِّيَانِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ جَمِيعَ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ فَيَكْتُبَانِهِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّلَقِّي التَّلَقُّنُ بِالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ اهـ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ لِأَنَّ الْمَلَكَ يَتَلَقَّى عَمَلَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ صُدُورِهِ مِنْهُ فَيَكْتُبُهُ عَلَيْهِ، وَالْمُتَلَقِّيَانِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَكْتُبَانِ أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ مَقْعَدَ أَحَدِهِمَا عَنْ يَمِينِهِ وَمَقْعَدَ الْآخَرِ عَنْ شِمَالِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 وَالْقَعِيدُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ الْقَاعِدُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُقَاعِدُ، وَقَدْ يَكْثُرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْفَعِيلِ وَإِرَادَةُ الْمُفَاعِلِ، كَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُجَالِسِ، وَالْأَكِيلِ بِمَعْنَى الْمُآكِلِ، وَالنَّدِيمِ بِمَعْنَى الْمُنَادِمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَعِيدُ هُنَا هُوَ الْمُلَازِمُ، وَكُلُّ مُلَازِمٍ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا يُقَالُ لَهُ قَعِيدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ: قَعِيْدُكِ أَلَّا تُسْمِعِينِي مَلَامَةً وَلَا تَنْكَئِي قَرْحَ الْفُؤَادِ فَيَيْجَعَا وَالْمَعْنَى عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، فَحَذْفُ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَنْشَدَ لَهُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيِّ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي وَقَوْلَ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ الْأَنْصَارِيِّ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ وَقَوْلَ ضَابِئِ بْنِ الْحَارِثِ الْبُرْجُمِيِّ: فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبٌ فَقَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ: كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا أَيْ كُنْتُ بَرِيئًا مِنْهُ وَكَانَ وَالِدِي بَرِيئًا مِنْهُ. وَقَوْلُ ابْنِ الْخَطِيمِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ: أَيْ نَحْنُ رَاضُونَ وَأَنْتَ رَاضٍ. وَقَوْلُ ضَابِئِ بْنِ الْحَارِثِ: فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبٌ: يَعْنِي: إِنِّي لَغَرِيبٌ وَقَيَّارٌ غَرِيبٌ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَدَعْوَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ: قَعِيدٌ هِيَ الْأُولَى أُخِّرَتْ وَحُذِفَتِ الثَّانِيَةُ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ كَمَا تَرَى، لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ إِذَا صَحَّتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِالْأَخِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ أَصْلُهُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ، أَيْ مَا يَنْطِقُ بِنُطْقٍ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ إِلَّا لَدَيْهِ، أَيْ إِلَّا وَالْحَالُ أَنَّ عِنْدَهُ رَقِيبًا، أَيْ مَلَكًا مُرَاقِبًا لِأَعْمَالِهِ حَافِظًا لَهَا شَاهِدًا عَلَيْهَا لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ. عَتِيدٌ: أَيْ حَاضِرٌ لَيْسَ بِغَائِبٍ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَيْهِ حَفَظَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 10 - 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [43 \ 80] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 28 - 29] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ الْآيَةَ [19 \ 79] وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [43 \ 19] ، وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَعِيدَ الَّذِي هُوَ عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى صَاحِبِ السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْرًا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: أَمْهِلْهُ وَلَا تَكْتُبْهَا عَلَيْهِ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يُمْهِلُهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عَمَلِ الْعَبْدِ الْجَائِزِ الَّذِي لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ، هَلْ تَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْتُبُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «مِنْ قَوْلٍ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ زِيدَتْ قَبْلَهَا لَفْظَةُ «مِنْ» ، فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعُمُومِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُكْتَبُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا جَزَاءَ إِلَّا فِيمَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَكْتُبُ إِلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: يَكْتُبُ الْجَمِيعَ - مُتَّفِقُونَ عَلَى إِسْقَاطِ مَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُونَ: لَا يُكْتَبُ أَصْلًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: يُكْتَبُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُمْحَى. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَحْوَ ذَلِكَ، وَإِثْبَاتَ مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ الْآيَةَ [13 \ 39] . وَالَّذِينَ قَالُوا: لَا يُكْتَبُ مَا لَا جَزَاءَ فِيهِ. قَالُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ نَعْتًا مَحْذُوفًا سَوَّغَ حَذْفَهُ الْعِلْمُ بِهِ، لِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَائِزَ لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ، وَتَقْدِيرُ النَّعْتِ الْمَحْذُوفِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ مُسْتَوْجِبٍ لِلْجَزَاءِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حَذْفَ النَّعْتِ إِذَا دُلَّ عَلَيْهِ - أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [18 \ 79] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ لَا عَيْبَ فِيهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [18 \ 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ [17 \ 58] ، أَيْ قَرْيَةٍ ظَالِمَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [28 \ 59] ، وَإِنَّ مِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلَ الْمُرَقِّشِ الْأَكْبَرِ: وَرُبَّ أَسِيلَةِ الْخَدَّيْنِ بِكْرٍ ... مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وَجِيدُ أَيْ لَهَا فَرْعٌ فَاحِمٌ وَجِيدٌ طَوِيلٌ. وَقَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ: مِنْ قَوْلِهِ قَوْلٌ وَمِنْ فِعْلِهِ ... فِعْلٌ وَمِنْ نَائِلِهِ نَائِلٌ أَيْ قَوْلٌ فَصْلٌ، وَفِعْلٌ جَمِيلٌ، وَنَائِلٌ جَزْلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [27 \ 66] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ يَوْمَ نَقُولُ بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَشُعْبَةُ «يَوْمَ يَقُولُ» بِالْيَاءِ، وَعَلَى قِرَاءَتِهِمَا فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِنْكَارِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [6 \ 47] ، أَيْ مَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى هَلْ مِنْ مَزِيدٍ لَا مَحَلَّ لِلزِّيَادَةِ لِشِدَّةِ امْتِلَاءِ النَّارِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْوَجْهِ بِآيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [11 \ 119] ، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 84 - 85] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ [36 \ 7] ، لِأَنَّ إِقْسَامَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِلَامِ التَّوْطِئَةِ فِي «لَأَمْلَأَنَّ» عَلَى أَنَّهُ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَمْتَلِئَ، وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ مَعْنَى هَلْ مِنْ مَزِيدٍ لَا مَزِيدَ، لِأَنِّي قَدِ امْتَلَأْتُ فَلَيْسَ فِيَّ مَحِلٌّ لِلْمَزِيدِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِ النَّارِ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ هُوَ طَلَبُهَا لِلزِّيَادَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ أَيْ كَفَانِي قَدِ امْتَلَأْتُ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْأَصَحُّ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَا تَزَالُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ» ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهَا: قَطْ قَطْ، أَيْ كَفَانِي قَدِ امْتَلَأْتُ، وَأَنَّ قَوْلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالْقِتَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ - قَوْلٌ حَقِيقِيٌّ يُنْطِقُهَا اللَّهُ بِهِ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَقَوْلِ الْحَوْضِ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ فَقَالَ قَطْنِي ... مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي وَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا ذَلِكَ هُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ حَالِهَا خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [25 \ 12] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. قَوْلُهُ: «أُزْلِفَتْ» أَيْ قُرِّبَتْ، وَقَوْلُهُ: «غَيْرَ بَعِيدٍ» فِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ: «أُزْلِفَتْ» سَوَاءٌ أَعْرَبْتَ «غَيْرَ بَعِيدٍ» بِأَنَّهَا حَالٌ أَوْ ظَرْفٌ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِزْلَافِ الْجَنَّةِ لِلْمُتَّقِينَ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [81 \ 12 - 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [26 \ 90 - 91] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: غَيْرَ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ. قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [16 \ 31] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَزِيدُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [10 \ 26] ، لِأَنَّ الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [43 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [7 \ 54] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي فُصِّلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إِلَى قَوْلِهِ: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 9 - 12] ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَاللُّغُوبُ: التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ مِنَ الْعَمَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ وَالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَطْرَافَ النَّهَارِ، قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 فِي أُخْرَيَاتِ طه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [20 \ 130] ، وَأَمْرُهُ لَهُ بِالتَّسْبِيحِ بَعْدَ أَمْرِهِ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ فِيهِ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ يُعِينُهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالصَّلَاةُ دَاخِلَةٌ فِي التَّسْبِيحِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَ ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا فِيهِ حَدِيثَ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ فِي آخِرِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [15 \ 97 - 98] ، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَبِالصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ الْآيَةَ [2 \ 45] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [36 \ 51] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: «تَشَّقَّقُ» بِتَشْدِيدِ الشِّينِ بِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِيهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ لِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سِرَاعًا: جَمْعُ سَرِيعٍ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَنْهُمْ أَيْ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُسْرِعِينَ إِلَى الدَّاعِي وَهُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْبَعْثِ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ مُسْرِعِينَ إِلَى الْمَحْشَرِ قَاصِدِينَ نَحْوَ الدَّاعِي، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [70 \ 43] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [36 \ 51] ، وَقَوْلِهِ: يَنْسِلُونَ أَيْ يُسْرِعُونَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي الْآيَةَ [54 \ 7 - 8] ، فَقَوْلُهُ: مُهْطِعِينَ: أَيْ مُسْرِعِينَ مَادِّي أَعْنَاقِهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [36 \ 51] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [10 \ 99] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [35 \ 18] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الذَّارِيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ. أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ الرِّيَاحُ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الذَّرْوَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرِّيَاحِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [18 \ 45] ، وَمَعْنَى تَذْرُوهُ: تَرْفَعُهُ وَتُفَرِّقُهُ، فَهِيَ تَذْرُو التُّرَابَ وَالْمَطَرَ وَغَيْرَهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَمَنْهَلٍ آجِنٍ قَفْرٍ مَحَاضِرُهُ ... تَذْرُو الرِّيَاحُ عَلَى جَمَّاتِهِ الْبَعَرَا وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِن َّ الذَّارِيَاتِ النِّسَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا: السَّحَابُ، أَيِ الْمُزْنُ تَحْمِلُ وِقْرًا ثِقَلًا مِنَ الْمَاءِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَصْرِيحُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِوَصْفِ السَّحَابِ بِالثِّقَالِ، وَهُوَ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ، وَذَلِكَ لِثِقَلِ السَّحَابَةِ بِوَقْرِ الْمَاءِ الَّذِي تَحْمِلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [13 \ 12] ، وَهُوَ جَمْعُ سَحَابَةٍ ثَقِيلَةٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [7 \ 57] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا: السُّفُنُ تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ مِنَ النَّاسِ وَأَمْتِعَتِهُمْ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ «الْحَامِلَاتِ وِقْرًا» الرِّيَاحُ أَيْضًا كَانَ وَجْهُهُ ظَاهِرًا. وَدَلَالَةُ بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ وَاضِحَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ الرِّيَاحَ تَحْمِلُ السَّحَابَ الثِّقَالَ بِالْمَاءِ، وَإِذَا كَانَتِ الرِّيَاحُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ السَّحَابَ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، فَنِسْبَةُ حَمْلِ ذَلِكَ الْوِقْرِ إِلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى السَّحَابِ الَّتِي هِيَ مَحْمُولَةٌ لِلرِّيَاحِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [7 \ 57] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا، أَيْ حَتَّى إِذَا حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا، فَالْإِقْلَالُ الْحَمْلُ، وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَى الرِّيحِ. وَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا هِيَ الرِّيَاحُ - ظَاهِرَةٌ كَمَا تَرَى، وَيَصِحُّ شُمُولُ الْآيَةِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ هُوَ الْأَجْوَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِيهِ، وَكَلَامَهُمْ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا: هِيَ حَوَامِلُ الْأَجِنَّةِ مِنَ الْإِنَاثِ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِيَاتِ يُسْرًا: السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ يُسْرًا، أَيْ: جَرْيًا ذَا يُسْرٍ أَيْ سُهُولَةٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ حَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا نَحْوَهُ مِرَارًا: أَيْ فَالْجَارِيَاتِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُيَسَّرَةً مُسَخَّرًا لَهَا الْبَحْرٌ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ كَثْرَةُ إِطْلَاقِ الْوَصْفِ بِالْجَرْيِ عَلَى السُّفُنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ [42 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [69 \ 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [22 \ 65] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [45 \ 12] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الْجَارِيَاتُ الرِّيَاحُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا: هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُرْسِلُهَا اللَّهُ فِي شُئُونٍ وَأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمُقَسِّمَاتِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [79 \ 5] ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِتَسْخِيرِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِهْلَاكِ الْأُمَمِ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ صَالِحٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ: «أَمْرًا» مَفْعُولٌ بِهِ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْمُقَسِّمَاتُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَمْثِلَةَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَنْكِيرِ الْمُفْرَدِ كَمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 هُنَا، وَتَعْرِيفِهِ وَإِضَافَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [22 \ 5] ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّوْكِيدِ هُوَ شِدَّةُ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ «مَا» فِيهِ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ إِلَى الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، وَالْوَصْفُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصَادِقٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ صِيغَةَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي «لَصَادِقٌ» بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ أَوِ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمَصْدُوقٌ فِيهِ لَا مَكْذُوبٌ بِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [69 \ 21] ، أَيْ مَرْضِيَّةٍ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِدْقِ مَا يُوعَدُونَهُ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [3 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [6 \ 134] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [56 \ 3] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْجَزَاءُ، أَيْ وَإِنَّ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [24 \ 25] ، أَيْ جَزَاءَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [53 \ 40 - 41] . وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ ظَنُّ الْكُفَّارِ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ السَّيِّئِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ ظَنَّ عَدَمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَمُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 115 - 116] . وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] ، فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ «ص» هَذِهِ: بَاطِلًا أَيْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَاتِ الْحُبُكِ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَى أَنَّ الْحُبُكَ جُمَعُ حَبِيكَةٍ أَوْ حِبَاكٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى ذَاتُ الْحُبُكِ أَيْ ذَاتُ الطَّرَائِقِ، فَمَا يَبْدُو عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ السَّاكِنِ أَوِ الرَّمْلِ مِنَ الطَّرَائِقِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ هُوَ الْحُبُكُ، وَهُوَ جَمْعُ حَبِيكَةٍ أَوْ حِبَاكٍ، قَالُوا: وَلِبُعْدِ السَّمَاءِ لَا تُرَى طَرَائِقُهَا الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْحُبُكِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زُهَيْرٍ: مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... رِيحٌ خَرِيقٌ بِضَاحِي مِائَةٍ حُبُكِ وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: كَأَنَّمَا جَلَّلَهَا الْحُوَّاكُ ... طَنْفَسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «ذَاتِ الْحُبُكِ» أَيْ ذَاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ الْمُحْكَمِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ - ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [67 \ 3 - 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحُبُكُ مَصْدَرٌ، لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ أَتْقَنَهُ عَامِلُهُ وَأَحْسَنَ صُنْعَهُ، تَقُولُ فِيهِ الْعَرَبُ: حَبَكَهُ حَبْكًا بِالْفَتْحِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالْحُبُكُ بِضَمَّتَيْنِ بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ذَاتُ الْحُبُكِ: أَيِ الزِّينَةِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [67 \ 5] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي «ق» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا [50 \ 6] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ذَاتُ الْحُبُكِ أَيْ ذَاتُ الشِّدَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [78 \ 12] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 وَالْعَرَبُ تُسَمِّي شِدَّةَ الْخَلْقِ حَبْكًا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ الشَّدِيدِ الْخَلْقِ: مَحْبُوكٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي فِي أَنْفِهِ ... لَاحِقُ الْإِطْلَيْنِ مَحْبُوكٌ مُمَرٍّ وَالْآيَةُ تَشْمَلُ الْجَمِيعَ، فَكُلُّ الْأَقْوَالِ حَقٌّ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، أَيْ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ فِي شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَأْنِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: هُوَ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كِهَانَةٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِ مُخْتَلِفٍ أَيْ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ مُصَدِّقٌ، وَبَعْضُهُمْ مُكَذِّبٌ - خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ دُونَ الْمُصَدِّقِينَ - قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ق: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [50 \ 5] ، أَيْ مُخْتَلِطٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُخْتَلِفٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ فِي نَظَرِي، أَنَّ لَفْظَةَ «عَنْ» فِي الْآيَةِ سَبَبِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [11 \ 53] ، أَيْ بِسَبَبِ قَوْلِكَ، وَمِنْ أَجْلِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِـ «عَنْ» رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ، وَالْمَعْنَى: «يُؤْفَكُ» أَيْ يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. «عَنْهُ» أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ أَيْ بِسَبَبِهِ. «مَنْ أُفِكَ» أَيْ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ فِي الْأَزَلِ، فَحُرِمَ الْهُدَى وَأُفِكَ عَنْهُ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْمُخْتَلِفَ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُنَاقِضُهُ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى كَذِبِ الْقَوْلِ وَبُطْلَانِهِ اخْتِلَافُهُ وَتَنَاقُضُهُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَهَذَا الْقَوْلُ الْمُخْتَلِفُ الَّذِي يُحَاوِلُ كُفَّارُ مَكَّةَ أَنْ يَصُدُّوا بِهِ النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّسُولَ سَاحِرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ شَاعِرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَذَّابٌ - ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِتَنَاقُضِهِ وَتَكْذِيبِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ، فَلَا يُصْرَفُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِهِ إِلَّا مَنْ صُرِفَ، أَيْ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنِ الْحَقِّ لِشَقَاوَتِهِ فِي الْأَزَلِ فَمَنْ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ وَالْكُفْرُ لَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْحَقِّ قَوْلٌ ظَاهِرُ الْكَذِبِ وَالْبُطْلَانِ لِتَنَاقُضِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ [37 \ 161 - 163] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ دِينَ الْكُفَّارِ، الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهِ «مَا هُمْ بِفَاتِنَيْنِ» أَيْ لَيْسُوا بِمُضِلِّينَ عَلَيْهِ أَحَدًا لِظُهُورِ فَسَادِهِ وَبُطْلَانِهِ «إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ» أَيْ إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْفَكُ عَنْهُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْقُرْآنِ، أَيْ يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ أَوِ الْقُرْآنِ، مَنْ أُفِكَ أَيْ صُرِفَ عَنِ الْحَقِّ، وَحُرِمَ الْهُدَى لِشِدَّةِ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ السِّيَاقِ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: يُؤْفَكُ عَنْهُ، أَيْ يُصْرَفُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ الْبَاطِلِ مَنْ أُفِكَ، أَيْ مَنْ صُرِفَ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ لَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَسُقُوطُهُ. وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِفْكَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُبْعِدُ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ الْإِفْكُ مُرَادٌ بِهِ إِلَّا الصَّرْفُ عَنِ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ دُونَ عَكْسِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا الدَّلَالَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِدَلَالَةِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نَيْلِ هَذِهِ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّبَبُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَكَوْنُ التَّقْوَى سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّاتِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [19 \ 63] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [16 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِكَوْنِ رِزْقِ النَّاسِ فِي السَّمَاءِ، فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ جَمِيعَ أَرْزَاقِهِمْ مَنْشَؤُهَا مِنَ الْمَطَرِ وَهُوَ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ اسْمِ الرِّزْقِ عَلَى الْمَطَرِ لِهَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [40 \ 13] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ [45 \ 5] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ. وَإِنْزَالُهُ تَعَالَى الرِّزْقَ مِنَ السَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَى خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ كَثُرَ الِامْتِنَانُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْخَلْقِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ أَنَّ أَرْزَاقَكُمْ مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يُدَبِّرُ أَمْرَ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الْآيَةَ [32 \ 5] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تُوعَدُونَ «مَا» فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: رِزْقُكُمْ، وَالْمُرَادُ بِمَا يُوعَدُونَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْجَنَّةُ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، فَإِطْلَاقُ كَوْنِهَا فِي السَّمَاءِ إِطْلَاقٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ السَّمَاءَ عَلَى كُلِّ مَا عَلَاكَ كَمَا قِيلَ: وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَلَمَّا حَكَى النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ شِعْرَهُ الْمَشْهُورَ، قَالَ فِيهِ: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا وَإِنَّا لِنَرْجُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَى أَيْنَ يَا أَبَا لَيْلَى. قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمَا تُوعَدُونَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كُلُّهُ مُقَدَّرٌ فِي السَّمَاءِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْمُرَادِ بِالرِّزْقِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِيمَا يُوعَدُونَ بِهِ أَنْسَبُ لِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي فِي مَعْنَى الرِّزْقِ. وَقَدْ وَرَدَتْ قِصَصٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأَ وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 فَقَالَ: أَلَا أَرَى رِزْقِي فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ، فَدَخَلَ خَرِبَةً يَمْكُثُ ثَلَاثًا لَا يُصِيبُ شَيْئًا، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذَا هُوَ بِدَوْخَلَةٍ مِنْ رُطَبٍ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَحْسَنُ مِنْهُ نِيَّةً، فَدَخَلَ مَعَهُ فَصَارَتَا دَوْخَلَتَيْنِ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمَا حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ، قَالَ: أَقْبَلْتُ مِنْ جَامِعِ الْبَصْرَةِ فَطَلَعَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قُلْت: مِنْ بَنِي أَصْمَعَ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ مَوْضِعٍ يُتْلَى فِيهِ كَلَامُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: اتْلُ عَلَيَّ، فَتَلَوْتُ: وَالذَّارِيَاتِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ قَالَ: حَسْبُكَ، فَقَامَ إِلَى نَاقَتِهِ فَنَحَرَهَا وَوَزَّعَهَا عَلَى مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَعَمَدَ إِلَى سَيْفِهِ وَقَوْسِهِ فَكَسَرَهُمَا وَوَلَّى، فَلَمَّا حَجَجْتُ مَعَ الرَّشِيدِ طَفِقْتُ أَطُوفُ فَإِذَا أَنَا بِمَنْ يَهْتِفُ بِي بِصَوْتٍ رَقِيقٍ فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا أَنَا بِالْأَعْرَابِيِّ قَدْ نَحِلَ وَاصْفَرَّ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَاسْتَقْرَأَ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الْآيَةَ صَاحَ، وَقَالَ: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَرَأْتُ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [51 \ 23] ، فَصَاحَ وَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ، لَمْ يُصَدِّقُوهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى الْيَمِينِ، قَائِلًا ثَلَاثًا، وَخَرَجَتْ مَعَهَا نَفْسُهُ. انْتَهَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا. إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [15 \ 51] ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 76] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا الْآيَةَ [41 \ 16] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ [41 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «ق» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا الْآيَةَ [50 \ 6] . تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ، لَيْسَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ الْمَعْرُوفَةِ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِأَيْدٍ لَيْسَ جَمْعَ يَدٍ: وَإِنَّمَا الْأَيْدُ الْقُوَّةُ، فَوَزْنُ قَوْلِهِ هُنَا بِأَيْدٍ فَعْلٌ، وَوَزْنُ الْأَيْدِي أَفْعُلُ، فَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: بِأَيْدٍ فِي مَكَانِ الْفَاءِ، وَالْيَاءُ فِي مَكَانِ الْعَيْنِ، وَالدَّالُ فِي مَكَانِ اللَّامِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَيْدٍ جَمْعَ يَدٍ لَكَانَ وَزْنُهُ أَفْعُلًا، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً وَالْيَاءُ فِي مَكَانِ الْفَاءِ، وَالدَّالُ فِي مَكَانِ الْعَيْنِ، وَالْيَاءُ الْمَحْذُوفَةُ لِكَوْنِهِ مَنْقُوصًا هِيَ اللَّامَ. وَالْأَيْدُ، وَالْآدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، وَرَجُلٌ أَيْدٌ قَوِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [2 \ 87] ، أَيْ قَوَّيْنَاهُ بِهِ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهَا جَمْعُ يَدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَالْمَعْنَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِقُوَّةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا أَتَى نَبِيٌّ قَوْمًا إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، ثُمَّ قَالَ: أَتَوَاصَوْا بِهِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَوَاصِيهِمْ بِذَلِكَ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجْمَعُوا فِي زَمَنٍ حَتَّى يَتَوَاصَوْا فَقَالَ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَيِ الْمُوجِبُ الَّذِي جَمَعَهُمْ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَنِسْبَتِهِمْ لِلسِّحْرِ وَالْجُنُونِ هُوَ اتِّحَادٌ فِي الطُّغْيَانِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْكُفْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّفَقُوا، لِأَنَّ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ تُشْبِهُ قُلُوبَ بَعْضٍ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، فَتَشَابَهَتْ مَقَالَاتُهُمْ لِلرُّسُلِ لِأَجْلِ تَشَابُهِ قُلُوبِهِمْ. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [2 \ 118] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ. نَفْيُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلَّوْمِ عَنْ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [13 \ 40] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ شَيْئًا لِحِكَمٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَذْكُرَ بَعْضَ حِكَمِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَإِنَّا نَذْكُرُ بَقِيَّةَ حِكَمِهِ، وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةَ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ وَاحِدَةً مِنْ حِكَمِ التَّذْكِيرِ وَهِيَ رَجَاءُ انْتِفَاعِ الْمُذَكَّرِ بِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَا: وَذَكِّرْ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ حِكَمِ ذَلِكَ أَيْضًا خُرُوجُ الْمُذَكِّرِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْحِكْمَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [7 \ 134] . وَمِنْ حِكَمِ ذَلِكَ أَيْضًا النِّيَابَةُ عَنِ الرُّسُلِ فِي إِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الْحُجَّةَ فِي آخِرِ «طه» فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ [20 \ 134] . وَأَشَارَ لَهَا فِي الْقَصَصِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [28 \ 47] . وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْحِكَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [5 \ 105] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُونِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَعْنَى مَا خَلَقْتُهُمْ إِلَّا لِيَعْبُدَنِي السُّعَدَاءُ مِنْهُمْ وَيَعْصِيَنِي الْأَشْقِيَاءُ، فَالْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ إِيجَادِ الْخَلْقِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ حَاصِلَةٌ بِفِعْلِ السُّعَدَاءِ مِنْهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [6 \ 89] ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَسُفْيَانَ. وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ أَطْلَقَ فِيهَا الْمَجْمُوعَ وَأَرَادَ بَعْضَهُمْ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَوْضَحِهَا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: «فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» ، مِنَ الْقَتْلِ لَا مِنَ الْقِتَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ... نَبَا مِنْ يَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدٍ فَتَرَاهُ نَسَبَ الضَّرْبَ لِبَنِي عَبْسٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ أَنَّ الضَّارِبَ الَّذِي نَبَا بِيَدِهِ السَّيْفُ عَنْ رَأْسِ خَالِدٍ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ، هُوَ وَرْقَاءُ يَعْنِي ابْنَ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحُجُرَاتِ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [49 \ 147] ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [9 \ 99] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيْ «إِلَّا لِيُقِرُّوا لِي بِالْعُبُودِيَّةِ طَوْعًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 أَوْ كَرْهًا» ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُطِيعُ بِاخْتِيَارِهِ وَالْكَافِرَ مُذْعِنٌ مُنْقَادٌ لِقَضَاءِ رَبِّهِ جَبْرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [13 \ 15] ، وَالسُّجُودُ وَالْعِبَادَةُ كِلَاهُمَا خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ طَوْعًا وَبَعْضَهُمْ يَفْعَلُهُ كَرْهًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيٌّ إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [43 \ 87] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَثْرَتَهُ فِيهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيْ إِلَّا لِآمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي فَيَعْبُدُنِي مَنْ وَفَّقْتُهُ مِنْهُمْ لِعِبَادَتِي دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَإِرَادَةُ عِبَادَتِهِمُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْبُدُونِ - إِرَادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ الْمُلَازِمَةُ لِلْأَمْرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ مَنْ أَمَرَتْهُمُ الرُّسُلُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، لَا إِرَادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَعَبَدَهُ جَمِيعُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، أَيْ إِلَّا لِآمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي وَأَبْتَلِيهِمْ أَيْ أَخْتَبِرُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ، ثُمَّ أُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَبْتَلِيَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [11 \ 7] ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [11 \ 7] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُلْكِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 2] . وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18 \ 7] . فَتَصْرِيحُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِ لِلْخَلْقِ، هِيَ ابْتِلَاؤُهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، يُفَسِّرُ قَوْلَهُ: لِيَعْبُدُونِ. وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ - الْقُرْآنُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَتِيجَةَ الْعَمَلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِجَزَاءِ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَلِذَا صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِمْ أَوَّلًا وَبَعْثِهِمْ ثَانِيًا، هُوَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ يُونُسَ: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 4] ، وَقَوْلُهُ فِي النَّجْمِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [53 \ 31] . وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ حُسْبَانَهُ وَظَنَّهُ أَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى، أَيْ مُهْمَلًا، لَمْ يُؤْمَرْ وَلَمْ يُنْهَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا نَقَلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى أَوْجَدَهُ إِلَّا لِيَبْعَثَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْ وَيُجَازِيَهُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 36 - 40] . وَالْبَرَاهِينُ عَلَى الْبَعْثِ دَالَّةٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَقَدْ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي ظَنَّهُ الْكُفَّارُ بِهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الْخَلْقَ وَلَا يُجَازِيهِمْ مُنْكِرًا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 115 - 116] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [46 \ 3] . تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى حِكْمَةِ خَلْقِ اللَّهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَهْلِهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 قَدْ يَظُنُّ غَيْرُ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافًا، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ إِعْلَامُ خَلْقِهِ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الطَّلَاقِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [65 \ 12] . وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كَوْنَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [2 \ 163] ، ثُمَّ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] ، وَلَمَّا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [2 \ 21] ، بَيَّنَ أَنَّ خَلْقَهُمْ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ بِكَوْنِهِ هُوَ الْخَالِقُ - كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا الْآيَةَ [25 \ 2 - 3] ، وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [13 \ 16] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَبْتَلِيَ النَّاسَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [11 \ 7] . وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ [10 \ 4] ، وَذَكَرَ فِي آيَةِ الذَّارِيَاتِ هَذِهِ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوهُ، فَقَدْ يَظُنُّ غَيْرُ الْعَالِمِ أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ اخْتِلَافًا مَعَ أَنَّهَا لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيهَا كُلِّهَا رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَمَعْرِفَةُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَقَوْلُهُ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [65 \ 12] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 وَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [2 \ 21] رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَطَاعَهُ وَوَحَّدَهُ. وَهَذَا الْعِلْمُ يُعَلِّمُهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيُرْسِلُ لَهُمُ الرُّسُلَ بِمُقْتَضَاهُ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، فَالتَّكْلِيفُ بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالْجَزَاءُ بَعْدَ التَّكْلِيفِ، فَظَهَرَ بِهَذَا اتِّفَاقُ الْآيَاتِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَكْلِيفٍ، وَهُوَ الِابْتِلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ وَالتَّكْلِيفُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلْمٍ، وَلِذَا دَلَّ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ حِكْمَةَ الْخَلْقِ لِلْمَخْلُوقَاتِ هِيَ الْعِلْمُ بِالْخَالِقِ، وَدَلَّ بَعْضُهَا عَلَى أَنَّهَا الِابْتِلَاءُ، وَدَلَّ بَعْضُهَا عَلَى أَنَّهَا الْجَزَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَبَعْضُهُ مُرَتَّبٌ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [11 \ 119] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ أَيْ وَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ خَلَقَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [7 \ 179] إِرَادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، إِرَادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ. وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَيْضًا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ مُنْقَسِمًا إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، وَأَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] ،: وَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [42 \ 7] . وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اللَّهَ دَعَا جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ فَيَصِيرُونَ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ مِنْ شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِرَادَةَ قَدْ تَكُونُ دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْأَمْرِ وَالرِّضَا، وَقَدْ تَكُونُ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً وَلَيْسَتْ مُلَازِمَةً لَهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْجَمِيعَ بِالْأَفْعَالِ الْمُرَادَةِ مِنْهُمْ دِينًا، وَيُرِيدُ ذَلِكَ كَوْنًا وَقَدَرًا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [4 \ 64] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 فَقَوْلُهُ: إِلَّا لِيُطَاعَ أَيْ: فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِنَا، لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ مُرَادٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ شَرْعًا وَدِينًا، وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ كَوْنًا وَقَدَرًا، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [10 \ 25] ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [6 \ 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ. أَصْلُ الذَّنُوبِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الدَّلْوُ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقْتَسِمُونَ مَاءَ الْآبَارِ وَالْقَلْبِ بِالدَّلْوِ، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْهُ مِلْءَ دَلْوٍ، وَيَأْخُذُ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا أَطْلَقُوا اسْمَ الذَّنُوبِ الَّتِي هِيَ الدَّلْوُ عَلَى النَّصِيبِ. قَالَ الرَّاجِزُ فِي اقْتِسَامِهِمُ الْمَاءَ بِالدَّلْوِ: لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ وَيُرْوَى: إِنَّا إِذَا شَارَبَنَا شَرِيبُ ... لَهُ ذَنُوبٌ وَلَنَا ذَنُوبُ فَإِنْ أَبَى كَانَ لَنَا الْقَلِيبُ وَمِنْ إِطْلَاقِ الذَّنُوبِ عَلَى مُطْلَقِ النَّصِيبِ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ التَّمِيمِيِّ، وَقِيلَ عَبِيدٌ: وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتُ بِنِعْمَةٍ ... فَحَقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نِدَاكَ ذَنُوبُ وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ: لَعَمْرِكَ وَالْمَنَايَا طَارِقَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ فَالذَّنُوبُ فِي الْبَيْتَيْنِ النَّصِيبُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا بِتَكْذِيبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَنُوبًا، أَيْ نَصِيبًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [39 \ 50] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ [13 \ 6] ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [19 \ 84] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ بِالْوَيْلِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَا يَنَالُهُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «ص» : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] ، وَقَوْلِهِ فِي إِبْرَاهِيمَ: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [14 \ 2] ، وَقَوْلِهِ فِي الْمُرْسَلَاتِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 15] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ وَوَيْلٌ، قَالَ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا مَصْدَرٌ لَا فِعْلَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمَعْنَاهُ الْهَلَاكُ الشَّدِيدُ، وَقِيلَ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَسْتَعِيذُ مِنْ حَرِّهِ، وَالَّذِي سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهَذِهِ النَّكِرَةِ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الطُّورِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ. هَذِهِ الْأَقْسَامُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْسَمَ بِبَعْضِهَا بِخُصُوصِهِ، وَأَقْسَمَ بِجَمِيعِهَا فِي آيَةٍ عَامَّةٍ لَهَا وَلِغَيْرِهَا. أَمَّا الَّذِي أَقْسَمَ مِنْهَا إِقْسَامًا خَاصًّا فَهُو َ الطُّورُ، وَالْكِتَابُ الْمَسْطُورُ، وَالسَّقْفُ الْمَرْفُوعُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الطُّورَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطُّورِ فِي قَوْلِهِ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ [95 \ 21] . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَسْطُورَ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنَ الْإِقْسَامِ بِهِ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [43 \ 1 - 2] ، [44 \ 1 - 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [36 \ 1 - 2] ، وَقِيلَ: هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: هُوَ السَّمَاءُ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [51 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [85 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [91 \ 5] ، وَالرَّقُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ كُلُّ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ صَحِيفَةٍ وَغَيْرِهَا، وَقِيلَ هُوَ الْجِلْدُ الْمُرَقَّقُ لِيُكْتَبَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: مَنْشُورٍ أَيْ مَبْسُوطٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [17 \ 13] ، وَقَوْلُهُ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [74 \ 52] . وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ: هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْرُوفُ فِي السَّمَاءِ الْمُسَمَّى بِالضُّرَاحِ بِضَمِّ الضَّادِ، وَقِيلَ فِيهِ مَعْمُورٌ، لِكَثْرَةِ مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ: «أَنَّهُ يَزُورُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَهَا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 وَقَوْلُهُ: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْجُورَ هُوَ الْمُوقَدُ نَارًا، قَالُوا: وَسَيَضْطَرِمُ الْبَحْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا، مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [40 \ 72] . الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمَسْجُورَ بِمَعْنَى الْمَمْلُوءِ، لِأَنَّهُ مَمْلُوءٌ مَاءً، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَسْجُورِ عَلَى الْمَمْلُوءِ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعا ... مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا فَقَوْلُهُ: مَسْجُورَةً أَيْ عَيْنًا مَمْلُوءَةً مَاءً، وَقَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ: إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورَةً ... تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ وَالسَّاسَمَا وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي مَعْنَى الْمَسْجُورِ هُمَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [81 \ 6] ، وَأَمَّا الْآيَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي أَقْسَمَ فِيهَا تَعَالَى بِمَا يَشْمَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [69 \ 38 - 39] ، لِأَنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ الذَّارِيَاتِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. الدَّعُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ وَعُنْفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، أَيْ يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ بِقُوَّةٍ وَعُنْفٍ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ يُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ بِقُوَّةٍ وَعُنْفٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [52 \ 14] . وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، أَمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 الْأَخِيرُ مِنْهُمَا، وَهُوَ كَوْنُهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [52 \ 14] ، وَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ فِي السَّجْدَةِ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [32 \ 20] ، وَقَوْلِهِ فِي سَبَأٍ: فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [34 \ 42] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُرْسَلَاتِ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ كَوْنُهُمْ يُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ بِقُوَّةٍ فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [44 \ 47] ، أَيْ جُرُّوهُ بِقُوَّةٍ وَعُنْفٍ إِلَى وَسَطِ النَّارِ. وَالْعَتْلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْجَرُّ بِعُنْفٍ وَقُوَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ: لَيْسَ الْكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أَبَاهُمْ ... حَتَّى تَرُدَّ إِلَى عَطِيَّةٍ تَعْتِلُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [55 \ 41] ، أَيْ تَجْمَعُ الزَّبَانِيَةُ بَيْنَ نَاصِيَةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، أَيْ مُقَدَّمِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَقَدَمِهِ، ثُمَّ تَدْفَعُهُ فِي النَّارِ بِقُوَّةٍ وَشِدَّةٍ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُمْ أَيْضًا يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [54 \ 48] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [40 \ 70 - 72] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «يَوْمَ يُدَعُّونَ» - بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «يَوْمئِذٍ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [52 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ لَا مَحَالَةَ، سَوَاءٌ صَبَرُوا أَوْ لَمْ يَصْبِرُوا، فَلَا يَنْفَعُهُمْ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ وَلَا جَزَعٌ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [14 \ 21] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ خَارِجُونَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ [74 \ 38 - 41] . وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. لَمْ يُذْكَرْ هُنَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الْفَاكِهَةِ وَلَا هَذَا اللَّحْمِ إِلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ صِفَاتِ هَذِهِ الْفَاكِهَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [56 \ 32 - 33] ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا أَنْوَاعٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [47 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا الْآيَةَ [2 \ 2] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ [37 \ 41 - 42] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَوَصَفَ اللَّحْمَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّهُ مِنَ الطَّيْرِ، وَالْفَاكِهَةَ بِأَنَّهَا مِمَّا يَتَخَيَّرُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [56 \ 20 - 21] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ. قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «لَا لَغْوَ» بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ، «وَلَا تَأْثِيمَ» كَذَلِكَ لِأَنَّهَا «لَا» الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَبُنِيَتْ مَعَهَا، وَهِيَ إِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ؛ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. لِأَنَّ لَا النَّافِيَةَ لِلْجِنْسِ إِذَا تَكَرَّرَتْ كَمَا هُنَا جَازَ إِعْمَالُهَا وَإِهْمَالُهَا، وَالْقِرَاءَتَانِ فِي الْآيَةِ فِيهِمَا الْمِثَالُ لِلْوَجْهَيْنِ، وَإِعْمَالُهَا كَثِيرٌ، وَمِنْ شَوَاهِدِ إِهْمَالِهَا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَا هَجَرْتُكِ حَتَّى قُلْتِ مُعْلِنَةً ... لَا نَاقَةٌ لِي فِي هَذَا وَلَا جُمَلٌ وَقَوْلُهُ: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا: أَيْ يَتَعَاطَوْنَ، وَيَتَنَاوَلُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. «كَأْسًا» أَيْ خَمْرًا، فَالتَّنَازُعُ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى كُلِّ تَعَاطٍ وَتَنَاوُلٍ، فَكُلُّ قَوْمٍ يُعْطِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَيْئًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 وَيُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ، فَهُمْ يَتَنَازَعُونَهُ كَتَنَازُعِ كُئُوسِ الشَّرَابِ وَالْكَلَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ فِي الشَّرَابِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: وَشَارِبٌ مُرْبِحٌ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي ... لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشُّمُولِ وَقَدْ ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِ فَقَوْلُهُ: نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ: أَيْ نَاوَلْتُهُ كُئُوسَ الْخَمْرِ وَنَاوَلْنِيهَا، وَمِنْهُ فِي الْكَلَامِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَلِمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وَأَسْمَحَتْ ... هَصَرَتْ بِغُصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ وَالْكَأْسُ تُطْلَقُ عَلَى إِنَاءِ الْخَمْرِ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُطْلِقُ الْكَأْسَ إِلَّا عَلَى الْإِنَاءِ الْمَمْلُوءِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ يَعْنِي أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا مُخَالِفَةٌ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ لِخَمْرِ الدُّنْيَا، فَخَمْرُ الْآخِرَةِ لَا لَغْوَ فِيهَا، وَاللَّغْوُ كُلُّ كَلَامٍ سَاقِطٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَخَمْرُ الْآخِرَةِ لَا تَحْمِلُ شَارِبِيهَا عَلَى الْكَلَامِ الْخَبِيثِ وَالْهَذَيَانِ، لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُولِهِمْ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَشْرَبُوهَا سَكِرُوا وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ، فَتَكَلَّمُوا بِالْكَلَامِ الْخَبِيثِ وَالْهَذَيَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللَّغْوِ. وَالتَّأْثِيمُ: هُوَ مَا يُنْسَبُ بِهِ فَاعِلُهُ إِلَى الْإِثْمِ، فَخَمْرُ الْآخِرَةِ لَا يَأْثَمُ شَارِبُهَا بِشُرْبِهَا، لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ، فَنَعِمَ بِلَذَّتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [47 \ 15] ، وَلَا تَحْمِلُ شَارِبَهَا عَلَى أَنْ يَفْعَلَ إِثْمًا بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا، فَشَارِبُهَا يَأْثَمُ بِشُرْبِهَا وَيَحْمِلُهُ السُّكْرُ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحْرِمَاتِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ مُخَالَفَةِ خَمْرِ الْآخِرَةِ لِخَمْرِ الدُّنْيَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [37 \ 45 - 47] ، وَقَوْلِهِ: لَا فِيهَا غَوْلٌ: أَيْ لَيْسَ فِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعُقُولَ فَيُذْهِبُهَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا. وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ: أَيْ لَا يَسْكَرُونَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 17 - 19] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 وَقَوْلُهُ: لَا يُصَدَّعُونَ أَيْ لَا يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ بِسَبَبِهَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ فِي صِفَةِ خَمْرِ الْآخِرَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ لِخَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَكَرْنَا الشَّوَاهِدَ الْعَرَبِيَّةَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [5 \ 90] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ «غِلْمَانٌ» جَمْعُ غُلَامٍ، أَيْ خَدَمٌ لَهُمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِطْلَاقَاتِ الْغُلَامِ وَشَوَاهِدَهَا الْعَرَبِيَّةَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [15 \ 53] . وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَذَكَرَ هُنَا حُسْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ فِي أَصْدَافِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي صَفَائِهِ وَحُسْنِهِ، وَقِيلَ: «مَكْنُونٌ» أَيْ مَخْزُونٍ لِنَفَاسَتِهِ، لِأَنَّ النَّفِيسَ هُوَ الَّذِي يُخْزَنُ وَيُكَنُّ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ بَعْضَ مَا يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [56 \ 17 - 18] ، وَزَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهُمْ مُخَلَّدِينَ، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [76 \ 15 - 16] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [76 \ 15 - 16] . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي قَوْلِهِ: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ وَالْإِنْسَانِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُوَ الْغِلْمَانُ الْمَذْكُورُونَ فِي الطُّورِ وَالْوَاقِعَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ فِي الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [76 \ 19] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 الْمَسْئُولَ عَنْهُمْ يَقُولُ لِلسَّائِلِ: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ أَيْ خَائِفِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَنَحْنُ بَيْنَ أَهْلِنَا أَحْيَاءٌ «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا» أَيْ أَكْرَمَنَا، وَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنْهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَهَدَانَا، وَوَفَّقَنَا فِي الدُّنْيَا وَوَقَانَا فِي الْآخِرَةِ عَذَابَ السَّمُومِ، وَالسَّمُومُ النَّارُ وَلَفْحُهَا وَوَهَجُهَا، وَأَصْلُهُ الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ الْمَسَامَّ، وَالْجَمْعُ سَمَائِمُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: أَنَامِلُ لَمْ تَضْرِبْ عَلَى الْبُهْمِ بِالضُّحَى ... بِهِنَّ وَوَجْهٌ لَمْ تَلُحْهُ السَّمَائِمُ وَقَدْ يُطْلَقُ السَّمُومُ عَلَى الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَرْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: الْيَوْمُ يَوْمٌ بَارِدٌ سَمُومُهُ مَنْ جَزِعَ الْيَوْمَ فَلَا أَلُومُهُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ هِيَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْإِشْفَاقَ الَّذِي هُوَ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ - يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهِ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ. فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ السُّرُورَ فِي الدُّنْيَا وَعَدَمَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ سَبَبُ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ الْآيَةَ [84 \ 10 - 14] . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ أَنَّ «إِنَّ» الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا. وَالْمَسْرُورُ فِي أَهْلِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَيْسَ بِمُشْفِقٍ وَلَا خَائِفٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: ظَنَّ أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ حَيًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ مُشْفِقًا فِي أَهْلِهِ خَوْفًا مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَكَوْنُ «لَنْ يَحُورَ» بِمَعْنَى لَنْ يَرْجِعَ - مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّغْلَبِيِّ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 أَلَيْلَتَنَا بِذِي حَسْمٍ أَنِيرِي ... إِذَا أَنْتِ انْقَضَيْتِ فَلَا تَحُورِي فَقَوْلُهُ: فَلَا تَحُورِي، أَيْ فَلَا تَرْجِعِي. وَقَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيِّ: وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ مَا هُوَ سَاطِعٌ أَيْ يَرْجِعُ رَمَادًا، وَقِيلَ: يَصِيرُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ الْآيَةَ [56 \ 41 - 47] ، لِأَنَّ تَنَعُّمَهُمْ فِي الدُّنْيَا الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: مُتْرَفِينَ، وَإِنْكَارَهُمْ لِلْبَعْثِ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا الْآيَةَ - دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ إِشْفَاقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ عِلَّةُ كَوْنِهِمْ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ «إِنَّ» الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ الْآيَةَ - عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ الْإِشْفَاقَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَنْطُوقُ آيَةِ الطُّورِ هَذِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْمَعَارِجِ: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ الْآيَاتِ [27 \ 35] ، وَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [23 \ 57 - 61] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [56 \ 10 - 12] . وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْوَاقِعَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، أَيْ يُدِيمُونَ وَيَعْزِمُونَ عَلَى الذَّنْبِ الْكَبِيرِ، كَالشِّرْكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحِنْثِ حِنْثُهُمْ فِي الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [16 \ 38] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. نَفَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ ثَلَاثَ صِفَاتٍ قَبِيحَةٍ عَنْ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَاهُ بِهَا الْكُفَّارُ، وَهِيَ الْكِهَانَةُ وَالْجُنُونُ وَالشِّعْرُ، أَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَقَدْ نَفَاهَا صَرِيحًا بِحَرْفِ النَّفْيِ الَّذِي هُوَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: فَمَا أَنْتَ وَأُكِّدَ النَّفْيُ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِكَاهِنٍ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَاعِرًا فَقَدْ نَفَاهُ ضِمْنًا بِأَمِ الْمُنْقَطِعَةِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى النَّفْيِ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ بِنَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَفْيِ الْجُنُونِ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْقَلَمِ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [68 \ 2] ، وَقَوْلِهِ فِي التَّكْوِيرِ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [81 \ 22] ، وَكَقَوْلِهِ فِي نَفْيِ الصِّفَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ أَعْنِي الْكِهَانَةَ وَالشِّعْرَ: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [69 \ 41 - 42] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [52 \ 30] ، أَيْ نَنْتَظِرُ بِهِ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، حَتَّى يَحْدُثَ لَهُ مِنْهَا الْمَوْتُ، فَالْمَنُونُ: الدَّهْرُ، وَرَيْبُهُ: حَوَادِثُهُ الَّتِي يَطْرَأُ فِيهَا الْهَلَاكُ وَالتَّغْيِيرُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَرَيْبِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنُونَ الدَّهْرُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ: تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَنُونُ فِي الْآيَةِ الْمَوْتُ، وَإِطْلَاقُ الْمَنُونِ عَلَى الْمَوْتِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْغَوْلِ الطُّهَوِيِّ: هُمْ مَنَعُوا حِمَى الْوَقْبَى بِضَرْبٍ ... يُؤَلَّفُ بَيْنَ أَشْتَاتِ الْمَنُونِ لِأَنَّ الَّذِينَ مَاتُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْمَاءِ الْمُسَمَّى بِالْوَقْبَى، جَاءُوا مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَمَعَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمْ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، وَلَوْ مَاتُوا فِي بِلَادِهِمْ لَكَانَتْ مَنَايَاهُمْ فِي بِلَادٍ شَتَّى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 23] ، وَفِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [10 \ 3 8] . وَتَحَدَّاهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 13] . وَتَحَدَّاهُمْ فِي سُورَةِ الطُّورِ هَذِهِ بِهِ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ الْآيَةَ. وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الْآيَةَ [17 \ 88] . وَقَدْ أَطْلَقَ - جَلَّ وَعَلَا - اسْمَ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ كَمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا الْآيَةَ [39 \ 23] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الْآيَةَ [12 \ 111] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْآيَاتِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 78] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ الْآيَةَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْآيَاتِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا الْآيَةَ [15 \ 16 - 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [16 \ 57] ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مُتَعَدِّدَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا الْآيَةَ [11 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [6 \ 7] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَيْدَ الْكُفَّارِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [77 \ 38 - 39] . وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [52 \ 42] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا الْآيَةَ [86 \ 15 - 16] ، وَقَوْلِهِ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [7 \ 182 - 183] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ هُوَ مَا عُذِّبُوا بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ. كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ الْآيَةَ [32 \ 21] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [9 \ 14] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَمَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا لَا يَتَّجِهُ عِنْدِي. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النَّجْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا النَّجْمِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ النَّجْمُ إِذَا رُجِمَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَلَفْظَةُ النَّجْمِ عَلَمٌ لِلثُّرَيَّا بِالْغَلَبَةِ، فَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُطْلِقُ لَفْظَ النَّجْمِ مُجَرَّدًا إِلَّا عَلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: أَقُولُ وَالنَّجْمُ قَدْ مَالَتْ أَوَاخِرُهُ ... إِلَى الْمَغِيبِ تَثَبَّتْ نَظْرَةً حَارِ فَقَوْلُهُ: وَالنَّجْمِ: يَعْنِي الثُّرَيَّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا هَوَى: أَيْ سَقَطَ مَعَ الصُّبْحِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: النَّجْمُ الزَّهْرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ وَإِرَادَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [54 \ 45] ، يَعْنِي الْأَدْبَارَ. وَقَوْلُهُ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] ، أَيِ: الْمَلَائِكَةُ، وَقَوْلُهُ: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [25 \ 75] ، أَيِ الْغُرَفَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [22 \ 5] ، وَإِطْلَاقُ النَّجْمِ مُرَادًا بِهِ النُّجُومَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا ... عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ وَقَوْلُ الرَّاعِي: فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ ... سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَمَعْنَى هُوِيِّ النُّجُومِ سُقُوطُهَا إِذَا غَرَبَتْ أَوِ انْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: النَّجْمُ النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْجُمْلَةُ النَّازِلَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْجُمًا مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهُ وَقْتَ نُزُولِهَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا اسْمُ النَّجْمِ صِدْقًا عَرَبِيًّا صَحِيحًا كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا حَانَ وَقْتُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُنَجَّمَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْكِتَابَةِ الْمُنَجَّمَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِذَا هَوَى أَيْ نَزَلَ بِهِ الْمَلَكُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا إِذَا اخْتَرَقَ الْهَوَا نَازِلًا مِنْ أعَلَى إِلَى أَسْفَلَ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ الثُّرَيَّا وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ خُصُوصُهَا، وَإِنِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ - لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّجْمَ يُرَادُ بِهِ النُّجُومُ. وَإِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعُهُ تَعَالَى لِلنُّجُومِ فِي الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [56 \ 75] ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هُنَا كَالْمُرَادِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فِي الْوَاقِعَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْمُرَادِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَسَاقِطُهَا إِذَا غَابَتْ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: انْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنَازِلُهَا فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّ النَّازِلَ فِي مَحِلٍّ وَاقِعٍ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَوَاقِعُ نُجُومِ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِهَا الْمَلَكُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي وَأَقْرَبُهَا لِلصَّوَابِ فِي نَظَرِي - أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فِي الْوَاقِعَةِ هُوَ نُجُومُ الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمَلَكُ نَجْمًا فَنَجْمًا، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى الَّذِي هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَقٍّ وَأَنَّهُ مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى - مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ إِلَى قَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [56 \ 77 - 80] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 وَالْإِقْسَامُ بِالْقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [36 \ 1 - 5] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [43 \ 1 - 4] ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ الْمُعَبَّرِ بِالنُّجُومِ هُوَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ - أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [56 \ 76] ، لَأَنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَقْسَمَ بِهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَنْسَبُ لِذَلِكَ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ وَنَجْمِ الْأَرْضِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الضَّلَالُ يَقَعُ مِنَ الْجَهْلِ بِالْحَقِّ، وَالْغَيُّ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ مَعَ مَعْرِفَتِهِ، أَيْ مَا جَهِلَ الْحَقَّ وَمَا عَدَلَ عَنْهُ، بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالْحَقِّ مُتَّبِعٌ لَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِطْلَاقَاتِ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ بِشَوَاهِدِهَا الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [26 \ 20] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ الْآيَةَ [18 \ 103 - 104] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [27 \ 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [22 \ 67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [43 \ 43] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى اسْتَدَلَّ بِهِ عُلَمَاءُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ، اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ [9 \ 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [8 \ 67] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [9 \ 113] . قَالُوا: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا عَنِ اجْتِهَادٍ، لَمَا قَالَ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ. وَلَمَا قَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَاتِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَّا شَيْئًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ، فَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ شِعْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - هُوَ أَكْذَبُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَكْفَرُهُمْ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَسَرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَاسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. الْمُرَادُ بِشَدِيدِ الْقُوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ هَذَا الْوَحْيَ مَلَكٌ شَدِيدُ الْقُوَى هُوَ جِبْرِيلُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ تَضَمَّنَتْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ الَّذِي مِنْ أَعْظَمِهِ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ جِبْرِيلَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ. وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ كَوْنُ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَحْيِ وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 97] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [26 \ 192 - 194] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [20 \ 114] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [75 \ 16 - 18] ، أَيْ إِذَا قَرَأَهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ الْمُرْسَلُ بِهِ إِلَيْكَ مِنَّا مُبَلِّغًا لَهُ عَنَّا فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أَيِ اقْرَأْ كَمَا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي، وَهُوَ شِدَّةُ قُوَّةِ جِبْرِيلَ النَّازِلِ بِهَذَا الْوَحْيِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [81 \ 19 - 20] وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ التَّكْوِيرِ هَذِهِ: لَقَوْلُ رَسُولٍ أَيْ لِقَوْلِهِ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنِ اللَّهِ، فَقَرِينَةُ ذِكْرِ الرَّسُولِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُبَلِّغُ شَيْئًا أُرْسِلَ بِهِ، فَالْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، وَجِبْرِيلُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ نُسِبَ الْقَوْلُ لَهُ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سَمِعَهُ إِلَّا مِنْهُ، فَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ ذِكْرِ الرَّسُولِ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. قَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ الْآيَةَ [16 \ 57] ، وَفِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى. بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَهُ الْآخِرَةَ وَالْأُولَى وَهِيَ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى [92 \ 12] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [27 \ 91] ، وَهَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ الْآيَةَ [2 \ 48] ،، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [43 \ 19] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [46 \ 3] ، وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] . قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [42 \ 37] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [4 \ 49] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى. قَوْلُهُ: تَوَلَّى: أَيْ رَجَعَ وَأَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ: وَأَعْطَى قَلِيلًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنَ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ، وَقَوْلُهُ: وَأَكْدَى أَيْ قَطَعَ ذَلِكَ الْعَطَاءَ وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَأَصْلُهُ مَنْ أَكْدَى صَاحِبُ الْحَفْرِ إِذَا انْتَهَى فِي حَفْرِهِ إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 صَخْرَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَفْرِ فِيهَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُدْيَةِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ تَعْتَرِضُ حَافِرَ الْبِئْرِ وَنَحْوَهُ فَتَمْنَعُهُ الْحَفْرَ، وَهَذَا الَّذِي أَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَقِيلَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَارَبَ أَنْ يُؤْمِنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَيَّرَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: أَتَرَكْتَ دِينَ الْأَشْيَاخِ وَضَلَّلْتَهُمْ؟ قَالَ: إِنِّي خَشِيتُ عَذَابَ اللَّهِ، فَضَمِنَ لَهُ الَّذِي عَاتَبَهُ إِنْ هُوَ أَعْطَاهُ كَذَا مِنْ مَالِهِ وَرَجَعَ إِلَى شِرْكِهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ، فَرَجَعَ الْوَلِيدُ إِلَى الشِّرْكِ وَأَعْطَى الَّذِي عَيَّرَهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي ضَمِنَ وَمَنَعَهُ تَمَامَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: تَوَلَّى: أَيِ الْوَلِيدُ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ قَارَبَ، وَأَعْطَى قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ لِلَّذِي ضَمِنَ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ ذُنُوبَهُ. وَأَكْدَى: أَيْ بَخِلَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي، وَقِيلَ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنَ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ كَمَدْحِهِ لِلْقُرْآنِ، وَاعْتِرَافِهِ بِصِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وَأَكْدَى» أَيِ انْقَطَعَ عَنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، كَانَ رُبَّمَا وَافَقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى إِعْطَائِهِ الْقَلِيلَ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى إِكْدَائِهِ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَلَمْ يَنْسَجِمْ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ الْآيَةَ [53 \ 35] وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَذَلِكَ مَعْنَى إِعْطَائِهِ قَلِيلًا، وَقَطْعُهُ لِذَلِكَ مَعْرُوفٌ. وَاقْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُعْطِي مَالَهُ فِي الْخَيْرِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَهُوَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ: يُوشِكُ أَلَّا يَبْقَى لَكَ شَيْءٌ. فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ لِي ذُنُوبًا وَخَطَايَا، وَإِنِّي أَطْلُبُ بِمَا أَصْنَعُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَأَرْجُو عَفْوَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَعْطِنِي نَاقَتَكَ بِرَحْلِهَا، وَأَنَا أَتَحَمَّلُ عَنْكَ ذُنُوبَكَ كُلَّهَا، فَأَعْطَاهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَأَمْسَكَ عَنِ الْعَطَاءِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَمَعْنَى «تَوَلَّى» تَرَكَ الْمَرْكَزَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَعَادَ عُثْمَانُ إِلَى أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ وَأَجْمَلَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْقَوْلِ وَبُطْلَانُهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ بِمَنْصِبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ سَبْعَةَ أُمُورٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 الْأَوَّلُ: إِنْكَارُ عِلْمِ الْغَيْبِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالْهَمْزَةِ فِي قَوْلِهِ: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ وَالْمُرَادُ نَفْيُ عِلْمِهِ لِلْغَيْبِ. الثَّانِي: أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى صُحُفًا لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِيهَا هَذَا الْكَافِرُ. الثَّالِثُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَفَّى، أَيْ أَتَمَّ الْقِيَامَ بِالتَّكَالِيفِ الَّتِي كَلَّفَهُ رَبُّهُ بِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ فِي تِلْكَ الصُّحُفِ أَنَّهُ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. الْخَامِسُ: أَنَّ فِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. السَّادِسُ: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. السَّابِعُ: أَنَّهُ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، أَيِ الْأَكْمَلَ الْأَتَمَّ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ السَّبْعَةُ قَدْ جَاءَتْ كُلُّهَا مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا، وَهُوَ عَدَمُ عِلْمِهِمُ الْغَيْبَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [68 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 78] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [3 \ 179] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [72 \ 26] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [27 \ 65] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا. وَالثَّانِي: الَّذِي هُوَ أَنَّ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى صُحُفًا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُتَوَلِّي الْمُعْطِي قَلِيلًا الْمُكْدِي عَالِمًا بِهَا، ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [87 \ 18 - 19] . وَالثَّالِثُ مِنْهَا: وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ وَفَّى تَكَالِيفَهُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [2 \ 124] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا أَنَّهَا التَّكَالِيفُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا: وَهُوَ أَنَّهُ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [29 \ 12] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [35 \ 18] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا، وَالْجَوَابُ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِشْكَالِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [16 \ 25] . وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا الْآيَةَ [17 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [45 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [30 \ 44] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَحِقُّ أَجْرًا إِلَّا عَلَى سَعْيِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ هَذِهِ الْآيَةُ لِانْتِفَاعِهِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى قَدْ دَلَّتِ اللَّامُ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا إِلَّا بِسَعْيِهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ الِانْتِفَاعِ بِمَا لَيْسَ مِلْكًا لَهُ وَلَا مُسْتَحَقًّا لَهُ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْتَفِعُ بِسَعْيِ غَيْرِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [52 \ 21] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ الْآيَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَقُلْنَا فِيهِ مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِ سَعْيِهِ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى نَفْيِ انْتِفَاعِهِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَأَنْ لَنْ يَنْتَفِعَ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِمَا سَعَى، وَإِنَّمَا قَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ سَعْيَ الْغَيْرِ مِلْكٌ لِسَاعِيهِ إِنْ شَاءَ بَذَلَهُ لِغَيْرِهِ فَانْتَفَعَ بِهِ ذَلِكَ الْغَيْرُ، وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ لِنَفْسِهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالْحَجِّ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ الِانْتِفَاعُ بِعَمَلِ الْغَيْرِ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّ إِيمَانَ الذُّرِّيَّةِ هُوَ السَّبَبُ الْأَكْبَرُ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ. فَإِيمَانُ الْعَبْدِ وَطَاعَتُهُ سَعْيٌ مِنْهُ فِي انْتِفَاعِهِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ صَلَاةَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ يَتَضَاعَفُ بِهَا الْأَجْرُ زِيَادَةً عَلَى صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا، وَتِلْكَ الْمُضَاعَفَةُ انْتِفَاعٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ، سَعَى فِيهِ الْمُصَلِّي بِإِيمَانِهِ وَصَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ السَّعْيَ الَّذِي حَصَلَ بِهِ رَفْعُ دَرَجَاتِ الْأَوْلَادِ لَيْسَ لِلْأَوْلَادِ كَمَا هُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَلَكِنَّ مِنْ سَعْيِ الْآبَاءِ فَهُوَ سَعْيٌ لِلْآبَاءِ أَقَرَّ اللَّهُ عُيُونَهُمْ بِسَبَبِهِ، بِأَنْ رَفَعَ إِلَيْهِمْ أَوْلَادَهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا فِي الْجَنَّةِ بِرُؤْيَتِهِمْ. فَالْآيَةُ تُصَدِّقُ الْأُخْرَى وَلَا تُنَافِيهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّفْعِ إِكْرَامُ الْآبَاءِ لَا الْأَوْلَادُ، فَانْتِفَاعُ الْأَوْلَادِ تَبَعٌ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ تَفَضَّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ، كَمَا تَفَضَّلَ بِذَلِكَ عَلَى الْوِلْدَانِ وَالْحُورِ الْعِينِ وَالْخَلْقِ الَّذِينَ يُنْشُؤُهُمْ لِلْجَنَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ مِنْهُ. وَالْأَمْرُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ: وَهُمَا أَنَّ عَمَلَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فَقَدْ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [7 \ 8 - 9] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99 \ 7 - 8] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21 \ 47] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13 - 14] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَهُوَ يَرَى أَيْ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْغَيْبَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يَخْلُو مِنْ إِعْطَاءِ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَةِ تَحَمُّلِ الذُّنُوبِ عَمَّنْ أَعْطَى لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَيَعْلَمُ بِهِ أَنَّ الَّذِي ضَمِنَ لَهُ تَحَمُّلَ ذُنُوبِهِ بِفِعْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، مِنْ أَنَّهُ «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» أَيْ لَا تَتَحَمَّلُ نَفْسٌ ذَنْبَ نَفْسٍ أُخْرَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا سَعْيَ نَفْسِهِ، وَقَدِ اتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِنْسَانٌ ذُنُوبَ غَيْرِهِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: أَفَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ جُمْلَةُ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ أَيِ النَّوْعَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ، وَهِيَ نُطْفَةُ الْمَنِيِّ إِذَا تُمْنَى أَيْ تُصَبُّ وَتُرَاقُ فِي الرَّحِمِ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 58 - 59] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [75 \ 37] . وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَمْنَى الرَّجُلُ وَمَنِيَ؛ إِذَا أَرَاقَ الْمَنِيَّ وَصَبَّهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى أَيْ تُقَدَّرَ بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدَّرَ أَنْ يَنْشَأَ مِنْهَا حَمْلٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَنِيَ الْمَانِي إِذَا قَدَّرَ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ الْهُذَلِيِّ، وَقِيلَ سُوِيدِ بْنِ عَامِرٍ الْمُصْطَلَقِيِّ: لَا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي حِلٍّ وَفِي حَرَمٍ ... إِنَّ الْمَنَايَا تُوَافِي كُلَّ إِنْسَانِ وَاسْلُكْ سَبِيلَكَ فِيهَا غَيْرَ مُحْتَشِمٍ ... حَتَّى تُلَاقِيَ مَا يُمَنِّي لَكَ الْمَانِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى النُّطْفَةِ مُسْتَوْفًى مِنْ جِهَاتٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [16 \ 4] . وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [22 \ 5] ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّوْعَيْنِ، أَعْنِي الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنَ النُّطْفَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ: هُمَا قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ مَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ إِلَّا لِيُكَلِّفَهُ وَيُجَازِيَهُ، وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [57 \ 36 - 40] ، فَذَكَرَ دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَا خَلَقَهُ لِيُهْمِلَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ، مُنْكِرًا عَلَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَيْ مُهْمَلًا مِنَ التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [25 \ 54] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَا أَهْلَكَ بِهِ عَادًا. وَالْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَا أَهْلَكَ بِهِ ثَمُودَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ فِي شَأْنِ عَادٍ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا الْآيَةَ [41 \ 16] . وَقَوْلِهِ فِي شَأْنِ ثَمُودَ: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ الْآيَةَ [41 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى. قَوْلُهُ: وَقَوْمَ نُوحٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى [53 \ 50] ، أَيْ وَأَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ الْآيَةَ [25 \ 37] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [29 \ 14] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [21 \ 77] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [71 \ 25] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [11 \ 37] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ قَوْمِ نُوحٍ أَظْلَمَ وَأَطْغَى، أَيْ أَشَدَّ ظُلْمًا وَطُغْيَانًا مِنْ غَيْرِهِمْ، قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [71 \ 5 - 7] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا إِلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [71 \ 21 - 24] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [71 \ 27] . وَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [11 \ 38] . وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [29 \ 14] ، لِأَنَّ قَوْمًا لَمْ يَتَأَثَّرُوا بِدَعْوَةِ نَبِيٍّ كَرِيمٍ نَاصِحٍ فِي هَذَا الزَّمَنِ الطَّوِيلِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ النَّاسِ وَأَطْغَاهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى. الْمُؤْتَفِكَةُ مُفْتَعِلَةٌ مِنَ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْقَلْبُ وَالصَّرْفُ، وَالْمُرَادُ بِهَا قُرَى قَوْمِ لُوطٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ [9 \ 70] ، بِالْجَمْعِ. فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ وَإِرَادَةِ الْجَمْعِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا: مُؤْتَفِكَةٌ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَفَكَهَا فَائْتُفِكَتْ، وَمَعْنَى أَفَكَهَا أَنَّهُ رَفَعَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ ثُمَّ قَلَبَهَا جَاعِلًا أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا، وَجَعْلُ عَالِيهَا أَسْفَلَهَا هُوَ ائْتِفَاكُهَا وَإِفْكُهَا. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ هُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً الْآيَةَ [11 \ 82] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [15 \ 73 - 74] . وَقَدْ بَيَّنَّا قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ فِي هُودٍ وَالْحِجْرِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَهْوَى تَقُولُ الْعَرَبُ: هَوَى الشَّيْءُ إِذَا انْحَدَرَ مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ. وَأَهْوَاهُ غَيْرُهُ إِذَا أَلْقَاهُ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ، لِأَنَّ الْمَلَكَ رَفَعَ قُرَاهُمْ ثُمَّ أَهْوَاهَا أَيْ أَلْقَاهَا تَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ مُنْقَلِبَةً أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [16 \ 1] ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [40 \ 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ الْآيَةَ [52 \ 34] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الْقَمَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [36 \ 51] ، وَفِي سُورَةِ «ق» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا [50 \ 44] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [25 \ 24] ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} . قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ عَامِرٍ: فَفَتَحْنَا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلتَّكْثِيرِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ نُوحًا دَعَاهُ قَائِلًا: إِنَّ قَوْمَهُ غَلَبُوهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 سَائِلًا رَبَّهُ أَنْ يَنْتَصِرَ لَهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ انْتَصَرَ لَهُ مِنْهُمْ، فَأَهْلَكَهُمْ بِالْغَرَقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى فَتَحَ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ أَيْ مُتَدَفِّقٍ مُنْصَبٍّ بِكَثْرَةٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى فَجَّرَ الْأَرْضَ عُيُونًا. وَقَوْلُهُ: عُيُونًا، تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْمَفْعُولِ، وَالْأَصْلُ فَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ. وَالتَّفْجِيرُ: إِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْهَا بِكَثْرَةٍ، وَ «أَلْ» فِي قَوْلِهِ: فَالْتَقَى الْمَاءُ لِلْجِنْسِ، وَمَعْنَاهُ الْتَقَى مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، أَيْ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْمُتَفَجِّرَ مِنَ الْأَرْضِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ بِمِقْدَارٍ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دُعَاءِ نُوحٍ رَبَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَنْتَصِرَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَجَابَهُ فَانْتَصَرَ لَهُ مِنْهُمْ فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا بِالْغَرَقِ فِي هَذَا الْمَاءِ الْمُتَلَقَّى مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [21 \ 76 - 77] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [37 \ 75 - 82] . وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ دُعَاءَ نُوحٍ فِيهِ سُؤَالُهُ اللَّهَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ إِهْلَاكًا مُسْتَأْصِلًا. وَتِلْكَ الْآيَاتُ فِيهَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ هُنَا: فَانْتَصِرْ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [71 \ 26 - 27] ، وَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ أوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرَ الْقَلِيلِ الَّذِي آمَنَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [11 \ 36] ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [11 \ 40] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عُيُونًا قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذِكْوَانَ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: «عِيُونًا» بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِمُجَانِسَةِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ هُشَامٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ «عُيُونًا» بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا ذَاتَ الْأَلْوَاحِ وَالدُّسُرِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْمُرَادَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى سَفِينَةٍ ذَاتِ أَلْوَاحٍ، أَيْ مِنَ الْخَشَبِ وَدُسُرٍ: أَيْ مَسَامِيرَ تَرْبِطُ بَعْضَ الْخَشَبِ بِبَعْضٍ، وَوَاحِدُ الدُّسُرِ دِسَارٌ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الدُّسُورُ الْخُيُوطُ الَّتِي تُشَدُّ بِهَا أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الدُّسُورُ جُؤْجُؤُ السَّفِينَةِ أَيْ صَدْرُهَا وَمُقَدَّمُهَا الَّذِي تَدْسُرُ بِهِ الْمَاءَ أَيْ تَدْفَعُهُ وَتَمْخُرُهُ بِهِ، قَالُوا: هُوَ مِنَ الدَّسْرِ وَهُوَ الدَّفْعُ. فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْأَلْوَاحِ وَالدُّسُرِ السَّفِينَةُ - قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [69 \ 11] ، أَيِ السَّفِينَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [42 \ 32] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [29 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [36 \ 41] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَرَكْنَاهَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي فَعَلَ بِقَوْمِ نُوحٍ. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ تَرَكْنَا فِعْلَتَنَا بِقَوْمِ نُوحٍ وَإِهْلَاكَنَا لَهُمْ آيَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ، لِيَنْزَجِرُوا وَيَكُفُّوا عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، لِئَلَّا نَفْعَلَ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِقَوْمِ نُوحٍ، وَكَوْنُ هَذِهِ الْفِعْلَةِ آيَةً - نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً [25 \ 37] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 119 - 121] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الضَّمِيرُ فِي تَرَكْنَاهَا عَائِدٌ إِلَى السَّفِينَةِ، وَكَوْنُ سَفِينَةِ نُوحٍ آيَةً بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [29 \ 15] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [36 \ 41 - 42] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَكَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي يَوْمِ النَّحْسِ الْمُسْتَمِرِّ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [41 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [38 \ 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي الْآيَةَ [38 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ. قَوْلُهُ: مُرْسِلُو النَّاقَةِ، أَيْ: مُخْرِجُوهَا مِنَ الْهَضَبَةِ، فِتْنَةً لَهُمْ أَيِ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أجْلِهِ، لِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَى صَالِحٍ إِخْرَاجَ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ، وَأَنَّهَا إِنْ خَرَجَتْ لَهُمْ مِنْهَا آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ، فَأَخْرَجَ اللَّهُ النَّاقَةَ مِنْ تِلْكَ الصَّخْرَةِ مُعْجِزَةً لِصَالِحٍ، وَفِتْنَةً لَهُمْ أَيِ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ مُعْجِزَةٌ عَايَنُوهَا، وَأَنَّ اللَّهَ حَذَّرَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَالِحٍ مِنْ أَنْ يَمَسُّوهَا بِسُوءٍ وَأَنَّهُمْ إِنْ تَعَرَّضُوا لَهَا بِأَذًى أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِهِ. وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنْ أَخْرَجْتَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً وَبْرَاءَ عُشَرَاءَ اتَّبَعْنَاكَ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ لَهُمْ هَذِهِ النَّاقَةَ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا، وَأَنَّهُمْ إِنْ تَعَرَّضُوا لِآيَةِ اللَّهِ هَذِهِ، الَّتِي هِيَ النَّاقَةُ بِسُوءٍ أَهْلَكَهُمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [7 \ 73] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ عَنْ صَالِحٍ: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [11 \ 64 - 65] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [26 \ 155 - 156] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ عَقَرُوا النَّاقَةَ فَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ الْمُسْتَأْصِلُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [7 \ 77 - 78] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ [26 \ 157 - 158] ، وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ الْآيَةَ [91 \ 14] . وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ الْآيَةَ [41 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أَيْ أَخْبِرْ يَا صَالِحُ ثَمُودَ أَنَّ الْمَاءَ وَهُوَ مَاءُ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ - قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، فَيَوْمٌ لِلنَّاقَةِ وَيَوْمٌ لِثَمُودَ، فَقَوْلُهُ: بَيْنَهُمْ: أَيْ بَيْنِ النَّاقَةِ وَثَمُودَ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى النَّاقَةِ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أَيْ يَحْضُرُهُ صَاحِبُهُ، فَتَحْضُرُ النَّاقَةُ شِرْبَ يَوْمِهَا وَتَحْضُرُ ثَمُودُ شِرْبَ يَوْمِهَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [26 \ 155] ، وَشِرْبُ النَّاقَةِ هُوَ الَّذِي حَذَّرَهُمْ مِنْهُ صَالِحٌ لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [91 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ. قَوْلُهُ: فَتَعَاطَى، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: فَتَعَاطَى هُوَ مُطَاوِعُ عَاطَى، وَكَأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 هَذِهِ الْفِعْلَةَ تَدَافَعَهَا النَّاسُ وَعَاطَاهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَتَعَاطَاهَا قَدَارُ وَتَنَاوُلَ الْعَقْرَ بِيَدِهِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَعَاطَى كَذَا إِذَا فَعَلَهُ أَوْ تَنَاوَلَهُ، وَعَاطَاهُ إِذَا تَنَاوَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كِلْتَاهُمَا حَلَبَ الْعَصِيرَ فَعَاطَنِي ... بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمَفْصَلِ وَقَوْلُهُ: فَعَقَرَ أَيْ تَعَاطَى عَقْرَ النَّاقَةِ فَعَقَرَهَا، فَمَفْعُولَا الْفِعْلَيْنِ مَحْذُوفَانِ تَقْدِيرُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَبَّرَ عَنْ عَاقِرِ النَّاقَةِ هُنَا بِأَنَّهُ صَاحِبُهُمْ، وَعَبَّرَ عَنْهُ فِي الشَّمْسِ بِأَنَّهُ أَشْقَاهُمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [91 \ 14] . وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى إِزَالَةِ إِشْكَالٍ مَعْرُوفٍ فِي الْآيَةِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا نَسَبَ الْعَقْرَ لِوَاحِدٍ لَا لِجَمَاعَةٍ، لِأَنَّهُ قَالَ: فَتَعَاطَى فَعَقَرَ بِالْإِفْرَادِ مَعَ أَنَّهُ أَسْنَدَ عَقْرَ النَّاقَةِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى ثَمُودَ كُلِّهِمْ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [7 \ 77] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هُودٍ: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [11 \ 65] ، وَقَوْلِهِ فِي الشُّعَرَاءِ: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ [26 \ 157] ، وَقَوْلِهِ فِي الشَّمْسِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [91 \ 14] . وَوَجْهُ إِشَارَةِ الْآيَةِ إِلَى إِزَالَةِ هَذَا الْإِشْكَالِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمُودَ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ، فَنَادَوْا وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيُنَفِّذَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، أَصَالَةً عَنْ نَفْسِهِ وَنِيَابَةً عَنْ غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَمَالِئِينَ عَلَى الْعَقْرِ كُلُّهُمْ عَاقِرُونَ، وَصَحَّتْ نِسْبَةُ الْعَقْرِ إِلَى الْمُنَفِّذِ الْمُبَاشِرِ لِلْعَقْرِ، وَصَحَّتْ نِسْبَتُهُ أَيْضًا إِلَى الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ تَعَاطِي الْعَقْرِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتَعَاطَى فَعَقَرَ عَلَى نِدَائِهِمْ صَاحِبِهِمْ لِيَنُوبَ عَنْهُمْ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ أَيْ نَادَوْهُ لِيَعْقِرَهَا. وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَجْمُوعِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُهُ - أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَشْهُورٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ أَنَّ مِنْهُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [2 \ 191] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ فِي الْفِعْلَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ وَمَاتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِ قَاتِلِهِ، بَلِ الْمُرَادُ فِي إِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ ابْنِ مُطِيعٍ: فَإِنْ تَقْتُلُونَا عِنْدَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فَإِنَّا عَلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلُ مَنْ قَتَلَ أَيْ فَإِنْ تَقْتُلُوا بَعْضَنَا، وَإِنَّ مِنْهُ أَيْضًا: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [49 \ 14] ، لِأَنَّ هَذَا فِي بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [9 \ 99] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحُجُرَاتِ وَغَيْرِهَا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ... نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَقَرَ: أَيْ قَتَلَهَا، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْعَقْرَ عَلَى الْقَتْلِ وَالنَّحْرِ وَالْجَرْحِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَا مَعًا ... عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَقْرِ عَلَى نَحْرِ الْإِبِلِ لِقِرَى الضَّيْفِ - قَوْلُ جَرِيرٍ: تَعُدُّونَ عَقْرَ الذِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضُوطَرَى لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [41 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ. قَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا: قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [25 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ إِيضَاحًا شَافِيًا بِكَثْرَةٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 وَقَدْ تَضَمَّنَتْ إِيضَاحَ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي السُّورَتَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ جَاءَتْهُمُ النُّذُرُ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ جَاءَهُمُ النُّذُرُ، فَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ قَوْلَهُ: جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ، قِيلَ: هُوَ جَمْعُ نَذِيرٍ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، فَعَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَقَدْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِكَثْرَةٍ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ هُوَ مُوسَى وَهَارُونُ. وَعَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَذِيرٍ أَيْ مُنْذِرٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ إِرْسَالُ مُوسَى وَهَارُونَ لِفِرْعَوْنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي طه فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ [20 \ 47] . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى إِنْذَارَهُمَا لَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [20 \ 48] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ لِفِرْعَوْنَ نَبِيَّيْنِ هُمَا مُوسَى وَهَارُونُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [26 \ 16] ، وَهُنَا جَمَعَ النُّذُرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ، وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ، أَحَدُهَا أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ كَمَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَقَدَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: أَقَلُّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْمُشْتَهِرْ ... لَاثْنَانِ فِي رَأْيِ الْإِمَامِ الْحِمْيَرِيْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [66 \ 4] ، وَلَهُمَا قَلْبَانِ فَقَطْ وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [4 \ 11] ، وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَةِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا كَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ [20 \ 130] ، وَلَهُ طَرَفَانِ. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّذُرِ مُوسَى وَهَارُونُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُمَا عَرَضَا عَلَيْهِمْ مَا أَنْذَرَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ. وَمِنْهَا أَنَّ النُّذُرَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ - أَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ كَذَّبَ نَذِيرًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ النُّذُرِ، لِأَنَّ أَصْلَ دَعْوَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَضْمُونُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [43 \ 45] . وَأَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بَعْضَهُمْ فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [4 \ 150] ،، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [2 \ 285] ، وَقَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [2 \ 136] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ الْآيَةَ [4 \ 152] . وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّ تَكْذِيبَ رَسُولٍ وَاحِدٍ تَكْذِيبٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 105] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا وَقَعَ بِتَكْذِيبِهِمْ نُوحًا وَحْدَهُ، حَيْثُ أَفْرَدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [26 \ 106 - 107] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 123] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ بِتَكْذِيبِ هُودٍ وَحْدَهُ، حَيْثُ أَفْرَدَهُ بِقَوْلِهِ: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ [26 \ 124] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ، وَلُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَشُعَيْبٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهُوَ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» يَعْنِي أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْأُصُولِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [7 \ 132] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [20 \ 56] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى [79 \ 20 - 21] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [27 \ 12 - 14] . وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [51 \ 38 - 40] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [20 \ 78] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 50] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11 \ 102] . وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى الْآيَةَ [11 \ 102] ،» ، وَالْعَزِيزُ الْغَالِبُ، وَالْمُقْتَدِرُ: شَدِيدُ الْقُدْرَةِ عَظِيمُهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا [43 \ 8] ، وَفِي صَدْرِ سُورَةِ الرُّومِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [52 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي بَعْضِ الْمُنَاقَشَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [43 \ 81] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ. الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّاسُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي الزُّبُرِ الَّتِي هِيَ صُحُفُ الْأَعْمَالِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ لَا يُتْرَكُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [18 \ 49] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [3 - 30] . وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ. وَالْمُسْتَطَرُ مَعْنَاهُ الْمَسْطُورُ، أَيِ الْمَكْتُوبُ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. أَيْ فِي جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [2 \ 25] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [47 \ 15] . وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ، وَإِرَادَةِ الْجَمْعِ كَمَا هُنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مَعَ تَنْكِيرِ الْمُفْرَدِ وَتَعْرِيفِهِ، وَإِضَافَتِهِ، وَأَكْثَرْنَا أَيْضًا مِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [22 \ 5] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 بِسْمِ اللَّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الرَّحْمَنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا تَجَاهَلَ الْكُفَّارُ الرَّحْمَنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [25 \ 60] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفُرْقَانِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَأَدِلَّتَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ. أَيْ عَلَّمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فَتَلَقَّتْهُ أُمَّتُهُ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ رَدَّ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [16 \ 10 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [74 \ 24] ، أَيْ يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [25 \ 4 - 5] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ، بَلِ الرَّحْمَنُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [25 \ 6] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [11 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [41 \ 1 - 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 52] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [20 \ 113] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [25 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 17 - 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [42 \ 52] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [12 \ 3] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [4 \ 113] ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [2 \ 185] . وَتَعْلِيمُهُ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، قَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [35 \ 32] . وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [18 \ 1] ، وَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَهُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِخَلْقِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [28 \ 86] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [44 \ 5 - 6] ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَالزُّخْرُفِ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ حَذَفَ فِيهِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، كَمَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ، وَالصَّوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ، مِنْ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الْأَوَّلُ، وَتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: جِبْرِيلَ، وَقِيلَ: الْإِنْسَانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَتَعْلِيمَهُ الْبَيَانَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ النَّحْلِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [16 \ 4] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 وَقَوْلِهِ: فِي آخِرِ «يس» أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [36 \ 77] . فَالْإِنْسَانُ بِالْأَمْسِ نُطْفَةٌ وَالْيَوْمَ هُوَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَشِدَّةِ الْخِصَامِ يُجَادِلُ فِي رَبِّهِ وَيُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ، فَالْمُنَافَاةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي بَيْنَ النُّطْفَةِ وَبَيْنَ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ وَجَعَلَهُ خَصِيمًا مُبِينًا؛ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْبَعْثَ مِنَ الْقُبُورِ حَقٌّ. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَطْوَارَ خَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْفَلَاحِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [23 \ 12 - 14] ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ أَطْوَارَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [22 \ 5] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ مَعْنَى النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ فِي اللُّغَةِ. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ التَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ الْإِفْصَاحُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْبَيَانَ قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [16 \ 4] ، وَ «يس» [36 \ 77] ، وَقَوْلُهُ: مُبِينٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلِ «أَبَانَ» الْمُتَعَدِّيَةِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ مُبِينٌ كُلَّ مَا يُرِيدُ بَيَانَهُ وَإِظْهَارَهُ بِلِسَانِهِ مِمَّا فِي ضَمِيرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَبُّهُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَعَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مَنْ «أَبَانَ» اللَّازِمَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، أَيْ: بَيِّنُ الْخُصُومَةِ ظَاهِرُهَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ مَا كَانَ بَيَّنَ الْخُصُومَةِ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ آلَةَ الْبَيَانِ الَّتِي هِيَ اللِّسَانُ وَالشَّفَتَانِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [90 \ 9] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 قَوْلُهُ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ. الْحُسْبَانُ: مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، كَمَا زِيدَتْ فِي الطُّغْيَانِ وَالرُّجْحَانِ وَالْكُفْرَانِ، فَمَعْنَى بِحُسْبَانٍ أَيْ بِحِسَابٍ وَتَقْدِيرٍ مِنَ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ أَيْضًا عَلَى بَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ وَالْأَيَّامَ، وَيَعْرِفُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِدَدَ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، كَالْيَائِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [10 \ 5] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [17 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّجْمُ هُوَ مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ كَالْبُقُولِ، وَالشَّجَرُ هُوَ مَا لَهُ سَاقٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ هُوَ نُجُومُ السَّمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ الْحَجِّ صَرَّحَ بِسُجُودِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَالشَّجَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ سُجُودَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنَ النَّبَاتِ بِخُصُوصِهِ. وَنَعْنِي بِآيَةِ الْحَجِّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ الْآيَةَ [22 \ 18] . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ السَّاجِدَ مِنَ الشَّجَرِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ هُوَ النُّجُومُ السَّمَاوِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فَالْمُرَادُ بِالنَّجْمِ النُّجُومُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 وَأَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ لِإِطْلَاقِ النَّجْمِ وَإِرَادَةِ النَّجْمِ - قَوْلَ الرَّاعِي: فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ ... سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا وَقَوْلَ عَمْرِو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى ... بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبَ أَتْرَابِ ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا ... عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَا وَالتُّرَابِ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْجُدَانِ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [13 \ 15] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. قَوْلُهُ: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «ق» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا الْآيَةَ [50 \ 6] . وَقَوْلُهُ: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [42 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [6 \ 152] ، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ وَضَعَ الْأَرْضَ لِلْأَنَامِ وَهُوَ الْخَلْقُ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَرْضِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ الْعَظِيمِ، الْقَابِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَحَفْرِ الْآبَارِ وَزَرْعِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَدَفْنِ الْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 وَأَكْبَرِ الْآلَاءِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 13] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ امْتِنَانِهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى خَلْقِهِ بِوَضْعِ الْأَرْضِ لَهُمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَجَعْلِهَا آيَةً لَهُمْ، دَالَّةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ رَبِّهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [13 \ 3] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الْآيَةَ [67 \ 15] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79: 30 - 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [51 \ 48] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا الْآيَةَ [2 \ 22] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا الْآيَةَ [50 \ 7] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [2 \ 29] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِيهَا فَاكِهَةٌ أَيْ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالْآيَاتِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ: وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ذَاتُ أَيْ صَاحِبَةٌ، وَالْأَكْمَامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنَ النَّخْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ إِثْمَارِهَا، شِبْهَ اللِّسَانِ ثُمَّ يَنْفُخُ عَنِ النَّوْرِ، وَقِيلَ: هُوَ لِيفُهَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ شُمُولَهُ لِلْأَمْرَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَالْحَبُّ كَالْقَمْحِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ: ذُو الْعَصْفِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [105 \ 5] ، وَقِيلَ: الْعَصْفُ التِّبْنُ. وَقَوْلُهُ: وَالرَّيْحَانُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ كُلُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 مَا طَابَ رِيحُهُ مِنَ النَّبْتِ وَصَارَ يُشَمُّ لِلتَّمَتُّعِ بِرِيحِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّجْمِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ: فَرَوْحُ الْإِلَهِ وَرَيْحَانُهُ ... وَرَحْمَتُهُ وَسَمَاءٌ دُرَرْ غَمَامٌ يُنَزِّلُ رِزْقَ الْعِبَادِ ... فَأَحْيَا الْبِلَادَ وَطَابَ الشَّجَرْ وَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ الرَّيْحَانِ بِمَعْنَى الرِّزْقِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَأَهَا نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالذَّالِ وَالنُّونِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فَاكِهَةٌ أَيْ: فِيهَا فَاكِهَةٌ، وَفِيهَا الْحَبُّ إِلَخْ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: «وَالْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ» ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالذَّالِ وَالنُّونِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، وَفِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ «ذَا الْعَصْفِ» بِأَلْفٍ بَعْدِ الذَّالِ، مَكَانَ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ: وَخَلَقَ الْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ، وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ - فَالرَّيْحَانُ مُحْتَمِلٌ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِضَمِّ الْبَاءِ فِي «الْحَبُّ» وَضَمِّ الذَّالِ فِي «ذُو الْعَصْفِ» وَكَسْرِ نُونِ الرَّيْحَانِ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ، وَعَلَى هَذَا فَالرَّيْحَانُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَشْمُومَ؛ لِأَنَّ الْحَبَّ الَّذِي هُوَ الْقَمْحُ وَنَحْوُهُ - صَاحِبُ عَصْفٍ وَهُوَ الْوَرَقُ أَوِ التِّبْنُ، وَلَيْسَ صَاحِبَ مَشْمُومٍ طِيبُ رِيحٍ. فَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَصْفِ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ مِنْ وَرَقٍ وَتِبْنٍ. وَالْمُرَادُ بِالرَّيْحَانِ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ [32 \ 27] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ [20 \ 53 - 54] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ الْآيَةَ [16 \ 10 - 11] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِيهَا فَاكِهَةٌ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْفَاكِهَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَاعٌ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 الْفَلَاحِ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [23 \ 19] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [80 \ 31] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْحَبِّ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [50 \ 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [80 \ 27 - 28] ، وَقَوْلهِ تَعَالَى: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [36 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا الْآيَةَ [6 \ 99] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [6 \ 95] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالنَّخْلِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ [50 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ الْآيَةَ [23 \ 19] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالرَّيْحَانِ عَلَى أَنَّهُ الرِّزْقُ كَمَا فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [40 \ 13] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [10 \ 31] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [67 \ 21] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْآيَةَ [40 \ 64] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. مَسْأَلَةٌ: أَخَذَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [2 \ 29]- أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا عَلَى الْأَرْضِ الْإِبَاحَةُ، حَتَّى يَرِدُ دَلِيلٌ خَاصٌّ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى الْأَنَامِ بِأَنَّهُ وَضَعَ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْقُوتِ وَالتَّفَكُّهِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يَمْتَنُّ بِحَرَامٍ إِذْ لَا مِنَّةَ فِي شَيْءٍ مُحَرِّمٍ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ الْآيَةَ [6 \ 145] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ الْآيَةَ [7 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [6 \ 151] . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا عَلَى الْأَرْضِ التَّحْرِيمُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَالْأَصْلُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَفِي هَذَا مُنَاقَشَاتٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، لَيْسَ هَذَا مَحِلَّ بَسْطِهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الْوَقْفُ وَعَدَمُ الْحُكْمِ فِيهَا بِمَنْعٍ وَلَا إِبَاحَةٍ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: الْمَنْعَ، وَالْإِبَاحَةَ، وَالْوَقْفَ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ - بِهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَفْعٌ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ كَأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَغَيْرِهَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَرَرٌ لَا يَشُوبُهُ نَفْعٌ كَأَكْلِ الْأَعْشَابِ السَّامَّةِ الْقَاتِلَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ جِهَةٍ وَضَرَرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَفْعٌ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، فَالتَّحْقِيقُ حَمْلُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ لَا يَشُوبُهُ نَفْعٌ فَهِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ جِهَةٍ وَضَرَرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَلَهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ أَرْجَحَ مِنَ الضَّرَرِ. وَالثَّانِيَةُ: عَكْسُ هَذَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ. فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ أَرْجَحَ مِنَ النَّفْعِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فَالْمَنْعُ لِحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 ضِرَارَ» وَلِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ أَرْجَحَ، فَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَأَلْغِ إِنْ يَكُ الْفَسَادُ أَبْعَدَا أَوْ رَجِّحِ الْإِصْلَاحَ كَالْأُسَارَى ... تُفْدَى بِمَا يَنْفَعُ لِلنَّصَارَى وَانْظُرْ تَدَلِّيَ دَوَلِيِّ الْعِنَبِ ... فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ وَمُرَادُهُ: تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، أَوِ الْبَعِيدَةِ مُمَثِّلًا لَهُ بِمِثَالَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ تَخْلِيصَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِالْفِدَاءِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، الَّتِي هِيَ انْتِفَاعُ الْعَدُوِّ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ لَهُمْ فِدَاءً لِلْأُسَارَى. الثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنَ الْعِنَبِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِزَالَةِ الْعِنَبِ مِنَ الدُّنْيَا لِدَفْعِ ضَرَرِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنْهُ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَرْنَا قَدْ أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَالْحُكْمُ مَا بِهِ يَجِيءُ الشَّرْعُ ... وَأَصْلُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْمَنْعُ تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْإِبَاحَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ حُجَّةٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ تَشْدِيدَهُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 279] ، وَكَانَتْ وَقْتَ نُزُولِهَا عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ مُكْتَسَبَةٌ مِنَ الرِّبَا، اكْتَسَبُوهَا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ - بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الرِّبَا عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، إِذْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 لَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِبَيَانٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [2 \ 275] ، وَقَوْلُهُ: مَا سَلَفَ أَيْ: مَا مَضَى قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [4 \ 22] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [4 \ 23] . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ عَفْوٌ، لِأَنَّهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [9 \ 115] ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ، وَاسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ عَاتَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى الْآيَةَ [9 \ 113]- نَدِمُوا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لَهُمْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ بَيَانِ مَنْعِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ يُعْذَرُ بِهِ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَأَوْضَحْنَا مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. الصَّلْصَالُ: الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي تُسْمَعُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، أَيْ صَوْتٌ إِذَا قُرِعَ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: الصَّلْصَالُ الْمُنْتِنُ، وَالْفَخَّارُ الطِّينُ الْمَطْبُوخُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا طَوْرًا مِنْ أَطْوَارِ التُّرَابِ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ، فَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [30 \ 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [40 \ 67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [20 \ 55] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 وَقَدْ بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ وَقَوْلِهِ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِهِمْ مِنْهَا هُوَ خَلْقُ أَبِيهِمْ آدَمَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَصْلُهُمْ وَهُمْ فُرُوعُهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَجَنَ هَذَا التُّرَابَ بِالْمَاءِ فَصَارَ طِينًا، وَلِذَا قَالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [17 \ 61] ، وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [23 \ 12] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [32 \ 7] ، وَقَالَ: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [37 \ 11] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [38 \ 71] ، ثُمَّ خَمَّرَ هَذَا الطِّينَ فَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، أَيْ طِينًا أَسْوَدَ مُتَغَيِّرَ الرِّيحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الْآيَةَ [15 \ 26] . قَالَ تَعَالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [15 \ 28] ، وَقَالَ عَنْ إِبْلِيسَ: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [15 \ 33] ، وَالْمَسْنُونُ قِيلَ الْمُتَغَيِّرُ، وَقِيلَ الْمُصَوَّرُ، وَقِيلَ الْأَمْلَسُ، ثُمَّ يَبِسَ هَذَا الطِّينُ فَصَارَ صَلْصَالًا. كَمَا قَالَ هُنَا: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَالْآيَاتُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَتَبَيَّنُ فِيهَا أَطْوَارُ ذَلِكَ التُّرَابِ ; كَمَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ: الْجَانَّ أَيْ وَخَلَقَ الْجَانَّ وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ، وَقِيلَ: هُوَ إِبْلِيسُ. وَقِيلَ: هُوَ الْوَاحِدُ مِنَ الْجِنِّ. وَعَلَيْهِ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَالْمَارِجُ: اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نَارٍ بَيَانٌ لِمَارِجٍ، أَيْ مِنْ لَهَبٍ صَافٍ كَائِنٍ مِنَ النَّارِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْجَانَّ مِنَ النَّارِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجْرِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [15 \ 26] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [2 \ 34] . قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [37 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [25 \ 53] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو: «يُخْرَجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَيْهِ فَاللُّؤْلُؤُ نَائِبُ فَاعِلِ «يُخْرَجُ» وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ: يَخْرُجُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَلَيْهِ فَاللُّؤْلُؤُ فَاعِلُ «يَخْرُجُ» . اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ مَجْمُوعِهَا الصَّادِقِ بِالْبَحْرِ الْمِلْحِ، وَإِنَّ الْآيَةَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْمُوعِ وَإِرَادَةِ بَعْضِهِ، وَإِنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ لَا يَخْرُجَانِ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَحْدَهُ دُونَ الْعَذْبِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَجَلَالَتِهِمْ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِنَقِيضِهِ فِي سُورَةَ فَاطِرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَا نَاقَضَ الْقُرْآنَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [35 \ 12] ، فَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ تَنْوِينُ عِوَضٍ أَيْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَذْبِ وَالْمِلْحِ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، وَهِيَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الآية [6 \ 130] ، وَاللُّؤْلُؤُ الدُّرُّ، وَالْمَرْجَانُ الْخَرَزُ الْأَحْمَرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَرْجَانُ صِغَارُ الدُّرِّ وَاللُّؤْلُؤُ كِبَارُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [42 \ 32] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ فَنَاءِ كُلِّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَبَقَاءِ وَجْهِهِ - جَلَّ وَعَلَا - الْمُتَّصِفِ بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [28 \ 88] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [25 \ 58] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [3 \ 185] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْوَجْهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الْعَلِيِّ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ رَبَّنَا وَنُؤْمِنَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] ، وَتَكَلَّمْنَا أَيْضًا هُنَاكَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُفَسِّرُهَا الْجَاهِلُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَعَانِيهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّمَاءَ سَتَنْشَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهَا إِذَا انْشَقَّتْ صَارَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، وَقَوْلُهُ: وَرْدَةً: أَيْ حَمْرَاءَ كَلَوْنِ الْوَرْدِ، وَقَوْلُهُ: كَالدِّهَانِ: فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الدِّهَانَ هُوَ الْجِلْدُ الْأَحْمَرُ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَصِيرُ وَرْدَةً مُتَّصِفَةً بِلَوْنِ الْوَرْدِ مُشَابِهَةً لِلْجِلْدِ الْأَحْمَرِ فِي لَوْنِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 وَالثَّانِي: أَنَّ الدِّهَانَ هُوَ مَا يُدْهَنُ بِهِ، وَعَلَيْهِ، فَالدِّهَانُ، قِيلَ: هُوَ جَمْعُ دُهْنٍ، وَقِيلَ: هُوَ مُفْرَدٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا يُدْهَنُ بِهِ دِهَانًا، وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّهُمَا مَزَادَتَا مُتَعَجِّلٍ ... فَرِيَّانِ لَمَّا تُسْلَقَا بِدِهَانِ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدِّهَانَ هُوَ الْجِلْدُ الْأَحْمَرُ يَكُونُ اللَّهُ وَصَفَ السَّمَاءَ عِنْدَ انْشِقَاقِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحُمْرَةُ فَشَبَّهَهَا بِحُمْرَةِ الْوَرْدِ، وَحُمْرَةِ الْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا يَصِلُ إِلَيْهَا حُرُّ النَّارِ فَتَحْمَرُّ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَصْلُ السَّمَاءِ حَمْرَاءُ إِلَّا أَنَّهَا لِشِدَّةِ بُعْدِهَا وَمَا دُونَهَا مِنَ الْحَوَاجِزِ لَمْ تَصِلِ الْعُيُونُ إِلَى إِدْرَاكِ لَوْنِهَا الْأَحْمَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُرَى عَلَى حَقِيقَةِ لَوْنِهَا. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدِّهَانَ هُوَ مَا يُدْهَنُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ السَّمَاءَ عِنْدَ انْشِقَاقِهَا بِوَصْفَيْنِ أَحَدِهِمَا حُمْرَةِ لَوْنِهَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَذُوبُ وَتَصِيرُ مَائِعَةً كَالدُّهْنِ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ نَعْلَمْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تُبَيِّنُ هَذِهِ الْآيَةَ، بِأَنَّ السَّمَاءَ سَتَحْمَرُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَكُونَ كَلَوْنِ الْجِلْدِ الْأَحْمَرِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَنَّهَا تَذُوبُ وَتَصِيرُ مَائِعَةً، فَقَدْ أَوْضَحَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمَعَارِجِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [70 \ 7 - 8] ، وَالْمُهْلُ شَيْءٌ ذَائِبٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وَهُوَ عَكِرُهُ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ الذَّائِبُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى فِي الْكَهْفِ أَنَّ الْمُهْلَ شَيْءٌ ذَائِبٌ يُشْبِهُ الْمَاءَ، شَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [18 \ 29] . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَرْدَةَ تَشْبِيهٌ بِالْفَرَسِ الْكُمَيْتِ وَهُوَ الْأَحْمَرُ لِأَنَّ حُمْرَتَهُ تَتَلَوَّنُ بِاخْتِلَافِ الْفُصُولِ، فَتَشْتَدُّ حُمْرَتُهَا فِي فَصْلٍ، وَتَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ فِي فَصْلٍ، وَإِلَى الْغَبَرَةِ فِي فَصْلٍ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ كَوْنُ السَّمَاءِ عِنْدَ انْشِقَاقِهَا تَتَلَوَّنُ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَاضِحُ الْبُعْدِ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ وَتَجِيءُ - مَعْنَاهُ لَهُ شَاهِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا الْآيَةَ [52 \ 9] ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ بُعْدٍ. وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [84 \ 1] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ [69 \ 15 - 16] ، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ الْآيَةَ [25 \ 25] ، وَقَوْلِهِ: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «ق» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [50 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَسْأَلُ إِنْسًا وَلَا جَانًّا عَنْ ذَنْبِهِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَصَصِ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [28 \ 78] . وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّهُ يَسْأَلُ جَمِيعَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرُّسُلَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [15 \ 92 - 93] . وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مُبَيِّنَةً لِوَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ يَظُنُّ غَيْرُ الْعَالِمِ أَنَّ بَيْنَهَا اخْتِلَافًا. اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ فِي قَوْلِهِ هُنَا فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [28 \ 78]- أَخَصُّ مِنَ السُّؤَالِ الْمُثْبَتِ فِي قَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ هَذِهِ فِيهَا تَعْمِيمُ السُّؤَالِ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَالْآيَتَانِ قَبْلَهَا لَيْسَ فِيهِمَا نَفْيُ السُّؤَالِ إِلَّا عَنِ الذُّنُوبِ خَاصَّةً، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مَحِلُّ الشَّاهِدِ عِنْدَنَا مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ هُنَا، هُوَ أَنَّ السُّؤَالَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَالثَّانِي هُوَ سُؤَالُ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ. فَالسُّؤَالُ الْمَنْفِيُّ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ هُوَ سُؤَالُ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 بِأَفْعَالِهِمْ مِنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [58 \ 6] . وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِذَنْبِهِ مِنْهُ. وَالسُّؤَالُ الْمُثْبَتُ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى هُوَ سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ ذَنْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَنْبٍ. وَمِثَالُ سُؤَالِهِمْ عَنِ الذُّنُوبِ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [3 \ 106] ، وَمِثَالُهُ عَنْ غَيْرِ ذَنْبٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [37 \ 24 - 26] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا [52 \ 13 - 15] ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [6 \ 130] . أَمَّا سُؤَالُ الْمَوْءُودَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [81 \ 8] ، فَلَا يُعَارِضُ الْآيَاتِ النَّافِيَةَ السُّؤَالَ عَنِ الذَّنْبِ، لِأَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ أَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ ذَنْبِهَا، وَالْمُرَادُ بِسُؤَالِهَا تَوْبِيخُ قَاتِلِهَا وَتَقْرِيعُهُ، لِأَنَّهَا هِيَ تَقُولُ لَا ذَنْبَ لِي فَيَرْجِعُ اللَّوْمُ عَلَى مَنْ قَتَلَهَا ظُلْمًا. وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الرُّسُلِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَوْبِيخُ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَتَقْرِيعُهُ، مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْهُ، وَبَاقِي أَوْجُهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، وَمَوْضُوعُ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَقِيَّتَهَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [7 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ. قَوْلُهُ: بِسِيمَاهُمْ: أَيْ بِعَلَامَتِهِمُ الْمُمَيِّزَةِ لَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا هِيَ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ وَزُرْقَةُ عُيُونِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ الْآيَةَ [3 \ 106] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [39 \ 70] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [10 \ 27] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [80 \ 40 - 42] ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أَيْ يَعْلُوهَا وَيَغْشَاهَا سَوَادٌ كَالدُّخَانِ الْأَسْوَدِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي زُرْقَةِ عُيُونِهِمْ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [20 \ 102] ، وَلَا شَيْءَ أَقْبَحَ وَأَشْوَهَ مِنْ سَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ، وَلِذَا لَمَّا أَرَادَ الشَّاعِرُ أَنْ يُقَبِّحَ عِلَلَ الْبَخِيلِ بِأَسْوَأِ الْأَوْصَافِ وَأَقْبَحِهَا، فَوَصَفَهَا بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ حَيْثُ قَالَ: وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ ... زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ سَوَادِ الْوَجْهِ اغْبِرَارُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُهُ قُبْحًا عَلَى قُبْحٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ وَالْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [52 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [52 \ 14] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ الْآيَةَ [22 \ 19 - 20] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ صَحِيحَانِ كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ مُبَيِّنِينَ أَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ، وَذَكَرْنَا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَقَامَ رَبِّهِ: أَيْ قِيَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، فَالْمَقَامُ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، وَفَاعِلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْعَبْدُ الْخَائِفُ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى الرَّبِّ لِوُقُوعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [79 \ 40] ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى: قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ خَافَ عَاقِبَةَ الذَّنْبِ حِينَ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، فَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَاعِلَ الْمَصْدَرِ الْمِيمِيِّ الَّذِي هُوَ الْمَقَامُ - هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: خَافَ هَذَا الْعَبْدُ قِيَامَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِ وَإِحْصَاءَهَا عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى قِيَامِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَإِحْصَائِهِ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [2 \ 255] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [13 \ 33] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الْآيَةَ [10 \ 61] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْجِنِّ: يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ الْآيَةَ [46 \ 31] أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، وَتَصْرِيحَهُ بِالِامْتِنَانِ بِذَلِكَ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 47] نَصٌّ قُرْآنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْخَائِفِينَ مَقَامَ رَبِّهِمْ مِنَ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ. قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] ، جَمِيعَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنَعُّمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالسُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالْحِلْيَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى ذُكُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] . قَوْلُهُ تَعَالَى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ. قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْقَصْرِ فِي الْخِيَامِ، وَقَصْرِ الطَّرْفِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] ، وَقَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى صِفَاتِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالصَّافَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْوَاقِعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا وَقَعَت ِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ أَنَّ «إِذَا» هُنَا هِيَ الظَّرْفِيَّةُ الْمُضَمَّنَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ الْآتِيَ: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [56 \ 4] ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَأَنَّ جَوَابَ «إِذَا» هُوَ قَوْلُهُ: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَيَّانَ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَسْلُوبَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ هُنَا، وَأَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِـ «اذْكُرْ» مَقَدَّرَةً أَوْ أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِـ «لَيْسَ» الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا. وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ «إِذَا» ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ مَنْصُوبٌ بِجَزَائِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَحَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْعَظِيمَةُ ظَهَرَتْ مَنْزِلَةُ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ أَيْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ، فَالْوَاقِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ كَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْآزِفَةِ وَالْقَارِعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ الْوَاقِعَةَ هِيَ الْقِيَامَةُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [69 \ 13 - 16] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ فِيهِ أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، كُلُّهَا حَقٌّ، وَبَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَاذِبَةٌ مَصْدَرٌ جَاءَ بِصِفَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَالْكَاذِبَةُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ كَالْعَافِيَةِ بِمَعْنَى الْمُعَافَاةِ، وَالْعَاقِبَةِ بِمَعْنَى الْعُقْبَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً [88 \ 11] ، قَالُوا: مَعْنَاهُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَغْوًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى لَيْسَ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ كَذِبٌ وَلَا تَخَلُّفٌ بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَاقِعٌ يَقِينًا لَا مَحَالَةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ: حَمَلَ الْفَارِسُ عَلَى قِرْنِهِ فَمَا كَذَبَ، أَيْ: مَا تَأَخَّرَ وَلَا تَخَلَّفَ وَلَا جَبُنَ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: لَيْثٌ بَعْثَرٌّ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إِذَا ... مَا كَذَبَ اللَّيْثُ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [4 \ 87] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا [22 \ 7] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [3 \ 9] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الشُورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [42 \ 7] . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِوَقْعَتِهَا ظَرْفِيَّةٌ، وَكَاذِبَةٌ اسْمُ فَاعِلِ صِفَةٍ لِمَحْذُوفٍ أَيْ لَيْسَ فِي وَقْعَةِ الْوَاقِعَةِ نَفْسٌ كَاذِبَةٌ بَلْ جَمِيعُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَادِقُونَ بِالِاعْتِرَافِ بِالْقِيَامَةِ مُصَدِّقُونَ بِهَا لَيْسَ فِيهِمْ نَفْسٌ كَاذِبَةٌ بِإِنْكَارِهَا وَلَا مُكَذِّبَةٌ بِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى تَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [26 \ 201] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [22 \ 55] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [27 \ 66] ، وَبَاقِي الْأَوْجُهِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ قُرْآنٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ بُعْدٍ عِنْدِي، وَلِذَا لَمْ أَذْكُرْهُ، وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ. خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ، وَمَفْعُولُ كُلٍّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ مَحْذُوفٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُهُ هِيَ خَافِضَةٌ أَقْوَامًا فِي دَرَكَاتِ النَّارِ، رَافِعَةٌ أَقْوَامًا إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى إِلَى الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [4 \ 145] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [20 \ 75 - 76] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [17 \ 21] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُهُ خَافِضَةٌ أَقْوَامًا كَانُوا مُرْتَفِعِينَ فِي الدُّنْيَا رَافِعَةٌ أَقْوَامًا كَانُوا مُنْخَفَضِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [83 \ 29 - 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُهُ خَافِضَةٌ بَعْضَ الْأَجْرَامِ الَّتِي كَانَتْ مُرْتَفِعَةً كَالنُّجُومِ الَّتِي تَسْقُطُ وَتَتَنَاثَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ خَفْضٌ لَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ [82 \ 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [81 \ 2] . رَافِعَةٌ أَيْ رَافِعَةٌ بَعْضَ الْأَجْرَامِ الَّتِي كَانَتْ مُنْخَفِضَةً كَالْجِبَالِ الَّتِي تُرْفَعُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَسِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [18 \ 47] ، فَقَوْلُهُ: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً، لِأَنَّهَا لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا شَيْءٌ مِنَ الْجِبَالِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [27 \ 88] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهَا تُسَيَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَسَيْرِ السَّحَابِ الَّذِي هُوَ الْمُزْنُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْجِبَالَ تُحْمَلُ هِيَ وَالْأَرْضَ أَيْضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ الْآيَةَ [69 \ 13] . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ شَأْنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ يَخْتَلُّ فِيهِ نِظَامُ الْعَالَمِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَالْمُرَادُ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، لِيَخَافَ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْخَفْضِ فِي الْآخِرَةِ فَيُطِيعُوا اللَّهَ وَيَرْغَبُوا فِي أَسْبَابِ الرَّفْعِ فَيُطِيعُوهُ أَيْضًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الصَّوَابَ فِي مِثْلِ هَذَا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى شُمُولِهَا لِلْجَمِيعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا رُجَّتِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَالرَّجُّ: التَّحْرِيكُ الشَّدِيدُ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُحَرَّكُ تَحْرِيكًا شَدِيدًا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [99 \ 1] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فِي مَعْنَاهُ. لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَوْجُهٌ مُتَقَارِبَةٌ، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَكُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلُّهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا أَوْجُهٌ كُلُّهَا حُقٌّ وَكُلُّهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ جَمِيعَ الْأَوْجُهِ وَأَدِلَّتَهَا الْقُرْآنِيَّةَ. الْوَجْهُ الْأَوْلُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أَيْ فُتِّتَتْ تَفْتِيتًا حَتَّى صَارَتْ كَالْبَسِيسَةِ، وَهِيَ دَقِيقٌ مَلْتُوتٌ بِسَمْنٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لِصٍّ مِنْ غَطَفَانَ أَرَادَ أَنْ يَخْبِزَ دَقِيقًا عِنْدَهُ فَخَافَ أَنْ يَعْجَلَ عَنْهُ، فَأَمَرَ صَاحِبَيْهِ أَنْ يَلُتَّاهُ لِيَأْكُلُوهُ دَقِيقًا مَلْتُوتًا، وَهُوَ الْبَسِيسَةُ: لَا تَخْبِزَا خُبْزًا وَبَسَابِسَا ... وَلَا تُطِيلَا بِمُنَاخٍ حَبْسَا وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [73 \ 14] ، فَقَوْلُهُ: كَثِيبًا مَهِيلًا أَيْ رَمْلًا مُتَهَايِلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الْكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلْ وَمُشَابَهَةُ الدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ بِالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ وَاضِحَةٌ، فَقَوْلُهُ: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا مُطَابِقٌ فِي الْمَعْنَى لِتَفْسِيرِ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا بِأَنَّ بَسَّهَا هُوَ تَفْتِيتُهَا وَطَحْنُهَا كَمَا تَرَى. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَنَّهَا تُسْلَبُ عَنْهَا قُوَّةُ الْحَجَرِيَّةِ وَتَتَّصِفُ بَعْدَ الصَّلَابَةِ وَالْقُوَّةِ بِاللِّينِ الشَّدِيدِ الَّذِي هُوَ كَلِينِ الدَّقِيقِ وَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ. يَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ تَشْبِيهُهَا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ الَّذِي هُوَ الْعِهْنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [101 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [70 \ 8 - 9] ، وَأَصْلُ الْعِهْنِ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الصُّوفِ لِأَنَّهُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ خَاصَّةً. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ: كَأَنَّ فَتَاةَ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبَّ الْفَنَّا لَمْ يُحْطَمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجِبَالُ مِنْهَا جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَمُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، فَإِذَا بُسِّتْ وَفُتِّتَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَطُيِّرَتْ فِي الْجَوِّ أَشْبَهَتِ الْعِهْنَ إِذَا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ فِي الْهَوَا، وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ كَيْنُونَتِهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا لِأَنَّ الْهَبَاءَ هُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْكُوَّةِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا قَابَلَتْهَا: مُنْبَثًّا أَيْ مُتَفَرِّقًا، وَوَصْفُهَا بِالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ أَنْسَبُ لِكَوْنِ الْبَسِّ بِمَعْنَى التَّفْتِيتِ وَالطَّحْنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أَيْ سُيِّرَتْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِبَسِّهَا سَوْقُهَا وَتَسْيِيرُهَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: بَسَسْتُ الْإِبِلَ أَبُسُّهَا، بِضَمِّ الْبَاءِ وَأَبْسَسْتُهَا أَبُسُّهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، لُغَتَانِ بِمَعْنَى سُقْتُهَا، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «يَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ يَبُسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» . وَهَذَا الْوَجْهُ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ الْآيَةَ [18 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [52 \ 10] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [27 \ 88] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا نُزِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَقُلِعَتْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ رَاجِعٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْإِيضَاحِ التَّامِّ لِأَحْوَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَطْوَارِهَا، بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ «طه» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [20 \ 105] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] ، وَالْهَبَاءُ إِذَا انْبَثَّ أَيْ تَفَرَّقَ وَاضْمَحَلَّ وَصَارَ لَا شَيْءَ، وَالسَّرَابُ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 أَيْ صِرْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ كَانَ بِمَعْنَى صَارَ، وَمِنْهُ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [2 \ 35] ، أَيْ فَتَصِيرَا مِنَ الظَّالِمِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا وَقَوْلُهُ: أَزْوَاجًا: أَيْ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّلَاثَةَ بِقَوْلِهِ: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [56 \ 8 - 12] ، أَمَّا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [56 \ 27 - 28] ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ الْآيَاتِ [56 \ 41 - 42] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيلَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ لِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِمْ آدَمَ، كَمَا رَآهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَقِيلَ: سُمُّوا أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَأَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ لِأَنَّهُمْ مَيَامِينُ، أَيْ مُبَارَكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَالْيُمْنُ الْبَرَكَةُ. وَسُمِّيَ الْآخَرُونَ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الشِّمَالَ شُؤْمًا، كَمَا تُسَمِّي الْيَمِينَ يُمْنًا، وَمِنْ هُنَا قِيلَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَشَائِيمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: فَعَصَوُا اللَّهَ فَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ، وَالْمَشَائِيمُ ضِدُّ الْمَيَامِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلَا نَاعِبٍ إِلَّا بِبَيْنٍ غُرَابُهَا وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ السَّابِقِينَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [56 \ 10 - 11] ، وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ وَجَزَاؤُهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَتْ هِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 وَجَزَاؤُهَا أَيْضًا فِي آخِرِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [56 \ 88 - 94] . وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ. وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْضَ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَشْأَمَةِ فِي الْبَلَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [90 \ 18 - 20] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَقَوْلُهُ: مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، اسْتِفْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ شَأْنِ هَؤُلَاءِ فِي السَّعَادَةِ، وَشَأْنِ هَؤُلَاءِ فِي الشَّقَاوَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَهُ، وَهُوَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فِي الْأَوَّلِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ فِي الثَّانِي. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [69 \ 1 - 2] ، الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ [101 \ 1 - 2] ، وَالرَّابِطُ فِي جُمْلَةِ الْخَبَرِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمُبْتَدَأِ فِي جُمْلَةِ الْخَبَرِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اسْتِفْهَامُ تَعْجَبٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُقَابَلِهِ تَكْرِيرَ لَفْظِ السَّابِقِينَ. وَالْأَظْهَرُ فِي إِعْرَابِهِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَكْرِيرِهِمُ اللَّفْظَ وَقَصْدِهِمُ الْإِخْبَارَ بِالثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ خَبَرُهُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي ... لِلَّهِ دَرِّي مَا أَجَنَّ صَدْرِي فَقَوْلُهُ: وَشِعْرِي شِعْرِي، يَعْنِي: شِعْرِي هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ خَبَرُهُ، وَانْتَهَى إِلَيْكَ وَصْفُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ. وَقَوْلُهُ: ثُلَّةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ هُمْ ثُلَّةٌ، وَالثُّلَّةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 وَأَصْلُهَا الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ وَهِيَ الثَّلُّ، وَهُوَ الْكَسْرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثُّلَّةُ مِنَ الثَّلِّ، وَهُوَ الْكَسْرُ، كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ مِنَ الْأَمِّ وَهُوَ الشَّبَحُ، كَأَنَّهَا جَمَاعَةٌ كُسِّرَتْ مِنَ النَّاسِ، وَقُطِّعَتْ مِنْهُمْ. اهـ. مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الثُّلَّةَ تَشْمَلُ الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَجَاءَتْ إِلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدَفِيَّةٌ ... بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ مُزْبِدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: تَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ: يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ هَذَا الْجَيْشِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالثُّلَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الثُّلَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْقَلِيلُ مِنَ الْآخِرِينَ الْمَذْكُورِينَ هُنَا، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الثُّلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [56 \ 39 - 40] ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ مِنْهُمُ الصَّحَابَةُ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ مَعَهُمُ الْقُرُونَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» الْحَدِيثَ، وَالَّذِينَ قَالُوا: هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالُوا: إِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَهُمْ مَنْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَالْمُرَادُ بِالْآخِرِينَ فِيهِمَا هُوَ هَذِهِ الْأُمَّةُ. قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْآخِرِينَ فِيهِمَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي السَّابِقِينَ خَاصَّةً، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ خَاصَّةً. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، الَّتِي هِيَ شُمُولُ الْآيَاتِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَكَوْنُ قَلِيلٍ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ السَّابِقِينَ، وَكَوْنُ ثُلَّةٍ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ وَاضِحٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ. أَمَّا شُمُولُ الْآيَاتِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ السُّورَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ إِلَى قَوْلِهِ: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَخُصُّ أُمَّةً دُونَ أُمَّةٍ، وَأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 الْجَمِيعَ مُسْتَوُونَ فِي الْأَهْوَالِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً [56 \ 7] عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَظَهَرَ أَنَّ السَّابِقِينَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَكْثَرُ مِنَ السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ عَبَّرَ فِي السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَعَبَّرَ عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. وَلَا غَرَابَةَ فِي هَذَا، لِأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهَا أَنْبِيَاءُ كَثِيرَةٌ وَرُسُلٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْ سَابِقِيهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحْدَهَا. أَمَّا أَصْحَابُ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، لِأَنَّ الثُّلَّةَ تَتَنَاوَلُ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ الْكَثِيرَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، مَعَ أَنَّهُمَا كِلَيْهِمَا كَثِيرٌ. وَلِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ - لَا يُنَافِي مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَأَمَّا كَونُ قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ دَلَّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ فِي خُصُوصِ السَّابِقِينَ، فَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [56 \ 10 - 12] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ. وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِ: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [56 \ 36 - 40] ، وَالْمَعْنَى هُمْ - أَيْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ - ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 السُّرُرُ جَمْعُ سَرِيرٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ سُرُرَهُمْ مَرْفُوعَةٌ فِي قَوْلِهِ فِي الْغَاشِيَةِ: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [18 \ 13] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَوْضُونَةٍ مَنْسُوجَةٍ بِالذَّهَبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ مُشَبَّكَةٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَكُلُّ نَسْجٍ أُحْكِمَ وَدَخَلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ وَضَنًا، وَتُسَمِّي الْمَنْسُوجَ بِهِ مَوْضُونًا وَوَضِينًا، وَمِنْهُ الدِّرْعُ الْمَوْضُونَةُ إِذَا أُحْكِمَ نَسْجُهَا وَدَخَلَ بَعْضُ حَلْقَاتِهَا فِي بَعْضٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ ... تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عِيرًا فَعِيرَا وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَبَيْضَاءَ كَالنِّهْيِ مَوْضُونَةٍ ... لَهَا قَوْنَسٌ فَوْقَ جَيْبِ الْبُدُنِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ الْبِطَانِ الَّذِي يُنْسَجُ مِنَ السُّيُورِ، مَعَ إِدْخَالِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ - وَضِينًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا وَهَذِهِ السُّرُرُ الْمُزَيَّنَةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَرَائِكِ فِي قَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ [18 \ 31] ، وَقَوْلِهِ: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [36 \ 56] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُتَّكِئِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى سُرُرٍ وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَقَرُّوا عَلَى سُرُرٍ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ، أَيْ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، كُلُّهُمْ يُقَابِلُ الْآخَرَ بِوَجْهِهِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجْرِ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [15 \ 47] وَقَوْلِهِ فِي الصَّافَّاتِ: أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [37 \ 41 - 44] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [52 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ [52 \ 23] ، وَفِي الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [5 \ 90] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [56 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ الْآيَةَ [2 \ 25] ، وَفِي الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [19 \ 62] ، وَتَكَلَّمْنَا هُنَاكَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَذَكَرْنَا شَوَاهِدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِهِ شَرْعًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [4 \ 57] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [47 \ 15] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [15 \ 45] ، وَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ الْآيَةَ [7 \ 50] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمَسْكُوبُ اسْمُ مَفْعُولٍ، سَكَبَ الْمَاءَ وَنَحْوَهُ إِذَا صَبَّهُ بِكَثْرَةٍ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، وَأَنَّ الْمَاءَ يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا كَيْفَ شَاءُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [76 \ 6] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ: فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [52 \ 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. الضَّمِيرُ فِي أَنْشَأْنَاهُنَّ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَذْكُورٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَذْكُورٍ، قَالَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرُشِ النِّسَاءُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَرْأَةَ لِبَاسًا وَإِزَارًا وَفِرَاشًا وَنَعْلًا. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: مَرْفُوعَةٍ رَفْعُ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ. وَمِنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى نِسَاءٍ لَمْ يُذْكَرْنَ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْفُرُشِ دَلَّ عَلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُنَّ يَتَّكِئْنَ عَلَيْهَا مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِهِنَّ الْحُورُ الْعِينُ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ هُوَ الِاخْتِرَاعُ وَالِابْتِدَاعُ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِنَّ بَنَاتُ آدَمَ الَّتِي كُنَّ فِي الدُّنْيَا عَجَائِزَ شُمْطًا رُمْصًا، وَجَاءَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَعْنَى أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً أَيْ خَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا جَدِيدًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَيْ فَصَيَّرْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، وَهُوَ جَمْعُ بِكْرٍ، وَهُوَ ضِدُّ الثَّيِّبِ. وَقَوْلُهُ: عُرُبًا قَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ عُرُبًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَشُعْبَةُ «عُرْبًا» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ جَمْعُ عَرُوبٍ، وَهِيَ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا الْحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: وَفِي الْخِبَاءِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا الرَّوَادِفِ يَعْشَى دُونَهَا الْبَصَرُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَتْرَابًا جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَالتِّرْبُ اللِّدَةُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تِرْبَ الْإِنْسَانِ مَا وُلِدَ مَعَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ شَابَّةٌ وَعَجُوزٌ، وَلَكِنَّهُنَّ كُلَّهُنَّ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الشَّبَابِ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّهُنَّ يَنْشَأْنَ مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ عَلَى قَدْرِ بَنَاتِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنُ الْأَتْرَابِ بِمَعْنَى الْمُسْتَوِيَاتِ فِي السِّنِّ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى ... بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبَ أَتْرَابِ وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِفَاتِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ. أَمَّا كَوْنُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبْكَارًا، فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [55 \ 56، 74] ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ نَصٌّ فِي عَدَمِ زَوَالِ بَكَارَتِهِنَّ، وَأَمَّا كَوْنُهُنَّ عُرُبًا أَيْ مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الصَّافَّاتِ: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ قَاصِرَاتُ الْعُيُونِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِنَّ لَهُمْ وَاقْتِنَاعِهِنَّ بِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا مُتَحَبِّبَةٌ إِلَيْهِ حَسَنَةُ التَّبَعُّلِ مَعَهُ. وَقَوْلُهُ فِي «ص» : وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [38 \ 52] ، وَقَوْلُهُ فِي الرَّحْمَنِ: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [55 \ 56] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 وَأَمَّا كَوْنُهُنَّ أَتْرَابًا فَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ «ص» هَذِهِ: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ، وَفِي سُورَةِ النَّبَأِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [78 \ 31 - 33] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَيْ: أَنْشَأْنَاهُنَّ وَصَيَّرْنَاهُنَّ أَبْكَارًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْضَحْنَا مَعْنَى السَّمُومِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [52 \ 27] . وَقَدْ قَدَّمْنَا صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ النَّارِ وَظِلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [4 \ 57] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ النَّارِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [56 \ 43 - 44] ، وَقَوْلِهِ فِي الْمُرْسَلَاتِ: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [77: 30 - 31] . وَقَوْلُهُ: مِنْ يَحْمُومٍ أَيْ مِنْ دُخَانٍ أَسْوَدَ شَدِيدِ السَّوَادِ، وَوَزْنُ الْيَحْمُومِ يَفْعُولُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ، وَقِيلَ: مِنَ الْحَمِّ، وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُسْوَدُّ لِاحْتِرَاقِهِ بِالنَّارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا الْآيَةَ [52 \ 26 - 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. لَمَّا ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَعَدَّ لِأَصْحَابِ الشِّمَالِ مِنَ الْعَذَابِ؛ بَيَّنَ بَعْضَ أَسْبَابِهِ، فَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُتْرَفِينَ أَيْ مُتَنَعِّمِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِتْرَافَ وَالتَّنَعُّمَ وَالسُّرُورَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أسْبَابِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُعْرِضٌ عَنِ اللَّهِ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا بِرُسُلِهِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [84 \ 11 - 13] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الطُّورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ؛ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [13 \ 5] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] . وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ بَعَثَ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ فِي قَوْلِهِ: أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [56 \ 48] ، وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [56 \ 49 - 50]- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَّا فِيهِ أَنَّ الْبَعْثَ الَّذِي أَنْكَرُوا سَيَتَحَقَّقُ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ: وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ [37 \ 15 - 19] . وَقَوْلُهُ: أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ وَقَالُونَ عَنْ نَافِعٍ: أَوَآبَاؤُنَا بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَالْعَطْفِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَهَا أَدَاةُ عَطْفٍ كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ، نَحْوَ: أَوَآبَاؤُنَا أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى [7 \ 97] ، أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ [10 \ 51]- أَنَّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ لِعُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُفَسِّرِينَ: الْأَوَّلَ مِنْهُمَا أَنَّ أَدَاةَ الْعَطْفِ عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُتَأَخِّرَةٌ رُتْبَةً عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَكِنَّهَا قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لَفْظًا لَا مَعْنًى لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّصْدِيرُ بِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحِلِّهِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا بَعْثَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ الَّتِي هِيَ الْهَمْزَةُ، وَعَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْوَاوِ إِنْكَارَهُمْ بَعْثَ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ الَّتِي هِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 الْهَمْزَةُ الْمُقَدَّمَةُ عَنْ مَحِلِّهَا لَفْظًا لَا رُتْبَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الْأَقْدَمِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ، وَهُوَ الَّذِي صِرْنَا نَمِيلُ إِلَيْهِ أَخِيرًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ مِنْ كَشَّافِهِ، وَرُبَّمَا مَالَ إِلَى غَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالتَّقْدِيرُ: أَمَبْعُوثُونَ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: «آبَاؤُنَا» مَعْطُوفٌ عَلَى وَاوِ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: لَمَبْعُوثُونَ، وَأَنَّهُ سَاغَ الْعَطْفُ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلٍ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ لِأَجْلِ الْفَصْلِ بِالْهَمْزَةِ - لَا يَصِحُّ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ وَابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ فِي قَوْلِهِ: وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ وَعَطْفُكَ الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ يَصِحْ وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ قَالُونُ وَابْنُ عَامِرٍ «أَوْ آبَاؤُنَا» بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي عَلَى قِرَاءَتِهِمَا «أَوْ» بِمَعْنَى الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: «آبَاؤُنَا» ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَنْصُوبِ الَّذِي هُوَ اسْمُ «إِنَّ» ، لِأَنَّ عَطْفَ الْمَرْفُوعِ عَلَى مَنْصُوبِ «إِنَّ» بَعْدَ ذِكْرِ خَبَرِهَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ، لِأَنَّ اسْمَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فَأَصْلُهُ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ فِي الْأَصْلِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْصُوبِ إِنَّ بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ «أَوْ» بِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّ إِتْيَانَهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [775 - 6 \] ; لِأَنَّ الذِّكْرَ الْمُلْقَى لِلْعُذْرِ، وَالنُّذْرِ مَعًا لَا لِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا أَتَتْ لِلذِّكْرِ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] ، أَيْ وَلَا كَفُورًا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: قَوْمٌ إِذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 فَالْمَعْنَى مَا بَيْنَ الْمُلْجِمِ مُهْرِهِ وَسَافِعٍ: أَيْ آخِذٍ بِنَاصِيَتِهِ لِيُلْجِمَهُ، وَقَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: قَالَتْ أَلَا لَيْتَ مَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفُهُ فَقَدِ فَحَسَبُوهُ فَأَلْفَوْهُ كَمَا زَعَمَتْ ... سِتًّا وَسِتِّينَ لَمْ تَنْقُصْ وَلَمْ تَزِدِ فَقَوْلُهُ: أَوْ نِصْفُهُ بِمَعْنَى وَنِصْفُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مَعْنَى الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، لِأَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهَا تَمَنَّتْ أَنْ يَكُونَ الْحَمَامُ الْمَارُّ بِهَا هُوَ وَنِصْفُهُ مَعَهُ لَهَا مَعَ حَمَامَتِهَا الَّتِي مَعَهَا، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ مِائَةَ حَمَامَةٍ، فَوَجَدُوهُ سِتًّا وَسِتِّينَ، وَنِصْفُهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ، وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْتَ الْحَمَامَ لِيَّهْ ... إِلَى حَمَامَتِيَّهْ وَنِصْفُهُ قَدِيَّهْ ... تَمَّ الْحَمَامُ مِايَّهْ وَقَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ: قَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَجْمَعَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى إِثَبَاتِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَئِذَا مِتْنَا وَأَثْبَتَهَا أَيْضًا عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: «إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» ، بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، كَمَا عَقَدَهُ صَاحِبُ الدُّرَرِ اللَّوَامِعِ فِي أَصْلِ مَقْرَأِ الْإِمَامِ نَافِعٍ بِقَوْلِهِ: فَصْلٌ وَاسْتِفْهَامٌ إِنْ تَكَرَّرَا ... فَصَيِّرِ الثَّانِيَ مِنْهُ خَبَرَا وَاعْكِسْهُ فِي النَّمْلِ وَفَوْقَ الرُّومِ ... . . . . . . . . . . . . إِلَخْ وَالْقِرَاءَاتُ فِي الْهَمْزَتَيْنِ فِي أَئِذَا وَأَئِنَّا مَعْرُوفَةٌ، فَنَافِعٌ يُسَهِّلُ الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ بَيْنَ بَيْنَ، وَرِوَايَةُ قَالُونَ عَنْهُ هِيَ إِدْخَالُ أَلْفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى الْمُحَقَّقَةِ وَالثَّانِيَةِ الْمُسَهَّلَةِ. وَرِوَايَةُ قَالُونَ هَذِهِ عَنْ نَافِعٍ بِالتَّسْهِيلِ وَالْإِدْخَالِ مُطَابِقَةٌ لِقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، فَأَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ يُسَهِّلَانِ وَيُدْخِلَانِ، وَرِوَايَةُ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ هِيَ تَسْهِيلُ الْأَخِيرَةِ مِنْهُمَا بَيْنَ بَيْنَ مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ أَلِفٍ. وَهَذِهِ هِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَوَرْشٍ، فَابْنُ كَثِيرٍ وَوَرْشٌ يُسَهِّلَانِ وَلَا يُدْخِلَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 وَقَرَأَ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا أَلِفُ الْإِدْخَالِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلْفِ الْإِدْخَالِ، هَذِهِ هِيَ الْقِرَاءَاتُ الصَّحِيحَةُ فِي مِثْلِ أَئِذَا وَأَئِنَّا وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ مَا جَرَى فِي الْأَقْطَارِ الْإِفْرِيقِيَّةِ مِنْ إِبْدَالِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْهَمْزَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ هَاءً خَالِصَةً مِنْ أَشْنَعِ الْمُنْكَرِ وَأَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَلَا يُعْذَرُ فِيهِ إِلَّا الْجَاهِلُ الَّذِي لَا يَدْرِي، الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْهَاءِ الْخَالِصَةِ صَحِيحَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ إِبْدَالَ الْهَمْزَةِ فِيمَا ذُكِرَ هَاءً خَالِصَةً لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ بِهِ جِبْرِيلُ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَالتَّجَرُّؤُ عَلَى اللَّهِ بِزِيَادَةِ حَرْفٍ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ هَذِهِ الْهَاءُ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ بِهَا الْمَلَكُ مِنَ السَّمَاءِ الْبَتَّةَ، هُوَ كَمَا تَرَى. وَكَوْنُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ سُمِعَ فِيهَا إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ هَاءً لَا يُسَوِّغُ التَّجَرُّؤَ عَلَى اللَّهِ بِإِدْخَالِ حَرْفٍ فِي كِتَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ بِإِدْخَالِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ. وَدَعْوَى أَنَّ الْعَمَلَ جَرَى بِالْقِرَاءَةِ بِالْهَاءِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ جَرَيَانَ الْعَمَلِ بِالْبَاطِلِ بَاطِلٌ، وَلَا أُسْوَةَ فِي الْبَاطِلِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا الْأُسْوَةُ فِي الْحَقِّ، وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِتْنَا، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «مُتْنَا» بِضَمِّ الْمِيمِ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مِتْنَا بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مُسَوِّغَ كَسْرِ الْمِيمِ لُغَةً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا [19 \ 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. لَمَّا أَنْكَرَ الْكُفَّارُ بَعْثَهُمْ وَآبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 يُخْبِرَهُمْ خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ كُلَّهُمْ مَجْمُوعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ بَعْثِهِمْ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ بَعْثِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَجَمْعِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [64 \ 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [4 \ 87] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [3 \ 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [11 \ 103] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [77 \ 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [18 \ 47] . وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [15 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا وَتَفْسِيرَهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [37 \ 67] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ. النُّزُلُ بِضَمَّتَيْنِ: هُوَ رِزْقُ الضَّيْفِ الَّذِي يُقَدَّمُ لَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ إِكْرَامًا لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [18 \ 107] ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ النُّزُولَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاحْتِقَارِ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِاسْتِعْمَالِ النُّزُولِ فِيمَا يُقَدَّمُ لِأَهْلِ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ هُنَا فِي عَذَابِهِمُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِمْ: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ إِلَى قَوْلِهِ: شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ [56 \ 52 - 56] ، أَيْ هَذَا الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ هُوَ ضِيَافَتُهُمْ وَرِزْقُهُمُ الْمُقَدَّمُ لَهُمْ عِنْدَ نُزُولِهِمْ فِي دَارِهِمُ الَّتِي هِيَ النَّارُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْكَافِرِ الْحَقِيرِ الذَّلِيلِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [44 \ 49] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِطْلَاقِ النُّزُولِ عَلَى عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ، جَاءَ مُوَضَّحًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [56 \ 93 - 94] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْكَهْفِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [18 \ 102] ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَبِي السَّعْدِ الضَّبِّيِّ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا وَقَوْلُهُ: يَوْمَ الدِّينِ، أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ. لَمَّا أَنْكَرَ الْكُفَّارُ بَعْثَهُمْ وَآبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَاعِثٌ جَمِيعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَذَكَرَ جَزَاءَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِأَكْلِ الزَّقُّومِ وَشُرْبِ الْحَمِيمِ - أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ فَقَالَ: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ هَذَا الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ، أَيْ: فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ الَّذِي هُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي، لِأَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَصْعَبَ مِنَ ابْتِدَائِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَهَذَا الْبُرْهَانُ عَلَى الْبَعْثِ بِدَلَالَةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [17 \ 51] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِإِيضَاحٍ وَكَثْرَةٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَالْحَجِّ وَالْجَاثِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا كَثِيرًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ «لَوْلَا» حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَثِّ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ وَحَضِّهِ لَهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْبَعْثِ لِظُهُورِ بُرْهَانِهِ الْقَاطِعِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ لَهُمْ أَوَّلًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَتْبُوعَةِ بِأَدَاةِ عَطْفٍ، وَذَكَرْنَاهُ قَبْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 هَذَا مِرَارًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ يَعْنِي أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَصُبُّونَهُ مِنَ الْمَنِيِّ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَلَفْظَةُ «مَا» مَوْصُولَةٌ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَالْعَائِدُ إِلَى الصِّفَةِ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَمْنَى النُّطْفَةَ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ، يُمْنِيهَا بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، إِذَا أَرَاقَهَا فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [53 \ 46] ، وَمَنَى يَمْنَى بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِهَا شَاذَّةٌ. وَمِمَّنْ قَرَأَ «تَمْنُونَ» بِفَتْحِ التَّاءِ مُضَارِعٌ فِي الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ - أَبُو السَّمَّالِ وَابْنُ السِّمَيْقَعِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: أَنْتُمُ الْخَالِقُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا كُنَّا خَلَقْنَا هَذَا الْإِنْسَانَ الْخَصِيمَ الْمُبِينَ مِنْ تِلْكَ النُّطْفَةِ الَّتِي تُمْنَى فِي الرَّحِمِ، فَكَيْفَ تُكَذِّبُونَ بِقُدْرَتِنَا عَلَى خَلْقِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِعَادَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَصْعَبَ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي «تَخْلُقُونَهُ» عَائِدٌ إِلَى الْمَوْصُولِ أَيْ تَخْلُقُونَ مَا تُمْنُونَهُ مِنَ النُّطَفِ عَلَقًا، ثُمَّ مُضَغًا إِلَى آخِرِ أَطْوَارِهِ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، بِبَيَانِ أَطْوَارِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَبَيَّنَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [22 \ 5] . وَذَكَرْنَا أَطْوَارَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [55 \ 3 - 4] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَطْوَارِ خَلْقِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فِي الْحَجِّ. تَنْبِيهٌ: هَذَا الْبُرْهَانُ الدَّالُّ عَلَى الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةِ مَنِيٍّ تُمْنَى - يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ النَّظَرُ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - وَجَّهَ صِفَةَ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَنِيِّ الْإِنْسَانِ، وَالْأَصْلُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ عَلَى التَّحْقِيقِ الْوُجُوبُ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ الْآيَةَ [86 \ 5 - 6] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 شَرْحَهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ أَفَرَأَيْتُمْ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الرَّاءِ بَيْنَ بَيْنَ. وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي بِهَا الْأَدَاءُ عَنْ وَرْشٍ عَنْهُ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ أَلِفًا وَإِشْبَاعُهَا لِسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَهَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: «أَفَرَيْتُمْ» بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ. وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي بِهَا الْأَدَاءُ عَنْ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ أَلِفًا مُشْبَعًا مَدُّهَا لِسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَقَالُونَ، وَأَبُو عَمْرٍو وَهُشَامٌ بِأَلْفِ الْإِدْخَالِ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِدُونِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ قَدَّرْنَا بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَخْفِيفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ صَحِيحًا، وَكُلُّهُ يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدَّرْنَا [56 \ 60] وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَفِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ [56 \ 61] وَجْهَانِ أَيْضًا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ قَوْلَهُ: قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أَيْ قَدَّرْنَا لِمَوْتِكُمْ آجَالًا مُخْتَلِفَةً وَأَعْمَارًا مُتَفَاوِتَةً فَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا وَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ شَابًّا، وَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ شَيْخًا. وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [22 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [40 \ 67] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [63 \ 11] ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [56 \ 6] ، أَيْ مَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَبَقَهُ عَلَى كَذَا أَيْ غَلَبَهُ عَلَيْهِ وَأَعْجَزَهُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، أَيْ: وَمَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَلَى مَا قَدَّرْنَا مِنْ آجَالِكُمْ وَحَدَّدْنَاهُ مِنْ أَعْمَارِكُمْ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقَدِّمَ أَجَلًا أَخَّرْنَاهُ وَلَا يُؤَخِّرَ أَجَلًا قَدَّمْنَاهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [7 \ 34] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ [71 \ 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [3 \ 145] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ [56 \ 61] ، لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِـ «مَسْبُوقِينَ» بَلْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [56 \ 60] ، وَالْمَعْنَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ، أَيْ نُبَدِّلَ مِنَ الَّذِينَ مَاتُوا أَمْثَالًا لَهُمْ نُوجِدُهُمْ. وَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى تَبْدِيلِ أَمْثَالِهِمْ - إِيجَادُ آخَرِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ مَاتُوا، وَهَذَا الْمَعْنَى تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [6 \ 133] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقِرَاءَةُ «قَدَّرْنَا» بِالتَّشْدِيدِ مُنَاسِبَةٌ لِهَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ لَفْظَةُ «بَيْنَكُمُ» . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «قَدَّرْنَا» بِمَعْنَى قَضَيْنَا وَكَتَبْنَا أَيْ كَتَبْنَا الْمَوْتَ وَقَدَّرْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهَذَا الْوَجْهُ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [28 \ 88] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [21 \ 35] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [25 \ 58] ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ [56 \ 61] ، مُتَعَلِّقٌ بِـ «مَسْبُوقِينَ» ، أَيْ: مَا نَحْنُ مَغْلُوبِينَ، وَالْمَعْنَى: وَمَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ إِنْ أَهْلَكْنَاكُمْ لَوْ شِئْنَا، فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ، وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَغْلِبُنَا وَيَمْنَعُنَا مِنْ خَلْقِ أَمْثَالِكُمْ بَدَلًا مِنْكُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [4 \ 133] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ [6 \ 133] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [14 \ 19 - 20] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [47 \ 38] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الْآيَةَ [4 \ 133] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [56 \ 61] ، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: «نُنْشِئَكُمْ» بَعْدَ إِهْلَاكِكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنَ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ، كَأَنْ نُنْشِئَكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا فَعَلْنَا بِبَعْضِ الْمُجْرِمِينَ قَبْلَكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «نُنْشِئَكُمْ» فِيمَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، فَنُغَيِّرَ صِفَاتِكُمْ وَنُجَمِّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ، وَنُقَبِّحَ الْكَافِرِينَ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بُرْهَانًا قَاطِعًا ثَانِيًا عَلَى الْبَعْثِ وَامْتِنَانًا عَظِيمًا عَلَى الْخَلْقِ بِخَلْقِ أَرْزَاقِهِمْ لَهُمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [56 \ 63] ، يَعْنِي أَفَرَأَيْتُمُ الْبَذْرَ الَّذِي تَجْعَلُونَهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ حَرْثِهَا أَيْ تَحْرِيكِهَا وَتَسْوِيَتِهَا أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَيْ تَجْعَلُونَهُ زَرْعًا، ثُمَّ تُنَمُّونَهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُدْرَكًا صَالِحًا لِلْأَكْلِ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ هُوَ أَنْ يُقَالَ: أَنْتَ يَا رَبَّنَا هُوَ الزَّارِعُ الْمُنْبِتُ، وَنَحْنُ لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُمْ: كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَنْبَتَ هَذَا السُّنْبُلَ مِنْ هَذَا الْبَذْرِ الَّذِي تَعَفَّنَ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ. وَكَوْنُ إِنْبَاتِ النَّبَاتِ بَعْدَ عَدَمِهِ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41 \ 39] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [30 \ 50] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 \ 57] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مُسْتَوْفَاةً مَعَ سَائِرِ آيَاتِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَالْجَاثِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا. تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي هَذَا الْبُرْهَانِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - وَجَّهَ فِي كِتَابِهِ صِيغَةَ أَمْرٍ صَرِيحَةٍ عَامَّةٍ فِي كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْبُرْهَانِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِامْتِنَانِ لَأَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَى الْخَلْقِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ، وَشَدَّةِ حَاجَةِ خَلْقِهِ إِلَيْهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 24 - 32] . وَالْمَعْنَى: انْظُرْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الضَّعِيفُ إِلَى طَعَامِكَ كَالْخُبْزِ الَّذِي تَأْكُلُهُ وَلَا غِنَى لَكَ عَنْهُ، مَنْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَاءَ الَّذِي صَارَ سَبَبًا لِإِنْبَاتِهِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِ الْمَاءِ؟ أَيْ إِبْرَازِهِ مِنْ أَصْلِ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْهَائِلِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُسْقِي بِهِ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ نَزَلَ فِي الْأَرْضِ، مَنْ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى شَقِّ الْأَرْضِ عَنْ مَسَارِ الزَّرْعِ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الزَّرْعَ طَلَعَ، فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِ السُّنْبُلِ مِنْهُ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنْهُ، فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِنْبَاتِ الْحَبِّ فِيهِ وَتَنْمِيَتِهِ حَتَّى يُدْرَكَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ؟ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [6 \ 99] ، وَالْمَعْنَى: انْظُرُوا إِلَى الثَّمَرِ وَقْتَ طُلُوعِهِ ضَعِيفًا لَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ، وَانْظُرُوا إِلَى يَنْعِهِ، أَيِ انْظُرُوا إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَارَ يَانِعًا مُدْرَكًا صَالِحًا لِلْأَكْلِ، تَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي رَبَّاهُ وَنَمَّاهُ حَتَّى صَارَ كَمَا تَرَوْنَهُ وَقْتَ يَنْعِهِ - قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، مُنْعِمٌ عَلَيْكُمْ عَظِيمُ الْإِنْعَامِ ; وَلِذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [6 \ 99] ، فَاللَّازِمُ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ وَيَنْظُرَ فِي طَعَامِهِ وَيَتَدَبَّرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ [80 \ 25] أَيْ عَنِ النَّبَاتِ شَقًّا إِلَى آخِرِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [56 \ 65] ، يَعْنِي لَوْ نَشَاءُ تَحْطِيمَ ذَلِكَ الزَّرْعِ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا، أَيْ فُتَاتًا وَهَشِيمًا، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ رَحْمَةً بِكُمْ. وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لِلِاكْتِفَاءِ عَنْهُ بِجَزَاءِ الشَّرْطِ، وَتَقْدِيرُهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [56 \ 65] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْنَى فَظَلْتُمْ تَعْجَبُونَ مِنْ تَحْطِيمِ زَرْعِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَفَكَّهُونَ بِمَعْنَى تَنْدَمُونَ عَلَى مَا خَسِرْتُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا [18 \ 42] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَنْدَمُونَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِتَحْطِيمِ زَرْعِكُمْ. وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي سَبَبِ النَّدَمِ هُوَ الْأَظْهَرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ. تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ امْتِنَانًا عَظِيمًا عَلَى خَلْقِهِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُونَهُ، وَذَلِكَ أَيْضًا آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَشِدَّةِ حَاجَةِ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِينَ تَشْرَبُونَ، الَّذِي لَا غِنَى لَكُمْ عَنْهُ لَحْظَةً، وَلَوْ أَعْدَمْنَاهُ لَهَلَكْتُمْ جَمِيعًا فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69] . وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ - هُوَ أَنْتَ يَا رَبَّنَا، هُوَ مُنْزِلُهُ مِنَ الْمُزْنِ، وَنَحْنُ لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا كُنْتُمْ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى فَلِمَ تَكْفُرُونَ بِهِ وَتَشْرَبُونَ مَاءَهُ وَتَأْكُلُونَ رِزْقَهُ وَتَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْمَاءِ وَأَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَطَاعَتُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ هَذَا الْمَاءِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 70]- جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [15 \ 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [16 \ 10] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [25 \ 48 - 49] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [77 \ 27] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [56 \ 70] ، أَيْ لَوْ نَشَاءُ جَعْلَهُ أُجَاجًا لَفَعَلْنَا، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا سَائِغًا شَرَابُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَنَّ الْمَاءَ الْأُجَاجَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْمُلُوحَةِ وَالْمَرَارَةِ الشَّدِيدَتَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْمَاءَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلشَّرَابِ - جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [67: 30] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [23 \ 18] ، لِأَنَّ الذَّهَابَ بِالْمَاءِ وَجَعْلَهُ غَوْرًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَجَعْلَهُ أُجَاجًا، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ بِجَامِعِ عَدَمِ تَأَتِّي شُرْبِ الْمَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقِهِمْ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ [56 \ 69] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَاءِ السَّاكِنِ فِي الْأَرْضِ النَّابِعِ مِنَ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَنَّ أَصْلَهُ كُلَّهُ نَازِلٌ مِنَ الْمُزْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ وَخَزَنَهُ فِيهَا لِخَلْقِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [23 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [39 \ 21] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ الْآيَةَ [15 \ 22] ، وَفِي سُورَةِ «سَبَأٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْآيَةَ [34 \ 2] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 70] ، فَلَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا، وَهِيَ حِرَفُ تَحْضِيضٍ، وَهُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ شُكْرُ هَذَا الْمُنْعِمِ الْعَظِيمِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّكْرَ يُطْلَقُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمِنَ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ. فَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَنْحَصِرُ مَعْنَاهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ جَمِيعَ نِعَمِهِ فِيمَا يُرْضِيهِ تَعَالَى. فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْعَيْنِ أَلَّا يَنْظُرَ بِهَا إِلَّا مَا يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ. وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ أَوَامِرَ رَبِّهِ وَيَكُونَ مَعَ ذَلِكَ شَاكِرَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 70] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [2 \ 152] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا شُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ فَهُوَ أَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [2 \ 158] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [35 \ 34] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. تَنْبِيهٌ لُغَوِيٌّ اعْلَمْ أَنَّ مَادَّةَ الشُّكْرِ تَتَعَدَّى إِلَى النِّعْمَةِ تَارَةً، وَإِلَى الْمُنْعِمِ أُخْرَى، فَإِنْ عُدِّيَتْ إِلَى النِّعْمَةِ تَعَدَّتْ إِلَيْهَا بِنَفْسِهَا دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [27 \ 19] ، وَإِنْ عُدِّيَتْ إِلَى الْمُنْعِمِ تَعَدَّتْ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ اللَّامُ كَقَوْلِكَ: نَحْمَدُ اللَّهَ وَنَشْكُرُ لَهُ، وَلَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ مُعَدَّاةً إِلَّا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [2 \ 152] ، وَقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [31 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [16 \ 114] ، وَقَوْلِهِ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [29 \ 17] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى، وَتَعْدِيَتُهَا لِلْمَفْعُولِ بِدُونِ اللَّامِ لُغَةٌ لَا لَحْنٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي نُخَيْلَةَ: شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلُ مَنِ اتَّقَى ... وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي وَقَوْلُ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ: خَلِيلَيَّ عُوجَا الْيَوْمَ حَتَّى تُسَلِّمَا ... عَلَى عَذْبَةِ الْأَنْيَابِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُمَا لِيَ سَاعَةً ... شَكَرْتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي قَبْرِي وَهَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اقْتِرَانَ جَوَابِ «لَوْ» بِاللَّامِ، وَعَدَمَ اقْتِرَانِهِ بِهَا كِلَاهُمَا سَائِغٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [56 \ 65] ، بِاللَّامِ ثُمَّ قَالَ: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [56 \ 70] ، بِدُونِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّتِي تُورُونَ [56 \ 71] ، أَيْ تُوقِدُونَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَوْرَى النَّارَ إِذَا قَدَحَهَا وَأَوْقَدَهَا، وَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُوقِدُونَهَا مِنَ الشَّجَرِ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا الَّتِي تُوقَدُ مِنْهَا، أَيْ أَوْجَدْتُمُوهَا مِنَ الْعَدَمِ؟ وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: أَنْتَ يَا رَبَّنَا هُوَ الَّذِي أَنْشَأْتَ شَجَرَتَهَا، وَنَحْنُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 لَا قُدْرَةَ لَنَا بِذَلِكَ فَيُقَالُ: كَيْفَ تُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ أَنْشَأَ شَجَرَةَ النَّارِ وَأَخْرَجَهَا مِنْهَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ خَلْقِ النَّارِ مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي «يس» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [36 \ 79 - 80] . فَقَوْلُهُ فِي آخِرِ «يس» : تُوقِدُونَ [36 \ 80] هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْوَاقِعَةِ: تُورُونَ [56 \ 71] . وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «يس» : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا [36 \ 80] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَ النَّارِ مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ. وَقَوْلُهُ هُنَا أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا [56 \ 72] ، أَيِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تُوقَدُ مِنْهَا كَالْمَرْخِ وَالْعَفَارِ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَنْجِدِ الْمَرْخَ وَالْعَفَارَ، لِأَنَّ الْمَرْخَ وَالْعَفَارَ هُمَا أَكْثَرُ الشَّجَرِ نَصِيبًا فِي اسْتِخْرَاجِ النَّارِ مِنْهُمَا، يَأْخُذُونَ قَضِيبًا مِنَ الْمَرْخِ وَيُحْكِمُونَ بِهِ عُودًا مِنَ الْعَفَارِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا النَّارُ، وَيُقَالُ: كُلُّ شَجَرٍ فِيهِ نَارٌ إِلَّا الْعُنَّابَ. وَقَوْلُهُ: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [56 \ 73] أَيْ نُذَكِّرُ النَّاسَ بِهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا إِذَا أَحَسُّوا شِدَّةَ حَرَارَتِهَا - نَارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْهَا حَرًّا لِيَنْزَجِرُوا عَنِ الْأَعْمَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِدُخُولِ النَّارِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ حَرَارَةَ نَارِ الْآخِرَةِ مُضَاعَفَةٌ عَلَى حَرَارَةِ نَارِ الدُّنْيَا سَبْعِينَ مَرَّةً، فَهِيَ تَفُوقُهَا بِتِسْعٍ وَسِتِّينَ ضِعْفًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُ حَرَارَةِ نَارِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [56 \ 73] ، أَيْ مَنْفَعَةً لِلنَّازِلِينَ بِالْقِوَاءِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْخَلَاءُ وَالْفَلَاةُ الَّتِي لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ، وَهُمُ الْمُسَافِرُونَ، لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِالنَّارِ انْتِفَاعًا عَظِيمًا فِي الِاسْتِدْفَاءِ بِهَا وَالِاسْتِضَاءَةِ وَإِصْلَاحِ الزَّادِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ - كَوْنَ اللَّفْظِ وَارِدًا لِلِامْتِنَانِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَفْهُومًا لِلْمُقْوِينَ، لِأَنَّهُ جِيءَ بِهِ لِلِامْتِنَانِ أَيْ وَهِيَ مَتَاعٌ أَيْضًا لِغَيْرِ الْمُقْوِينَ مِنَ الْحَاضِرِينَ بِالْعُمْرَانِ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَلَا مِنَ النَّاسِ يُقَالُ لَهُ أَقْوَى، فَالرِّجَالُ إِذَا كَانَ فِي الْخَلَا قِيلَ لَهُ: أَقْوَى. وَالدَّارُ إِذَا خَلَتْ مِنْ أهْلِهَا قِيلَ لَهَا أَقْوَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ وَقِيلَ لِلْمُقْوِينَ: أَيْ لِلْجَائِعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَكَّدَ إِخْبَارَهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ يُسَبِّحَ بِاسْمِ رَبِّهِ الْعَظِيمِ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَاقَّةِ فِي قَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ لِلْقُرْآنِ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [69 - 52] ، وَالْحَقُّ هُوَ الْيَقِينُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، وَذَكَرْنَا كَثْرَةَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ [12 \ 109] ، وَ «لَدَارُ» هِيَ الْآخِرَةُ، وَقَوْلُهُ: وَمَكْرَ السَّيِّئِ [35 \ 43] ، وَالْمَكْرُ هُوَ السَّيِّئُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 43] . وَقَوْلُهُ: مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [50 \ 16] ، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقَوْلُهُ: شَهْرُ رَمَضَانَ [2 \ 185] ، وَالشَّهْرُ هُوَ رَمَضَانُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَبِكْرِ الْمُقَانَاةِ الْبِيَاضَ بِصُفْرَةٍ ... غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ وَالْبِكْرُ هِيَ الْمُقَانَاةُ. وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَمِشَكِّ سَابِغَةٍ هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ... بِالسَّيْفِ عَنْ حَامِي الْحَقِيقَةِ مُعْلِمِ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِشَكِّ هُنَا الدِّرْعُ نَفْسُهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَتَكْتُ فُرُوجَهَا، يَعْنِي الدِّرْعَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِشَكِّ لُغَةً السَّيْرَ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الدِّرْعُ، لِأَنَّ السَّيْرَ لَا تُمْكِنُ إِرَادَتُهُ فِي بَيْتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 عَنْتَرَةَ هَذَا خِلَافًا لِمَا ظَنَّهُ صَاحِبُ تَاجِ الْعَرُوسِ، بَلْ مُرَادُ عَنْتَرَةَ بِالْمِشَكِّ الدِّرْعُ، وَأَضَافَهُ إِلَى السَّابِغَةِ الَّتِي هِيَ الدِّرْعُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْعَلَمِ، وَعَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُونَا مُفْرَدَيْنِ فَأَضِفْ ... حَتْمًا وَإِلَّا أَتْبِعِ الَّذِي رُدِفَ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ ... مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ إِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ كَافٍ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ مَعَ كَثْرَةِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْعَرَبِيَّةِ. وَيَدُلُّ لَهُ تَصْرِيحُهُمْ بِلُزُومِ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى اللَّقَبِ إِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ نَحْوَ سَعِيدِ كُرْزٍ، لِأَنَّ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّازِمَ كَمَا تَرَى، فَكَوْنُهُ أُسْلُوبًا أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [56 \ 96] ، التَّسْبِيحُ: أَصْلُهُ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَتَسْبِيحُ اللَّهِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَذَلِكَ التَّنْزِيهُ وَاجِبٌ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِاسْمِ رَبِّكَ [56 \ 96] دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ الْآيَةَ [19 \ 25] أَدِلَّةً كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ عَلَى دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [19 \ 25] ، وَالْمَعْنَى: وَهُزِّي جِذْعَ النَّخْلَةِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [22 \ 25] ، أَيْ إِلْحَادًا إِلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْعَظِيمِ كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْأَعْلَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [87 \ 1] . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُسَمَّى، أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ وَلَا يَلْزَمُ فِي نَظَرِي أَنَّ الِاسْمَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى هُنَا لِإِمْكَانِ كَوْنِ الْمُرَادِ نَفْسَ الِاسْمِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَلْحَدَ فِيهَا قَوْمٌ وَنَزَّهَهَا آخَرُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ، وَوَصَفَهَا اللَّهُ بِأَنَّهَا بَالِغَةٌ غَايَةَ الْحُسْنِ، وَفِي ذَلِكَ أَكْمَلُ تَنْزِيهٍ لَهَا لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [7 \ 180] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [17 \ 110] . وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، هَلِ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ لَا؟ لِأَنَّ مُرَادَنَا هُنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْحَدِيدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، مِنْ قَوْلِهِمْ سَبَحَ إِذَا صَارَ بَعِيدًا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ: سَابِحٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَرَى يَبْعُدُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: إِذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ سَابِحٍ ... نَهْدٍ تَعَاوَرُهُ الْكُمَاةُ مُكَلَّمِ وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ: لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ حَوْلَهُمُ ... وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْفِكَرُ وَهَذَا الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ «سَبَّحَ» قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدُونِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [33 \ 42] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [76 \ 26] ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ هُنَا: سَبَّحَ لِلَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَسَبَّحَهُ وَسَبَّحَ لَهُ لُغَتَانِ كَنَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ. وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ أَيِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ، وَقِيلَ: سَبَّحَ لِلَّهِ أَيْ صَلَّى لَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ لِلَّهِ، أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ - بَيَّنَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [59 \ 1] ، وَقَوْلِهِ فِي الصَّفِّ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [61 \ 1] ، وَقَوْلِهِ فِي الْجُمُعَةِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْآيَةَ [62 \ 1] ، وَقَوْلِهِ فِي التَّغَابُنِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْآيَةَ [64 \ 1] . وَزَادَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ يُسَبِّحْنَ لِلَّهِ مَعَ مَا فِيهِمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 مِنَ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَسْبِيحَ السَّمَاوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَفْقَهُهُ أَيْ لَا نَفْهَمُهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [17 \ 44] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورَ فِيهَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [21 \ 79] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ هُوَ دَلَالَةُ إِيجَادِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا يَفْهَمُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ، كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْآيَةَ [13 \ 15] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الْآيَةَ [18 \ 77] ، وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [23 \ 72] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى هُنَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيدِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: سَبَّحَ لِلَّهِ الْآيَةَ [57 \ 1] ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحَشْرِ، وَالصَّفِّ، وَعَبَّرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ، وَغَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي تَارَةً وَبِالْمُضَارِعِ أُخْرَى لِيُبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ شَأْنُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، وَدَأْبُهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [57 \ 1] ، قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [63 \ 8] ، وَقَوْلُهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، أَيْ: غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ، وَمِنْ أمْثَالِ الْعَرَبِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، يَعْنُونَ: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا وَالْحَكِيمُ: هُوَ مَنْ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيُوقِعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا. وَقَوْلُهُ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [57 \ 1] ، غُلِّبَ فِيهِ غَيْرُ الْعَاقِلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُغَلِّبُ غَيْرَ الْعَاقِلِ، فِي نَحْوِ: «مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» لِكَثْرَتِهِ، وَتَارَةً يُغَلِّبُ الْعَاقِلَ لِأَهَمِّيَّتِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الْمِثَالُ لِلْأَمْرَيْنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ الْآيَةَ [2 \ 116] ، فَغَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَغَلَّبَ الْعَاقِلَ فِي قَوْلِهِ: قَانِتُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. قَوْلُهُ: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [57 \ 4] ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ الْآيَاتِ [9 \ 12] ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ الْآيَةَ [7 \ 54] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [57 \ 4] ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ [7 \ 54] ، وَذَكَرْنَا طَرَفًا صَالِحًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ الْآيَةَ [34 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، مَعَ بَيَانِ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الْآيَةَ [16 \ 128] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، أَيْ وَاضِحَاتٍ. وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، مِنَ الظُّلُمَاتِ: أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْآيَتَانِ [65 \ 10 - 11] ، وَآيَةُ الطَّلَاقِ هَذِهِ بَيَّنَتْ أَنَّ آيَةَ الْحَدِيدِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيدِ: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [57 \ 9] ، أَيْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ الْآيَةَ [65 \ 11] . فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْخُرُوجِ بِنُورِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ عَامَّةٌ، وَلَكِنَّ التَّوْفِيقَ إِلَى الْخُرُوجِ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ خَاصٌّ بِمَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورَةُ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [10 \ 25] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ نُورًا يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [4 \ 174] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [5 \ 15 - 16] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [64 \ 8] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [7 \ 157] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [42 \ 52] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا الْآيَةَ [19 \ 40] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَأَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [57 \ 12] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا ذَكَرْنَا - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، أَمَّا سَعْيُ نُورِهِمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، فَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَزَادَ فِيهَا بَيَانَ دُعَائِهِمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا الْآيَةَ [66 \ 8] . وَأَمَّا تَبْشِيرُهُمْ بِالْجَنَّاتِ فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَبَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُبَشِّرُهُمْ وَأَنَّ رَبَّهُمْ أَيْضًا يُبَشِّرُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [9 \ 21 - 22] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ إِلَى قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [41: 30 - 32] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي «يُنَادُونَهُمْ» رَاجِعٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ إِذَا رَأَوْا نُورَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، قَالُوا لَهُمُ: انْظُرُوا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، وَقِيلَ لَهُمْ جَوَابًا لِذَلِكَ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 نُورًا، وَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِالسُّورِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمْ يُنَادُونَ الْمُؤْمِنِينَ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، كُنَّا نَشْهَدُ مَعَكُمُ الصَّلَوَاتِ وَنَسِيرُ مَعَكُمْ فِي الْغَزَوَاتِ وَنَدِينُ بِدِينِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، أَيْ كُنْتُمْ مَعَنَا فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا مَعَانِيَ الْفِتْنَةِ وَإِطْلَاقَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ مَعَانِي إِطْلَاقَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ الضَّلَالَ كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَيْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: أَيْ أَضْلَلْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ بَاطِنٌ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [8 \ 39] ، أَيْ لَا يَبْقَى شِرْكٌ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَقَوْلُهُ: وَتَرَبَّصْتُمْ [57 \ 14] ، التَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا تَرَبُّصُ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ أَيِ انْتِظَارُهُمْ بِهِمْ نَوَائِبَ الدَّهْرِ أَنْ تُهْلِكَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ [9 \ 101] ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [9 \ 98] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَارْتَبْتُمْ أَيْ شَكَكْتُمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَشَكُّهُمُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَكُفْرُهُمْ بِسَبَبِهِ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [9 \ 45] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ [57 \ 14] ، الْأَمَانِيُّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ مَا يُمَنُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْبَاطِلِ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي نِفَاقِهِمْ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا سُفَهَاءُ فِي صِدْقِهِمْ، أَيْ فِي إِيمَانِهِمْ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ الْآيَةَ [2 \ 11 - 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ الْآيَةَ [2 \ 13] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْأَمَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْغُرُورِ الَّذِي اغْتَرُّوا بِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [4 \ 123 - 124] . وَقَوْلُهُ: حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ [57 \ 14] ، الْأَظْهَرُ أَنَّهُ الْمَوْتُ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ الْعَمَلُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [57 \ 14] ، هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 الشَّيْطَانُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي هِيَ الْمَفْعُولُ لِكَثْرَةِ غُرُورِهِ لِبَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [17 \ 64] . وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ الْكَثِيرَ الْغُرُورِ غَرَّهُمْ بِاللَّهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ لُقْمَانَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [35 \ 5] ، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ فَاطِرٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [35 \ 5 - 6] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ لُقْمَانَ وَآيَةِ فَاطِرٍ الْمَذْكُورَتَيْنِ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [10 \ 55] وَتَرْتِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَغُرَّهُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يَغُرُّهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالْبَعْثِ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَالْغُرُورُ بِالضَّمِّ الْخَدِيعَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ الْآيَةَ [3 \ 91] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فِي الْقُرْآنِ مَجْزُومٌ بِـ «لَمْ» إِذَا تَقَدَّمَتْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا هُنَا - فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ. الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: هُوَ أَنْ تُقْلَبَ مُضَارَعَتُهُ مَاضَوِيَّةً، وَنَفْيُهُ إِثْبَاتًا، فَيَكُونَ بِمَعْنَى الْمَاضِي الْمُثْبَتِ، لِأَنَّ «لَمْ» حَرْفٌ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارِيَّةٌ، فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ الْكَامِنُ فِيهَا عَلَى النَّفْيِ الصَّرِيحِ فِي «لَمْ» فَيَنْفِيهِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَرْجِعَ الْمَعْنَى إِلَى الْمَاضِي الْمُثْبَتِ. وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ» أَيْ: آنَ لِلَّذِينِ آمَنُوا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِلتَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 يَقِرَّ فَيَقُولَ: بَلَى. وَقَوْلُهُ: «يَأْنِ» : هُوَ مُضَارِعُ «أَنَى يَأْنَى» إِذَا جَاءَ إِنَّاهُ أَيْ وَقْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلِقَدْ أَنَى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعًا أَوْ تَسْتَفِيقَ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ فَقَوْلُهُ: أَنَى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعًا، أَيْ جَاءَ الْإِنَاهُ الَّذِي هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَتَنَاهَى فِيهِ طَائِعًا، أَيْ حَضَرَ وَقْتُ تَنَاهِيكَ، وَيُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: آنَ يَئِينُ كَبَاعَ يَبِيعُ، وَأَنَى يَأْنِي كَرَمَى يَرْمِي، وَقَدْ جَمَعَ اللُّغَتَيْنِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَمَّا يَئِنْ لِي أَنْ تُجَلَّى عَمَايَتِي ... وَأُقْصِرَ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أَنَى لِيَا وَالْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ حَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَى لَهُمْ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ جَاءَ الْحِينُ وَالْأَوَانُ لِذَلِكَ، لِكَثْرَةِ مَا تَرَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَاجِرِ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [57 \ 16] ، الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي مَحِلِّ رَفْعِ فَاعِلٍ بِـ «أَنْ» ، وَالْخُشُوعُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالِانْخِفَاضُ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ: رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُ فَقَوْلُهُ: «خَاشِعٍ» أَيْ مُنْخَفَضٍ مُطْمَئِنٍ، وَالْخُشُوعُ فِي الشَّرْعِ خَشْيَةٌ مِنَ اللَّهِ تُدَاخِلُ الْقُلُوبَ، فَتَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ بِالِانْخِفَاضِ وَالسُّكُونِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَائِفِ. وَقَوْلُهُ: لِذِكْرِ اللَّهِ، الْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ خُشُوعُ قُلُوبِهِمْ لِأَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [8 \ 2] ، أَيْ خَافَتْ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، فَالْوَجَلُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ، وَالْخَشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ الْقُرْآنُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [57 \ 16] مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [87 \ 1 - 3] ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [39 \ 23] . فَالِاقْشِعْرَارُ الْمَذْكُورُ وَلِينُ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِأَحْسَنِ الْحَدِيثِ - يُفَسِّرُ مَعْنَى الْخُشُوعِ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ هُنَا كَمَا ذُكِرَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [57 \ 16] ، قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [2 \ 74] بَعْضَ أَسْبَابِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، فَذَكَرْنَا مِنْهَا طُولَ الْأَمَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي آيَةِ الْحَدِيدِ هَذِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [3 \ 110] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا الْآيَةَ [39 \ 21] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى سَبَبِ اصْفِرَارِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ مَا أَصَابَ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي الْأَرْضِ كَالْقَحْطِ وَالْجَدَبِ وَالْجَوَائِحِ فِي الزِّرَاعَةِ وَالثِّمَارِ وَفِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ كُلَّهُ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ قَبْلَ خَلْقِ النَّاسِ، وَقَبْلَ وُجُودِ الْمَصَائِبِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [57 \ 22] ، الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْخَلِيقَةِ الْمَفْهُومَةِ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ [57 \ 22] ، أَوْ إِلَى الْمُصِيبَةِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ رُجُوعَهُ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [57 \ 22] ، أَيْ سَهْلٌ هَيِّنٌ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ النَّاسَ شَيْءٌ مِنَ الْمَصَائِبِ إِلَّا وَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ ذَلِكَ - أَوْضَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [9 \ 51] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [64 \ 11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [2 \ 155] ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [2 \ 155] قَبْلَ وُقُوعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ مَعْلُومَةٌ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَلِذَا أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهَا سَتَقَعُ، لِيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهَا وَقْتَ نُزُولِهَا بِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُعِينُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا. وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ وَالثَّمَرَاتِ مِمَّا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ. وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْفُسِ مِمَّا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَنْفُسِ، وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ هَذِهِ: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [57 \ 23] ، أَيْ بَيَّنَّا لَكُمْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ قَبْلَ وُجُودِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ مَا كَتَبَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَجْلِ أَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى شَيْءٍ فَاتَكُمْ، لِأَنَّ فَوَاتَهُ لَكُمْ مُقَدَّرٌ، وَمَا لَا طَمَعَ فِيهِ قَلَّ الْأَسَى عَلَيْهِ، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، لِأَنَّكُمْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مَا كَتَبَ لَكُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْخَيْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَكُمْ قَلَّ فَرَحُكُمْ بِهِ، وَقَوْلُهُ: «تَأْسَوْا» مُضَارِعُ أَسِيَ بِكَسْرِ السِّينِ يَأْسَى بِفَتْحِهَا أَسًى بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى الْقِيَاسِ، بِمَعْنَى حَزِنَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [5 \ 68] . وَقَوْلُهُ: «مِنْ مُصِيبَةٍ» مَجْرُورٌ فِي مَحِلِّ رَفْعٍ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلُ «أَصَابَ» جُرَّ بِـ «مِنَ» الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ، وَ «مَا» نَافِيَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْشُورَى، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [42 \ 17] ، وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَاهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ. بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ إِقَامَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ تَنْبَنِي عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [57 \ 25] ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِقَامَةَ الْبَرَاهِينِ عَلَى الْحَقِّ، وَبَيَّنَ الْحُجَّةَ وَإِيضَاحَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَإِذَا أَصَرَّ الْكُفَّارُ عَلَى الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ مَعَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 وَتَعَالَى أَنْزَلَ الْحَدِيدَ، أَيْ: خَلَقَهُ لِبَنِي آدَمَ لِيَرْدَعَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَهُوَ قَتْلُهُمْ إِيَّاهُمْ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ هُنَا: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [57 \ 25] ، تُوَضِّحُهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [9 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [8 \ 12] ، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [57 \ 25] ، لَا يَخْفَى مَا فِي الْحَدِيدِ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ [13 \ 17] ، لِأَنَّ مِمَّا يُوقَدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ الْمَتَاعِ - الْحَدِيدَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ الْآيَةَ [43 \ 28 - 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ سُورَةِ الْحَدِيدِ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ سِيَاقَهَا وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ غَلِطَ، وَأَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْظُمُ مِمَّا وَعَدَ بِهِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِتْيَانِهِمْ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [28 \ 52 - 54] . وَكَوْنُ مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْظَمَ، أَنَّ إِيتَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلَهُ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [57 \ 28] ، وَزَادَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [57 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ - جَاءَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [10 \ 107] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاطِرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [35 \ 2] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الْمُجَادِلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [33 \ 4] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدِلَّتَهُمْ، وَمُنَاقَشَتَهَا فِي مَسَائِلِ الظِّهَارِ، وَمَسَائِلِ أَحْكَامِ الْكَفَّارَةِ بِالْعِتْقِ، وَالصِّيَامِ، وَالْإِطْعَامِ، وَأَوْجُهَ الْقِرَاءَةِ فِي الْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [16 \ 128] ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَالْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مَعَ بَيَانِ الْفِرَقِ بَيْنَ النَّجْوَى بِالْخَيْرِ، وَالنَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعَدُوَّانِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [4 \ 114] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ لَفْظَةَ «أَلَمْ تَرَ» لَا تُعَدَّى إِلَّا بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 «إِلَى» ، وَلَا تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّ تَعْدِيَتَهَا إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهَا صَحِيحَةٌ. وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبِ وَالْمُرَادُ إِنْكَارُ اللَّهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تُوَلِّيهِمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْكُفَّارُ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ مَنْعِ ذَلِكَ التَّوَلِّي، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [60 \ 13] . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْيَهُودِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [4 \ 142 - 143] . قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَهِيَ الْحَلِفُ، وَالْجُنَّةُ هِيَ التُّرْسُ الَّذِي يَتَّقِي بِهِ الْمُقَاتِلُ وَقْعَ السِّلَاحِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ، وَهِيَ حِلْفُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ إِنَّهُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ - تُرْسًا لَهُمْ يَتَّقُونَ بِهِ الشَّرَّ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ لَوْ صَرَّحُوا بِكُفْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ «صَدَّ» الْمُتَعَدِّيَةِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَصَدُّوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ أَطَاعَهُمْ لِأَنَّ صُدُودَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَولَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى التَّأْكِيدِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا. وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُمَا كَوْنُ الْمُنَافِقِينَ يَحْلِفُونَ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ لِتَكُونَ لَهُمْ جُنَّةً، وَأَنَّهُمْ يَصُدُّونَ غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ - جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا أَيْمَانُهُمُ الْكَاذِبَةُ فَقَدْ بَيَّنَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [58 \ 14] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ الْآيَةَ [9 \ 95] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [9 \ 42] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [63 \ 2] . وَأَمَّا صَدُّهُمْ مَنْ أَطَاعَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [33 \ 18] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [3 \ 156] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [3 \ 168] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [4 \ 72] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، أَيْ لِأَجْلِ نِفَاقِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ [4 \ 145] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إِلَى قَوْلِهِ: خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 35 - 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِسْنَادِ إِنْسَاءِ ذِكْرِ اللَّهِ إِلَى الشَّيْطَانِ - ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] ،، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [12 \ 42] ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ فَتَى مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [18 \ 63] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ الْأَذَلِّينَ - لَا يُوجَدُ أَحَدٌ أَذَلَّ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ يُعَادُونَ وَيُحَالِفُونَ وَيُشَاقُّونَ، وَأَصْلُهُ مُخَالَفَةُ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَذَلِّينَ أَيِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ذُلًّا. وَالذُّلُّ: الصَّغَارُ وَالْهَوَانُ وَالْحَقَارَةُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ هُمْ أَذَلَّ خَلْقِ اللَّهِ، بَيَّنَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ بِذِكْرِهِ أَنْوَاعَ عُقُوبَتِهِمُ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الذُّلِّ وَالْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [9 \ 63] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [58 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [59 \ 3 - 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [8 \ 12 - 14] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ غَالِبُونَ لِكُلِّ مَنْ غَالَبَهُمْ، وَالْغَلَبَةُ نَوْعَانِ: غَلَبَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَغَلَبَةٌ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِمَنْ أُمِرَ بِالْقِتَالِ مِنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 171 - 173]- أَنَّهُ لَنْ يُقْتَلَ نَبِيٌّ فِي جِهَادٍ قَطُّ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَيْسَ بِغَالِبٍ، لِأَنَّ الْقَتْلَ قِسْمٌ مُقَابِلٌ لِلْغَلَبَةِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ الْآيَةَ [4 \ 74] ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا الْآيَةَ [40 \ 51] ، وَقَدْ نَفَى عَنِ الْمَنْصُورِ كَوْنَهُ مَغْلُوبًا نَفْيًا بَاتًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ [3 \ 160] . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [2 \ 87] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [3 \ 183]- لَيْسُوا مَقْتُولِينَ فِي جِهَادٍ، وَأَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ [3 \ 146] ، عَلَى قِرَاءَةِ «قُتِلَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، هُوَ رِبِّيُّونَ لَا ضَمِيرُ النَّبِيِّ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [3 \ 146] ، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [37 \ 171] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِنْشَاءُ، وَهَذَا النَّهْيُ الْبَلِيدُ، وَالزَّجْرُ الْعَظِيمُ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَإِيرَادُ الْإِنْشَاءِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ أَقْوَى وَأَوْكَدُ مِنْ إِيرَادِهِ بِلَفْظِ الْإِنْشَاءِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحِلِّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: أَيْ يُحِبُّونَ وَيُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ وَالزَّجْرِ الْعَظِيمِ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [60 \ 4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [48 \ 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [5 \ 54] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً الْآيَةَ [9 \ 123] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [9 \ 73] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَائِلًا: إِنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ كَافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ الْمَشْهُورِ، وَزَعَمَ مَنْ قَالَ؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَنَهَاهُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَزَعَمَ مَنْ قَالَ؛ أَنَّ أَبَاهُ أَبَا قُحَافَةَ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَضَرَبَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى سَقَطَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 وَقَوْلُهُ: أَوْ أَبْنَاءَهُمْ، زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ حِينَ طَلَبَ مُبَارَزَةَ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ: أَوْ إِخْوَانَهُمْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالُوا: قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَرَّ بِأَخِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ يَأْسِرُهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: شَدِّدْ عَلَيْهِ الْأَسْرَ، عَلِمَ أَنَّ أُمَّهُ مَلِيَّةٌ وَسَتَفْدِيهِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ عَشِيرَتَهُمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لَمَّا قَتَلُوا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ فِي الْمُبَارَزَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدُ شَمْسٍ أَخُو هَاشِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ أَيْ ثَبَّتَهُ فِي قُلُوبِهِمْ بِتَوْفِيقِهِ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَثْبِيتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [49 \ 7 - 8] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّسْبِيحِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [21 \ 79] . وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ تَنْزِيهُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَسَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النُّصُوصَ فِي تَسْبِيحِ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعِهَا. وَقَالَ فِي آخِرِ الْمَبْحَثِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكُنَّا فَاعِلِينَ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّأْكِيدِ أَنَّ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحَهَا أَمْرٌ عَجَبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُكَذِّبَ بِهِ الْكَفَرَةُ الْجَهَلَةُ [مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ 337، وَذَكَرَ عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ " الْحَدِيدِ " زِيَادَةً لِذَلِكَ] . وَفِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ مِمَّا أَمْلَاهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَصْلِ الدِّرَاسَةِ عَلَى أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [62 \ 1] قَالَ: التَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، (وَمَا) الَّتِي لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ؛ لِتَغَلُّبِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَانَ يُمْكِنُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِحَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ الْآنَ تَدْعُو إِلَى مَزِيدِ بَيَانٍ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ؛ لِتَعَلُّقِ الْمَبْحَثِ بِأَمْرٍ بَالِغِ الْأَهَمِّيَّةِ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي عَصْرٍ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْعَلْمَانِيَّةُ، وَالْمَادِّيَّةُ فَنُورِدُ مَا أَمْكَنَ أَمَلًا فِي زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ. إِنَّ أَصْلَ التَّسْبِيحِ مِنْ مَادَّةِ سَبَحَ، وَالسِّبَاحَةُ وَالتَّسْبِيحُ مُشْتَرِكَانِ فِي أَصْلِ الْمَادَّةِ، فَبَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَالسِّبَاحَةُ فِي الْمَاءِ يَنْجُو بِهَا صَاحِبُهَا مِنَ الْغَرَقِ، وَكَذَلِكَ الْمُسَبِّحُ لِلَّهِ وَالْمُنَزِّهُ لَهُ يَنْجُو مِنَ الشِّرْكِ، وَيَحْيَا بِالذِّكْرِ وَالتَّمْجِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ الْفِعْلُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي: (سَبَّحَ لِلَّهِ) كَمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 " الْحَدِيدِ ". قَالَ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَهَا: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ بِالتَّسْبِيحِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [56 \ 95 - 96] ، جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا مُبَاشَرَةً بِالْفِعْلِ الْمَاضِي؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ، وَالْتَزَمَ بِهِ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ جَاءَ أَيْضًا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَمَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [59 \ 24] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْجُمُعَةِ ": (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [62 \ 1] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّغَابُنِ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [64 \ 1] ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ. بَلْ جَاءَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [87 \ 1] ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [56 \ 74] . وَجَاءَتِ الْمَادَّةُ بِالْمَصْدَرِ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [17 \ 1] ، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [30 \ 17] ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ بِدَوَامِ وَاسْتِمْرَارِ التَّسْبِيحِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، كَمَا سَبَّحَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ، وَسَبَّحَتْهُ مَلَائِكَتُهُ، وَرُسُلُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهُ. وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِهَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْعَاقِلِ إِذَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [4 \ 3] ، وَمَجِيئُهُا هُنَا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ تَغْلِيبًا لَهُ؛ لِكَثْرَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَكُونُ شَامِلَةً لِلْعَاقِلِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَمِمَّا يَلْفِتُ النَّظَرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي فِي مَعْرِضِ الْعُمُومِ كُلَّهُ فِي الْقُرْآنِ مُسْنَدٌ إِلَى " مَا " دُونَ " مَنْ " إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [71 \ 44] ، وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى شُمُولِ " مَا " وَعُمُومِهَا الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْنَدَ التَّسْبِيحَ أَوَّلًا إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ صَرَاحَةً بِذَوَاتِهِنَّ، وَهُنَّ مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ مِنْ أَفْلَاكٍ، وَكَوَاكِبَ، وَبُرُوجٍ، أَوْ جِبَالٍ، وَوِهَادٍ، وَفِجَاجٍ، ثُمَّ عَطَفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 عَلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِصِيغَةِ " مَنْ " الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ فَقَالَ: (وَمَنْ فِيهِنَّ) ، وَإِنْ كَانَتْ " مَنْ "، قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ إِذَا نُزِّلْنَ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَسِرْبَ الْقَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ... لَعَلِّي إِلَى مَنْ قَدْ هَوِيتُ أَطِيرُ وَبِهَذَا شَمِلَ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي نِطَاقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَاقِلٍ، وَغَيْرِ عَاقِلٍ، وَقَدْ أُكِّدَ هَذَا الشُّمُولُ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [17 \ 44] ، وَكَلِمَةُ " شَيْءٍ " أَعَمُّ الْعُمُومَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [13 \ 6] ، فَشَمِلَتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالْمَلَائِكَةَ، وَالْإِنْسَ، وَالْجِنَّ، وَالطَّيْرَ، وَالْحَيَوَانَ، وَالنَّبَاتَ، وَالشَّجَرَ، وَالْمَدَرَ، وَكُلَّ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ إِثْبَاتُ التَّسْبِيحِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ كُلٌّ عَلَى حِدَةٍ. أَوَّلًا: تَسْبِيحُ اللَّهِ تَعَالَى نَفْسَهُ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [17 \ 1] ، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [30 \ 17 - 18] ، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [21 \ 22] . ثَانِيًا: تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [2] ، وَقَوْلُهُ: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [39 \ 75] ، وَ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [21 \ 20] . ثَالِثًا: تَسْبِيحُ الرَّعْدِ: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [13 \ 13] . رَابِعًا: تَسْبِيحُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَالْأَرْضِ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) [17 \ 44] . خَامِسًا: تَسْبِيحُ الْجِبَالِ: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [38 \ 18] . سَادِسًا: تَسْبِيحُ الطَّيْرِ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [21 \ 79] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 سَابِعًا: تَسْبِيحُ الْإِنْسَانِ: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [15 \ 98] ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [56 \ 74] ، (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [19 \ 11] . فَهَذَا إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ صَرَاحَةً لِكُلِّ هَذِهِ الْعَوَالِمِ مُفَصَّلَةً وَمُبَيَّنَةً، وَاضِحَةً. وَجَاءَ مِثْلُ التَّسْبِيحِ، وَنَظِيرُهُ وَهُوَ السُّجُودُ مُسْنَدًا لِعَوَالِمَ أُخْرَى وَهِيَ بَقِيَّةُ مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ أَجْنَاسٍ وَأَصْنَافٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [22 \ 18] . وَيُلَاحَظُ هُنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ السُّجُودَ أَوَّلًا لِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَ " مَنْ " هِيَ لِلْعُقَلَاءِ أَيْ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِنْسُ، وَالْجِنُّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْعُقَلَاءِ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِأَسْمَائِهِنَّ مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالْجِبَالِ، وَالشَّجَرِ، وَالدَّوَابِّ فَهَذَا شُمُولٌ لَمْ يَبْقَ كَائِنٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَلَا ذَرَّةٌ فِي فَلَاةٍ إِلَّا شَمَلَهُ. وَبَعْدَ بَيَانِ هَذَا الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ يَأْتِي مَبْحَثُ الْعَامِّ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، وَهَلْ عُمُومُ " مَا " هُنَا بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ أَمْ دَخَلَهُ تَخْصِيصٌ؟ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّ لَفْظَ التَّسْبِيحِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ لَمْ يَدْخُلْهُ خُصُوصٌ، وَلَكِنَّ التَّسْبِيحَ يَخْتَلِفُ، وَلِكُلِّ تَسْبِيحٍ بِحَسْبِهِ فَمِنَ الْعُقَلَاءِ بِالذِّكْرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ كَالْإِنْسَانِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَمِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ سَوَاءٌ الْحَيَوَانُ وَالطَّيْرُ، وَالنَّبَاتُ، وَالْجَمَادُ، فَيَكُونُ بِالدَّلَالَةِ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ قَادِرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: الشَّجَرَةُ تُسَبِّحُ وَالْأُسْطُوانُ لَا يُسَبِّحُ. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ لِلْحَسَنِ وَهُمَا فِي طَعَامٍ وَقَدْ قُدِّمَ الْخِوَانُ: أَيُسَبِّحُ هَذَا الْخِوَانُ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُسَبِّحُ مَرَّةً يُرِيدُ أَنَّ التَّسْبِيحَ مِنَ الْحَيِّ، أَوِ النَّامِي سَوَاءٌ الْحَيَوَانُ، أَوِ النَّبَاتُ وَمَا عَدَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 فَلَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَسْتَدِلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ السُّنَةِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ وَضْعِ الْجَرِيدِ الْأَخْضَرِ عَلَى الْقَبْرِ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: " لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ". أَيْ: بِسَبَبِ تَسْبِيحِهِمَا، فَإِذَا يَبِسَا انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُمَا. اهـ. وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِعِدَّةِ أُمُورٍ: أَوَّلًا: لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [17 \ 44] . ثَانِيًا: أَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَسْبِيحِ الدَّلَالَةِ، هُوَ تَحْكِيمُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، حِينَمَا لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ وَلَمْ تَتَصَوَّرْهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْحِسِّيِّ هُنَا، وَخَطَرَ عَلَى الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) . ثَالِثًا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [21 \ 79] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [38 \ 18] ، فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحُهَا مَعَهُ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ كَمَا يَقُولُونَ لَمَا كَانَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خُصُوصِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ. رَابِعًا: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا إِدْرَاكًا تَامًّا كَإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [33 \ 72] ، فَأَثْبَتَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ إِدْرَاكًا وَإِشْفَاقًا مِنْ تَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ، بَيْنَمَا سَجَّلَ عَلَى الْإِنْسَانِ ظُلْمًا وَجَهَالَةً فِي تَحَمُّلِهِ إِيَّاهَا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَرْضُ مُجَرَّدَ تَسْخِيرٍ، وَلَا هَذَا الْإِبَاءُ مُجَرَّدَ سَلْبِيَّةٍ، بَلْ عَنْ إِدْرَاكٍ تَامٍّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [41 \ 11] ، فَهُمَا طَائِفَتَانِ لِلَّهِ، وَهُمَا يَأْبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَ الْأَمَانَةَ إِشْفَاقًا مِنْهَا. وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [59 \ 21] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [2 \ 74] ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْإِدْرَاكِ أَشَدُّ مِنْ إِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ: " لَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ مِنْ حَجَرٍ، وَلَا مَدَرٍ، وَلَا شَجَرٍ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَبِمَ سَيَشْهَدُ إِنْ لَمْ يَكُ مُدْرِكًا الْأَذَانَ وَالْمُؤَذِّنَ. وَعَنْ إِدْرَاكِ الطَّيْرِ قَالَ تَعَالَى عَنِ الْهُدْهُدِ يُخَاطِبُ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) [27 \ 22 - 24] . فَفِي هَذَا السِّيَاقِ عَشْرُ قَضَايَا يُدْرِكُهَا الْهُدْهُدُ وَيُفْصِحُ عَنْهَا لِنَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ. الْأُولَى: إِدْرَاكُهُ أَنَّهُ أَحَاطَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ سُلَيْمَانَ. الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَتُهُ لِسَبَأٍ بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَمَجِيئُهُ مِنْهَا بِنَبَأٍ يَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ. الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَتُهُ لِتَوْلِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ إِنْكَارِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. الرَّابِعَةُ: إِدْارَكُهُ مَا أُوتِيَتْهُ سَبَأٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ لَهَا عَرْشًا عَظِيمًا. السَّادِسَةُ: إِدْرَاكُهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. السَّابِعَةُ: إِدْرَاكُهُ أَنَّ هَذَا شِرْكٌ بِاللَّهِ تَعَالَى. الثَّامِنَةُ: أَنَّ هَذَا مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ. التَّاسِعَةُ: أَنَّ هَذَا ضَلَالٌ عَنِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ. الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ. وَقَدِ اقْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بِإِدْرَاكِ الْهُدْهُدِ لِهَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَهُ: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [27 \ 27] ، وَسَلَّمَهُ رِسَالَةً، وَبَعَثَهُ سَفِيرًا إِلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [27 \ 28] ، وَكَانَتْ سِفَارَةً مُوَفَّقَةً جَاءَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 بِهِمْ مُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهَا: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [27 \ 44] . وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ النَّمْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهَا: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [27 \ 18] فَقَدْ أَدْرَكَتْ مَجِيءَ الْجَيْشِ، وَأَنَّهُ لِسُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ وَأَدْرَكَتْ كَثْرَتَهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهَا وَعَلَى النَّمْلِ أَنْ يَتَجَنَّبُوا الطَّرِيقَ، وَيَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ، وَهَذَا الْإِدْرَاكُ مِنْهَا جَعَلَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَتَبَسَّمُ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا. وَأَنَّ لَهَا قَوْلًا عَلِمَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ إِثْبَاتُ إِدْرَاكِ الْحَيَوَانَاتِ لِلْمُغَيَّبَاتِ فَضْلًا عَنِ الْمُشَاهَدَاتِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ: " وَإِنَّ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ " إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهِيَ تُصِيخُ بِأُذُنِهَا مِنْ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَتَّى طُلُوعِ الشَّمْسِ إِشْفَاقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ "، فَهَذَا إِدْرَاكٌ وَإِشْفَاقٌ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِيمَانٌ بِالْمَغِيبِ، وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَإِشْفَاقٌ مِنَ السَّاعَةِ أَشَدُّ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَقِصَّةُ الْجَمَلِ الَّذِي نَدَّ عَلَى أَهْلِهِ وَخَضَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: لَكَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ إِنَّهُ مَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ". فَهَذَا كُلُّهُ يُثْبِتُ إِدْرَاكًا لِلْحَيَوَانِ بِالْمَحْسُوسِ، وَبِالْمَغِيبِ إِدْرَاكًا لَا يَقِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ إِثْبَاتِ تَسْبِيحِهَا حَقِيقَةً عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا؟ وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ صَرِيحًا فِي التَّسْبِيحِ الْمُثْبَتِ لَهَا فِي أَنَّهُ تَسْبِيحُ تَحْمِيدٍ لَا مُطْلَقُ دَلَالَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [13 \ 13] ، وَقَرَنَهُ مَعَ تَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ: وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [13 \ 13] ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِثْبَاتٌ لِنَوْعِ التَّسْبِيحِ الْمَطْلُوبِ. خَامِسًا: لَقَدْ شَهِدَ الْمُسْلِمُونَ مَنْطِقَ الْجَمَادِ بِالتَّسْبِيحِ، وَسَمِعُوهُ بِالتَّحْمِيدِ حِسًّا كَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَمِعَهُ كُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ حَجَرًا فِي مَكَّةَ مَا مَرَرْتُ عَلَيْهِ إِلَّا وَسَلَّمَ عَلَيَّ "، وَمَا ثَبَتَ بِفَرْدٍ يَثْبُتُ لِبَقِيَّةِ أَفْرَادِ جِنْسِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي قَاعِدَةِ الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ، وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي أَعْظَمِ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: " اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّ عَلَيْكَ نَبِيًّا، وَصِدِّيقًا، وَشَهِيدَيْنِ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: لَمَّا رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ طَلَعَ عَلَيْهِمْ أُحُدٌ فَقَالَ: " هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ ". فَهَذَا جَبَلٌ مِنْ كِبَارِ جِبَالِ الْمَدِينَةِ يَرْتَجِفُ لِصُعُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَيُخَاطِبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِطَابَ الْعَاقِلِ الْمُدْرِكِ: " اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ نَبِيًّا، وَصِدِّيقًا، وَشَهِيدَيْنِ "، فَيَعْرِفُ النَّبِيَّ، وَيَعْرِفُ الصِّدِّيقَ، وَالشَّهِيدَ فَيَثْبُتُ، فَبِأَيِّ قَانُونٍ كَانَ ارْتِجَافُهُ؟ وَبِأَيِّ مَعْقُولٍ كَانَ خِطَابُهُ؟ وَبِأَيِّ مَعْنًى كَانَ ثُبُوتُهُ؟ ثُمَّ هَاهُوَ يُثْبِتُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَحَبَّةَ الْمُتَبَادَلَةَ بِقَوْلِهِ: " يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ ". وَإِذَا نَاقَشْنَا أَقْوَالَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ إِثْبَاتِ التَّسْبِيحِ لِلْجَمَادَاتِ وَنَحْوِهَا، لَمَا وَجَدْنَا لَهُمْ وِجْهَةَ نَظَرٍ إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْأَمْثِلَةَ عَلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَجْنَاسِ، وَتَقَدَّمَ تَنْبِيهُ الشَّيْخِ عَلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 29] رَدًّا عَلَى اسْتِبْعَادِهِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا جَاءَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [17 \ 44] ، جَاءَ بَعْدَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [17 \ 45] وَهَذَا نَصٌّ يُكَذِّبُ الْمُسْتَدِلِّينَ بِالْحِسِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْحِجَابُ مَسْتُورٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ فَلَا يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْهُمْ، وَلَا يَرَوْنَ الْحِجَابَ؛ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ قَالَ فِيهَا بَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ: إِنَّ مَسْتُورًا هُنَا بِمَعْنَى سَاتِرًا وَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ جَعْلَ مَسْتُورًا بِمَعْنَى سَاتِرًا تَكْرَارٌ لِمَعْنَى حِجَابٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا [17 \ 45] هُوَ بِمَعْنَى سَاتِرًا، أَيْ: يَسْتُرُهُ عَنِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ مَعْنًى، وَلَا كَبِيرُ مُعْجِزَةٍ، وَلَكِنَّ الْإِعْجَازَ فِي كَوْنِ الْحِجَابِ مَسْتُورًا عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَفِي هَذَا تَحْقِيقُ وُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُمَا حَجْبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ، وَسَتْرُ الْحِجَابِ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي حِفْظِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَابُ مَرْئِيًّا أَيْ: سَاتِرًا فَقَطْ مَعَ كَوْنِهِ مَرْئِيًّا لَرُبَّمَا اقْتَحَمُوهُ عَلَيْهِ، وَأَقْوَى فِي الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحِجَابُ مَرْئِيًّا لَكَانَ كَاحْتِجَابِ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَلَكِنْ حَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ فِيهِ هُوَ كَوْنُهُ مَسْتُورًا عَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 أَعْيُنِهِمْ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدْ جَاءَتْ قِصَّةُ امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ مُفَصِّلَةً هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَمَا سَاقَهَا ابْنُ كَثِيرٍ قَالَ: لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةَ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى قَوْلِهِ: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [111 \ 1 - 5] ، جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُؤْذِيَكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاصِمُنِي مِنْهَا "، وَتَلَا قُرَآنًا، فَجَاءَتْ، وَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَتْ: إِنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي. قَالَ: لَا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ إِنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ، وَلَا هَاجٍ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ مُصَدَّقٌ وَانْصَرَفَتْ. أَيْ: وَلَمْ تَرَهُ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَهَلْ يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُودِ الْحِجَابِ؛ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ لَمْ يُشَاهَدْ، أَمْ أَنَّنَا نُثْبِتُهُ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ وَعَلَيْهِ وَبَعْدَ إِثْبَاتِهِ نَقُولُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: حِجَابًا مَسْتُورًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [17 \ 44] ؟ فَفِي كِلَا الْمَقَامَيْنِ إِثْبَاتُ أَمْرٍ لَا نُدْرِكُهُ بِالْحِسِّ، فَالتَّسْبِيحُ لَا نَفْقَهُهُ، وَالْحِجَابُ لَا نُبْصِرُهُ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذِهِ النَّمَاذِجَ، وَلَوْ مَعَ بَعْضِ التَّكْرَارِ، لِمَا يُوجَدُ مِنْ تَأَثُّرِ الْبَعْضِ بِدَعْوَى الْمَادِّيِّينَ أَوِ الْعِلْمَانِيِّينَ، الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا الْمَحْسُوسَ، لِتُعْطِيَ الْقَارِئَ زِيَادَةَ إِيضَاحٍ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ يَقِفُ عَلَى عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، وَيَتَّسِعُ أُفُقُهُ إِلَى مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ وَرَاءَ حُدُودِ الْمَادَّةِ عَوَالِمَ يَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ مَعَالِمِهَا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يُثْبِتُهَا. وَقَدْ رَسَمَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ إِثْبَاتٍ وَإِيمَانٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ؟ ! فَقَالَ: " إِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ، إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا: اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي " فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قَالَ: " فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ". فَفِي هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ نُطْقُ الْبَقَرَةِ وَنُطْقُ الذِّئْبِ بِكَلَامٍ مَعْقُولٍ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ، مِمَّا اسْتَعْجَبَ لَهُ النَّاسُ وَسَبَّحُوا اللَّهَ إِعْظَامًا لِمَا سَمِعُوا، وَلَكِنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْفَعُ هَذَا الِاسْتِعْجَابَ بِإِعْلَانِ إِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ، وَيَضُمُّ مَعَهُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنْ كَانَا غَائِبَيْنِ عَنِ الْمَجْلِسِ، لِعِلْمِهِ مِنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُنْكِرَانِ مَا ثَبَتَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ لِمُجَرَّدِ اسْتِبْعَادِهِ عَقْلًا. وَهُنَا يُقَالُ لِمُنْكِرِي التَّسْبِيحِ حَقِيقَةً وَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَهْوَ مُتَعَلَّقُ الْقُدْرَةِ أَمِ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ؟ فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ لِقَوْمِ صَالِحٍ نَاقَةً عَشْرَاءَ مِنْ جَوْفِ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْطَقَ الْحَصَا فِي كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ حَتَّى يَنْتَظِرَ إِدْرَاكَهَ وَتَحْكِيمُ الْعَقْلِ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [17 \ 44] . فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِيمَانُ أَشْبَهَ مَا يَكُونُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَإِيمَانُ تَصْدِيقٍ وَإِثْبَاتٍ لَا تَكْيِيفٍ وَإِدْرَاكٍ وَخَالِقُ الْكَائِنَاتِ أَعْلَمُ بِحَالِهَا، وَبِمَا خَلَقَهَا عَلَيْهِ. فَيَجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِتَسْبِيحِ كُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَبًا عَقْلًا، وَلَكِنْ أَخْبَرَ بِهِ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، وَشَاهَدْنَا الْمِثَالَ مَسْمُوعًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ. أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا فِي بَنِي النَّضِيرِ، إِلَّا قَوْلًا لِلْحَسَنِ أَنَّهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَخْرُجُوا، وَلَمْ يُجْلَوْا وَلَكِنْ قُتِلُوا. وَقَدْ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِسُورَةِ «بَنِي النَّضِيرِ» ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ «الْحَشْرِ» قَالَ: قُلْ سُورَةُ «النَّضِيرِ» ، وَهُمْ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فِتَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانُوا قَدْ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَعْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ، لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، فَلَمَّا هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ارْتَابُوا وَنَكَثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ - فَأَمَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 بِقَتْلِ كَعْبٍ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ غِيلَةً، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُمْ عَلَى خِيَانَةٍ حِينَ أَتَاهُمْ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ مُنْصَرَفَهُ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَهَمُّوا بِطَرْحِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا قُتِلَ كَعْبٌ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَسِيرَةِ إِلَيْهِمْ، وَطَالَبَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ؛ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، وَلَكِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ سِرًّا: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، وَوَعَدَهُمْ بِنَصْرِهِمْ بِأَلْفَيْ مُقَاتِلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَمُسَاعَدَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، أَوِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ، فَدَرَّبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَامْتَنَعُوا بِالتَّحْصِينَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ، فَحَاصَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَقِيلَ: أَجْمَعُوا عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: اخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِكِ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ مِنَّا؛ لِيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا آمَنَّا كُلُّنَا فَفَعَلَ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَفْهَمُ وَنَحْنُ سِتُّونَ؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفَعَلُوا فَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ، وَأَرَادُوا الْفَتْكَ فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ نَاصِحَةٌ إِلَى أَخِيهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَرَادُوا، فَأَسْرَعَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ غَدَا عَلَيْهِمْ بِالْكَتَائِبِ فَحَاصَرَهُمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَآيَسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ ابْنُ أُبَيٍّ، فَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ أَهْلِ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنَ الْمَتَاعِ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَ كُلَّ مَا اسْتَطَاعُوا وَلَوْ أَبْوَابَ الْمَنَازِلِ، يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ وَيَحْمِلُونَ مَا اسْتَطَاعُوا مَعَهُمْ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا مُجْمَلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا تَدُورُ مَعَانِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلُّهَا، وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَةِ أُصُولِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ السَّبَبِ تُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَدَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ غَدْرٍ، وَمَا سَلَكُوا مِنْ أَسَالِيبِ الْمُرَاوَغَةِ فَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ. وَالَّذِي مِنْ مَنْهَجِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَضْوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ، حَيْثُ أَسْنَدَ إِخْرَاجَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 [33 \ 25] ، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عِنْدَهَا: ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْآيَةَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ الَّذِي رَدَّهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [33 \ 9] اهـ. وَهُنَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْنَدَ إِخْرَاجَهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى مَعَ حِصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ لِإِخْرَاجِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ إِخْرَاجِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقُوَّةِ وَرَاءَ الْحُصُونِ، لَمْ يَتَوَقَّعِ الْمُؤْمِنُونَ خُرُوجَهُمْ، وَظَنُّوا هُمْ أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِخْرَاجُ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِوَعْدٍ سَابِقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [2 \ 137] . وَبِهَذَا الْإِخْرَاجِ تَحَقَّقَ كِفَايَةُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، فَقَدْ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَكَانَ إِخْرَاجُهُمْ حَقًّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِوَعْدٍ مُسْبَقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي خُصُوصِهِمْ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [59 \ 6] وَتَسْلِيطُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ بِمَا بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» وَهُوَ مَا يَتَمَشَّى مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [33 \ 26] . وَجُمْلَةُ هَذَا السِّيَاقِ هُنَا يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ عَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [33 \ 26 - 27] ، وَعَلَيْهِ ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ إِسْنَادِ إِخْرَاجِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ تَعَالَى الَّذِي رَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيَاحِ، وَالْجُنُودِ، وَهُوَ الَّذِي كَفَى الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ، وَوَرَّثَ الْمُؤْمِنِينَ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا. وَرَشَّحَ لِهَذَا كُلِّهِ التَّذْيِيلُ فِي آخِرِ الْآيَةِ، يَطْلُبُ الِاعْتِبَارَ وَالِاتِّعَاظَ بِمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [59 \ 2] ، أَيْ: بِإِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ حُصُونِهِمْ، وَدِيَارِهِمْ وَمَوَاطِنِ قُوَّتِهِمْ، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا؛ لِضَعْفِ اقْتِدَارِكُمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ لِقُوَّتِهَا وَمَنَعَتِهَا، وَلَكِنْ أَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْبَقَاءَ، وَكَانَتْ حَقِيقَةُ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ هِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ. اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَشْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ. فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ الشَّامُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ: الْجَمْعُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِآثَارٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ شَكَّ فِي أَنَّ أَرْضَ الْمَحْشَرِ هَاهُنَا يَعْنِي الشَّامَ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيِّ، وَسَاقَ قَوْلَهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيِ النَّضِيرِ: «اخْرُجُوا» ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ» ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا مَكَانِيَّةً، أَيْ: لِأَوَّلِ مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَأَوَائِلُهُ خَيْبَرُ وَأَذْرِعَاتٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَشْرَ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: الْحَشْرُ هُوَ حَشْدُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَتَائِبَ؛ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ حَشْرٍ مِنْهُ لَهُمْ وَأَوَّلُ قِتَالٍ قَاتَلَهُمْ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ زَمَانِيَّةً وَتَقْتَضِي حَشْرًا بَعْدَهُ، فَقِيلَ: هُوَ حَشْرُ عُمَرَ إِيَّاهُمْ بِخَيْبَرَ، وَقِيلَ: نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْبَعْثُ. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَعَمُّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ النَّارَ الْمَذْكُورَةَ، وَالْبَعْثَ لَيْسَتَا خَاصَّتَيْنِ بِالْيَهُودِ، وَلَا بِبَنِي النَّضِيرِ خَاصَّةً، وَمِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلَ لَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [58 \ 21] ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْغَلَبَةِ: الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَالْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْغَلَبَةِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى دُخُولِ تِلْكَ الْغَلَبَةِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 وَهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ غَلَبَةَ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بَلْ عُمُومَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَشْرِ إِنَّمَا هُوَ لِلْجَمْعِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ لِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ [27 \ 17] ، وَقَوْلُهُ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [6 \ 111] ، وَقَوْلُهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [38 \ 19] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [20 \ 59] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [7 \ 111] ، وَقَوْلُهُ: فَحَشَرَ فَنَادَى [79 \ 23] ، فَكُلُّهَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ لِهَذَا، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ [18 \ 47] ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِبُرُوزِ الْأَرْضِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [19 \ 85] ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِتَقْيِيدِهِ بِالْيَوْمِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [20 \ 102] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [81 \ 5] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [41 \ 19] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا يُعَيِّنُ الْمُرَادَ بِالْحَشْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. فَإِذَا أُطْلِقَ كَانَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، أَنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ لِأَوَّلِ الْجَمْعِ، وَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ زَمَانِيَّةً وَفِعْلًا، فَقَدْ كَانَ أَوَّلُ جَمْعٍ لِلْيَهُودِ، وَقَدْ أَعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ لِإِخْوَانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ فِي خَيْبَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا رَبْطَ إِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ بِإِنْزَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ، وَهَكَذَا رَبَطَ جَمْعَ هَؤُلَاءِ بِأُولَئِكَ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ أُجْلُوا وَأُخْرِجُوا، وَأُولَئِكَ قُتِلُوا وَاسْتُرِقُّوا. تَنْبِيهٌ وَكَوْنُ الْحَشْرِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لَا يَتَنَافَى مَعَ كَوْنِ خُرُوجِهِمْ كَانَ إِلَى أَوَائِلِ الشَّامِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ هُوَ جَمْعُهُمْ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّامِ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَهُمْ كَانَ إِلَى الشَّامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [4 \ 47] ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّعْرِيضَ بِأَصْحَابِ السَّبْتِ أَلْصَقُ بِهِمْ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْوُجُوهُ هُنَا هِيَ سُكْنَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَطَمْسُهَا تَغَيُّرُ مَعَالِمِهَا، وَرَدُّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، أَيْ: إِلَى بِلَادِ الشَّامِ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا أَوَّلًا حِينَمَا خَرَجُوا مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا. أَتَى: تَأْتِي لِعِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا بِمَعْنَى الْمَجِيءِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْمُدَاهَمَةِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، فَقَالَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ، لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وَأَنَّ صَرْفَ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ جَائِزٌ. اهـ. وَهَذَا مِنْهُ عَلَى مَبْدَئِهِ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَيَكْفِي لِرَدِّهِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ مُسْتَوَيَاتِ الْعُقُولِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [42 \ 11] ، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا السِّيَاقِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [16 \ 26] ، أَيْ هَدَمَهُ وَاقْتَلَعَهُ مِنَ قَوَاعِدِهِ، وَنَظِيرِهِ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [10 \ 24] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [13 \ 41] ، وَقَوْلِهِ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [21 \ 44] . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَدْوَى: أَنِّي قُلْتُ أُتِيتَ أَيْ دُهِيتَ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْكَ حِسُّكُ فَتَوَهَّمْتَ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ صَحِيحًا. وَيُقَالُ: أُتِيَ فُلَانٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ التَّاءِ إِذَا أَظَلَّ عَلَيْهِ الْعَدُّوُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مِنْ مَأْمَنِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 يُؤْتَى الْحَذِرُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، أَخَذَهُمْ وَدَهَاهُمْ وَبَاغَتَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا مِنْ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحِصَارِهِمْ، وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهُنَاكَ مَوْقِفٌ آخَرُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [2 \ 109] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَهُوَ فِي سِيَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ بِذَاتِهِمِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ هُنَا هُوَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ تَعَالَى الْمَوْعُودِ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَالَ: وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ، هُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [9 \ 29] . وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وَاحِدَ الْأُمُورِ، فَهُوَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنَ الْقَتْلِ، وَالتَّشْرِيدِ كَقَوْلِهِ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ الْآيَةَ [59 \ 2 - 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. اهـ[مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَضْوَاءِ] . فَقَدْ نَصَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ آيَةَ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ مُرْتَبِطَةٌ بِآيَةِ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، هَذِهِ كَمَا قَدَّمْنَا: أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَقَدْ أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا كُلِّهِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ (فَآتَاهُمْ) بِالْمَدِّ بِمَعْنَى: أَعْطَاهُمْ وَأَنْزَلَ بِهِمْ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أَيْ: أَنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً وَذِلَّةً وَمَهَانَةً جَاءَتْهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. مَنْطُوقُهُ أَنَّ الرُّعْبَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ هَزِيمَةِ الْيَهُودِ، وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَكْسَ بِالْعَكْسِ أَيْ: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ وَهِيَ ضِدُّ الرُّعْبِ، سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَهُوَ ضِدُّ الْهَزِيمَةِ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ الْمَفْهُومُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [48 \ 18] ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [009 026] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [9 \ 25 - 26] ، فَقَدْ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ بِالْهَزِيمَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ النَّصْرُ لَهُمْ، وَهَزِيمَةُ أَعْدَائِهِمِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا [9 \ 25] أَيْ: بِالْقَتْلِ، وَالسَّبْيِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [9 \ 40] . وَهَذَا الْمَوْقِفُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، اثْنَانِ أَعْزَلَانِ يَتَحَدَّيَانِ قُرَيْشًا بِكَامِلِهَا، بِعَدَدِهَا وَعُدَدِهَا، فَيَخْرُجَانِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَيَدْخُلَانِ الْغَارَ فِي سُدْفَةِ اللَّيْلِ، وَيَأْتِي الطَّلَبُ عَلَى فَمِ الْغَارِ بِقُلُوبٍ حَانِقَةٍ، وَسُيُوفٍ مُصْلَتَةٍ، وَآذَانٍ مُرْهَفَةٍ حَتَّى يَقُولَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ تَحْتَ نَعْلَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَيَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي غَايَةِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمُنْتَهَى السَّكِينَةِ: «مَا بَالُكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» ؟ . وَمِنْهَا: وَفِي أَخْطَرِ الْمَوَاقِفِ فِي الْإِسْلَامِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، حِينَمَا الْتَقَى الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَجْهًا لِوَجْهٍ، جَاءَتْ قُوَى الشَّرِّ فِي خُيَلَائِهَا وَبَطَرِهَا وَأَشْرِهَا، وَأَمَامَهَا جُنْدُ اللَّهِ فِي تَوَاضُعِهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 وَإِيمَانِهِمْ، وَضَرَاعَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ: فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ [8 \ 9 - 11] . فَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ إِلَّا؛ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَمَا غَشَّاهُمُ النُّعَاسَ إِلَّا أَمَنَةً مِنْهُ، وَتَمَّ كُلُّ ذَلِكَ بِمَا رَبَطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَقَاوَمُوا بِقِلَّتِهِمْ قُوَى الشَّرِّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَتَمَّ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَدَدٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا رَبَطَ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الْكَهْفِ: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [18 \ 14] . هَذِهِ آثَارُ الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ وَالرَّبْطِ عَلَى الْقُلُوبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَيْنِ الْمَنْطُوقَ وَالْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [8 \ 12] ، فَنَصَّ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ بِالتَّثْبِيتِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، وَنَصَّ عَلَى الرُّعْبِ فِي قَوْلِهِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَكَانَتِ الطُّمَأْنِينَةُ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالرُّعْبُ زَلْزَلَةً لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَ: «إِنِّي مُتَقَدِّمُكُمْ؛ لِأُزَلْزِلَ بِهِمُ الْأَقْدَامَ» ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَسْبَابِ هَذِهِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [8 \ 45، 46] . فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ لِلطُّمَأْنِينَةِ: الْأُولَى: الثَّبَاتُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [61 \ 4] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 وَالثَّانِيَةُ: ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [13 \ 28] . وَالثَّالِثَةُ: طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدُلُّ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [47 \ 20 - 21] . وَالرَّابِعَةُ: عَدَمُ التَّنَازُلِ وَالِاعْتِصَامُ وَالْأُلْفَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [3 \ 103] . وَمِنْ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْهَزِيمَةِ مِنْ رُعْبِ الْقُلُوبِ، وَأَسْبَابِ النَّصْرِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، تَعْلَمُ مَدَى تَأْثِيرِ الدَّعَايَاتِ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَمَا سُمِّيَ بِالْحَرْبِ الْبَارِدَةِ مِنْ كَلَامٍ وَإِرْجَافٍ مِمَّا يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهُ أَشَدُّ الْحَذَرِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [33 \ 18] ، وَقَدْ حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ السَّمَاعِ لِهَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [9 \ 47] . وَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، وَبَلَغَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْيَهُودَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَسْتَطْلِعُ خَبَرَهُمْ، وَأَوْصَاهُمْ إِنْ هُمْ رَأَوْا غَدْرًا أَلَّا يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ، وَأَنْ يَلْحَنُوا لَهُ لَحْنًا حِفَاظًا عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْعَادًا لِلْإِرْجَافِ فِي صُفُوفِهِمْ. كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَثَرَ الدِّعَايَةِ الْحَسَنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ [8 \ 60] ، وَقَدْ كَانَ بِالْفِعْلِ لِخُرُوجِ جَيْشِ أُسَامَةَ بَعْدَ انْتِقَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَعِنْدَ تَرَبُّصِ الْأَعْرَابِ كَانَ لَهُ الْأَثَرُ الْكَبِيرُ فِي إِحْبَاطِ نَوَايَا الْمُتَرَبِّصِينَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: مَا أَنْفَذُوا هَذَا الْبَعْثَ إِلَّا وَعِنْدَهُمُ الْجُيُوشُ الْكَافِيَةُ، وَالْقُوَّةُ اللَّازِمَةُ. وَمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَمَلِيٍّ، إِذْ يُقَلِّلُ كُلَّ فَرِيقٍ فِي أَعْيُنِ الْآخَرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 [8 \ 43 - 44] ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَنْبَغِي الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ الْيَوْمَ عَلَى الْعَدُوِّ فِي قَضِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. الْمُشَاقَّةُ: الْعِصْيَانُ، وَمِنْهُ شَقُّ الْعَصَا، وَالْمُخَالَفَةُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْقَعَ مَا أَوْقَعَهُ بِبَنِي النَّضِيرِ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّ الْمُشَاقَّةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ عِلَّةُ الْعُقُوبَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُشَاقَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ. وَفِي الْآيَةِ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُشَاقَّةَ قَدْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِمْ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ كَمَا وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [8 \ 12] ، وَهَذَا فِي بَدْرٍ قَطْعًا، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [8 \ 13] ، وَلَمَّا قَدَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يُوقِعْ بِهِمْ مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنْ قَتْلٍ بَلْ قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» فَوُجِدَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْمُشَاقَّةُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَتَخْرِيبُ الْبُيُوتِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِهَذَا التَّخْرِيبِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَاقَّةُ حَصَلَ التَّخْرِيبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا. اهـ. وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي آَدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَفِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ النَّقْضِ، وَعَنْوَنَ لَهُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ بِقَوْلِهِ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِنَقْضٍ سَوَاءً لِوُجُودِ مَانِعٍ أَوْ تَخَلُّفِ شَرْطٍ. وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ مَانِعٍ بِقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ عَمْدًا، مَعَ عَدَمِ قَتْلِهِ قِصَاصًا بِهِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقِصَاصِ مَوْجُودَةٌ، وَهِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْقِصَاصُ مُتَخَلِّفٌ. وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ بِسَرِقَةِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 ثُمَّ قَالَ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا لَا لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [59 \ 3] ، قَالُوا: فَهَذِهِ الْعِلَّةُ، الَّتِي هِيَ مُشَاقَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَدْ تُوجَدُ فِي قَوْمٍ يُشَاقُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنِ النَّقْضَ فِي فَنِّ الْأُصُولِ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ مُطْلَقًا، لَا نَقْضٌ لَهَا، وَعَزَاهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ لِلْأَكْثَرِينَ فِي قَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ فِي الدَّلِيلِ فِي الْأُصُولِ: مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ ... سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ ... بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحِّحٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَسْتُ فِيمَا اسْتَنْبَطْتُ بِضَائِرٍ ... إِنْ جَاءَ لِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ لِمَانِعٍ وَقَدْ أَطْلَعَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ عَلَى شَرْحٍ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ فِي أَوَائِلِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ: ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ وَلَا يُرَاعِ وَتَكَلَّمَ عَلَى حُكْمِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، ثُمَّ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَخْطُوطِ مَا نَصُّهُ: وَرَجَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ كَتَخْصِيصِ النَّصِّ مُطْلَقًا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ الْآيَةَ [59 \ 3] ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَهُمْ مِثْلَ مَا فَعَلَ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. إِلَّا أَنِّي طَلَبْتُ هَذَا التَّرْجِيحَ فِي ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الْآيَةِ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَلَعَلَّهُ فِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ. أَمَّا مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنِ الْبَعْضِ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ: قَدْ يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنِ الْعِلَّةِ، لَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَخَلُّفِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَأَنَّ الْعِلَّةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 مُرَكَّبَةٌ، أَيْ هِيَ فِي الْيَهُودِ مُشَاقَّةٌ وَزِيَادَةٌ، تِلْكَ الزِّيَادَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِ الْيَهُودِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ، وَذَلِكَ أَنَّ مُشَاقَّةَ غَيْرِ الْيَهُودِ كَانَتْ؛ لِجَهْلِهِمْ وَشَكِّهِمْ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 78 - 79] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «ص» : وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي [38 \ 4 - 8] . فَهُمْ فِي عَجَبٍ وَدَهْشَةٍ، وَاسْتِبْعَادٍ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُمْ فِي شَكِّ مِنْ أَمْرِهُمْ، فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِزَالَةِ الشَّكِّ وَالتَّثَبُّتِ مِنَ الْأَمْرِ، وَلِذَا لَمَّا زَالَ عَنْهُمْ شَكُّهُمْ وَتَبَيَّنُوا مِنْ أَمْرِهُمْ، وَرَاحُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، بَيْنَمَا كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِ جُحُودًا بَعْدَ مَعْرِفَةٍ، فَكَانُوا يَعْرِفُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [2 \ 146] ، وَقَدْ سُمِّيَ لَهُمْ فِيمَا أَنْزَلَ كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [61 \ 6] فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ بَيَانٌ، وَلَكِنَّهُ الْحَسَدُ وَالْجُحُودُ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [2 \ 109] ، وَقَوْلِهِ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [3 \ 69] ، وَقَوْلِهِ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [2 \ 75] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [3 \ 71] . فَقَدْ كَانُوا جَبْهَةَ تَضْلِيلٍ لِلْنَاسِ، وَتَحْرِيفٍ لِلْكِتَابِ، وَتَلْبِيسٍ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، كُلُّ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ وَعِلْمٍ، بِدَافِعِ الْحَسَدِ وَمُنَاصَبَةِ الْعَدَاءِ وَخَصْمٌ هَذَا حَالُهُ فَلَا دَوَاءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُؤْمَنُ جَانِبُهُ، وَالْمُضَلِّلَ لَا يُصَدَّقُ، وَالْحَاسِدَ لَا يَشْفِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ، وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الطَّمَعَ عَنْ إِيمَانِهِمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [2 \ 75] ، كَمَا أَيْأَسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَغَلُّفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَرُؤْيَةِ النُّورِ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 [2 \ 88] . وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا هَذَا الْحُكْمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [2 \ 84 - 85] . فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ، وَالْغَدْرِ فِي الصُّلْحِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِيمَانِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَالْكُفْرِ بِبَعْضِهِ، كَانَ خَاصًّا بِالْيَهُودِ، فَكَانَتِ الْعِلَّةُ مُرَكَّبَةً مِنَ الْمُشَاقَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا، وَكَانَ الْحُكْمُ صَرِيحًا هُنَا بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [2 \ 85] ، وَكَانَ خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا وَقَعَ بِهِمْ مِنْ إِخْرَاجٍ، وَتَخْرِيبٍ، وَتَقْتِيلٍ. وَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ الْكُلِّيُّ بِإِخْرَاجِهِمْ أَوْ تَقْتِيلِهِمْ، فَلَمْ يَعُدْ يَصْلُحُ فِيهِمُ اسْتِصْلَاحٌ وَلَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ صَلَاحٌ، وَيَكْفِي شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَتَّعِظُوا، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [59 \ 2] . مَا اتَّعَظَ بَنُو قُرَيْظَةَ بِمَا وَقَعَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَجَئُوا بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ إِلَى مَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ، فَكَانَ اخْتِصَاصُ الْيَهُودِ بِالْحُكْمِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْمُشَاقَّةِ فَلَمْ يُشَارِكْهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ دَوَافِعِ الْمُشَاقَّةِ. وَلِلدَّوَافِعِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، فَقَدِ اشْتَرَكَ آدَمُ وَإِبْلِيسُ فِي عُمُومِ عِلَّةِ الْعِصْيَانِ، إِذْ نُهِيَ آدَمُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ، وَأُمِرَ إِبْلِيسُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَكَلَ آدَمُ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ فَاشْتَرَكَا فِي الْعِصْيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آدَمَ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [20 \ 121] ، وَقَالَ عَنْ إِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] ، وَلَكِنَّ السَّبَبَ كَانَ مُخْتَلِفًا، فَآدَمُ نَسِيَ وَوَقَعَ تَحْتَ وَسْوَسَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 الشَّيْطَانِ فَخُدِعَ بِقَسَمِ إِبْلِيسَ بِاللَّهِ تَعَالَى: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [7 \ 21] ، وَكَانَتْ مَعْصِيَةٌ عَنْ إِغْوَاءٍ وَوَسْوَسَةٍ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [2 \ 36] . أَمَّا إِبْلِيسُ، فَكَانَ عِصْيَانُهُ عَنْ سَبْقِ إِصْرَارٍ، وَعَنْ حَسَدٍ وَاسْتِكْبَارٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [2 \ 34] ، وَلَمَّا خَاطَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [38 \ 75] ، قَالَ فِي إِصْرَارِهِ وَحَسَدِهِ وَتَكَبُّرِهِ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [38 \ 76] . فَاخْتَلَفَتِ الدَّوَافِعُ وَكَانَ لَدَى إِبْلِيسَ مَا لَيْسَ لَدَى آدَمَ فِي سَبَبِ الْعِصْيَانِ وَبِالتَّالِي اخْتَلَفَتِ النَّتَائِجُ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ مُخْتَلِفَةً تَمَامًا. أَمَّا آدَمُ فَحِينَ عَاتَبَهُ عَلَى أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [7 \ 22] رَجَعَا حَالًا، وَاعْتَرَفَا بِذَنْبِهِمَا قَائِلِينَ: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [7 \ 23] ، وَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ لَهُمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [7 \ 24] . فَكَانَ هُبُوطُ آدَمَ مُؤَقَّتًا، وَلَحِقَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 38] ، فَأَدْرَكَتْهُ هِدَايَةُ اللَّهِ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [2 \ 37] . أَمَّا نَتِيجَةُ إِبْلِيسَ فَلَمَّا عَاتَبَهُ تَعَالَى فِي مَعْصِيَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [38 \ 75] ، كَانَ جَوَابُهُ اسْتِعْلَاءً، وَتَعَاظُمًا، عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا كَانَ فِي جَوَابِ آدَمَ إِذْ قَالَ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [38 \ 76] ، فَكَانَ جَوَابُهُ كَذَلِكَ عَكْسَ مَا كَانَ جَوَابًا عَلَى آدَمَ: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [38 \ 77 - 78] . وَلَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الَّذِي جَرَّ عَلَى إِبْلِيسَ هَذَا كُلَّهُ هُوَ الْحَسَدُ، حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ فَاحْتَقَرَهُ، وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ فِي الْعِصْيَانِ، وَكَانَتْ نَتِيجَتُهُ الطَّرْدَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 وَهَكَذَا الْيَهُودُ: إِنَّ دَاءَهُمُ الدَّفِينَ هُوَ الْحَسَدُ، وَالْعُجْبُ بِالنَّفْسِ، فَجَرَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَوَقَعُوا فِي الْخِيَانَةِ، وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ الْقَتْلَ، وَالطَّرْدَ. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُشَاقَّةَ الْيَهُودِ هَذِهِ هِيَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَتَهَدَّدَهُمْ إِنْ هُمْ عَادُوا لِلثَّالِثَةِ عَادَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَهَاهُمْ قَدْ عَادُوا، وَشَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [17 \ 8] ، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُضِيَ إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ - وَبَيَّنَ نَتَائِجَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ - بَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا: أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعُودُ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَمْ لَا؟ . وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتْمِ صِفَاتِهِ، وَنَقَضِ عُهُودِهِ، وَمُظَاهَرَةِ عَدُّوهِ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمِ الْقَبِيحَةِ، فَعَادَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ، وَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَبَنِي النَّضِيرِ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ، مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّلْبِ وَالْإِجْلَاءِ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [2 \ 89 - 90] ، وَقَوْلُهُ: الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [2 \ 100] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [5 \ 13] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 [59 \ 2 - 4] ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ [33 \ 26 - 27] اهـ مِنْهُ. فَهَذَا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَانٌ وَدَلِيلٌ إِلَى مُغَايَرَةِ الْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْيَهُودِ لِلْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّنْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ؛ لِتَخَلُّفِ بَعْضِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ. الْلِينَةُ هُنَا، قِيلَ: اسْمٌ عَامٌّ لِلنَّخْلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الْبَرْنِيَّ وَالْعَجْوَةَ فَقَطْ. وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: اللِّينَةُ مِنَ اللَّوْنِ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَةً؛ لِأَنَّهَا فِعْلَةٌ مِنْ فَعَلَ وَهُوَ اللَّوْنُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتْ إِلَى يَاءٍ إِلَخْ، وَهَذَا الْأَخِيرُ قَرِيبٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، حَيْثُ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ: لُونَةٍ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ اسْمًا خَاصًّا، وَلَعَلَّ كَلِمَةَ لُونَةٍ مُحَرَّفَةٌ عَنْ كَلِمَةِ لِينَةٍ، وَيُوجَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخِيلِ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَبْعِينَ نَوْعًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْلِينَةَ كُلُّ شَجَرَةٍ لِلُيُونَتِهَا بِالْحَيَاةِ. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَقْطِيعِ وَتَحْرِيقِ بَعْضِ النَّخِيلِ لِبَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ حِصَارِهِمْ وَقَطَعَ مِنَ الْبُسْتَانِ الْمَعْرُوفِ بِالْبُوَيْرَةِ، كَمَا رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ. وَقَالَ حَسَّانٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ وَالْبُوَيْرَةُ مَعْرُوفَةٌ الْيَوْمَ، وَهِيَ بُسْتَانٌ يَقَعُ فِي الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ نَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَ مِنَ الْإِثْمِ، وَأَنَّ قَطْعَ مَا قُطِعَ وَتَرْكَ مَا تُرِكَ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: الْإِذْنُ الْقَدَرِيُّ وَالْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، أَيْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [3 \ 166] ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [3 \ 152] . وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [22 \ 39] ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقِتَالِ إِذْنٌ بِكُلِّ مَا يَتَطَلَّبُهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ. وَالْحِصَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَعَلَّ مِنْ مَصْلَحَةِ الْحِصَارِ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ لِتَمَامِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ لِإِحْكَامِ الْحِصَارِ، أَوْ لِإِذْلَالِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ فِي حِصَارِهِ وَإِشْعَارِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَةِ أَمْوَالِهِ، وَمُمْتَلَكَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِثَارَةٌ لَهُ؛ لِيَنْدَفِعَ فِي حَمِيَّةٍ لِلدِّفَاعِ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَيَنْكَشِفَ عَنْ حُصُونِهِ وَيَسْهُلَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالَّتِي أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ أَيْ: بِعَجْزِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ نَخِيلَهُمْ يُقْطَعُ، وَيُحْرَقُ فَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ دَفْعًا. وَعَلَى كُلٍّ فَالَّذِي أَذِنَ بِالْقِتَالِ وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَإِزْهَاقُ الْأَنْفُسِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سَبْيٍ وَغَنَائِمَ لَا يَمْنَعُ فِي مِثْلِ قَطْعِ النَّخِيلِ إِنْ لَزِمَ الْأَمْرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا أَذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَذِنَ. وَبِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا، وَرَأَوْا أَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مِنْ مَذَلَّةِ الْعَدُوِّ إِتْلَافَ مُنْشَآتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَغَايَةُ مَا فِيهِ، أَنَّهُ إِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَأَخْذِ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، كَعَمَلِ الْخِضْرِ فِي سَفِينَةِ الْمَسَاكِينَ لَمَّا خَرَقَهَا، أَيْ أَعَابَهَا بِإِتْلَافِ بَعْضِهَا؛ لِيَسْتَخْلِصَهَا مِنِ اغْتِصَابِ الْمَلِكِ إِيَّاهَا، وَقَالَ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [18 \ 82] . وَقَدْ جَاءَ اعْتِرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا اعْتَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [2 \ 217] . فَقَدْ تَعَاظَمَ الْمُشْرِكُونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتَحَقَّقُوا دُخُولَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَاتَّهَمُوهُمْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُوجِبِ مَا قَالُوا بِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَلَكِنْ مَا ارْتَكَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٍ بِاللَّهِ، وَصَدٍّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ عَنِ الدِّينِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أَيْ: الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَكَذَا هُنَا لَئِنْ تَعَاظَمَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ، وَعَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِيقَاعَ الْفَسَادِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْمَالِ فَكَيْفَ بِهِمْ بِغَدْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ نَقْضِهِمِ الْعُهُودَ، وَتَمَالُئِهِمْ عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ سَجَّلَ هَذَا الْمَعْنَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ: لَقَدْ خَزِيَتْ بِغَدْرَتِهَا الْحُبُورُ ... كَذَاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبٍّ ... عَظِيمٍ أَمْرُهُ أَمْرٌ كَبِيرٌ وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا ... وَجَاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذِيرُ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وَكُفْرًا ... وَحَادَ بِهِمْ عَنِ الْحَقِّ النُّفُورُ أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ ... وَكَانَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَا يَجُورُ فَأَيَّدَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمُ ... وَكَانَ نَصِيرَهُ نِعْمَ النَّصِيرُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ خِزْيَ بَنِي النَّضِيرِ بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَكَانَ الْإِذْنُ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ هُوَ عَمَلٌ تَشْرِيعِيٌّ إِذَا مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، لِمِثْلِ مَا دَعَتِ الْحَاجَّةُ هَنَا إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُمْ) هُنَا عَائِدٌ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ. وَالْفَيْءُ: الْغَنِيمَةُ بِدُونِ قِتَالٍ، وَقَدْ جَعَلَهُ تَعَالَى هُنَا عَلَى رَسُولِهِ خَاصَّةً. وَقَالَ: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [59 \ 6] أَيْ: لَمَّا كَانَ إِخْرَاجُ الْيَهُودِ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَبِمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ هَذَا الْفَيْءُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ جَاءَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي سَاقَهُ الشَّيْخُ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عِنْدَ آخَرِ كَلَامِهِ عَلَى مَبَاحِثِ «الْأَنْفَالِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَا مِنَ الْمَغَانِمِ، وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ أَوْسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ مُطَالَبَةِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: قَدِيرٌ [59 \ 6] ، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهُ وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَا لِلَّهِ إِلَخْ. اهـ. وَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَّةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ جَاءَ بَعْدَهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَيْ: عُمُومًا فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [59 \ 7] . وَهَذِهِ الْآيَةُ لِعُمُومِهَا مَصْدَرًا وَمَصْرِفًا، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَحْكَامٍ وَمَبَاحِثَ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ مَا فِيهَا عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ [8 \ 1] ، فَاسْتَوْفَى وَاسْتَقْصَى وَفَصَّلَ وَبَيَّنَ مَصَادِرَ وَمَصَارِفَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ، وَمَا فُتِحَ مِنَ الْبِلَادِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً، وَمَسَائِلَ عَدِيدَةً مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَا غِنَى عَنْهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 مَعْنَى الدُّولَةِ وَالدَّوْلَةِ بِضَمِّ الدَّالِّ فِي الْأُولَى، وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِيَةِ: يَدُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ: الظُّفْرُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ: كَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى الْفُقَرَاءَ، لِيَكُونَ لَهُمْ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا جَدًّا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَاثَرُونَ بِهِ، أَوْ كَيْلَا يَكُونَ دَوْلَةً جَاهِلِيَّةً بَيْنَهُمْ. وَمَعْنَى الدَّوْلَةِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّ الرُّؤَسَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّئَاسَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالدَّوْلَةِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَالْمَعْنَى: كَيْلَا يَكُونَ أَخْذُهُ غَلَبَةً أَثَرَةً جَاهِلِيَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: اتَّخَذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا، يُرِيدُ مَنْ غَلَبَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ، إِلَخْ. وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ هُنَا: أَنَّ دُعَاةَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الْفَاسِدَةِ، يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمِ الْفَاسِدِ وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ لِلدَّوْلَةِ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَى مَصَادِرِ الْإِنْتَاجِ وَرُءُوسِ الْأَمْوَالِ؛ لِتُعْطِيَهَا أَوْ تُشْرِكَ فِيهَا الْفُقَرَاءَ، وَمَا يُسَمُّونَهُمْ طَبَقَةَ الْعُمَّالِ، وَهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ كَسَادٍ اقْتِصَادِيٍّ، وَفَسَادٍ اجْتِمَاعِيٍّ، قَدْ ثَبَتَ خَطَؤُهُ، وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ مُجَانِبًا لِحَقِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ. لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ تُرِكَ لِمَرَافِقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَتَأْمِينِ الْغُزَاةِ فِي الْحُدُودِ وَالثُّغُورِ، وَلَيْسَ يُعْطَى لِلْأَفْرَادِ كَمَا يَقُولُونَ، ثُمَّ هُوَ أَسَاسًا مَالٌ جَاءَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ نَتِيجَةَ كَدْحِ الْفَرْدِ وَكَسْبِهِ. وَلَمَّا كَانَ مَالُ الْغَنِيمَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِشَخْصٍ، وَلَا هُوَ أَيْضًا كَسْبٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، تَحَقَّقَ فِيهِ الْعُمُومُ فِي مَصْدَرِهِ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، وَالْعُمُومُ فِي مَصْرِفِهِ، وَهُوَ عُمُومُ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَلَا دَخْلَ وَلَا وُجُودَ لِلْفَرْدِ فِيهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ فِي التَّشْرِيعِ وَهَذَا الْفَرْعِ فِي التَّضْلِيلِ. وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّهُمْ يُؤَيِّدُونَ دَعْوَاهُمْ بِإِقْحَامِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا دَامَتْ عَلَى عُمُومِهَا فَالْمَاءُ شَرِكَةٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ مَا دَامَ فِي مَوْرِدِهِ مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْبِئْرِ الْعَامِّ أَوِ السَّيْلِ أَوِ الْغَدِيرِ. أَمَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ مَوْرِدِهِ الْعَامِّ، وَأَصْبَحَ فِي حِيَازَةٍ مَا فَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ مَعَ مَنْ حَازَهُ، كَمَنْ مَلَأَ إِنَاءً مِنَ النَّهْرِ أَوِ السَّيْلِ وَنَحْوِهِ، فَمَا كَانَ فِي إِنَائِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ، وَهَذَا الْكَلَأُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 مَا دَامَ عُشْبًا فِي الْأَرْضِ الْعَامَّةِ لَا فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ عَامٌّ لِمَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ، فَإِذَا مَا احْتَشَّهُ إِنْسَانٌ وَحَازَهُ فَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ نَابِتًا فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ فَهُوَ مُشَاعٌ لِلْجَمِيعِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ يُصَادُ. فَإِنَّهُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الصَّيَّادِينَ، فَإِذَا مَا صَادَهُ إِنْسَانٌ فَقَدْ حَازَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَعْتَرِفُ فِيهِ جَمِيعُ النُّظُمِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَتُعْطَى تَرَاخِيصٌ رَسْمِيَّةٌ لِذَلِكَ. وَهُنَاكَ الْعَمَلُ الْجَارِي فِي تِلْكَ الدُّوَلِ، مِمَّا يَجْعَلُهُمْ يَتَنَاقَضُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ، وَذَلِكَ فِي شَرِكَاتِ الْمِيَاهِ وَالنُّورِ؛ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِي كُلِّ بَيْتٍ عَدَّادًا يَعُدُّ جَالُونَاتِ الْمَاءِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا الْمَنْزِلُ وَيُحَاسِبُونَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَأَخَّرَ قَطَعُوا عَلَيْهِ الْمَاءَ وَحَرَمُوهُ مِنْ شُرْبِهِ. وَكَذَلِكَ التَّيَّارُ الْكَهْرَبَائِيُّ؛ فَإِنَّهُ نَارٌ، وَهُوَ الطَّاقَةُ الْفَعَّالَةُ فِي الْمُدُنِ فَإِنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ بِعَدَّادٍ يَعُدُّ الْكِيلُواتْ، وَيَبِيعُونَهُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ، فَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُونَ الْمَاءَ وَالْكَهْرَبَاءَ، شَرِكَةً بَيْنَ الْمُوَاطِنِينَ؟ أَمِ النَّاسُ شُرَكَاءُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَى الدَّوْلَةِ، أَمَّا حَقُّ الدَّوْلَةِ فَخَاصٌّ لِلْحُكَّامِ؟ إِنَّهُ عَكْسُ مَا فِي قَضِيَّةِ الْفَيْءِ تَمَامًا. حَيْثُ إِنَّ الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ حَلَالًا مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ كَسْبٌ عَامٌّ دَخَلَ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَجْهُودِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، الْمَاثِلِ فِي الْجَيْشِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِاسْمِهَا، وَجَعَلَهُ تَعَالَى فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . (فَلِلَّهِ) : أَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (وَلِلرَّسُولِ) : لِقِيَامِهِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ عَامًا، وَمَا بَقِيَ يَرُدُّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (وَلِذِي الْقُرْبَى) : مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) : هَذَا هُوَ التَّكَافُلُ الِاجْتِمَاعِيُّ فِي الْأُمَّةِ. (وَابْنِ السَّبِيلِ) : الْمُنْقَطِعُ فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُوَاصَلَاتِ. فَكَانَ مَصْرِفُهُ بِهَذَا الْعُمُومِ دُونَ اخْتِصَاصِ شَخْصٍ بِهِ أَوْ طَائِفَةٍ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ. وَإِنَّهُ لَمِنْ مَوَاطِنِ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ هَذَا التَّشْرِيعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ [59 \ 7] ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي أَمْرٍ يَمَسُّ الْوَتَرَ الْحَسَّاسَ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ مَوْطِنُ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ أَلَا وَهُوَ كَسْبُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ صِنْوُ النَّفْسِ، وَالَّذِي تَوَلَّى اللَّهُ قِسْمَتَهُ فِي أَهَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ. قَسَّمَهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا فُرُوضَهُ، وَحِصَّةَ كُلِّ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَكَسْبٌ إِجْبَارِيٌّ. وَالنُّفُوسُ مُتَطَلِّعَةٌ إِلَيْهِ فَتَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ، وَحَرَّمَ الْغُلُولَ فِيهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَمَثَلُ هَذَا الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَلِفُوا قِسْمَتَهُ مَغْنَمًا، وَالَّذِي بَذَلُوا النُّفُوسَ وَالْمُهَجَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَيُقَسَّمُ الْمَنْقُولُ فَقَطْ، وَلَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ الثَّابِتُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: حَدَثَ هَذَا كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ سَوَاءٌ الْأَغْنِيَاءُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى الْجِهَادِ أَوِ الْأَغْنِيَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ بِمَا حَصَّلُوهُ مِنْ مَغَانِمَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَكَانَ لَابُدَّ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ نَحْوَ هَذَا الْمَالِ، وَفِعْلًا نَاقَشُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ - وَلَكِنْ هُنَا يَأْتِي سَوْطُ الطَّاعَةِ الْمُسَلَّتُ، وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ الْمُسَكِّتُ إِنَّهُ عَنِ اللَّهِ أَتَاكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي جَمِيعِ التَّشْرِيعِ إِلَّا أَنَّهَا هُنَا أَخَصُّ، وَهِيَ بِهِ أَقْرَبُ، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجُ. وَهُنَا يَنْتَقِلُ بِنَا الْقَوْلُ إِلَى مَا آتَانَا بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي هَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ أَيْ: مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَمْوَالِ. لَقَدْ جَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارُ يُؤْثِرُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَقَدْ أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَى شُحِّ نُفُوسِهِمْ، فَمُجْتَمَعُهُمْ مُجْتَمَعُ بَذْلٍ وَإِعْطَاءٍ وَتَضْحِيَةٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 وَإِيثَارٍ، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ كَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَهُ الضَّيْفُ فَلَا يَجِدُ لَهُ قِرًى فِي بَيْتِهِ، فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ يُضَيِّفُ هَذَا، اللَّيْلَةَ وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» فَيَأْخُذُهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَيَأْتِيهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَطْلُبُونَهُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، فَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَيَتَوَلَّوْنَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَأْتِيهِ الْقَدَحُ مِنَ اللَّبَنِ، فَيَدْعُو: «يَا أَهْلَ الصُّفَّةِ» لِيُشَارِكُوهُ إِيَّاهُ لِقِلَّةِ مَا عِنْدَهُمْ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُصْرَعُ عَلَى بَابِهِ مِنَ الْجُوعِ، بَيْنَمَا الْعَدِيدُ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوُو يَسَارٍ، مِنْهُمْ مَنْ يُجَهِّزُ الْجَيْشَ مِنْ مَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِالْقَافِلَةِ كَامِلَةً وَمَا فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِخِيَارِ بَسَاتِينِ الْمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ، فَلَمْ يَأْخُذْ قَطُّ وَلَا دِرْهَمًا وَاحِدًا مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِقَافِلَةٍ كَامِلَةٍ وَمَا تَحْمِلُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ دِرْهَمًا بِدُونِ رِضَاهُ، لِيُشَارِكَ مَعَهُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلَا مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِبُسْتَانِهِ صَاعَ تَمْرٍ يُعْطِيهِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، يَسُدُّ مَسْغَبَتَهُ، وَلَا بَعِيرًا وَاحِدًا مِمَّنْ جَهَّزَ جَيْشًا مِنْ مَالِهِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مُتَطَوِّعًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. إِنَّهَا أَمْوَالٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَأَمْلَاكٌ مُسْتَقِرَّةٌ خَاصَّةٌ بِأَصْحَابِهَا، فَهُنَاكَ غَنِيمَةٌ وَفَيْءٌ أُخِذَ بِقُوَّةِ الْأُمَّةِ وَمَدَدِهَا لِلْجَيْشِ، جُعِلَ فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ لِلْأُمَّةِ وَلِلْجَيْشِ، وَهُنَا أَمْوَالٌ خَاصَّةٌ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ تُلْمَسْ، إِلَّا بِرِضَى نَفْسٍ وَطِيبِ خَاطِرٍ، وَلِذَا كَانُوا يَجُودُونَ وَلَا يَبْخَلُونَ، وَيَعْطُونَ وَلَا يَشُحُّونَ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَكَانَ مُجْتَمَعًا مُتَكَافِلًا مُؤْتَلِفًا مُتَعَاطِفًا وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا الْمُجْتَمَعِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مُجْتَمَعِ الْمَدِينَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [59 \ 8] ، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلَامٌ مُقْنِعٌ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [43 \ 32] ، نَسُوقُ نَصَّهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ: قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَسْأَلَةٌ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [16 \ 71] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [35 \ 43] وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 النُّبُوَّاتِ وَالرَّسَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَى ابْتِزَازِ ثَرَوَاتِ النَّاسِ وَنَزْعِ مِلْكِهِمِ الْخَاصِّ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، بِدَعْوَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ، أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الَّذِي يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ اسْتِئْثَارَهُمْ بِأَمْلَاكِ جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِيَنْعَمُوا بِهَا وَيَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا تَحْتَ سِتَارٍ كَثِيفٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ، كَمَا يَتَحَقُّقُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مُطَّلِعٍ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ فِي بِلَادِهِمْ. فَالطُّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ، وَهَذَا غَنِيٌ، وَقَدْ نَهَى جَلَّ وَعَلَا عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [4 \ 135] ، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. انْتَهَى حَرْفِيًّا. وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْزَاقَ قِسْمَةُ الْخَلَّاقِ، فَهُوَ أَرْأَفُ بِالْعِبَادِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ فِي خَزَائِنِهِ مِنْ نَقْصٍ وَلَكِنَّهَا الْحِكْمَةُ لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ» ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُعْطِي بِقَدَرٍ، وَلَا يُمْسِكُ عَنْ قَتَرٍ. وَيَكْفِي فِي هَذَا الْمَقَامِ سِيَاقُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي أُسْلُوبِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا [43 \ 32] ، وَهَذَا الضَّمِيرُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَمِثْلُهُ الضَّمِيرُ فِي «قَسَمْنَا» ، فَلَا مَجَالَ لِتَدَخُّلِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا مَكَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَالْقِسْمَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَقْوَى قُوَّةٌ فِي الْأَرْضِ عَلَى إِبْطَالِهَا، ثُمَّ إِنَّ وَاقِعَ الْحَيَاةِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ بَلْ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [43 \ 32] . وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَيُقِرُّونَ نِظَامَ الطَّبَقَاتِ عُمَّالًا وَغَيْرَ عُمَّالٍ، إِلَخْ، فَلَا دَلِيلَ فِي آيَةِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» هُنَا: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا فَعَلُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِهَذَا الْمَبْدَأِ الْبَاطِلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُقَدِّمَةِ: إِنَّ السُّنَةَ كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَيْ: أَنَّهَا مُلْزِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِالسُّنَّةِ أَخْذًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] . وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ: وَحْيٌ أُمِرْنَا بِكِتَابَتِهِ، وَتَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَتِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ. وَوَحْيٌ لَمْ نُؤْمَرْ بِكِتَابَتِهِ، وَلَمْ نَتَعَبَّدْ بِتِلَاوَتِهِ وَهُوَ السُّنَّةُ. وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخَلَفُهَا، كَمَا جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَجْلِسِهِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: لَعَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ دَفَّتِهِ إِلَى دَفَّتِهِ، فَلَمْ أَجِدْ هَذَا الَّذِي قُلْتَ، فَقَالَ لَهَا: لَوْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَوَجَدْتِيهِ، أَوْ لَمْ تَقْرَئِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَمَنْ لَعَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ لَعَنَهَا اللَّهُ، فَقَالَتْ لَهُ: لَعَلَّ بَعْضَ أَهْلِكِ يَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ لَهَا: ادْخُلِي وَانْظُرِي فَدَخَلَتْ بَيْتَهُ، ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا: مَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، وَانْصَرَفَتْ. وَجَاءَ الشَّافِعِيُّ وَقَامَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: سَلُونِي يَا أَهْلَ مَكَّةَ عَمَّا شِئْتُمْ أُجِبْكُمْ عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، سُئِلَ: الْمُحْرِمُ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَقَدِ اعْتَبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ السُّنَّةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقُرْآنِ، وَاعْتَبَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَوَابَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ يُخَصِّصُونَ بِهَا عُمُومَ الْكِتَابِ، وَيُقَيِّدُونَ مُطْلَقَهُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» فَخَصَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [5 \ 3] ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا» ، وَخُصَّ بِهَا عُمُومُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [4 \ 24] ، وَنَحْوَهُ كَثِيرٌ. وَمِنَ الثَّانِي: قَطْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ، وَكَذَلِكَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّمِ تَقْيِيدًا أَوْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [5 \ 6] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ كَبَيَانِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [2 \ 43] ، فَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ لِكُلِّ وَقْتٍ، وَلَا كَيْفِيَّةَ الْأَدَاءِ فَصَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَجَّ وَقَالَ لَهُمْ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السُّنَةَ أَقْوَالٌ، وَأَفْعَالٌ، وَتَقْرِيرٌ، وَقَدْ أَلْزَمَ الْعَمَلَ بِالْأَفْعَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ، وَالتَّأَسِّي يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ، وَلَكِنَّهُ فِي الْفِعْلِ أَقْوَى، وَالتَّقْرِيرُ مُنْدَرِجٌ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَالتَّرْكُ فِعْلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ: وَالتَّرْكُ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ تَنْبِيهٌ تَنْقَسِمُ أَفْعَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ: أَوَّلًا: مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ، وَهُوَ مُتَطَلَّبَاتُ الْحَيَاةِ مِنْ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَلُبْسٍ، وَنَوْمٍ، فَهَذَا كُلُّهُ يَفْعَلُهُ اسْتِجَابَةً لِمُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَيَفْعَلُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنْ صُورَةُ الْفِعْلِ، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَوْنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ بِالْيَمِينِ إِلَخْ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَمَامِ الْآكِلِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ نَوْعُ الْمَأْكُولِ أَوْ تَرْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِمَانِعٍ كَعَدَمِ أَكْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلضَّبِّ وَالْبُقُولِ الْمَطْبُوخَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ فَكَانَ يَعَافُهُ، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُنَاجِي مَنْ لَا نُنَاجِي، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي: وَفِعْلُهُ الْمَرْكُوزُ فِي الْجِبِلَّةِ ... كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ مُلْهٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 مِنْ غَيْرِ لَمْحِ الْوَصْفِ. . . ثَانِيًا: مَا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْجِبِلَّةِ وَالتَّشْرِيعِ كَوُقُوفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ رَاكِبًا عَلَى نَاقَتِهِ، وَنُزُولِهِ بِالْمُحْصِبِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ مِنًى، فَالْوُقُوفُ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ يَتِمُّ بِالتَّوَاجُدِ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ، فَهَلْ كَانَ وُقُوفُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِبًا مِنْ تَمَامِ نُسُكِهِ، أَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ دُونَ قَصْدٍ إِلَى النُّسُكِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَا يَبْعُدُ مَنْ يَقُولُ: قَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا؛ لِيَكُونَ أَبْرَزَ لِشَخْصِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ، تَسْهِيلًا عَلَى مَنْ أَرَادَهُ لِسُؤَالٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَيَكُونُ تَشْرِيعًا لِمَنْ يَكُونُ فِي مَنْزِلَتِهِ فِي الْمَسْئُولِيَّةِ. ثَالِثًا: مَا ثَبَتَتْ خُصُوصِيَّتُهُ بِهِ مِثْلُ جَوَازِ جَمْعِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِالنِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [33 \ 50] ، وَكُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَنِكَاحِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [33 \ 50] فَهَذَا لَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِيهِ. رَابِعًا: مَا كَانَ بَيَانًا لِنَصٍّ قُرْآنِي، كَقَطْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ، وَكَأَعْمَالِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ، فَهُمَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [2 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، فَهَذَا الْقِسْمُ حُكْمُهُ لِلْأُمَّةِ، حُكْمُ الْمُبَيَّنُ بِالْفَتْحِ، فَفِي الْوُجُوبِ وَاجِبٌ، وَفِي غَيْرِهِ بِحَسْبِهِ. خَامِسًا: مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا لِجِبِلَّةٍ وَلَا لِبَيَانٍ، وَلَمْ تَثْبُتْ خُصُوصِيَّتُهُ لَهُ، فَهَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوبٍ، أَوْ نَدْبٍ، أَوْ إِبَاحَةٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ لِلْأُمَّةِ كَذَلِكَ كَصَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَعْبَةِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَائِزَةٌ، فَهِيَ لِلْأُمَّةِ عَلَى الْجَوَازِ. ثَانِيهُمَا: أَلَّا يُعْلَمَ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي هَذَا الْقِسْمِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَوَّلُهَا: الْوُجُوبُ عَمَلًا بِالْأَحْوَطِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. ثَانِيهَا: النَّدْبُ لِرُجْحَانِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 ثَالِثُهَا: الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ، وَلَكِنَّ هَذَا فِيمَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ، إِذِ الْقُرَبُ لَا تُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ. رَابِعُهَا: التَّوَقُّفُ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لَيْسَ فِيهِ تَأَسٍّ. فَتَحْصُلُ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الصَّحِيحَ الْفِعْلُ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَمَثَّلُوا لِهَذَا الْفِعْلِ بِخَلْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَخَلَعَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُمْ عَنْ خَلْعِهِمْ نِعَالِهِمْ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ فَفَعَلْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِي نَعْلِي أَذًى فَخَلَعْتُهَا» ، فَإِنَّهُ أَقَرَّهُمْ عَلَى خَلْعِهِمْ تَأَسِّيًا بِهِ، وَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْحُكْمَ قَبْلَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ جَاءَ هُنَا مَا تَقُولُونَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ. وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي دَفْعِ الْإِيهَامِ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [8 \ 24] ، مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لِلرَّسُولِ الَّتِي هِيَ طَاعَتُهُ لَا تَجِبُ إِلَّا إِذَا دَعَانَا لِمَا يُحْيِينَا، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، كَقَوْلِهِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] . وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [3 \ 31] ، وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 80] . وَالظَّاهِرُ: أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ آيَاتِ الْإِطْلَاقِ مُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْعُونَا إِلَّا لِمَا يُحْيِينَا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالشَّرْطُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا دَعَاكُمْ، مُتَوَفِّرٌ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَانِ عِصْمَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] . وَالْحَاصِلُ: أَنَّ آيَةَ: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، مُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ إِلَّا لِمَنْ يَدْعُو إِلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْأُخَرَ بَيَّنَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْعُو أَبَدًا إِلَّا إِلَى ذَلِكَ، صَلَوَاتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ كَذَلِكَ حَقِيقَةَ وَمُنْتَهَى مَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «مَا تَرَكْتُ خَيْرًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَمَا تَرَكْتُ شَرًّا يُبَاعِدُكُمْ عَنِ اللَّهِ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، وَحَذَّرْتُكُمْ مِنْهُ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ» . تَنْبِيهٌ الْوَاقِعُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ نُطْقِ الْمُسْلِمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اعْتِرَافٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ وَبِمُسْتَلْزَمَاتِهَا، وَمِنْهَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَى خَلْقِهِ، وَإِنْزَالُ كُتُبِهِ وَقَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، اعْتِرَافٌ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ الْكَرِيمُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إِلَّا بِمَا جَاءَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَهِيَ بِحَقٍّ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [4 \ 59] فَرَبَطَ مَرَدَّ الْخِلَافِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي «سُورَةُ النِّسَاءِ» : أَمَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 80] انْتَهَى. فَاتَّضَحَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَا أَتَانَا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّشْرِيعِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ تَسْتَقِلُّ بِالتَّشْرِيعِ كَمَا جَاءَتْ بِتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَنَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَبِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، أَوْ هِيَ مَعَ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوِ ابْنَةِ أُخْتِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةِ أَهْلِهِ يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخَذْنَاهُ، وَمَا لَمْ نَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَرَكْنَاهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» . وَالنَّصُّ هُنَا عَامٌّ فِي الْأَخْذِ بِكُلِّ مَا أَتَانَا بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَانَا عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [24 \ 61] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [2 \ 286] . وَجَاءَ الْحَدِيثُ فَفَرَّقَ بَيْنَ عُمُومِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [5 \ 2] ، إِيذَانًا بِأَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِلْأُمَّةِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ هَذَا الْإِنْذَارُ الشَّدِيدُ؛ لِأَنَّ مَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، وَطَاعَتَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَصْفٌ شَامِلٌ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي دَوَافِعِ الْهِجْرَةِ، أَنَّهُمْ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وَغَايَتُهَا، وَهِيَ: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْحُكْمُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَمَنْطُوقُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُهَاجِرِينَ، مَعَ أَنَّهُ جَاءَتْ نُصُوصٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى مُشَارَكَةِ الْأَنْصَارِ لَهُمْ فِيهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [8 \ 72] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [8 \ 74] . فَذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَذَكَرَ مَعَهُمُ الْأَنْصَارَ بِالْإِيوَاءِ وَالنَّصْرِ، وَوَصَفَ الْفَرِيقَيْنِ مَعًا بِوَلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ مَعًا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، أَيْ: الصَّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، فَاسْتَوَى الْأَنْصَارُ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ فِي عَامِلِ النُّصْرَةِ وَفِي صِدْقِ الْإِيمَانِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 [59 \ 9] ، وَصْفٌ شَامِلٌ لِلْأَنْصَارِ، (تَبَوَّءُوا الدَّارَ) أَيْ: الْمَدِينَةَ، (وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ: بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْمُهَاجِرِينَ، بَلْ وَمِنْ قَبْلِ إِيمَانِ بَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ، (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) وَيَسْتَقْبِلُونَهُ بِصُدُورٍ رَحْبَةٍ، (وَيُؤْثِرُونَ) غَيْرَهُمْ (عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، لِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا إِلَيْهِمْ. وَظَاهِرُ النُّصُوصِ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَدُلُّ لِمُشَارَكَةِ الْمُهَاجِرِينَ الْأَنْصَارَ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ هُوَ بَذْلُ الْمَالِ لِلْغَيْرِ عِنْدَ حَاجَتِهِ مُقَدِّمًا غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ سَبَقَ أَنْ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْفُسِهِمِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [59 \ 8] ، فَكَانَتْ لَهُمْ دِيَارٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ وَأُخْرِجُوا مِنْهَا كُلِّهَا، فَلَئِنْ كَانَ الْأَنْصَارُ وَاسَوْا إِخْوَانَهُمُ الْمُهَاجِرِينَ بِبَعْضِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَاسَمُوهُمْ مُمْتَلَكَاتِهِمْ، فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَنْزِلُوا عَنْ بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ فَحَسْبُ، بَلْ تَرَكُوهَا كُلَّهَا: أَمْوَالَهُمْ، وَدِيَارَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَهْلَهُمْ، فَصَارُوا فُقَرَاءَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ وَدِيَارِهِ، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ تَضْحِيَةً مِمَّنْ آثَرَ غَيْرَهُ بِبَعْضِ مَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي أَهْلِهِ وَدِيَارِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ عَوَّضَهُمْ بِهَذَا الْفَيْءِ عَمَّا فَاتَ عَنْهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ» فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمْوَالُنَا بَيْنَنَا قَطَائِعُ الْحَدِيثَ. أَيْ أَنَّ الْأَنْصَارَ عَرَفُوا ذَلِكَ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا، فَقَدِ اسْتَوَى الْمُهَاجِرُونَ مَعَ الْأَنْصَارِ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْمِثَالِيِّ الْكَرِيمِ، وَكَانَ خُلُقًا لِكَثِيرِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَمَا كَانَتْ صَائِمَةً، وَلَيْسَ عِنْدَهَا سِوَى قُرْصٍ مِنَ الشَّعِيرِ وَجَاءَ سَائِلٌ فَقَالَتْ لِبَرِيرَةَ: ادْفَعِي إِلَيْهِ مَا عِنْدَكِ، فَقَالَتْ لَهَا: لَيْسَ إِلَّا مَا سَتُفْطِرِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهَا: ادْفَعِيهِ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّهَا أَحْوَجُ إِلَيْهِ الْآنَ، أَوْ كَمَا قَالَتْ. وَلَمَّا جَاءَ الْمَغْرِبُ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ رِجْلُ شَاةٍ بِقِرَامِهَا - وَقِرَامُهَا هُوَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 إِذَا أَرَادُوا شِوَاءَ شَاةٍ طَلَوْهَا مِنَ الْخَارِجِ بِالْعَجِينِ حِفْظًا لَهَا مِنْ رَمَادِ الْجَمْرِ - فَقَالَتْ لِبَرِيرَةَ: كُلِي، هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ. وَكَمَا فَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِالْعِيرِ وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ تِجَارَةٍ حِينَ قَدِمَتْ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا كَانَ مُجْتَمَعُ الْمَدِينَةِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجْتَمَعًا مُتَكَافِلًا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَقَدْ نَوَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ بِفَضْلِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ» . وَمِنْ بَعْدِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَحْفَظَ لَهُمْ كَرَامَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، مِنْ قَبْلُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ. ثُمَّ كَانَ هَذَا خُلُقَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَمِيعًا، كَمَا وَقَعَ فِي وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، قَالَ حُذَيْفَةُ الْعَدَوِيِّ: انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي، وَمَعِي شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ وَأَنَا أَقُولُ: إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ فَقُلْتُ لَهُ: أَسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُولُ: آهٍ آهٍ، فَأَشَارَ إِلَيَّ ابْنُ عَمِّي أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، فَقُلْتُ أَسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ، فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ آهٍ آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامُ أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ فَجِئْتُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ. وَكَانَ مَنْهَجُ الْخَوَاصِّ مِنْ بَعْدِهِمْ، كَمَا نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي يَزِيدِ الْبِسْطَامِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ مَا غَلَبَنِي شَابٌّ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ، قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ لِي: مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ فَقُلْتُ: إِنْ وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإِنْ فَقَدْنَا صَبَرْنَا، فَقَالَ: هَكَذَا كِلَابُ بَلْخٍ عِنْدَنَا، فَقُلْتُ: وَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَقَدْنَا شَكَرْنَا وَإِنْ وَجَدْنَا آثَرْنَا. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ: تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَيْهَا مَعَ الْحَاجَةِ، وَالْخَصَاصَةُ: الَّتِي تَخْتَلُّ بِهَا الْحَالُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ فِي الْأَمْرِ، فَالْخَصَاصَةُ الِانْفِرَادُ بِالْحَاجَةِ أَيْ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَمَّا الرَّبِيعُ إِذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ ... عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وَأَثْرَى الْمُقْتِرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 وَهَلْ يَصِحُّ الْإِيثَارُ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَوْ كَانَ ذَا عِيَالٍ أَوْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ غَيْرِهِ أَمْ لَا؟ وَمَا عَلَاقَتُهُ مَعَ قَوْلِهِ: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [2 \ 219] ؟ . وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [2 \ 3] ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَنِ التَّبْعِيضِيةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ بَعْضَ مَا لَهُ كُلِّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي إِمْسَاكُهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْحَاجَةِ، وَسَدِّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ الزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى عَفَوْا [7 \ 95] أَيْ: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجُهْدِ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجُهْدَ وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَبَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [17 \ 29] ، فَنَهَاهُ عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، وَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْرَافِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، فَيَتَعَيَّنُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [25 \ 67] . فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْفِقِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُودِ وَالتَّبْذِيرِ، وَبَيْنَ الْبُخْلِ وَالْإِقْتَارِ، فَالْجُودُ غَيْرُ التَّبْذِيرِ، وَالِاقْتِصَادُ غَيْرُ الْبُخْلِ فَالْمَنْعُ فِي مَحَلِّ الْإِعْطَاءِ مَذْمُومٌ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، وَالْإِعْطَاءُ فِي مَحَلِّ الْمَنْعِ مَذْمُومٌ أَيْضًا، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: لَا تَمْدَحَنَّ ابْنَ عِبَادٍ وَإِنْ هَطَلَتْ ... يَدَاهُ كَالْمُزْنِ حَتَّى تَخْجَلَ الدِّيَمَا فَإِنَّهَا خَطَرَاتٌ مِنْ وَسَاوِسِهِ ... يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمًا وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْرِفُهُ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ 1 الْآيَةَ [2 \ 215] ، وَصَرَّحَ فِي أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ حَسْرَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِهِ: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً الْآيَةَ [8 \ 36] . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي قَرَّرْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ هُوَ إِنْفَاقُ مَا زَادَ عَنِ الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ بِالْإِنْفَاقِ وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَا أَنْفَقُوا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [59 \ 9] . فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا، فَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ الْإِيثَارُ مَمْنُوعًا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَتْ عَلَى الْمُنْفِقِ نَفَقَاتٌ وَاجِبَةٌ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَنَحْوِهَا فَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ، وَتَرَكَ الْفَرْضَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» ، وَكَأَنْ يَكُونَ لَا صَبْرَ عِنْدَهُ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ فَيُنْفِقُ مَالَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يَسْأَلُهُمْ مَالَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟ وَالْإِيثَارُ فِيمَا إِذَا كَانَ لَمْ يُضَيِّعْ نَفَقَةً وَاجِبَةً، وَكَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ بِالصَّبْرِ، وَالتَّعَفُّفِ، وَعَدَمِ السُّؤَالِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ يَعْنِي بِهِ الزَّكَاةَ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى مِنْهُ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ لِلْإِنْفَاقِ فِي الْقُرْآنِ مَرَاتِبَ ثَلَاثَةً: الْأُولَى: الْإِنْفَاقُ مِنْ بَعْضِ الْمَالِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 الثَّانِيَةُ: الْإِنْفَاقُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [2 \ 177] ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا الْآيَةَ [76 \ 8] . الثَّالِثَةُ: الْإِنْفَاقُ مَعَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ كَهَذِهِ الْآيَةِ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْخَاصِّ الْأَوَّلِ. وَتُعْتَبَرُ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى هِيَ الْحَدُّ الْأَدْنَى فِي الْوَاجِبِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزَّكَاةُ، وَهِيَ تَشْمَلُ النَّافِلَةَ، وَتَصْدُقُ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ وَلَوْ شِقِّ تَمْرَةٍ، وَتَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [99 \ 7] ، وَتُعْتَبَرُ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الْحَدُّ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّهَا إِيثَارٌ لِلْغَيْرِ عَلَى خَاصَّةِ النَّفْسِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْوُسْطَى بَيْنَهُمَا، وَهِيَ الْحَدُّ الْوَسَطُ بَيْنَ الِاكْتِفَاءِ بِأَقَلِّ الْوَاجِبِ، وَبَيْنَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَهِيَ مِيزَانُ التَّوَسُّطِ لِعَامَّةِ النَّاسِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [17 \ 29] ، وَكَمَا امْتَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا بِالِاعْتِدَالِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [25 \ 67] . وَهَذَا هُوَ عَيْنُ تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ الْفَلْسَفَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْقَائِلَةِ: الْفَضِيلَةُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ أَيْ: طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَالشَّجَاعَةُ مَثَلًا وَسَطٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَالْكَرَمُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّقْتِيرِ. وَلِلْإِنْفَاقِ جَوَانِبُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَحْكَامٌ مُتَفَاوِتَةٌ، قَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَانِبًا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْجَوَانِبَ الْأُخْرَى، وَتَنْحَصِرُ فِي الْآتِي: نَوْعِ مَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ، الْجِهَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا، مَوْقِفِ الْمُنْفِقِ، وَصُورَةِ الْإِنْفَاقِ. أَمَّا مَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ: قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى أَوَّلًا مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [2 \ 267] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [3 \ 92] . أَمَّا الْجِهَةُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا: فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 [2 \ 215] فَبَدَأَ بِالْوَالِدَيْنِ بِرًّا لَهُمَا، وَثَنَّى بِالْأَقْرَبِينَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْقَرِيبِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وَعَلَى الْبَعِيدِ صَدَقَةٌ» ثُمَّ الْيَتَامَى وَهَذَا وَاجِبٌ إِنْسَانِيٌّ وَتَكَافُلٌ اجْتِمَاعِيٌّ، لِأَنَّ يَتِيمَ الْيَوْمِ مُنْفِقُ الْغَدِ، وَوَلَدَ الْأَبَوَيْنِ الْيَوْمَ قَدْ يَكُونُ يَتِيمًا غَدًا، أَيْ: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى الْيَتِيمِ الْيَوْمَ قَدْ يَتْرُكُ أَيْتَامًا، فَيُحْسِنُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْيَتِيمُ الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ بِالْأَمْسِ، «وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» أُمُورٌ عَامَّةٌ. وَجَاءَ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُحَاسِبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَيُجَازِي صَاحِبَهَا وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أَيْ: مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [2 \ 215] ، وَكَفَى فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ تَعَالَى. أَمَّا مَوْقِفُ الْمُنْفِقِ وَصُورَةُ الْإِنْفَاقِ: فَإِنَّ هَذَا هُوَ سِرُّ النَّفَقَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَفَلْسَفَةُ الْإِنْفَاقِ كُلُّهَا تَظْهَرُ فِي هَذَا الْجَانِبِ، مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ الْإِسْلَامُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ أَوِ النُّظُمِ. لِأَنَّهُ يُرَكِّزُ عَلَى الْحِفَاظِ عَلَى شُعُورِ وَإِحْسَاسِ الْمِسْكِينِ، بِحَيْثُ لَا يُشْعِرُهُ بِجُرْحِ الْمَسْكَنَةِ، وَلَا ذِلَّةِ الْفَاقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 262] . ثُمَّ فَاضَلَ بَيْنَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤْذِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [2 \ 263] يُعْطِي وَلَا يَمُنُّ بِالْعَطَاءِ. وَأَفْهَمَ الْمُنْفِقِينَ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [2 \ 264] لِمَا فِيهِ مِنْ جَرْحِ شُعُورِ الْمِسْكِينِ. وَقَدْ حَثَّ عَلَى إِخْفَائِهَا إِمْعَانًا فِي الْحِفَاظِ عَلَى شُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أَيْ: مَعَ الْآدَابِ السَّابِقَةِ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [2 \ 271] أَيْ: لَكُمْ أَنْتُمْ فِي حِفْظِ ثَوَابِهَا. وَقَدْ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ» ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 274] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 وَمِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ كَمَا أَدَّبَ الْأَغْنِيَاءَ فِي طَرِيقَةِ الْإِنْفَاقِ فَقَدْ أَدَّبَ الْفُقَرَاءَ فِي طَرِيقَةِ الْأَخْذِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [2 \ 273] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَثَّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاقْتَرَنَتْ بِالْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا قَدَّمَتْ كُلُّ نَفْسٍ لِغَدٍ، وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ فِيهَا بِتَقْوَى اللَّهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ بِتَقْوَى اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، سَوَاءٌ كَانَ التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ أَمْ كَانَ لِلتَّأْسِيسِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا الِاهْتِمَامُ بِالْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى، فَقَدْ دَلَّتْ لَهُ عِدَّةُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْغَايَةَ مِنْ رِسَالَةِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، بَلْ وَمِنْ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ هُوَ تَحْصِيلُ التَّقْوَى لَمَا كَانَ بَعِيدًا، وَذَلِكَ لِلْآتِي: أَوَّلًا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [2 \ 21] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِعِبَادَتِهِ، فَتَكُونُ التَّقْوَى بِمَضْمُونِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هِيَ الْغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ مُفَصَّلًا فِي حَقِّ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، مِنْهَا فِي قَوْمِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [26 \ 105 - 108] ، وَفِي قَوْمِ عَادٍ قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [26 \ 123 - 126] ، وَفِي قَوْمِ لُوطٍ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [26 \ 160 - 163] ، وَفِي قَوْمِ شُعَيْبٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 [26 \ 176 - 179] . فَكُلُّ نَبِيٍّ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى التَّقْوَى كَمَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ جَاءَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ دَعْوَةً إِلَى التَّقْوَى وَهِدَايَةً لِلْمُتَّقِينَ، كَمَا فِي مَطْلَعِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 1 - 2] وَبَيَّنَ نَوْعَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْنَى التَّقْوَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [2 \ 3 - 5] . وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مَعْنَى التَّقْوَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [2 \ 189] . قَالَ: لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنِ الْمُتَّقِي، وَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [2 \ 177] . وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ عَدِيدَةٌ آثَارَ التَّقْوَى فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. مِنْهَا فِي الْعَاجِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [65 \ 4] ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [65 \ 2 - 3] ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [2 \ 282] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [16 \ 128] . أَمَّا فِي الْآجِلِ وَفِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا تَصْحَبُ صَاحِبَهَا ابْتِدَاءً إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [39 \ 73] ، فَإِذَا مَا دَخَلُوهَا آخَتْ بَيْنَهُمْ وَجَدَّدَتْ رَوَابِطَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَآنَسَتْهُمْ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 إِلَى قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [43 \ 67 - 73] إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِمْ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَتُحِلَّهُمْ مَقْعَدَ صِدْقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [54 \ 54 - 55] . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ مَنْزِلَةُ التَّقْوَى مِنَ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ وَفِي كُلِّ شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَأَنَّهَا هُنَا فِي مَعْرِضِ الْحَثِّ عَلَيْهَا وَتَكْرَارِهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا الشَّاعِرُ السَّعَادَةَ كُلَّ السَّعَادَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ، وَهُوَ لِجَرِيرٍ: وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ ... وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ فَتَقْوَى اللَّهِ خَيْرُ الزَّادِ ذُخْرًا ... وَعِنْدَ اللَّهِ لِلْأَتْقَى مَزِيدُ وَالتَّقْوَى دَائِمًا هِيَ الدَّافِعُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، الرَّادِعُ عَنْ كُلِّ شَرٍّ، رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَجِيءِ قَوْمٍ مِنْ مُضَرَ، مُجْتَابَيِ الثِّمَارِ وَالْعَبَاءَةِ، حُفَاةٍ عُرَاةٍ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، فَيَتَمَعَّرُ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا يُنَادِي لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [4 \ 1] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ ": يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ الْآيَةَ [59 \ 18] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ " الْحَدِيثَ. فَكَانَتِ التَّقْوَى دَافِعًا عَلَى سَنِّ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ تَهَلَّلَ لَهَا وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا أَنَّهَا تَحُولُ دُونَ الشَّرِّ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا [2 \ 282] ، وَقَوْلُهُ: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [2 \ 283] ، فَإِنَّ التَّقْوَى مَانِعَةٌ مِنْ بَخْسِ الْحَقِّ وَمِنْ ضَيَاعِ الْأَمَانَةِ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ مَرْيَمَ فِي طُهْرِهَا وَعِفَّتِهَا لَمَّا أَتَاهَا جِبْرِيلُ وَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [19 \ 18] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 وَكَمَا فِي حَدِيثِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى الْغَارِ، وَمِنْهُمُ الرَّجُلُ مَعَ ابْنَةِ عَمِّهِ لَمَّا قَالَتْ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقَامَ عَنْهَا وَتَرَكَ لَهَا الْمَالَ. وَهَكَذَا فِي تَصَرُّفَاتِ الْعَبْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [22 \ 32] . وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ [59 \ 18] ، لِكُلِّ نَفْسٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [2 \ 281] وَقَوْلِهِ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [3 \ 25] . فَالنِّدَاءُ أَوَّلًا بِالتَّقْوَى لِخُصُوصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ لِعُمُومِ كُلِّ نَفْسٍ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِالتَّقْوَى خُصُوصُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَوْضَحَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالنَّظَرُ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ فَالْخُصُوصُ لِلْإِشْفَاقِ، وَالْعُمُومُ لِلتَّحْذِيرِ. وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [33 \ 43] . وَيَدُلُّ لِلثَّانِي قَوْلُهُ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [3] ، وَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَدَّمَتْ [59 \ 18] عَامَّةٌ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. وَيَدُلُّ لِلثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99 \ 7 - 8] ، وَالْحَدِيثُ " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ". وَغَدًا تُطْلَقُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَاضِي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [12 \ 12] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23 - 24] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 وَتُطْلَقُ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْمَعْنَى: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [78 \ 40] . وَالْقَرَائِنُ فِي الْآيَةِ مِنْهَا: اكْتِنَافُهَا بِالْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَمِنْهَا: التَّذْيِيلُ بِالتَّحْذِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [59 \ 18] أَيْ: بِالْمَقَاصِدِ فِي الْأَعْمَالِ وَبِالظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ، وَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ مَوْضِعُ النِّسْيَانِ، فَاحْتَاجَ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِغَدٍ لِقُرْبِ مَجِيئِهِ وَتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [54 \ 1] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [16 \ 77] . وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ الْغَدَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ بِمَعْنَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَتَحَقَّقُ بِيَوْمِ مَوْتِهِ، لِأَنَّهُ يُعَايِنُ مَا قَدْ قَدَّمَ يَوْمَ مَوْتِهِ، وَقَدْ نَكَّرَ لَفْظَ نَفْسٍ وَغَدٍ هُنَا فَقِيلَ فِي الْأَوَّلِ لِقِلَّةٍ مِنَ النَّاظِرِينَ، وَفِي الثَّانِي لِعَظْمِ أَمْرِهِ وَشِدَّةِ هَوْلِهِ. وَهُنَا قَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ كَمَا أَسْلَفْنَا مَرَّتَيْنِ، فَقِيلَ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقِيلَ لِلتَّأْسِيسِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. فَعَلَى أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ ظَاهِرٌ وَعَلَى التَّأْسِيسِ يَكُونُ الْأَوَّلُ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالثَّانِي لِتَرْكِ الْمَحْظُورِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَجِيءِ مُوجَبِ الْفِعْلِ أَوَّلًا: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ، وَمَجِيءِ مُوجَبِ التَّحْذِيرِ ثَانِيًا: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيَشْهَدُ لِلتَّأْكِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [3 \ 102] ، وَإِنْ كَانَتْ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 16] ، فَيَدُلُّ لِمَفْهُومِهِ قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا [9 \ 102] أَيْ: بِتَرْكِ بَعْضِ الْمَأْمُورِ، وَفِعْلِ بَعْضِ الْمَحْظُورِ. وَعَلَيْهِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّقْوَى إِلَّا بِمُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ، وَلَكِنْ مَادَّةُ التَّقْوَى وَهِيَ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ مِمَّا يُوجِبُ عَذَابَ اللَّهِ تَشْمَلُ شَرْعًا الْأَمْرَيْنِ مَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي عُمُومِ اتِّخَاذِ الْوِقَايَةِ: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 [66 \ 6] . فَكَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بِالتَّقْوَى يَكْفِي لِذَلِكَ وَيَشْمَلُهُ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى الثَّانِي لِمَعْنَى جَدِيدٍ، وَفِي الْآيَةِ مَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قَدَّمَتْ، لِأَنَّ " مَا " عَامَّةٌ كَمَا قَدَّمْنَا وَصِيغَةُ " قَدَّمَتْ " عَلَى الْمَاضِي يَكُونُ الْأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ أَوَّلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا مَضَى وَسَبَقَ مِنْ عَمَلٍ تَقَدَّمَ بِالْفِعْلِ، وَيَكُونُ النَّظَرُ بِمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ وَالتَّأَمُّلِ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ: " حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا " فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. فَإِذَا مَا نَظَرَ فِي الْمَاضِي وَحَاسَبَ نَفْسَهُ، وَعَلِمَ مَا كَانَ مِنْ تَقْصِيرٍ أَوْ وُقُوعٍ فِي مَحْظُورٍ، جَاءَهُ الْأَمْرُ الثَّانِي بِتَقْوَى اللَّهِ لِمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عَمَلٍ جَدِيدٍ وَمُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [2 \ 234] ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ تَكْرَارٌ، وَلَا يَكُونُ تَوْزِيعٌ، بَلْ بِحَسَبِ مَدْلُولِ عُمُومِ " مَا " وَصِيغَةُ الْمَاضِي " قَدَّمَتْ " وَالنَّظَرُ لِلْمُحَاسَبَةِ. تَنْبِيهٌ مَجِيءُ «قَدَّمَتْ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي حَثٌّ عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي الْعَمَلِ، وَعَدَمِ التَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا مَا قَدَّمَ فِي الْمَاضِي، وَالْمُسْتَقْبَلُ لَيْسَ بِيَدِهِ، وَلَا يَدْرِي مَا يَكُونُ فِيهِ: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا [31 \ 34] ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُجُّوا قَبْلَ أَلَّا تَحُجُّوا» ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [3 \ 133] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [59 \ 19] . بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَعَلَى الِاجْتِهَادِ فِي تَقْدِيمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِيَوْمِ غَدٍ جَاءَ التَّحْذِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النِّسْيَانِ وَالتَّرْكِ وَأَلَّا يَكُونَ كَالَّذِينِ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهَمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هُمُ الَّذِينَ حَذَّرَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي هَذَا النِّسْيَانِ، وَمَا هُوَ النِّسْيَانُ وَالْإِنْسَاءُ الْمَذْكُورَانِ هُنَا. وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «التَّوْبَةِ» : الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [9 \ 67] ، وَهَذَا عَيْنُ الْوَصْفِ الَّذِي وُصِفُوا بِهِ فِي سُورَةِ «الْحَشْرِ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَسِيَهُمْ أَيْ: أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْسَى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [2 \ 52] ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 [19 \ 64] . وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا وَصْفُ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ بِالنِّسْيَانِ فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي الْيَهُودِ يَقُولُ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [5 \ 13] . وَفِي النَّصَارَى يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [5 \ 14] . وَفِي الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ تَعَالَى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [7 \ 51] ، فَيَكُونُ التَّحْذِيرُ مُنَصَبًّا أَصَالَةً عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَشَامِلًا مَعَهُمْ كُلَّ تِلْكَ الطَّوَائِفِ لِاشْتِرَاكِهِمْ جَمِيعًا فِي أَصْلِ النِّسْيَانِ. أَمَّا النِّسْيَانُ هُنَا، فَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [20 \ 126] . فَذَكَرَ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تُطْلِقُ النِّسْيَانَ وَتُرِيدُ بِهِ التَّرْكَ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [20 \ 126] . فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ التُّرْكُ قَصْدًا. وَكَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [7 \ 51] . وَقَوْلِهِ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [59 \ 19] ، انْتَهَى. أَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، وَهُوَ التَّرْكُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَلَيْسَ دَاخِلًا هُنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ أُعْفِيَتْ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا الْآيَةَ [2 \ 286] . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ، قَدْ فَعَلْتُ» أَيْ: عِنْدَمَا تَلَاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - هَذَا النَّوْعَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَلَى الْجَوَابِ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَوْجُودِ فِي نِسْيَانِ آدَمَ، هَلْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَإِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَكَيْفَ يُؤَاخَذُ؟ وَبَيَّنَ خَصَائِصَ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ مُشَابَهَتِهِمْ فِي النِّسْيَانِ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَى النِّسْيَانِ، فَكَيْفَ أَنْسَاهُمُ اللَّهُ أَنْفُسَهُمْ؟ وَهَذِهِ مُقْتَطَفَاتٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَنْسَوْا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُنْسِيَكُمُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَسُوا اللَّهَ أَيْ: تَرَكُوا أَمْرَهُ، فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا لَهَا خَيْرًا. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ هُمُ الْكُفَّارُ تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ، وَامْتِثَالَ مَا أَمَرَ وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهَا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا مِنَ الْمُجَازَاتِ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ. . . إِلَخْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تَرَكُوا أَدَاءَ حَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجَزَاءِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. أَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ فَقَدْ أَدْخَلَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مَبْحَثًا كَلَامِيًّا حَيْثُ قَالَا فِي مَعْنَى: نَسُوا اللَّهَ، كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، أَمَّا فِي مَعْنَى: فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَذَكَرَا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَالْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي: بِمَعْنَى أَرَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ مَا نَسُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [14 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [22 \ 2] اهـ. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي لَا يُسَلَّمُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِمَنْ نَسِيَ اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْآيَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّا بِهَا: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ. وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [22 \ 2] ، وَالذُّهُولُ أَخُو النِّسْيَانِ، وَهُوَ هُنَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُرْضِعَةٍ: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [22 \ 2] وَهُوَ أَيْضًا عَامٌّ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لَهُمَا عَلَى إِيرَادِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ بَيَانِ ضَعْفِهِ، هُوَ فِرَارُهُمْ مِنْ نِسْبَةِ الْإِنْسَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَفِيهِ شُبْهَةُ اعْتِزَالٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَلِوُجُودِ إِسْنَادِ الْإِنْسَاءِ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي قِصَّةِ صَاحِبِ مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [18 \ 63] ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] وَقَوْلِهِ: عَنْ صَاحِبِ يُوسُفَ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [12 \ 42] . وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَنَّ حَقِيقَةَ النِّسْيَانِ وَالْإِنْسَاءِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّذَكُّرِ كَحَقِيقَةِ أَيِّ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [4 \ 78] ، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [9 \ 51] ، فَمَا نُسِبَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَهُوَ بِتَسْلِيطٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [2 \ 102] ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [2 \ 102] فَيَكُونُ إِسْنَادُ الْإِنْسَاءِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [26 \ 80] تَأَدُّبًا فِي الْخِطَابِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ عَمَّا أَوْقَعَهُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَأَنْسَاهُمْ، فَأَوْقَعَ عَلَيْهِمِ النِّسْيَانَ لِأَنْفُسِهِمْ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَكَانَ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَبِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ عَيْنُ الْحَقِّ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ أُسْلُوبِ الْمُقَابَلَةِ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [9 \ 67] . تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: جَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [45 \ 34] . وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ [32 \ 14] . وَقَوْلُهُ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [9 \ 67] ، وَفِي هَذَا نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَقَعَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 الْإِشْكَالُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [19 \ 64] وَقَوْلِهِ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [20 \ 52] . وَقَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - عَنْ ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، بِأَنَّ النِّسْيَانَ الْمُثْبَتَ بِمَعْنَى التَّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَنْفِيَّ عَنْهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بِمَعْنَى السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُقَدِّمَةِ الْأَضْوَاءِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْآيَةِ اخْتِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ وَتُوجَدُ فِيهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [45 \ 34] ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ النِّسْيَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَهِيَ لِلْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يَكُونُ النِّسْيَانُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي الْحَالِ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ، وَكَذَلِكَ لَا يُخْبَرُ عَنْ نِسْيَانٍ سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ، وَهَذَا فِي النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَنْ قَصْدٍ، أَمَّا الَّذِي بِمَعْنَى السَّهْوِ فَيَكُونُ بِدُونِ قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَلَا الْإِخْبَارُ بِإِيقَاعِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ نِسْيَانٍ نُسِبَ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [59 \ 19] مُفَسِّرًا وَمُبَيِّنًا لِمَعْنَى: الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ [45 \ 34] وَلِقَوْلِهِ إِنَّا نَسِينَاكُمْ [32 \ 14] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ. دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ: أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بَدَاهَةً، وَلَكِنْ جَاءَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ غَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَلِظُهُورِ أَعْمَالٍ مِنْهُمْ تُغَايِرُ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْبَدِيهِيَّةَ، كَمَنْ يُسِيءُ إِلَى أَبِيهِ فَتَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ أَبُوكَ، قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَهَذَا فِي أُسْلُوبِ الْبَيَانِ يُرَادُ بِهِ لَازِمُ الْخَبَرِ، أَيْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ أَنْ يَعْمَلُوا مَا يُبْعِدُهُمْ عَنِ النَّارِ وَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: لِيَنَالُوا الْفَوْزَ. وَهَذَا الْبَيَانُ قَدْ جَاءَتْ نَظَائِرُهُ عَدِيدَةً فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [38 \ 28] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 وَكَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [32 \ 18] أَيْ: فِي الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا فِي الْوَاقِعِ فِي الْحَيَاةِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [45 \ 21] ، وَهُنَا كَذَلِكَ: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [59 \ 20] فِي الْمَرْتَبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْمَصِيرِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: هَذَا بَيَانُ مُقَابَلَةِ الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابِ النَّارِ فِي الْجَحِيمِ، وَأَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي النَّعِيمِ، وَالْآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ بِدَلِيلِ مَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [59 \ 20] فَهَذَا حُكْمٌ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِالْفَوْزِ، وَمَفْهُومُهُ الْحُكْمُ عَلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي بِالْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا قَبْلَهَا وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ [59 \ 19] أَيْ: مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَصَارُوا أَصْحَابَ النَّارِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ فِي النَّارِ وَلَا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ مَنَازِلَ مُتَفَاوِتَةٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [41 \ 34] ، وَلَكِنَّ عَدَمَ وُجُودِ اللَّامِ هُنَا يَجْعَلُهُ أَضْعَفَ احْتِمَالًا، وَإِلَّا لَقَالَ: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ، وَلَا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا لِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنَازِلِ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَهُ هُنَا غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْآيَةِ حُكِمَ عَلَى مَجْمُوعِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَيْ فِي مَجْمُوعِهِمْ كَأَنَّهُ فِي مَثَابَةِ الْقَوْلِ: النَّارُ وَالْجَنَّةُ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَأَصْحَابُهُمَا كَذَلِكَ. وَقَدْ نَبَّهَ أَبُو السُّعُودِ عَلَى تَقْدِيمِ أَصْحَابِ النَّارِ، فِي الذِّكْرِ عَلَى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ لِيُبَيِّنَ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّ النَّقْصَ جَاءَ مِنْ جِهَتِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [13 \ 16] اهـ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُتَفَاوِتَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّقْصِ فِي النَّاقِصِ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الزَّائِدِ. فَقَدَّمَ الْجَانِبَ النَّاقِصَ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَهُمَا، إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ النَّقْصِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُمَا لَا بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَالنَّتِيجَةُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ إِمْكَانِ جَانِبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 النَّقْصِ الِاحْتِجَاجَ عَلَى جَانِبِ الزِّيَادَةِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ تَأْنِيبٍ لِجَانِبِ النَّقْصِ، وَفِي الْآيَةِ إِجْمَالُ أَصْحَابِ النَّارِ وَأَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَلِمَةَ أَصْحَابٍ تَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الْمُخْتَصُّونَ بِهِمَا. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ هُمُ الْكُفَّارُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [64 \ 10] . وَالْخُلُودُ لَا خُرُوجَ مَعَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [2 \ 165 - 167] ، وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْهُمَزَةِ» : يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [104 \ 3 - 8] أَيْ: مُغْلَقَةٌ عَلَيْهِمْ. أَمَّا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [46 \ 13 - 14] ، وَقَدْ جَمَعَ الْقِسْمَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [2 \ 81] . كَمَا جَاءَ مِثْلُ هَذَا السِّيَاقِ كَامِلًا مُتَطَابِقًا فَيُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ قَالَ تَعَالَى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [9 \ 67 - 68] . فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَأَخُصُّ أَصْحَابَ النَّارِ وَالِاخْتِصَاصُ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا وَلَعَنَهُمْ وَهِيَ حَسْبُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، وَهُمْ عَيْنُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» ثُمَّ جَاءَ مُقَابَلَةً تَمَامًا فِي نَفْسِ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 [9 \ 71 - 72] . وَهَذِهِ أَيْضًا أَخَصُّ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَالْخُلُودِ، وَالْإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، إِذِ الْعَدْنُ الْإِقَامَةُ الدَّائِمَةُ، وَمِنْهَا الْمَعْدِنُ لِدَوَامِ إِقَامَتِهِ فِي مَكَانِهِ، وَرَضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ. ثُمَّ يَأْتِي الْخِتَامُ فِي الْمَقَامَيْنِ مُتَّحِدًا، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالْفَوْزِ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَفِي آيَةِ «التَّوْبَةِ» : ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَفِي آيَةِ «الْحَشْرِ» : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [59 \ 20] ، وَبِهَذَا عُلِمَ مَنْ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، وَمَنْ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ. وَتَبَيَّنَ ارْتِبَاطُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُمْ مِمَّنْ نَسُوا فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَمَنِ اتَّقَوُا اللَّهَ وَقَدَّمُوا لِغَدِهِمْ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ عُصَاةَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ دَاخِلِينَ هُنَا فِي أَصْحَابِ النَّارِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا مِمَّنْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِهِ، وَكَمَا يَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [19 \ 71 - 72] ، وَالظَّالِمُونَ هُنَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ. وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَخْذُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمُ دُخُولِ أَصْحَابِ الْكَبِيرَةِ الْجَنَّةَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي زَعْمِهِمْ لَوْ دَخَلُوهَا لَاسْتَوَوْا مَعَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى يُرَدُّ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا خُلِّدَ الْعُصَاةُ فِي النَّارِ عَلَى زَعْمِكُمْ مَعَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَعَمَلٍ صَالِحٍ فَمَاذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ [38 \ 28] . وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مَسْأَلَةَ بَقَاءِ الْعُصَاةِ وَخُرُوجِهِمْ مِنَ النَّارِ وَخُلُودِ الْكُفَّارِ فِيهَا بَحْثًا وَاسِعًا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ وَلَا بِكَافِرٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًّا إِلَّا أَنَّ أَخْذَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْرِضِ الْمُقَارَنَةِ لِلنِّهَايَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتُهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْهُ، وَأَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ؛ لِيَتَفَكَّرَ النَّاسُ فِي أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى الْآيَةَ [13 \ 31] . قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَهَا: جَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُهُ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ. . . إِلَخْ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَقُولُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لِأَمْرِ الْقُرْآنِ، وَمُبَيِّنًا عُلُوَّ قَدْرِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَخْشَعَ لَهُ الْقُلُوبُ وَتَتَصَدَّعَ عِنْدَ سَمَاعِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ الْحَقِّ وَالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الْآيَةَ [59 \ 21] . فَإِذَا كَانَ الْجَبَلُ فِي غِلْظَتِهِ وَقَسَاوَتِهِ لَوْ فَهِمَ هَذَا الْقُرْآنَ فَتَدَبَّرَ مَا فِيهِ لَخَشَعَ وَتَصَدَّعَ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ أَيُّهَا الْبَشَرُ أَلَّا تَلِينَ قُلُوبُكُمْ، وَتَخْشَعَ، وَتَتَصَدَّعَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَدْ فَهِمْتُمْ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَقَدْ تَدَبَّرْتُمْ كِتَابَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [59 \ 21] . وَقَدْ وُجِدَ لِبَعْضِ النَّاسِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي سُورَةِ «الطُّورِ» عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَمَرَّ بِدَارِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَافَقَهُ قَائِمًا يُصَلِّي فَوَقَفَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَقَرَأَ: وَالطُّورِ [52 \ 1] حَتَّى بَلَغَ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [52 \ 7 - 8] قَالَ: قَسَمٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ حَقٌّ، فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ وَاسْتَنَدَ إِلَى حَائِطٍ فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَمَكَثَ شَهْرًا يَعُودُهُ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ مَا مَرَضُهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ؛ لِأَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَوَافَيْتُهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالطُّورِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، فَكَأَنَّمَا صَدَعَ قَلْبِي فَأَسْلَمْتُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَقُومَ مِنْ مَقَامِي حَتَّى يَقَعَ بِي الْعَذَابُ. وَذُكِرَ فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهَا فَجَعَلَ يَضْطَرِبُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَقَلَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ خَبَرَ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ بِتَمَامِهِ فِي فَصْلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ: قَدْ مَاتَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ أُفْرِدُوا بِالتَّصْنِيفِ، وَقَدْ يَنْشَأُ هُنَا سُؤَالٌ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى الْجِبَالِ وَلَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ الْقُلُوبُ؟ وَقَدْ أَجَابَ الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [2 \ 74] ، وَكَذَلِكَ أَصَمُّوا آذَانَهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ، وَغَلَّفُوا قُلُوبَهُمْ بِالْكُفْرِ عَنْ فَهْمِهِ، وَأَوْصَدُوهَا بِأَقْفَالِهَا فَقَالُوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [2 \ 88] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [18 \ 57] أَيْ: بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ وَعَدَمِ التَّدَبُّرِ وَالنِّسْيَانِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [47 \ 24] فَهَذِهِ أَسْبَابُ عَدَمِ تَأَثُّرِ الْكَفَّارِ بِالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ وَيُفْهَمُ مِنْهُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَخْشَعُ قُلُوبُهُمْ، وَتَلِينُ جُلُودُهُمْ، كَمَا نَصَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [39 \ 23] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْهُ عَلَى جَبَلٍ وَلَمْ يَتَصَدَّعْ مِنْهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَوْ أَنْزَلَهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [33 \ 72] . وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ لِأَنَّ الْجِبَالَ أَشْفَقَتْ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ وَهِيَ أَمَانَةُ التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا. فَإِذَا كَانَتِ الْجِبَالُ أَشْفَقَتْ لِمُجَرَّدِ الْعَرْضِ عَلَيْهَا فَكَيْفَ بِهَا لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهَا وَكُلِّفَتْ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، فَهُوَ شَاهِدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا. وَمِنْهَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْجِبَالِ الَّتِي هِيَ الْحِجَارَةُ لَيَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [2 \ 74] . وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ إِثْبَاتُ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي جَبَلِ أُحُدٍ، حِينَمَا صَعِدَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَارْتَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وشَهِيدٌ» . وَسَوَاءٌ كَانَ ارْتِجَافُهُ إِشْفَاقًا أَوْ إِجْلَالًا فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ عَلَى جَبَلٍ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ لَرَأَيْتَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَبِهَذَا أَيْضًا يَتَّضِحُ أَنَّ جَوَابَ (لَوْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ [13 \ 31] لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنَ أَرْجَحُ مِنْ تَقْدِيرِهِمْ لَكَفَرْتُمْ بِالرَّحْمَنِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَخُشُوعِهَا وَتَصْدِيعِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - هُنَاكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. الْأَمْثَالُ: جَمْعُ مَثَلٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَثَلِ، وَأَصْلُ الْمَثَلِ الِانْتِصَابُ، وَالْمُمَثَّلُ بِوَزْنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ الْمُصَوَّرِ عَلَى مِثَالِ غَيْرِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ، يُقَالُ: مَثُلَ الشَّيْءِ إِذَا انْتَصَبَ وَتَصَوَّرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، وَالتِّمْثَالُ: الشَّيْءُ الْمُصَوَّرُ، وَتَمَثَّلَ كَذَا تَصَوَّرَ قَالَ تَعَالَى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [19 \ 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 وَالْمَثَلُ: عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ فِي شَيْءٍ يُشْبِهُ قَوْلًا فِي شَيْءٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ؛ لِيُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُصَوِّرَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: الصَّيْفُ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُشْبِهُ قَوْلَكَ: أَهْمَلْتَ وَقْتَ الْإِمْكَانِ أَمْرَكَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَمْثَالِ فَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [59 \ 21] . وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [29 \ 43] . وَالْمِثَالُ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الْمَثَلِ نَحْوَ مُشَبَّهٍ وَمُشَبَّهٍ بِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ وَصْفِ الشَّيْءِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ. وَالثَّانِي: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُشَابَهَةِ لِغَيْرِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي أَيِّ مَعْنًى كَانَ، وَهُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمُشَابَهَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ النِّدَّ يُقَالُ فِيمَا يُشَارِكُ فِي الْجَوْهَرِ فَقَطْ. وَالشَّبَهُ يُقَالُ فِيمَا يُشَارِكُ فِي الْكَيْفِيَّةِ فَقَطْ. وَالْمُسَاوِي يُقَالُ فِيمَا يُشَارِكُ فِي الْكَمِّيَّةِ فَقَطْ. وَالشَّكْلُ يُقَالُ فِيمَا يُشَارِكُ فِي الْقَدْرِ وَالْمِسَاحَةِ فَقَطْ، وَالْمَثَلُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْيَ التَّشْبِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [42 \ 11] . . . إِلَخْ. اهـ. فَقَوْلُهُ فِي تَعْرِيفِ الْمَثَلِ إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ فِي شَيْءٍ يُشْبِهُ قَوْلًا فِي شَيْءٍ آخَرَ، بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ؛ لِيُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُصَوِّرَهُ. فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَتَغَيَّرُ بَلْ يُحْكَى عَلَى مَا قِيلَ أَوَّلًا كَقَوْلِهِمْ: الصَّيْفُ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ بِكَسْرِ التَّاءِ خِطَابًا لِلْمُؤَنَّثَةِ. فَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ أَهْمَلَ وَقْتَ الْإِمْكَانِ ثُمَّ رَاحَ يَطْلُبُهُ بَعْدَ فَوَاتِهِ، لَقُلْتَ لَهُ: الصَّيْفُ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى الْحَكَايَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 وَهَذَا مِمَّا يُسَمَّى الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ مِنْ أَبْلَغِ الْأَسَالِيبِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْثِلَةٍ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، وَهُوَ تَشْبِيهُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ. وَقَدْ سَاقَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عَدَدًا مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [18 \ 54] ، وَمِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّشْبِيهِ هُوَ بَيَانُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ وَجَعْلُ الْخَفِيِّ جَلِيًّا، وَالْمَعْنَوِيَّ مَحْسُوسًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [13 \ 14] . فَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى مَثَلِ هَذَا الشَّخْصِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَفِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِكُلِّ أَجْزَائِهَا، وَهُوَ بَاسِطٌ يَدَهُ مُفَرَّجَةً الْأَصَابِعَ إِلَى مَاءٍ بَعِيدٍ عَنْهُ، وَهُوَ فَاغِرٌ فَاهُ؛ لِيَشْرَبَ، لَقُلْتَ: وَأَيُّ جَدْوَى تَعُودُ عَلَيْهِ، وَمَتَى يَذُوقُ الْمَاءَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، إِنَّهُ يَمُوتُ عَطَشًا وَلَا يَذُوقُ مِنْهُ قَطْرَةً. وَكَذَلِكَ حَالُ مَنْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ مَعَ مَا يَدْعُوهُمْ مِنْ دُونِهِ لَا يَحْصُلُ عَلَى طَائِلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [29 \ 41] فَأَيُّ غَنَاءٍ لِإِنْسَانٍ فِي بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ. وَكَذَلِكَ أَيُّ غَنَاءٍ فِي وَلَايَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ الْحَالُ هُنَا، أُرِيدَ بِالْأَمْثَالِ صَوَّرَ يُصَوِّرُ لِانْتِزَاعِ الْحُكْمِ مِنَ السَّامِعِ بَعْدَ أَنْ تُصْبِحَ الصُّورَةُ مَحْسُوسَةً مَلْمُوسَةً، وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [2 \ 187] وَكَيْفَ غَطَّى وَأَخْفَى فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ وَأَبْرَزَهُ بِلِبَاسِهِ فِي التَّشْبِيهِ بِمَا يُتَّقَى بِهِ، وَمَدَى مُطَابَقَةِ مَعْنَى اللِّبَاسِ لِحَاجَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، وَتِلْكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ [59 \ 21] عَائِدَةٌ إِلَى الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَرِيبًا فِي عَمَلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْيَهُودِ وَنَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ، وَهَكَذَا كُلُّ مُوَالَاةٍ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ مُعَادَاةٍ وَانْصِرَافٍ عَمَّا جَاءَ بِهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ فِي بَيَانِ مَدَى فَعَالِيَّةِ الْقُرْآنِ وَتَأْثِيرِهِ، لَوْ أُنْزِلَ عَلَى الْجِبَالِ؛ لَخَشَعَتْ، وَتَصَدَّعَتْ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّفْكِيرَ فِيهِ وَالِاتِّعَاظَ بِهِ، ثُمَّ مِثَالُ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [59 \ 19] ، وَنَتِيجَةُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، فَأَصْحَابُ نَارٍ وَأَصْحَابُ جَنَّةٍ. وَلَكَأَنَّ الْأَمْثَالَ هُنَا وَالتَّنْبِيهَ عَلَيْهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أُولَئِكَ بِنِسْيَانِهِمْ لِلَّهِ وَإِنْسَائِهِ إِيَّاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، صَارُوا بِهَذَا النِّسْيَانِ أَشَدَّ قَسَاوَةً مِنَ الْجِبَالِ، بَلْ إِنَّ الْجِبَالَ أَسْرَعُ تَأَثُّرًا بِالْقُرْآنِ مِنْهُمْ لَوْ كَانُوا يَتَفَكَّرُونَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو السُّعُودِ: إِنَّهُ أَرَادَ تَوْبِيخَ الْإِنْسَانِ عَلَى قَسْوَةِ قَلْبِهِ وَعَدَمِ تَخَشُّعِهِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ وَقِلَّةِ تَدَبُّرِهِ فِيهِ. اهـ. وَهَكَذَا بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ يَنْتَزِعُ الْحُكْمَ مِنَ السَّامِعِ عَلَى أُولَئِكَ الْمُعْرِضِينَ الْغَافِلِينَ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةٌ كَالْجِبَالِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً كَمَا قَدَّمْنَا، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [39 \ 23] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. جَاءَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: ذِكْرُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ، كَمَا ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا تَسْبِيحُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، وَذُكِرَ مَعَهُمَا الْعَدِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَانَتْ بِذَلِكَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ثَلَاثِ قَضَايَا أَهَمِّ قَضَايَا الْأَدْيَانِ كُلِّهَا مَعَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمْ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ كُلَّهَا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُفْتَرَيَاتِ الْأُمَمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَالْيَهُودُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [9] . وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [9] . وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [21 \ 26] ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [43 \ 19] ، وَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 [38 \ 5] . فَكُلُّهُمُ ادَّعَى الشَّرِيكَ مَعَ اللَّهِ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [5 \ 73] وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي قَضِيَّةِ التَّنْزِيِهِ، فَالْيَهُودُ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [3 \ 181] ، وَقَالُوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [5 \ 64] . وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا، وَنَسَبُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَاهُ أَحَدُهُمْ لِنَفْسِهِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، فِي الْوَقْتِ الَّذِي وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [16 \ 58] . وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ أَعْظَمُ افْتِرَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَجَّلَهُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [18 \ 4] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [37 \ 151 - 152] ، وَقَالَ مُبَيِّنًا جُرْمَ مَقَالَتِهِمْ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [19 \ 88 - 92] . فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عِلَاجًا فِي الْجُمْلَةِ لِتِلْكَ الْقَضَايَا الثَّلَاثِ، تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا. وَقَدِ اجْتَمَعَتْ مَعًا لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ أَحَدُهَا إِلَّا بِالْآخَرَيْنِ، لِيَتِمَّ الْكَمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو السُّعُودِ: إِنَّ الْكَمَالَاتِ كُلَّهَا مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْكَمَالِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ مُتَوَفِّرٌ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَقَدْ بَدَأَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ آمَنَ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ، وَآمَنَ بِاللَّهِ عَلَى مَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَنَزَّهَهُ عَمَّا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ قَالَ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى إِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ نَصٌّ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ لِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 تَعَالَى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [20 \ 98] وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ هُنَا تُسَاوِي عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [27 \ 25] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إِلَى قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [2 \ 255] . وَهَذَا قَطْعًا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَجَاءَ بِدَلِيلٍ ثَانٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [59 \ 22] وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً أَيْضًا كَدَلِيلٍ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [2 \ 163] فَهُوَ رَحْمَانُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا فِي الدُّنْيَا قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [42 \ 28] ، وَقَوْلُهُ: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [30 \ 50] أَيْ: بِإِنْزَالِهِ الْغَيْثَ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ فَكَانَ حَقُّهُ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَقَدْ جَمَعَ الدَّلِيلَيْنِ الْعِلْمَ وَالرَّحْمَةَ مَعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [40 \ 7] . ثُمَّ جَاءَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ مَرَّةً أُخْرَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَجَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ قَوْلُهُ: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، وَهَذَا الدَّلِيلُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [7 \ 158] فَالَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْكَامِلُ الْمُلْكِ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [67 \ 1 - 2] وَهُوَ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مُلْكِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَيْضًا: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [2 \ 255] فَالْقَيُّومُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ وَالْقَائِمُ بِكُلِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 نَفْسٍ، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، ثُمَّ جَاءَ بِالدَّلِيلِ الْأَعْظَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فَهُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِبْدَاعِ وَالتَّصْوِيرِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [6 \ 101] ثُمَّ قَالَ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [6 \ 102] . وَذَكَرَ أَيْضًا الْخَلْقَ مُفَصَّلًا وَالْمُلْكَ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [39 \ 6] ثُمَّ قَالَ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [39 \ 6] ، وَقَالَ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [40 \ 62] ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [35 \ 3] وَجَمَعَ الْمُلْكَ وَالْخَلْقَ مَعًا فِي قَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [25 \ 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَمَنْ تَأَمَّلَ بَرَاهِينَ الْقُرْآنِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى قُدْرَتِهِ، عَلَى الْبَعْثِ وَهُمَا أَهَمُّ الْقَضَايَا الْعَقَائِدِيَّةِ يَجِدُ أَهَمَّهَا وَأَوْضَحَهَا وَأَكْثَرَهَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلَ، أَعْنِي دَلِيلَ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الدَّلِيلُ فِي الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمِنَ الْإِجْمَالِ مَا جَاءَ فِي أَصْلِ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعًا: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [13 \ 16] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [67 \ 1] ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 \ 82] ثُمَّ قَالَ: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [36 \ 83] ، وَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [67 \ 1 - 2] أَيْ: خَالِقُ الْإِيجَادِ وَالْعَدَمِ، وَخَلْقُ الْعَدَمِ يُسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ خَلْقَ الْإِيجَادِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِعْدَامِ مَا أَوْجَدَ يَكُونُ الْمَوْجُودُ مُسْتَعْصِيًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَجْزًا فِي الْمُوجِدِ لَهُ، كَمَنْ يُوجِدُ الْيَوْمَ سِلَاحًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْدَامِهِ، وَإِبْطَالِ مَفْعُولِهِ، فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي إِهْلَاكِهِ، وَلَا تَكْتَمِلُ الْقُدْرَةُ حَقًّا إِلَّا بِالْخَلْقِ وَالْإِعْدَامِ مَعًا، وَقَالَ فِي خَلْقِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [6 \ 1] . وَقَالَ فِي خَلْقِ الْأَفْلَاكِ وَتَنْظِيمِهَا: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [21 \ 33] . ثُمَّ فِي أُصُولِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [2 \ 29] . وَفِي أُصُولِ الْأَجْنَاسِ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالنَّبَاتُ وَالْإِنْسَانُ، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 58 - 59] . وَذَكَرَ مَعَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِعْدَامِ: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [56 \ 60] . وَفِي أُصُولِ النَّبَاتِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [56 \ 63، 64] . وَفِي أُصُولِ الْمَاءِ: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 68 - 69] . وَفِي أُصُولِ تَطْوِيرِ الْحَيَاةِ: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [56 \ 71 - 72] . وَفِي جَانِبِ الْحَيَوَانِ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الْآيَةَ [88 \ 17] . وَلِهَذَا فَقَدْ تَمَدَّحَ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ صِفَةِ الْخَلْقِ وَصِفَةِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَجْزِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [31 \ 10] ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [31 \ 11] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُوَبِّخًا لَهُمْ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17] ، ثُمَّ بَيَّنَ نِهَايَةَ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [25 \ 3] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 وَهَذَا غَايَةُ الْعَجْزِ، كَمَا ضَرَبَ لِذَلِكَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [22 \ 73] فَهُمْ حَقًّا لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا، وَلَا ضَرًّا وَلَوْ بِقَدْرِ الذُّبَابَةِ وَهَكَذَا تَرَى صِفَةَ الْخَلْقِ الْمُتَّصِفِ بِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْظَمَ دَلِيلٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ صِفَةَ التَّصْوِيرِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ صُورَةً تَخُصُّهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْبَعْثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 77 - 83] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى صَرِيحًا فِي ذَلِكَ وَنَصًّا عَلَيْهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [22 \ 5] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22 \ 6 - 7] . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ جَاحِدَ هَذَا الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ مُكَابِرٌ جَاهِلٌ، ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ مُبَاشَرَةً: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [22 \ 8 - 10] . وَمِنْ هُنَا كَانَ أَوَّلُ نِدَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ يُوَجَّهُ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ لِاسْتِحْقَاقِهِ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 [2 \ 21 - 22] أَيْ: لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا لَهُ بِأَنْدَادٍ فِيمَا اتَّصَفَ بِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا تُشْرِكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ. فَكَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ حَقًّا أَدِلَّةً عَلَى إِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْخَلْقِ تَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [20 \ 8] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمُرَادَ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [7 \ 180] . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْمَاءَهُ بِالْحُسْنَى؛ لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ فِي الْأَسْمَاعِ وَالْقُلُوبِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ، وَمَجِيءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى بَعْدَ تَعْدَادِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْتِ حَصْرُهَا وَلَا عَدُّهَا فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» . وَسَرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ عَدَدَ الْمِائَةِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَاتِ. وَذَكَرَ عَنْ آيَةِ «الْأَعْرَافِ» أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي هَذَا الْعَدَدِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ حُزْنَهُ وَهَمَّهُ» الْحَدِيثَ اهـ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ، وَأَسْمَاءً خَصَّ بِهَا بَعْضَ خَلْقِهِ كَمَا خَصَّ الْخِضْرَ بِعِلْمٍ مِنْ لَدُنْهُ، وَأَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، كَمَا يَدُلُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ: «فَيُلْهِمُنِي رَبِّي بِمَحَامِدَ لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ» ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ: يَتَعَلَّقُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ أَقْسَامِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ بِهَا وَتَعْلِيمُهَا وَمَا أُنْزِلُ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْجَمْعَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ عِنْدَ بَابِ: لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اسْتِخْرَاجَ الْمِائَةِ اسْمٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَزَادُوا وَنَقَصُوا؛ لِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ أَطَالَ فِي الْفَتْحِ بَحْثَ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ صَحِيفَةً مِمَّا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَلَا يَصْلُحُ تَلْخِيصُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ. كَمَا أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَلَّفَ فِيهَا، وَأَسَاسُ الْبَحْثِ يَدُورُ عَلَى نُقْطَتَيْنِ: الْأُولَى: تَعْيِينُ الْمِائَةِ اسْمٍ الْمُرَادَةِ. وَالثَّانِيَةُ: مَعْنَى أَحْصَاهَا، وَفِي رِوَايَةٍ حَفِظَهَا. وَقَدْ حَضَرْتُ مَجْلِسًا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي بَيْتِهِ مَعَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَازٍ وَسَأَلَهُ عَنِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ حَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ، وَأَنَّ الْإِحْصَاءَ أَوِ الْحِفْظَ لَا يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الْحِفْظِ لِلْأَلْفَاظِ غَيْبًا، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى أَحْصَى مَعَانِيهَا وَحَفِظَهَا مِنَ التَّحْرِيفِ فِيهَا وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّعْطِيلِ، وَحَاوَلَ التَّخَلُّقَ بِحُسْنِ صِفَاتِهَا كَالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْحَذَرِ مِنْ مِثْلِ الْجَبَّارِ وَالْقَهَّارِ، وَمُرَاقَبَةِ مِثْلِ: الْحَسِيبِ الرَّقِيبِ، وَكَذَلِكَ التَّعَرُّضُ لِمِثْلِ التَّوَّابِ وَالْغَفُورِ بِالتَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْهَادِي وَالرَّزَّاقِ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَادْعُوهُ بِهَا [7 \ 180] أَيْ: اطْلُبُوا مِنْهُ بِأَسْمَائِهِ، فَيُطْلَبُ بِكُلِّ اسْمٍ مَا يَلِيقُ بِهِ تَقُولُ: يَا رَحْمَانُ ارْحَمْنِي، يَا رَزَّاقُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 ارْزُقْنِي، يَا هَادِي اهْدِنِي، يَا تَوَّابُ تُبْ عَلَيَّ، وَهَكَذَا رَتِّبْ دُعَاءَكَ تَكُنْ مِنَ الْمُخْلِصِينَ اهـ. مَسْأَلَةٌ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ هَذَا مَا يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَلَا يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ، وَهِيَ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَهَا الذَّبْحُ وَرَسُولُ الرُّوحِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذَبَحَ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» أَيْ: أَكْبَرُ وَأَقْدَرَكَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ عَلَيْكَ مِنْهَا. فَإِذَا فَقِهَ الْإِنْسَانُ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى عَلَى هَذَا النَّحْوِ، كَانَ حَقًّا قَدْ أَحْصَاهَا وَحَفِظَهَا فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي مَعَانِيهَا، فَكَانَ حَقًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَقَدِ اسْتَوْقَفَنِي طَوِيلًا مَجِيءُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي نِهَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ تَذْيِيلًا لَهَا وَخِتَامًا وَبِأُسْلُوبِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ لِقَضَايَا التَّوْحِيدِ، وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، وَإِلْزَامِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ، فَمَكَثْتُ طَوِيلًا أَتَطَلَّبُ رَبْطَهَا بِمَا قَبْلَهَا، فَلَمْ أَجِدْ فِي كُلِّ مَا عَثَرْتُ عَلَيْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ أَكْثَرَ مِنْ شَرْحِ الْمُفْرَدَاتِ، وَإِيرَادِ بَعْضِ التَّنْبِيهَاتِ مِمَّا لَا يَنْفُذُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمَوْضُوعِ، وَلَا يَشْفِي عَلِيلًا فِي مُجْتَمَعَاتِنَا الْحَدِيثَةِ، أَوْ يُذْهِبُ شُبَهَ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى السُّورَةِ بِكَامِلِهَا أَتَأَمَّلُ مَوْضُوعَهَا فَإِذَا بِهَا تَبْدَأُ أَوَّلًا بِتَسْبِيحِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَهَذَا أَمْرٌ فَوْقَ مُسْتَوَى الْإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِيِّ، ثُمَّ تَسُوقُ أَعْظَمَ حَدَثٍ تَشْهَدُهُ الْمَدِينَةُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ، وَلَمْ يَكُنْ مَظْنُونًا إِخْرَاجُهُمْ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا فَكَانُوا مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ. ثُمَّ تَأْتِي لِمَوْقِفِ فَرِيقَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرِينَ. يَتَمَثَّلُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أُخُوَّةٍ، وَمَوَدَّةٍ، وَرَحْمَةٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِيثَارٍ عَلَى النَّفْسِ. وَيَتَمَثَّلُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْيَهُودِ، وَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ مُوَاعَدَةٍ، وَإِغْرَاءٍ، وَتَحْرِيضٍ، ثُمَّ تَخَلٍّ عَنْهُمْ وَخِذْلَانٍ لَهُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِحِزْبَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ حِزْبُ الرَّحْمَنِ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ صُورَةُ الْمُجْتَمَعِ فِي الْمَدِينَةِ آنَذَاكَ. ثُمَّ تَأْتِي إِلَى مُقَارَنَةٍ أُخْرَى بَيْنَ نَتَائِجِ هَذَيْنِ الْحِزْبَيْنِ وَمُنْتَهَاهُمَا وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرُ الْمَصِيرِ: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [59 \ 20] . وَهَذِهِ أَخْطَرُ قَضِيَّةٍ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أَيْ: تَقْرِيرُ مَصِيرِهَا، ثُمَّ بَيَانُ حَقِيقَةِ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ وَفَعَالِيَّتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ جَبَلًا أَشَمَّ أَوْ حَجَرًا أَصَمَّ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَرَأَيْتُهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَإِذَا بِهَا قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَوْضُوعِ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ، وَالْأُمَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْبَدْءِ وَالنِّهَايَةِ، وَصِرَاعِ الْحَقِّ مَعَ الْبَاطِلِ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالنُّفُوسِ فِي الشُّحِّ وَالْإِحْسَانِ، وَكُلُّهَا مَوَاقِفُ عَمَلِيَّةٌ وَمَنَاهِجُ وَاقِعِيَّةٌ وَأَمْثِلَةٌ بَيَانِيَّةٌ. وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. فَإِذَا مَا تَوَجَّهَ الْفِكْرُ فِي هَذَا الْعَرْضِ، وَتَنَقَّلَ مِنْ مَوْقِفٍ إِلَى مَوْقِفٍ، وَتَأَمَّلَ صُنْعَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ وَآيَاتِهِ، نَطَقَ بِتَسْبِيحِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، عَلِمَ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ الْعَالَمُ قَبْلَ وُجُودِهِ، فَأَوْجَدَهُ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ بِهِ، وَسَيَّرَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَلَيْهِ، عَلِمَ خِذْلَانَ الْمُنَافِقِينَ لِلْيَهُودِ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّضُوهُمْ، فَكَانَ كَمَا عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَحَذَّرَ مِنْ مُشَابَهَتِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى جَبَلٍ مَاذَا يَكُونُ حَالُهُ، فَحَثَّ الْعِبَادَ بِالْأَخْذِ بِهِ، وَلِعِلْمِهِ هَذَا بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، كَانَ حَقًّا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. ثُمَّ مَرَّةً أُخْرَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، بُرْهَانٌ آخَرُ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَبَرَاهِينَ مُتَنَوِّعَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، الْمَلِكُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مُلْكِهِ الْقُدُّوسُ، الْمُسَلَّمُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، الْمُسَيْطِرُ عَلَى مَا فِي مُلْكِهِ كُلِّهِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [67 \ 1] . وَهُنَا وَقْفَةٌ لِتَأَمُّلِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَعًا عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْمَلِكِ الْقُدُّوسِ وَالسَّلَامِ الْمُهَيْمِنِ، فَنَجِدُهَاِ مُتَرَابِطَةً مُتَلَازِمَةً؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ وَلَمْ يُهَيْمِنْ عَلَى شَيْءٍ فَلَا فَعَالِيَّةَ لِعِلْمِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 وَالْمَلِكُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ وَلَمْ يَتَقَدَّسْ عَنِ النَّقْصِ لَا هَيْمَنَةَ لَهُ عَلَى مُلْكِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ كُلُّ ذَلِكَ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ: الْعِلْمُ وَالْمُلْكُ وَالتَّقْدِيسُ وَالْهَيْمَنَةُ، حَصَلَ الْكَمَالُ وَالْجَلَالُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ، وَلَا يُشْرِكُهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَهُنَا، فِي نِهَايَةِ هَذَا السِّيَاقِ يَقِفُ الْمُؤْمِنُ وَقْفَةَ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ لِلَّهِ فَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ قَبْلَ الْإِيجَادِ. وَ (الْبَارِئُ) الْمُوجِدُ مِنَ الْعَدَمِ عَلَى مُقْتَضَى الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَّرَ شَيْئًا أَوْجَدَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَ (الْمُصَوِّرُ) الْمُشَكِّلُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَدَهُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُفْرِدْ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ مَوْجُودَاتِهِ عَلَى صُورَةٍ تَخْتَصُّ بِهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي خَلْقِ اللَّهِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ كُلٍّ فِي صُورَةٍ تَخُصُّهُ. وَبِالرُّجُوعِ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى أَوَّلِ السِّيَاقِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالتَّقْدِيرَ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ بِمُوجَبِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ أَوْ لِلْمُسْتَقْبَلِ الْغَائِبِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ وَالْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْقَادِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ يُوجِدُ مَا يُقَدِّرُهُ. وَ (الْمُهَيْمِنُ) : يُسَيِّرُ مَا يُوجِدُهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا يُقَدِّرُهُ. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُقْهَرُ الْجَبَّارُ الَّذِي يَقْهَرُ كُلَّ شَيْءٍ لِإِرَادَتِهِ، وَتَقْدِيرِهِ، وَيُخْضِعُهُ لِهَيْمَنَتِهِ. (الْمُتَكَبِّرُ) الَّذِي لَا يَتَطَاوَلُ لِكِبْرِيَائِهِ مَخْلُوقٌ، وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي صِفَاتِهِ، تَكَبَّرَ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ أَوْ يُشَارِكَهُ أَحَدٌ فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَفِي نِهَايَةِ السِّيَاقِ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ الْمُلْزِمِ وَانْتِزَاعُ الِاعْتِرَافِ وَالتَّسْلِيمِ: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ وَهُوَ أَعْظَمُ دَلِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: دَلِيلُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ لَابُدَّ لَهُمْ مِنْ خَالِقٍ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَنْطِقِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَابُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ، وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [52 \ 35] ، وَهَذَا بِالسَّيْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهُمْ أَيْ: مِنَ الْعَدَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 الْعَدَمَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُمْكِنَ لَهُ أَنْ يُوجِدَ مَوْجُودًا. أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ وَهُمْ أَيْضًا يَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا أَنْفُسَهُمْ، فَيَبْقَى الْمَخْلُوقُ لَابُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ. وَلَوْ قِيلَ مِنْ جَانِبِ الْمُنْكِرِ: إِنَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ وُجُودِ الْمَوْجُودِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى أَسْبَابٍ نُشَاهِدُهَا، كَالْأَبَوَيْنِ لِلْحَيَوَانِ، وَكَالْحَرْثِ وَالسَّقْيِ لِلنَّبَاتِ. . . إِلَخْ، فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمُصَوِّرُ، فَهَلِ الْأَبَوَانِ يَمْلِكَانِ تَصْوِيرَ الْجَنِينِ مِنْ جِنْسِ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ، أَوْ مِنْ جِنْسِ اللَّوْنِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالشَّبَهِ؟ الْجَوَابُ: لَا وَكَلَّا، بَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [42 \ 49] . وَكَذَلِكَ فِي النَّبَاتِ تُوضَعُ الْحَبَّةُ وَتُسْقَى بِالْمَاءِ، فَالتُّرْبَةُ وَاحِدَةٌ، وَالْمَاءُ وَاحِدٌ، فَمَنِ الَّذِي يُصَوِّرُ شَكْلَ النَّبَاتِ هَذَا نَجْمٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَذَاكَ نَبْتٌ عَلَى سَاقٍ، وَهَذَا كَرْمٌ عَلَى عَرْشٍ، وَذَاكَ نَخْلٌ بَاسِقَاتٌ، فَإِذَا طَلَعَتِ الثَّمَرَةُ فِي أَوَّلِ طَوْرِهَا فَمَنِ الَّذِي يُصَوِّرُهَا فِي شَكْلِهَا، مِنِ اسْتِدَارَتِهَا أَوِ اسْتِطَالَتِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَإِذَا تَطَوَّرَتْ إِلَى النُّضْجِ فَمَنِ الَّذِي صَوَّرَهَا فِي لَوْنِهَا الْأَحْمَرِ أَوِ الْأَصْفَرِ أَوِ الْأَسْوَدِ أَوِ الْأَخْضَرِ أَوِ الْأَبْيَضِ؟ هَلْ هِيَ التُّرْبَةُ أَوِ الْمَاءُ أَوْ هُمَا مَعًا، لَا وَكَلَّا. إِنَّهُ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، سُبْحَانَهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا. وَهُنَا عَوْدٌ عَلَى بَدْءٍ يَخْتِمُ السُّورَةَ بِمَا بَدَأَتْ بِهِ مَعَ بَيَانِ مُوجِبَاتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ، وَآيَاتِ وَحْدَانِيَّتِهِ، سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْمُمْتَحَنَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ. نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِ أَوْلِيَاءَ، وَلَفْظُ الْعَدُوِّ مُفْرَدٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْفَرْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [20 \ 117] يَعْنِي بِالْعَدُوِّ إِبْلِيسَ. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [18 \ 50] ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ لِمَا فِي السِّيَاقِ مِنَ الْقَرَائِنِ مِنْهَا قَوْلُهُ (أَوْلِيَاءَ) بِالْجَمْعِ، وَمِنْهَا: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ، وَمِنْهَا: وَقَدْ كَفَرُوا بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَمِنْهَا يُخْرِجُونَ أَيْضًا بِالْجَمْعِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا [60 \ 2] وَكُلُّهَا بِضَمَائِرِ الْجَمْعِ. أَمَّا الْعَدُوُّ الْمُرَادُ هُنَا فَقَدْ عَمَّ وَخَصَّ فِي وَصْفِهِ فَوَصَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَخَصَّ بِوَصْفِهِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ، وَالْوَصْفُ بِالْكُفْرِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُمَا مَعًا لِلتَّأْكِيدِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْخَاصِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [2 \ 98] فَفِي ذِكْرِ الْخَاصِّ هُنَا وَهُوَ وَصْفُ الْعَدُوِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلتَّهْيِيجِ عَلَى مَنْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [2 \ 191] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِالَّذِينِ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [47 \ 13] أَيْ: مَكَّةَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 [9 \ 40] الْآيَةَ. فَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِعَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ هُنَا خُصُوصَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَقِصَّةِ الرِّسَالَةِ مَعَ الظَّعِينَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِإِخْبَارِهِمْ بِتَجَهُّزِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْمُرَادَ بِالْعَدُوِّ هُنَا، وَلَكِنْ، وَإِنْ كَانَتْ بِصُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ إِلَّا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يُهْمَلُ، فَقَوْلُهُ: عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ تَجَدَّدَ مِنَ الطَّوَائِفِ الْحَدِيثَةِ. وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَفِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ [58 \ 14] . وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ -. وَعَنِ الْيَهُودِ فِي سُورَةِ «الْحَشْرِ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [5 \ 51] . وَمِنَ الطَّوَائِفِ الْمُحْدَثَةِ كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ مِنْ شُيُوعِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَالْهِنْدُوكِيَّةِ، وَالْبُوذِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا الْعُمُومَ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [5 \ 57 - 58] . فَكُلُّ مَنْ هَزِئَ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أَوِ اتَّخَذَهُ لَعِبًا وَلَهْوًا فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ تَنَاوُلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِيَّاهُ. تَنْبِيهٌ ذِكْرُ الْمُقَابَلَةِ هُنَا بَيْنَ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ فِيهِ إِبْرَازُ صُورَةِ الْحَالِ وَتَقْبِيحُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تَتَنَافَى مَعَ الْمُوَالَاةِ وَالْمُسَارَّةِ لِلْعَدُوِّ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ نَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَضِيَّةَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي تَقْدِيمِ عَدُوِّي أَوَّلًا، وَعَطْفِ عَدُوِّكُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: التَّقْدِيمُ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِدُونِ عِلَّةٍ، وَعَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ لِعِلَّةٍ، وَمَا كَانَ بِدُونِ عِلَّةٍ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 مَا كَانَ بِعِلَّةٍ. اهـ. وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ، وَبَلَاغِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ هِيَ الْأَصْلُ، وَهِيَ أَشَدُّ قُبْحًا، فَلِذَا قُدِّمَتْ، وَقُبْحُهَا فِي أَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ خَالِقِهِمْ، وَشَكَرُوا غَيْرَ رَازِقِهِمْ، وَكَذَّبُوا رُسُلَ رَبِّهِمْ وَآذَوْهُمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَا نَصُّهُ: «إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبُدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي» وَفِيهِ «خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي» كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهُ يُؤَكِّدُ بِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمَا كَانَ سَبَبًا فَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ الْأَصْلُ، أَنَّ الْكَفَّارَ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَانْتَفَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلَّهِ لَأَصْبَحُوا إِخْوَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَانْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا كَوْنُهُ مُغَيًّا بِغَايَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [4 \ 89] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [60 \ 4] فَإِذَا هَاجَرَ الْمُشْرِكُونَ وَآمَنَ الْكَافِرُونَ، انْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ وَجَاءَتِ الْمُوَالَاةُ. وَمِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ، هُوَ الْكُفْرُ يُعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ عَدَاوَةٌ لَا لِسَبَبِ الْكُفْرِ فَلَا يُنْهَى عَنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ؛ لِتَخَلُّفِ الْعِلَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [64 \ 14] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [64 \ 14] . فَلَمَّا تَخَلَّفَ السَّبَبُ الْأَسَاسِيُّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْعَدُوِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، جَاءَ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ لِسَبَبٍ آخَرَ هُوَ مَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [64 \ 15] ، فَكَانَ مُقْتَضَاهَا فَقَطِ الْحَذَرُ مِنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ، وَكَانَ مُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ نَصَّ صَرَاحَةً عَلَى عَدَمِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي خُصُوصِ مَنْ لَمْ يُعَادُوهُمْ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 الْآيَةَ [60 \ 8] . وَلِلْمُوَالَاةِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَضْوَاءِ: مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [5 \ 51] ، وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثَ فِيهَا. وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ عُرِضَ ضِمْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] ، وَبَيْنَ رَوَابِطِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ بِتَوَسُّعٍ. وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ [18 \ 50] الْآيَةَ. وَمِنْهَا فِي مَخْطُوطِ السَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ [47 \ 26] ، وَأَحَالَ فِيهَا عَلَى آيَةِ «الْمُمْتَحَنَةِ» هَذِهِ. وَمِنْهَا أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [47 \ 26] ، وَأَحَالَ عِنْدَهَا عَلَى مَوَاضِعَ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ سُورَةِ «الشُّورَى» «وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» . وَمِنْهَا فِي سُورَةِ «الْمُجَادِلَةِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [58 \ 14] . وَفِيمَا كَتَبَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - بَيَانٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَجِدْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - تَعَرَّضَ لِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ خُصُوصِ التَّخْصِيصِ لِلْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ الْآيَةَ [60 \ 8] . وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِيهَا شَيْئًا مَعَ أَنَّهَا نَصٌّ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي لَهَا بَيَانٌ لِذَلِكَ عِنْدَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. تَنْبِيهٌ رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُنَافِي الْإِيمَانَ؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 لِأَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ مَعَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِضَلَالِهِمْ عَنْ عُمُومِ إِيمَانِهِمْ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الضَّلَالَ هُنَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لَا مُطْلَقَ السَّبِيلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. (يَثْقَفُوكُمْ) أَيْ: يُدْرِكُوكُمْ، وَأَصْلُ الثَّقْفِ الْحِذْقُ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَفِعْلِهِ، وَالرُّمْحُ الْمُثَقَّفُ الْمُقَوَّمُ. قَالَ الرَّاغِبُ: ثُمَّ يُتَجَوَّزُ بِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْإِدْرَاكِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ ثَقَافَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [2 \ 191] ، وَقَالَ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [8 \ 57] اهـ. فَهَذِهِ نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي أَنَّ الثَّقَافَةَ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً الْآيَةَ، نَصَّ عَلَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَبَسْطَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ بِالسُّوءِ يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَثْقَفُوهُمْ مَعَ أَنَّ الْعَدَاءَ سَابِقٌ بِإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَشِدَّةِ التَّحْذِيرِ، وَأَنَّ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ هُوَ بَسْطُ الْأَيْدِي بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّهُمُ الْآنَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى وُجُودِ الْعَدَاوَةِ بِالْفِعْلِ لَدَى عُمُومٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [3 \ 118] فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَهْلَ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، أَيْ: فِي الْحَاضِرِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي إِنْ يَثْقَفُوكُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءٌ، وَقَدْ بَدَتْ مِنْهُمُ الْبَغْضَاءُ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ إِعْلَانَ الْمُقَاطَعَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ دُونَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ، قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى سَبَبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْحَسَدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [2 \ 109] . وَقَالَ تَعَالَى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا إِلَى قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [4 \ 88 - 89] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. الْأَرْحَامُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ لِعُمُومِ الْقَرَابَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [8 \ 75] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أَيْ: بِتَقَطُّعِ الْأَنْسَابِ بَيْنَهُمْ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [23 \ 101] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَتِيجَةَ هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 34 - 37] ، وَقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [70 \ 12] ، فَعَمَّتْ جَمِيعَ الْأَقَارِبِ وَبَيَّنَتْ سَبَبَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ذَوِي أَرْحَامِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا فِي قِصَّةِ سَبَبِ النُّزُولِ فِي أَمْرِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فِي إِرْسَالِهِ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مَكَّةَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ بِأَمْرِ التَّجَهُّزِ لَهُمْ. وَمَفْهُومُ الْوَصْفِ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يَدُلُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَفْهُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [52 \ 21] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [40 \ 8] . وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ رَوَابِطَ الدِّينِ أَقْوَى وَأَلْزَمُ مِنْ رَوَابِطِ النَّسَبِ. وَهَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَالْآيَةُ الْآتِيَةُ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِحَقِيقَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَشُمُولِهِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ. الْأُسْوَةُ كَالْقُدْوَةِ، وَهِيَ اتِّبَاعُ الْغَيْرِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ، وَهُنَا أَيْضًا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [60 \ 4] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا التَّأَسِّي الْمَطْلُوبَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ. فَالتَّأَسِّي هُنَا فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَوَّلًا: التَّبَرُّؤُ مِنْهُمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. ثَانِيًا: الْكُفْرُ بِهِمْ. ثَالِثًا: إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَإِعْلَانُهَا وَإِظْهَارُهَا أَبَدًا إِلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَبَدًا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ، فَإِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ انْتَفَى كُلُّ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ. وَهُنَا سُؤَالٌ، هُوَ مَوْضِعُ الْأُسْوَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِدَلِيلِ الْعَطْفِ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ فَقَائِلُ الْقَوْلِ لِقَوْمِهِمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا مَحَلُّ التَّأَسِّي بِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ لِقَوْمِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ مَوْضِعَ التَّأَسِّي، وَمَوْضِعُ التَّأَسِّي الْمَطْلُوبِ فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ مَا قَالَهُ مَعَ قَوْمِهِ الْمُتَقَدِّمِ جُمْلَةً، وَمَا فَصَّلَهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [43 \ 26 - 27] وَهَذَا التَّبَرُّؤُ جَعَلَهُ بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [43 \ 28] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 الِاسْتِثْنَاءِ وَهَلْ هُوَ خَاصٌّ بِإِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، أَمْ لِمَاذَا؟ وَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [9 \ 114] ، تِلْكَ الْمَوْعِدَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ فِي بَادِئِ دَعْوَتِهِ حِينَمَا قَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [19 \ 46 - 47] ، فَكَانَ قَدْ وَعَدَهُ وَوَفَّى بِعَهْدِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكَانَ مَحَلُّ التَّأَسِّي فِي إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا التَّبَرُّؤِ مِنْ أَبِيهِ، لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ. وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ وَلَيْسَتْ خَاصَّةً فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [9 \ 113] ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ فِيهِ تَبَعِيَّةُ أَحَدٍ لِأَحَدٍ، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَمِنْ عَجَبٍ أَنْ يَأْتِيَ نَظِيرَ مَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَبِيهِ مَوَاقِفُ مُمَاثِلَةٌ فِي أُمَمٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا مَوْقِفُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنِ ابْنِهِ لَمَّا قَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [11 \ 45] ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [11 \ 46] قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ الْآيَةَ [11 \ 47] ، فَكَانَ مَوْقِفُ نُوحٍ مِنْ وَلَدِهِ كَمَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَبِيهِ. وَمِنْهَا: مَوْقِفُ نُوحٍ وَلُوطٍ مِنْ أَزْوَاجِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [66 \ 10] . وَمِنْهَا: مَوْقِفُ زَوْجَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [66 \ 11] ، فَتَبَرَّأَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا، وَهَذَا التَّأَسِّي قَدْ بَيَّنَ تَمَامَ الْبَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ [60 \ 3] أَيْ: وَلَا آبَاؤُكُمْ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَقْرِبَائِكُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 بَيَّنَهُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ فِيهِ تَبَعِيَّةٌ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [6 \ 158] ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [82 \ 19] . وَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مُحَاضَرَةً فِي كَنُو بِنَيْجِيرْيَا فِي مُجْتَمَعٍ فِيهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ، فَعَرَضَ هَذَا الْمَوْضُوعَ، وَبَيَّنَ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ نَفْعَ أَحَدٍ فَكَانَ لَهَا وَقْعٌ عَظِيمُ الْأَثَرِ فِي النُّفُوسِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ طَبْعَهَا مَعَ طَبْعِ جَمِيعِ مُحَاضَرَاتِهِ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْمَيْمُونَةِ. مَسْأَلَةٌ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا بِدَلِيلِ التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالَّذِينَ مَعَهُ، وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقَدْ قَسَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُوَ شَرْعٌ لَنَا قَطْعًا، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا كَآيَةِ الرَّجْمِ، وَكَهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْمُوَالَاةِ، وَإِمَّا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا قَطْعًا كَتَحْرِيمِ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَتَحْرِيمِ بَعْضِ الشُّحُومِ، إِلَخْ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ نَنْهَ عَنْهُ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا لِذِكْرِهِ لَنَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَنَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ لَنَا فَائِدَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [42 \ 13] ، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، وَالشَّافِعِيُّ يُعَارِضُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَيَقُولُ: الْآيَةُ فِي الْعَقَائِدِ لَا فِي الْفُرُوعِ، وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [5 \ 48] ، وَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 الْمَذْكُورِ، فَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّنَا أُمِرْنَا بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي مُعَيَّنٍ جَاءَ فِي شَرْعِنَا الْأَمْرُ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. تَنْبِيهٌ يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ يَكَادُ يَكُونُ شَكْلِيًّا، وَكُلٌّ مَحْجُوجٌ بِمَا حَجَّ بِهِ الْآخَرَ، وَذَلِكَ كَالْآتِي: أَوَّلًا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شِرْعَةٍ وَعَلَى وُجُودِ مِنْهَاجٍ، فَإِذَا جِئْنَا لِاسْتِدْلَالِ الْجُمْهُورِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، لَمْ نَجِدْ فِيهِ ذِكْرَ الْمِنْهَاجِ، وَنَجِدْ وَاقِعَ التَّشْرِيعِ، أَنَّ مِنْهَاجَ مَا شَرَعَ لَنَا يُغَايِرُ مِنْهَاجَ مَا شَرَعَ لِمَنْ قَبْلَنَا كَمَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [2 \ 183] ، وَهَذَا يَتَّفِقُ فِي أَصْلِ الشِّرْعَةِ، وَلَكِنْ جَاءَ مَا يُبَيِّنُ الِاخْتِلَافَ فِي الْمِنْهَاجِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [2 \ 187] وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا، وَهُوَ ضِمْنُ مِنْهَاجِ مَنْ قَبْلَنَا وَشِرْعَتِهِمْ فَاتَّفَقْنَا مَعَهُمْ فِي الشِّرْعَةِ، وَاخْتَلَفَ مَنْهَجُنَا عَنْ مَنْهَجِهِمْ بِإِحْلَالِ مَا كَانَ مِنْهُ حَرَامًا، وَهَذَا مُلْزِمٌ لِلْجُمْهُورِ، وَهَكَذَا بَقِيَّةُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْجَمِيعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [2 \ 125] ، وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [14 \ 37] وَقَوْلِهِ عَنْ عِيسَى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [19 \ 31] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَجِّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [3 \ 97] ، وَقَوْلُهُ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا الْآيَةَ [22 \ 27] ، فَجَمِيعُ الْأَرْكَانِ، وَهِيَ فُرُوعٌ لَا عَقَائِدُ مَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَاشْتَرَكْنَا مَعَهُمْ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَلَكِنْ هَلْ كَانَتْ كُلُّهَا كَمَنْهَجِهَا عِنْدَنَا فِي أَوْقَاتِهَا وَأَعْدَادِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا، لَقَدْ وَجَدْنَا الْمُغَايَرَةَ فِي الصَّوْمِ وَاضِحَةً، وَهَكَذَا فِي غَيْرِهَا، فَالشِّرْعَةُ عَامَّةٌ لِلْجَمِيعِ وَالْمِنْهَاجُ خَاصٌّ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغِنَيُّ الْحَمِيدُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 إِعَادَةُ هَذِهِ الْآيَةِ تَأْكِيدٌ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ يُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي [60 \ 1] ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيهَا فِي الْمَاصَدَقَ، وَهُنَا جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ لِيَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ، وَتَكُونَ قَضِيَّةً عَامَّةً فِيمَا بَعْدُ لِكُلِّ مَنْ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، أَنْ يَتَأَسَّى بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي مَوْقِفِهِمِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، التَّوَلِّي هُنَا الْإِعْرَاضُ عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ عُمُومًا. وَهُنَا يَحْتَمِلُ تَوَلِّي الْكُفَّارِ وَمُوَالَاتَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ حَمِيدٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [64 \ 6] . وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ اسْتِغْنَاءِ اللَّهِ عَنْ طَاعَةِ الطَّائِعِينَ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَجَاءَ فِي خُصُوصِ الْحِجِّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] . وَجَاءَ فِي الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [29 \ 6] . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا» . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى غِنَاهُ الْمُطْلَقَ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [31 \ 26] . قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ جَعَلَ الْمَوَدَّةَ بِالْفِعْلِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَنْ عَادَوْهُمْ وَأُمِرُوا بِمُقَاطَعَتِهِمْ وَعَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ عَسَى مِنَ اللَّهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 وَاللَّهُ قَدِيرٌ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِعْلًا فِي سُورَةِ «النَّصْرِ» حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكَّةَ وَكَانُوا طُلَقَاءَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَعَامِ الْوُفُودِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَفِي التَّذْيِيلِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ، يُشْعِرُ بِأَنَّ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَمَوَدَّتَهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا الْآيَةَ [8 \ 63] . وَلِأَنَّ الْمَوَدَّةَ الْمُتَوَقَّعَةَ بِسَبَبِ هِدَايَةِ الْكُفَّارِ، وَالْهِدَايَةُ مِنْحَةٌ مِنَ اللَّهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأُولَى رُخْصَةً مِنَ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَكِنْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ صِنْفَانِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَقِسْمَانِ مِنَ الْمُعَامَلَةِ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عَدُوٌّ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ. إِذًا فَهُمَا قِسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَحُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَانِ لَمْ يَخْرُجَا عَنْ عُمُومِ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأَوْلَى رُخْصَةً بَعْدَ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَاعْتَبَرَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ الْأَوَّلِ، وَنَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ دَعْوَى النَّسْخِ فِي الْأُولَى، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ وَمَنَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَقْسِيمٌ لِعُمُومِ الْعَدُوِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [60 \ 1] ، مَعَ بَيَانِ كُلِّ قِسْمٍ وَحُكْمِهِ، كَمَا تَدُلُّ لَهُ قَرَائِنُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَرَائِنُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا التَّقْسِيمُ فَقِسْمَانِ: قِسْمٌ مُسَالِمٌ لَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 فَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بِرِّهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ، وَقِسْمٌ غَيْرُ مُسَالِمٍ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَيُظَاهِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِذْنِ بِالْبَرِّ وَالْقِسْطِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُوَالَاةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قَرَائِنَ، وَهِيَ عُمُومُ الْوَصْفِ بِالْكُفْرِ، وَخُصُوصُ الْوَصْفِ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَإِيَّاكُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِخْرَاجَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ كَانَ نَتِيجَةً لِقِتَالِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاتِهِ لِمَوْقِفِهِ الْمُعَادِي؛ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ تُنَافِي الْمُوَالَاةَ. وَلِذَا عَقَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأَيُّ ظُلْمٍ بَعْدَ مُوَالَاةِ الْفَرْدِ لِأَعْدَاءِ أُمَّتِهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْعَامُّ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَادُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ لَا بِقِتَالٍ، وَلَا بِإِخْرَاجٍ، وَلَا بِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَا ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ جَانِبٍ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْمُوَالَاةِ لِكُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَا يَمْنَعُ بِرَّهُمْ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَ فِيهَا جَدِيدُ بَحْثٍ بَعْدَ الْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبَقِيَ الْبَحْثُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَمِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: بَيَانُ مَنِ الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَالثَّانِي: بَيَانُ حُكْمِهَا، وَهَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ نُسِخَتْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ وَحَاجَةِ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَشَدِّ مَا تَكُونُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِقُوَّةِ تَشَابُكِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعُمْقِ تُدَاخُلِهَا، وَتَرَابِطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِ دَوْلَةٍ عَنْ أُخْرَى مِمَّا يَزِيدُ مِنْ وُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ. وَإِنِّي مُسْتَعِينُ اللَّهِ فِي إِيرَادِ مَا قِيلَ فِيهَا، ثُمَّ مُقَدِّمٌ مَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَاُ مَنْسُوخَةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ زَمَنَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ، قِيلَ بِآيَةِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [9 \ 5] قَالَهُ قَتَادَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 وَقِيلَ: كَانَتْ فِي أَهْلِ الصُّلْحِ فَلَمَّا زَالَ زَالَ حُكْمُهَا وَانْتَهَى الْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَهْدِ حَتَّى يَنْتَهِيَ عَهْدُهُمْ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ وَمُرْتَبِطَةً بِقَوْمٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْعَاجِزِينَ عَنِ الْقِتَالِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ حِينَمَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَعَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ قَدْ نُسِخَتْ، بِفَوَاتِ وَقْتِهَا وَذَهَابِ مَنْ عُنِيَ بِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ قَالَهُ أَيْضًا الْقُرْطُبِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَنَقَلَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَاءَتْ إِلَيْهَا وَهِيَ لَمْ تُسْلِمْ بَعْدُ وَكَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتْ لِابْنَتِهَا بِهَدَايَا فَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَهَا مِنْهَا وَأَنْ تَسْتَقْبِلَهَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهَا وَأَمَرَهَا بِصِلَتِهَا وَعَزَاهُ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَذَكَرَ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ قُدُومَهَا كَانَ فِي وَقْتِ الْهُدْنَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ الْهُدْنَةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ أَيْ بِانْتِهَائِهَا، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ دَائِرَةٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ بَيْنَ الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ. وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ وَتَقَيَّدْنَا بِصُورَةِ السَّبَبِ، نَجِدُ أَوَّلَهَا نَزَلَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَهْدِ بِنَقْضِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ، وَعِنْدَ تَهَيُّئِ الْمُسْلِمِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَمَجِيءِ أُمِّ أَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ فَهَلْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْعَهْدِ أَمْ لَا؟ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِنَّ. وَعَلَيْهِ فَلَا دَلَالَةَ فِي قِصَّةِ أُمِّ أَسْمَاءَ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهِ. وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ نَجِدِ الْآيَةَ صَرِيحَةً شَامِلَةً لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُنَاصِبِ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَاءَ، وَلَمْ يُظْهِرْ سُوءًا إِلَيْهِمْ، وَهِيَ فِي الْكُفَّارِ أَقْرَبُ مِنْهَا فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ دَعْوَى النَّسْخِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ يُقَاوِمُ صَرَاحَةَ هَذَا النَّصِّ الشَّامِلِ، وَتَوَفُّرَ شُرُوطِ النَّسْخِ الْمَعْلُومَةِ فِي أُصُولِ التَّفْسِيرِ. وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ النَّسْخِ مَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [3 \ 28] بِأَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَالضَّعْفِ مَعَ اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَبَاقٍ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ اللُّزُومِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا فِي حَالَةِ قُوَّةٍ وَعَدَمِ خَوْفٍ وَفِي مَأْمَنٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُسَالَمَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ بِرِّهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِقْسَاطِ مَعَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، بَلْ وَفِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَعَدَمِ مُعَادَاةِ مَنْ لَمْ يُعَادِهِمْ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي نَوَّهْنَا عَنْهَا سَابِقًا مَا جَاءَ فِي التَّذْيِيلِ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فَهَذَا تَرْشِيحٌ لِمَا قَدَّمْنَا كَمَا قَابَلَ هَذَا بِالتَّذْيِيلِ عَلَى الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَفِيهِ مُقَابَلَةٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ فَالْعَدْلُ فِي الْإِحْسَانِ، وَالْقِسْطُ لِمَنْ يُسَالِمُكَ، وَالظُّلْمُ مِمَّنْ يُوَالِي مَنْ يُعَادِي قَوْمَهُ. وَمِمَّا يَنْفِي النَّسْخَ عَدَمُ التَّعَارُضِ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيْنَ آيَةِ السَّيْفِ، لِأَنَّ شَرْطَ النَّسْخِ التَّعَارُضُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَمَعْرِفَةُ التَّارِيخِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ وَالتَّعَارُضُ مَنْفِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لَا يَمْنَعُ الْإِحْسَانَ قَبْلَهُ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا لِيُفَاجِئُوا قَوْمًا بِقِتَالٍ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ قَطْعًا، وَلِأَنَّهُمْ قَبِلُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ، وَعَامَلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ بِكُلِّ إِحْسَانٍ وَعَدَالَةٍ. وَقِصَّةُ الظَّعِينَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ صَاحِبَةِ الْمَزَادَتَيْنِ لَمْ يُقَاتِلُوهَا أَوْ يَأْسِرُوهَا أَوْ يَسْتَبِيحُوا مَاءَهَا بَلِ اسْتَاقُوهَا بِمَائِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ مِنْ مَزَادَتَيْهَا قَلِيلًا، وَدَعَا فِيهِ وَرَدَّهُ، ثُمَّ اسْتَقَوْا وَقَالَ لَهَا: اعْلَمِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَقَانَا وَلَمْ تَنْقُصْ مِنْ مَزَادَتَيْكِ شَيْئًا، وَأَكْرَمُوهَا وَأَحْسَنُوا إِلَيْهَا، وَجَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، وَأَرْسَلُوهَا فِي سَبِيلِهَا فَكَانَتْ تَذْكُرُ ذَلِكَ، وَتَدْعُو قَوْمَهَا لِلْإِسْلَامِ. وَقِصَّةُ ثُمَامَةَ لَمَّا جِيءَ بِهِ أَسِيرًا وَرُبِطَ فِي سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَكَانَ يُرَاحُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَلِيبِ سَبْعِ نِيَاقٍ حَتَّى فُكَّ أَسْرُهُ فَأَسْلَمَ طَوَاعِيَةً، وَهَكَذَا نَصَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ الْآيَةَ [76 \ 8 - 9] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَسِيرٍ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مِنَ الْكُفَّارِ. وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَهِيَ سَنَةُ الْوُفُودِ، فَكَانَ يَقْدِمُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَلَقَّوْنَ الْجَمِيعَ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ كَوَفْدِ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ وَهَاهُو ذَا وَفْدُ تَمِيمٍ جَاءَ يُفَاخِرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 وَيُفَاوِضُ فِي أُسَارَى لَهُ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ - صلّى الله عليه وسلم - وَيَسْتَمِعُ مُفَاخَرَتِهِمْ وَيَأْمُرُ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي النِّهَايَةِ يُسْلِمُونَ وَيُجِيزُهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَوَائِزِ، وَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ، لِأَنَّ وَفْدًا يَأْتِي مُتَحَدِّيًا مُفَاخِرًا لَكِنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَجَاءَ فِي أَمْرٍ جَارٍ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ فَجَارَاهُمْ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا بِالْمُفَاخَرَةِ بُعِثَ، وَلَكِنْ تَرَفُّقًا بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ كَانَ فَأَسْلَمُوا، وَهَذَا مَا تُعْطِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا. وَقَدْ بَحَثَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ نَوَاحِي النَّقْلِ وَأَخِيرًا خَتَمَ بَحْثَهُ بِقَوْلِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتَصِلُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، جَمِيعَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتُهُ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ أَوْ مِمَّنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَلَا نَسَبَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَهُ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ أَسْمَاءَ وَأُمِّهَا. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، يَقُولُ إِنِ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُنْصِفِينَ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ النَّاسَ وَيُعْطُونَهُمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَبِرُّونَ مَنْ بَرَّهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، انْتَهَى مِنْهُ. وَفِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْحَثٌ هَامٌّ نَسُوقُهُ أَيْضًا بِنَصِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، قَالَ: يُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ تَأَثَّرَ مِنْ صِلَةِ الْمُشْرِكِينَ أَحْسَبُ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ فَرْضُ جِهَادِهِمْ وَقَطْعُ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَنَزَلَ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [58 \ 22] ، فَلَمَّا خَافُوا أَنْ تَكُونَ الْمَوَدَّةُ الصِّلَةَ بِالْمَالِ أَنْزَلَ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَتِ الصِّلَةُ بِالْمَالِ، وَالْبِرِّ، وَالْإِقْسَاطِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَالْمُرَاسَلَةِ بِحُكْمِ اللَّهِ غَيْرَ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْوَلَايَةِ لِمَنْ نُهُوا عَنْ وَلَايَتِهِ مَعَ الْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبَاحَ بِرَّ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ إِلَى مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ بَلْ ذَكَرَ الَّذِينَ ظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ فَنَاهُمْ عَنْ وَلَايَتِهِمْ إِذْ كَانَ الْوَلَايَةُ غَيْرَ الْبِرِّ وَالْإِقْسَاطِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى بَعْضَ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّأْلِيبِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلِسَانِهِ، وَمِنْ بَعْدِ بَدْرٍ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَسْرِهِ وَأَسْلَمَ ثُمَامَةُ وَحَبَسَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُمِيرَهُمْ فَأَذِنَ لَهُ فَمَارَهُمْ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76 \ 8] ، وَالْأَسْرَى يَكُونُونَ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. اهـ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي صَوَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي تَقْتَضِيهِ رُوحُ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، أَمَّا وِجْهَةُ النَّظَرِ الَّتِي وَعَدْنَا بِتَقْدِيمِهَا فَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مُشْتَرِكَةٌ مَصَالِحُهُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَمُرْتَبِطَةٌ بِمَجْمُوعِ دُوَلِ الْعَالَمِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا يُمْكِنُ لِأُمَّةٍ الْيَوْمَ أَنْ تَعِيشَ مُنْعَزِلَةً عَنِ الْمَجْمُوعَةِ الدَّوْلِيَّةِ؛ لِتَدَاخُلِ الْمَصَالِحِ وَتَشَابُكِهَا، وَلَاسِيَّمَا فِي الْمَجَالِ الِاقْتِصَادِيِّ عَصَبِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ مِنْ إِنْتَاجٍ أَوْ تَصْنِيعٍ أَوْ تَسْوِيقٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُسَاعَدَةً عَلَى جَوَازِ التَّعَامُلِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُسَالِمِينَ وَمُبَادَلَتِهِمْ مَصْلَحَةً بِمَصْلَحَةٍ عَلَى أَسَاسِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فِي حَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي عِدَّةِ مُنَاسَبَاتٍ مِنْ مُحَاضَرَاتِهِ وَمِنَ الْأَضْوَاءِ نَفْسِهِ، وَبِشَرْطِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مِنْ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ أَيْ: عَدَمُ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ، وَلَوْ قِيلَ بِشَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ يَتَعَاوَنُ أَوَّلًا مَعَ بَعْضِهِ، فَإِذَا أَعْوَزَهُ أَوْ بَعْضَ دُوَلِهِ حَاجَةٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَدُوًّا عَلَى قِتَالِهِمْ فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ عَمَلِيًّا مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِلْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ. فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 [60 \ 1] ، وَمَنْصُوصٌ عَلَى عَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [5 \ 51] . وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا أَخْرَجَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ وَحَاصَرَهُمْ بَعْدَهَا فِي خَيْبَرَ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَصْبَحُوا فِي قَبْضَةِ يَدِهِ فَلَمْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْمُقَاتِلِينَ، وَلَا مُظَاهِرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ عَامَلَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِسْطِ فَعَامَلَهُمْ عَلَى أَرْضِ خَيْبَرَ وَنَخِيلِهَا وَأَبْقَاهُمْ فِيهَا عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ كَأُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لِحِسَابِهِ وَحِسَابِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتَّخِذْهُمْ عَبِيدًا يُسَخِّرُهُمْ فِيهَا، وَبَقِيَتْ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْقِسْطِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ ابْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ذَهَبَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا عَرَضُوا مِنَ الرِّشْوَةِ؛ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ: وَاللَّهِ لِأَنْتَمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ وَجِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَلَنْ يَحْمِلَنِي بُغْضِي لَكُمْ، وَلَا حُبِّي لَهُ أَنْ أَحْيَفَ عَلَيْكُمْ، فَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا بِنِصْفِ مَا قُدِّرَتْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا قُدِّرَتْ، فَقَالُوا لَهُ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَيْ: بِالْعَدَالَةِ وَالْقِسْطِ، وَقَدْ بَقُوا عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةَ زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافَةَ الصِّدِّيقِ، وَصَدَرَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عَنْهَا. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَعْطَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَعْطَاهُمُ الصِّدِّيقُ حَتَّى مَنَعَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهَمِّيَّتِهَا وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا الْيَوْمَ. وَفِي الْخِتَامِ إِنَّ أَشَدَّ مَا يَظْهَرُ وُضُوحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ فِيهِ نَسْخًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [31 \ 15] . فَهَذِهِ حُسْنُ مُعَامَلَةٍ، وَبِرٍّ، وَإِحْسَانٍ لِمَنْ جَاهَدَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ وَلَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ حَقُّ الْأُبُوَّةِ مُقَدَّمًا، وَلَوْ مَعَ الْكُفْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ عَلَى الشِّرْكِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي نِهَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [60 \ 10] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [60 \ 10] أَيْ: آتُوا الْمُشْرِكِينَ أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ مَا أَنْفَقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ بَعْدَ هِجْرَتِهِنَّ، فَبَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ وَهَاجَرَتْ وَانْحَلَّتِ الْعِصْمَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ، وَبَعُدَتْ عَنْهُ بِالْهِجْرَةِ وَفَاتَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤْتُوا أَزْوَاجَهُنَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، مَا أَنْفَقُوا مِنْ صَدَاقٍ عِنْدَ الزَّوَاجِ وَنَحْوِهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَجْزِهِمْ عَنِ اسْتِرْجَاعِ الزَّوْجَاتِ، وَعَدَمِ جَوَازِ مُوَالَاتِهِمْ قَطْعًا لِكُفْرِهِمْ، وَهَذَا مِنَ الْمُعَامَلَةِ بِالْقِسْطِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، نَصَّ عَلَى امْتِحَانِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُهُنَّ مَا خَرَجَتْ كُرْهًا لِزَوْجٍ، أَوْ فِرَارًا لِسَبَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَ امْتِحَانُهُنَّ بِالْبَيْعَةِ الْآتِيَةِ: لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ [60 \ 12] الْآيَةَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرِّجَالَ الْمُهَاجِرِينَ لَا يُمْتَحَنُونَ. وَفِعْلًا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ وَالسَّبَبُ فِي امْتِحَانِهِنَّ دُونَ الرِّجَالِ، هُوَ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ، كَأَنَّ الْهِجْرَةَ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي فِي حَقِّهِنَّ بِخِلَافِ الرِّجَالِ، فَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُمْ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ بِالْهِجْرَةِ فِي قَوْلِهِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [59 \ 8] ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ مُهَاجِرًا يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ تَبِعَةَ الْجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ فَلَا يُهَاجِرُ إِلَّا وَهُوَ صَادِقُ الْإِيمَانِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى امْتِحَانٍ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ جَانِبِيٌّ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْمُهِمَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْهِجْرَةِ الْمُنَوِّهِ عَنْهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي [60 \ 1] الْآيَةَ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ وَلَا يَلْزَمُهُنَّ بِالْهِجْرَةِ أَيَّةُ تَبَعِيَّةٍ، فَأَيُّ سَبَبٍ يُوَاجِهُهُنَّ فِي حَيَاتِهِنَّ سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ بِاسْمِ الْهِجْرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 لِلتَّوَثُّقِ مِنْ هِجْرَتِهِنَّ بِامْتِحَانِهِنَّ لِيُعْلَمَ إِيمَانُهُنَّ، وَيُرَشِّحُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، وَفِي حَقِّ الرِّجَالِ: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [59 \ 8] ، وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هِجْرَةَ الْمُؤْمِنَاتِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا حَقٌّ مَعَ طَرَفٍ آخَرَ، وَهُوَ الزَّوْجُ فَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا مِنْهُ، وَيُعَوَّضُ هُوَ عَمَّا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَإِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي النِّكَاحِ وَإِيجَابُ حَقِّهِ فِي الْعِوَضِ قَضَايَا حُقُوقِيَّةٌ، تَتَطَلَّبُ إِثْبَاتًا بِخِلَافِ هِجْرَةِ الرِّجَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ لَا يَنْبَغِي إِرْجَاعُهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُنَّ إِنْ رَجَعْنَ إِلَيْهِمْ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يَأْتِي النَّصُّ عَلَيْهِ؟ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخَصِّصَةٌ لِمَا جَاءَ فِي مُعَاهَدَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَنْ جَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ مُسْلِمًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدُّوهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرًا لِلْمُشْرِكِينَ لَا يَرُدُّونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأُخْرِجَتِ النِّسَاءُ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ وَأَبْقَتِ الرِّجَالَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَتَخْصِيصُ السُّنَةِ بِالْقُرْآنِ، وَتَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَةِ مَعْلُومٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ مِنْ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَخُصِّصَ الْكِتَابُ وَالْحَدِيثُ بِهِ ... أَوْ بِالْحَدِيثِ مُطْلَقًا فَلْتَنْتَبِهْ وَمِمَّا ذَكَرَهُ لِأَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالْكِتَابِ قَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلم: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» ، أَيْ: مُحَرَّمٌ، جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا [16 \ 80] أَيْ: لَيْسَ مُحَرَّمًا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [5 \ 3] جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ» الْحَدِيثَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ بَعْدُ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا وَكَانَ كَافِرًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ شَرَطْتَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مُخَصِّصَةً لِلْمُعَاهَدَةِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِيهَا ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَقَطْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَتْ فَارَّةً مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَوَيْهَا وَحَبَسَهَا، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدَّهَا عَلَيْنَا لِلشَّرْطِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ لِمُعَاهَدَةِ الْهُدْنَةِ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَمْثِلَةِ لِتَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ عَنْ عُرْوَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالسُّدِّيِّ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ أَمْرَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْآيَةِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّهَا أَحْدَثَتْ حُكْمًا جَدِيدًا فِي حَقِّهِنَّ وَهُوَ عَدَمُ الْحِلِّيَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا مَحَلَّ لِإِرْجَاعِهِنَّ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ مُعَاهَدَةِ الْهُدْنَةِ مَعَ هَذَا الْحُكْمِ فَخَرَجْنَ مِنْهَا وَبَقِيَ الرِّجَالُ. وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّهَا جَعَلَتْ لِلْأَزْوَاجِ حَقَّ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنَّ دَاخِلَاتٍ أَوَّلًا لَمَا كَانَ طَلَبُ الْمُعَاوَضَةِ مُلْزِمًا، وَلَكِنَّهُ صَارَ مُلْزِمًا، وَمُوجِبُ إِلْزَامِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ مَنْعَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ بِمُقْتَضَى الْمُعَاهَدَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا خَرَجْنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَزْوَاجِ كُنَّ كَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ فَلَزِمَهُنَّ الْعِوَضُ الْمَذْكُورُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، فِيهَا تَحْرِيمُ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْهِجْرَةِ لَا بِالْإِسْلَامِ قَبْلَهَا، وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَقِيَتِ الْعِصْمَةُ إِلَى نِهَايَةِ الْعُدَّةِ، فَإِنْ هَاجَرَ الطَّرَفُ الْآخَرُ فِيهَا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا الْأَوَّلِ. وَهُنَا مَبْحَثُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَقَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ فِي أَمْرِ رَدِّهَا إِلَيْهِ هَلْ كَانَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، أَوْ جَدَّدَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْدًا جَدِيدًا، وَمِنْ أَسْبَابِ كَثْرَةِ الْخِلَافِ الرَّبْطُ بَيْنَ تَارِيخِ إِسْلَامِهَا وَتَارِيخِ إِسْلَامِهِ، وَبَيْنَهُمَا سِتُّ سَنَوَاتٍ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ لَمْ يَقَعْ تَحْرِيمٌ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَكَافِرٍ، وَنُزُولُهَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِسْلَامُهَا كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهَذَا يُوَافِقُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَةَ كَانَتْ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْ نِكَاحَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتِ انْتَظَرَتْ. اهـ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهَا لَمْ يَكُنْ كُفْأً لَهَا وَإِذَا انْتَفَتِ الْكَفَاءَةُ أُعْطِيَتِ الزَّوْجَةُ الْخِيَارَ، كَقِصَّةِ بَرِيرَةَ لَمَّا عُتِقَتْ وَكَانَ زَوْجُهَا مَمْلُوكًا، وَلَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ كُفْرِ الزَّوْجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ إِذَا جَاءَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ أَنَّ عَلَيْهَا رَدَّ مَا أَنْفَقَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا، وَكَوْنُهُ الصَّدَاقَ أَوْ أَكْثَرَ قَدْ بَحَثَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مَبْحَثِ الْخُلْعِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَكِّ عِصْمَةِ زَوْجَاتِهِمِ الْكَوَافِرِ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَئِذٍ زَوْجَتَيْنِ، وَطَلَّقَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ زَوْجَتَهُ أَرْوَى بِنْتَ رَبِيعَةَ، وَعِصَمُ الْكَوَافِرِ عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرَةٍ، فَيَشْمَلُ الْكِتَابِيَّاتِ لِكُفْرِهِنَّ بِاعْتِقَادِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - وَلَكِنَّ هَذَا الْعُمُومَ قَدْ خُصِّصَ بِإِبَاحَةِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [5 \ 5] أَيْ: الْحَرَائِرُ، وَبَقِيَتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكَةِ بِالْعَقْدِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَمَفْهُومُ الْعِصْمَةِ لَا يَمْنَعُ الْإِمْسَاكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمُشْرِكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ حُرْمَةُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ مُطْلَقًا مُشْرِكًا كَانَ أَوْ كِتَابِيًّا عَلَى التَّأْبِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، أَيْ: فِي الْحَاضِرِ، وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ فَصَّلَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مَسْأَلَةَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّكَاحِ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ [4 \ 25] . تَنْبِيهٌ هُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ: إِذَا كَانَ الْكُفْرُ هُوَ سَبَبَ فَكِّ عِصْمَةِ الْكَافِرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَتَحْرِيمِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَلِمَاذَا حَلَّتِ الْكَافِرَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْمُسْلِمِ، وَلَمْ تَحِلَّ الْمُسْلِمَةُ لِلْكَافِرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ وَالْقَوَامَةُ فِي الزَّوَاجِ لِلزَّوْجِ قَطْعًا لِجَانِبِ الرُّجُولَةِ، وَإِنْ تَعَادَلَا فِي الْحِلِّيَةِ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ التَّعَادُلَ لَا يُلْغِي الْفَوَارِقَ كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 فَإِذَا امْتَلَكَ رَجُلٌ امْرَأَةً حَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا امْتَلَكَتْ عَبْدًا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَسْتَمْتِعَ مِنْهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلِقَوَامَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَلَى أَوْلَادِهَا وَهُوَ كَافِرٌ لَا يَسْلَمُ لَهَا دِينُهَا، وَلَا لِأَوْلَادِهَا. وَالْجَانِبُ الثَّانِي: شُمُولُ الْإِسْلَامِ وَقُصُورُ غَيْرِهِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرٌ اجْتِمَاعِيٌّ لَهُ مَسَاسٌ بِكِيَانِ الْأُسْرَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً، فَهُوَ يُؤْمِنُ بِكِتَابِهَا وَبِرَسُولِهَا، فَسَيَكُونُ مَعَهَا عَلَى مَبْدَأِ مَنْ يَحْتَرِمُ دِينَهَا لِإِيمَانِهِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَسَيَكُونُ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلتَّفَاهُمِ، وَقَدْ يَحْصُلُ التَّوَصُّلُ إِلَى إِسْلَامِهَا بِمُوجِبِ كِتَابِهَا، أَمَّا الْكِتَابِيُّ إِذَا تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً، فَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِدِينِهَا، فَلَا تَجِدُ مِنْهُ احْتِرَامًا لِمَبْدَئِهَا وَدِينِهَا، وَلَا مَجَالَ لِلْمُفَاهَمَةِ مَعَهُ فِي أَمْرٍ لَا يُؤْمِنُ بِهِ كُلِّيَّةً، وَبِالتَّالِي فَلَا مَجَالَ لِلتَّفَاهُمِ وَلَا لِلْوِئَامِ، وَإِذًا فَلَا جَدْوَى مِنْ هَذَا الزَّوَاجِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَمَنَعَ مِنْهُ ابْتِدَاءً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، يَعْنِي صَدَاقَهُنَّ. وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ النِّكَاحَ بِدُونِ الْأُجُورِ فِيهِ جُنَاحٌ، وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [33 \ 50] ، فَهِبَةُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِدُونِ صَدَاقٍ خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُحِلُّهُ لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِتْيَانِ الْأُجُورِ. وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ بِدُونِ إِتْيَانِ الصَّدَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ الْآيَةَ [2 \ 236] . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ الْمُفَوَّضَةِ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهُ صَدَاقُ الْمِثْلِ، وَيَدُلُّ لِإِطْلَاقِ الْأُجُورِ عَلَى الصَّدَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ طَوْلًا لِلْحَرَائِرِ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، إِلَى قَوْلِهِ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [4 \ 25] وَفِي نِكَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ الْآيَةَ [5 \ 5] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [33 \ 50] ، وَبِهَذَا كُلِّهِ يُرَدُّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِلَفْظِ الْأُجُورِ عَلَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [4 \ 24] وَتَقَدَّمَ مَبْحَثُ الْمُتْعَةِ مُوجَزًا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. الْقَيْدُ بِالْمَعْرُوفِ هُنَا لِلْبَيَانِ وَلَا مَفْهُومَ لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْرُوفٌ، وَفِيهِ حَيَاتُهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [8 \ 24] ، فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] ، وَلَكِنْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لَا طَاعَةَ لَهُ إِلَّا فِي الْمَعْرُوفِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [60 \ 13] . يَرَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي خِتَامِ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْآيَةِ الْأُولَى فِي أَوَّلِهَا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَمَّا افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَفَّارِ أَوْلِيَاءَ خَتَمَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِتَرْكِ مُوَالَاتِهِمْ، وَتَنْفِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ وَإِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَنْهَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَمَا نَهَى عَنْهَا فِي أَوَّلِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنًى جَدِيدًا، وَذَلِكَ لِلْآتِي: أَوَّلًا: أَنَّهَا نَصٌّ فِي قَوْمٍ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ حَمَلَهَا الْبَعْضُ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَحَمَلَهَا الْبَعْضُ عَلَى خُصُوصِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ صَارَ عُرْفًا لَهُمْ، هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَمِمَّا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُقَدِّمَةِ الْأَضْوَاءِ، أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ مُرَجَّحًا عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ مُحَقَّقٌ هُنَا، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، أَصْبَحَ عُرْفًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ خَصَّهُمْ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 [5 \ 60] ، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [2 \ 90] ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1 \ 7] ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، لَمَا كَانَ بَعِيدًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى غَضَبِهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا الْخُصُوصِ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 30 [58 \ 14] ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ خَاصَّةً فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْغَرَضُ مِنْ تَخْصِيصِهَا بِهِمَا وَعَوْدَةِ ذَكَرِهِمَا بَعْدَ الْعُمُومِ الْمُتَقَدِّمِ فِي عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، كَمَا أَسْلَفْنَا هُوَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، لَمَّا نَهَى أَوَّلًا عَنْ مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ، وَأَمَرَ بِتَقْطِيعِ الْأَوَاصِرِ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، جَاءَ بَعْدَهَا مَا يُشِيعُ الْأَمَلَ بِقَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [60 \ 7] ، وَعَادَيْتُمْ عَامَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ، وَالْمُنَافِقِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مَدْلُولٍ عَسَى تِلْكَ، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِخُصُوصِهِمْ لِئَلَّا يَطْمَعَ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَنْتَظِرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَيْأَسَهُمْ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ، كَيَأْسِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: بِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَابِطَةُ الرَّجَاءِ الْمُتَقَدِّمِ فِي عَسَى، وَفِعْلًا كَانَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ، فَقَدْ جَعَلَ الْمَوَدَّةَ مِنْ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا الْيَهُودِ، فَهِيَ إِذًا مُؤَسِّسَةٌ لِمَعْنًى جَدِيدٍ، وَلَيْسَتْ مُؤَكِّدَةً لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الصَّفِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) . فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْكَارٌ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَيَانُ شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ وَمَقْتِهِ عَلَى مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَوْلَ الْمُغَايِرَ لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْمُعَاتَبِينَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَوْجِبَ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ إِلَّا أَنَّ مَجِيءَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَهُمَا يُشْعِرُ بِمَوْضُوعِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ مَعَ تَعَدُّدِهِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ حَوْلَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَمَعْرِفَةِ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْآيَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ وَتَمَنِّيهِمْ إِيَّاهُ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [47 \ 20] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [4 \ 77] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 [33 \ 15] . فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى: تَمَنَّوْا نُزُولَ سُورَةٍ يُؤْذَنُ فِيهَا بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ صَارَ مَرْضَى الْقُلُوبِ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ، فَتَمَنَّوُا الْإِذْنَ لَهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ رَجَعُوا وَتَمَنَّوْا لَوْ أُخْرِجُوا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ. وَفِي الثَّالِثَةِ: أَعْطَوُا الْعُهُودَ عَلَى الثَّبَاتِ وَعَدَمِ التَّوَلِّي، وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا، فَلَمَّا كَانَ فِي أُحُدٍ وَقَعَ مَا وَقَعَ وَكَذَلِكَ فِي حُنَيْنٍ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ الْآيَةَ [33 \ 13 - 15] . فَفِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِعِتَابِهِمْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ مَعْنَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَيُقَابِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَدَحَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهُمْ حِينَ أَوْفَوْا بِالْعَهْدِ، وَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [33 \ 23] . ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهَا: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا الْآيَةَ [33 \ 24 - 25] ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُغَايِرَ لِلْقَوْلِ هُنَا هُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَوْجَبُوا الْعِتَابَ عَلَيْهِ، كَمَا تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ وَفَّوْا بِالْعَهْدِ اسْتَوْجَبُوا الثَّنَاءَ عَلَى الْوَفَاءِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهَا عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، سَوَاءٌ فِي عَهْدٍ أَوْ وَعْدٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ. فَفِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [2 \ 44] . وَكَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [11 \ 88] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 وَفِي الْعَهْدِ قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [17 \ 34] . وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا فِي سُورَةِ هُودٍ عِنْدَ قَوْلِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ. وَمِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [19 \ 54] ، فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» . وَبَحَثَ فِيهَا الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ وَالْخُلْفِ فِي الْوَعِيدِ، وَعَقَدَ لَهَا مَسْأَلَةً، وَسَاقَ آيَتِيِ «الصَّفِّ» هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [61 \ 4] . اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي الْمُرَادِ بِالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، فَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّهُ الْمُتَلَاحِمُ بِالرَّصَاصِ لِشِدَّةِ قُوَّتِهِ، وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ الْمُتَلَاصِقُ الْمُتَرَاصُّ الْمُتَسَاوِي. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ هُنَا هُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا هُوَ شَكْلُ الْبِنَاءِ لَا فِي تَلَاحُمِهِ بِالرَّصَاصِ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِهِ وَلَا تَسَاوِيهِ وَتَرَاصِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَنَافَى وَطَبِيعَةَ الْكَرِّ وَالْفَرِّ فِي أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ، وَلِكُلِّ وَقْعَةٍ نِظَامُهَا حَسَبَ مَوْقِعِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ عُمُومُ الْقُوَّةِ وَالْوَحْدَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ اسْتِوَاءَ بِنَائِهِمْ فِي الثَّبَاتِ حَتَّى يَكُونُوا فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ. اهـ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْآتِي: أَوَّلًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [3 \ 121] . فَالْمَقَاعِدُ هُنَا هِيَ الْمَوَاقِعُ لِلْجَمَاعَاتِ مِنَ الْجَيْشِ، وَهِيَ التَّعْبِئَةُ حَسَبَ ظُرُوفِ الْمَوْقِعَةِ، كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَضْعِ الرُّمَاةِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حِمَايَةً لِظُهُورِهِمْ مِنَ الْتِفَافِ الْعَدُوِّ بِهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 لِطَبِيعَةِ الْمَكَانِ، وَكَمَا فَعَلَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَرَصَّهُمْ، وَسَوَّاهُمْ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ أَيْضًا لِطَبِيعَةِ الْمَكَانِ. وَهَكَذَا، فَلَابُدَّ فِي كُلِّ وَقْعَةٍ مِنْ مُرَاعَاةِ مَوْقِعِهَا، بَلْ وَظُرُوفِ السِّلَاحِ وَالْمُقَاتِلَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْجُمَّانِ فِي تَشْبِيهَاتِ الْقُرْآنِ أَجْزَاءَ الْجَيْشِ وَتَقْسِيمَاتِهِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مِنْ قَلْبٍ وَمَيْمَنَةٍ وَمَيْسَرَةٍ وَأَجْنِحَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَكُونُ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الِارْتِبَاطَ الْمَعْنَوِيَّ وَالشُّعُورَ بِالْمَسْئُولِيَّةِ، وَالْإِحْسَاسَ بِالْوَاجِبِ كَمَا فَعَلَ الْحَبَّابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ حِينَ نَظَرَ إِلَى مَنْزِلِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَوْقِعِ فَلَمْ يَرُقْهُ، وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَهُ فَأَبْدَى خُطَّةً جَدِيدَةً فَأَخَذَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيَّرَ الْمَوْقِعَ مِنْ مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ. وَثَانِيًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [8 \ 45 - 46] . فَذَكَرَ تَعَالَى مِنْ عَوَامِلِ النَّصْرِ: الثَّبَاتَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَذِكْرَ اللَّهِ وَالطَّاعَةَ، وَالِامْتِثَالَ، وَالْحِفَاظَ عَلَيْهَا بِعَدَمِ التَّنَازُعِ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الْحَمْلَةِ وَالْمُجَالَدَةَ، فَتَكُونُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ مَعْنَى الْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ فِي قُوَّتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَثَبَاتِهِ، وَقَدْ عَابَ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ تَشَتُّتَ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ الْقِتَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [59 \ 14] ، وَامْتَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ بِوَحْدَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَةُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ لِلتَّعَاوُنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . فَهُوَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ هُنَا، وَقَدْ أُثِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُهُ لِأَصْحَابِهِ: الْزَمُوا الطَّاعَةَ؛ فَإِنَّهَا حِصْنُ الْمُحَارِبِ. وَعَنْ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ: أَقِلُّوا الْخِلَافَ عَلَى أُمَرَائِكُمْ، وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ لَأَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَى الِالْتِزَامِ بِهَذَا التَّوْجِيهِ الْقُرْآنِيِّ الْكَرِيمِ، إِزَاءَ قَضِيَّتِهِمِ الْعَامَّةِ مَعَ عَدُوِّهِمِ الْمُشْتَرِكِ، وَلَا سِيَّمَا، وَقَدْ مَرَّ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ بِعِدَّةِ تَجَارِبَ فِي تَارِيخِهِمُ الطَّوِيلِ وَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا أَوْضَحُ الْعِبَرِ، وَلَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ أَكْبَرُ مُوجِبٍ لِاسْتِرْجَاعِ حُقُوقِهِمْ وَالْحِفَاظِ عَلَى كِيَانِهِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تُؤْذُونَنِي؟ لَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَ هَذَا الْإِيذَاءِ وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [33 \ 69] . وَأَحَالَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَسَاقَ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يَرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْئًا اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ فِي جِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَخَلَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى ثِيَابِهِ؛ لِيَأْخُذَهَا، وَأَنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثُوبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَبَرَّأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ» . . . . إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَهَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِيذَاؤُهُمْ إِيَّاهُ إِيذَاءً شَخْصِيًّا بِادِّعَاءِ الْعَيْبِ فِيهِ خِلْقَةً، وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [33 \ 69] ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي آيَةِ «الصَّفِّ» هَذِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [61 \ 5] مِمَّا يُثِيرُ إِلَى أَنَّ الْإِيذَاءَ فِي جَانِبِ الرِّسَالَةِ لَا فِي جَانِبِهِ الشَّخْصِيِّ، وَيُرَشِّحُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ مُبَاشَرَةً: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] . أَيْ: فَلَمَّا زَاغُوا بِمَا آذَوْا بِهِ مُوسَى، فَيَكُونُ إِيذَاءَ قَوْمِهِ لَهُ هُنَا إِيذَاءَ زَيْغٍ وَضَلَالٍ، وَقَدْ آذَوْهُ كَثِيرًا فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [2 \ 55] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [2 \ 93] . فَهَا هُمْ يُؤْخَذُ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ وَيُرْفَعُ فَوْقَهُمُ الطُّورُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 فَكُلُّهُ يُسَاوِي قَوْلَهُ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، لِأَنَّ قَدْ هُنَا لِلتَّحْقِيقِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُؤْذُونَهُ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَيُؤْذُونَهُ بِأَنْ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ وَعِبَادَتَهُ بِكُفْرِهِمْ، وَلِذَا قَالَ لَهُمْ: بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَدْ جُمِعَ إِيذَاءُ الْكُفَّارِ لِرَسُولِ اللَّهِ مَعَ إِيذَاءِ قَوْمِ مُوسَى لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ الْآيَةَ [4 \ 153] . وَمِنْ مَجْمُوعِ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِيذَاءَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ فِي خُصُوصِ الرِّسَالَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُمْ آذَوْهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْإِيذَاءِ فِي شَخْصِهِ، وَفِي مَا جَاءَ بِهِ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا فِي آيَةِ «الْأَحْزَابِ» وَعَاقَبَهُمْ عَلَى إِيذَائِهِ فِيمَا أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ بِزَيْغِ قُلُوبِهِمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، تَقَدَّمَ كَلَامُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «الرُّومِ» ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الْآيَةَ [30 \ 10] . وَقَالَ: إِنَّ الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ قَدْ يُؤَدِّي شُؤْمُهُ إِلَى شَقَاءِ صَاحِبِهِ، وَسَاقَ هَذِهِ الْآيَةَ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَقَوْلَهُ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [2 \ 10] . وَأَحَالَ عَلَى سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [6 \ 25] . وَعَلَى سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» عَلَى قَوْلِهِ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [7 \ 101] . وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ بِقِيَاسِ الْعَكْسِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [47 \ 17] ، وَأَمْثَالُهَا. وَمِمَّا يَلْفِتُ النَّظَرَ هُنَا إِسْنَادُ الزَّيْغِ لِلْقُلُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 وَأَنَّ الْهِدَايَةَ أَيْضًا لِلْقَلْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [64 \ 11] . وَلِذَا حَرَصَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [3 \ 8] فَتَضَّمَنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. ذَكَرَ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ الْبُشْرَى بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ عِيسَى فَذَكَرَهَا مَعَهُ، مِمَّا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَشِّرْ بِهِ إِلَّا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَكِنْ لَفْظُ عِيسَى مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ بَشَّرَتْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مُوسَى مُبَشِّرًا بِهِ قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هِيَ التَّوْرَاةُ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى. وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا التَّعْرِيفُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالَّذِينَ مَعَهُ فِي التَّوْرَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [48 \ 29] . كَمَا جَاءَ وَصْفُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ فِي نَفْسِ السِّيَاقِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [48 \ 29] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَجَاءَ النَّصُّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [3 \ 81] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لَيَتْبَعَنَّهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيَتْبَعُنَّهُ وَيَنْصُرُنَّهُ. اهـ. وَجَاءَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ لَمَّا سَمِعَ مِنْ جَعْفَرَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَمَا قَالَهُ أَيْضًا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَأُوَضِّئُهُ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَاقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَزَاهُ إِلَى أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ دَعْوَةُ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [2 \ 129] . وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ» . وَقَدْ خُصَّ عِيسَى بِالنَّصِّ عَلَى الْبُشْرَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهُوَ نَاقِلٌ تِلْكَ الْبُشْرَى لِقَوْمِهِ عَمَّا قَبْلَهُ. كَمَا قَالَ: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَمَنْ قَبْلَهُ نَاقِلٌ عَمَّنْ قَبْلَهُ، وَهَكَذَا حَتَّى صَرَّحَ بِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَدَّاهَا إِلَى قَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اسْمُهُ أَحْمَدُ، جَاءَ النَّصُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ، وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا لِي أَسْمَاءٌ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ» . وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فَقَدْ ذُكِرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْمِهِ أَحْمَدَ هُنَا، وَبِاسْمِهِ مُحَمَّدٍ فِي سُورَةِ «مُحَمَّدٍ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا ذُكِرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَاتٍ عَدِيدَةٍ أَجْمَعِهَا مَا يُعَدُّ تَرْجَمَةً ذَاتِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] . وَسَيَأْتِي الْمَزِيدُ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [42 \ 16] فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَقَوْلِهِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [21 \ 18] فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 فُسِّرَتِ التِّجَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [61 \ 11] . التِّجَارَةُ: هِيَ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [2 \ 282] وَقَالَ تَعَالَى: وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا [9 \ 24] . وَالتِّجَارَةُ هُنَا فُسِّرَتْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَا هِيَ الْمُعَارَضَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ الْهَامَّةِ، بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9 \ 111] ، فَهُنَا مُبَايَعَةٌ، وَهُنَا بُشْرَى وَهُنَا فَوْزٌ عَظِيمٌ. وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [61 \ 12 - 13] . وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ الصَّفْقَةُ الرَّابِحَةُ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ خَاسِرٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [2 \ 16] . حَقِيقَةُ هَذِهِ التِّجَارَةِ أَنَّ رَأْسَ مَالِ الْإِنْسَانِ حَيَاتُهُ وَمُنْتَهَاهُ مَمَاتُهُ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ هَذَا الْبَيْعَ فِي الْمُبَادَلَةِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فِيكُمُ ... فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكِ بِالْجَهْلِ وَقَوْلِ الْآخَرِ: بَدَّلْتُ بِالْجُمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرَا ... وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا كَمَا اشْبَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا فَأَطْلَقَ الشِّرَاءَ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ. تَنْبِيهٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَقْدِيمُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. وَفِي آيَةِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدَّمَ النَّفْسَ عَنِ الْمَالِ فَقَالَ: اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ سِرٌّ لَطِيفٌ. أَمَّا فِي آيَةِ «الصَّفِّ» فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ لِمَعْنَى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَحَقِيقَةُ الْجِهَادِ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ، وَالْمَالُ هُوَ عَصَبُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ، فَبِالْمَالِ يُشْتَرَى السِّلَاحُ، وَقَدْ تُسْتَأْجُرُ الرِّجَالُ كَمَا فِي الْجُيُوشِ الْحَدِيثَةِ مِنَ الْفِرَقِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَبِالْمَالِ يُجَهَّزُ الْجَيْشُ، وَلِذَا لَمَّا جَاءَ الْإِذْنُ بِالْجِهَادِ أَعْذَرَ اللَّهُ الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءَ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَجْهِيزَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُجَهِّزُهُمْ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [9 \ 91 - 92] . وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، قَدْ يُجَاهِدُ بِالْمَالِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ بِالسِّلَاحِ كَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا» . أَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِبْدَالِ وَالْعَرْضِ وَالطَّلَبِ أَوْ مَا يُسَمَّى بِالْمُسَاوَمَةِ، فَقَدَّمَ النَّفْسَ؛ لِأَنَّهَا أَعَزُّ مَا يَمْلِكُ الْحَيُّ، وَجَعَلَ فِي مُقَابِلِهَا الْجَنَّةَ وَهِيَ أَعَزُّ مَا يُوهَبُ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا ... وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمُ ثَمَنُ بِهَا تُمْلَكُ الْأُخْرَى فَإِنْ أَنَا بِعْتُهَا ... بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَذَاكَ هُوَ الْغَبَنُ لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنِيَا أُصِيبُهَا ... لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنُ فَالتِّجَارَةُ هُنَا مُعَامَلَةٌ مَعَ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَجِهَادًا بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَالْعَمَلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 الصَّالِحِ، كَمَا قِيلَ أَيْضًا: فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ وَفِي آيَةِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى تَقْدِيمُ بُشْرَى خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ بِالنَّصْرِ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهِيَ تَقْدِيمُ قَوْلِهِ: فَيَقْتُلُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ فَيَقْتُلُونَ عَدُوَّهُمْ، وَيُقْتَلُونَ [9 \ 111] بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، لِأَنَّ التَّقْدِيمَ هُنَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْعَدُوَّ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَيُصِيبُونَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُمْ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ فِي مَوْقِفِ الْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ الْآيَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا إِشْعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [61 \ 14] ، وَلَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهَا هَلْ كَانُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَنْصَارَ اللَّهِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْفِعْلِ أَنْصَارُ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [59 \ 8] . وَكَذَلِكَ الْأَنْصَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ [9 \ 100] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [48 \ 29] فَأَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ هُوَ مَعْنَى يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ لَهُمْ بِالتَّآزُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [48 \ 29] فَسَمَّاهُمْ أَنْصَارًا، وَبَيَّنَ نُصْرَتَهُمْ سَوَاءٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْجُمُعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ. بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى الْأُمِّيِّينَ فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ بِقَوْلِهِ: الْأُمِّيِّينَ أَيْ: الْعَرَبِ، وَالْأُمِّيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَكَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ. اهـ. وَسُمِّي أُمِّيًّا نِسْبَةً إِلَى أُمِّهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ لَمْ يَعْرِفِ الْقِرَاءَةَ، وَلَا الْكِتَابَةَ وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمِّيِّينَ هُمُ الْعَرَبُ بَعْثَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَسُولًا مِنْهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [14 \ 37] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [2 \ 129] . قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِمُ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَقْرَأُ وَلَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» ، وَهَذَا حُكْمٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ فِي الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ مِثْلَ كَتَبَةِ الْوَحْيِ، عُمَرَ وَعَلِيًّا وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَسُولًا مِنْهُمْ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [7 \ 157] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا بَشَّرَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [61 \ 6] . وَكَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا بِمَعْنَى لَا يَكْتُبُ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 [49 \ 48] . وَبَيَّنَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا مَعَ أَنَّهُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ بِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْهُ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ [25 \ 5] فَقَالَ: إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [29 \ 48] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي الْمُذَكِّرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: هَذَا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فِي الْأُمِّيِّينَ، أَيْ: بَعْثِ هَذَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُمِّيِّينَ، وَفِي آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: عُطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُعَلِّمُهُمْ، أَيْ يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَلِّمُ آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَآخَرِينَ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] . وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَآخَرِينَ، نَزَلَتْ فِي فَارِسَ قَوْمِ سَلْمَانَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. اهـ. وَسَبَقَ أَنَّ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [59 \ 10] . وَلَكِنْ سَبَقَنَا كَلَامُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - حِينَ عَثَرْنَا عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ وَالِاسْتِئْنَاسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا وَفِي الْمُرَادِ بِالْمُتَفَضِّلِ بِهِ عَلَيْهِمْ، أَهُمُ الْأُمَّةُ الْأُمِّيَّةُ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِبَعْثَةِ نَبِيٍّ مِنْهُمْ فِيهِمْ؟ أَمْ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيُّ تَفَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِبَعْثَتِهِ مُعَلِّمًا هَادِيًا؟ أَمْ هُمُ الْآخَرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا زَمَنَ الْبِعْثَةِ وَوَصَلَتْهُمْ دَعْوَتُهَا، وَأَدْرَكُوا فَضْلَهَا؟ وَقَدِ اكْتَفَى الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْ: الْمَذْكُورُ مِنْ بَعْثِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِي الْأُمِّيِّينَ، فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ عِظَمِ فَضْلِهِ تَفَضُّلُهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي مِنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى الْأُمِّيِّينَ بِبِعْثَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِيهَا، وَتَفَضُّلُ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّ بِبَعْثَتِهِ فِيهِمْ مِمَّا لَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ التَّنَوُّعِيِّ أَوْ هِيَ مِنَ الْمُتَلَازِمَاتِ فَلَا مَانِعَ مِنْ إِدَارَةِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ شَمِلَ الْجَمِيعَ. وَقَدْ نَصَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [3 \ 164] وَهَذَا عَيْنُ مَا فِي سُورَةِ «الْجُمُعَةِ» سَوَاءٌ، لِأَنَّ الِامْتِنَانَ هُوَ التَّفَضُّلُ. وَنَصَّ عَلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [4 \ 113] . وَنَصَّ عَلَى الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [5 \ 54] . فَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ يَأْتِي، وَيُسَاوِي: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [62 \ 3] ، فَهُوَ خِلَافُ تَنَوُّعٍ، وَفَضْلُ اللَّهِ شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْيَهُودِ، وَهُوَ أَنَّهُ شَبَّهَهُمْ بِحِمَارٍ، وَشَبَّهَ التَّوْرَاةَ الَّتِي كُلِّفُوا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا بِأَسْفَارٍ أَيْ: كُتُبٍ جَامِعَةٍ لِلْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَشَبَّهَ تَكْلِيفَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ بِحَمْلِ ذَلِكَ الْحِمَارِ لِتِلْكَ الْأَسْفَارِ، فَكَمَا أَنَّ الْحِمَارَ لَا يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ الَّتِي فِي تِلْكَ الْكُتُبِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْيَهُودُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كُلِّفُوا بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِظْهَارِ صِفَاتِهِ لِلنَّاسِ فَخَانُوا، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ اهـ. فَأَشَارَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - إِلَى أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِمَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا مِنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [2 \ 146] فَقَدْ جَحَدُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ عِلْمُهُمْ بِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَدُّ مَا يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهَا، وَخَاصَّةً لِطُلَّابِ الْعِلْمِ وَحَمَلَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ [62 \ 5] أَيْ: تَشْبِيهُهُمْ فِي هَذَا الْمَثَلِ بِهَذَا الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ. وَقَدْ سَبَقَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَضْوَاءِ، مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ الْآيَةَ [7 \ 176] . وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ الْآيَةَ [14 \ 18] . وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ [18 \ 54] فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْمُفْرِدِ، وَأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ فِيهِ مُفْرَدٌ وَهُوَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَحْمُولِ، كَالْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ: كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا ... وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ مُرَكَّبٌ مِنْ مَجْمُوعِ كَوْنِ الْمَحْمُولِ كُتُبًا نَافِعَةً، وَالْحَامِلِ حِمَارًا لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِهَا بِخِلَافِ مَا فِي الْبَيْتِ، لِأَنَّ الْعِيسَ يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَفِعَ بِالْمَاءِ لَوْ حَصَلَتْ عَلَيْهِ، وَالْحِمَارُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَسْفَارِ وَلَوْ نُشِرَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ نَقْلِ النُّبُوَّةِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلِّيَّةً أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى حَدِّ الْإِلْبَاسِ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِأَمَانَةِ التَّبْلِيغِ وَالْعَمَلِ، فَنَقَلَهَا اللَّهُ إِلَى قَوْمٍ أَحَقَّ بِهَا وَبِالْقِيَامِ بِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 وَمَعْنَى هَادُوا أَيْ: رَجَعُوا بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [7 \ 156] ، وَكَانَ رُجُوعُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ: حَيْثُ سَلَّمُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ تَوْبَةً وَإِنَابَةً إِلَى اللَّهِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [2 \ 54] . وَقَوْلُهُ: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ، وَأَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ دُونَ غَيْرِكُمْ مِنَ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ: لِأَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ حَقًّا يَتَمَنَّى لِقَاءَهُ، وَالْإِسْرَاعَ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. اهـ. وَفِي قَوْلِهِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ زَعْمِهِمِ الْمُجْمَلِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ وَعَنِ النَّصَارَى مَعَهُمْ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [5 \ 18] . وَقَدْ رَدَّ زَعْمَهُمْ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ زَعَمْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [2 \ 94] . وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالتَّمَنِّي الْمُبَاهَلَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ إِظْهَارُ كَذِبِ الْيَهُودِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ زَعَمْتُمْ مَعَ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ شَرْطَانِ يَتَرَتَّبُ الْأَخْذُ مِنْهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ أَيْ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، إِنْ زَعَمْتُمْ، إِنْ صَدَقْتُمْ فِي زَعْمِكُمْ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنْ تَسْتَغِيثُوا بِنَا إِنْ تَذْعَرُوا تَجِدُوا ... مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانَهَا كَرَمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أَبَدًا، وَأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَلَكِنْ لِيُبَيِّنَ مَا هُوَ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمُ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: لَا يَتَمَنَّوْنَهُ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [2 \ 96] فَشِدَّةُ حِرْصِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا دَخَلُوا النَّارَ، وَلَوْ تَمَنَّوْا لَمَاتُوا مِنْ حِينِهِمْ. وَقَوْلُهُ: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَالْمُسَبِّبٌ انْتِفَاءُ تَمَنِّيهِمْ وَمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي. اهـ. وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مِنَ الْأَسْبَابِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [3 \ 181] . فَالْبَاءُ هُنَا سَبَبِيَّةٌ أَيْضًا أَيْ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَلِهَذَا كُلِّهِ لَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وَيُوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، فَقَدْ أَيْقَنُوا الْهَلَاكَ وَيَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [60 \ 13] ، وَلِهَذَا كُلِّهِ لَمْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ. أَيْ: إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ بِعَدَمِ تَمَنِّيهِ فَلَنْ يَجْعَلَكُمْ تَنْجُونَ مِنْهُ وَهُوَ مُلَاقِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، وَمُلَاقِيكُمْ بِمَعْنَى مُدْرِكُكُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [4 \ 78] . وَقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [3 \ 185] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهَذَا السِّيَاقُ يُشْبِهُ فِي مَدْلُولِهِ وَصُورَتِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [22 \ 27] مَعَ قَوْلِهِ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [2 \ 198] . فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نِدَاءٌ، وَأَذَانُ الْحَجِّ صَلَاةٌ وَسَعْيٌ وَإِتْيَانٌ وَذِكْرٌ لِلَّهِ، ثُمَّ انْتِشَارٌ وَإِفَاضَةٌ مِمَّا يَرْبُطُ الْجُمُعَةَ بِالْحَجِّ فِي الشَّكْلِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْحَجْمُ، وَفِي الْكَيْفِ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ التَّفَاصِيلُ، وَفِي الْمَبَاحِثِ وَالْأَحْكَامِ كَثْرَةٌ وَتَنْوِيعٌ مِنْ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ، مِمَّا يَجْعَلُ مَبَاحِثَ الْجُمُعَةِ لَا تَقِلُّ أَهَمِّيَّةً عَنْ مَبَاحِثِ الْحَجِّ، وَتَتَطَلَّبُ عِنَايَةً بِهَا كَالْعِنَايَةِ بِهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - أَنَّهُ كَانَ عَازِمًا عَلَى بَسْطِ الْكَلَامِ فِيهَا كَعَادَتِهِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - وَلَكِنَّ إِرَادَتَهُ نَافِذَةٌ، وَقُدْرَتَهُ غَالِيَةٌ. وَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَسْتَشْعِرُ مَدَى مَبَاحِثِ الشَّيْخِ وَبَسْطِهِ وَتَحْقِيقِهِ لِلْمَسَائِلِ لِيُحْجِمَ وَيَتْرُكَ الدُّخُولَ فِيهَا تَقَاصُرًا دُونَهَا وَلَا سِيَّمَا وَأَنَّ رَبْطَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ لَيْسَ بِالْأَمْرِ الْمُبَيَّنِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِ فِي نِهَايَةِ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ إِيجَازِ الْكَلَامِ عَنْ أَحْكَامِهَا، قَالَ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ مَلَأَ الْمُفَسِّرُونَ كَثِيرًا مِنْ أَوْرَاقِهِمْ بِأَحْكَامٍ وَخِلَافٍ فِي مَسَائِلِ الْجُمُعَةِ مِمَّا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ. اهـ. فَهُوَ يُشِيرُ بِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ الَّتِي نَاقَشَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي مَبَاحِثِ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنَّ الدَّارِسَ لِمَنْهَجِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي الْأَضْوَاءِ، وَالْمُتَذَوِّقَ لِأُسْلُوبِهِ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى اللَّفْظِ فَقَطْ، أَيْ: دَلَالَةِ النَّصِّ التَّطَابُقِيِّ وَتَأَمُّلِ أَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ مِنْ تَضَمُّنٍ وَالْتِزَامٍ وَإِيمَاءٍ وَتَنْبِيهٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ لِأَكْثَرَ أَوْ كُلِّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْمُحَدِّثُونَ، وَالْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَبَاحِثِ أُصُولًا مِنْ أُصُولِ تِلْكَ الدَّلَالَاتِ. وَإِنِّي أَسْتَلْهِمُ اللَّهَ تَعَالَى الرُّشْدَ وَأَسْتَمِدُّ، الْعَوْنَ وَالتَّوْفِيقَ لِبَيَانِ كُلِّ مَا يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ وُفِّقْتُ فَبِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَخِدْمَةٍ لِكِتَابِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا مُحَاوَلَةٌ تُغْتَفَرُ بِجَانِبِ الْقُصُورِ الْعِلْمِيِّ وَتَحْسِينُ الْقَصْدِ، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ مَا نَصُّهُ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَيْ: قَامَ الْمُنَادِي بِهَا، وَهُوَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْ: مِنْ صَلَاةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْ: صَلَاةِ الْجُمُعَةِ اهـ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ نَفْسُهَا دُونَ بَقِيَّةِ صَلَوَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَجِيءُ «مِنَ» الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ ثُمَّ تَبَيَّنَ هَذَا الْبَعْضُ بِالْأَمْرِ، بِتَرْكِ الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ، لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا لِوُجُودِ الْخُطْبَةِ، وَقَدْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَصَلَّوْهَا قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ هُوَ الْأَذَانُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [5 \ 58] . وَمِنَ السُّنَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ» . وَقِيلَ: النِّدَاءُ لُغَةً هُوَ النِّدَاءُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ لِحَدِيثِ: «فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا» . وَقَدْ عَرَّفَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْأَذَانَ لُغَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [22 \ 27] ، فَقَالَ: الْأَذَانُ لُغَةً: الْإِعْلَامُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [9 \ 3] ، وَقَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: آَذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ وَالْأَذَانُ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، شِعَارًا لِلْمُسْلِمِينَ وَنِدَاءً لِلصَّلَاةِ. بَدْءُ مَشْرُوعِيَّتِهِ: اخْتُلِفَ فِي بَدْءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بُدِئَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتْ نُصُوصٌ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ: أَنَّهُ شُرِعَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَوْ بِمَكَّةَ. مِنْهَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْبَزَّارِ: أَنَّهُ شُرِعَ مَعَ الصَّلَاةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وَمِنْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ عَنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَفِي الْمَدِينَةِ فَفِيهَا نُصُوصٌ عَدِيدَةٌ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ بَدْأَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ. مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: " كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ "، وَفِي الْمُوَطَّأِ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ يَضْرِبُ بِهِمَا؛ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ، فَأُرِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ؟ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَذَانِ ". وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى عَنْ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ وَعِنْدَ غَيْرِ الشَّيْخَيْنِ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا قَالُوا: " انْصِبْ رَايَةً فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ أَذَّنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ: أَعْلَمَهُ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ فَذُكِرَ لَهُ الْقِنْعُ، وَهُوَ الشَّبُّورُ لِلْيَهُودِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ، فَقَالَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ ". وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ " أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ". وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ؛ لِيَضْرِبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ لِلصَّلَاةِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: " إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ " فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ، قَالَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مَا رَأَى، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَلِلَّهِ الْحَمْدُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، فَقَالَ: " إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الْأَذَانَ ". فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَفِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ. وَهُنَا سُؤَالٌ حَوْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ، قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كَيْفَ يُتْرَكُ أَمْرُ الْأَذَانِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ أَمْرَ مَشْرُوعِيَّتِهِ رُؤْيَا يَرَاهَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَطَعَنَ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا بِلَالُ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ " وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ: مِنْهَا: سَنَدُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ صَحِيحٌ، وَقَدْ نَاقَشَهُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ تَصْحِيحَهُ وَمَنْ صَحَّحَهُ وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ بِإِرَادَةِ اتِّخَاذِ خَشَبَتَيْنِ، فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ خَشَبَتَيْنِ الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِثْبَاتُ التَّشَاوُرِ فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ حِينَ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ أَلْفَاظَ النِّدَاءِ فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، إِمَّا أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُنَادِي بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ، ثُمَّ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ الْأَذَانَ فَعَلَّمَهُ بِلَالًا. وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ مَا جَاءَ عَنْ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَقَدْ أَعْجَبَنِي أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةً، حَتَّى لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبُثَّ رِجَالًا فِي الدُّورِ يُنَادُونَ النَّاسَ بِحِينِ الصَّلَاةِ، وَحَتَّى هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 رِجَالًا يَقُومُونَ عَلَى الْآطَامِ يُنَادُونَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى نَقَسُوا أَوْ كَادُوا أَنْ يَنْقُسُوا "، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمَّا رَجَعْتُ لِمَا رَأَيْتُ مِنِ اهْتِمَامِكَ رَأَيْتُ رَجُلًا كَأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ فَقَامَ عَلَى الْمَسْجِدِ فَأَذَّنَ، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ لَقُلْتُ إِنِّي كُنْتُ يَقْظَانَ غَيْرَ نَائِمٍ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ أَرَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَمُرْ بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى وَلَكِنِّي لَمَّا سُبِقْتُ اسْتَحْيَيْتُ ". لِأَبِي دَاوُدَ أَيْضًا. فَفِيهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ هَمَّ أَنْ يَبُثَّ رِجَالًا فِي الدُّورِ، وَعَلَى الْآطَامِ يُنَادُونَ لِلصَّلَاةِ، فَيَكُونُ نِدَاءُ بِلَالٍ أَوَّلًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ دُونَ تَعْيِينِ أَلْفَاظٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نِدَاءُ بِلَالٍ الْوَارِدُ فِي الصَّحِيحِ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ، الْوَارِدَةِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ رَأَى مَا رَآهُ وَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَلِّمَهُ بِلَالًا فَنَادَى بِهِ، وَلَا تَعَارُضَ فِي ذَلِكَ كَمَا تَرَى. وَمِنْهَا أَيْضًا: أَنَّ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ لِلْأَذَانِ لَا تَجْعَلُهُ مَشْرُوعًا لَهُ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. وَهَذَا النَّظْمُ لِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْقِسْمِ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنِ الْوَسَاوِسِ، وَالْهَوَاجِسِ لِمَا فِيهَا مِنْ إِعْلَانِ الْعَقِيدَةِ وَإِرْغَامِ الشَّيْطَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ أَدْبَرَ " إِلَخْ. ثُمَّ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَمِعَهَا أَقَرَّهَا وَقَالَ: " إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ "، أَوْ لَقَدْ أَرَاكَ اللَّهُ حَقًّا، فَكَانَتْ سُنَّةَ تَقْرِيرٍ كَمَا يُقَرِّرُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضِ الْأَفْعَالِ. ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْلِيمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي مَحْذُورَةَ فَصَارَ سُنَّةً ثَابِتَةً، وَكَانَ يُتَوَجَّهُ السُّؤَالُ لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمِلُوا بِهِ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا، وَلَكِنْ وَقَدْ بَلَغَهُ وَأَقَرَّهُ فَلَا سُؤَالَ إِذًا. وَمِنْهَا: أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ جَاءَهُ بِهِ، وَلَمَّا أَخْبَرَهُ عُمَرُ قَالَ لَهُ: " سَبَقَكَ بِذَلِكَ الْوَحْيُ " ذُكِرَ فِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ بَسْطُ الْكَلَامِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالرُّؤْيَا ذَكَرَهُمَا الْمُعَلِّقُ عَلَى بَذْلِ الْمَجْهُودِ. وَمِنْهَا مَا قِيلَ: تَرْكُ مَجِيءِ بَيَانِ وَتَعْلِيمِ الْأَذَانِ إِلَى أَنْ رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَوَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَمْرَيْنِ، ذَكَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْلِنًا مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ فَيَكُونُ مَجِيئُهُ عَنْ طَرِيقِهِمَا أَوْلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 وَأَكْرَمُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ هُوَ حَتَّى لَا يَكُونَ عِنَايَةَ مَنْ يَدْعُوهُمْ لِإِطْرَائِهِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُتَوَجَّهًا إِلَّا أَنَّ فِيهِ نَظَرًا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ جَاءَهُمْ بِأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا كَانَ مَوْضِعَ تَسَاؤُلٍ. مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ يَكُونُ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ سُنَّةً ثَابِتَةً، إِمَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ هَمَّ أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا فِي الْبُيُوتِ يُنَادُوهُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَقَرَّ مَا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ فَيَكُونُ أَصْلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّقْرِيرُ مِنْهُ عَلَى الْأَلْفَاظِ الَّتِي رَآهَا عَبْدُ اللَّهِ. فَضْلُ الْأَذَانِ وَآدَابُ الْمُؤَذِّنِ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَشْهَدُ لَهُ مَا سَمِعَ صَوْتَهُ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ. إِلَخْ. وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَأَذَّنْتُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنٌ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِ الْأَذَانِ، فَقِيلَ: مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْوَقْتِ، وَقِيلَ: مُؤْتَمَنٌ عَلَى عَوْرَاتِ الْبُيُوتِ عِنْدَ الْأَذَانِ، فَقَدْ حَثَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى الْوُضُوءِ لَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ: «لَا يُنَادِي لِلصَّلَاةِ إِلَّا مُتَوَضِّئٌ» وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ لَا يُبْطِلُهُ اتِّفَاقًا. وَلَمَّا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَتْ لَهُ آدَابٌ فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِينَ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: «لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ» ، وَعَلَيْهِ حَذَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَوَلِّي الْفَسَقَةِ الْأَذَانَ كَمَا فِي حَدِيثِ: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنَّ فِيهِ زِيَادَةً عِنْدَ الْبَزَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَقَدْ تَرَكْتَنَا نَتَنَافَسُ فِي الْأَذَانِ بَعْدَكَ فَقَالَ: «إِنَّهُ يَكُونُ بَعْدِي أَوْ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ سِفْلَتُهُمْ مُؤَذِّنُوهُمْ» . وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّغَنِّي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ إِلَى أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَكِنِّي أُبْغِضُكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ تَتَغَنَّى فِي أَذَانِكَ. وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ صَبِيٍّ وَلَا فَاسِقٍ، أَيْ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُحَاكِي فِي أَذَانِهِ الْفَسَقَةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 وَمِنْهَا: أَلَّا يَلْحَنَ فِيهِ لَحْنًا بَيِّنًا، قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَيُكْرَهُ اللَّحْنُ فِي الْأَذَانِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَيَّرَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ وَنَصَبَ لَامَ رَسُولٍ. أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرًا. وَلَا يَمُدُّ لَفْظَةَ أَكْبَرَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِيهَا أَلِفًا فَيَصِيرُ جَمْعُ كَبَرٍ، وَهُوَ الطَّبْلُ، وَلَا يُسْقِطُ الْهَاءَ مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَلَا الْحَاءَ مِنَ الْفَلَاحِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤَذِّنُ لَكُمْ مَنْ يُدْغِمُ الْهَاءَ» الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ أَلْثَغَ لَا تَتَفَاحَشُ جَازَ أَذَانُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يَقُولُ: أَسْهَدُ بِجَعْلِ الشِّينِ سِينًا، نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ، وَلَكِنْ لَا أَصْلَ لِهَذَا الْأَثَرِ مَعَ شُهْرَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، كَمَا فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ. وَمِنْ هَذَا يَنْبَغِي تَعَهُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ اللَّحْنِ وَالتَّلْحِينِ وَكَذَلِكَ الْفِسْقُ، وَصِفَةُ الْمُؤَذِّنِينَ وَلَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَمَصْدَرِ التَّأَسِّي، وَمَوْفِدِ الْقَادِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لِيَأْخُذُوا آدَابَ الْأَذَانِ وَالْمُؤَذِّنِينَ عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ. أَلْفَاظُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالرَّاجِحُ مِنْهَا مَعَ بَيَانِ التَّثْوِيبِ وَالتَّرْجِيعِ مَدَارُ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى حَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بِالْمَدِينَةِ، وَحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَمَا عَدَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا كَحَدِيثِ بِلَالٍ وَغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْجُودٌ فِي السُّنَنِ أَيْ فِيمَا عَدَا الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ مِنْ حَيْثُ الْزَمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ وَأَنَّهُ كَانَ ابْتِدَاءً فِي الْمَدِينَةِ أَوَّلَ مَقْدِمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا. وَحَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ مَوْجُودٌ فِي السُّنَنِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قِصَّةَ سَبَبِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَحَدِيثَ: أُمِرِ بِلَالٌ أَنْ يُشْفِعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعَلَيْهِ سَنُقَدِّمُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِتَقَدُّمِهِ فِي الزَّمَنِ، وَأَلْفَاظُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 الْمَشْرُوعِيَّةِ، هِيَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَمَجْمُوعُهُ خَمْسَةَ عَشَرَةَ كَلِمَةً أَيْ جُمْلَةً، فَفِيهِ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ وَتَثْنِيَةُ بَاقِيهِ، وَإِفْرَادُ آخِرِهِ، وَفِيهِ الْإِقَامَةُ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ فِي كَلِمَةٍ وَإِفْرَادِ بَاقِيهَا إِلَّا لَفْظَ الْإِقَامَةِ، وَلَفْظُهَا: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ لَهُ عِدَّةَ طُرُقٍ، وَمِنْهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ. حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ كَمَا فِي السُّنَنِ أَنَّهُ خَرَجَ فِي نَفَرٍ فَلَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْدِمًا مِنْ حُنَيْنٍ، وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَلَّ أَبُو مَحْذُورَةَ فِي نَفَرِهِ يَحْكُونَهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ، فَسَمِعَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْضَرَهُمْ فَقَالَ: «أَيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ؟ فَأَشَارُوا إِلَى أَبِي مَحْذُورَةَ، فَحَبَسَهُ وَأَرْسَلَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَعَلَّمَهُ» . أَمَّا أَلْفَاظُهُ: فَعِنْدَ مُسْلِمٍ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ، وَالْبَاقِي كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ زِيَادَةِ ذِكْرِ التَّرْجِيعِ، وَقَدْ سَاقَهُ مُسْلِمٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ وَبِلَفْظِ التَّكْبِيرِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ: الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ نَفْسِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ الْأَذَانَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: فِي قِصَّةِ الْإِغَارَةِ أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ فَإِذَا سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى الْفِطْرَةِ» ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ» . . . الْحَدِيثَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَلْفَاظُ مُسْلِمٍ لِأَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ عَنِ الْإِقَامَةِ إِلَّا حَدِيثَ أَنَسٍ، أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ، وَعِنْدَ غَيْرِ مُسْلِمٍ جَاءَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ، كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَبِالتَّرْجِيعِ وَالتَّثْوِيبِ فِي الْفَجْرِ، وَفِيهَا أَنَّ التَّرْجِيعَ يَكُونُ أَوَّلًا بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ. ثُمَّ يُرَجِّعُ وَيَمُدُّ بِهِمَا - أَيْ بِالشَّهَادَتَيْنِ - صَوْتَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، أَمَّا الْإِقَامَةُ فَجَاءَتْ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رِوَايَتَانِ: الْأُولَى قَالَ: وَعَلَّمَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِقَامَةَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. الثَّانِيَةُ: مِثْلُ الْأَذَانِ تَمَامًا بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ، وَبِدُونِ تَرْجِيعٍ، وَتَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ أَيِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَالْأُولَى كَالْأَذَانِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالثَّانِيَةُ كَرِوَايَةِ الْأَذَانِ عِنْدَ غَيْرِهِ بِدُونِ تَرْجِيعٍ وَلَا تَثْوِيبٍ، وَإِضَافَةِ لَفْظِ الْإِقَامَةِ مَرَّتَيْنِ. هَذَا مَجْمُوعُ مَا جَاءَ فِي أُصُولِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ مِنْ حَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي مَحْذُورَةَ. وَبِالنَّظَرِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ نَجِدُهُ لَمْ تَخْتَلِفْ أَلْفَاظُهُ لَا فِي الْأَذَانِ وَلَا فِي الْإِقَامَةِ، وَهُوَ بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ فِي الْأَذَانِ وَبِدُونِ تَثْوِيبٍ وَلَا تَرْجِيعٍ، وَبِإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ إِلَّا لَفْظَ الْإِقَامَةِ، أَمَّا حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ فَجَاءَ بِعِدَّةِ صُوَرٍ فِي الْأَذَانِ وَفِي الْإِقَامَةِ. أَمَّا الْأَذَانُ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ بِتَرْبِيعِهِ، وَعِنْدَ الْجَمِيعِ إِثْبَاتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 التَّرْجِيعِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنَّ الْأُولَى مُنْخَفِضَةٌ، وَالثَّانِيَةَ مُرْتَفِعَةٌ، كَبَقِيَّةِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَجَاءَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَجَاءَتْ مِثْلَ الْأَذَانِ تَمَامًا عِنْدَ غَيْرِ مُسْلِمٍ سِوَى التَّرْجِيعِ وَالتَّثْوِيبِ مَعَ تَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ كَالْآتِي: فِي أَلْفَاظِ الْأَذَانِ ثَلَاثُ نِقَاطٍ: أَوَّلًا: ذِكْرُ التَّرْجِيعِ. ثَانِيًا: التَّثْوِيبُ. ثَالِثًا: عَدَدُ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ. أَمَّا التَّرْجِيعُ فَيَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَبِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا التَّثْوِيبُ فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ بِلَالٍ، وَكَانَ أَيْضًا مُتَأَخِّرًا عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ قَطْعًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ لِلصُّبْحِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَائِمٌ فَصَرَخَ بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأُدْخِلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي التَّأْذِينِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، أَيْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «اجْعَلْ ذَلِكَ فِي أَذَانِكَ» فَاخْتُصَّتْ بِالْفَجْرِ. وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُغْنِي عَنْ بِلَالٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُ أَنْ يُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ: دَخَلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَسَمِعَ رَجُلًا يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَخَرَجَ فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ، فَلَزِمَ بِهَذَا كُلِّهِ الْأَخْذُ بِهَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ خَاصَّةً. أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لِأَبِي مَحْذُورَةَ مَرَّتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ فَاخْتَلَفَ مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِنْدَ غَيْرِ مُسْلِمٍ بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى سَنَدِ مُسْلِمٍ فَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا، وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ، تَجِدُ فِيهِ زِيَادَةً صَحِيحَةً، وَهِيَ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا كَمَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِالتَّثْوِيبِ وَالتَّرْجِيعِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفِقَةَ مَعَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْمُخْتَلِفَةِ مَعَهَا. أَمَّا الْإِقَامَةُ: فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ تَخْتَلِفْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهَا فِي حَدِيثِ أَبِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 مَحْذُورَةَ قَدْ جَاءَتْ مُتَعَدِّدَةً وَلَمْ تَتَّفِقْ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِهَا مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ، حَيْثُ إِنَّ فِيهَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ، وَمِنْهَا كَالْأَذَانِ مَعَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ مَرَّتَيْنِ، وَسَنَدُ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ. فَهَلْ نَأْخُذُ فِي الْإِقَامَةِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ أَمْ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ؟ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ بكُلٌّ مِنْهُمَا فِي السَّنَدِ سَوَاءٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ زِيَادَةٌ وَهِيَ تَشْبِيهُهَا بِالْأَذَانِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ قَاصِرًا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ فِي الْإِقَامَةِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ وَجَدْنَا حَدِيثَ بِلَالٍ فِي الصَّحِيحِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَهُوَ أَمْرُ بِلَالٍ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ بِالْإِقَامَةِ، وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَبِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مَحْذُورَةَ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. فَمِنْ حَدِيثِ بِلَالٍ: نَشْفَعُ الْأَذَانَ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي الْمُرَادِ بِالشَّفْعِ مِنْ حَيْثُ التَّكْبِيرِ ; لِأَنَّ الشَّفْعَ يَصْدُقُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعٍ، وَعِنْدَ فِي الْأَذَانِ إِمَّا مَرَّتَانِ وَإِمَّا أَرْبَعٌ، وَكِلَاهُمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الشَّفْعِ، وَلَكِنْ إِذَا اعْتَبَرْنَا أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَتَيْنِ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، كَانَ تَحَقُّقُ الشَّفْعِ بِجُمْلَتَيْنِ، فَيَأْتِي أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا كُلَّ تَكْبِيرَةٍ كَلِمَةً وُجِدَ الشَّفْعُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى كَلِمَتَيْنِ، وَلِهَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ. وَلَكِنَّ الْأَذَانَ لَمْ تُعَدَّ عِبَارَاتُهُ بِالْكَلِمَاتِ الْمُفْرَدَةِ بَلْ بِالْجُمَلِ ; لِأَنَّنَا نَعُدُّ قَوْلَنَا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ جُمْلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى عِدَّةِ كَلِمَاتٍ مُفْرَدَةٍ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَلِمَةٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّفْعُ بِتَكْرَارِهَا، فَيَأْتِي أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ: وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ رِوَايَةِ الْحَدِيثَيْنِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ تَمَامًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي مَحْذُورَةَ جَاءَ فِي نُسْخَةِ الْفَاسِيِّ لِمُسْلِمٍ بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ. اهـ. وَبِهَذَا تَتَّفِقُ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فِي تَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ فِي الْأَذَانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 أَمَّا الْإِقَامَةُ فَحَدِيثُ بِلَالٍ نَصٌّ فِي إِيثَارِ الْإِقَامَةِ إِلَّا لَفْظَ الْإِقَامَةِ وَهُوَ عَيْنُ نَصِّ الْإِقَامَةِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَيْنُ النَّصِّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً إِلَّا الْإِقَامَةَ، أَيْ: فَهِيَ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذِهِ الْمُنَاقَشَةِ يَكُونُ الرَّاجِحُ هُوَ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، مَعَ أَخْذِ التَّرْجِيعِ وَالتَّثْوِيبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ لِلْأَذَانِ. ثُمَّ نَسُوقُ مَا أَخَذَ بِهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَعَ بَيَانِ النَّتِيجَةِ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْجَمِيعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبِدَايَةِ مَا نَصُّهُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَذَانِ عَلَى أَرْبَعِ صِفَاتٍ مَشْهُورَةٍ: إِحْدَاهُمَا: تَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ وَتَرْبِيعُ الشَّهَادَتَيْنِ وَبَاقِيهِ مُثَنًّى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ التَّرْجِيعَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ بِصَوْتٍ أَخْفَضَ مِنَ الْأَذَانِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَذَانُ الْمَكِّيِّينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الْأَوَّلِ وَالشَّهَادَتَيْنِ، وَتَثْنِيَةُ بَاقِي الْأَذَانِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَذَانُ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الْأَوَّلِ وَتَثْنِيَةُ بَاقِي الْأَذَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَذَانُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الْأَوَّلِ وَتَثْلِيثُ الشَّهَادَتَيْنِ، وَحَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، يَبْدَأُ بِأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، ثُمَّ يُعِيدُ كَذَلِكَ مَرَّةً ثَانِيَةً أَعْنِي الْأَرْبَعَ كَلِمَاتٍ تَبَعًا ثُمَّ يُعِيدُهُنَّ ثَالِثَةً، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَاخْتِلَافُ اتِّصَالِ الْعَمَلِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدَنِيِّينَ يَحْتَجُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ بِالْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ بِذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ، وَالْمَكِّيُّونَ كَذَلِكَ أَيْضًا يَحْتَجُّونَ بِالْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ آثَارٌ تَشْهَدُ لِقَوْلِهِ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 ثُمَّ سَاقَ نُصُوصَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا سَابِقًا، وَلَمْ يُورِدْ نَصًّا لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِي فِيهِ التَّثْلِيثُ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ وُجِدَ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مُجَلَّدَ (1) ص (564) وَجَاءَ مَرْوِيًّا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي الْمُصَنَّفِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ فِي الْإِقَامَةِ: أَمَّا صِفَتُهَا فَإِنَّهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ بِتَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهَا، وَبِإِفْرَادِ بَاقِيهَا إِلَّا لَفْظَ الْإِقَامَةِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَرَّتَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهِيَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ فِيهَا اهـ. تِلْكَ هِيَ خُلَاصَةُ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي أَلْفَاظِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَقَدْ أَجْمَلَهَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي زَادِ الْمَعَادِ تَحْتَ عُنْوَانِ: فَصْلُ مُؤَذِّنِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَا نَصُّهُ: وَكَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ يُرَجِّعُ الْأَذَانَ وَيُثَنِّي الْإِقَامَةَ وَبِلَالٌ لَا يُرَجِّعُ وَيُفْرِدُ الْإِقَامَةَ، فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ مَكَّةَ بِأَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَإِقَامَةِ بِلَالٍ، وَيَعْنِي بِأَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ عَلَى رِوَايَةِ تَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ، وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَإِقَامَةِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَأَخَذَ أَحْمَدُ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَإِقَامَتِهِ، أَيْ: بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ وَبِدُونِ تَرْجِيعٍ، وَبِإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ إِلَى لَفْظِ الْإِقَامَةِ، قَالَ: وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِعَادَةَ التَّكْبِيرِ وَتَثْنِيَةَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُكَرِّرُهَا اهـ. وَمُرَادُهُ بِمُخَالَفَةِ مَالِكٍ هُنَا لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَّفِقٌ مَعَ بَعْضِ الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ. أَمَّا فِي عَدَمِ إِعَادَةِ التَّكْبِيرِ، فَعَلَى حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَدَمِ تَكْرِيرِهِ لِلَفْظِ الْإِقَامَةِ، فَعَلَى بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ بِلَالٍ أَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ أَيْ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَبِهَذَا مَرَّةً أُخْرَى يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ بَابِ اخْتِلَافِ التَّنَوُّعِ وَكُلٌّ ذَهَبَ إِلَى مَا هُوَ صَحِيحٌ وَرَاجِحٌ عِنْدَهُ، وَلَا تَعَارُضَ مُطْلَقًا إِلَّا قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ بِالتَّثْلِيثِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ كَلِمَةَ فَصْلٍ فِي ذَلِكَ، فِي الْمَجْمُوعِ ج 22 ص 66 بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصُّهُ: فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ تَسْوِيغُ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكْرَهُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، إِذْ تَنَوُّعُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَتَنَوُّعِ صِفَةِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْرَهَ مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مِمَّا لَا يَنْبَغِي الْخِلَافُ فِيهِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يُعَنَّفُ فِيهِ مَنْ فَعَلَهُ وَلَا مَنْ تَرَكَهُ. وَهَذَا كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكِهِ، وَكَالْخِلَافِ فِي أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ وَأَنْوَاعِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَأَنْوَاعِ النُّسُكِ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. تَنْبِيهٌ قَدْ جَاءَ فِي التَّثْوِيبِ بَعْضُ الْآثَارِ عَنْ عُمَرَ وَبَعْضِ الْأُمَرَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، كَمَا فِي قِصَّةِ بِلَالٍ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ يَكُونُ تَكْرَارًا لَمَّا سَبَقَ أَنْ جَاءَ عَنْ بِلَالٍ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ فِيهَا هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْفَجْرِ أَوْ عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يَكُونُ الْإِمَامُ نَائِمًا فِيهَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْفَجْرِ وَفِي الْأَذَانِ لَا عِنْدَ بَابِ الْأَمِيرِ أَوِ الْإِمَامِ، وَتَقَدَّمَ أَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَنْ ثَوَّبَ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ أَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِدْعَةً وَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ. كَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الْأَذَانِ يُؤَدَّى الْأَذَانُ بِتَرَسُّلٍ وَتَمَهُّلٍ ; لِأَنَّهُ إِعْلَانٌ لِلْبَعِيدِ، وَالْإِقَامَةُ حَدْرًا ; لِأَنَّهَا لِلْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، أَمَّا النُّطْقُ بِالْأَذَانِ فَيَكُونُ جَزْمًا غَيْرَ مُعْرَبٍ. قَالَ فِي الْمُغْنِي: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، أَنَّهُ حَالُ تَرَسُّلِهِ وَدَرْجِهِ أَيْ: فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، لَا يَصِلُ الْكَلَامَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، بَلْ جَزْمًا. وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: شَيْئَانِ مَجْزُومَانِ كَانُوا لَا يُعْرِبُونَهُمَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، قَالَ: وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ. حُكْمُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْأَذَانِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؟ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهَلْ هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؟ اهـ. فَتَرَاهُ يَدُورُ حُكْمُهُ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَالسُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي وِجْهَةِ النَّظَرِ فِي الْغَرَضِ مِنَ الْأَذَانِ هَلْ هُوَ مِنْ حَقِّ الْوَقْتِ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِهِ أَوْ مِنْ حَقِّ الصَّلَاةِ، كَذِكْرٍ مِنْ أَذْكَارِهَا أَوْ هُوَ شِعَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُمَيِّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ؟ وَسَنُجْمِلُ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَأْخَذِ كُلٍّ مِنْهُمْ ثُمَّ بَيَانِ الرَّاجِحِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوَّلًا: اتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ الْمُنْفَرِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْحَضَرِ وَفِي السَّفَرِ، أَيْ: أَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَيْ: لِلْجَمَاعَةِ أَوْ لِلْجُمُعَةِ خَاصَّةً، وَالدَّلِيلُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْمُسِئِ صَلَاتَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ مَعَهَا الْوُضُوءَ، وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يُعَلِّمْهُ أَمْرَ الْأَذَانِ وَلَا الْإِقَامَةِ. ثَانِيًا: مَالِكٌ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى الْمَسَاجِدِ الَّتِي لِلْجَمَاعَةِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَرْضًا وَلَا سُنَّةً. وَعَنْهُ: أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، فَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ وَمَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ. وَفِي مَتْنِ خَلِيلٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِجَمَاعَةٍ تَطْلُبُ غَيْرَهَا فِي فَرْضٍ وَقْتِيٍّ، وَلَوْ جُمُعَةٍ أَيْ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ أَصْلًا. وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ عَنْهُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ مَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ إِلَّا فِي الصُّبْحِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ لَهُ النَّاسُ، رَوَاهُ مَالِكٌ. وَكَذَلِكَ أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةَ، صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ. قَالَ سُفْيَانُ: كَفَتْهُمْ إِقَامَةُ الْمِصْرِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِقَامَةُ الْمِصْرِ تَكْفِي، رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِلِينٍ. ثَالِثًا: وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ الْخِرَقِيُّ: هُوَ سُنَّةٌ أَيْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرُ الْخِرَقِيِّ قَالَ كَقَوْلِ مَالِكٍ. رَابِعًا: عِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ، قَالَ لَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمَا فِي سَفَرٍ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ. هَذَا مُوجَزُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَدِلَّتِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَحُكْمُهُ كَمَا رَأَيْتَ دَائِرٌ بَيْنَ السُّنَّةِ عُمُومًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 وَالسُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ أَوْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رَأَيْتُ النُّصُوصَ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَكِنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ فِي حُكْمِ الْأَذَانِ هُوَ تَرَدُّدُ النَّظَرِ فِيهِ هَلْ هُوَ فِي حَقِّ الْوَقْتِ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، أَوْ هُوَ حَقُّ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، أَوْ هُوَ شِعَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ؟ فَعَلَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّ الْوَقْتِ، فَأَذَانٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْلَامُ وَيَكْفِي عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَذِّنُ مَنْ فَاتَهُ أَوَّلُ الْوَقْتِ، وَلَا مَنْ يُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَتْ فِيهِ الْفَرِيضَةُ أَوَّلًا وَلَا لِلْفَوَائِتِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ حَقِّ الصَّلَاةِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا أَوْ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَعَلَى أَنَّهُ لِلْوَقْتِ لِلْإِعْلَامِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ قِصَّةِ تَعْرِيسِهِمْ آخِرَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يُوقِظْهُمْ إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِانْتِقَالِ عَنْ ذَلِكَ الْوَادِي ثُمَّ نُزُولُهُمْ وَالْأَمْرُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ لِلْوَقْتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ. وَعَلَى أَنَّهُ لِلصَّلَاةِ فَلَهُ جِهَتَانِ: الْأُولَى: إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَلَا يَطْلُبُ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً. فَإِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا لَا يَطْلُبُ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي كَوْنِهِ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَقْصِدُ إِعْلَامَهُ. وَلِحَدِيثِ الْمُسِئِ صَلَاتَهُ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَقَدْ يَدُلُّ لِذَلِكَ ظَاهِرُ نُصُوصِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ: الطَّهَارَةُ، وَالْوَقْتُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. فَفِي الطَّهَارَةِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ [5 \ 6] . وَفِي الْوَقْتِ قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ الْآيَةَ [11 \ 114] وَنَحْوَهَا. وَفِي الْعَوْرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الْآيَةَ [7 \ 31] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 وَفِي الْقِبْلَةِ قَالَ تَعَالَى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [2 \ 144] . وَأَمَّا فِي الْأَذَانِ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [5 \ 58] . وَقَالَ فِي سُورَةِ «الْجُمُعَةِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [62 \ 9] وَكِلَاهُمَا حِكَايَةُ وَاقِعٍ، وَلَيْسَ فِيهِمَا صِيغَةُ أَمْرٍ كَغَيْرِ الْأَذَانِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ فَهُوَ فِي خُصُوصِ جَمَاعَةٍ، وَلَيْسَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ. وَبَقِيَ النَّظَرُ فِيهِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ، هَلْ هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ أَمْ عَلَى النَّدْبِ؟ وَإِذَا كَانَ بِالنُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْفَرْدِ، فَلَيْسَ هُوَ إِذًا بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَيُجْعَلُ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى النَّدْبِ. وَعَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ لَهُ: «أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ; فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالنَّسَائِيُّ. وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ فِيهِ قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَذَّنْتَ لِلصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَذِّنْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَثُّ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ لِمَنْ يُؤَذِّنُ وَلَوْ كَانَ فِي الْبَادِيَةِ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْأَجْرِ. أَمَّا كَوْنُهُ شِعَارًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَسَاجِدِ فِي الْحَضَرِ، فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا، كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي حَقِّ الْمَسَاجِدِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ إِنْ تَرَكُوهُ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ لِدَلِيلِ الْإِغَارَةِ فِي الصُّبْحِ أَوِ التَّرْكِ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ، وَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ فِي السَّفَرِ بِالْإِمَامِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ فِي غَزَوَاتِهِ وَفِي حَجِّهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ لَا شَكَّ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا. وَلِابْنِ تَيْمِيَةَ تَقْسِيمٌ نَحْوُ هَذَا فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ: وَلِلْأَذَانِ عِدَّةُ جَوَانِبَ تَبَعٌ لِذَلِكَ مِنْهَا فِي حَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِلْأُولَى مِنْهُمَا، وَالِاكْتِفَاءِ بِالْإِقَامَةِ لِلثَّانِيَةِ، كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَمِنْهَا أَنْ لَا أَذَانَ عَلَى النِّسَاءِ أَيْ لَا وُجُوبَ، وَإِنْ أَرَدْنَ الْفَضِيلَةَ أَتَيْنَ بِهِ سِرًّا، وَقَدْ عَقَدَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَابًا قَالَ فِيهِ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ، وَسَاقَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، قَالَ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ، ثُمَّ سَاقَ عَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ، وَلَا جُمُعَةٌ وَلَا اغْتِسَالُ جُمُعَةٍ، وَلَا تَقَدَّمُهُنَّ امْرَأَةٌ، وَلَكِنْ تَقُومُ فِي وَسَطِهِنَّ» هَكَذَا رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَيْلِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ: وَرُوِّينَاهُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَرَفْعُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ. تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ أَوَّلًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُمُعَةِ، صُوَرُ التَّعَدُّدِ لَهَا فِيهِ صُورَتَانِ، صُورَةُ تَعَدُّدِ الْأَذَانِ أَيْ قَبْلَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ، وَصُورَةُ تَعَدُّدِ الْمُؤَذِّنِينَ بَعْدَ الْوَقْتِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَّا تَعَدُّدُ الْأَذَانِ فَقَدْ بَوَّبَ لَهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ قَالَ: بَابُ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَسَاقَ حَدِيثَ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ فَفِيهِ الْأَذَانُ أَوَّلًا لِلْوَقْتِ كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَفِيهِ أَذَانٌ قَبْلَ الْوَقْتِ زَادَهُ عُثْمَانُ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الثَّالِثُ، وَالِاثْنَانِ الْآخَرَانِ هُمَا الْأَذَانُ لِلْوَقْتِ، وَالْإِقَامَةُ الْمَوْجُودَانِ مِنْ قَبْلُ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الشَّرْحِ تَنْبِيهًا قَالَ فِيهِ: وَرُدَّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْخَبَرَ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي زَادَ الْأَذَانَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 فَفِي تَفْسِيرِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ زِيَادَةَ الرَّاوِي، عَنْ بُرْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ مُؤَذِّنَيْهِ أَنْ يُؤَذِّنَا لِلنَّاسِ الْجُمُعَةَ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ النَّاسُ، وَأَمَرَ أَنْ يُؤَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: نَحْنُ ابْتَدَعْنَاهُ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ اهـ. ثُمَّ نَاقَشَ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا الْأَثَرَ وَقَالَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ لَهُ مَا يُقَوِّيهِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْأَذَانِ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَعِنْدَ دُخُولِهِ، سَوَاءٌ مِنْ عُمَرَ أَوْ مِنْ عُثْمَانَ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. أَمَّا مَكَانُ هَذَا الْأَذَانِ وَزَمَانُهُ، فَإِنَّ الْمَكَانَ قَدْ جَاءَ النَّصُّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ. وَقَدْ كَثُرَ الْكَلَامُ فِي تَحْدِيدِ الزَّوْرَاءِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهَا مَكَانٌ بِالسُّوقِ، وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ الْغَرَضِ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِتَنْبِيهِ أَهْلِ السُّوقِ بِوَقْتِ الْجُمُعَةِ لِلسَّعْيِ إِلَيْهَا. أَمَّا الزَّوْرَاءُ بِعَيْنِهَا فَقَالَ عُلَمَاءُ تَارِيخِ الْمَدِينَةِ: إِنَّهُ اسْمٌ لِلسُّوقِ نَفْسِهَا، وَقِيلَ: مَكَانٌ مِنْهَا مُرْتَفِعٌ كَانَ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ، وَعِنْدَ قَبْرِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، وَعِنْدَ سُوقِ الْعَبَاءَةِ. وَالشَّيْءُ الثَّابِتُ الَّذِي لَمْ يَقْبَلِ التَّغَيُّرَ، هُوَ قَبْرُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، لَكِنْ يَقُولُونَ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ فِي مَكَانِهِ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنَّ الزَّوْرَاءَ هُوَ مَكَانُ الْمَسْجِدِ الَّذِي يُوجَدُ الْآنَ بِالسُّوقِ فِي مُقَابَلَةِ الْبَابِ الْمِصْرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِمَسْجِدِ فَاطِمَةَ، وَيَبْدُو لِي أَنَّ الزَّوْرَاءَ حُرِّفَتْ إِلَى الزَّهْرَاءِ، وَالزَّهْرَاءُ عِنْدَ النَّاسِ يُسَاوِي فَاطِمَةَ لِكَثْرَةِ قَوْلِهِمْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهَا مَسْجِدٌ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَلَا صِحَّةَ لِنِسْبَةِ هَذَا الْمَسْجِدِ إِلَيْهَا، بَلْ وَلَا مَا نُسِبَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ مَسَاجِدَ فِي جَوَانِبِ مَسْجِدِ الْمُصَلَّى الْمَعْرُوفِ الْآنَ بِمَسْجِدِ الْغَمَامَةِ، وَإِنَّمَا صِحَّةُ مَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - هُوَ أَنَّ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ كَانَتْ مَوَاقِفَهُمْ فِي مُصَلَّى الْعِيدِ، وَلِهَذَا تَرَاهَا كُلَّهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُتَوَاجِدَةِ فِيهِ. فَأَوَّلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ أَخَّرَ مَوْقِفَهُ عَنْ مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى الْعِيدَ تَأَدُّبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ مِنْ بَعْدِهِ، وَاخْتَلَفَتْ أَمَاكِنُ مُصَلَّاهُمْ فَأُقِيمَتْ تِلْكَ الْمَسَاجِدُ فِي أَمَاكِنِ قِيَامِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 أَمَّا مَا يُنْسَبُ إِلَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ فَلَا مُنَاسَبَةَ لَهُ وَلَا صِحَّةَ لَهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى إِحْدَى الْفُضْلَيَاتِ مِنْ نِسَاءِ الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ، وَعَلَيْهِ فَلَعَلَّهَا قَدْ جَدَّدَتْهُ وَلَمْ تُؤَسِّسْهُ ; لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ أَيْضًا لِتَبَرُّعِهَا بِإِنْشَاءِ مَسْجِدٍ بِهَذَا الْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِمُنَاسَبَةِ الْعَمَلِ بِالْقَضَاءِ فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ صَكُّ شَرْطِ وَقْفٍ لِلْأَشْرَافِ الشَّرَاقِمَةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَفِي بَعْضِ تَحْدِيدِ أَعْيَانِهِ يَقُولُ: الْوَاقِعُ فِي طَرِيقِ الزَّوْرَاءِ، وَيَحُدُّهُ جَنُوبًا وَقْفُ الْحَلَبِيِّ، وَوَقْفُ الْحَلَبِيِّ مَوْجُودٌ حَتَّى الْآنَ مَعْرُوفٌ يَقَعُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْمَوْجُودِ بِالْفِعْلِ فِي الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ إِلَّا السُّورُ وَالشَّارِعُ فَقَطْ، وَتَارِيخُ هَذَا الصَّكِّ قَبْلَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ تَارِيخِ كِتَابَةِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ أَيْ قَبْلَ عَامِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَبِهَذَا تَرَجَّحَ عِنْدَي أَنَّ مَوْضِعَ أَذَانِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَنَّهُ الْمُتَوَسِّطُ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، وَتُقَدَّرُ مَسَافَتُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِحَوَالَيْ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِتْرًا تَقْرِيبًا. وَقَدْ كَانَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَنَارَةِ، وَهَكَذَا الْأَذَانُ لِلْوَقْتِ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ، أَمَّا هَذَا الْأَذَانُ فَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنَ الزَّوْرَاءِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ زَمَنَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْمَنَارَةِ. أَمَّا زَمَانُهُ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَحْدِيدٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ، كَمْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي؟ وَهَلْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَهُ؟ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ رِوَايَةً عَنِ الطَّبَرَانِيِّ مَا نَصُّهُ: فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى دَارٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ، فَكَانَ يُؤَذَّنُ عَلَيْهَا، فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ الْأَوَّلُ، فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ الصَّلَاةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَأَذَّنَ بِالزَّوْرَاءِ قَبْلَ خُرُوجِهِ ; لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ حَضَرَتْ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَتَبَيَّنَ بِمَا مَضَى أَنَّ عُثْمَانَ أَحْدَثَهُ لِإِعْلَامِ النَّاسِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، فَأَلْحَقَ الْجُمُعَةَ بِهَا، وَأَبْقَى خُصُوصِيَّتَهَا بِالْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، فَتَرَاهُ يُرَجِّحُ كَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَعِنْدَ خُرُوجِ عُثْمَانَ أَيْ مِنْ بَيْتِهِ وَكَانَ يَسْكُنُ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَتَمَشَّى مَعَ الْغَرَضِ مِنْ إِيجَادِ هَذَا الْأَذَانِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 النَّاسُ جَعَلَهُ فِي السُّوقِ لِإِعْلَامِهِمْ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْوَقْتِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ مِنْهُ، وَكَيْفَ يُعَدُّ ثَالِثًا، إِنَّهُ يَكُونُ مِنْ تَعَدُّدِ الْمُؤَذِّنِينَ لَا مَنْ تَعَدُّدِ الْأَذَانِ. ثُمَّ إِنَّ مَسْكَنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ بِجِوَارِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَحَلُّهُ مَعْرُوفٌ حَتَّى الْآنَ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِرِبَاطِ عُثْمَانَ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ هَذَا الْأَذَانَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ الزَّوْرَاءِ وَمَكَانِ سُكْنَاهُ. ثُمَّ إِنَّ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَذَانَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ هُوَ الْأَذَانُ الَّذِي بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ بَعْدَهُ، فَالْأَذَانُ الثَّالِثُ كَالْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ لِلصُّبْحِ، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا بَعْدَهُ، كَالْأَوَّلِ لِلصُّبْحِ لِيَتَحَقَّقَ الْغَرَضُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي زَمَنِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي وَمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغَرَضُ مِنْ رُجُوعِ أَهْلِ السُّوقِ وَتَهَيُّئِهِمْ لِلْجُمُعَةِ وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْبِلَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ زَمَنٍ بَيْنَهُمَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ أَهْلُ السُّوقِ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَإِدْرَاكِ الْخُطْبَةِ. وَلَوْ أَخَذْنَا بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ لِعُثْمَانَ نَفْسِهِ زَمَنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعُمَرُ يَخْطُبُ فَعَاتَبَهُ عَلَى التَّأْخِيرِ، ثُمَّ أَحْدَثَ عُثْمَانُ هَذَا الْأَذَانَ فِي عَهْدِهِ لَوَجَدْنَا قَرِينَةَ تَقْدِيمِهِ عَنِ الْوَقْتِ لِئَلَّا يَقَعُ غَيْرُهُ فِيمَا يَقَعُ هُوَ فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي نَصُّ ابْنِ الْحَاجِّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ. وَهَذَا آخِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَعَدُّدِ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُوجَدُ مِنْ نِدَاءَاتٍ أُخْرَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَعْضِ الْأَمْصَارِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَا اسْتُحْدِثَ فِي الْأَذَانِ وَابْتُدِعَ فِيهِ، مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ زَمَنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِيهِ مَا نَصُّهُ: «فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِعُمَرَ مُؤَذِّنُونَ، وَكَانُوا يُؤَذِّنُونَ حِينَ يَجْلِسُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَانَ يَجْلِسُ إِلَى أَنْ يَفْرَغُوا مِنَ الْأَذَانِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ أَيْ كَانَ أَذَانُهُمْ كُلِّهِمْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ أَذَانًا آخَرَ بِالزَّوْرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا وُجُودُ تَعَدُّدِ الْمُؤَذِّنِينَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَكَانُوا زَمَنَ عُمَرَ ثَلَاثَةً وَكَانُوا يُؤَذِّنُونَ مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَيْضًا ضِمْنَ كَلَامِهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ تَحْتَ عُنْوَانِ «الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» رِوَايَةً عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَقِيَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِذَا فَرَغَ الثَّالِثُ قَامَ فَخَطَبَ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّهُ دَعْوَى تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ طَرِيقٍ مُتَّصِلَةٍ يَثْبُتُ مِثْلُهَا. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي تَعْلِيقٍ لِسَمَاحَةِ رَئِيسِ الْجَامِعَةِ فِي الْحَاشِيَةِ عَلَى ذَلِكَ قَالَ فِي مَخْطُوطَةِ الرِّيَاضِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ أَوِ الْمُزَنِيِّ فَإِنَّ عَزْوَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ وَابْنُ حَجَرٍ لَمْ يُعَلِّقْ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْأَثَرِ بِشَيْءٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبُوَيْطِيِّ: وَالنِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَكُونُ الْمُؤَذِّنُونَ يَسْتَفْتِحُونَ الْأَذَانَ فَوْقَ الْمَنَارَةِ جُمْلَةً حِينِ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ; لِيَسْمَعَ النَّاسُ، فَيَأْتُونَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا فَرَغُوا خَطَبَ الْإِمَامُ بِهِمْ، فَهَذَا أَيْضًا نَصُّ الشَّافِعِيِّ يَنْقُلُهُ النَّوَوِيُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْمُؤَذِّنِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَوْقَ الْمَنَارَةِ جُمْلَةً، وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مَشْرُوعِيَّةُ تَعَدُّدِ الْأَذَانِ لِلْجُمُعَةِ، قَبْلَ وَبَعْدَ الْوَقْتِ مَنْ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَفِي تَوَفُّرِ الصَّحَابَةِ الْمَرْضِيِّينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ فِي وَفْرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَمَا ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ تَعَدُّدِ الْأَذَانِ بَعْدَ الْوَقْتِ مَنْ فِعْلِ الْخُلَفَاءِ أَيْضًا وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ مَعَ أَثَرٍ فِيهِ نِقَاشٌ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَذَانِ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَكَالْآتِي: أَوَّلًا: تَعَدُّدُ الْأَذَانِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَطْ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي مِنْهَا: «يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، أَيْ إِنَّ أَذَانَ بِلَالٍ قَبْلَ الْفَجْرِ يُحِلُّ الطَّعَامَ وَأَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ حِينَ يَحْرُمُ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَمْ يَكُنِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الزَّمَنِ، فَفِي بَعْضِ الرِوَايَاتِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ قَالَ: يُنَادِي بِلَيْلٍ ; لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ «. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: يُرِيدُ الْقَائِمَ الْمُتَهَجِّدَ إِلَى رَاحَتِهِ ; لِيَقُومَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ نَشِيطًا أَوْ يَتَسَحَّرُ، إِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى الصِّيَامِ، وَيُوقِظَ النَّائِمَ ; لِيَتَأَهَّبَ لِلصَّلَاةِ بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، فَالْأَوَّلُ يُشْعِرُ بِتَوَالِيهِمَا مَعَ فَرْقٍ يَسِيرٍ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحُ السَّنَدِ. وَقَدْ فَسَّرَ هَذَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ بِقَوْلِهِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ: إِنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَيَتَرَبَّصُ بَعْدَ أَذَانِهِ لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ يَرْقُبُ الْفَجْرَ، فَإِذَا قَارَبَ طُلُوعُهُ نَزَلَ فَأَخْبَرَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ فَيَتَأَهَّبُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ يَرْقَى وَيَشْرَعُ فِي الْأَذَانِ مَعَ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ إِلَى آخِرِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى فَلَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ، وَهَذَا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ لِلْفَجْرِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مَا عَدَا الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَحَمَلَ أَذَانَ بِلَالٍ عَلَى النِّدَاءِ بِغَيْرِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَذَّنَ بِلَالٌ قَبْلَ الْوَقْتِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْجِعَ فَيَقُولَ: إِلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ، وَهَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لِلْأَحْنَافِ، مَا نَصُّهُ: وَلَا يُؤَذَّنُ لِصَلَاةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَيُعَادُ فِي الْوَقْتِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِلْفَجْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: لِتَوَارُثِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ، فَيَكُونُ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَدْ وَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَإِنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَقَدْ جَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ. وَجَاءَ نَصُّ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ فِي السُّدُسِ الْأَخِيرِ، قَالَ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: غَيْرُ مُقَدَّمٍ عَلَى الْوَقْتِ إِلَّا الصُّبْحَ فَبِسُدُسِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَعْنَى مَا نَصُّهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ يُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي السَّحَرِ بِقَدْرِ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ سِتَّةَ أَمْيَالٍ فَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مَكْحُولٌ وَلَا يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا. اهـ. تَنْبِيهٌ قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِذَا كَانَ مُؤَذِّنَانِ يُؤَذِّنُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْآخَرُ بَعْدَهُ، فَلَا بَأْسَ أَيْ: لِيَعْرِفَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا مِنَ الثَّانِي وَيَلْتَزِمَا بِذَلِكَ ; لِيَعْلَمَ النَّاسُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ كَمَا كَانَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى مُلَخَّصًا. أَمَّا تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ لِبَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ فَكَالْآتِي: أَوَّلًا: فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَدِيثُ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَجْرِ، ثُمَّ قَاسُوا عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ بَقِيَّةَ الصَّلَوَاتِ، كَمَا اسْتَأْنَسُوا لِزِيَادَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فِي الْجُمُعَةِ لِلْجَمَاعَةِ لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثَانِيًا: نَسُوقُ مُوجَزَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: بَابُ اسْتِحْبَابِ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ لِلْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، وَسَاقَ كَلَامَهُ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ مُؤَذِّنَيْنِ لِلْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، يُؤَذِّنُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْفَجْرِ وَالْآخَرُ عِنْدَ طُلُوعِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مُؤَذِّنَيْنِ اتَّخَذَ ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً فَأَكْثَرَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 وَقَدِ اتَّخَذَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْبَعَةً لِلْحَاجَةِ عِنْدَ كَثْرَةِ النَّاسِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا تَرَتَّبَ لِلْأَذَانِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، فَالْمُسْتَحَبُّ أَلَّا يُؤَذِّنُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ إِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ تَرَتَّبُوا فِيهِ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا أَذَّنُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا وَقَفُوا مَعًا وَأَذَّنُوا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ إِلَى تَشْوِيشٍ، فَإِنْ أَدَّى إِلَى ذَلِكَ لَمْ يُؤَذِّنْ إِلَّا وَاحِدٌ، اهـ. فَهَذَا نَصُّ النَّوَوِيِّ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ أَيْ: الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ سَاقَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَلَى نَصِّ الْمَتْنِ إِذْ قَالَ الْمَاتِنُ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ لِلْجَمَاعَةِ اثْنَيْنِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الزِّيَادَةِ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً ; لِأَنَّهُ كَانَ لِعُثْمَانَ أَرْبَعَةٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الشَّرْحِ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ إِلَى أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ نَاقَشَ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْعَدَدِ ثُمَّ قَالَ: الْعِبْرَةُ بِالْمَصْلَحَةِ، فَكَمَا زَادَ عُثْمَانُ إِلَى أَرْبَعَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ جَازَ لِغَيْرِهِ الزِّيَادَةُ. وَذُكِرَ عَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي إِلَى ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ قَالَ: فَرْعٌ، وَسَاقَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ كَانَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنَانِ أَذَّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، كَمَا كَانَ بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَالْمَسْجِدُ كَبِيرٌ أَذَّنُوا فِي أَقْطَارِهِ كُلُّ وَاحِدٍ فِي قُطْرٍ ; لِيَسْمَعَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَذَّنُوا مَعًا وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى تَهْوِيشٍ. قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ: وَيَقِفُونَ جَمِيعًا عَلَيْهِ كَلِمَةً كَلِمَةً فَإِنْ أَدَّى إِلَى تَهْوِيشٍ أَذَّنَ وَاحِدٌ. إِلَخْ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، بَابُ مَنْ قَالَ: لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا وَرَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: «ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» . قَالَ فِي الْفَتْحِ أَثْنَاءَ الشَّرْحِ: وَعَلَى هَذَا فَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فِي السَّفَرِ لِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 الْحَضَرَ أَيْضًا لَا يُؤَذِّنُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ، وَلَوِ احْتِيجَ إِلَى تَعَدُّدِهِمْ لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِ الْبَلَدِ أَذَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي جِهَةٍ وَلَا يُؤَذِّنُونَ جَمِيعًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ التَّأْذِينَ جَمِيعًا بَنُو أُمَيَّةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُؤَذِّنٌ بَعْدَ مُؤَذِّنٍ، وَلَا يُؤَذِّنُونَ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ مَسْجِدٌ كَبِيرٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِنْهُ، مُؤَذِّنٌ، يُسْمِعُ مَنْ يَلِيهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الشَّارِحُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي الْأُمِّ، وَلَكِنْ بِلَفْظِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي كُلِّ مَنَارَةٍ لَهُ مُؤَذِّنٌ فَيُسْمِعُ مَنْ يَلِيهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. اهـ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ لِبَيَانِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، مِنْ أَنَّ التَّعَدُّدَ جَائِزٌ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ جَاءَ فِي الْمُوَطَّأِ حَدِيثُ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَيْضًا. وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِهِ: وَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ فِي مَسْجِدٍ يُؤَذِّنَانِ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْقَوْمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَرَسِ وَالْمَرْكِبِ ثَلَاثَةُ مُؤَذِّنِينَ وَأَرْبَعَةٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُتَّخَذَ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ وَخَمْسَةٌ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا بَأْسَ فِيمَا اتَّسَعَ وَقْتُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، كَالصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ، أَنْ يُؤَذِّنَ خَمْسَةٌ إِلَى عَشَرَةٍ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ، وَلَا يُؤَذِّنُ فِي الْمَغْرِبِ إِلَّا وَاحِدٌ. فَهَذَا نَصُّ مَالِكٍ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. وَفِي مَتْنِ خَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: وَتَعَدُّدُهُ وَتَرْتِيبُهُمْ إِلَّا الْمَغْرِبَ، وَجَمْعُهُمْ كُلٌّ عَلَى أَذَانٍ. وَذَكَرَ الشَّارِحُ الْخُرَشِيُّ: مِنْ خَمْسَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ فِي الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي الْعَصْرِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ، وَفِي الْمَغْرِبِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ. إِلَخْ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ فِي الْمُغْنِي: فَصْلٌ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى مُؤَذِّنَيْنِ لِحَدِيثِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ، وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُمْ كَانَ مَشْرُوعًا، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ وَكَانَ الْوَاحِدُ يُسْمِعُ النَّاسَ، فَالْمُسْتَعْجَبُ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ أَذَّنُوا عَلَى حَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَنَارَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ أَوْ دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. قَالَ أَحْمَدُ: إِنْ أَذَّنَ عِدَّةٌ فِي مَنَارَةٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ خَافُوا مَنْ تَأْذِينِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ فَوَاتَ أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَذَّنُوا جَمِيعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ: جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ فِي سِيَاقِ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ وَحِكَايَةِ الْأَذَانِ مَا نَصُّهُ: إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَالْحُرْمَةُ لِلْأَوَّلِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا فُرِضَ أَنْ سَمِعُوهُ مِنْ غَيْرِ مَسْجِدِهِ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ السَّبَبُ، فَيَصِيرُ كَتَعَدُّدِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ سَمِعَهُمْ مَعًا أَجَابَ مُعْتَبِرًا كَوْنَ جَوَابِهِ لِمُؤَذِّنِ مَسْجِدِهِ. هَذِهِ نُصُوصُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ لِلصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَذِّنَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مَعًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَالْمُؤَذِّنُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَائِزٌ أَنْ يُؤَذِّنَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ لِلْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَعَدُّدَ الْأَذَانِ مِنْ عِدَّةِ مُؤَذِّنِينَ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ. الْحِكْمَةُ فِي الْأَذَانِ أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي الْأَذَانِ فَإِنَّ أَعْظَمَهَا أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَصْلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أُصُولِ عَقَائِدِ التَّوْحِيدِ تُعْلَنُ عَلَى الْمَلَأِ، تَمْلَأُ الْأَسْمَاعَ حَتَّى صَارَ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ. وَنُقِلَ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 اعْلَمْ أَنَّ الْأَذَانَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِعَقِيدَةِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَوْعِهِ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ، فَأَوَّلُهُ: إِثْبَاتُ الذَّاتِ وَمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْكِمَالَاتِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ أَضْدَادِهَا وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعَ اخْتِصَارِ لَفْظِهَا دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. ثُمَّ يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيِ ضِدِّهَا مِنَ الشَّرِكَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذِهِ عُمْدَةُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى كُلِّ وَظَائِفِ الدِّينِ، ثُمَّ يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَمَوْضِعُهَا بَعْدَ التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْجَائِزَةِ الْوُقُوعِ، وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ مِنْ بَابِ الْوَاجِبَاتِ وَبَعْدَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ كَلِمَاتُ الْعَقَائِدِ الْعَقْلِيَّاتِ، فَدَعَا إِلَى الصَّلَاةِ وَجَعَلَهَا عَقِبَ إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ وُجُوبِهَا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْفَلَاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ وَالْبَقَاءُ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ آخِرُ تَرَاجِمِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ. إِلَخْ. وَمُرَادُهُ بِالْعَقْلِيَّاتِ فِي الْعَقَائِدِ أَيْ إِثْبَاتُ وُجُودِ اللَّهِ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِقَانُونِ الْإِلْزَامِ، الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا جَائِزُ الْوُجُودِ أَوْ وَاجِبُهُ، فَجَائِزُ الْوُجُودِ جَائِزُ الْعَدَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَاسْتَوَى الْوُجُودُ وَالْبَقَاءُ فِي الْعَدَمِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ، فَتَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى بَقَائِهِ فِي الْعَدَمِ، وَهَذَا التَّرْجِيحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُوجِدٍ، وَلَمْ يَجُزْ فِي صِفَةِ عَدَمٍ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ مُوجِدُهُ إِلَى مُوجِدٍ، وَمُرَجِّحُ وُجُودِهِ عَلَى مَوْجُودٍ. وَهَكَذَا فَاقْتَضَى الْإِلْزَامُ الْعَقْلِيُّ وُجُوبَ وُجُودِ مُوجِدٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ فَقَطْ، وَقَدْ أُدْخِلَ الْعَقْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُهَا الْوُجُودُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَقْلَ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْعَقَائِدِ مِنْ حَيْثُ الْإِثْبَاتُ أَوِ النَّفْيُ ; لِأَنَّهَا سَمْعِيَّةٌ وَلَا تُؤْخَذُ إِلَّا عَنِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ، وَمُرَادُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى إِدْخَالِ الْعَقْلِيَّاتِ هُنَا فَقَطْ. وَقَدْ سُقْنَا كَلَامَ الْقَاضِي عِيَاضٍ هَذَا فِي حِكْمَةِ الْأَذَانِ لِوَجَاهَتِهِ، وَلِتَعْلَمَ مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْأَذَانِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلْصَلَةِ نَاقُوسٍ أَجْوَفَ، وَلَا أَصْوَاتِ بُوقٍ أَهْوَجَ، وَلَا دَقَّاتِ طَبْلٍ أَرْعَنَ، كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ الْآخَرِينَ، بَلْ هُوَ كَلِمَاتٌ وَنِدَاءٌ يُوقِظُ الْقُلُوبَ مِنْ سُبَاتِهَا، وَتُفِيقُ النُّفُوسُ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَتَكُفُّ الْأَذْهَانُ عَنْ تَشَاغُلِهَا، وَتُهَيِّئُ الْمُسْلِمَ إِلَى هَذِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 الْفَرِيضَةِ الْعُظْمَى، ثَانِيَةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَعَمُودِهِ. فَإِذَا مَا سَمِعَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّتَيْنِ، عَظُمَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ، وَاسْتَحْضَرَ جَلَالَهُ وَقَدَّسَهُ وَاسْتَصْغَرَ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَ اللَّهِ، فَلَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَشْغَلُ نَفْسَهُ عَنْهُ أَيُّ شَيْءٍ. فَإِذَا سَمِعَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَلِمَ أَنَّ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهِ طَاعَةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ. وَإِذَا سَمِعَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِجَابَةُ دَاعِي اللَّهِ. وَإِذَا سَمِعَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، عَلِمَ أَنَّ فَلَاحَهُ فِي صِلَاتِهِ فِي وَقْتِهَا لَا فِيمَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا. وَهَكَذَا فَكَانَ مَمْشَاهُ إِلَيْهَا تَخَشُّعًا، وَخُطَاهُ إِلَى الْمَسْجِدِ تَطَوُّعًا مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَاسْتِجْمَاعِ الشُّعُورِ. وَمِنْ هُنَا أَيْضًا نُدْرِكُ السِّرَّ فِي طَلَبِ السَّامِعِ مُحَاكَاةَ الْأَذَانِ تَبَعًا لِلْمُؤَذِّنِ لِيَرْتَبِطَ مَعَهُ فِي إِعْلَانِهِ وَعَقِيدَتِهِ وَشُعُورِهِ، كَمَا جَاءَ فِي أَثَرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ، فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَاسْأَلْ تُعْطَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ مَنْهَجِ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ لِمُوجِبِ اقْتِضَاءٍ، وَلِمُنَاسَبَةِ مَبْحَثِ الْأَذَانِ. أَمَّا الْمُوجِبُ فَهُوَ أَنِّي سَمِعْتُ مُنْذُ أَيَّامٍ أَثْنَاءَ الْكِتَابَةِ فِي مَبَاحِثِ الْأَذَانِ، وَسَمِعْتُ مِنْ إِذَاعَةٍ لِبَلَدٍ عَرَبِيٍّ مُسْلِمٍ أَنَّ كَاتِبًا اسْتَنْكَرَ الْأَذَانَ فِي الصُّبْحِ خَاصَّةً، وَفِي بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ بِوَاسِطَةِ الْمُكَبِّرِ لِلصَّوْتِ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُرْهِقُ الْأَعْصَابَ وَخَاصَّةً عِنْدَ أَدَاءِ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ أَوْ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَالْعَوْدَةِ لِرَاحَتِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْفَجْرِ عِنْدَ نَوْمِهِمْ، فَكَانَ وَقْعُهُ أَلِيمًا أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ وَيُنْشَرَ، وَلَكِنْ أَجَابَ عَلَيْهِ أَحَدُ خُطَبَاءِ الْجُمَعِ فِي خُطْبَةٍ وَافِيَةٍ، وَأَفْهَمَهُ أَنَّ الْإِرْهَاقَ وَالِاضْطِرَابَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ لِهَذَا النِّدَاءِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَبُولُ فِي أُذُنِ النَّائِمِ، وَأَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ عُقَدٍ، فَإِذَا مَا اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ أُخْرَى، فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ الثَّالِثَةُ، وَأَصْبَحَ نَشِيطًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ الْكَافِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْكِتَابَةِ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِمَّنْ لَا يَعِي مَعْنَى الْأَذَانِ. هَذَا مَا اسْتَوْجَبَ عَرْضَ الْحِكْمَةِ مِنَ الْأَذَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مُجَانِبَةً لِمَنْهَجِ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ بِمُنَاسَبَةِ مَبَاحِثِ الْأَذَانِ يُغْتَفَرُ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مُحَاكَاةُ الْمُؤَذِّنِ تُعْتَبَرُ مُحَاكَاةُ الْمُؤَذِّنِ رَبْطًا لِسَامِعِ الْأَذَانِ، وَتَنْبِيهًا لَهُ لِمَوْضُوعِهِ، جَاءَ الْحَدِيثُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ أَيْ مُعَاوِيَةُ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ إِلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَلَمَّا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَكَذَلِكَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ بِلَالٌ يُنَادِي، فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . كَيْفِيَّةُ الْمُحَاكَاةِ، فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: «فَقُولُوا مِثْلَمَا يَقُولُ» وَهَكَذَا يَشْعُرُ بِتَتَبُّعِهِ جُمْلَةً جُمْلَةً، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا» وَبَعْدَ السُّكُوتِ تَنْطَبِقُ الْمِثْلِيَّةُ بِمَجِئِ الْأَذَانِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ، فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ. وَقَدْ جَاءَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ مَا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، فَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُحَاكِيَ الْمُؤَذِّنِ يُتَابِعُهُ جُمْلَةً جُمْلَةً إِلَى آخِرِهِ مَا عَدَا الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بَدَلًا مِنْهُمَا بِالْحَوْقَلَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْحَيْعَلَتَيْنِ نِدَاءٌ لِلْإِقْبَالِ عَلَى الْمُنَادِي، وَهَذَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ، أَمَّا الَّذِي يَحْكِي الْأَذَانَ فَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ وَلَا يَصْدُقُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 عَلَيْهِ أَنْ يُنَادِيَ غَيْرَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي نُطْقِهِ بِهِمَا، فَيَأْتِي بِلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ إِلَّا بِاللَّهِ لِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ ذِكْرٌ يُثَابُ عَلَيْهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَالثَّانِي: اسْتِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا حَوْلَ لَهُ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَفِيهِ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ عَلَى إِجَابَةِ هَذَا النِّدَاءِ، وَأَدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ أَخَذَ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِمُحَاكَاةِ الْمُؤَذِّنِ فِي جَمِيعِ الْأَذَانِ عَلَى النَّحْوِ الْمُقَدَّمِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَكْتَفِي إِلَى الْحَوْقَلَةِ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ. وَنَصُّ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ أَيْ مُقَابِلُ الْمَشْهُورِ طَلَبُ حِكَايَةِ الْأَذَانِ جَمِيعِهِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى خَلِيلٍ. بَعْضُ الزِّيَادَاتِ عَلَى أَلْفَاظِ الْأَذَانِ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَوْقَلَةِ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عِنْدَ الشَّهَادَتَيْنِ يَقُولُ زِيَادَةً: «وَأَنَا أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ» . الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُؤَالُ اللَّهِ لَهُ الْوَسِيلَةَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَمَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ ; فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» وَهَذَا عَامٌّ لِلْأَذَانِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ بَعْضُ الزِّيَادَاتِ، فَفِي الْمَغْرِبِ حَكَى النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ النِّدَاءِ: «اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَالُ لَيْلِكَ، وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ وَأَصْوَاتُ دُعَائِكَ اغْفِرْ لِي» ، وَيَدْعُو بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَعَزَاهُ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَقَرَّهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ. أَمَّا فِي سَمَاعِ أَذَانِ الْفَجْرِ فَيَقُولُ عِنْدَ (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) : صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ. وَعَنِ الرَّافِعِيِّ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. وَإِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْكِيهِ ; لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 لَشُغْلًا، وَإِذَا سَمِعَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ نَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يَقُومُ حَالًا لِلصَّلَاةِ حَتَّى يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُ أَوْ يَقْرُبَ. وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ اسْتُحِبَّ لَهُ انْتِظَارُهُ لِيَفْرَغَ وَيَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ جَمْعًا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ كَقَوْلِهِ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَلَا بَأْسَ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. إِجَابَةُ أَكْثَرَ مِنْ مُؤَذِّنٍ وَلِلْعُلَمَاءِ مَبْحَثٌ فِيمَا لَوْ سَمِعَ أَكْثَرَ مِنْ مُؤَذِّنٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا لِأَصْحَابِنَا، وَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ، وَقَالَ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَابَعَةُ سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالْأَمْرِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْفَتْحِ وَقَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يُجِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ بِإِجَابَةٍ لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ. اهـ. وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ الْحَقُّ لِلْأَوَّلِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَبْحَثِ الْأُصُولِ، هَلِ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ بَحَثَ هَذَا الْمَوْضُوعَ فَضِيلَةُ شَيْخِنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ وَحَاصِلُهُ: إِنَّ الْأَمْرَ إِمَّا مُقَيَّدٌ بِمَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَوْ مُطْلَقٌ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بَلْ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهِ بِمَرَّةٍ، ثُمَّ فَصَّلَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - الْقَوْلَ فِيمَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَمِنْهُ تَعَدُّدُ حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَبَحَثَهَا بِأَوْسَعَ فِي الْأَضْوَاءِ عَنْ تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ فِي الْحَجِّ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ هَلِ السَّبَبُ الْمَذْكُورُ مِمَّا يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ، أَمْ لَا؟ وَالْأَسْبَابُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ قَطْعًا، وَقِسْمٌ لَا يَقْتَضِيهِ قَطْعًا، وَقِسْمٌ هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ. فَمِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ التَّكْرَارَ قَطْعًا: مَا لَوْ وُلِدَ لَهُ تَوْأَمَانِ فَإِنَّ عَلَيْهِ عَقِيقَتَيْنِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 وَمِنْهَا: لَوْ ضَرَبَ حَامِلًا فَأَجْهَضَتْ جَنِينَيْنِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ غُرَّتَانِ. وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ مَا لَوْ أَحْدَثَ عِدَّةَ أَحْدَاثٍ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَإِنَّهُ لَا يُكَرِّرُ الْوُضُوءَ بِعَدَدِ الْأَحْدَاثِ، وَيَكْفِي وُضُوءٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ لَوْ تَعَدَّدَتْ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ غُسْلٌ وَاحِدٌ عَنِ الْجَمِيعِ. وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ مَا كَانَ دَائِرًا بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، كَمَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ عِدَّةِ زَوْجَاتٍ هَلْ عَلَيْهِ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ نَظَرًا لِمَا أَوْقَعَ مِنْ ظِهَارِأُمٍّ عَلَيْهِ عِدَّةُ كَفَّارَاتٍ نَظَرًا لِعَدَدٍ ظَاهِرٍ مِنْهُنَّ؟ وَكَذَلِكَ إِذَا وَلَغَ عِدَّةُ كِلَابٍ فِي إِنَاءٍ هَلْ يُعَفِّرُ الْإِنَاءَ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَمْ يَتَعَدَّدُ التَّعْفِيرُ لِتَعَدُّدِ الْوُلُوغِ مِنْ عِدَّةِ كِلَابٍ؟ وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ إِذَا تَعَدَّدَ الْمُؤَذِّنُونَ تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ، فَهَلْ تَتَعَدَّدُ الْإِجَابَةُ أَمْ يَكْتَفِي بِإِجَابَةٍ وَاحِدَةٍ؟ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا لِأَصْحَابِهِ، وَكَلَامُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بِتَعَدُّدِ الْإِجَابَةِ وَبِالنَّظَرِ الْأُصُولِيِّ، نَجِدُ تَعَدُّدَ الْمُؤَذِّنِينَ لَيْسَ كَتَعَدُّدِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ ; لِأَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا أَحْدَثَ ارْتَفَعَ وُضُوءُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِهَذَا الْحَدَثِ، فَإِذَا أَحْدَثَ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَقَعْ هَذَا الْحَدَثُ الثَّانِي عَلَى طُهْرٍ وَلَمْ يَجِدْ حَدَثًا آخَرَ. وَهَكَذَا مَهْمَا تَعَدَّدَتِ الْأَحْدَاثُ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ حَدَثَهُ فَيَكْفِي فِيهِ وُضُوءٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ مُسْتَمِعُ الْمُؤَذِّنِ حِينَمَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِمُحَاكَاتِهِ، فَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ وَسَمِعَ مُؤَذِّنًا آخَرَ، فَإِنَّ مِنْ حَقِّ هَذَا الْمُؤَذِّنِ الْآخَرِ أَنْ يُحَاكِيَهُ، وَلَا عَلَاقَةَ لِأَذَانِ هَذَا بِذَاكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَجَدُّدِ السَّبَبِ وَتَعَدُّدِهِ أَوْ هُوَ إِلَيْهِ أَقْرَبُ، كَمَا لَوْ سَمِعَ أَذَانَ الظُّهْرِ فَأَجَابَهُ ثُمَّ سَمِعَ أَذَانَ الْعَصْرِ فَلَا يَكْفِي عَنْهُ إِجَابَةُ أَذَانِ الظُّهْرِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ الْوَقْتُ وَجَاءَ أَذَانٌ جَدِيدٌ، فَيُقَالُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْمُؤَذِّنُ فَجَاءَ أَذَانٌ جَدِيدٌ. وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي حَدِيثِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمِينَ آمِينَ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ بَاعَدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ فَقُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» ، وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ بِهَذَا يَتَعَيَّنُ تَكْرَارُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ كُلِّ مَا يُسْمَعُ ذِكْرُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهُنَا عَلَيْهِ تَكْرَارُ مُحَاكَاةِ الْمُؤَذِّنِ، كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 تَنْبِيهٌ وَإِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ فَلَا يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ، وَإِذَا كَانَ فِي قِرَاءَةٍ، أَوْ دُعَاءٍ، أَوْ ذِكْرٍ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُ وَيَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ. قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْفَتَاوَى وَابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَالنَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ. تَنْبِيهٌ وَلَا يَجُوزُ النِّدَاءُ لِلصَّلَاةِ جُمُعَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَمَا عَدَاهَا مِمَّا أَدْخَلَهُ النَّاسُ لَا أَصْلَ لَهُ، كَالتَّسْبِيحِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَا يُسَمَّى بِالتَّطْلِيعِ وَنَحْوِهِ، فَكُلُّ هَذَا لَا نَصَّ عَلَيْهِ وَلَا أَصْلَ لَهُ. وَقَدْ نَصَّ فِي فَتْحِ الْبَارِي رَدًّا عَلَى ابْنِ الْمُنِيرِ، حَيْثُ جَعَلَ بَعْضَ الْهَيْئَاتِ أَوِ الْأَقْوَالِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِعْلَامِ، فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَكَانَ مَا أَحْدَثَ مِنَ التَّسْبِيحِ قَبْلَ الصُّبْحِ وَقَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جُمْلَةِ الْأَذَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا. وَفِي الْحَاشِيَةِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَازٍ تَعْلِيقٌ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الْمُنِيرِ بِقَوْلِهِ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّسْبِيحِ قَبْلَ الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ بِدْعَةٌ يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ إِنْكَارُهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِي الْأَذَانِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَفِيمَا شَرَعَهُ اللَّهُ غُنْيَةٌ وكِفَايَةٌ عَنِ الْمُحْدَثَاتِ، فَتَنَبَّهْ. وَقَالَ فِي الْفَتْحِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ: وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَيْهَا بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَوْلَى، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ مُجَلَّدَ 2 ص 452، وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنَ التَّسْبِيحِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنًا وَعَلَنًا لَكِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَرَكَهَا الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا شَيْئًا مَعْلُومًا. وَقَالَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ: وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 وَأَجَلِّهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْلُكَ بِهَا مَسْلَكَهَا، فَلَا تُوضَعُ إِلَّا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِبْدَاعِ فِي مَضَارِّ الِابْتِدَاعِ، مَا نَصُّهُ: وَمِنَ الْبِدَعِ مَا يُسَمَّى بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، أَعْنِي مَا يَقَعُ قَبْلَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَيْهَا بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَهْدِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي ذَمِّهِ وَاسْتِحْسَانِهِ. اهـ. وَهَذَا النَّظَرُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ فِي التَّنْبِيهَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِابْنِ حَجَرٍ، وَابْنِ الْحَاجِّ، وَابْنِ بَازٍ. وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ الْفِقْهِيَّةُ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ دِينًا وَلَا عِبَادَةً عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْإِبْدَاعِ أَيْضًا تَارِيخَ إِحْدَاثِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ الْأَذَانِ، فَقَالَ: كَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ وَبِأَمْرِهِ فِي مِصْرَ وَأَعْمَالِهَا، لِسَبَبٍ مَذْكُورٍ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ. اهـ. وَالسَّبَبُ يَتَعَلَّقُ بِبِدْعَةِ الْفَاطِمِيِّينَ بِسَبَبِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْمَنَائِرِ، فَغَيَّرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا كَانَ عَلَى الْمَنَابِرِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَكَذَلِكَ غَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ مَا كَانَ بَعْدَ الْأَذَانِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَنْبِيهٌ مِنْ أَسْبَابِ تَمَسُّكِ بَعْضِ الْبِلَادِ بِهَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ هُوَ أَلَّا يُؤَذَّنَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، فَاعْتَاضُوا عَنِ الْأَذَانِ بِمَا يُسَمَّى التَّطْلِيعَ أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ أَيِ: التَّطْلِيعَةَ الْأُولَى وَالتَّطْلِيعَةَ الثَّانِيَةَ، وَكَذَلِكَ لَا يُؤَذِّنُونَ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَاسْتَعَاضُوا عَنْهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ. أَمَّا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ كُلِّ أَذَانٍ، فَقَدْ قَاسُوا الْمُؤَذِّنَ عَلَى السَّامِعِ فِي حَدِيثِ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ; فَإِنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» . فَقَالُوا: وَالْمُؤَذِّنُ أَيْضًا يُصَلِّي وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ زَادُوا فِي الْقِيَاسِ خُطَّةً وَجَعَلُوا صَلَاةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 الْمُؤَذِّنِ وَتَسْلِيمَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ كَالْأَذَانِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أُمِيتَتْ سُنَّةٌ إِلَّا وَنَشَأَتْ بِدْعَةٌ، وَأَنَّ قِيَاسَ الْمُؤَذِّنِ عَلَى السَّامِعِ لَيْسَ سَلِيمًا. وَتَقَدَّمَ لَكَ أَنَّ مُحَاكَاةَ الْمُؤَذِّنِ لِرَبْطِ السَّامِعِ بِالْأَذَانِ ; لِيَتَجَاوَبَ مَعَهُ فِي مَعَانِيهِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرًّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَذَانِ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْوَسِيلَةَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُشَارِكَ فِي الْأَجْرَيْنِ: أَجْرِ الْأَذَانِ، وَأَجْرِ سُؤَالِ الْوَسِيلَةِ لَكَانَ لَهُ أَجْرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ فِي الْأَذَانِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، وَحَكَاهَا الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْعِتْرَةِ، وَنَاقَشَ مَقَالَتَهُمْ وَآثَارَهَا بِأَسَانِيدِهَا. وَمِمَّا جَاءَ فِيهَا عِنْدَهُمْ أَثَرٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ بِهَا أَحْيَانًا. وَمِنْهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: وَإِذَا صَحَّ مَا رُوِيَ أَنَّهُ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِأَحَادِيثِ الْأَذَانِ لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِيهَا. وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثًا فِي نَسْخِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقٍ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِمِثْلِهِ. اهـ. مُلَخَّصًا. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ جَمْعِ الْفَوَائِدِ حَدِيثًا عَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ فَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، وَتَرَكَ حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَقَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِضَعْفٍ. اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ بِلَالٍ هَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهَذَا الْأَثَرُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَإِنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْمَنْعِ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ إِلَّا مَا عَلَيْهِ الشِّيعَةُ فَقَطْ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَاهَا لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ بَقِيَّةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَأَنَّ خَيْرَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا هُوَ أَوَّلًا وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ» ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ فَقَالَ مَرَّةً: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وَقَالَ مَرَّةً: «الصَّلَاةُ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا» ، وَقَالَ مَرَّةً: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُقَدِّمُ إِيمَانًا بِاللَّهِ. فَعَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ خَيْرُ الْعَمَلِ، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَهُوَ بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ وَحَالَةِ كُلِّ شَخْصٍ، فَمَنْ كَانَ قَوِيًّا وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِوَالِدَيْهِ، فَالْجِهَادُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي حَقِّهِ مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ ذَا وَالِدَيْنِ، فَبِرُّهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ، وَلِمَ لَا! فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالصَّلَاةِ خَيْرُ الْعَمَلِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ لَا يَصِحُّ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلِهَذَا مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا أَنْ يَقُولَهَا، وَجَعَلَهَا: خَيْرًا مِنَ النَّوْمِ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَلَا بِالنِّسْبَةِ لِأَيِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الصَّلَاةُ بَيْنَ أَذَانِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَذَانِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ تَعَوَّدَ النَّاسُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ، وَالَّذِي يَقَعُ الْآنَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَقَبْلَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِأَذَانِ عُثْمَانَ، وَقَدْ تَسَاءَلَ النَّاسُ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ، أَهِيَ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ وَيَتَجَدَّدُ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ حِينٍ إِلَى آخَرَ، وَأَجْمَعُ مَا رَأَيْتُ فِيهِ هُوَ كَلَامُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ، جَوَابًا عَلَى سُؤَالٍ وُجِّهَ إِلَيْهِ هَذَا نَصُّهُ: هَلِ الصَّلَاةُ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوِ الْأَئِمَّةِ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَمْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْأَذَانِ شَيْئًا، وَلَا نُقِلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُؤَذَّنُ عَلَى عَهْدِهِ إِلَّا إِذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ ثُمَّ يَخْطُبُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُطْبَتَيْنِ، ثُمَّ يُقِيمُ بِلَالٌ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْأَذَانِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا وَقَّتَ بِقَوْلِهِ: «صَلَاةٌ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ» بَلْ أَلْفَاظُهُ فِيهَا التَّرْغِيبُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 فِي الصَّلَاةِ إِذَا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ كَقَوْلِهِ: «مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ» . . . الْحَدِيثَ. وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا إِذَا أَتَوُا الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلُّونَ مِنْ حِينِ يَدْخُلُونَ مَا تَيَسَّرَ، مِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ مُقَدَّرَةٌ بِعَدَدٍ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ قَبْلَهَا سُنَّةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَرْبَعًا تَشْبِيهًا لَهَا بِسُنَّةِ الظُّهْرِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ وَسَاقَهُمَا، وَخُلَاصَةُ مَا سَاقَهُ فِيهِمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ لَهَا خَصَائِصُ لَا تُوجَدُ فِي الظُّهْرِ فَلَيْسَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً. وَكَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي سَفَرِهِ سُنَّةً لِلظُّهْرِ، أَيْ: وَهِيَ مَقْصُورَةٌ فِي السَّفَرِ فَلَا تَمَسُّكَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا عَنْ حَدِيثِ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا عَلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَعَارَضَ غَيْرُهُ قَائِلًا: الْأَذَانُ الَّذِي عَلَى الْمَنَارَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْأَذَانُ الثَّالِثُ لَمَّا سَنَّهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ صَارَ أَذَانًا شَرْعِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَذَانِ الثَّانِي جَائِزَةً حَسَنَةً، وَلَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إِذَا كَانَ الْجُهَّالُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا دَاوَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا، كَمَا يَنْبَغِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 تَرْكُ قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَحْيَانًا. ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ رَجُلٌ مَعَ قَوْمٍ يُصَلُّونَهَا، فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا إِذَا تَرَكَهَا وَبَيَّنَ لَهُمُ السُّنَّةَ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، بَلْ عَرَفُوا السُّنَّةَ، فَتَرْكُهَا حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَاعًا وَرَأَى فِي صَلَاتِهَا تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ، أَوْ دَفْعًا لِلْخِصَامِ وَالشَّرِّ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ لَهُمْ وَقَوْلِهِمْ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا حَسَنٌ. فَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فِعْلُهُ تَارَةً، وَتَرْكُهُ تَارَةً، بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَجَّحُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءَ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى آخِرِهِ. اهـ مُلَخَّصًا. فَأَنْتَ تَرَاهُ قَدْ بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ وُجُودِ مَكَانٍ لَهَا فِي عَهْدِهِ، وَلَا فِي عَهْدِ صَاحِبَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّ فِعْلَهَا بَعْدَ حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْجِعُ إِلَى حَالِ الشَّخْصِ، فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا الْتُمِسَ لَهُ مَخْرَجٌ مِنْ حَدِيثِ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» ، لَا عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ. أَمَّا الْعَالِمُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا فَتَرْكُهَا أَحْسَنُ. وَتَعْلِيمُ النَّاسِ مُتَعَيَّنٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَاعٍ وَيَرْجُو نَفْعَهُمْ أَوْ يَخْشَى خُصُومَةً عَلَيْهِمْ تَضِيعُ عَلَيْهِمْ مَنْفَعَتُهُمْ مِنْهُ، فَفَعَلَهَا تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، فَهَذَا حَسَنٌ. اهـ مُلَخَّصًا. وَهَذَا مِنْهُ مِنْ أَدَقِّ مَسَالِكِ سِيَاسَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، حَيْثُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي أَنْ يُرَاعِيَ حَالَةَ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ بِفِعْلِهِ مُؤَثِّرًا كَتَأْثِيرِهِ بِقَوْلِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَحْوَالِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ فِيمَا فِيهِ سَعَةٌ مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ. وَقَدْ سَاقَ ضِمْنًا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا، أَيْ عِنْدَ الْمَجِئِ وَقَبْلَ الْأَذَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا عَدَا الدَّاخِلَ لِلْمَسْجِدِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ بَعْدَ مُنَاقَشَةِ كَلَامِ الْمَذْهَبِ، قَالَ: وَأَمَّا السُّنَّةُ قَبْلَهَا فَالْعُمْدَةُ فِيهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ الْمَذْكُورِ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الظُّهْرِ، قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَهَذَا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 رَاتِبَةُ الظُّهْرِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْأَذَانِ، بَلْ مِنْ حِينِ مَجِيئِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ: مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَيَانٌ لِإِذَا وَتَفْسِيرٌ لَهُ. اهـ. يَعْنِي: إِذَا نُودِيَ فَهِيَ بَيَانٌ لِإِذَا الظَّرْفِيَّةِ وَتَفْسِيرٌ لَهَا. الْجُمُعَةِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَبِضَمِّ الْجِيمِ وَتَسْكِينِ الْمِيمِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ وَجَمْعُهُمَا جُمَعٌ وَجُمُعَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ الْجُمْعَةُ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَالْجُمُعَةُ بِضَمِّهَا وَالْجُمَعَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَتَكُونُ صِفَةً لِلْيَوْمِ أَيْ يَجْمَعُ النَّاسَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّفْخِيمِ فَاقْرَؤُهَا جُمُعَةً، يَعْنِي: بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: وَالتَّخْفِيفُ أَقْيَسُ وَأَحْسَنُ، مِثْلَ غُرْفَةٌ وَغُرَفٌ وَطُرْفَةٌ وَطُرَفٌ وَحُجْرَةٌ وَحُجَرٌ، وَفَتْحُ الْمِيمِ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لُغَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُرِئَ بِهِنَّ جَمِيعًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَذُكِرَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ هَذَا الْيَوْمِ عِدَّةُ أَسْبَابٍ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا. مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَمْعِ، وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ تَمَّ فِيهِ خَلْقُ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ السَّادِسُ مِنَ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَفِيهِ خَلَقَ آدَمَ يَعْنِي جَمَعَ خَلْقَهُ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «يَا سَلْمَانُ، مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ» ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ أَبَوَاكُمْ - أَوْ - أَبُوكُمْ» ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ كَلَامِهِ نَحْوُ هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، كَمَا جَاءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 فِي الْمُوَطَّأِ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ: «خَيْرُ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ بَيَانِ فَضْلِهَا. وَقَدْ كَانَ يُقَالُ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمُ الْعَرُوبَةِ. وَنُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ كَانَتْ تُسَمِّي الْأَيَّامَ هَكَذَا: السَّبْتُ شُبَارٌ، الْأَحَدُ أَوَّلُ، الِاثْنَيْنِ أَهْوَنُ، الثُّلَاثَاءُ جُبَارٌ، الْأَرْبِعَاءُ دُبَارٌ، الْخَمِيسُ مُؤْنِسٌ، الْجُمُعَةُ الْعَرُوبَةُ. وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَ الْعَرُوبَةَ إِلَى الْجُمُعَةِ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، نُقِلَ مِنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ شَرْحِ أَبِي دَاوُدَ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ بِالْجُمُعَةِ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِهَذَا الِاسْمِ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ، كَمَا جَاءَ فِي سَبَبِ أَوَّلِ جُمُعَةٍ صُلِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَوَّلُ مَنْ سَمَّاهَا جُمُعَةً: الْأَنْصَارُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَوْلُهُ: جَمَّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ هُمُ الَّذِينَ سَمَّوْهَا الْجُمُعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ، وَهُوَ السَّبْتُ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ مِثْلُ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَحَدُ، فَتَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ حَتَّى نَجْعَلَ يَوْمًا، لِنَتَذَاكَرَ اللَّهَ، وَنُصَلِّيَ فِيهِ وَنَسْتَذْكِرَ أَوْ كَمَا قَالُوا، فَقَالُوا: يَوْمُ السَّبْتِ لِلْيَهُودِ، وَيَوْمُ الْأَحَدِ لِلنَّصَارَى فَاجْعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ، وَذَكَّرَهُمْ فَسَمَّوْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَذَبَحَ لَهُمْ سَعْدٌ شَاةً فَتَعَشَّوْا وَتَغَدُّوا مِنْهَا لِقِلَّتِهِمْ. فَهَذِهِ أَوَّلُ جُمُعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ. أَمَّا أَوَّلُ جُمُعَةٍ أَقَامَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ الَّتِي أَقَامَهَا مَقْدَمَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ حِينَ نَزَلَ قُبَاءً يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَمَكَثَ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ، وَفِي صَبِيحَةِ الْجُمُعَةِ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ، قَدِ اتَّخَذَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسْجِدًا فَجَمَّعَ بِهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَطَبَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ إِلَى الْيَوْمِ فِي بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ سَاقَ الْقُرْطُبِيُّ خُطْبَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ كَانَتِ الْجُمُعَةُ الَّتِي تَلَتْهَا فِي الْإِسْلَامِ فِي قَرْيَةِ جُوَانَا بِالْأَحْسَاءِ الْيَوْمَ. وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْيَوْمِ وَفَضَّلَهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ لِحَدِيثِ أَبِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» ، لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ» ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، مِنْ خَصَائِصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. كَمَا اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ، فَقَدِ اخْتُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ نَفْسُهُ بِخَصَائِصَ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ، أَجْمَعُهَا مَا جَاءَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ فَلَقِيتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَجَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ أَنْ قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» . قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، قُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيَّ فَقَالَ: مَنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الطُّورِ فَقَالَ: لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا، وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلِيَاءَ - أَوْ - بَيْتِ الْمَقْدِسِ» يَشُكُّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ سَلَامٍ فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَمَا حَدَّثْتُهُ بِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقُلْتُ: قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبَ كَعْبٌ، فَقُلْتُ: ثُمَّ قَرَأَ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: صَدَقَ كَعْبٌ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَلِمْتَ أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي بِهَا وَلَا تَضِنَّ عَلَيَّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 الْجُمُعَةِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ وَكَيْفَ تَكُونُ آخِرَ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي» ، وَتِلْكَ السَّاعَةُ سَاعَةٌ لَا يُصَلَّى فِيهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ» ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ كَذَلِكَ. فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ بَيَانُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ فِيهِ لِمَا وَقَعَ بِهِ مِنْ أَحْدَاثٍ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَيَّامِ حَرَكَةٌ فَلَكِيَّةٌ لَا مَزِيَّةَ فِيهَا إِلَّا مَا خَصَّهَا اللَّهُ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْوَقَائِعِ. وَقَدْ تَعَدَّدَتْ هُنَا فِي حَقِّ أَبِينَا آدَمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِذَا قِيلَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ آدَمَ، وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ يَوْمُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ كَثْرَةِ صِيَامِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَالَ: «ذَلِكَ يَوْمُ وُلِدْتُ فِيهِ، وَعَلَيَّ فِيهِ أُنْزِلَ» الْحَدِيثَ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ يَوْمُ آدَمَ فِيهِ خُلِقَ، وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ قِيَامُ السَّاعَةِ، فَكَانَ يَوْمَ الْعَالَمِ مِنْ بَدْءِ أَبِيهِمْ إِلَى مُنْتَهَى حَيَاتِهِمْ، فَكَأَنَّهُ فِي الْإِسْلَامِ يَوْمُ تَزَوُّدِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَصِيرِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ الم [32 \ 1] السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ [76 \ 1] فِي فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ اللَّهِ آدَمَ وَحَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَمُنْتَهَاهُ، كَمَا فِي سُورَةِ «السَّجْدَةِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [32 \ 4 - 9] . وَفِي سُورَةِ: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 1 - 5] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 فَفِي هَذَا بَيَانٌ لِخَلْقِ الْعَالَمِ كُلِّهِ جُمْلَةً ثُمَّ خَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ تَنَاسُلِ نَسْلِهِ ثُمَّ مُنْتَهَاهُمْ وَمَصِيرِهِمْ لِيَتَذَكَّرَ بِخَلْقِ أَبِيهِ آدَمَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَيْلَا يَنْسَى وَلَا يَسْهُوَ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا التَّوْجِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، وَنَاقَشَ حُكْمَ قِرَاءَتِهِمَا وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِمَا أَوْ تَرْكِهِمَا، وَذَلِكَ فِي بَابِ مَا يُقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَفِي الْمُنْتَقَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ: الم تَنْزِيلُ [32 \ 1 - 2] ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ، وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ «الْجُمُعَةِ» وَ «الْمُنَافِقُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَنَاقَشَ الشَّوْكَانِيُّ السُّجُودَ فِيهَا أَيْ فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْفَرِيضَةِ، إِذَا قَرَأَ مَا فِيهِ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ. وَحُكِيَ السُّجُودُ فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: كَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، فَرَاجِعْهُ. السَّاعَةُ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَيُوجَدُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهَا مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ يَفْرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ نَاقَشَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَى أَقْوَالَهُمُ الزَّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ، وَكِلَاهُمَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: إِلَّا أَنَّ سَنَدَ مَالِكٍ لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ أَحْمَدُ وَسَنَدَ مُسْلِمٍ قَدْ نَقَلَ الزَّرْقَانِيُّ الْكَلَامَ فِيهِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَلْفِتُ النَّظَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ» فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الدَّوَابَّ عِنْدَهَا هَذَا الْإِدْرَاكُ الَّذِي تُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَعِنْدَهَا هَذَا الْإِيمَانُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْإِشْفَاقُ مِنْهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ السَّاعَةَ تَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَفِي أَوَّلِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا غُيِّبَ عَنَّا فَقَدْ أَخْبَرَنَا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَيْنَا أَنْ نُعْطِيَ هَذَا الْيَوْمَ حَقَّهُ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، مِمَّا يَلِيقُ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِشْفَاقًا أَوْ تَزَوُّدًا لِهَذَا الْيَوْمِ، لَا أَنْ نَجْعَلَهُ مَوْضِعَ النُّزْهَةِ وَاللَّعِبِ وَالتَّفْرِيطِ، وَقَدْ يَكُونُ إِخْفَاؤُهَا مَدْعَاةً لِلِاجْتِهَادِ كُلَّ الْيَوْمِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدْ نَفْهَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ لِحَدِيثِ: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 بَدَنَةً» إِلَى آخِرِهِ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ مُنَاقَشَةِ وَقْتِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَكَانَتِ الطُّرُقَاتُ فِي أَيَّامِ السَّلَفِ وَقْتَ السَّحَرِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ غَاصَّةً بِالْمُبَكِّرِينَ إِلَى الْجُمُعَةِ يَمْشُونَ بِالسُّرُجِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ أُحْدِثَتْ فِي الْإِسْلَامِ تَرْكُ الْبُكُورِ إِلَى الْجُمُعَةِ، إِذِ الْبُكُورُ إِلَيْهَا مِنْ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (فَاسْعَوْا) ، وَقَرَأَهَا عُمَرُ: (فَامْضُوا) ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ أُبَيًّا يَقْرَؤُهَا (فَاسْعَوْا) ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ أَقْرَؤُنَا وَأَعْلَمُنَا بِالْمَنْسُوخِ، وَإِنَّمَا هِيَ (فَامْضُوا) . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ قَطُّ يَقْرَؤُهَا إِلَّا فَامْضُوا. وَبَوَّبَ لَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ بَابُ قَوْلِهِ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [62 \ 3] ، وَقَرَأَ عُمَرُ: فَامْضُوا، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَهُ: فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَتْ (فَاسْعَوْا) لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. اهـ. وَبِالنَّظَرِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ نَجِدُ الصَّحِيحَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ لِأَمْرَيْنِ، الْأَوَّلِ: لِشَهَادَةِ عُمَرَ نَفْسِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أُبَيًّا أَقْرَؤُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْمَنْسُوخِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ أَعْلَمُهُمْ وَأَقْرَؤُهُمْ. أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ سَنَدَهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ ; لِأَنَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَيْئًا. اهـ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّعْيِ هُنَا، وَحَاصِلُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لَا يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا: الْأَوَّلُ: الْعَمَلُ لَهَا، وَالتَّهَيُّؤُ مِنْ أَجْلِهَا. الثَّانِي: الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ عَلَى إِتْيَانِهَا. الثَّالِثُ: السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ دُونَ الرُّكُوبِ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ السَّعْيَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْعَمَلِ، قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ. وَقَالَ: هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ [2 \ 205] ، وَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [92 \ 4] ، أَيِ الْعَمَلَ. وَاسْتَدَلُّوا لِلثَّانِي بِقَوْلِ الْحَسَنِ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسَعْيٍ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَكِنْ سَعْيُ الْقُلُوبِ وَالنِّيَّةِ. وَاسْتَدَلُّوا لِلثَّالِثِ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ مَشَى إِلَى الْجُمُعَةِ رَاجِلًا، وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ. وَبِالتَّأَمُّلِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ نَجِدُهَا مُتَلَازِمَةً لِأَنَّ الْعَمَلَ أَعَمُّ مِنَ السَّعْيِ، وَالسَّعْيَ أَخَصُّ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَعَمَّ وَأَخَصَّ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الْعَمَلِ، وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّحِيحَةِ: (فَامْضُوا) ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِلسَّعْيِ. وَرُوِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْمُضِيَّ وَالسَّعْيَ وَالذَّهَابَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ السَّعْيَ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ الْجِدُّ وَالْحِرْصُ عَلَى التَّحْصِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [22 \ 51] ، بِأَنَّهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى ذَلِكَ: وَهُوَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ. قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: السَّعْيُ الْمَشْيُ السَّرِيعُ، وَهُوَ دُونَ الْعَدْوِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْجِدِّ فِي الْأَمْرِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، قَالَ تَعَالَى: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [2 \ 114] . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ [2 \ 205] ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [17 \ 19] ، وَجَمَعَ الْأَمْرَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [53 \ 39 - 40] ، وَهُوَ مَا تَشْهَدُ لَهُ اللُّغَةُ، كَمَا فِي قَوْلِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: سَعَى سَاعِيًا غَيْظَ ابْنِ مُرَّةَ بَعْدَمَا ... تَبَزَّلَ مَا بَيْنَ الْعَشِيرَةِ بِالدَّمِ وَكَقَوْلِ الْآخَرِ: إِنْ أَجْزِ عَلْقَمَةَ بْنَ سَعْدٍ سَعْيَهُ ... لَا أَجْزِهِ بِبَلَاءِ يَوْمٍ وَاحِدٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 تَنْبِيهٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ يَظْهَرُ أَنَّ السَّعْيَ هُوَ الْمُضِيُّ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . وَهَذَا أَمْرٌ عَامٌّ لِكُلِّ آتٍ إِلَى كُلِّ صَلَاةٍ وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَامْشُوا وَعَلَيْكُمُ السَكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . اهـ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَكَعَ خَلْفَ الصَّفِّ وَدَبَّ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ» عَلَى رِوَايَةِ تَعُدْ مِنَ الْعَوْدِ. وَهُنَا يَأْتِي مَبْحَثٌ بِمَ تُدْرَكُ الْجُمُعَةُ؟ الْأَقْوَالُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي بِهِ تُدْرَكُ الْجُمُعَةُ ثَلَاثَةٌ، وَتُعْتَبَرُ طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةً. الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: الْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنَ الْخُطْبَةِ، هَذَا مَا حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعُمَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ دَلِيلًا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: تُدْرَكُ وَلَوْ بِالْجُلُوسِ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ، بَلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ سَهَا وَسَجَدَ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ أَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ لَأَدْرَكَ الْجُمُعَةَ بِإِدْرَاكِهِ سُجُودَ السَّهْوِ مَعَ الْإِمَامِ ; لِأَنَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنْ خَالَفَ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ صَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهَا تُدْرَكُ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ بِإِدْرَاكِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ثُمَّ يُضِيفُ إِلَيْهَا أُخْرَى وَتَتِمُّ جُمُعَتُهُ بِرَكْعَتَيْنِ، وَإِلَّا صَلَّى ظُهْرًا. أَمَّا الرَّاجِحُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِلْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ: أَوَّلًا: أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُلْتَمَسَ لِقَائِلِهِ شُبْهَةٌ مِنْ قَوْلِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 تَعَالَى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ، لِحَمْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى خُصُوصِ الْخُطْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهَا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ. فَسَمَّى الصَّلَاةَ فِي الْأَوَّلِ بِالنِّدَاءِ إِلَيْهَا، وَسَمَّى الصَّلَاةَ أَخِيرًا بِانْقِضَائِهَا، وَذِكْرُ اللَّهِ جَاءَ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ يَرُدُّهُ اسْتِدْلَالُ الْجُمْهُورِ الْآتِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَابْنُ حَزْمٍ اسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثِ «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ فَقَطْ، فَإِتْمَامُهَا بِتَمَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَاعْتَبَرُوا إِدْرَاكَ أَيِّ جُزْءٍ مِنْهَا إِدْرَاكًا لَهَا، وَقَدْ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ لِأَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ الْآتِيَةِ: وَأَدِلَّةُ الْجُمْهُورِ مِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: خَاصٌّ بِالْجُمُعَةِ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى» أَيْ فَتَتِمُّ لَهُ جُمُعَةٌ بِرَكْعَتَيْنِ، وَأَخَذُوا مِنْ مَفْهُومِ إِدْرَاكِ رَكْعَةٍ، أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً فَلَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُضِيفَ لَهَا أُخْرَى، وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ ظُهْرًا. وَالْجَانِبِ الثَّانِي: عَامٌّ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . وَقَدْ رَدَّ الْأَحْنَافُ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَاعْتَبَرُوا الْإِدْرَاكَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، يَحْصُلُ بِأَيِّ جُزْءٍ. وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْجُمْهُورُ بَالْآتِي: أَوَّلًا: الْحَدِيثُ الْخَاصُّ بِمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ. وَقَالَ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ قَوَّى أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ، وَقَالَ الصَّنْعَانِيُّ فِي الشَّرْحِ: وَقَدْ أُخْرِجَ الْحَدِيثُ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ طَرِيقًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي جَمِيعِهَا مَقَالٌ إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَكِنَّ كَثْرَةَ طُرُقِهِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ أَنَّهُ خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 إِحْدَاهَا: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَقَالَ فِيهَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ إِلَى آخِرِهِ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: وَيُغْنِي عَنْهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إِدْرَاكَ الصَّلَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ إِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الْجُلُوسِ قَبْلَ السَّلَامِ، لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي إِحْدَى الصَّلَوَاتِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي التَّشَهُّدِ لَا يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ كَامِلَةً. وَالنَّصُّ الْخَاصُّ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى يَجْعَلُ مَعْنَى الْإِدْرَاكَ لِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ. وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ تَامَّةٍ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ: احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَعْنَاهُ: لَمْ تَفُتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَمَنْ لَمْ تَفُتْهُ الْجُمُعَةُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْأَسْوَدِ، وَعَلْقَمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي وَافَقَ الْجُمْهُورَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدٌ لِمَا فِي كِتَابِ الْهِدَايَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ مَنْ أَدْرَكَ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ. وَفِي الشَّرْحِ: أَنَّ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ هُوَ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ. وَبِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ نَجِدُ رُجْحَانَ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ لِلْآتِي: أَوَّلًا: قُوَّةُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِعُمُومِ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْجُمُعَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَهُوَ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ بِخُصُوصِ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى» ، وَتَقَدَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 الْكَلَامُ عَلَى سَنَدِهِ وَتَقْوِيَةِ طُرُقِهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى مَعْنَى الْإِدْرَاكِ وَهُوَ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَهِيَ نُقْطَةٌ هَامَّةٌ لَا يَنْبَغِي إِغْفَالُهَا، وَأَنَّ مَفْهُومَ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً لَا يَتَأَتَّى لَهُ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهَا أُخْرَى، بَلْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا. ثَانِيًا: ضَعْفُ اسْتِدْلَالِ الْمُعَارِضِ ; لِأَنَّ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» عَلَى مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً خَاصٌّ بِهَا. ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ لَيْسَ كَمَا ذَهَبَ الْمُسْتَدِلُّ إِلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكًا لِمَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَأَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً لَا يَعْتَدُّ بِهَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ حَيْثُ رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ ; لِيُدْرِكَ الرَّكْعَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ، وَلَوْ كَانَ إِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ يَتِمُّ بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْهَا لَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرَةَ هَذِهِ الصُّورَةَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ لِإِدْرَاكِهِ الرُّكُوعَ مِنْهَا، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِمَنِ اشْتَرَطَ إِدْرَاكَ شَيْءٍ مِنَ الْخُطْبَةِ ; لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَقَدْ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ كُلُّهَا، وَفَاتَتْهُ الْأُولَى مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَدْرَكَ الْجُمُعَةَ بِإِدْرَاكِ الثَّانِيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. حُكْمُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. فِيهِ الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إِذَا نُودِيَ إِلَيْهَا، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ مَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ صَارِفٌ، وَلَا صَارِفَ لَهُ هُنَا، فَكَانَ يَكْفِي حِكَايَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِهَا، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَنَقَلَهُ الشَّوْكَانِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَلَكِنْ وُجِدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ فِي الْآيَةِ صَارِفًا لِلْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي آخِرِ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ لِتَحْصِيلِ الْخَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَا يُوهِمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَهُوَ مُسَطَّرٌ فِي كُتُبِهِمْ، مِمَّا قَدْ يَغْتَرُّ بِهِ بَعْضُ الْبُسَطَاءِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ ضَعْفِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 الْوَازِعِ وَكَثْرَةِ الشَّاغِلِ فِي هَذِهِ الْآوِنَةِ، مِمَّا يَسْتَوْجِبُ إِيرَادَهُ وَبَيَانَ رَدِّهِ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا. فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حِكَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ شُهُودَهَا سُنَّةٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهَا الْخِلَافُ هَلْ هِيَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؟ وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ قَالَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَقَدْ نُسِبَ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مَرْدُودَةٌ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَأَئِمَّةِ مَذَاهِبِهِمْ، فَلَزِمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَبَيَانُ الْحَقِّ فِيهَا مِنْ كُتُبِهِمْ، وَمِنْ كَلَامِ أَصْحَابِهِمْ، وَإِلَيْكَ بَيَانُ ذَلِكَ: أَمَّا مَا نُسِبَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ وَرَدَّهُ بِقَوْلِهِ: وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ شُهُودَهَا سُنَّةٌ، وَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ بِتَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَالِكًا يُطْلِقُ السُّنَّةَ عَلَى الْفَرْضِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ سُنَّةً عَلَى صِفَتِهَا لَا يُشَارِكُهَا فِيهَا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ، حَسَبَ مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: عَزِيمَةُ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. اهـ. نَقْلًا مِنْ نَيْلِ الْأَوْطَارِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي تَحَرُّزِهِمْ فِي الْفُتْيَا مِنْ قَوْلِ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَوَاجِبٍ. . . إِلَخْ، فِي سِيَاقِ مَا وَقَعَ مِنْ خِلَافٍ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَصُّبِ، وَأَنَّ مَالِكًا أَشَدُّ تَحَفُّظًا فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَيْضًا رِوَايَةُ الْمُدَوَّنَةِ بِمَا نَصُّهُ مَا قَوْلُ مَالِكٍ: إِذَا اجْتَمَعَ الْأَضْحَى وَالْجُمُعَةُ أَوِ الْفِطْرُ فَصَلَّى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ أَرَادَ أَلَّا يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ هَلْ يَضَعُ ذَلِكَ عَنْهُ شُهُودُ صَلَاةِ الْعِيدِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إِتْيَانِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ لَا، كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: لَا يَضَعُ ذَلِكَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إِتْيَانِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا أَذِنَ لِأَهْلِ الْعَوَالِي إِلَّا عُثْمَانُ، وَلَمْ يَكُنْ مَالِكٌ يَرَى الَّذِي فَعَلَ عُثْمَانُ، وَكَانَ يَرَى أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَا يَضَعُهَا عَنْهُ إِذْنُ الْإِمَامِ، وَإِنْ شَهِدَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ عِيدًا. اهـ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ، فَهَذِهِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ لَا يَضَعُهَا عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إِذْنُ الْإِمَامِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ فِقْهِ مَسْأَلَةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا مَشْهُورًا، وَلَكِنْ يُهِمُّنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 تَنْصِيصُ مَالِكٍ عَلَى خُصُوصِ الْجُمُعَةِ، وَفِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مَا نَصُّهُ: وَلَزِمَتِ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ الذَّكَرَ بِلَا عُذْرٍ، قَالَ شَارِحُهُ الْخُرَشِيُّ: لَزِمَتْ وَوَجَبَ إِثْمُ تَارِكِهَا وَعُقُوبَتُهُ، فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمَالِكِيَّةِ وَحَقِيقَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، مَا نَصُّهُ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَى جَابِرٌ وَسَاقَ حَدِيثَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حُرٍّ ذَكَرٍ مُقِيمٍ بِلَا مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَالْجُمُعَةُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ غَيْرَ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَالنَّقْصُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ غَلِطَ، فَقَالَ: هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَالُوا: وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَغَلِطَ مَنْ فَهِمَهُ ; لِأَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ مَنْ خُوطِبَ بِالْجُمُعَةِ وُجُوبًا خُوطِبَ بِالْعِيدَيْنِ مُتَأَكِّدًا، وَاتَّفَقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ مَنْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ عَلَى غَلَطِ قَائِلِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا يَحِلُّ أَنْ يُحْكَى هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُخْتَلَفَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابَيْهِ كِتَابِ الْإِجْمَاعِ وَالْإِشْرَاقِ: إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ. اهـ مِنَ الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ، وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْمَرْوَزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، قَالَ مُجَلَّدَ (1) ص 881 تَحْتَ عُنْوَانِ: إِيجَابُ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ الْآيَةَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ: وَدَلَّتِ السُّنَّةُ مِنْ فَرْضِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسَاقَ حَدِيثَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ يَعْنِي الْجُمُعَةَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ» إِلَى أَنْ قَالَ: وَالتَّنْزِيلُ ثُمَّ السُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى إِيجَابِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا بِبَلَدٍ تَجِبُ فِيهِ الْجُمُعَةُ مِنْ بَالِغٍ حُرٍّ لَا عُذْرَ لَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، فَهَذِهِ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ عَامَّةً فِي الْوُجُوبِ وَخَاصَّةً فِي الْأَعْيَانِ، وَهَذَا بَيَانٌ كَافٍ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ نَصِّ كِتَابِهِ الْأُمِّ. اهـ. الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» هُوَ عَيْنُ الْحَدِيثِ الَّذِي بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وُجُوبَ الْجُمُعَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ» فَفِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 أَمَّا الْأَحْنَافُ، فَقَالَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ نُسِبَ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ، وَسَبَبُ غَلَطِهِمْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ: وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حَرُمَ عَلَيْهِ وَصَحَّتِ الظُّهْرُ بِتَرْكِ الْفَرْضِ، إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا فَرْضٌ آكَدُ مِنَ الظُّهْرِ، وَذَكَرَ أَوَّلَ الْبَابِ، اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِهَا وَجَهْلِ مَنْ نَسَبَ إِلَى مَذْهَبِهِمِ الْقَوْلَ بِعَدَمِ فَرْضِيَّتِهَا، وَهَذِهِ أَيْضًا حَقِيقَةُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَنَّهَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ آكَدُ مِنَ الظُّهْرِ. أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَالَ فِي الْمُغْنِي مَا نَصُّهُ: الْأَصْلُ فِي فَرْضِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَسَاقَ الْآيَةَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْآيَةَ، وَقَالَ بَعْدَهَا: فَصْلٌ: وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ وَالسَّعْيُ إِلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ مَنْ يُقِيمُهَا سُنِّيًّا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، حَتَّى مَعَ الْإِمَامِ غَيْرِ الْعَادِلِ وَغَيْرِ السُّنِّيِّ. فَهَذِهِ نُصُوصُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَفَرْضِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَدْنَى شُبْهَةٍ يَلْتَمِسُهَا مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ، وَلَا تَتَبُّعِ شَوَاذِّهِ لِلتَّهَاوُنِ بِفَرْضِ الْجُمُعَةِ لِنِيَابَةِ الظُّهْرِ عَنْهَا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ، وَأَنَّهُ لَا صَارِفَ لِلْأَمْرِ عَنْ وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَعَ الْأَمْرِ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الْبَيْعِ وَاجِبًا مِنْ أَجْلِهَا فَمَا وَجَبَ هُوَ مِنْ أَجْلِهِ كَانَ وُجُوبُهُ هُوَ أَوْلَى، قَالَ فِي الْمُغْنِي: فَأَمَرَ بِالسَّعْيِ، وَيَقْتَضِي الْأَمْرُ الْوُجُوبَ وَلَا يَجِبُ السَّعْيُ إِلَّا إِلَى الْوَاجِبِ، وَنَهَى عَنِ الْبَيْعِ لِئَلَّا يُشْغَلَ بِهِ عَنْهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ مِنْ أَجْلِهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ لِتَارِكِهَا بِدُونِ عُذْرٍ مَشْهُورَةٌ تُؤَكِّدُ هَذَا الْوُجُوبَ. مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَنْهُ. وَفِي الْمُنْتَقَى، قَالَ: رَوَاهُ الْخَمْسَةُ أَيْ مَا عَدَا الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا، وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقُ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَقَدْ فَسَّرَ الطَّبْعَ فِي حَدِيثِ أَبِي الْجَعْدِ بِأَنَّهُ طَبْعُ النِّفَاقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُنَافِقُونَ» : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [63 \ 3] ، وَقِيلَ: طَبْعُ ضَلَالٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ. ثُمَّ يَكُونُ أَيِ: الْقَلْبُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّوْفِيقَ لِفَضْلِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. مَسْأَلَةٌ مَنِ الْمُخَاطَبُ بِالسَّعْيِ هُنَا؟ ، أَيْ: مَنِ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ؟ تَسْتَهِلُّ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُوَ نِدَاءٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى، وَحُرٍّ، وَعَبْدٍ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، فَشَمَلَ كُلَّ مُكَلَّفٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْعَوْا) الْوَاوُ فِيهِ لِلْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُذَكَّرِ إِلَّا أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْمَوْصُولِ السَّابِقِ وَهُوَ عَامٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ طَلَبُ السَّعْيِ مُتَوَجِّهًا إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّلِيلُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ أَصْنَافًا، مِنْهَا: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ. فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: مَا أَخْرَجَ مِنْ عُمُومِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ كَالصَّغِيرِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ لِحَدِيثِ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» . وَمَا خَرَجَ مِنْ خُصُوصِ الْجُمُعَةِ، كَالْمَرْأَةِ إِجْمَاعًا فَلَا جُمُعَةَ عَلَى النِّسَاءِ، وَكَالْمَرِيضِ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا كَذَلِكَ. وَهُوَ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَزِيدُ مَرَضُهُ، وَمَنْ يُمَرِّضُهُ تَابِعٌ لَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 وَالْمَمْلُوكِ، وَمَنْ فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ وَهُمْ أَهْلُ الْبَوَادِي. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِلْمُكَلَّفِينَ بِإِجْمَاعٍ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَرْضَى، وَالزَّمْنَى، وَالْعَبِيدُ، وَالنِّسَاءُ بِالدَّلِيلِ، وَالْعُمْيَانُ، وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا يَمْشِي إِلَّا بِقَائِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ مَمْلُوكًا، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. اهـ. وَيَشْهَدُ لِمَا رَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ مَا رَوَاهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةً: مَمْلُوكًا، وَامْرَأَةً، وَصَبِيًّا، وَمَرِيضًا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ: طَارِقٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِي مُوسَى. اهـ. قَالَ الصَّنْعَانِيُّ: يُرِيدُ الْمُؤَلِّفُ بِهَذَا، أَيْ بِرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ أَصْبَحَ مُتَّصِلًا. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ وَمَوْلًى لِابْنِ الزُّبَيْرِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَنَاقَشَ سَنَدَهُ. وَقَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «خَمْسَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ: الْمَرْأَةُ، وَالْمُسَافِرُ، وَالْعَبْدُ، وَالصَّبِيُّ، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ» . اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى حَدِيثَ طَارِقٍ كَمَا سَاقَهُ صَاحِبُ الْبُلُوغِ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِيهِ: قَالَ الْحَافِظُ: وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ بِذَاكَ، وَذَكَرَ صُحْبَةَ طَارِقٍ، وَنَقَلَ قَوْلَ الْعِرَاقِيِّ، فَإِذَا ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفِرَائِينِيُّ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُ الْأَحْنَافِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْدَفَعَ الْإِعْلَالُ بِالْإِرْسَالِ بِمَا فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ مِنْ ذِكْرِ أَبِي مُوسَى إِلَى آخِرِهِ، أَيْ صَارَ مَوْصُولًا، كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ سَابِقًا. وَوَجْهُ حُجِّيَّةِ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُمْ، هُوَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا أَرْسَلَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسِطَةٌ وَتِلْكَ الْوَاسِطَةُ هِيَ صَحَابِيٌّ آخَرُ وَالصَّحَابِيُّ ثِقَةٌ، فَتَكُونُ الْوَاسِطَةُ السَّاقِطَةُ ثِقَةً، فَيَصِحُّ الْحَدِيثُ، وَلِذَا ادَّعَى بَعْضُ الْأَحْنَافِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ لِهَذَا السَّبَبِ، وَعَلَى هَذَا مُنَاقَشَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَعُمُومِ السِّيَاقِ يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِهِ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ، إِلَى صِحَّةِ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْإِيمَاءِ. أَمَّا عَنِ النِّسَاءِ فَفِيهِ الْإِجْمَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَتَرْكِ الْبَيْعِ مِنْ أَجْلِهَا، ثُمَّ الِانْتِشَارِ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ وَالِابْتِغَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ وَالْكَسْبِ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلُّهَا فِي بَيْتِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [33 \ 33] . وَتَقَدَّمَ لِفَضِيلَةِ وَالِدِنَا الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَبْحَثٌ مُفَصَّلٌ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ قُرْآنِيٍّ عَلَى سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [24 \ 36 - 37] . وَبَيَّنَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَفْهُومَ (رِجَالٌ) هَلْ هُوَ مَفْهُومُ صِفَةٍ أَوْ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَسَاقَ عَلَاقَةِ النِّسَاءِ بِالْمَسَاجِدِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا. أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَمِمَّا يَسْتَأْنِي لَهُ أَيْضًا مِنَ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا الْبَيْعَ، إِذِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ ابْتِدَاءٌ لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْعَبِيدِ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ. وَقَوْلُهُ: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَنْتَشِرُ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ فَلَيْسَ مُشْتَغِلًا بِبَيْعٍ وَلَا مَحَلِّ اشْتِغَالٍ بِهِ، وَهُوَ مُنْتَشِرٌ فِي الْأَرْضِ بِسَفَرِهِ وَسَفَرُهُ شَاغِلٌ لَهُ، وَبِسَفَرِهِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَيَجْمَعُهَا. وَقَدْ حَكَى الشَّوْكَانِيُّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنِ الْمَمْلُوكِ إِلَّا دَاوُدَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا كَانَ سَائِرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ نَازِلًا، فَخَالَفَ فِيهِ دَاوُدُ أَيْضًا. وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنِ الْمُسَافِرِ وَقْتَ نُزُولِهِ مَا وَقَعَ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، إِذْ كَانَتِ الْوَقْفَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَازِلًا وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَجْهَرْ بِالْقِرَاءَةِ، وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَقَالَ: غَايَةُ مَا فِيهِ تَرْكُ الْجَهْرِ فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَهَذَا لَا يُبْطِلُهَا، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَالصَّلَاةُ أَثْنَاءَ الْحَجِّ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْجَمْعِ تَقْدِيمًا فِي عَرَفَةَ، وَتَأْخِيرًا فِي مُزْدَلِفَةَ، وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يُتْرَكَ الْجَهْرُ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَهُوَ أَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَيَأْمُرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ عَنْهُ. وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ صَحَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى مَمْلُوكٍ وَلَا مُسَافِرٍ، كَمَا لَا جُمُعَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ دُونَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَيُعْذَرُ الْمُسَافِرُ، وَالْمَرِيضُ، وَيُتِمُّ الْمَرِيضُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ. أَمَّا سُقُوطُهَا عَنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، فَهُوَ قَوْلٌ لِلْجُمْهُورِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْقِيقِ الْمُنَاطِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمِصْرِ وَالْقَرْيَةِ، وَالْبَادِيَةِ، وَبِالرُّجُوعِ إِلَى أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ نَجِدُ الْخِلَافَ الْآتِي أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ فِي مَكَانِ الْجُمُعَةِ. أَوَّلًا: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الْهِدَايَةِ مَا نَصُّهُ: لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ أَوْ فِي مُصَلَّى الْمِصْرِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْقَرْيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا جُمُعَةَ، وَلَا تَشْرِيقَ، وَلَا فِطْرَ، وَلَا أَضْحَى إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» . وَفَسَّرَ الشَّارِحُ ابْنُ الْهُمَامِ الْمِصْرَ بِقَوْلِهِ: وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ، وَنَاقَشَ الْأَثَرَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ قَائِلًا: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا جُمُعَةَ، وَلَا تَشْرِيقَ، وَلَا صَلَاةَ فِطْرٍ وَلَا أَضْحَى إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ أَوْ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ، صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تَشْرِيقَ، وَلَا جُمُعَةَ، إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 وَذَكَرَ هَذَا الْأَثَرَ الْقُرْطُبِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ فِي مَتْنِ خَلِيلٍ فِي فَصْلِ شُرُوطِ الْجُمُعَةِ مَا نَصُّهُ: بِاسْتِيطَانِ بَلَدٍ أَوْ أَخْصَاصٍ لَا خِيَمٍ. وَفَسَّرَ الشَّارِحُ الِاسْتِيطَانَ بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى نِيَّةِ التَّأْبِيدِ، وَلَا تَكْفِي نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَلَوْ طَالَتْ، وَجَاءَ فِي الْمَتْنِ بَعْدَهَا قَوْلُهُ: وَلَزِمَتِ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ الذَّكَرَ بِلَا عُذْرٍ الْمُتَوَطِّنَ. وَقَالَ الشَّارِحُ عَلَى كَلِمَةِ مُتَوَطِّنًا: هُوَ أَيْضًا مِنْ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، يَعْنِي: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا الِاسْتِيطَانُ بِبَلَدٍ يُتَوَطَّنُ فِيهِ وَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْإِقَامَةِ يُمْكِنُ الشِّرَاءُ فِيهِ، وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ مِنَ الْمَنَارَةِ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، وَلَوْ عَلَى خَمْسَةِ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٍ إِجْمَاعًا، لَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ، وَلَا مُقِيمٍ وَلَوْ نَوَى إِقَامَةً زَمَنًا طَوِيلًا إِلَّا تَبَعًا. اهـ. أَيْ تَبَعًا لِغَيْرِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَالَ فِي الْمُهَذَّبِ مَا نَصُّهُ: وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلَّا فِي أَبْنِيَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ مِنْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَقُمْ جُمُعَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي أَيَّامِ الْخُلَفَاءِ إِلَّا فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا أُقِيمَتْ فِي بَدْوٍ، فَإِنْ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَى خَارِجِ الْبَلَدِ فَصَلَّوُا الْجُمُعَةَ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطَنٍ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْجُمُعَةُ كَالْبَدْوِ، وَإِنِ انْهَدَمَ الْبَلَدُ فَأَقَامَ أَهْلُهُ عَلَى عِمَارَتِهِ، فَحَضَرَتِ الْجُمُعَةُ لَزِمَهُمْ إِقَامَتُهَا ; لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِيطَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الشَّرْحِ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ أَنْ تُقَامَ فِي أَبْنِيَةٍ مُجْتَمِعَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا شِتَاءً وَصَيْفًا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: سَوَاءٌ كَانَ الْبِنَاءُ مِنْ أَحْجَارٍ، أَوْ أَخْشَابٍ، أَوْ طِينٍ، أَوْ قَصَبٍ، أَوْ سَعَفٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْبِلَادُ الْكِبَارُ ذَوَاتُ الْأَسْوَاقِ وَالْقُرَى الصِّغَارُ، وَالْأَسْرَابُ الْمُتَّخَذَةُ وَطَنًا، فَإِنْ كَانَتِ الْأَبْنِيَةُ مُتَفَرِّقَةً لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ قَرْيَةً وَيُرْجَعُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالتَّفَرُّقِ إِلَى الْعُرْفِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ فَإِنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَوْضِعِهِمْ شِتَاءً وَصَيْفًا وَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَقَوْلَانِ، ثُمَّ قَالَ: أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِقَوْلِهِ لِحَدِيثِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَلَمْ يُصَلِّ هَكَذَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ فِي الْمُغْنِي، مَا نَصُّهُ: فَصْلٌ: فَأَمَّا الِاسْتِيطَانُ فَهُوَ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِاسْتِيطَانُ فِي قَرْيَةٍ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً، وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ، وَلَا عَلَى مُقِيمٍ فِي قَرْيَةٍ يَظْعَنُ أَهْلُهَا عَنْهَا فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ، أَوْ فِي بَعْضِ السَّنَةِ. فَإِنْ خَرِبَتِ الْقَرْيَةُ أَوْ بَعْضُهَا وَأَهْلُهَا مُقِيمُونَ فِيهَا عَازِمُونَ عَلَى إِصْلَاحِهَا فَحُكْمُهَا بَاقٍ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِهَا وَإِنْ عَزَمُوا عَلَى النُّقْلَةِ عَنْهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ. هَذِهِ خُلَاصَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَطَنِ وَالِاسْتِيطَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي صِفَةِ الْوَطَنِ مِنْ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مَبْنِيَّةٍ بِحَجَرٍ أَوْ طِينٍ، أَوْ أَخْشَابٍ، أَوْ خِيَامٍ ثَابِتَةٍ صَيْفًا وَشِتَاءٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَدِ انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ بِاشْتِرَاطِ وُجُودِ الْأَمِيرِ وَالْقَاضِي الَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ احْتِرَازًا مِنَ الْقَاضِي الَّذِي لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ، كَقَاضِي السُّوقِ، أَوْ إِذَا كَانَ مَنْ يَلِي الْقَضَاءَ امْرَأَةً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ لَا تَقْضِي فِي الْحُدُودِ لِعَدَمِ جَوَازِ شَهَادَتِهَا فِيهَا، وَاكْتَفَى الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِمُطْلَقِ الِاسْتِيطَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِيطَانَ يَسْتَلْزِمُ الْإِمَارَةَ شَرْعًا وَعَقْلًا. أَمَّا شَرْعًا، فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ لَا يُؤَمِّرُونَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ» . وَعَقْلًا، فَإِنَّ مُسْتَوْطِنِينَ لَا تَسْلَمُ أَحْوَالُهُمْ مِنْ خِلَافَاتٍ، وَمُشَاحَّةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَمِيرِ الْمَطْلُوبِ، كَمَا أَنَّ الِاسْتِيطَانَ يَسْتَلْزِمُ السُّوقَ لِحَوَائِجِهِمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عُرْفًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ يُقَالُ لَهَا جُوَاثَى، وَبِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ جَمَّعَ بِهِمْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَجِئِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَزْمٍ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ، مِمَّا لَا يَسْتَلْزِمُ الْمِصْرَ الَّذِي اشْتَرَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 وَأَجَابَ الْأَحْنَافُ عَنْ ذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِعْلِ أَبِي أُمَامَةَ، وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَمَاعٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بِإِنْفَاقِ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا يَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِي الْبَرَارِي إِجْمَاعًا، وَلَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ يُشْتَرَطُ أَلَّا يَظْعَنَ أَهْلُهَا عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً، فَكَانَ خُصُوصُ الْمَكَانِ مُرَادًا فِيهَا إِجْمَاعًا، فَقَدَّرَ الْقَرْيَةَ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْخَاصَّةُ، وَقَدَّرَ الْأَحْنَافُ الْمِصْرَ وَقَالُوا: هُوَ أَوْلَى لِنَصِّ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» ، وَقَالُوا: إِنَّ إِقَامَتَهَا فِي قَرْيَةِ جُوَاثَى غَايَةُ مَا فِيهِ تَسْمِيَةُ جُوَاثَا قَرْيَةً، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ هِيَ عُرْفُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ لُغَةُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [43 \ 31] أَيْ: مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَمَكَّةُ بِلَا شَكٍّ مِصْرٌ، وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّ جُواثَا حِصْنٌ بِالْبَحْرَيْنِ، فَهِيَ مِصْرٌ إِذِ الْحِصْنُ لَا يَخْلُو عَنْ حَاكِمٍ عَلَيْهِمْ وَعَالِمٍ، أَمَّا صَلَاةُ أَبِي أُمَامَةَ فَلَمْ تَكُنْ عَنْ عِلْمٍ وَلَا تَقْرِيرٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا كَانَتْ شُرِعَتِ الْجُمُعَةُ آنَذَاكَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ رَأْيَ الْجُمْهُورِ أَرْجَحُ. وَيَتَمَشَّى مَعَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ الْأَحْنَافَ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْجُمْهُورِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمِصْرِ قَرْيَةً كَتَسْمِيَةِ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ قُرًى. وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: مَكَّةُ: أُمَّ الْقُرَى [6 \ 92] ، فَالْقَرْيَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمِصْرِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيمُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعَشْرُ» ، فَقَدَّمَهُ عَلَى حَدِيثِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ، وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ يَتَّضِحُ أَنَّ الِاسْتِيطَانَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ وَطَنٍ، وَلَا تَلْزَمُ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ، وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَئِمَّةَ، وَشَذَّ عَنِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ سَلَفٌ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَالَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ يَشْهَدُ لَهُ سِيَاقُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ ; لِأَنَّنَا لَوْ أَخَذْنَا بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ الْأَمْرَ بِالسَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَرْكِ الْبَيْعِ حَتَّى لَا يَشْغَلَ عَنْهَا، ثُمَّ الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ قَضَائِهَا ; لَتَحَصَّلَ عِنْدَنَا مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ هُنَاكَ جَمَاعَةً نُودِيَتْ وَكُلِّفَتْ بِاسْتِجَابَةِ النِّدَاءِ وَالسَّعْيِ، ثُمَّ الْكَفِّ عَنِ الْبَيْعِ الَّذِي يَشْغَلُ عَنِ السَّعْيِ، وَمِثْلُ هَذَا الْبَيْعِ الَّذِي يُكَلَّفُونَ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَالَّذِي يُخْشَى مِنْهُ شَغْلُ النَّاسِ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَا يَكُونُ عَقْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَلَا يَكُونُ عَمَلًا فَرْدِيًّا بَلْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ بَيْنَ أَفْرَادٍ عَدِيدِينَ وَمُبَايَعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِمَّا يُشَكِّلُ حَالَةَ السُّوقِ، وَالسُّوقُ لَا يَكُونُ فِي الْبَوَادِي بَلْ فِي الْقُرَى وَلِلْمُسْتَوْطِنِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 وَالْعَادَةُ أَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي يَنْزِلُونَ إِلَى الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ ; لِلتَّزَوُّدِ مِنْ أَسْوَاقِهَا، وَإِذَا وُجِدَ السُّوقُ، وَوُجِدَتِ الْجَمَاعَةُ، اقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ الْحَاكِمِ لِاحْتِمَالِ الْمُشَاحَّةِ وَالْمُنَازَعَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ اسْتِلْزَامُ ذَلِكَ شَرْعًا وَعَقْلًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ ; لِأَنَّ مَادَّةَ الِانْتِشَارِ لَا تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَا الِاثْنَيْنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» ، وَمِنْهُ انْتِشَارُ الْخَبَرِ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ، إِذَا كَانُوا يَتَكَتَّمُونَ، فَإِذَا اسْتَفَاضَ وَكَثُرَ مَنْ يَعْرِفُهُ، قِيلَ لَهُ: انْتَشَرَ الْخَبَرُ. قَالَ صَاحِبُ مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي مَادَّةِ نَشَرَ: النُّونُ وَالشِّينُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى فَتْحِ شَيْءٍ وَتَشَعُّبِهِ، فَقَوْلُهُ: وَتَشَعُّبُهُ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ. وَقَالَ يُقَالُ: اكْتَسَى الْبَازِي رِيشًا نَشْرًا، أَيْ: مُنْتَشِرًا وَاسِعًا طَوِيلًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِيشَ الْبَازِي كَثِيرٌ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَتَأَتَّى مَنْ نَفَرٍ قَلَائِلَ فِي بَادِيَةٍ، بَلْ لَا يَتَأَتَّى تَحَقُّقُهُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُسْتَوْطِنِينَ. وَلَعَلَّنَا فِي هَذَا قَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَاصَّةً لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجُمُعَةَ كَالْجَمَاعَةِ تَصِحُّ مِنْ أَيِّ عَدَدٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ كَانُوا، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْوَاقِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ سَلَفٌ، وَخَالَفُوا بِهِ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ، مَعَ مَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ هَدْمِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، حَيْثُ إِنَّنَا وَجَدْنَا حِكْمَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَلِأَهْلِ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي كُلِّ ضَاحِيَةٍ. ثُمَّ نَأَتِ الْجُمُعَةُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَالْمِصْرِ، وَمَنْ فِي ضَوَاحِيهَا عَلَى بُعْدِ خَمْسَةِ أَوْ سِتَّةِ أَمْيَالٍ، كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَمَا كَانَ السَّلَفُ يَأْتُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِيهِ مِنْ تَجَمُّعٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى نِطَاقٍ أَوْسَعَ مِنْ نِطَاقِ الْجَمَاعَةِ. ثُمَّ يَأْتِي الْعِيدُ وَهُوَ عَلَى نِطَاقٍ أَوْسَعَ فَيَشْمَلُ حَتَّى النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يَأْتِي الْحَجُّ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَلَعَلَّ مِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، مَا جَاءَ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، إِذْ خَيَّرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ النُّزُولِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَبَيْنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْعِيدِ أَيْ: أَهْلِ الضَّوَاحِي. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ، فَلَوْ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَصِحُّ مِنْهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَضَوَاحِيهِمْ ; لَأَرْشَدَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَأَعْفَاهُمْ مِنَ النُّزُولِ سَوَاءٌ فِي يَوْمِ الْعِيدِ الَّذِي يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 فِي الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ يَوْمِ الْعِيدِ، بَلْ كَانُوا يَنْزِلُونَ مِنْ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْعَدَدُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْوَاقِعُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَدَدِ فِي الْجُمُعَةِ قَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ فِيهَا، فَمِنْ قَائِلٍ: تَصِحُّ بِوَاحِدٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَعَزَاهُ ابْنُ رُشْدٍ لِلطَّبَرِيِّ، وَمِنْ قَائِلٍ بِاثْنَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْحَسَنِ، وَمِنْ قَائِلٍ بِثَلَاثَةٍ مَعَ الْإِمَامِ وَعُزِيَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْ قَائِلٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِرَبِيعَةَ، وَمِنْ قَائِلٍ بِثَلَاثِينَ، وَمِنْ قَائِلٍ بِأَرْبَعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَمِنْ قَائِلٍ بِكُلِّ عَدَدٍ يَتَأَتَّى فِي قَرْيَةٍ مُسْتَوْطَنَةٍ، وَأَلَّا يَكُونُوا ثَلَاثَةً وَنَحْوَهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ فِي مَتْنِ خَلِيلٍ: وَبِجَمَاعَةٍ تَتَقَرَّى بِهِمْ قَرْيَةٌ بِلَا حَدٍّ. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ: أَيُّ جَمَاعَةٍ يُمْكِنُهُمُ الدَّفْعُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ لَا النَّادِرَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْجِهَاتِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَفْهَمُ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ لَا تَتَقَرَّى بِهِمْ قَرْيَةٌ، فَقَوْلُهُ: بِلَا حَدٍّ أَيْ بَعْدَ الِاثْنَيْ عَشَرَ. اهـ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَيْسَ عَلَيْهَا مُسْتَنَدٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِ، بِحَيْثُ لَوْ نَقَصَ وَاحِدٌ بَطَلَتْ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الشَّرْعُ مِنَ السَّمَاحَةِ وَالْيُسْرِ، هُوَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ جَمَاعَةٍ لَهَا سُوقٌ، وَيَتَأَتَّى مِنْهَا الِانْتِشَارُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ نَصٍّ صَرِيحٍ فِيهَا، وَكُلُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فَهُوَ حِكَايَةُ حَالٍ تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَلَا يُعْمَلُ بِمَفَاهِيمِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَبْحَثٍ أُصُولِيٍّ، وَهُوَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ وَأَصَحُّ مَا فِيهِ أَنَّهُ يُرَدُّ الْأَمْرُ الْمَحْظُورُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ وَقْتُ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ، أَنَّ السَّعْيَ يَكُونُ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ تَرْكِ الْبَيْعِ، وَمَفْهُومُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 أَنَّ قَبْلَ النِّدَاءِ لَا يَلْزَمُ السَّعْيُ وَلَا تَرْكُ الْبَيْعِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنَ النَّصِّ، وَلَكِنْ جَاءَتْ نُصُوصٌ لِلْحَثِّ عَلَى الْبُكُورِ إِلَى الْجُمُعَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَكَّرَ، وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَصَلَّى مَا تَيَسَّرَ لَهُ» . الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَكَانَ الْبُكُورُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ فِي مَبْدَأِ الْبُكُورِ، وَمَعْنَى السَّاعَةِ الْأُولَى أَيِّ سَاعَةٍ لُغَوِيَّةٍ أَوْ زَمَنِيَّةٍ، وَهَلْ هِيَ الْأُولَى مِنَ النَّهَارِ أَوِ الْأُولَى بَعْدَ الْأَذَانِ؟ ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ السَّاعَةَ لُغَوِيَّةٌ، وَهِيَ الْأُولَى بَعْدَ الْأَذَانِ، إِذْ لَا يَجِبُ السَّعْيُ إِلَّا بَعْدَهُ وَقَبْلَهُ لَا تَكْلِيفَ بِهِ. وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ السَّاعَةَ عَلَى السَّاعَةِ الزَّمَنِيَّةِ، وَأَنَّ الْأُولَى هِيَ الْأُولَى مِنَ النَّهَارِ، وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِعِدَّةِ أُمُورٍ: أَوَّلًا: فِي لَفْظِ حَدِيثِ الْبُكُورِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْبُكُورِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَوَّلِ النَّهَارِ، وَلَا يُقَالُ لِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ بُكُورٌ، بَلْ يُسَمَّى عَشِيًّا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بُكْرَةً وَعَشِيًّا [19 \ 11] وَتَكْرَارُ بَكَّرَ، وَابْتَكَرَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ وَأَوَائِلِهِ، وَكَذَلِكَ لَفْظَةُ: «مَنْ رَاحَ» لِأَنَّ الرَّوَاحَ لِأَوَّلِ النَّهَارِ. ثَانِيًا فِي الْحَدِيثِ: «وَصَلَّى مَا تَيَسَّرَ» ، لَهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنْ هُنَاكَ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلصَّلَاةِ بِقَدْرِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ. أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَلَا مُتَّسَعَ لِصَلَاةٍ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَلَا سِيَّمَا فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَذَانٌ وَاحِدٌ، وَبَعْدَ النِّدَاءِ فَلَا مُتَّسَعَ لِلصَّلَاةِ. ثَالِثًا: مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَثَمَانِيَ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ مَعَ السَّاعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، وَمَا جَاءَ عِنْدَ النَّيْسَابُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَكَانَتِ الطُّرُقَاتُ فِي أَيَّامِ السَّلَفِ وَقْتَ السَّحَرِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ غَاصَّةً بِالْمُبَكِّرِينَ إِلَى الْجُمُعَةِ يَمْشُونَ بِالسُّرُجِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ أُحْدِثَتْ فِي الْإِسْلَامِ تَرْكُ الْبُكُورِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هُوَ أَنَّ زَمَنَ السَّعْيِ لَهُ جِهَتَانِ: جِهَةُ وُجُوبٍ وَإِلْزَامٍ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ بَعْدَ النِّدَاءِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعِيدًا، بِحَيْثُ لَوِ انْتَظَرَ حَتَّى يُنَادَى لَهَا لَا يُدْرِكُهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَيْهَا قَبْلَ النِّدَاءِ اتِّفَاقًا ; لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 أداءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِذَلِكَ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَخْصُوصٌ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: جِهَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ، وَهَذَا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَنٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظُرُوفِ الشَّخْصِ، فَمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْبُكُورِ، وَلَمْ يَتَعَطَّلْ بِبُكُورِهِ مَا هُوَ أَلْزَمُ مِنْهُ، فَيُنْدَبُ لَهُ الْبُكُورُ، وَبِحَسَبِ مَا يَكُونُ بُكُورُهُ فِي السَّاعَاتِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ يَكُونُ مَا لَهُ مِنَ الْأَجْرِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَإِذَا حَضَرَ الْإِمَامُ طَوَتِ الصُّحُفَ وَجَلَسُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ، فَكِتَابَةُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْأَوَّلِيَّةِ قَبْلَ النِّدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّنَا وَجَدْنَا لِكُلِّ وَاجِبٍ مَنْدُوبًا وَالسَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَ النِّدَاءِ وَاجِبٌ، فَيَكُونُ لَهُ مَنْدُوبٌ وَهُوَ السَّعْيُ قَبْلَ النِّدَاءِ، فَكَمَا لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ، فَكَذَلِكَ لِلسَّعْيِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ، فَوَاجِبُهُ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَمَنْدُوبُهُ قَبْلَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْغُسْلُ لِلْجُمُعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَرْتِيبُ السَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى النِّدَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِسَبْقِ الطُّهْرِ إِجْمَاعًا، وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [5 \ 6] ، فَكَانَتِ الطَّهَارَةُ بِالْوُضُوءِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَهُنَا فِي خُصُوصِ الْجُمُعَةِ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ فِي خُصُوصِ الطُّهْرِ لَهَا بِوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ. وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ، وَفِي لَفْظٍ: «طُهْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ كَطُهْرِ الْجَنَابَةِ» ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَ سِنَّ الْحُلُمِ. وَجَاءَ حَدِيثٌ آخَرُ: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْغُسْلِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَبِالتَّالِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ بِالْوُضُوءِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 وَقَدْ جَاءَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ عُثْمَانَ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعُمَرُ يَخْطُبُ فَعَاتَبَهُ عَلَى تَأَخُّرِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَا إِنْ سَمِعَ النِّدَاءَ حَتَّى تَوَضَّأَ، وَأَتَى إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْغُسْلِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ عُثْمَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَقَرَّهُ عُمَرُ وَتَرَكَهُ عَلَى وُضُوئِهِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ قَدْ نُسِخَ الْوُجُوبُ فِيهِ بِحَدِيثِ الْمُفَاضَلَةِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ عُثْمَانَ هَذِهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ هُمْ فَعَلَةُ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَيَشْتَدُّ عَرَقُهُمْ فَتَظْهَرُ لَهُمْ رَوَائِحُ فَعَزَمَ عَلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغُسْلِ، وَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَاءَتْهُمُ الْعُلُوجُ وَكُفُوا مُؤْنَةَ الْعَمَلِ، رُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ وُجُوبُ الْغُسْلِ، وَلَكِنْ لِلْيَوْمِ لَا لِلْجُمُعَةِ ; لِنَصِّ الْحَدِيثِ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» وَلَمْ يَقُلِ الْغُسْلُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ النُّصُوصِ فِي تَعَهُّدِ الشُّعُورِ وَالْأَظَافِرِ وَالْغُسْلِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَيَّدُوهُ فِي الْغُسْلِ بِخُصُوصِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ لِصِحَّتِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ صِحَّةُ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُنَاسَبَةُ الْغُسْلِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْسَبُ مَا تَكُونُ لِهَذَا التَّجَمُّعِ، كَمَا أَشَارَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِذَا أَهْدَرْنَا هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرُهُ سَوَاءً. الثَّانِي: أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يُشِيرُ إِشَارَةً خَفِيَّةً إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ نَوْعَ طِهَارَةٍ عِنْدَ السَّعْيِ بَعْدَ الْأَذَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طُهْرٍ لَهَا، فَيَكُونُ إِحَالَةً عَلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ، فَيُكْتَفَى بِالْوُضُوءِ وَتَحْصُلُ الْفَضْلِيَّةُ بِالْغُسْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا. فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى التِّجَارَةِ وَحْدَهَا مُغَايَرَةٌ لِذِكْرِ اللَّهْوِ مَعَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ قِرَاءَةً أُخْرَى، انْفَضُّوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 إِلَيْهِ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّهْوِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ قَدْ يَسُوغُ لُغَةً كَمَا فِي قَوْلِ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لَاهِيَيْنِ بِهَا ... وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمُمْ بِإِمْرَارِ فَذَكَرَ الدَّهْرَ وَالْعَيْشَ، وَأَعَادَ عَلَيْهِمَا ضَمِيرًا مُنْفَرِدًا اكْتِفَاءً بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِهَذَا نَظَائِرُ فِي غَيْرِ عَوْدِ الضَّمِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [16 \ 81] ، فَالَّتِي تَقِي الْحَرَّ، تَقِي الْبَرْدَ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَكِنَّ الْمَقَامَ هُنَا خِلَافُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ: لَا يَخْفَى أَنَّ أَصْلَ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ هُوَ الْأَحَدُ الدَّائِرُ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهْوِ، بِدَلَالَةِ لَفْظَةِ أَوْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الضَّمِيرَ رَجَعَ إِلَى التِّجَارَةِ وَحْدَهَا دُونَ اللَّهْوِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفَسِّرِهِ بَعْضُ مُنَافَاةٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ التِّجَارَةَ أَهَمُّ مِنَ اللَّهْوِ وَأَقْوَى سَبَبًا فِي الِانْفِضَاضِ عَنِ النَّبِيِّ - صلّى الله عليه وسلم - لِأَنَّهُمُ انْفَضُّوا مِنْ أَجْلِ الْعِيرِ، وَاللَّهْوُ كَانَ مِنْ أَجْلِ قُدُومِهَا، مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ يَجُوزُ فِيهَا رُجُوعُ الضَّمِيرِ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ. أَمَّا فِي الْعَطْفِ بِأَوْ فَوَاضِحٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [4 \ 112] . وَأَمَّا الْوَاوُ فَهُوَ فِيهَا كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [2 \ 45] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [9 \ 62] ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [9 \ 34] . اهـ. أَيْ: أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ كُلَّهَا يُذْكَرُ فِيهَا أَمْرَانِ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَبِنَاءً عَلَى جَوَابِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، إِمَّا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْمَاصَدَقَ، وَإِمَّا لِمَعْنًى زَائِدٍ فِيمَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ. فَمِنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي النَّهْيِ وَالْعِصْيَانِ، وَمِمَّا لَهُ مَعْنًى زَائِدٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّهَا أَيْ: الصَّلَاةُ ; لِأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْ عُمُومِ الصَّبْرِ، وَوُجُودُ الْأَخَصِّ يَقْتَضِي وُجُودَ الْأَعَمِّ دُونَ الْعَكْسِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَسِيلَةٌ لِلصَّبْرِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرُ هَمٍّ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا، أَيْ: الْفِضَّةَ ; لِأَنَّ كَنْزَ الْفِضَّةِ أَوْفَرُ، وَكَانِزُوهَا أَكْثَرُ فَصُورَةُ الْكَنْزِ حَاصِلَةٌ فِيهَا بِصِفَةٍ أَوْسَعَ، وَلَدَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ أَوْلَى، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لَمَّا كَانَتِ الْفِضَّةُ مِنَ النَّاحِيَةِ النَّقْدِيَّةِ أَقَلَّ قِيمَةً، وَالذَّهَبُ أَعْظَمَ، كَانَ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، فَكَأَنَّهُ أَشْمَلُ وَأَعَمُّ، وَأَشَدُّ تَخْوِيفًا لِمَنْ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ. أَمَّا الْآيَةُ هُنَا، فَإِنَّ التَّوْجِيهَ الَّذِي وَجَّهَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهَا: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ [62 \ 11] ، فَذَكَرَ السَّبَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ; لِانْفِضَاضِهِمْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، بِالتَّذْيِيلِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ التِّجَارَةَ هِيَ الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [62 \ 11] ، وَالرِّزْقُ ثَمَرَةُ التِّجَارَةِ، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا قُرْآنِيًّا لِعَوْدِ الضَّمِيرِ هُنَا عَلَى التِّجَارَةِ دُونَ اللَّهْوِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ قَالَ أَبُو حَيَّانَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ: تأَمَّلْ إِنْ قُدِّمَتِ التِّجَارَةُ عَلَى اللَّهْوِ فِي الرُّؤْيَةِ ; لِأَنَّهَا أَهَمُّ وَأُخِّرَتْ مَعَ التَّفْضِيلِ لِتَقَعَ النَّفْسُ أَوَّلًا عَلَى الْأَبْيَنِ. اهـ. يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: فِي الرُّؤْيَةِ: (وَإِذَا رَأَوْا) ، وَبِقَوْلِهِ: مَعَ التَّفْضِيلِ: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ، أَيْ: لِأَنَّ اللَّهْوَ أَبْيَنُ فِي الظُّهُورِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ عِنْدَ التَّفْضِيلِ ذَكَرَ اللَّهْوَ لِلْوَاقِعِ فَقَطْ ; لِأَنَّ اللَّهْوَ لَا خَيْرَ فِيهِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلْمُفَاضَلَةِ، وَآخَّرَ ذِكْرَ التِّجَارَةِ ; لِتَكُونَ أَقْرَبَ لِذِكْرِ الرِّزْقِ لِارْتِبَاطِهِمَا مَعًا، فَلَوْ قُدِّمَتِ التِّجَارَةُ هُنَا أَيْضًا لَكَانَ ذِكْرُ اللَّهْوِ فَاصِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَهُوَ لَا يَتَنَاسَقُ مَعَ حَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَك َ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُنَافِقُونَ: جَمْعُ مُنَافِقٍ، وَهُوَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَيُسِرُّ الْكُفْرَ. (قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) ، أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ نِفَاقًا وَخَوْفًا، وَلَمْ يَقُولُوهُ خَالِصًا مِنْ قُلُوبِهِمْ. وَلِذَا قَالَ اللَّهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، وَإِنَّمَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِمْ حَقٌّ ; لِأَنَّ بَوَاطِنَهُمْ تُكَذِّبُ ظَوَاهِرَهُمْ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا كَسْرُ هَمْزَةِ إِنَّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهَا بَعْدَ فِعْلٍ مُعَلَّقٍ بِاللَّامِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفُتِحَتْ، لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْمَصْدَرِ. وَلِأَبِي حَيَّانَ قَوْلٌ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ إِذْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُمْ: (نَشْهَدُ) يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ تُلُقِّيَ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، وَكَذَا فِعْلُ الْيَقِينِ، وَالْعَلَمُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، أَعْنِي: بِقَصْدِ التَّوْكِيدِ بِإِنَّ وَاللَّامِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُوَاطِىءَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ، هَذَا بِالنُّطْقِ وَذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، وَفَضَحَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. أَيْ: لَمْ تُوَاطِئُ قُلُوبُهُمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِكَ، وَاعْتِقَادُهُمْ أَنَّكَ غَيْرُ رَسُولٍ، فَهُمْ كَاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ، أَوْ كَاذِبُونَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، إِذْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كَذِبٌ. وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيذَانًا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [48 \ 28 - 29] . تَنْبِيهٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْحَثٌ بَلَاغِيٌّ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ إِلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ فَقَالُوا: الْخَبَرُ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لِذَاتِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَنْحَصِرُ فِيهِمَا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالْمُخْبِرُ إِمَّا صَادِقٌ وَإِمَّا كَاذِبٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ أَوْ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِقَادِ. قَالَ السَّعْدُ فِي التَّلْخِيصِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ، لَا لِلْوَاقِعِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عَدَمَ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَأِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْكَذِبِ. وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: مَا كَذَبَ وَلَكِنَّهُ وَهِمَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجَاحِظِ وَهُوَ صِدْقُ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ مُسْتَدِلًّا بِالْآيَةِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ خَبَرَهُمْ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ. وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجَاحِظِ الْقَوْلُ بِوُجُودِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَهِيَ عَدَمُ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَوْ طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَلَكِنْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ يَرُدُّ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيُبْطِلُ اسْتِدْلَالَ الْجَاحِظِ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالْآيَةِ ; لِأَنَّ تَكْذِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُنْصَبٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ قَالُوا نَشْهَدُ، وَالشَّهَادَةُ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوا شَهَادَتَهُمُ التَّأْكِيدَ الْمُشْعِرَ بِالْقَسَمِ وَالْمُوحِيَ بِمُطَابَقَةِ الْقَوْلِ لِمَا فِي الْقَلْبِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي كَوْنِ إِخْبَارِهِمْ بِصُورَةِ الشَّهَادَةِ وَالْحَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَهُوَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا لِاعْتِقَادِهِمْ. وَالْقُرْآنُ يَنْفِي وُجُودَ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [10 \ 32] . أَمَّا فِقْهُ الْيَمِينِ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَأَحْكَامُهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذَا الْمَبْحَثُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ الْآيَةَ [5 \ 89] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 وَذُكِرَ فِي مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: الثَّانِي مِنْهُمَا: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ فَيُظْهِرُ خِلَافَهُ وَعَزَاهُ لِمَالِكٍ، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَسَاقَ أَسْمَاءَ كَثِيرِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَدِّ اللُّغَوِيِّ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ، وَالْحَدِّ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ يُقْبَلُ شَرْعًا مَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ ; لِأَنَّهُ حَدُّ عِلْمِهِ، وَلِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الشَّرْعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً. قُرِئَ (أَيْمَانَهُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ يَمِينٍ، وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا مِنَ الْإِيمَانِ ضِدِّ الْكُفْرِ، أَيْ: مَا أَظْهَرُوهُ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ إِذَا كَانَ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ، وَفِيهَا مَا يُرَجِّحُ إِحْدَاهُمَا، وَتَقَدَّمَ كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ تَخْرِيجَهُ عَلَى الْيَمِينِ. وَلِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ التَّدْرِيسِ قَوْلُهُ: الْأَيْمَانُ جُمَعُ يَمِينٍ، وَهِيَ الْحَلِفُ وَالْجُنَّةُ التُّرْسُ، وَهُوَ الْمِجَنُّ الَّذِي تُتَّقَى بِهِ السُّيُوفُ وَالنِّبَالُ وَالسِّهَامُ فِي الْحَرْبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ نِفَاقِهِمْ أَوْ سُمِعَتْ عَنْهُمْ كَلِمَةُ كُفْرٍ، حَلَفُوا بِاللَّهِ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا ذَلِكَ وَمَا فَعَلُوهُ، فَيَجْعَلُونَ حَلِفَهُمْ تُرْسًا يَقِيهِمْ مِنْ مُؤَاخَذَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَنْبِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الْآيَةَ [9 \ 74] . وَقَالَ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ الْآيَةَ [9 \ 56] . وَقَالَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الْآيَةَ [9 \ 62] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ أَيْمَانًا عَلَى أَيْمَانِهِمْ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَنَّ أَيْمَانَهُمْ وَحَلِفَهُمْ مُنْصَبٌّ عَلَى دَعْوَى إِيمَانِهِمْ، فَلَا انْفِكَاكَ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْإِيمَانَ ; لِأَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَالْيَمِينُ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَخَصِّ يَقْتَضِي وُجُودَ الْأَعَمِّ، فَالْحَلِفُ عَلَى الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَزِيَادَةً، وَمُجَرَّدُ دَعْوَى الْإِيمَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْكِيدَ بِالْإِقْسَامِ وَالْحَلِفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: أَيْ بِسَبَبِ اتِّخَاذِهِمْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً وَخَفَاءِ كُفْرِهِمُ الْبَاطِنِ، تَمَكَّنُوا مِنْ صَدِّ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّونَهُمْ إِخْوَانًا وَهُمْ أَعْدَاءٌ، وَشَرُّ الْأَعْدَاءِ مَنْ تَظُنُّ أَنَّهُ صَدِيقٌ وَلِذَا حَذَّرَ اللَّهُ نَبِيَهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [63 \ 4] ، وَصَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَتَعْوِيقِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ ; كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا الْآيَةَ [33 \ 18] . وَبِقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ الْآيَةَ [9 \ 81] . وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا الْآيَةَ [3 \ 168] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: (سَاءَ) فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ بِمَعْنَى بِئْسَ. اهـ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى تِلْكَ الْإِسَاءَةَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عِدَّةِ جِهَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [2 \ 9] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [4 \ 142] . وَكَانَ خِدَاعُهُمْ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَخِدَاعُهُمْ بِالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [48 \ 11] . وَخِدَاعُهُمْ فِي الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ [4 \ 142] . وَفِي الْجِهَادِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [33 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ نَتِيجَةٌ لِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] . وَكَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، أَيْ: بِأَلْسِنَتِهِمْ نِفَاقًا ثُمَّ كَفَرُوا بِقُلُوبِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ. اهـ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [2 \ 7] فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ بَعْدَ هَذَا الطَّبْعِ، وَمَعَ هَذَا الْخَتْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [18 \ 57] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ. فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِحَصْرِ الْعَدَاوَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ مَعَ وُجُودِهَا فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ، وَلَكِنَّ إِظْهَارَ الْمُشْرِكِينَ شِرْكَهُمْ، وَإِعْلَانَ الْيَهُودِ كُفْرَهُمْ مَدْعَاةٌ لِلْحَذَرِ طَبْعًا. أَمَّا هَؤُلَاءِ فَادِّعَاؤُهُمُ الْإِيمَانَ وَحَلِفُهُمْ عَلَيْهِ، قَدْ يُوحِي بِالرُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ رَغْبَةً فِي تَأْلِيفِهِمْ، فَكَانُوا أَوْلَى بِالتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَلِقُوَّةِ مُدَاخَلَتِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا يُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ شُئُونِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي آخِرِ السُّورَةِ كُلِّهِ كَاشِفًا لِحَقِيقَتِهِمْ وَمُبَيِّنًا شِدَّةَ عَدَاوَتِهِمْ سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [63 \ 7] ، أَوْ فِي تَآمُرِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِمْ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [63 \ 8] . وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [63 \ 6] . (هُمْ) هُنَا الْمُنَافِقُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [9 \ 67] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [39 \ 63] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [18 \ 46] ، وَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ لَهْوِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، بِأَنَّ الْعَبْدَ يُفْتَنُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي سُورَةِ «التَّغَابُنِ» : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [64 \ 15] . أَيْ: لِمَنْ سَخَّرَ الْمَالَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَبِالتَّأَمُّلِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَآخِرِ الَّتِي قَبْلَهَا نَجِدُ اتِّحَادًا فِي الْمَوْضُوعِ وَالتَّوْجِيهِ. فَهُنَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [62 \ 11] . وَجَاءَ عَقِبَهُ مُبَاشَرَةً سُورَةُ: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [63 \ 1] ، وَلَعَلَّهُ مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّ الَّذِينَ بَادَرُوا بِالْخُرُوجِ لِلْعِيرِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَتَبِعَهُمُ الْآخَرُونَ لِحَاجَتِهِمْ لِمَا تَحْمِلُ الْعِيرُ، وَهُنَا بَعْدَمَا رَكَنَ الْمُنَافِقُونَ لِلْمَالِ جَاءَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا فَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ فِتْنَةً لَهُمْ فِي مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ خُصُوصَ ذِكْرِ الْخُطْبَةِ وَالْعِيرِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا، أَوْ عُمُومَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُكْتَسَبَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ. فِيهِ الْإِنْفَاقُ مِنْ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمْ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَبْحَثُ الِاقْتِصَادِ فِي الْإِنْفَاقِ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [2 \ 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا. وَكَذَلِكَ لَا يُقَدِّمُهَا عَلَيْهِ ; كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [10 \ 49] . وَبَيَّنَ تَعَالَى عَدَمَ تَأَخُّرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ وُعِدُوا بِأَنَّهُمْ يَصَّدَّقُونَ وَيَكُونُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ، مُشِيرًا لِلسَّبَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [64 \ 11] أَيْ: لَوْ أَخَّرَكُمْ ; لَأَنَّ شِيمَتَكُمُ الْكَذِبُ وَخَلْفُ الْوَعْدِ، وَأَنَّ هَذَا دَأَبُ أَمْثَالِهِمْ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 [14 \ 44] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [23 \ 99 - 100] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، تُعَادِلُ فِي مَاصَدَقِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. أَيْ: لَوْ أَخَّرَهُمْ لَنْ يَصْدُقُوا، وَلَنْ يَكُونُوا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمَا سَيَكُونُ، كَإِحَاطَتِهِ بِمَا قَدْ كَانَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ التَّغَابُنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ وَمَدْلُولِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» وَ «الْحَدِيدِ» ، وَهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالتَّسْبِيحِ، وَالْفِعْلُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَالتَّذْيِيلُ هُنَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، نَافِذٌ فِيهِ أَمْرُهُ، مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ أَمْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [67 \ 1] . وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «يس» : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [36 \ 82 - 83] . وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَتَصْرِيفِهِ لِأُمُورِ مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، أَنْ جَعَلَ الْعَالَمَ كُلَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ بِحَمْدِهِ تَنْفِيذًا لِحِكْمَةٍ فِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 70] ، فَجَمَعَ الْحَمْدَ وَالْحُكْمَ مَعًا لِجَلَالَةِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدَّرَ عَلَى قَوْمٍ مِنْكُمُ الْكُفْرَ، وَعَلَى قَوْمٍ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَهْدِي كُلًّا لِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [87 \ 3] ، فَيَسَّرَ الْكَافِرَ إِلَى الْعَمَلِ بِالْكُفْرِ، وَيَسَّرَ الْمُؤْمِنَ لِلْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» . اهـ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا النَّصَّ مِنْ مَأْزِقِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يُؤْمِنُونَ أَنَّ كُلًّا بِقَدَرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْعَقِيدَةِ الْوَاسِطِيَّةِ: وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 قَوْلِ: إِنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى عَمَلِهِ لَا اخْتِيَارَ لَهُ كَالْوَرَقَةِ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ. وَبَيْنَ قَوْلِ: إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ، وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِمَشِيئَتِهِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [81 \ 29] . وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَقْوَالَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ، الْأُولَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا، وَخَلَقَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا» . بِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» . وَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَعَلَّقَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، فَيَجْرِي مَا عَلِمَ وَأَرَادَ وَحَكَمَ. الثَّانِيَةُ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنُوا، قَالُوا: وَتَمَامُ الْكَلَامِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [24 \ 45] ، قَالُوا: فَاللَّهُ خَلَقَهُمْ وَالْمَشْيُ فِعْلُهُمْ. وَاخْتَارَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُمْ كَافِرِينَ وَمُؤْمِنِينَ لَمَا وَصَفَهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» . الْحَدِيثَ. اهـ. وَبِالنَّظَرِ فِي هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ نَجِدُ الْآتِيَ: أَوَّلًا: التَّشْبِيهُ فِي الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَسْلَمُ ; لِأَنَّ وَصْفَ الدَّوَابِّ فِي حَالَةِ الْمَشْيِ لَيْسَ وَصْفًا فِعْلِيًّا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضِمْنِ خَلْقِهِ تَعَالَى لَهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا فِعْلٌ فِي ذَلِكَ. ثَانِيًا: مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ» لِبَيَانِ الْمَصِيرِ وَالْمُنْتَهَى، وَفْقَ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ وَالْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 وَالْحَدِيثَ الثَّانِيَ لِبَيَانِ مَبْدَأِ وُجُودِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حِينَمَا يُولَدُ، أَمَّا مَصِيرُهُ فَبِحَسَبِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ كَلَامًا لِلزَّجَّاجِ وَقَالَ عَنْهُ: هُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَنَصُّهُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَافِرَ، وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْكُفْرِ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ، وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْإِيمَانِ. وَالْكَافِرُ يَكْفُرُ وَيَخْتَارُ الْكُفْرَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ إِيَّاهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ، لِأَنَّ وُجُودَ خِلَافِ الْمُقَدَّرِ عَجْزٌ، وَوُجُودَ خِلَافِ الْمَعْلُومِ جَهْلٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ. اهـ. وَلَعَلَّ مِمَّا يَشْهَدُ لِقَوْلِ الزَّجَّاجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [37 \ 96] . هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ مَأْزِقِ الْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَقَدْ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَبِتَأَمُّلِ النَّصِّ وَمَا يَكْتَنِفُهُ مِنْ نُصُوصٍ فِي السِّيَاقِ مِمَّا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، نَجِدُ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ وَالتَّوْجِيهَ السَّلِيمَ، وَذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَكَوْنُ الْمُلْكِ لَهُ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَكَوْنُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ. ثُمَّ قَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَعْثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأُولَى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] . وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 79] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 وَلِذَا جَاءَ عَقِبَهَا قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. أَيْ: بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ لَكُمْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِكُمْ، مِنْ ذَلِكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْ ذَلِكَ خَلْقُكُمْ وَتَصْوِيرُكُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، فَكَأَنَّ مُوجِبَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالتَّالِي إِيمَانُكُمْ بِمَا بَعْدَ الْبَعْثِ، مِنْ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ وَجَنَّةٍ وَنَارٍ، وَلَكِنْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ وَبَيَانِ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ تَفْنِيدُ زَعْمِ الْكُفَّارِ بِالْبَعْثِ وَالْإِقْسَامُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [64 \ 7] ; لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّوْجِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [76 \ 1 - 3] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ [64 \ 2] . ثُمَّ قَالَ: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، وَهُمَا حَاسَّتَا الْإِدْرَاكِ وَالتَّأَمُّلِ، فَقَالَ: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ مَعَ اسْتِعْدَادِهِ لِلْقَبُولِ وَالرَّفْضِ. وَقَوْلُهُ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، مِثْلُ قَوْلِهِ هُنَا: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] ، أَيْ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَهِدَايَةِ السَّبِيلِ بِالْوَحْيِ، وَلِذَا جَاءَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [64 \ 8] . وَبِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمْلَةِ يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِ الْمَوْتَى، وَمِنْ ثَمَّ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلَهُ وَهُدَاهُ النَّجْدَيْنِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا وَلَوِ احْتَجَّ إِنْسَانٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَدَرِ لَقِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَلَيْكَ، أَمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ وَنَهَاكَ وَبَيَّنَ لَكَ الطَّرِيقَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ الْقَدَرِ مِنْ أَخْطَرِ الْقَضَايَا وَأَغْمَضِهَا، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَضَاءُ فَأَمْسِكُوا» ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْلِمِ النَّظَرُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وَحْيٍ وَبَعَثَ مِنْ رُسُلٍ. وَأَهَمُّ مَا فِي الْأَمْرِ هُوَ جَرْيُ الْأُمُورِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدْ جَاءَ مَوْقِفٌ عَمَلِيٌّ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، يُوَضِّحُ حَقِيقَةَ الْقَدَرِ وَيُظْهِرُ غَايَةَ الْعِبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [8 \ 43] . فَهُوَ تَعَالَى الَّذِي سَلَّمَ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّنَازُعِ وَالْفَشَلِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ بِذَاتِ الصُّدُورِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [8 \ 44] ، فَقَدْ أَجْرَى الْأَسْبَابَ عَلَى مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ فَقَلَّلَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَعْيُنِ الْآخَرِ ; لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ مَفْعُولًا، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُنْتَهَى،: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. فِيهِ اسْتِنْكَارُ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَهْدِيهِمْ بَشَرًا لَا مَلَكًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [17 \ 94] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ [54 \ 25] . قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ: فَشُبْهَتُهُمْ هَذِهِ الْبَاطِلَةُ رَدَّهَا اللَّهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [6 \ 9] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا [12 \ 109] أَيْ: لَا مَلَائِكَةً وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ الْآيَةَ [25 \ 20] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] . قَوْلُهُ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - أَيْ: أَنَّ الْكُفَّارَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ الْعِظَامَ الرَّمِيمَ لَا تُحْيَا، قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، وَبَلَى حَرْفٌ يَأْتِي لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ رَدُّ نَفْيٍ، كَمَا هُنَا. الثَّانِي: جَوَابُ اسْتِفْهَامٍ مُقْتَرِنٍ بِنَفْيٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [7 \ 172] ، وَقَوْلُهُ: وَرَبِّي قَسَمٌ بِالرَّبِّ عَلَى الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ أَقْسَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْأَوَّلُ هَذَا. وَالثَّانِي قَوْلُهُ: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [10 \ 53] . الثَّالِثُ قَوْلُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [34 \ 3] . اهـ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ، بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13 - 14] ، وَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْبَعْثِ وَيُسْرُهُ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ ; لِأَنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدْءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 78 - 79] ، وَقَوْلِهِ: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [31 \ 28] ، وَقَالَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا. النُّورُ هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [57 \ 9] مِنْ سُورَةِ «الْحَدِيدِ» ، وَفِي الْمُذَكِّرَةِ سَمَّاهُ نُورًا ; لِأَنَّهُ كَاشِفٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَالشَّكِّ، وَالشِّرْكِ، وَالنِّفَاقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ. يَوْمُ الْجَمْعِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ مُقَدَّرَةٍ أَوْ بِقَوْلِهِ: خَبِيرٌ [64 \ 8] . فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، سُمِّيَ يَوْمَ الْجَمْعِ ; لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَسْمَعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [56 \ 49 - 50] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [11 \ 103] . وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ عِنْدَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ [56 \ 49 - 50] . وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ: آيَةُ «الشُّورَى» : وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [42 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ يَوْمَ التَّغَابُنِ. الْغَبْنُ: الشُّعُورُ بِالنَّقْصِ وَمِثْلُهُ الْخَبْنُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حَرْفَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، كَمَا فِي فِقْهِ اللُّغَةِ: فَبَيْنَهُمَا تَقَارُبٌ فِي الْمَعْنَى كَتَقَارُبِهِمْ فِي الْحَرْفِ الْمُخْتَلِفِ، وَهُوَ الْغَيْنُ وَالْخَاءُ وَلِخَفَاءِ الْغَيْنِ فِي الْحَلْقِ وَظُهُورِ الْخَاءِ عَنْهَا كَانَ الْغَبْنُ لِمَا خَفِيَ، وَالْخَبْنُ لِمَا ظَهَرَ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مُوجِبَ الْغَبْنِ لِلْغَابِنِ وَالْمَغْبُونِ فَقَالَ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [64 \ 9] ، وَبَيَّنَ حَالَ الْمَغْبُونِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [64 \ 10] . وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ حَقِيقَةَ الْغَبْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ مَكَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَكَانٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ بَقِيَتْ أَمَاكِنُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 بَقِيَتْ أَمَاكِنُهُمْ فِي النَّارِ. وَهُنَاكَ تَكُونُ مَنَازِلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ لِأَهْلِ النَّارِ، وَمَنَازِلُ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَوَارَثُونَهَا عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الْغَبْنُ الْأَلِيمُ، وَهُوَ اسْتِبْدَالُ مَكَانٍ فِي النَّارِ بِمَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ وَرِثُوا أَمَاكِنَ الْآخَرِينَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى النَّارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّ مَا يُصِيبُ أَحَدًا مُصِيبَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَذَلِكَ مَا يُصِيبُ أَحَدًا خَيْرٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [16 \ 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ. وَلَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْمُصِيبَةِ هُنَا ; لِيَدُلَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَنَالُ الْعَبْدَ إِنَّمَا هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ تَأْبَى الْمَصَائِبَ وَتَتَوَقَّاهَا، وَمَعَ ذَلِكَ تُصِيبُهُ، وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ دَفْعُهَا بِخِلَافِ الْخَيْرِ، قَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ حَصَّلَهُ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ قَارُونُ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [28 \ 78] . وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، قُرِئُ (يَهْدَأْ) بِالْهَمْزِ مِنَ الْهُدُوءِ، وَ (قَلْبُهُ) بِالرَّفْعِ، وَهِيَ بِمَعْنَى يَهْدِي قَلْبَهُ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، فَيَسْتَرْجِعُ فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِهَذَا وَلَا يَجْزَعُ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا فِي قَدَمِهِ» . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [2 \ 155 - 157] . أَيْ: إِلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنِ امْتِثَالٍ وَصَبْرٍ وَلِذَا جَاءَ بَعْدَهَا: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [64 \ 12] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ أَعْظَمُ النِّعَمِ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: إِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَمَا ذَنْبُ الْكَافِرِ وَمَا فَضْلُ الْمُؤْمِنِ، فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، بَيَانًا لِمَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ، وَهُوَ طَاعَةُ الرُّسُلِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ سِوَى ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَهْدِ قَلْبَهُ مِنْ نِسْبَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْقَلْبِ بَيَانٌ لِقَضِيَّةِ الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [28 \ 56] . فَقَالُوا: الْهِدَايَةُ الْأُولَى دَلَالَةُ إِرْشَادٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [41 \ 17] . وَالثَّانِيَةُ: هِدَايَةُ تَوْفِيقٍ وَإِرْشَادٍ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ شِبْهُ الْهِدَايَةِ مِنَ اللَّهِ لِقَلْبِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، بِتَكْرَارِ فِعْلِ الطَّاعَةِ يَدُلُّ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ تَلْزَمُ مُسْتَقِلَّةً. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَشْرِيعَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَبِتَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] . وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [4 \ 59] ، فَكَرَّرَ الْفِعْلَ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلَمْ يُكَرِّرْهُ بِالنِّسْبَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَا تَكُونُ اسْتِقْلَالًا بَلْ تَبَعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 [18 \ 46] . وَمِمَّا يُعْتَبَرُ تَوْجِيهًا قُرْآنِيًّا لِعِلَاجِ مَشَاكِلِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَقَضِيَّةِ الْأَوْلَادِ التَّعْقِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [64 \ 14] ، أَيْ: إِنَّ عَدَاوَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقَابَلَ إِلَّا بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ أَوْ يُذْهِبُ أَوْ يُجَنِّبُ الزَّوْجَ وَالْوَالِدَ نَتَائِجَ هَذَا الْعَدَاءِ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْمُشَاحَّةِ وَالْخِصَامِ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [64 \ 15] أَيْ: قَدْ تَفْتِنُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [63 \ 9] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» كَمَا أَشَرْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي حُدُودِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [2 \ 286] . وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ اللَّهُ قَدْ فَعَلْتُ» ، وَهَذَا فِي الْأَوَامِرِ دُونَ النَّوَاهِي ; لِأَنَّ النَّوَاهِيَ تُرُوكٌ. كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ» ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ أَوَاخِرِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي رُخَصِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قَالُوا: الشُّحُّ، أَخَصُّ مِنَ الْبُخْلِ، وَقِيلَ الْبُخْلُ: أَنْ تَضِنَّ بِمَالِكَ، وَالشُّحُّ أَنْ تَضِنَّ بِمَالِ غَيْرِكَ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الشُّحَّ مُنْتَهَى الْبُخْلِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ هُنَا بَعْدَ قَضَايَا الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَفِتْنَتِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [64 \ 16] ، يُشْعِرُ بِأَنَّ أَكْثَرَ قَضَايَا الزَّوْجِيَّةِ مَنْشَؤُهَا مِنْ جَانِبِ الْمَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 حِرْصًا عَلَيْهِ أَوْ بُخْلًا بِهِ، حِرْصًا عَلَيْهِ بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ بِسَبَبِهِمْ، فَقَدْ يُفْتَنُ فِي ذَلِكَ، وَشُحًّا بِهِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ فَقَدْ يُعَادُونَهُ فِيهِ. وَالْعِلَاجُ النَّاجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِنْفَاقُ وَتَوَقِّي الشُّحِّ، وَالشُّحُّ مِنْ جِبِلَّةِ النَّفْسِ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [4 \ 128] ، وَفِي إِضَافَةِ الشُّحِّ إِلَى النَّفْسِ مَعَ إِضَافَةِ الْهِدَايَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْقَلْبِ سِرٌّ لِطَيْفٌ، وَهُوَ أَنَّ الشُّحَّ جِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْهِدَايَةَ مِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَالْأُولَى قُوَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ قُوَّةٌ رُوحِيَّةٌ. فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُغَالِبَ بِالْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ ; لِيَنَالَ الْفَلَاحَ وَالْفَوْزَ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. ثُمَّ قَالَ: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [18 \ 46] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا. أَيْ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَلَا كَقَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمْ: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [71 \ 7] . وَقَدْ نَدَّدَ بِقَوْلِ الْكُفَّارِ: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [41 \ 26] . قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: اسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ، وَأَطِيعُوا فِيمَا سَمِعْتُمْ، لَا كَمَنْ قَبْلَكُمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُضَاعِفُ الْإِنْفَاقَ سَبْعَمِائَةٍ إِلَى أَكْثَرَ بِقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [2 \ 261] . وَأَصْلُ الْقَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ وَفِي الشَّرْعِ قَطْعُ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ يُعْطِيهِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرُدُّ أَضْعَافًا، وَقَدْ سَمَّى مُعَامَلَتَهُ مَعَ عَبِيدِهِ قَرْضًا وَبَيْعًا وَشِرَاءً وَتِجَارَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يُعْطِيهِ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ الْآيَةَ [64 \ 17] . وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [9 \ 111] . وَقَوْلِهِ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [9 \ 111] . وَقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ الْآيَةَ [61 \ 10 - 11] ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [35 \ 29] . وَالْقَرْضُ الْحَسَنُ هُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ. اهـ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِقَوْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَعْنَى الْقَرْضِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [2 \ 264] ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْفِقْ بِإِخْلَاصٍ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَمَجِئُ الْحَسَنِ عَلَى الْقَرْضِ الْحَسَنِ هُنَا بَعْدَ قَضِيَّةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْأَوْلَادِ وَتَوَقِّي الشُّحِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْقَرْضِ الْحَسَنِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [2 \ 215] . وَأَقْرَبُ الْأَقْرَبِينَ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ هُمُ الْأَوْلَادُ وَالزَّوْجَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ: «حَتَّى اللُّقْمَةَ يَضَعُهَا الرَّجُلُ فِي فِي امْرَأَتِهِ» . وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [64 \ 17] . قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: شُكْرُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ هُوَ مُجَازَاتُهُ لَهُ بِالْأَجْرِ الْجَزِيلِ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ. وَقَوْلُهُ: حَلِيمٌ، أَيْ: لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ بَلْ يَسْتُرُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ ذُنُوبٍ. وَمَجِئُ هَذَا التَّذْيِيلِ هُنَا يُشْعِرُ بِالتَّوْجِيهِ فِي بَعْضِ نَوَاحِي إِصْلَاحِ الْأُسْرَةِ، وَهُوَ أَنْ يَقْبَلَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَمَلَ الْآخَرِ بِشُكْرٍ، وَيُقَابِلُ كُلَّ إِسَاءَةٍ بِحِلْمٍ لِيَتِمَّ مَعْنَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ يَسْتَحِقُّ الْمُقَابَلَةَ بِالشُّكْرِ وَالْعَدَاوَةَ تُقَابَلُ بِالْحِلْمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 قَوْلُهُ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. مَجِئُ الْآيَةِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَةِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [6 \ 59] ، وَمَجِيئُهُ هُنَا أَيْضًا يُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّقَابَةَ عَلَى الْأُسْرَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي عُزْلَةٍ عَنِ النَّاسِ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا اللَّهُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَيْ فَلْيُرَاقِبْ كُلٌّ مِنْهُمَا رَبَّهُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمُجَازِيًا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى فِعْلِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الطَّلَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ الْآيَةَ. قِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَنَزَلَتْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا لَوْ أَخَذْنَا بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ النَّسَقَ الْكَرِيمَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، حَيْثُ كَانَ آخِرَ مَا قَبْلَهَا مَوْضُوعُ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ مِنْ فِتْنَةٍ وَعَدَاءٍ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى عِلَاجِ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ إِنْفَاقٍ وَتَسَامُحٍ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا هُنَاكَ، فَإِنْ صَلُحَ مَا بَيْنَهُمْ بِذَاكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ تَعَذَّرَ مَا بَيْنَهُمَا وَكَانَتِ الْفُرْقَةُ مُتَحَتِّمَةً فَجَاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى إِثْرِهَا تُبَيِّنُ طَرِيقَةَ الْفُرْقَةِ السَّلِيمَةِ فِي الطَّلَاقِ وَتَشْرِيعِهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ عِدَدٍ وَإِنْفَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، بِالنِّدَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: إِذَا طَلَّقْتُمُ بِخِطَابٍ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، قَالُوا: كَانَ النِّدَاءُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ تَكْرِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَكْلِيفًا لِلْأُمَّةِ. وَقِيلَ: خُوطِبَتِ الْأُمَّةُ فِي شَخْصِيَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَخِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي شَخْصِيَّةِ رَئِيسِهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: وَلِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ خِطَابِ الْأُمَّةِ. اهـ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُوَجَّهَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: قَدْ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْأُمَّةُ بِلَا خِلَافٍ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 [17 \ 23 - 24] . فَكُلُّ صِيَغِ الْخِطَابِ هُنَا مُوَجَّهَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَطْعًا لَيْسَ مُرَادًا بِذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ وَالِدَيْنِ، وَلَا أَحَدِهِمَا عِنْدَ نُزُولِهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ قَطْعًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [33 \ 50] . وَالثَّالِثُ: هُوَ الشَّامِلُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِغَيْرِهِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [66 \ 1] ، فَهَذَا كُلُّهُ خِطَابٌ مُوَجَّهٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ بِخِطَابِ الْجَمِيعِ: تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [66 \ 2] فَدَلَّ أَنَّ الْآيَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [66 \ 1] ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَقْوَى دَلِيلٍ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، إِلَى قَوْلِهِ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [30 - 31] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ الْآيَةَ، يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ الْمُطَلَّقَاتِ مِنَ النِّسَاءِ يُطَلَّقْنَ لِعِدَّتِهِنَّ وَتُحْصَى عِدَّتُهُنَّ. وَالْإِحْصَاءُ الْعَدَدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَصَا، وَهُوَ الْحَصَا الصَّغِيرُ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ فِي الْعَدَدِ لِأُمِّيَّتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ عِدَدٍ لِبَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَهُنَّ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَنْ لَا عِدَّةَ لَهُنَّ وَهُنَّ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَمِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ عِدَّتَهُنَّ هُنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لَا عُمُومَ وَلَا تَخْصِيصَ ; لِأَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْبَعْضِ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ حُكْمُهُنَّ بِذِكْرِ عِدَّتِهِنَّ، وَهُنَّ اللَّاتِي يَئِسْنَ وَالصَّغِيرَاتُ وَذَوَاتُ الْحَمْلِ، وَحَاصِلُ عِدَدِ النِّسَاءِ تَتَلَخَّصُ فِي الْآتِي، وَهِيَ أَنَّ الْفُرْقَةَ إِمَّا بِحَيَاةٍ أَوْ بِمَوْتٍ، وَالْمُفَارَقَةُ إِمَّا حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ، فَالْحَامِلُ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا اتِّفَاقًا، وَلَا عِبْرَةَ بِالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ، وَغَيْرُ الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 مَدْخُولٌ بِهَا وَغَيْرُ مَدْخُولٍ، وَالْمُفَارَقَةُ بِالْحَيَاةِ إِمَّا مَدْخُولٌ بِهَا أَوْ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، فَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِجْمَاعًا، وَالْمَدْخُولُ بِهَا إِمَّا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ عَلَى خِلَافٍ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرْءِ. وَأَمَّا مَنْ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، كَالْيَائِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، فَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [2 \ 228] ، وَفَصْلُ أَنْوَاعِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَأَنْوَاعُ الْعِدَدِ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوِ الْحَمْلِ، وَبَيَّنَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ هُنَا. تَنْبِيهٌ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي خُصُوصِ الْحَرَائِرِ، وَبَقِيَ مَبْحَثُ الْإِمَاءِ. أَمَّا الْإِمَاءُ: فَالْحَوَامِلُ مِنْهُنَّ كَالْحَرَائِرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَغَيْرُ الْحَوَامِلِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ إِلَّا أَنَّ الْحَيْضَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ تَتَجَزَّأُ فَجُعِلَتْ عِدَّتُهَا فِيهَا حَيْضَتَيْنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. أَمَّا ذَاتُ الْأَشْهُرِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ شَهْرًا وَنِصْفًا، وَخَالَفَ مَالِكٌ فَجَعَلَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَيَكُونُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ رُشْدٍ مَعَ مَالِكٍ فِي نِقَاشِهِ مَعَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: وَقَدْ اضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا بِالنَّصِّ أَخَذَ وَلَا بِالْقِيَاسِ عَمِلَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِالنَّصِّ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ فَيَجْعَلْ لَهُنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، كَمَا أَخَذَ بِهِ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، حَيْثُ جَعَلَ لَهُنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْقِيَاسِ عَمِلَ، أَيْ: فَلَمْ يُنَصِّفِ الْأَشْهُرَ قِيَاسًا عَلَى الْحَيْضِ، فَكَانَ مَذْهَبُهُ مُلَفَّقًا بَيْنَ الْقِيَاسِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَالنَّصِّ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، فَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ. وَاضْطَرَبَ قَوْلُهُ فِي نَظَرِ ابْنِ رُشْدٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّرِدِ الْقِيَاسَ فِيهِمَا، وَلَا أَعْمَلَ النَّصَّ فِيهِمَا، وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ وِجْهَةِ النَّظَرِ عَنِ الْمُخَالِفِ، فَقَدْ يَكُونُ مُحِقًّا، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا الْحَقُّ مَعَ غَيْرِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالذَّاتِ أَشَارَ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: بِأَنَّ وِجْهَةَ نَظَرِ مَالِكٍ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْغَرَضِ مِنَ الْعِدَّةِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَالشَّهْرُ وَالنِّصْفُ لَا يَكْفِي لِلْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهَا عَمَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا أَمْ لَا، فَأَكْمَلَ لَهَا الْمُدَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا. أَمَّا الْحَيْضَتَانِ: فَفِيهِمَا بَيَانٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ. اهـ. مُلَخَّصًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْعَدَوِيُّ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ ذَاتَ الْأَقْرَاءِ وَجَدْنَاهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، كَمَا جَاءَ النَّصُّ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ، وَوَجَدْنَا الْأَمَةَ تَثْبُتُ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا فِي غَيْرِ هَذَا بِحَيْضَتَيْنِ قَطْعًا، وَهِيَ فِيمَا إِذَا كَانَتْ سُرِّيَّةً لِمَالِكِهَا فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَإِنَّهُ يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ، وَالَّذِي يَشْتَرِيهَا يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، ثُمَّ هُوَ يَفْتَرِشُهَا وَيَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ فِي الْحَيْضَتَيْنِ بَرَاءَةً لِلرَّحِمِ، فَاكْتَفَى بِهِمَا مَالِكٌ وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ. وَأَمَّا الشَّهْرُ وَالنِّصْفُ فَإِنَّهُمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَيَّنَ الْمَرْأَةُ فِيهِمَا حَمْلًا ; لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَهِيَ مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْحَقَّ مَعَ مَالِكٍ، وَأَنَّ ابْنَ رُشْدٍ هُوَ الَّذِي اضْطَرَبَتْ مَقَالَتُهُ عَلَى مَالِكٍ، وَقَدْ سُقْنَا هَذَا التَّنْبِيهَ لِبَيَانِ وَاجِبِ طَالِبِ الْعِلْمِ أَمَامَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَحْثِ عَنِ السَّبَبِ وَوِجْهَةِ نَظَرِ الْمُخَالِفِ وَعَدَمِ الْمُبَادَرَةِ لِلْإِنْكَارِ، لِأَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُسَارِعَ لِرَدِّ قَوْلٍ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ لِاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ وَفِيهِ مَبْحَثُ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهِمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأُلْحِقَتْ بِهِمَا الصَّغِيرَةُ، وَالطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ هُوَ جَمْعُ الثَّلَاثِ فِي مَرَّةٍ أَوِ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضَةِ أَوْ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ. وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُفَرِّقُ الطَّلَقَاتِ عَلَى الصَّغِيرَةِ كُلَّ طَلْقَةٍ فِي شَهْرٍ وَلَا يَجْمَعُهَا، وَقَدْ طَالَ الْبَحْثُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ، هَلْ يَقَعُ وَيُحْتَسَبُ عَلَى الْمُطَلِّقِ، أَمْ لَا؟ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» . وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ، وَمَنْ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ، وَعَلَيْهِ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 يُرَاجِعَهَا، وَلْيَعْمَلْ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ، أَيْ: لِتَسْتَقْبِلْ عِدَّتَهَا مَا لَمْ تَكُنِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ أَوْ بِالثَّلَاثِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنِ الِاعْتِدَادِ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ فِي الْحَيْضَةِ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُرَاجِعْهَا» ، يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ إِلَّا مِنْ طَلَاقٍ. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي إِحْكَامِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا دَاعِيَ إِلَى سَرْدِهِ، وَحَاصِلُهُ مَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا إِلَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ عَلَى إِطْلَاقِهِ يُشْعِرُ بِالِاعْتِدَادِ بِالطَّلَاقِ سُنِّيًّا كَانَ أَوْ بِدْعِيًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ إِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، مَعَ أَنَّهُنَّ إِذَا بَلَغْنَ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ خَرَجْنَ مِنَ الْعِدَّةِ وَانْتَهَى وَجْهُ الْمُرَاجَعَةِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا إِذَا قَارَبْنَ أَجَلَهُنَّ وَلَمْ يَتَجَاوَزْنَهُ أَوْ يَصِلْنَ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [16 \ 98] . وَمِثْلُ الْآيَةِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» ، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِتْيَانِ أَوْ أَثْنَاءَهُ لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُهُ إِذَا قَارَبَ دُخُولَهُ، فَكَذَلِكَ هُنَا. أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثًا وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [2 \ 229] ، مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَوْنِ الْعِدَدِ مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ مِنْ أَقْرَاءٍ إِلَى أَشْهُرٍ إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ، وَالْمُعْتَدَّاتُ مُتَفَاوِتَاتُ الْأَقْرَاءِ وَأَمَدِ الْحَمْلِ، فَقَدْ تَكُونُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ إِحْصَائِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُرْمَةٍ وَحِلِّيَّةٍ، فَتَخْرُجُ مِنْ عِدَّةِ هَذَا وَتَحِلُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 لِذَاكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [2 \ 235] وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْإِحْصَاءِ. وَالْإِحْصَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، مُؤَكِّدٌ لِهَذَا كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَيًّا كَانَ هُوَ قَدْرًا لَا يَتَعَدَّاهُ لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا بِنَقْصٍ، وَلَفْظُ شَيْءٍ أَعَمُّ الْعُمُومَاتِ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَمِنَ الْآيَاتِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 \ 49] . وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [25 \ 2] . وَقَوْلُهُ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] . وَقَدْ جَمَعَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [15 \ 21] . وَمِنَ التَّقْدِيرِ الْخَاصِّ فِي مَخْصُوصِ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [36 \ 38 - 40] . إِنَّهَا قُدْرَةٌ بَاهِرَةٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَإِرَادَةٌ قَاهِرَةٌ، وَسُلْطَةٌ غَالِبَةٌ، قُدْرَةُ مَنْ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ: أَنَّ حِسَابَ مَسِيرِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ فِي مَنَازِلِهَا أَدَقُّ مَا يَكُونُ مِنْ مِئَاتِ أَجْزَاءِ الثَّانِيَةِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ جُزْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ لَاخْتَلَّ نِظَامُ الْعَالَمِ وَلَمَا صَلُحَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَيَاةٌ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ حَرَكَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنُقْصَانَهُمَا وَزِيَادَتَهُمَا وَفُصُولَ السَّنَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [73 \ 20] . وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يُحْصِيهِ، وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِوُجُودِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ وَبَعْدَ وُجُودِهِ، قَالَ تَعَالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [80 \ 18 - 19] ، أَيْ: قَدَّرَ خَلْقَهُ وَصُورَتَهُ وَنَوْعَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [42 \ 49 - 50] . وَهَذَا أَيْضًا مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ يَرُدُّ بِهَا سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ جَحَدَ وُجُودَ اللَّهِ وَكَفَرَ بِالْبَعْثِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 كَمَا فِي مُسْتَهَلِّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [80 \ 17 - 18] . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةِ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى قُدْرَتَهَا وَصُورَتَهَا حَتَّى صَارَتْ خَلْقًا سَوِيًّا، وَجَعَلَ لَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا، وَشَفَتَيْنِ أَيْ: وَأَنْفًا وَأُذُنَيْنِ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ وَكُلَّ جِهَازٍ فِيهِ حَيَّرَ الْحُكَمَاءَ فِي صُنْعِهِ وَنِظَامِهِ. ثُمَّ قَدَّرَ تَعَالَى أَرْزَاقَهُ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ وُجُودِهِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَجَعَلَهُ آيَةً عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَاتَبَ الْإِنْسَانَ عَلَى كُفْرِهِ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [41 \ 9 - 10] . وَبَعْدَ وُجُودِ الْكَوْنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ قَدَّرَ فِي الْإِيجَادِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [41 \ 24 - 28] . ثُمَّ إِنَّ صَبَّ هَذَا الْمَاءِ كَانَ بِقَدَرٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ [23 \ 18] . وَقَوْلِهِ: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [42 \ 27] ، أَيْ: بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُمْ وَلَوْ زَادَهُ لَفَسَدَ حَالُهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ قَبْلَهَا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [24 \ 27] ، وَبِقَدْرِ مَصْلَحَتِهِمْ يُنَزِّلُ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ. كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [96 \ 6 - 7] . هَذِهِ لَمْحَةٌ عَنْ حِكْمَةِ تَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَالَّذِي قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُجُودِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [87 \ 3] . وَكَمَا فِي حَدِيثِ الْقَلَمِ وَكِتَابَةِ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُجُودِهِ بِزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَمِقْدَارِهِ، إِنَّ آيَةَ الْقُدْرَةِ وَبَيَانَ الْعَجْزِ قُدْرَةُ الْخَالِقِ وَعَجْزُ الْمَخْلُوقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [7 \ 34] . وَكَقَوْلِهِ: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] أَيْ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [56 \ 83 \ - 87] كَلَّا إِنَّهُمْ مَدِينُونَ وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا إِرْجَاعَهَا. وَهُنَا يُقَالُ لِلدَّهْرِيِّينَ وَالشُّيُوعِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَعَزِيزٍ قَهَّارٍ، إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ بِتَقْدِيرَاتِهِ وَنُظُمِهِ لَآيَةٌ شَاهِدَةٌ وَبَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [36 \ 83] . كَمَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا إِنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ نَافِذٌ، وَمَا قُدِّرَ لِلْعَبْدِ آتِيهِ، وَمَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ لَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، طُوِيَتِ الصُّحُفُ وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ: لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [57 \ 23] . وَيُقَالُ مَرَّةً أُخْرَى: اعْمَلُوا كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. فِيهِ إِطْلَاقٌ لِوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ هُوَ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَصْدُقَ بِوَضْعِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَلَكِنِ اشْتُرِطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ خِلْقَةُ الْإِنْسَانِ لَا مُضْغَةً وَلَا عَلَقَةً، كَمَا أَنَّ فِيهِ إِطْلَاقَ الْأَجَلِ سَوَاءٌ لِلْمُطَلَّقَةِ أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مِنْ أَنَّهُ يَنْقَضِي أَجَلُ الْحَوَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - وَهُنَا مَبْحَثُ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ لِلشَّيْخِ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى الْآيَةَ (13 \ 8) . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ. بَيَّنَ تَعَالَى مُدَّةَ الرَّضَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [2 \ 233] . وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ زِيَادَةً عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِتَمْرِينِ الطِّفْلِ عَلَى الْفِطَامِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ. فَإِذَا أَمْكَنَ فِطَامُ الطِّفْلِ قَبْلَهَا بِدُونِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا مَانِعَ، وَعَلَى الْوَالِدِ إِيتَاءُ الْأُجْرَةِ عَلَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ إِلَى الْفِطَامِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُدَّةَ الشَّرْعِيَّةَ كَمَا هُنَا أَوِ الْفِعْلِيَّةَ قَبْلَهَا. وَلَيْسَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 مُلْزَمًا بِمَا زَادَ عَلَى الْحَوْلَيْنِ فِي نَصِّ الْآيَةِ. وَالِائْتِمَارُ بِمَعْرُوفٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ لِلْعُرْفِ دَخْلًا فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ تَنْبِيهٌ صَرِيحٌ بِأَنْ لَا يُضَارَّ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ بِوَلَدِهِ وَأَنْ تَكُونَ الْمُفَاهَمَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ سَوَاءٌ فِي خُصُوصِ الرَّضَاعِ أَوْ غَيْرِهِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالتَّسَامُحِ وَالْإِحْسَانِ وَفَاءً لِحَقِّ الْعِشْرَةِ السَّابِقَةِ، وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا الْآيَةَ. ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ أَنَّ كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ فَهِيَ إِخْبَارٌ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَذَكَرَ إِعْرَابَهَا، وَالْمَعْنَى: كَثِيرٌ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا أَيْ: تَكَبَّرَتْ وَطَغَتْ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ لِلْمَعْنَى بِالْأَمْثِلَةِ وَالشَّوَاهِدِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [22 \ 45] فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» . وَمِمَّا قَدَّمَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [18 \ 59] ، بَيَانٌ لِأَصْحَابِ الرِّئَاسَةِ وَرِجَالِ السِّيَاسَةِ أَنَّ هَلَاكَ الدُّنْيَا بِفَسَادِ الدِّينِ، وَأَنَّ أَمْنَ الْقُرَى وَطُمَأْنِينَةَ الْعَالَمِ بِالْحِفَاظِ عَلَى الدِّينِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي عَامَّةِ النَّاسِ لِلْحِفَاظِ عَلَى دِينِهِمْ وَسَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ، فَحَمَّلَ الشَّارِعُ مُهِمَّتَهُ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوِ الْقَلْبِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ، وَمَعَ ضَعْفِهِ فَفِيهِ الْإِبْقَاءُ عَلَى دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى تَغْيِيرِهِ. قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ بِبَيَانِ حَالِ الَّذِينَ مَكَّنَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِنَصْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [22 \ 41] . ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْأُمَمَ الَّتِي كَذَّبَتْ وَعَتَتْ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَلُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ. ثُمَّ قَالَ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [22 \ 45] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ. جَاءَ فِي بَيَانِ السَّمَاوَاتِ أَنَّهَا سَبْعٌ طِبَاقٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا [67 \ 3] . وَبَيَّنَ الْحَدِيثُ فِي الْإِسْرَاءِ أَنَّ مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَجَاءَ لَفْظُ السَّمَاءِ مُفْرَدًا وَجَمْعًا، فَالْمُفْرَدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [91 \ 5] . وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [2 \ 22] . أَمَّا الْأَرْضُ فَلَمْ يَأْتِ لَفْظُهَا إِلَّا مُفْرَدًا، وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلُهَا كَتَفْصِيلِ السَّمَاءِ سَبْعًا طِبَاقًا، فَاخْتُلِفَ فِي الْمِثْلِيَّةِ فَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ تَامَّةٌ عَدَدًا وَطِبَاقًا وَخَلْقًا، وَقِيلَ: عَدَدًا وَأَقَالِيمَ يَفْصِلُهَا الْبِحَارُ، وَقِيلَ: عَدَدًا طِبَاقًا مُتَرَاكِمَةً كَطَبَقَاتِ الْبَصَلَةِ مَثَلًا، وَلَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ مِنْ أَوْجُهِ الْبَيَانِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَوُجِدَ فِي السُّنَّةِ فَإِنَّهُ يُبَيَّنُ بِهَا ; لِأَنَّهَا وَحْيٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ سَبْعُ أَرَضِينَ كَمَا فِي حَدِيثِ: «مَنِ اغْتَصَبَ أَرْضًا أَوْ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ مُوسَى لَمَّا قَالَ: «يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَدْعُوكَ بِهِ فَقَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كُلُّ النَّاسِ يَقُولُونَ ذَلِكَ، قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ لَمَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ أَثْبَتَتْ أَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعٌ، وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلٌ لِلْكَيْفِيَّةِ وَلَا لِلْهَيْئَةِ فَثَبَتَ عِنْدَنَا الْعَدَدُ وَلَمْ يَثْبُتْ غَيْرُهُ، فَنُثْبِتُهُ وَنَكِلُ غَيْرَهُ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ثُبُوتَ الْعَدَدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ مِثْلِيَّةَ الْأَرْضِ لِلسَّمَاءِ لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاءِ مُجْمَلَةً مَعَ ذِكْرِ الْعَدَدِ وَلَمْ يُذْكَرْ عِنْدَ تَفْصِيلِهَا بِطِبَاقٍ مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمِثْلِيَّةِ الْعَدَدُ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَا يَتَنَافَى مَعَ أَفْرَادِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ جَمْعَهُ شَاذٌّ. كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَأَرَضُونَ شَذَّ وَالسُّنُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَنَّ هُنَاكَ مِنْ حَالَاتِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْخَلْقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [18 \ 51] ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ عَاجِزِينَ عَنْ كَيْفِيَّةِ خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا تَفْصِيلَاتٍ جُزْئِيَّةً، وَالْمُهِمُّ مِنَ السِّيَاقِ وَالْغَرَضِ الْأَسَاسِيِّ، تَنْبِيهُ الْخَلْقِ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [65 \ 12] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ التَّحْرِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْآيَةَ. تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَبْلَهَا بَيَانُ عَلَاقَةِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ الْعَسَلَ أَوْ هُوَ مَارِيَةُ جَارِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحِهِ عَنِ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [66 \ 1] ، ظَاهِرٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِتَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [80 \ 1 - 3] . وَكِلَاهُمَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالْجَانِبِ الشَّخْصِيِّ سَوَاءٌ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ الْأَزْوَاجِ، أَوِ اسْتِرْضَاءُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْإِسْلَامِيَّ لَا مَدْخَلَ لِلْأَغْرَاضِ الشَّخْصِيَّةِ فِيهِ. وَبِهَذَا نَأْخُذُ بِقِيَاسِ الْعَكْسِ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ إِعْمَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ كَانَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ غَيْرَهَا. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ أَزْوَاجِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ إِحْلَالُ وَتَجْوِيزُ مَا لَا يَجُوزُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِنَّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. أَمَّا تَحِلَّةُ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةُ الْحَنْثِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [2 \ 225] . أَمَّا حَقِيقَة ُ التَّحْرِيمِ هُنَا، وَنَوْعُ الْكَفَّارَةِ، وَهَلْ كَفَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ أَمْ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ لِتَكْفِيرٍ، فَقَدْ أَوْضَحَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 وَفِي الْأَضْوَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» : وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [33 \ 4] ، وَذَلِكَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ نَحْوُ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَرَجَّحَ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ ظِهَارٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَنَاقَشَ الْمَسْأَلَةَ بِأَدِلَّتِهَا هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا. أُطْلِقَتِ التَّوْبَةُ هُنَا وَقُيِّدَتْ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا بِأَنَّهَا تَوْبَةٌ نَصُوحٌ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [66 \ 8] . وَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَشُرُوطُهَا وَآثَارُهَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [24 \ 31] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا. قَالَ الشَّيْخُ فِي إِمْلَائِهِ: (صَغَتْ) : بِمَعْنَى مَالَتْ وَرَضِيَتْ وَأَحَبَّتْ مَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. وَقَالَ: (وَقُلُوبُكُمَا) جَمْعٌ مَعَ أَنَّهُ لِاثْنَتَيْنِ هُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ، فَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْلُومٌ وَالْجَمْعَ أَخَفُّ مِنَ الْمُثَنَّى إِذَا أُضِيفَ. وَقِيلَ هُوَ مِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [4 \ 11] . وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْكُمَا ; لِأَنَّ قُلُوبَكُمَا مَالَتْ إِلَى مَا لَا يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ. وَقَدَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: الْوَقْفُ عَلَى (مَوْلَاهُ) ، وَتَكُونُ الْوَلَايَةُ خَاصَّةً بِاللَّهِ، وَيَكُونُ (جِبْرِيلُ) مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ عُطِفَ عَلَيْهِ، (وَظَهِيرٌ) خَبَرٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ جِبْرِيلُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ بِالْخُصُوصِ أَوَّلًا وَبِالْعُمُومِ ثَانِيًا. وَقِيلَ: الْوَقْفُ عَلَى (جِبْرِيلَ) مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي الْوِلَايَةِ، ثُمَّ ابْتُدِئَ بِصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُطِفَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ جِبْرِيلُ ضِمْنًا. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 فَعَلَى الْوَقْفِ الْأَوَّلِ يَكُونُ دَرْجُ صَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ تَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ صَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَانِ مَنْزِلَتِهِمْ مِنْ عُمُومِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ جِبْرِيلَ، وَعَلَى الْوَقْفِ الثَّانِي فِيهِ عِطْفُ جِبْرِيلَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي الْوَلَايَةِ بِالْوَاوِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوهِمُ التَّعَارُضَ مَعَ الْحَدِيثِ فِي ثُمَّ إِذْ مَحَلُّ الْعَطْفِ هُوَ الْوِلَايَةُ، وَهِيَ قَدْرٌ مُمْكِنٌ مِنَ الْخَلْقِ وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [8 \ 62] لِأَنَّ النَّصْرَ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ، مِنْ بَابِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [9 \ 40] . وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [59 \ 8] . وَقَوْلِهِ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [3 \ 52] ، بِخِلَافِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَقَدْ كَانَ فِي مَوْضُوعِ الْمَشِيئَةِ حِينَمَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [81 \ 29] ، وَكَقَوْلِهِ: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا [13 \ 31] ، وَكَقَوْلِهِ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [30 \ 4] . وَمِنَ اللَّطَائِفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَا سَمِعْتُهُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَتَانِ فَقَطْ تَآمَرَتَا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَجَاءَ بَيَانُ الْمُوَالِينَ لَهُ ضِدَّهُمَا كُلَّ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ، مَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ كَيْدِهِنَّ وَضَعْفِ الرِّجَالِ أَمَامَهُنَّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [12 \ 28] ، بَيْنَمَا قَالَ فِي كَيْدِ الشَّيْطَانِ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [4 \ 76] . وَقَدْ عَبَّرَ الشَّاعِرُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَا اسْتَعْظَمَ الْإِلَهُ كَيْدَهُنَّهْ ... إِلَّا لِأَنَّهُنَّ هُنَّ هُنَّهْ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا. فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ الَّتِي يَخْتَارُهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّسَاءِ هِيَ تِلْكَ الصِّفَاتُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 وَجَاءَ الْحَدِيثُ «فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [2 \ 221] . وَفِي تَقْدِيمِ الثَّيِّبَاتِ عَلَى الْأَبْكَارِ هُنَا فِي مَعْرِضِ التَّخْيِيرِ مَا يُشْعِرُ بِأَوْلَوِيَّتِهِنَّ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ: «هَلَّا بِكْرًا تُدَاعِبُكَ وَتُدَاعِبُهَا» ، وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، فَفِيهِ أَوْلَوِيَّةُ الْأَبْكَارِ، وَقَدْ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ هَذَا لِلتَّنْوِيعِ فَقَطْ، وَأَنَّ الثَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَبْكَارَ فِي الْجَنَّةِ كَمَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَقَامِ الِانْتِصَارِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَنْبِيهِهِنَّ لِمَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ عِنْدَهُنَّ ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ دِينًا وَخُلُقًا، وَقَدَّمَ الثَّيِّبَاتِ ; لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ فِيهِنَّ بِحَسَبِ الْعِشْرَةِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ، لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ طَلَّقَهُنَّ، أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ لِلتَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُنَّ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، بِأَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ، وَلَمْ يُبْدِلْهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْهُنَّ. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِخْلَالَ الزَّوَاجِ إِلَيْهِ وَتَحْرِيمَ النِّسَاءِ بَعْدَهُنَّ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الْآيَةَ [33 \ 50] . وَقَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [33 \ 51] . وَقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ الْآيَةَ [33 \ 52] . وَبَيَّنَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ فِي ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الِاعْتِذَارِ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ وَلَا سَبَبَ النَّهْيِ عَنْهُ لِمَاذَا؟ وَلَا زَمَنَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعَ اعْتِذَارِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [7 \ 38] . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [6 \ 23] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 وَكَقَوْلِهِ بَعْدَهَا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [6 \ 27] فَهَذَا غَايَةٌ فِي الِاعْتِذَارِ، وَلَكِنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ، أَيْ: إِلَى الدُّنْيَا. وَقَدْ نُهُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِذَارِ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [30 \ 57] . وَقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [40 \ 52] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا. تَقَدَّمَتِ الْإِحَالَةُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطِ كَوْنِهَا نَصُوحًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا [24 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا النُّورِ وَحَالَتِهِمْ تِلْكَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [57 \ 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ. فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاتَلَ الْكُفَّارَ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ قَاتَلَ الْمُنَافِقِينَ قِتَالَهُ لِلْكُفَّارِ، فَمَا نَوَّعَ قِتَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُنَافِقِينَ وَبَيَّنَهُ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [25 \ 52] ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [25 \ 50] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَافِرُونَ، فَكَانَ جِهَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ وَمَعَ الْمُنَافِقِينَ بِالْقُرْآنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 كَمَا جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَدَمِ قَتْلِهِمْ ; لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَلَكِنْ كَانَ جِهَادُهُمْ بِالْقُرْآنِ لَا يَقِلُّ شِدَّةً عَلَيْهِمْ مِنَ السَّيْفِ، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا فِي خَوْفٍ وَذُعْرٍ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، وَأَصْبَحَتْ قُلُوبُهُمْ خَاوِيَةً كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، وَهَذَا أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُلَاقَاةِ بِالسَّيْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْخِيَانَةَ لَيْسَتْ زَوْجِيَّةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نِسَاءُ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ، وَلَكِنَّهَا خِيَانَةٌ دِينِيَّةٌ بِعَدَمِ إِسْلَامِهِنَّ وَإِخْبَارِ أَقْوَامِهِنَّ بِمَنْ يُؤْمِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ. اهـ. وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا بِتَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ، وَالتَّعْلِيلُ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [33 \ 53] . فَإِذَا كَانَ تَسَاؤُلُهُنَّ بِدُونِ حِجَابٍ يُؤْذِيهِ، وَالزَّوَاجُ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ غَيْرُ التَّسَاؤُلِ وَبِغَيْرِ الزَّوَاجِ؟ إِنَّ مَكَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ الزَّوْجِيَّةَ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا مَعَ الْكُفْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْقَرَابَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [26 \ 88] . وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الْآيَةَ [80 \ 34 - 35] . وَجَعَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَقَارِبِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مَعْرِضِ مُحَاضَرَةٍ لَهُ الِاسْتِطْرَادَ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ قِصَّةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَقِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ وَنُوحٍ مَعَ وَلَدِهِ، فَاسْتَكْمَلَ جِهَاتِ الْقَرَابَاتِ زَوْجَةٍ مَعَ زَوْجِهَا، وَوَلَدٍ مَعَ وَالِدِهِ، وَوَالِدٍ مَعَ وَلَدِهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ. «يَا فَاطِمَةُ اعْمَلِي ; فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . ثُمَّ قَالَ: لِيَعْلَمِ الْمُسْلِمُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ نَفْعَ أَحَدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَبِمَا يُكْرِمُ اللَّهُ بِهِ مَنْ شَاءَ بِالشَّفَاعَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَةَ [52 \ 21] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. جَاءَ فِي هَذَا الْمَثَلِ بَيَانٌ مُقَابِلٌ لِلْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَضُرُّهُ مُعَاشَرَةُ الْكَافِرِ، كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَنْفَعُهُ مُعَاشَرَةُ الْمُؤْمِنِ، وَفِي هَذَا الْمَثَلِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ: لَقَدِ اخْتَارَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ فِي طَلَبِهَا حُسْنَ الْجِوَارِ قَبْلَ الدَّارِ. اهـ. أَيْ: فِي قَوْلِهَا: ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ الْآيَةَ [66 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا. بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِالرُّوحِ بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [19 \ 17] ، وَهُوَ جِبْرِيلُ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ أَيْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا عَلَى أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْنُ اللَّهِ وَمِنْ رُوحِهِ تَعَالَى، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَبَيَانُ هَذَا الرَّدِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا تَعْدِيَةُ أَرْسَلَ بِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ يُمْكِنُ إِرْسَالُهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ فَرْقٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، بَيْنَمَا يُرْسِلُ نَفْسَهُ وَمَا يُرْسِلُ مَعَ غَيْرِهِ كَالرِّسَالَةِ وَالْهَدِيَّةِ، فَيُقَالُ فِيهِ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ الْآيَةَ [27 \ 35] . فَالْهَدِيَّةُ لَا تُرْسَلُ بِنَفْسِهَا، وَمِثْلُهُ بَعَثْتُ، تَقُولُ: بَعَثْتُ الْبَعِيرَ مِنْ مَكَانِهِ، وَبَعَثْتُ مَبْعُوثًا، وَبَعَثْتُ بِرِسَالَةٍ، ثَانِيًا قَوْلُهُ: فَتَمَثَّلَ لَهَا لَفْظُ الرُّوحِ مُؤَنَّثٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [56 \ 83 - 84] ، أَنَّثَ الْفِعْلَ فِي بَلَغَتْ، وَهُنَا الضَّمِيرُ مُذَكَّرٌ عَائِدٌ لِجِبْرِيلَ. وَقَوْلُهُ: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّصَارَى، لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى هَذَا التَّمْثِيلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 ثَالِثًا قَوْلُهُ لَهَا: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [19 \ 19] وَرَسُولُ رَبِّهَا هُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَيْسَ رُوحَهُ تَعَالَى. رَابِعًا: قَوْلُهُ: لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [19 \ 19] ، وَلَمْ يُقَلْ لِأَهَبَ لَكِ رُوحًا مِنَ اللَّهِ. وَمِنْ هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [38 \ 71] يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [15 \ 29] ، أَيْ: نَفَخْتُ فِيهِ الرُّوحَ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [15 \ 29] . فَلَوْ أَنَّ الرُّوحَ مِنَ اللَّهِ لَكَانَ آدَمُ أَوْلَى مِنْ عِيسَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِرْسَالَ رَسُولٍ لَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [3 \ 59] ، فَكَذَلِكَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا بَشَّرَتْهَا بِهِ الْمَلَائِكَةُ: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [3 \ 47] ، فَكُلٌّ مِنْ آدَمَ وَعِيسَى، قَالَ لَهُ تَعَالَى: كُنْ فَكَانَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْمُلْكِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِه ِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى تَبَارَكَ، وَذَكَرَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي مَعْنَاهَا. وَرَجَّحَ أَنَّهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ أَنَّهُ تَفَاعُلٌ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَالْمَعْنَى: تَكَاثَرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ مِنْ قَبْلِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ عَظَمَتَهُ وَتَقْدِيسَهُ. . إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَنْبِيهًا فِي عَدَمِ تَصْرِيفِهَا وَاخْتِصَاصِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَإِطْلَاقُ الْعَرَبِ إِيَّاهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ فِي إِمْلَائِهِ: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. أَيْ: نُفُوذُ الْمَقْدُورِ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَتَصَرَّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. اهـ. وَالتَّقْدِيمُ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ هُنَا بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ تَعَالَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْمَوْصُولِ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [36 \ 83] ; لِأَنَّ التَّقْدِيمَ بِالتَّسْبِيحِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ يُسَاوِي التَّقْدِيمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ، وَالْمَوْصُولُ بَعْدَ التَّسْبِيحِ بِصِلَتِهِ كَالْمَوْصُولِ بَعْدَ تَبَارَكَ وَصِلَتِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ [59 \ 23] ، وَهُنَا تَجْتَمِعُ الصِّفَتَانِ، فَالَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَمَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَا يُوَضِّحُهَا مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 الْآيَاتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] ، وَقَبْلَهَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [11 \ 7] . وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إِمْلَائِهِ: جَعَلَ لِلْعَالَمِ مَوْتَتَيْنِ وَإِحْيَاءَتَيْنِ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الْآيَةَ [2 \ 28] . وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَنْ أَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا عَدَمِيٌّ كَمَا زَعَمَ الْفَلَاسِفَةُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَدَمِيًّا لَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَلْقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً ما تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [ الملك : 3] الْآيَةَ. ذِكْرُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ الطِّبَاقِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ دُونَ تَفَاوُتٍ أَوْ فُطُورٍ بَعْدَ ذِكْرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ السَّبْعِ مِنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ضِمْنَ تَنْبِيهٍ عَقَدَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لَهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ سُورَةِ «ق» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [50 \ 6] وَقَالَ فِي إِمْلَائِهِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، مِنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَالْحِكْمَةِ وَالدِّقَّةِ فِي الصُّنْعِ، وَتَدْخُلُ السَّمَاوَاتُ فِي ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [27 \ 88] . وَإِتْقَانُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [20 \ 50] . وَقَوْلِهِ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [32 \ 7] . وَهَذَا الْحَالُ لِلسَّمَاءِ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَسَتَنْفَطِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [84 \ 1] : وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [25 \ 25] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 [21 \ 32] فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [50 \ 6] فِي سُورَةِ «ق» وَلَعَلَّ مَجِئَ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 2] تَوْجِيهٌ إِلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ وَإِبْدَاعِهِ فِي خَلْقِهِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ زِينَةِ السَّمَاءِ بِالْمَصَابِيحِ، وَجَعْلِهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ بَيَانًا كَامِلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [15 \ 16 - 18] . وَقَدْ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» لَا بُدَّ مِنْ ضَمِّهِ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ هُنَاكَ ; لِارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. تَنْبِيهٌ فَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْمُخْتَرَعَاتُ الْحَدِيثَةُ، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْجَدِيدَةِ وَالنَّاسُ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُبَادِرُ بِالْإِنْكَارِ، وَآخَرُ يُسَارِعُ لِلتَّصْدِيقِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِنُصُوصٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ. وَلَعَلَّ مِنَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْحَدِيثَةَ قِسْمَانِ: نَظَرِيَّةٌ تَتَعَارَضُ مَعَ صَرِيحِ الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ مَرْدُودَةٌ بِلَا نِزَاعٍ كَنَظَرِيَّةِ ثُبُوتِ الشَّمْسِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [36 \ 38] . وَنَظَرِيَّةٌ لَا تَتَعَارَضُ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ وَسَائِلِ الْعِلْمِ مَا يُؤَيِّدُهَا وَلَا يَرْفُضُهَا. فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُنَا مَوْقِفَ التَّثَبُّتِ وَلَا نُبَادِرُ بِحُكْمٍ قَاطِعٍ إِيجَابًا أَوْ نَفْيًا، وَذَلِكَ أَخْذًا مِنْ قَضِيَّةِ الْهُدْهُدِ وَسَبَأٍ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ لَمَّا جَاءَ يُخْبِرُهُمْ، وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَعْلَمْ عَنْهُمْ شَيْئًا فَلَمْ يُكَذِّبِ الْخَبَرَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْهُدْهُدِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عَنْهُمْ سَابِقًا، مَعَ أَنَّهُ وَصَفَ حَالَهُمْ وَصْفًا دَقِيقًا. وَكَانَ مَوْقِفُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَوْقِفَ التَّثَبُّتِ مَعَ مَا لَدَيْهِ مِنْ إِمْكَانِيَّاتِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 الرِّيحِ، وَالطَّيْرِ، وَالْجِنِّ، فَقَالَ لِلْمُخْبِرِ وَهُوَ الْهُدْهُدُ: سَنَنْظُرُ، أَصْدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْآوِنَةِ لَسْنَا أَشَدَّ إِمْكَانِيَّاتٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ آنَذَاكَ، وَلَيْسَ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ أَقَلَّ مِنَ الْهُدْهُدِ، فَلْيَكُنْ مَوْقِفُنَا عَلَى الْأَقَلِّ مَوْقِفَ مَنْ سَيَنْظُرُ أَيُصَدِّقُ الْخَبَرَ أَمْ يُظْهِرُ كَذِبَهُ؟ وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ هُوَ أَلَّا نُحَمِّلَ لَفْظَ الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ لَيْسَ صَرِيحًا فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، ثُمَّ يَظْهَرُ كَذِبُ النَّظَرِيَّةِ أَوْ صِدْقُهَا، فَنَجْعَلُ الْقُرْآنَ فِي مَعْرِضِ الْمُقَارَنَةِ مَعَ النَّظَرِيَّاتِ الْحَدِيثَةِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 42] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ. الْمَنْصُوصُ هُنَا إِرْجَاعُ الْبَصَرِ كَرَّتَيْنِ، وَلَكِنْ حَقِيقَةُ النَّظَرِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ. الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] . وَالثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [67 \ 3] . وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [67 \ 4] . وَلَيْسَ بَعْدَ مُعَاوَدَةِ النَّظَرِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مِنْ تَأْكِيدٍ، وَالْحَسِيرُ: الْعَيِيُّ الْكَلِيلُ الْعَاجِزُ الْمُتَقَطِّعُ دُونَ غَايَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَنْ مَدَّ طَرَفًا إِلَى مَا فَوْقَ غَايَتِهِ ... ارْتَدَّ خَسْآنَ مِنَ الطَّرَفِ قَدْ حَسَرَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ قَدْ حَسُرَ بَصَرُهُ يَحْسُرُ حُسُورًا، أَيْ: كَلَّ وَانْقَطَعَ نَظَرُهُ مِنْ طُولِ مَدًى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ حَسِيرٌ وَمَحْسُورٌ أَيْضًا. قَالَ: نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى ... فَعَادَ إِلَيَّ الطَّرَفُ وَهُوَ حَسِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا. فَالدُّنْيَا تَأْنِيثُ الْأَدْنَى أَيِ: السَّمَاءُ الْمُوَالِيَةُ لِلْأَرْضِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَقِيَّةَ السَّمَاوَاتِ لَيْسَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الَّتِي هِيَ النُّجُومُ وَالْكَوَاكِبُ كَمَا قَالَ: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [37 \ 6] . وَيَدُلُّ لِهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 الْمَفْهُومِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَمْرَانِ هُنَا، وَهُمَا: زِينَةُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. وَالثَّالِثَةُ عَلَامَاتٌ وَاهْتِدَاءٌ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَنْفُذُ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهَا أَجْرَامٌ مَحْفُوظَةٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «لَهَا أَبْوَابٌ وَتُطْرَقُ وَلَا يَدْخُلُ مِنْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ» . وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [7 \ 40] . وَكَذَلِكَ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى اهْتِدَاءٍ بِهَا فِي سَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلٌّ فِي وَضْعِهِ الَّذِي أَوْجَدَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الزِّينَةَ لَنْ تُرَى لِوُجُودِ جِرْمِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ أَنَّ النُّجُومَ خَاصَّةٌ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [37 \ 6 - 7] . وَمَفْهُومُ الدُّنْيَا عَدَمُ وُجُودِهَا فِيمَا بَعْدَهَا، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْطَانِ فِي غَيْرِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. هِيَ الشُّهُبُ مِنَ النَّارِ، وَالشُّهُبُ النَّارُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [27 \ 7] ، وَالرُّجُومُ وَالشُّهُبُ هِيَ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الشَّيَاطِينُ عِنْدَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [72 \ 9] . وَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 10] . وَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَ الْجِنُّ مِنْ نَارٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [55 \ 15] ، فَكَيْفَ تَحْرِقُهُ النَّارُ؟ فَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّارَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَالْأَقْوَى يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَضْعَفِ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [67 \ 5] وَالسَّعِيرُ: أَشَدُّ النَّارِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ طَبَقَاتٌ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا أَمْرٌ مَلْمُوسٌ، فَقَدْ تَكُونُ الْآلَةُ مَصْنُوعَةً مِنْ حَدِيدٍ وَتُسَلَّطَ عَلَيْهَا آلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ أَيْضًا، أَقْوَى مِنْهَا فَتَكْسِرُهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 كَمَا قِيلَ: لَا يَفِلُّ الْحَدِيدَ إِلَّا الْحَدِيدُ، فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُ أَصْلِهِ مِنْ نَارٍ أَلَّا يَتَعَذَّبَ بِالنَّارِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَمِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَبَعْدَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْذِيبَ بِالصَّلْصَالِ وَلَا بِالْفَخَّارِ، فَقَدْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِضَرْبَةٍ مِنْ قِطْعَةٍ مِنْ فَخَّارٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِثْبَاتٌ أَنَّ لِلنَّارِ حِسًّا وَإِدْرَاكًا وَإِرَادَةً، وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ لِلنَّارِ أَنَّهَا تَغْتَاظُ وَتُبْصِرُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَطْلُبُ الْمَزِيدَ، كَمَا قَالَ هُنَا: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [67 \ 8] . وَقَالَ: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [25 \ 12] . وَقَالَ: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [50] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا. بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لِلنَّارِ خَزَنَةً، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَزَنَةَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالنَّارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66 \ 6] . كَمَا بَيَّنَ عِدَّتَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [74] . وَقَالَ: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [74 \ 31] . وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَدْخُلُونَهَا جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [8 \ 38] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: هَذَا سُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ لِأَهْلِ النَّارِ، وَالنَّذِيرُ بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَإِنْ ذُكِرَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ إِنْكَارَهُ وَنَظِيرُهُ مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 الْقُرْآنِ: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ [2 \ 117] : بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، وَأَلِيمٌ [2 \ 10] : بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعِ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ فَالسَّمِيعُ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ. وَقَوْلُ غَيْلَانَ: وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمٌ أَيْ: مُؤْلِمٌ، وَالْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ. وَقَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُنْذِرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَدِلَّتِهِ بِتَوَسُّعٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَسَاقَ هَذِهِ الْآيَةَ هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ. قَدْ اعْتَرَفُوا بِمَجِئِ النَّذِيرِ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [35 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: أَيْ: قَالَ أَهْلُ النَّارِ: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) مَنْ يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ (أَوْ نَعْقِلُ) حُجَجَ اللَّهِ (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) ، أَيِ: النَّارِ، فَهُمْ يَسْمَعُونَ، وَلَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَعْقِلُونَ وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُونَ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [2 \ 7] . وَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [18 \ 57] . وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِدَّةُ نُصُوصٍ صَرِيحَةٍ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا أَصْلُ خِلْقَتِهِمُ الْكَامِلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 [76 \ 2] . وَفِي آخِرِ سُورَةِ «الْمُلْكِ» هَذِهِ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [67 \ 23] . وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا وَعَصَوْا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [2 \ 93] . وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [8 \ 21] . وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [8 \ 21] . وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [8 \ 31] . وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [41 \ 26] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى سَبَبَ عَدَمِ اسْتِفَادَتِهِمْ بِمَا يَسْمَعُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هَزُوًا [45 \ 7 - 9] . وَقَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [31 \ 7] . فَقَوْلُهُمْ هُنَا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ، أَيْ: سَمَاعَ تَعَقُّلٍ وَتَفَهُّمٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ. قَالَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: الِاعْتِرَافُ الْإِقْرَارُ، أَيْ: أَقَرُّوا بِذَنْبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الْإِقْرَارُ وَالنَّدَمُ، وَتَقَدَّمَ لَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ انْتِفَاعِ الْكُفَّارِ بِإِقْرَارِهِمْ هَذَا بِتَوَسُّعٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] . وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، آيَةِ «الْمُلْكِ» هُنَاكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ بِالْمُعَايَنَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 كَمَا جَاءَ فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [10 \ 90] ، فَقِيلَ لَهُ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 91] . وَجَاءَ أَصْرَحَ مَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [6 \ 158] . فَلَمَّا جَاءَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ وَظَهَرَ الْحَقُّ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِيمَانِ مَحَلٌّ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْمُعَايَنَةِ كَحَالَةِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَإِذَا عَايَنَهَا لَمْ تَكُنْ حِينَذَاكَ غَيْبًا، فَيَفُوتُ وَقْتُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ حَدِيثُ التَّوْبَةِ: «مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ. الْخَشْيَةُ: شِدَّةُ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [21 \ 49] . وَبَيَّنَ تَعَالَى مَحَلَّ تِلْكَ الْخَشْيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [35 \ 28] ; لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَيُرَاقِبُونَهُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى حَقِيقَةَ خَشْيَةِ اللَّهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [2 \ 74] . وَقَوْلُهُ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [59 \ 21] . فَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمُرَاقَبَتَهُ إِيَّاهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ مَهْمَا تَخَسَّفُوا وَتَسَتَّرُوا وَهُمْ دَائِمًا مُنِيبُونَ إِلَى اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [50 \ 32 - 33] ، وَهَذِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ السُّلُوكِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا بَيَّنَ أَنَّهَا مَنْزِلَةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ عَابَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ، وَيَخْشَوْنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 النَّاسَ، وَلَا يَخْشَوْنَ اللَّهَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [9 \ 13] . وَإِفْرَادُ اللَّهِ بِالْخَشْيَةِ مَنْزِلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [33 \ 39] . قَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ: وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ مَنْ يَكُونُ فِي خَلْوَتِهِ كَمَشْهَدِهِ مَعَ النَّاسِ. وَمِنْهُ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ: يَتَجَنَّبُ الْهَفَوَاتِ فِي خَلَوَاتِهِ عَفُّ السَّرِيرَةِ غَيْبُهُ كَالْمَشْهَدِ وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَهِيَ خَشْيَةُ اللَّهِ بِالْغَيْبِ وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ أَسَاسُ عَمَلِ الْمُسْلِمِ كُلِّهِ، وَمُعَامَلَاتِهِ ; لِأَنَّهُ بِإِيمَانِهِ بِالْغَيْبِ سَيَعْمَلُ كُلَّ خَيْرٍ طَمَعًا فِي ثَوَابِ اللَّهِ، كَمَا فِي مُسْتَهَلِّ الْمُصْحَفِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الْآيَةَ [2 \ 1 - 3] . وَبِمَخَافَةِ اللَّهِ بِالْغَيْبِ سَيَتَجَنَّبُ كُلَّ سُوءٍ، فَيَسْلَمُ وَيَتَحَصَّلُ لَهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [5 \ 9] ، (مَغْفِرَةٌ) مِنْ ذُنُوبِهِ: وَأَجْرٌ عَظِيمٌ عَلَى أَعْمَالِهِ. رَزَقَنَا اللَّهُ خَشْيَتَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْبِ مِمَّا هُوَ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ لَا سَيِّدِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ فِي الْإِحْسَانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، وَهَذَا الْإِحْسَاسُ هُوَ أَقْوَى عَامِلٍ عَلَى اكْتِسَابِ خَشْيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السِّرَّ وَالْجَهْرَ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي عِلْمِ اللَّهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ; لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [13 \ 10] . وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [20 \ 7] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ [58 \ 1] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [50 \ 16] . وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُبَاشَرَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [66 \ 3] ، فَفِيهِ بَيَانٌ عَمَلِيٌّ مُشَاهَدٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى هُنَا: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» : قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [66 \ 3] . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ نَقْلًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيِّ: مِنْ أَسْمَاءِ صِفَاتِ الذَّاتِ مَا هُوَ لِلْعِلْمِ مِنْهَا الْعَلِيمُ، وَمَعْنَاهُ تَفْهِيمُ جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَمِنْهَا: الْخَبِيرُ، وَيَخْتَصُّ بِأَنْ يَعْلَمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَمِنْهَا: الْحَكِيمُ وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ دَقَائِقَ الْأَوْصَافِ، وَمِنْهَا: الشَّهِيدُ وَيَخْتَصُّ بِأَنْ يَعْلَمَ الْغَائِبَ وَالْحَاضِرَ، وَمَعْنَاهُ أَلَّا يَغِيبَ عَنْهُ شَيْءٌ. وَمِنْهَا: الْحَافِظُ وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَى، وَمِنْهَا: الْمُحْصِي وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ لَا تَشْغَلُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْعِلْمِ مِثْلَ ضَوْءِ النَّهَارِ وَاشْتِدَادِ الرِّيحِ وَتَسَاقُطِ الْأَوْرَاقِ، فَيَعْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ أَجْزَاءَ الْحَرَكَاتِ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ، وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَقَدْ قَالَ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، (وَمَنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، أَجَازُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ فَاعِلَ (يَعْلَمُ) ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ يَعْلَمُ مَا خَلَقَ وَمِنْهُ مَا فِي الصُّدُورِ. وَأَجَازُوا أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِي الْفِعْلِ (يَعْلَمُ) ، ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ، وَهُوَ وَاضِحٌ وَمُحْتَمَلٌ. وَلَكِنَّ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ النُّصُوصُ أَنَّهَا مَفْعُولٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [42 \ 12] : يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [40 \ 19] . وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [37 \ 96] ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا يُسِرُّونَ، وَمَا يَجْهَرُونَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 الذَّلُولُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الذُّلِّ. تَقُولُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ بَيِّنَةُ الذُّلِّ، وَقِيلَ فِي مَعْنَى تَذْلِيلِ الْأَرْضِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا، وَمَجْمُوعُهَا دَائِرٌ عَلَى تَمْكِينِ الِانْتِفَاعِ مِنْهَا عَنْ تَسْهِيلِ الِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهَا وَتَثْبِيتِهَا بِالْجِبَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 32 - 33] . وَمِنْ إِمْكَانِ الزَّرْعِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا [80 \ 27 - 28] إِلَى قَوْلِهِ أَيْضًا: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 32] ، وَقَدْ جُمِعَ أَكْثَرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [77 \ 25 - 27] . وَكُنْتُ أَسْمَعُ الشَّيْخَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا مِنْ تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَرْضِ أَنْ جَعَلَهَا كِفَاتًا لِلْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ بِتَسْهِيلِ مَعِيشَتِهِ مِنْهَا وَحَيَاتِهِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَإِذَا مَاتَ كَانَتْ لَهُ أَيْضًا كِفَاتًا بِدَفْنِهِ فِيهَا. وَيَقُولُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهَا حَدِيدًا، وَنُحَاسًا فَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَحْرُثَ فِيهَا، وَلَا يَحْفِرَ وَلَا يَبْنِيَ، وَإِذَا مَاتَ لَا يَجِدُ مَدْفَنًا فِيهَا. وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [67 \ 15] ; لِتَرَتُّبِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ، أَيْ: بِسَبَبِ تَذْلِيلِهَا بِتَيْسِيرِ الْمَشْيِ فِي أَرْجَائِهَا، وَطَلَبِ الرِّزْقِ فِي أَنْحَائِهَا بِالتَّسَبُّبِ فِيهَا مِنْ زِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ إِلَخْ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَكِنَّ التَّقْدِيمَ لِهَذَا الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فِيهِ امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَعَ الْإِبَاحَةِ تَوْجِيهًا وَحَثًّا لِلْأُمَّةِ عَلَى السَّعْيِ وَالْعَمَلِ وَالْجِدِّ، وَالْمَشْيِ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِتَسْخِيرِهَا وَتَذْلِيلِهَا، مِمَّا يَجْعَلُ الْأُمَّةَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [22 \ 65] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 وَفِي قَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [45 \ 13] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَمَنْ رَأَى هَذَا التَّسْخِيرَ اعْتَرَفَ لِلَّهِ بِالْفَضْلِ وَالْقِيَامِ لِلَّهِ بِالْحَمْدِ، وَتَقْدِيمِ الشُّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [22 \ 36] . وَقَوْلِهِ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [43 \ 12 - 14] . أَيْ: مَعَ شُكْرِ النِّعْمَةِ الِاتِّعَاظُ وَالْعِبْرَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ. وَمِنْهَا الْمَعَادُ وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ بَعْدَ الْمَشْيِ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ، وَتَطَلُّبِ الرِّزْقِ وَمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مُسَبَّبِاتِ الْأَسْبَابِ وَتَسْخِيرِ اللَّهِ لَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ بَعْدَ ذِكْرِ: خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا أَيِ: الْأَصْنَافَ، وَتَسْخِيرُ الْفُلْكِ، وَالْأَنْعَامِ، وَالْبَحْرِ وَالْبَرِّ فِيهِ ضِمْنًا إِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ، فَيَكُونُ الْمَشْيُ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ، وَاسْتِخْدَامُ مَنَاكِبِهَا، وَاسْتِغْلَالُ ثَرَوَاتِهَا وَالِانْتِفَاعُ مِنْ خَيْرَاتِهَا لَا لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَحْدَهُ، وَإِلَّا لَكَانَ يُمْكِنُ سَوْقُهُ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لِلْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ أَوَّلًا، وَلِلنَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِاتِ وَالْعِبْرَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَالتَّزَوُّدِ لِمَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، كَمَا فِي آيَةِ «الْجُمُعَةِ» : فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [62 \ 10] . أَيْ: عِنْدَ مُشَاهَدَةِ آيَاتِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ امْتِنَانِهِ. وَعَلَيْهِ، فَقَدْ وَضَعَ الْقُرْآنُ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ فِي أَعَزِّ مَوَاضِعِ الْغِنَى، وَالِاسْتِغْنَاءِ وَالِاسْتِثْمَارِ وَالْإِنْتَاجِ، فَمَا نَقَصَ عَلَيْهَا مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهَا إِلَّا بِقَدْرِ مَا قَصَّرَتْ هِيَ فِي الْقِيَامِ بِهَذَا الْعَمَلِ وَأَضَاعَتْ مِنْ حَقِّهَا فِي هَذَا الْوُجُودِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَجْمُوعِ: إِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَعْمَلَ عَلَى اسْتِثْمَارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 وَإِنْتَاجِ كُلِّ حَاجِيَاتِهَا حَتَّى الْإِبْرَةِ ; لِتَسْتَغْنِيَ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِلَّا احْتَاجَتْ إِلَى الْغَيْرِ بِقَدْرِ مَا قَصَّرَتْ فِي الْإِنْتَاجِ، وَهَذَا هُوَ وَاقِعُ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، إِذِ الْقُدْرَةُ الْإِنْتَاجِيَّةُ هِيَ الْمُتَحَكِّمَةُ وَذَاتُ السِّيَادَةِ الدَّوْلِيَّةِ. وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ الْأَوْلَوِيَّةَ فِي هَذَا كُلِّهِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَلُّوا مَكَانَهُمْ، وَيُحَافِظُوا عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَيُشَيِّدُوا كِيَانَهُمْ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. ذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ فِي قِرَاءَةِ: ءَأَمِنْتُمْ عِدَّةَ قِرَاءَاتٍ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَمِنْ تَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ وَمِنْ إِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْخَسْفُ ذَهَابُهَا سُفْلًا، كَمَا خُسِفَ بِقَارُونَ، وَالْمَوْرُ الْحَرَكَةُ الْمُضْطَرِبَةُ أَوِ الْحَرَكَةُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ ثَبَّتَهَا تَعَالَى بِالْجِبَالِ أَوْتَادًا كَمَا قَالَ: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ [79 \ 32 - 33] وَ (مَنْ فِي السَّمَاءِ) . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ. وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ: مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ خَسْفِ الْأَرْضِ وَإِرْسَالِ الْحَاصِبِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى الْكِسَائِيِّ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَيْهِ كَأَبِي حَيَّانَ، إِذَا قَالُوا: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ، وَمَجَازُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَلَكُوتَهُ فِي السَّمَاءِ أَيْ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَمَلَكُوتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ خَصَّ السَّمَاءَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا مَسْكَنُ مَلَائِكَتِهِ، وَثَمَّ عِزَّتُهُ وَكُرْسِيُّهُ وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَمِنْهَا تَتَنَزَّلُ قَضَايَاهُ وَكُتُبُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَهْيُهُ، إِلَخْ. وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ ; لِأَنَّهُ الْمُوَكَّلُ بِالْخَسْفِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُجَارَاةٌ لَهُمْ فِي مُعْتَقَدِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنَاهَا عَلَى نَفْيِ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِرَارًا مِنَ التَّشْبِيهِ فِي نَظَرِهِمْ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ خِلَافُ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَمُعْتَقَدُ السَّلَفِ هُوَ طِبْقُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِحَدِيثِ الْجَارِيَةِ: " أَيْنَ اللَّهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: اعْتِقْهَا ; فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ "، وَلِعِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذَا الْمَبْحَثَ بِأَوْسَعِ وَأَوْضَحِ مَا يُمْكِنُ مِمَّا لَمْ يَدَعْ لَبْسًا، وَلَا يَتْرُكُ شُبْهَةً، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مُسْلِمٌ عَالِمًا كَانَ أَوْ مُتَعَلِّمًا، فَالْعَالِمُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَنْهَجَ التَّعْلِيمِ السَّلِيمِ وَأُسْلُوبَ الْبَيَانِ الْحَكِيمِ، وَالْمُتَعَلِّمُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 مُعْتَقَدٍ قَوِيمٍ وَاضِحٍ جَلِيٍّ سَلِيمٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى (فِي) هُوَ الظَّرْفِيَّةُ، فَنَجْعَلُ السَّمَاءَ ظَرْفًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ بِالْمُتَحَيِّزِ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ وَالْمَنْصُوصِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ. وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ تَعَالَى وَاسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي حَدِيثِ: " مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ أَوْ دَرَاهِمَ فِي تُرْسٍ، وَمَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَمَا الْعَرْشُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَحَبَّةِ خَرْدَلٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ " فَانْتَفَتْ ظَرْفِيَّةُ السَّمَاءِ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ لَنَا ; وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ. وَفِيمَا قَدَّمَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي هَذَا الْمَبْحَثِ شِفَاءٌ وَغَنَاءٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: (إِنَّ فِي السَّمَاءِ) بِمَعْنَى فَوْقَ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [9 \ 2] أَيْ: فَوْقَهَا لَا بِالْمُمَاسَّةِ وَالتَّحَيُّزِ. وَقِيلَ: (فِي) : بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [20 \ 71] أَيْ: عَلَيْهَا إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مُنْتَشِرَةٌ مُشِيرَةٌ إِلَى الْعُلُوِّ، لَا يَدْفَعُهَا إِلَّا مُلْحِدٌ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا تَوْقِيرُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ السُّفْلِ وَالتَّحْتِ وَوَصْفُهُ بِالْعُلُوِّ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرَ كَلَامًا آخِرُهُ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَفِيهِ التَّنْزِيهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ. الطَّيْرُ صَافَّاتٌ: أَيْ: مَادَّاتٌ أَجْنِحَتَهَا (وَيَقْبِضْنَ) : أَيْ: يَضُمَّنَّهَا إِلَى أَجْسَامِهَا. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: عَطْفٌ بِالْفِعْلِ وَيَقْبِضْنَ عَلَى الِاسْمِ، صَافَّاتٍ، وَلَمْ يَعْطِفْ بِاسْمِ قَابِضَاتٍ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّيَرَانِ هُوَ بَسْطُ الْجَنَاحِ، وَالْقَبْضُ طَارِئٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 حَيَّانَ: جَارٍ عَلَى الْقَاعِدَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الِاسْمَ لِلدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ، وَالْفِعْلَ لِلتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، فَالْحَرَكَةُ الدَّائِمَةُ فِي الطَّيَرَانِ هِيَ صَفُّ الْجَنَاحِ، وَالْجَدِيدُ عَلَيْهِ هُوَ الْقَبْضُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَآيَةٌ لِخَلْقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [16 \ 79] . فَهِيَ آيَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [35 \ 41] . فَهُوَ سُبْحَانُهُ مُمْسِكُهُمَا بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ تَزُولَا، وَلَوْ قُدِّرَ فَرْضًا زَوَالُهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِهِمَا إِلَّا هُوَ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [22 \ 65] . تَنْبِيهٌ وَلَعَلَّ مِمَّا يَسْتَدْعِي الِانْتِبَاهَ تَوْجِيهُ النَّظَرِ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) ، بَعْدَ التَّخْوِيفِ بِخَسْفِ الْأَرْضِ بِأَنَّ الْأَرْضَ مُعَلَّقَةٌ فِي الْهَوَاءِ كَتَعَلُّقِ الطَّيْرِ الْمُشَاهَدِ إِلَيْكُمْ مَا يُمْسِكُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَإِيقَاعُ الْخَسْفِ بِهَا، كَإِسْقَاطِ الطَّيْرِ مِنَ الْهَوَاءِ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَا يُمْسِكُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْخَسْفِ بِهَا، وَعَلَى إِسْقَاطِ الطَّيْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ. يَقُولُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: مَنْ هَذَا الَّذِي غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ يَرْزُقُكُمْ، إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْكُمْ رِزْقَهُ. وَالْجَوَابُ: لَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَمْلِكُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [34 \ 24] . أَيْ: لَا أَحَدَ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 [35 \ 3] . وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ الْقُدْرَةَ عَلَى الرِّزْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [10 \ 31] . وَكَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [30 \ 40] . وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالرِّزْقِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ الْأُمُورِ سُبْحَانَهُ، وَتَدْبِيرُ شُئُونِ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [42 \ 12] ، أَيْ: يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ، يَعْلَمُ لَا عَنْ نَقْصٍ وَلَا حَاجَةٍ، وَلَكِنْ يَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [42 \ 19] أَيْ: يُعَامِلُهُمْ بِلُطْفِهِ وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى أَنْ يَرْزُقَ الْجَمِيعَ رِزْقًا وَاسِعًا، وَهُوَ الْعَزِيزُ فِي مُلْكِهِ، فَهُوَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [39 \ 52] أَيْ: بِمُقْتَضَى اللُّطْفِ وَالْعِلْمِ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [11 \ 6] . وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ يُرَدُّ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ عِنْدَ غَيْرِهِ الرِّزْقَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [16 \ 73] . وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ تَوْبِيخَهُمْ وَتَوْجِيهَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [29 \ 17] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى قَضِيَّةَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْعِبَادَةِ كُلَّهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [51 \ 56 - 58] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ يَرْزُقُ الْعِبَادَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جُمْلَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَيْفِيَّةَ هَذَا الرِّزْقِ تَفْصِيلًا مِمَّا يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 24 - 32] . فَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ فِي ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَنْهُ إِشْقَاقُ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ بِأَنْوَاعِهِ حَبًّا وَعِنَبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ وَفَاكِهَةً، وَكُلُّهَا لِلْإِنْسَانِ، وَقَضْبًا وَأَبًّا لِلْأَنْعَامِ، وَالْأَنْعَامُ أَرْزَاقٌ أَيْضًا لَحْمًا وَلَبَنًا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ قِوَامُهُ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا اللَّهُ. فَإِذَا أَمْسَكَهُ اللَّهُ عَنِ الْخَلْقِ لَا يَقْوَى مَخْلُوقٌ عَلَى إِنْزَالِهِ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ الْأَرْزَاقَ بِيَدِ الْخَلَّاقِ، وَمَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ يَتَّجِهَ بِرَغْبَةٍ وَلَا يَتَوَجَّهَ بِسُؤَالٍ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مُوقِنًا حَقَّ الْيَقِينِ أَنَّهُ هُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [51 \ 22 - 23] . وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهَا: وَاللَّهِ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ يَقِينُهُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمَ مِمَّا بِيَدِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [23 \ 18] فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنُونَ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْقَلَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ن. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: وَذَكَرَ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَهِيَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: إِنَّهَا مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ أَوْ أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عِدَّةِ حُرُوفٍ كُلُّ حَرْفٍ مِنِ اسْمٍ، أَوْ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ، أَوْ أَنَّهَا لِلْإِعْجَازِ، وَبَيَّنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهَ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا، وَرَجَّحَ الْأَخِيرَ، وَأَنَّهَا لِلْإِعْجَازِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَهَا دَائِمًا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَقَدْ بَسَطَ الْبَحْثَ بِمَا يَكْفِي وَيَشْفِي. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بِأَقْوَالٍ أُخْرَى، مِنْهَا أَنَّ: ن بِمَعْنَى الدَّوَاةِ أَيْ: بِمُنَاسَبَةِ ذِكْر ِ الْقَلَمِ، وَعَزَاهُ إِلَى الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ: إِنَّ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَلَكِنْ غَرِيبٌ جِدًّا، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ، وَخَلَقَ الْقَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ» ، الْحَدِيثَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَلَقَ اللَّهُ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ» . وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ كُلَّ هَذِهِ الْأَوْجُهِ وَزَادَ أَوْجُهًا أُخْرَى: مِنْهَا أَنَّهَا افْتِتَاحِيَّاتٌ لِأَوَائِلِ السُّوَرِ تَسْتَرْعِي انْتِبَاهَ الْمُسْتَمِعِينَ، ثُمَّ يُتْلَى عَلَيْهِمْ مَا بَعْدَهَا، وَقِيلَ: هِيَ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ أَوَّلِ «سُورَةِ الشُّورَى» : حم عسق [42 \ 1 - 2] أَثَرًا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَاسْتَغْرَبَهُ وَاسْتَنْكَرَهُ، وَلَكِنْ وَقَعَ مَا يَقْرُبُ مِنْ مِصْدَاقِهِ وَمُطَابَقَتِهِ مُطَابَقَةً تَامَّةً. وَنَصُّهُ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ وَعِنْدَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: أَخْبِرْنِي عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ: حم عسق قَالَ: فَأَطْرَقَ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ كَرَّرَ مَقَالَتَهُ فَأَعْرَضَ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، وَكَرِهَ مَقَالَتَهُ، ثُمَّ كَرَّرَهَا الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا، وَقَدْ عَرَفْتُ بِمَ كَرِهَهَا، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْإِلَهِ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ يَنْزِلُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْمَشْرِقِ تَنْبَنِي عَلَيْهِ مَدِينَتَانِ فَشَقَّ النَّهْرَ بَيْنَهُمَا شَقًّا، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي زَوَالِ مُلْكِهِمْ وَانْقِطَاعِ دَوْلَتِهِمْ وَمُدُنِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَى إِحْدَاهُمَا نَارًا لَيْلًا فَتُصْبِحُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً قَدِ احْتَرَقَتْ، كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكَانَهَا، وَتُصْبِحُ صَاحِبَتُهَا مُتَعَجِّبَةً كَيْفَ أَفْلَتَتْ، فَمَا هُوَ إِلَّا بَيَاضُ يَوْمِهَا ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهَا وَبِهِمْ جَمِيعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: حم عسق يَعْنِي عَزِيمَةً مِنَ اللَّهِ، وَفِتْنَةً، وَقَضَاءً. حم عسق يَعْنِي عَدْلًا مِنْهُ: سين يَعْنِي سَيَكُونُ وَق يَعْنِي وَاقِعٌ بِهَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ. اهـ. وَمَعَ اسْتِغْرَابِ ابْنِ كَثِيرٍ إِيَّاهُ وَاسْتِنْكَارِهِ لَهُ، فَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ عَلَى ثَوْرَةِ الْعِرَاقِ عَلَى عَبْدِ الْإِلَهِ فِي بَغْدَادَ، حَيْثُ يَشُقُّهَا النَّهْرُ شَقَّيْنِ، وَأَنَّهُ مِنْ آلِ الْبَيْتِ، وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَا جَاءَ وَصْفُهُ فِي الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الرَّدِّ عَلَى مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [23 \ 70] مِنْ سُورَةِ «الْمُؤْمِنُونَ» . وَسَاقَ النُّصُوصَ، وَقَالَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ. اهـ. وَهَكَذَا هُنَا فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ أَيْ عَلَى مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَقُمْتَ بِهِ مِنَ الْبَلَاغِ عَنِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، كَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [81 \ 22] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ رَسُولِهِ الْكَرِيمِ الْأَعْظَمِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ; لِأَنَّ الْمَجْنُونَ سَفِيهٌ لَا يَعْنِي مَا يَقُولُ، وَلَا يُحْسِنُ أَيَّ تَصَرُّفٍ. وَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ أَرْقَى مَنَازِلِ الْكَمَالِ فِي عُظَمَاءِ الرِّجَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، الْمَنُّ: الْقَطْعُ. أَيْ: إِنَّ أَجْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: \ 5 لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ ... غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى دَوَامَ أَجْرِهِ دُونَ انْقِطَاعٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [33 \ 56] . وَصَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَصَلَوَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُؤْمِنِينَ لَا تَنْقَطِعُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةٌ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ دُعَاءٌ. وَفِي سُورَتِيِ: «الضُّحَى» وَ «أَلَمْ نَشْرَحْ» بِكَامِلِهَا: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 3 - 5] . وَقَوْلُهُ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [94 \ 4] . وَمَعْلُومٌ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ مَنْ عَمِلَ بِهِ، فَمَا مِنْ مُسْلِمٍ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ فِي صَحِيفَتِهِ إِلَّا وَلِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهَا. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» . وَمِنْهَا: «أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» ، وَأَيُّ عِلْمٍ أَعَمُّ نَفْعًا مِمَّا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَكَهُ فِي الْأُمَّةِ حَتَّى قَالَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى دَوَامِ أَجْرِهِ. أَمَّا جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ بِمَثَابَةِ الرَّدِّ عَلَى ادِّعَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَمْيِهِ بِالْجُنُونِ ; لِأَنَّ أَخْلَاقَ الْمَجَانِينِ مَذْمُومَةٌ بَلْ لَا أَخْلَاقَ لَهُمْ، وَهُنَا أَقْصَى مَرَاتِبِ الْعُلُوِّ فِي الْخُلُقِ. وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا السِّيَاقَ بِعَوَامِلِ الْمُؤَكِّدَاتِ بِانْدِرَاجِهِ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبِأَنَّ اللَّامَ فِي (لَعَلَى) ، وَجَاءَ بِعَلَى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّمَكُّنِ بَدَلًا مِنْ ذُو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 مَثَلًا: ذُو خُلُقٍ عَظِيمٍ لِبَيَانِ قُوَّةِ التَّمَكُّنِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْقَ كُلِّ خُلُقٍ عَظِيمٍ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَجْمَلَ الْخُلُقَ الْعَظِيمَ هُنَا وَهُوَ مِنْ أَعَمِّ مَا امْتَدَحَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ أَرْشَدَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِلَى مَا بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ حِينَمَا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي امْتُدِحَ بِهِ فَقَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» تَعْنِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ وَيَنْتَهِي بِنَوَاهِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] . وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] . وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» ، فَكَانَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُمْتَثِلًا لِتَعَالِيمِ الْقُرْآنِ فِي سِيرَتِهِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَمَرَنَا بِالتَّأَسِّي بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ مَعْرِفَةُ تَفْصِيلِ هَذَا الْإِجْمَالِ ; لِيَتِمَّ التَّأَسِّي الْمَطْلُوبُ. وَقَدْ أَخَذَتْ قَضِيَّةُ الْأَخْلَاقِ عَامَّةً، وَأَخْلَاقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً مَحَلَّ الصَّدَارَةِ مِنْ مَبَاحِثِ الْبَاحِثِينَ، وَتَقْرِيرِ الْمُرْشِدِينَ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُمُومِ أَسَاسُ قِوَامِ الْأُمَمِ، وَعَامِلُ الْحِفَاظِ عَلَى بَقَائِهَا، كَمَا قِيلَ: إِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ ... فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا وَقَدْ أَجْمَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبِعْثَةَ كُلَّهَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ ; لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» . وَقَدْ عُنِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَضِيَّةِ أَخْلَاقِهِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَسَأَلُوا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» ، وَعُنِيَ بِهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّأْلِيفِ، كَالشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ. أَمَّا أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْخُلُقِ الْعَظِيمِ الْمَعْنِيِّ هُنَا فَهِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ، لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا: مِنْهَا: أَنَّهُ الدِّينُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَالْآخَرُ قَوْلُ عَائِشَةَ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» ، وَالْقُرْآنُ وَالدِّينُ مُرْتَبِطَانِ. وَلَكِنْ لَمْ يَزَلِ الْإِجْمَالُ مَوْجُودًا. وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ فِي الْقُرْآنِ نَجِدُ بَعْضَ الْبَيَانِ لِمَا كَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَظِيمِ الْخُلُقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [7 \ 199] . وَقَوْلِهِ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] . وَقَوْلِهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ [3 \ 159] . وَقَوْلِهِ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] . وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّوْجِيهُ أَوِ الْوَصْفُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ الْأَخْلَاقِ، وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْقُرْآنَ، فَالْقُرْآنُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَالْمُتَأَمِّلُ لِلْقُرْآنِ فِي هَدْيِهِ يَجِدُ مَبْدَأَ الْأَخْلَاقِ فِي كُلِّ تَشْرِيعٍ فِيهِ حَتَّى الْعِبَادَاتِ. فَفِي الصَّلَاةِ خُشُوعٌ وَخُضُوعٌ وَسَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، فَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ. وَفِي الزَّكَاةِ مُرُوءَةٌ وَكَرَمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [2 \ 264] . وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [76 \ 9] . وَفِي الصِّيَامِ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةً فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» . وَفِي الْحَجِّ: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. وَفِي الِاجْتِمَاعِيَّاتِ: خُوطِبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَعْلَى دَرَجَاتِ الْأَخْلَاقِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا تَحْتَ الْخِطَابِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ نِطَاقِ الطَّلَبِ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهَا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 [17 \ 23 - 24] ، مَعَ أَنَّ وَالِدَيْهِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا عِنْدَ نُزُولِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّعَالِيمِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ. وَقَدْ عُنِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَخْلَاقِ حَتَّى كَانَ يُوصِي بِهَا الْمَبْعُوثِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، كَمَا أَوْصَى مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ» ، أَيْ: إِنَّ الْحَيَاءَ وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ الْأَخْلَاقِ سِيَاجٌ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ يَحْمِلُ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَيَمْنَعُ مِنَ الرَّذَائِلِ، كَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ أَذًى ... جَاءَتْهُ أَخْلَاقُ الْكِرَامِ فَأَقْلَعَا وَتَرَى اللَّئِيمَ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ أَذًى ... يَطْغَى فَلَا يُبْقِي لِصُلْحٍ مَوْضِعًا وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [3 \ 134] . تَنْبِيهٌ إِنَّ مِنْ أَهَمِّ قَضَايَا الْأَخْلَاقِ بَيَانُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ ; لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» . مَعَ أَنَّ بِعْثَتَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْعَلُ الْأَخْلَاقَ هِيَ الْبِعْثَةُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَضِيَّةٍ مَنْطِقِيَّةٍ قَطْعِيَّةٍ حَمْلِيَّةٍ، مُقَدِّمَتُهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ: «الدِّينُ حُسْنُ الْخُلُقِ» ، وَالْكُبْرَى آيَةٌ كَرِيمَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [2 \ 177] . وَلِمُسَاوَاةِ طَرَفَيِ الصُّغْرَى فِي الْمَاصَدَقِ، وَهُوَ: «الدِّينُ حُسْنُ الْخُلُقِ» ، يَكُونُ التَّرْكِيبُ الْمَنْطِقِيُّ بِالْقِيَاسِ الِاقْتِرَانِيِّ حُسْنُ الْخُلُقِ هُوَ الْبِرُّ، وَالْبِرُّ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 الْآخِرِ، إِلَى آخِرِ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، يَنْتُجُ حُسْنُ الْخُلُقِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِأَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ: الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ. إلخ. وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ. إلخ. وَمِنْ إِحْسَانٍ فِي وَفَاءٍ وَصِدْقٍ وَصَبْرٍ، وَتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ; إِذْ هِيَ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَقَدْ ظَهَرَتْ نَتِيجَةُ عِظَمِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ فِي الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 107] . وَكَذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا» . وَهِيَ قَضِيَّةٌ مَنْطِقِيَّةٌ أُخْرَى: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْزِلَةٌ عُلْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ. تَنْبِيهٌ آخَرُ. اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ أُسُسَ الْأَخْلَاقِ أَرْبَعَةٌ: هِيَ: الْحِكْمَةُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدَالَةُ. وَيُقَابِلُهَا رَذَائِلُ أَرْبَعَةٌ: هِيَ الْجَهْلُ، وَالشَّرَهُ، وَالْجُبْنُ، وَالْجَوْرُ. وَيَتَفَرَّعُ عَنْ كُلِّ فَضِيلَةٍ فُرُوعُهَا: الْحِكْمَةُ: الذَّكَاءُ وَسُهُولَةُ الْفَهْمِ، وَسِعَةُ الْعِلْمِ. وَعَنِ العِفَّةِ: الْقَنَاعَةُ، وَالْوَرَعُ، وَالْحَيَاءُ، وَالسَّخَاءُ، وَالدَّعَةُ، وَالصَّبْرُ، وَالْحُرِّيَّةُ. وَعَنِ الشَّجَاعَةِ: النَّجْدَةُ، وَعِظَمُ الْهِمَّةِ. وَعَنِ السَّمَاحَةِ: الْكَرَمُ، وَالْإِيثَارُ، وَالْمُوَاسَاةُ، وَالْمُسَامَحَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 أَمَّا الْعَدَالَةُ - وَهِيَ أُمُّ الْفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِيَّةِ - فَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا: الصَّدَاقَةُ، وَالْأُلْفَةُ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَتَرْكُ الْحِقْدِ، وَمُكَافَأَةُ الشَّرِّ بِالْخَيْرِ، وَاسْتِعْمَالُ اللُّطْفِ. فَهَذِهِ أُصُولُ الْأَخْلَاقِ وَفُرُوعُهَا، فَلَمْ تَبْقَ خَصْلَةٌ مِنْهَا إِلَّا وَهِيَ مُكْتَمِلَةٌ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ، فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فِعْلًا وَعَقْلًا. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: لَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ. وَالْخُلُقُ مَا تَخَلَّقَ بِهِ الْإِنْسَانُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ خَصْلَةٍ فَاضِلَةٍ. فَاجْتَمَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعُ خِصَالِ الْفَضْلِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ إِلَّا أَنَّ وَاقِعَ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. فَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَالْوَحْيِ، مُلَقَّبًا عِنْدَ الْقُرَشِيِّينَ بِالْأَمِينِ، كَمَا فِي قِصَّةِ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي الْكَعْبَةِ ; إِذْ قَالُوا عَنْهُ: الْأَمِينُ ارْتَضَيْنَاهُ. وَجَاءَ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، لَمَّا أُخِذَ أَسِيرًا وَأَهْدَتْهُ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِخِدْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَجَاءَ أَهْلُهُ بِالْفِدَاءِ يُفَادُونَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُمُ: «ادْعُوهُ وَأَخْبِرُوهُ، فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِدُونِ فِدَاءٍ) فَقَالَ زَيْدٌ: وَاللَّهِ لَا أَخْتَارُ عَلَى صُحْبَتِكَ أَحَدًا أَبَدًا، فَقَالَ لَهُ أَهْلُهُ: وَيْحَكَ! أَتَخْتَارُ الرِّقَّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ؟ ! فَقَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُهُ فَلَمْ يَقُلْ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ قَطُّ. وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْهُ قَطُّ:» وَرَجَعَ قَوْمُهُ، وَبَقِيَ هُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَعْلَنَ تَبَنِّيَهُ عَلَى مَا كَانَ مَعْهُودًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ. إِنَّنَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ إِيَّاهُ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَتَعَهُّدَ اللَّهِ إِيَّاهُ بَعْدَ وُجُودِهِ ; مِنْ شَقِّ الصَّدْرِ فِي طُفُولَتِهِ، وَمِنْ مَوْتِ أَبَوَيْهِ وَرِعَايَةِ اللَّهِ لَهُ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [93 \ 3 - 11] . إِنَّهَا نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ مَعَهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَرَزَقَنَا التَّأَسِّيَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 إِذَا كَانَ فِي مَجِيءِ الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ رَدٌّ عَلَى دَعْوَاهُمُ الْكَاذِبَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجُنُونِ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْزِيهُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ رَذَائِلَ وَنَقَائِصَ وَافْتِضَاحٌ لَهُمْ. وَبَيَانُ الْفَرْقِ وَالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي وَصَفَهُ بِأَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَصَفَهُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ مِنْ: كَذِبٍ، وَمُدَاهَنَةٍ، وَكَثْرَةِ حَلِفٍ، وَمَهَانَةٍ، وَهَمْزٍ، وَمَشْيٍ بِنَمِيمَةٍ، وَمَنْعٍ لِلْخَيْرِ، وَعُتُلٍّ، وَتَجَبَّرٍ، وَاعْتِدَاءٍ، وَظُلْمٍ، وَانْقِطَاعِ زَنِيمٍ، عَشْرُ خِصَالٍ ذَمِيمَةٌ. وَنَتِيجَتُهَا الْوَسْمُ بِالْخِزْيِ عَلَى الْأُنُوفِ صَغَارًا لَهُمْ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ مَسَاوِئَ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَتُحَذِّرُ مِنْهَا، وَلَا يَسَعُنَا إِيرَادُهَا كُلِّهَا، وَتَكْفِي الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهَا; تَنْبِيهًا عَلَى جَمِيعِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [49 \ 11 - 12] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ لِمَعَانِي الْمُدَاهَنَةِ فَوْقَ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ أَرْجَحُهَا الْمُلَايَنَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا وَدَادَتَهُمْ وَتَمَنِّيَهُمُ الْمُدَاهَنَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا هَلْ دَاهَنَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَصْلَحَةً أَمْ لَا؟ وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا ; بِأَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّدَرُّجَ مِنَ الْمُدَاهَنَةِ وَمُلَايَنَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ، إِلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ تَعْطِيلِ الدَّعْوَةِ. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَدَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ، لَوْ تَلِينُ لَهُمْ فِي دِينِكَ ; بِإِجَابَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الرُّكُونِ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَيَلِينُونَ لَكَ فِي عِبَادَتِكَ إِلَهَكَ، كَمَا قَالَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [17 \ 74] اهـ. وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا مَا جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ (الْكَافِرُونَ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. السُّورَةَ [109 \ 1 - 3] . وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي قَصْدِهِمْ بِالْمُدَاهَنَةِ، وَالدَّافِعُ عَلَيْهَا وَالْجَوَابُ عَلَيْهِمْ قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [2 \ 109] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا مَوْقِفَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةِ بِقَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [2 \ 109] . وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ مُدَاهَنَةٍ فِي الدِّينِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُطَاعُونَ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ سَيَبْذُلُونَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ; لِتَرْوِيجِ مُدَاهَنَتِهِمْ وَلَوْ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُلَاطَفَةِ فِي الدُّنْيَا، أَوِ التَّعَاوُنِ وَتَبَادُلِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ الْآيَةَ [60 \ 8] . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ هَذَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ ; يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُمْ أَجْرًا عَلَى دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [42 \ 23] . فَالْأَجْرُ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ الْأَجْرُ الْمَادِّيُّ بِالْمَالِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: مَبْحَثُ الْأَجْرِ عَلَى الدَّعْوَةِ مِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَمَبْحَثُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي أَصْلُهَا مَزِيَّةُ اللَّهِ ; بَحْثًا وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [11 \ 29] مِنْ سُورَةِ هُودٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هُوَ صَاحِبُ الْحُوتِ، وَلَا نِدَاءَهُ وَهُوَ مَكْظُومٌ، وَلَا الْوَجْهَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى صَاحِبَ الْحُوتِ فِي (الصَّافَّاتِ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يُونُسَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. إِلَى قَوْلِهِ: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [37 \ 139 - 142] . وَأَمَّا النِّدَاءُ، فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (الْأَنْبِيَاءِ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [21 \ 87 - 88] . فَصَاحِبُ الْحُوتِ هُوَ يُونُسُ، وَنِدَاؤُهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، وَحَالَةُ نِدَائِهِ وَهُوَ مَكْظُومٌ. أَمَّا الْوَجْهُ الْمَنْهِيُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ: فَهُوَ الْحَالُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ غَضَبِهِ، وَهُوَ مَكْظُومٌ، وَهَذَا بَيَانٌ لِجَانِبٍ مِنْ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَخَلُّقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ أَيْ: عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ وَخَوَاصِّ تَوْجِيهَاتِ اللَّهِ إِلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [16 \ 126 - 127] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى خُلُقًا فَاضِلًا عَامًّا لِلْأُمَّةِ: فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالصَّفْحِ. ثُمَّ خَصَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ أَيْ: لَا تُعَاقِبِ انْتِقَامًا وَلَوْ بِالْمِثْلِيَّةِ وَلَكِنِ اصْبِرْ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِصْدَاقُ ذَلِكَ ; فِي رُجُوعِهِ مِنْ ثَقِيفٍ حِينَمَا آذَوْهُ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَعَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ يَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: (لَا، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي ; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. . إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) . فَقَدْ صَفَحَ وَصَبَرَ، وَرَجَى مِنَ اللَّهِ إِيمَانَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ. وَهَذَا أَقْصَى دَرَجَاتِ الصَّبْرِ وَالصَّفْحِ، وَأَعْظَمُ دَرَجَاتِ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُنْبَذْ بِالْعَرَاءِ عَلَى صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ، بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةً تُظِلُّهُ وَتَسْتُرُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [37 \ 146] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [37 \ 147 - 148] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ فِيهِ عَوْدُ آخِرِ السُّورَةِ عَلَى أَوَّلِهَا. وَأَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سَمِعُوا الذِّكْرَ شَخَصَتْ أَبْصَارُهُمْ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَرْمُونَهُ بِالْجُنُونِ. وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّ هَذَا الَّذِي سَمِعُوهُ لَيْسَ بِهَذَيَانِ الْمَجْنُونِ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وَفِيهِ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، إِنَّمَا هِيَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْحَاقَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ. (الْحَاقَّةُ) : مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، وَجَاءَ بَعْدَهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [69 \ 4] . وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ الْآيَةَ [101 \ 3 - 4] . سُمِّيَتْ بِالْحَاقَّةِ; لِأَنَّهُ يَحِقُّ فِيهَا وَعْدُ اللَّهِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِالْقَارِعَةِ ; لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِهَوْلِهَا: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [22 \ 2] . كَمَا سُمِّيَتِ: الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [56 \ 1 - 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَالطَّاغِيَةُ فَاعِلَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ مُطْلَقًا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ [69 \ 11] . وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى [96 \ 6] . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الطُّغْيَانِ هُنَا، فَقَالَ قَوْمٌ: طَاغِيَةٌ: عَاقِرُ النَّاقَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [91 \ 11 - 12] ، فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيْ: بِسَبَبِ طَاغِيَتِهَا، وَقِيلَ: الطَّاغِيَةُ: الصَّيْحَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي أَهْلَكَتْهُمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [54 \ 31] ، فَتَكُونُ الْبَاءُ آلِيَّةً، كَقَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَقَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ. وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [51 \ 44] . وَقِيلَ: لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ تَلَازُمَ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبُ الثَّانِي لَمَّا كَانُوا بَعِيدًا، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 فَالْعُتُوُّ هُوَ الطُّغْيَانُ فِي الْفِعْلِ، وَالصَّاعِقَةُ هِيَ الصَّيْحَةُ الشَّدِيدَةُ، وَقَدْ رَبَطَ بَيْنَهُمَا بِالْفَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [41 \ 16] الْمُتَقَدِّمِ فِي فُصِّلَتْ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ لِكَيْفِيَّةِ إِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ (الْفَجْرِ) ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [89 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ الْمُؤْتَفِكَاتُ: الْمُنْقَلِبَاتُ، وَهِيَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - تَفْصِيلُ ذَلِكَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي (هُودٍ) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا الْآيَةَ [11 \ 82] . وَفِي (النَّجْمِ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [53 \ 53] . تَنْبِيهٌ. نَصَّ تَعَالَى هُنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ، وَالْمُؤْتَفِكَاتِ جَاءُوا بِالْخَاطِئَةِ، وَهِيَ: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ [69 \ 10] ، وَكَذَلِكَ عَادٌ وَثَمُودُ كَذَّبُوا بِالْقَارِعَةِ. فَالْجَمِيعُ اشْتَرَكَ فِي الْخَاطِئَةِ، وَهِيَ عِصْيَانُ الرَّسُولِ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [73 \ 16] ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً. وَنَوَّعَ فِي أَخْذِهِمْ ذَلِكَ: فَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَ نُوحٍ، وَأَخَذَ ثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ، وَعَادًا بِرِيحٍ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِقَلْبِ قُرَاهُمْ، كَمَا أَخَذَ جَيْشَ أَبْرَهَةَ بِطَيْرٍ أَبَابِيلَ، فَهَلْ فِي ذَلِكَ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ كُلِّ أُمَّةٍ وَعُقُوبَتِهَا، أَمْ أَنَّهُ لِلتَّنْوِيعِ فِي الْعُقُوبَةِ; لِبَيَانِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَتَنْكِيلِهِ بِالْعُصَاةِ لِرُسُلِ اللَّهِ. الْوَاقِعُ أَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِيهِ آيَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَفِيهِ تَنْكِيلٌ بِمَنْ وَقَعَ بِهِمْ، وَلَكِنَّ تَخْصِيصَ كُلِّ أُمَّةٍ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهَا يُثِيرُ تَسَاؤُلًا، وَلَعَلَّ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً خَفِيفَةً هُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 الْآتِي. أَمَّا فِرْعَوْنُ، فَقَدْ كَانَ يَقُولُ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [43 \ 51] ، فَلَمَّا كَانَ يَتَطَاوَلُ بِهَا جَعَلَ اللَّهُ هَلَاكَهُ فِيهَا، أَيْ: فِي جِنْسِهَا. وَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَأَصْبَحُوا لَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، فَلَزِمَ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَلَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ إِلَّا الطُّوفَانُ. وَأَمَّا ثَمُودُ، فَأُخِذُوا بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ، لِأَنَّهُمْ نَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ، فَلَمَّا كَانَ نِدَاؤُهُمْ صَاحِبَهُمْ سَبَبًا فِي عَقْرِ النَّاقَةِ، كَانَ هَلَاكُهُمْ بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عَادٌ، فَلِطُغْيَانِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [89 \ 6 - 8] ، وَسَوَاءٌ عِمَادُ بُيُوتِهِمْ وَقُصُورِهِمْ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ أَجْسَامِهِمْ، وَوَفْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَوَافُرِ الْقُوَّةِ عِنْدَهُمْ، فَأُخِذُوا بِالرِّيحِ، وَهُوَ أَرَقُّ وَأَلْطَفُ مَا يَكُونُ، مِمَّا لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْهُ أَيَّةَ مَضَرَّةٍ وَلَا شِدَّةٍ. وَكَذَلِكَ جَيْشُ أَبَرْهَةَ، لَمَّا جَاءَ مُدْلٍ بِعَدَدِهِ وَعُدَّتِهِ، وَجَاءَ مَعَهُ بِالْفِيلِ أَقْوَى الْحَيَوَانَاتِ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَضْعَفَ الْمَخْلُوقَاتِ: الطُّيُورَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [105 \ 3 - 4] . أَمَّا قَوْمُ لُوطٍ، فَلِكَوْنِهِمْ قَلَبُوا الْأَوْضَاعَ بِإِتْيَانِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَكَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قُرَاهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَخْوِيفًا لِقُرَيْشٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سُورَةِ (الْكَهْفِ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ [18 \ 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [18 \ 49] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَانُ قَضِيَّةِ أَخْذِ الْكُتُبِ وَحَقِيقَتِهَا، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ [18 \ 49] فِي سُورَةِ (الْكَهْفِ) . وَكَذَلِكَ بَحَثَهَا فِي كِتَابِهِ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَبَيَانُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلُ فِي حَقِّ الْكِتَابِ وَالْكِتَابَةِ وَتَسْجِيلِ الْأَعْمَالِ وَإِيتَائِهَا بِنُصُوصٍ صَرِيحَةٍ وَاضِحَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [18 \ 49] . وَقَوْلِهِمْ صَرَاحَةً: يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [18 \ 49] . وَقَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18] . وَقَوْلِهِ: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 14] ، فَهُوَ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ يُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْرَؤُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، مِمَّا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَجْعَلُ أَخْذَ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ كِنَايَةً عَنِ الْيُمْنِ وَالشُّؤْمِ. وَهَذَا فِي الْوَاقِعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شُؤْمِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ، وَبِدُونِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وَالْمُسَمَّى عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِاللَّعِبِ. نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّى ظَنَنْتُ أَنَّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ وَالظَّنُّ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ إِذَا وُجِدَتِ الْقَرَائِنُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [18 \ 53] ، أَيْ: عَلِمُوا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [18 \ 53] ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ ; لِأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا الظَّنُّ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْجَزْمِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [49 \ 12] ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَعْضَهُ لَيْسَ إِثْمًا، فَيَكُونُ حَقًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [2 \ 46] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 قِيلَ فِي (مَا) : إِنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ ; بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، وَالْجَوَابُ: لَا شَيْءَ، وَقِيلَ: نَافِيَةٌ، أَيْ: لَمْ يُغْنِ عَنِّي مَالِيَهْ شَيْئًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [26 \ 88] . وَقَوْلُهُ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [111 \ 2] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ (الْكَهْفِ) عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي [18 \ 36] . وَفِي سُورَةِ (الزُّخْرُفِ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا الْآيَةَ [43 \ 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلَكَ عَنَّي سُلْطَانِيَهْ أَيْ: لَا سُلْطَانَ وَلَا جَاهَ وَلَا سُلْطَةَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [18 \ 48] : حُفَاةً عُرَاةً. وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [6 \ 94] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فِيهِ عَطْفُ عَدَمِ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، مِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُعَذَّبُ عَلَى الْفُرُوعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَبْحَثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (فُصِّلَتْ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [41 \ 6 - 7] ، وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - قَوْلَهُ: كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُؤْمِنُ يُثَابُ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَلَى طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يَزْدَادُ بِالْمَعَاصِي. وَيُجَازَى الْكَافِرُ عَلَى كُفْرِهِ وَعَلَى عِصْيَانِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [16 \ 88] . فَعَذَابٌ عَلَى الْكُفْرِ وَعَذَابٌ عَلَى الْإِفْسَادِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [3 \ 90] ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْحَثُ زِيَادَةِ الْعَذَابِ عِنْدَ آيَةِ (النَّحْلِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ إِضَافَةُ الْقَوْلِ إِلَى الرَّسُولِ الْكَرِيمِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ، كَمَا جَاءَ بَعْدَهَا، قَوْلُهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [69 \ 43] وَالرَّسُولُ يَحْتَمِلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْتَمِلُ جِبْرِيلَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَقِّ جِبْرِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [81 \ 19 - 21] . وَهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [69 \ 41] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنِ اتُّهِمَ بِذَلِكَ هُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَفَاهُ ذَلِكَ عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِثْبَاتُ الصِّفَةِ الْكَرِيمَةِ لِسَنَدِ الْقُرْآنِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ، وَقَدْ أَشَارَ لِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [81 \ 21 - 22] . فَأَثْبَتَ السَّلَامَةَ وَالْعَدَالَةَ لِرُسُلِ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ اللَّهِ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى قُرَيْشٍ مَا اتَّهَمَتْ بِهِ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهِ أَيْضًا الرَّدُّ عَلَى الرَّافِضَةِ دَعْوَاهُمُ التَّغْيِيرَ أَوِ النَّقْصَ فِي الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [46 \ 8] ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاضِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدِ اسْتَبْعَدَ أَبُو حَيَّانَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي (تَقَوَّلَ) رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: إِنَّهَا قُرِئَتْ بِالْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ (بَعْضٍ) ، وَقَالَ: وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ فَاعِلُ (تَقَوَّلَ) مُقَدَّرًا تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا مُتَقَوِّلٌ، وَقَدْ ذَكَرَ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ كُلٌّ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ وَالْكَشَّافِ، وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَلَا الطَّبَرِيُّ وَلَا النَّيْسَابُورِيُّ مِمَّنْ يُعْنَوْنَ بِالْقِرَاءَاتِ، مِمَّا يَجْعَلُ فِي صِحَّتِهَا نَظَرًا، فَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مُوَجَّهَةً وَلَكِنْ مَا اسْتَبْعَدَهُ أَبُو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 حَيَّانَ، وَمَنَعَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ فِي الْوَاقِعِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاضِ فَلَيْسَ مَمْنُوعًا، وَقَدْ جَاءَ الِافْتِرَاضُ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [43 \ 81] ، وَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] ، وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ فِي الْمَوْضُوعِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [46 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فِي هَذَا نَفْيُ كُلِّ بَاطِلٍ: مِنْ شِعْرٍ أَوْ كِهَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلِكُلِّ نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ إِضَافَةِ الْحَقِّ لِلْيَقِينِ، وَمَعْنَى التَّسْبِيحِ بِاسْمِ رَبِّكَ عِنْدَ آخِرِ سُورَةِ (الْوَاقِعَةِ) ، وَحَقُّ الْيَقِينِ هُوَ مُنْتَهَى الْعِلْمِ، إِذِ الْيَقِينُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: الْأُولَى: عِلْمُ الْيَقِينِ. وَالثَّانِيَةُ: عَيْنُ الْيَقِينِ. وَالثَّالِثَةُ: حَقُّ الْيَقِينِ، كَمَا فِي التَّكَاثُرِ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [102 \ 5 - 7] فَهَاتَانِ دَرَجَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ إِذَا دَخَلُوهَا كَانَ حَقَّ الْيَقِينِ، وَمِثْلُهُ فِي الدُّنْيَا: الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْكَعْبَةِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ رُؤْيَتُهَا عَيْنُ الْيَقِينِ، ثُمَّ بِالدُّخُولِ فِيهَا يَكُونُ حَقَّ الْيَقِينِ، وَكَمَا نُسَبِّحُ اللَّهَ وَهُوَ تَنْزِيهُهُ، فَكَذَلِكَ نُنَزِّهُ كَلَامَهُ ; لِأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الْمَعَارِجِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ الْمَعْلُومُ أَنَّ مَادَّةَ سَأَلَ لَا تَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، كَتَعَدِّيهَا هُنَا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الْفِعْلَ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ: مَا اسْتَعْجَلَ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [29 \ 53] ، وَذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ سَأَلَ بِمَعْنَى دَعَا. وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [8 \ 32] ، وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقُرِئَ (سَالَ) بِدُونِ هَمْزَةٍ مِنَ السَّيْلِ، ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالُوا: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: مُخَفَّفُ (سَأَلَ) اهـ. وَلَعَلَّ مِمَّا يُرَجِّحُ قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْفِعْلَ ضُمِّنَ مَعْنَى مَثَلٍ آخَرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا الْآيَةَ [42 \ 18] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ [8 \ 32] ، وَأَحَالَ عَلَى سُورَةِ (سَأَلَ) وَقَالَ: وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ بَيَّنَ هُنَاكَ: أَنَّ قَوْلَهُمْ يَدُلُّ عَلَى جَهَالَتِهِمْ ; حَيْثُ لَمْ يَطْلُبُوا الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ. وَحَيْثُ إِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَالَ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ ; فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ إِنَّمَا هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ: (سَأَلَ سَائِلٌ) بِمَعْنَى: اسْتَعْجَلَ أَوْ دَعَا ; لِوُجُودِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ آيَةِ (سَأَلَ) وَآيَةِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ الْمَذْكُورَةِ. فَإِنَّهُمَا مُرْتَبِطَانِ بِسَبَبِ النُّزُولِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأَلَ سَائِلٌ، قَالَ: دَعَا دَاعٍ (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) . قَالَ: هُوَ قَوْلُهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الْآيَةَ. وَالْقَائِلُ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلْدَةَ. وَالْإِيضَاحُ الْمُنَوَّهُ عَنْهُ يُمْكِنُ اسْتِنْتَاجُهُ مِنْ هَذَا الرَّبْطِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَهَالَتِهِمْ، وَبَيَانِ مَا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَذَابُ الْوَاقِعُ هَلْ وُقُوعُهُ فِي الدُّنْيَا أَمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ . وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ جَهَالَةَ قُرَيْشٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِطَلَبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ كَمَا قِيلَ: لِمَا نَافِعٍ يَسْعَى اللَّبِيبُ فَلَا تَكُنْ سَاعِيًا. وَأَمَّا النَّقْلُ ; فَلِأَنَّ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا: أَنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ وَقَدْ جَاءُوا مُتَحَدِّينَ غَايَةَ التَّحَدِّي لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الْحَقَّ، قَالُوا: آمَنَّا، وَخَرُّوا سُجَّدًا وَلَمْ يُكَابِرُوا، كَمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ نَبَئِهِمْ فِي كِتَابِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى وَلَمَّا اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ، وَقَالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، قَالُوا وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ هُنَا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا) وَلَمْ يُبَالُوا بِوَعِيدِهِ وَلَا بِتَهْدِيدِهِ. وَقَالُوا فِي اسْتِخْفَافٍ: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) [20 \ 70 - 72] ، فَهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الْبَيِّنَاتِ خَرُّوا سُجَّدًا وَأَعْلَنُوا إِيمَانَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ. أَمَّا وُقُوعُ الْعَذَابِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ ; لِلتَّأْكِيدِ عَلَى وُقُوعِهِ، وَكَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَقَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالَ: هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [16 \ 1] . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ. أَمَّا مَتَى يَكُونُ فَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ (الطُّورِ) نَظِيرُةُ هَذِهِ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [52 \ 7 - 8] ، ثُمَّ بَيَّنَ ظَرْفَ وُقُوعِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [52 \ 9 - 10] ، وَفِي سِيَاقِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى [70 \ 8 - 18] ; فَإِنَّهَا كُلَّهَا مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى زَمَنِ وُقُوعِهِ. وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى رَدًّا عَلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِالْعَذَابِ الْمُسْتَعْجِلِينَ بِهِ ; مُجَازَاةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ، كَمَا دَعَوْا وَطَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ اسْتِخْفَافًا ; فَهِيَ تَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا زَجْرًا وَتَخْوِيفًا، مُقَابَلَةَ دُعَاءٍ بِدُعَاءٍ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا دَعَوْتُمْ بِالْعَذَابِ فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَةِ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَوَلَّى، وَهَذَا الرَّدُّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ مِنْ تَغْيِيرِ السَّمَاءِ كَالْمُهْلِ، وَتَسْيِيرِ الْجِبَالِ كَالْعِهْنِ، وَتَقَطُّعِ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ مِنَ الْفَزَعِ وَالْهَوْلِ مِمَّا يَخْلَعُ الْقُلُوبَ، كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ قِصَّةَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ لِأَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسَارَى بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [52 \ 1 - 8] ، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي فَأَسْلَمْتُ ; خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَقُومَ مِنْ مَقَامِي حَتَّى يَقَعَ الْعَذَابُ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ إِلَى الْحَسَنِ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يَقْرَأُ: (وَالطُّورِ) حَتَّى بَلَغَ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، فَبَكَى الْحَسَنُ وَبَكَى أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ مَالِكٌ يَضْطَرِبُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، إِذْ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ بِالطُّورِ; فَرَبَا لَهَا أُعِيدَ مِنْهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَكَانَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُفْزِعُ رَدًّا عَلَى ذَاكَ الطَّلَبِ الْمُسْتَخِفِّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَنَأْمُلُ أَنْ نَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا الْإِيضَاحَ الَّذِي أَرَادَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِقْدَارُ هَذَا الْيَوْمِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَجَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرَ بِأَنَّهُ أَلْفُ سَنَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [32 \ 5] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ فِي الْمِقْدَارِ بِخَمْسِينَ مَرَّةً. وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَفِي الْأَضْوَاءِ فِي سُورَةِ (الْحَجِّ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ الْآيَةَ [22 \ 47] . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ أَنَّ الْأَيَّامَ مُخْتَلِفَةٌ: فَفِي (سَأَلَ) هُوَ يَوْمُ عُرُوجِ الرُّوحِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَفِي سُورَةِ (السَّجْدَةِ) هُوَ يَوْمُ عُرُوجِ الْأَمْرِ ; فَلَا مُنَافَاةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ الْمَهْلُ: دَرِيدِيُّ الزَّيْتِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ (الرَّحْمَنِ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [55 \ 37] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْعِهْنُ: الصُّوفُ، وَجَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَصْفُ الْعِهْنِ بِالْمَنْفُوشِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [101 \ 4 - 5] ، وَجَاءَتْ لَهَا عِدَّةُ حَالَاتٍ أُخْرَى: كَالْكَثِيبِ الْمَهِيلِ، وَكَالسَّحَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ كُلِّ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ [18 \ 47] فِي سُورَةِ (الْكَهْفِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا الْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ وَالصَّدِيقُ وَالْوَلِيُّ الْمُوَالِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [41 \ 34] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا، مَعَ أَنَّهُمْ يُبَصَّرُونَهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مُوجِبَ ذَلِكَ وَهُوَ اشْتِغَالُ كُلِّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 37] ، وَكُلٌّ يَفِرُّ مِنَ الْآخَرِ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 34 - 37] . وَقَدْ جَاءَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ; كُلُّ نَبِيٍّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [22 \ 2] ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ فَزَعٍ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [27 \ 89] ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ. آمِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا الْهَلُوعُ: فَعُولٌ مِنَ الْهَلَعِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَالْهَلَعُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: شِدَّةُ سُرْعَةِ الْجَزَعِ عِنْدَ مَسِّ الْمَكْرُوهِ، وَسُرْعَةُ الْمَنْعِ عِنْدَ مَسِّ الْخَيْرِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [70 \ 20 - 21] . وَلَفْظُ: (الْإِنْسَانِ) هُنَا مُفْرَدٌ، وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ: جِنْسُ الْإِنْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ ; بِدَلِيلِ اسْتِثْنَاءِ الْمُصَلِّينَ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [70 \ 22] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [103 \ 1 - 3] وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِالْهَلَعِ فِي الْكُفَّارِ، وَيَدُلُّ لِمَا قَالَهُ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: تَفْسِيرُهُ فِي الْآيَةِ وَاسْتِثْنَاءُ الْمُصَلِّينَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَا عَقَّبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [70 \ 35] ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! شَأْنُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ: إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ هَلُوعٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اسْتَثْنَاهُمْ مِنَ الْإِنْسَانِ الْهَلُوعِ بِتِسْعِ صِفَاتٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 اثْنَتَانِ مِنْهَا تَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، وَهُمَا الْأُولَى وَالْأَخِيرَةُ ; مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبِ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَهَذَا مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ فِي الدِّينِ ; لِمَكَانَتِهَا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَفِي وَصْفِهِمْ هُنَا بِأَنَّهُمْ: (عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) ، وَفِي الْأَخِيرِ: (عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [70 \ 34] . قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الدَّوَامُ عَلَيْهَا الْمُوَاظَبَةُ عَلَى أَدَائِهَا لَا يُخِلُّونَ بِهَا، وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَاغِلِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَلَوْ قَلَّ» . وَيَشْهَدُ لِهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا [24 \ 36 - 37] ، وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [62 \ 9] . قَالَ: وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا أَنْ يُرَاعُوا إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ لَهَا وَمَوَاقِيتَهَا، وَيُقِيمُوا أَرْكَانَهَا وَيُكْمِلُوهَا بِسُنَنِهَا وَآدَابِهَا، وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [23 \ 1 - 2] . وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْجِعْ فَصَلِّ ; فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ، فَنَفَى عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ إِيقَاعِهِ الصَّلَاةَ أَمَامَهُ ; وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا بِتَوْفِيَتِهَا حَقَّهَا. وَقَدْ بَدَأَ اللَّهُ أُولَئِكَ الْمُسْتَثْنَيْنَ وَخَتَمَهُمْ بِالصَّلَاةِ، مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَمَبْدَأٌ لِهَذَا الْمَذْكُورِ كُلِّهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [2 \ 45] ، فَهِيَ عَوْنٌ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [29 \ 45] ، فَهِيَ سِيَاجٌ مِنْ كُلِّ مُنْكَرٍ، فَجَمَعَتْ طَرَفَيِ الْمَقْصِدِ شَرْعًا، وَهُمَا الْعَوْنُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْحِفَاظُ مِنَ الشَّرِّ، أَيْ: جَلْبُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ ; وَلِذَا فَقَدْ عُنِيَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ عِنَايَتِهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، إِلَى الْحَدِّ الَّذِي جَعَلَهَا الْفَارِقَ وَالْفَيْصَلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» . وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى قَتْلِ تَارِكِهَا. وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَثَرِ الصَّلَاةِ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَرُوحِهِ وَشُعُورِهِ، وَمَا تُكْسِبُهُ مِنْ طُمَأْنِينَةٍ وَارْتِيَاحٍ، كَلَامٌ كَثِيرٌ جِدًّا تُوحِي بِهِ كُلِّهِ مَعَانِي سُورَةِ (الْفَاتِحَةِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الثَّانِي، وَيُسَاوِي إِيتَاءَ الزَّكَاةِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ الْمَعْلُومَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَفْرُوضِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَا يَمْنَعُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ ; فَقَدْ يَكُونُ أَصْلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِمَكَّةَ، وَيَأْتِي التَّفْصِيلُ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُنَا إِجْمَالٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الْأَوَّلُ: فِي الْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: فِي الْحَقِّ الْمَعْلُومِ. أَيِ: الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ، وَلَمْ تَأْتِ آيَةٌ تُفَصِّلُ هَذَا الْإِجْمَالَ إِلَّا آيَةُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ هَذَا الْإِجْمَالَ. أَمَّا الْأَمْوَالُ، فَهِيَ لِإِضَافَتِهَا تَعُمُّ كُلَّ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْأَمْرِ كَذَلِكَ، فَالْأَمْوَالُ الزَّكَوِيَّةُ بَعْضٌ مِنَ الْجَمِيعِ، وَأُصُولُهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ هِيَ: أَوَّلًا: النَّقْدَانِ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. ثَانِيًا: مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ حُبُوبٍ وَثِمَارٍ. ثَالِثًا: عُرُوضُ التِّجَارَةِ. رَابِعًا: الْحَيَوَانُ، وَلَهَا شُرُوطٌ وَأَنْصِبَاءُ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَفْصِيلٌ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى بَعْضُ الْخِلَافِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا عِنْدَ آيَتَيْ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [9 \ 34] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [63 \ 141] ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِزَكَاةِ الْحَيَوَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 وَلَا زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَعَلَيْهِ نَسُوقُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ لِتَفْصِيلِ النِّصَابِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَمَا يَجِبُ فِي النِّصَابِ، وَمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ لِذِكْرِهِ مِنْ مَبَاحِثَ فِي ذَلِكَ كَالْخُلْطَةِ مَثَلًا، وَالصِّفَاتِ فِي الْمُزَكَّى، وَالرَّاجِحِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِمُقَارَنَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءِ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَأَنْصِبَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ; لِبَيَانِ قُوَّةِ التَّرَابُطِ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَدِقَّةِ الشَّارِعِ فِي التَّقْدِيرِ. أَوَّلًا: بَيَانُ النَّوْعِ الزَّكَوِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ. اعْلَمْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ -: أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ سَوَاءٌ. وَأُلْحِقَ بِالْبَقَرِ الْجَوَامِيسُ، وَالْإِبِلُ تَشْمَلُ الْعِرَابَ وَالْبَخَاتِيَّ، وَالْخِلَافُ فِي الْخَيْلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ بِالْقِيَاسِ فِي حَمْلِهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، إِذَا كَانَتْ لِلنَّسْلِ أَيْ: كَانَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا بِجَامِعِ التَّنَاسُلِ فِي كُلٍّ وَاشْتَرَطَ لَهَا السَّوْمَ أَيْضًا. وَبِحَدِيثِ: " مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَتُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ " الْحَدِيثَ. وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ كُلِّهَا، وَالْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ. فَقَالُوا: وَالْخَيْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ " الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سَتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ. أَمَّا الَّتِي لِرَجُلٍ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ " إِلَى آخِرِ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْقِسْمِ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سَتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ; فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ. فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا هُوَ الزَّكَاةُ. وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَوَافَقَهُ زُفَرُ، وَبِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا " فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ". أَدِلَّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَالرَّدُّ عَلَى أَدِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ ". وَالْفَرَسُ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ، وَبِعَدَمِ ذِكْرِهَا مَعَ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ الْأُخْرَى حَتَّى سُئِلَ عَنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَوْ كَانَتْ مِثْلَهَا فِي الْحُكْمِ لَمَا تَرَكَهَا فِي الذِّكْرِ. وَحَدِيثُ " قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الخَيْلِ ; فَهَاتُوا زَكَاةَ الرِّقَّةِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَأَجَابُوا عَلَى اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا، وَظُهُورِهَا إِعَارَتُهَا، وَطَرْقُهَا إِذَا طُلِبَ ذَلِكَ مِنْهُ. كَمَا أَجَابُوا عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَا نَقَلَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ أَنَّهُ: لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. وَرَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى دَلِيلِ الْجُمْهُورِ: بِأَنَّ فَرَسَهُ مُجْمَلٌ، وَهُوَ يَقُولُ بِالْحَدِيثِ إِذَا كَانَ الْفَرَسُ لِلْخِدْمَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْخَيْلُ لِلتَّنَاسُلِ، فَقَدْ خَصَّهَا الْقِيَاسُ، وَعَلَى حَدِيثِ (عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ) بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَهَذِهِ دَعْوَى تَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتٍ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَلَعَلَّ مِمَّا يَرُدُّ اسْتِدْلَالَ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسُ الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَرِينَةِ التَّقْسِيمِ، إِذَا أَنَاطَ الْأَجْرَ فِيهَا بِالْجِهَادِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّكَاةَ، مَعَ أَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ تَكُونُ أَلْزَمَ مِنَ الْأَجْرِ أَوْ أَعَمَّ مِنَ الْجِهَادِ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ: كَالْمَرْأَةِ مَثَلًا فَتُزَكِّي ; فَلَوْ كَانَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ لَمَا خَرَجَتْ عَنْ قِسْمِ الْأَجْرِ. ثَانِيًا: لَوْ كَانَ حَقُّ اللَّهِ فِي الْمَذْكُورِ هُوَ الزَّكَاةَ لَمَا تُرِكَ لِمُجَرَّدِ تَذَكُّرِهَا وَخِيفَ تَعَرُّضٌ لِلنِّسْيَانِ ; لِأَنَّ زَكَاةَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى لَمْ تُتْرَكْ لِذَلِكَ بَلْ يُطَالَبُ بِهَا صَاحِبُهَا، وَيَأْتِي الْعَامِلُ فَيَأْخُذُهَا، وَإِنِ امْتَنَعَ صَاحِبُهَا أُخِذَتْ جَبْرًا عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا تُعَامَلُ بِهِ، وَفِيمَا يُخْرَجُ فِي زَكَاتِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَهَا وَيَدْفَعَ عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَقَدْ جَعَلَ الْأَحْنَافُ زَكَاتَهَا لِصَاحِبِهَا، وَلَا دَخْلَ لِلْعَامِلِ فِيهَا، وَلَا يُجْبِرُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 وَقَدْ أَطَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا، وَلَعَلَّ أَحْسَنَ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا وَخَيْلًا وَرَقِيقًا، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ نُزَكِّيَهُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي فَأَفْعَلُهُ أَنَا، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: حَسَنٌ، وَسَكَتَ عَلِيٌّ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ لَوْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا بَعْدَكَ. فَأَخَذَ مِنَ الْفَرَسِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ: فَوَضَعَ عَلَى الْفَرَسِ دِينَارًا. وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ قَالُوا: نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ، فَهِيَ إِذًا دَائِرَةٌ بَيْنَ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّرْكِ. وَقَدْ جَاءَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَالْحُمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [99 \ 7] رَوَاهُ السِّتَّةُ إِلَّا التِّرْمِذِيُّ. وَعَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْوُجُوبِ أَوْ لِلتَّرْكِ لَمْ تَصْلُحْ لِلِاحْتِجَاجِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ الِاحْتِمَالُ فِي مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَرِقَابِهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ مُجْمَلٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِي النُّصُوصِ الْمَرْفُوعَةِ مُتَمَسَّكٌ لِلْأَحْنَافِ فِي قَوْلِهِمْ: بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْخَيْلِ، وَبَقِيَ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَمَّا مَفْهُومُ الْحَدِيثِ ; فَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى الْقَرَائِنِ الَّتِي فِيهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا فِعْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفِيهِ قَرَائِنُ أَيْضًا، بَلْ أَدِلَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَهِيَ: أَوَّلًا: لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُزَكِّيَهَا وَيُطَهِّرَهَا بِالزَّكَاةِ، وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رَغْبَةِ الْمَالِكِ. ثَانِيًا: تَوَقُّفُ عُمَرَ وَعَدَمُ أَخْذِهَا مِنْهُمْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَلَوْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ مُزَكَّاةً لَمَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ وَلَمَا تَوَقَّفَ. ثَالِثًا: تَصْرِيحُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ، فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ هُوَ؟ ! . رَابِعًا: قَوْلُ عَلِيٍّ: مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً مِنْ بَعْدِكَ. أَيْ: إِنْ أَخَذَهَا عُمَرُ اسْتِجَابَةً لِرَغْبَةِ أُولَئِكَ فَلَا بَأْسَ لِتَبَرُّعِهِمْ بِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَعْلِهَا لَازِمَةً عَلَى غَيْرِهِمْ فَتَكُونَ كَالْجِزْيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثُ: " قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَأَدُّوا زَكَاةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 أَمْوَالِكُمْ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: وَهَذَا مَا يَتَّفِقُ مَعَ حَدِيثِ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَلَا فِي عَبْدِهِ " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَدْ أَجَابَ الْأَحْنَافُ عَلَى تَرَدُّدِ عُمَرَ: بِأَنَّ الْخَيْلَ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ سَائِمَةً لِلنَّسْلِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهَا ظَهَرَتْ بَعْدَ الْفُتُوحَاتِ فِي عَهْدِ عُمَرَ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ. وَعَلَيْهِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ فَتَبْقَى عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ لِلْخَيْلِ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ أَنْصِبَاءِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَقَرَ لَمْ يَأْتِ ذِكْرُهَا أَيْضًا فِيهِ ; لِأَنَّ زَكَاةَ الْبَقَرِ جَاءَتْ فِيهَا نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَصْحَابِ السُّنَنِ. وَلِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بَيَانُ أَنْصِبَاءِ الزَّكَاةِ وَمَا يُؤْخَذُ فِيهَا: مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يُفَصِّلُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ بَيَانَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] . وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ: كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ مُفَصَّلَةً وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ. فَكَذَلِكَ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مُجْمَلَ هَذَا الْحَقِّ، وَفِي أَيِّ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّ أَجْمَعَ نَصٍّ فِي ذَلِكَ هُوَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَتَبَهُ وَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَمَضَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِيمَا بَعْدُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ كِتَابًا، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ: " مُحَمَّدٌ " سَطْرٌ، وَ " رَسُولُ " سَطْرٌ، وَ " اللَّهِ " سَطْرٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ فَلَيْسَتْ فِيهَا صَدَقَةً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ. وَصَدَقَةُ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ. فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أَرْبَعِينَ شَاةً، وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَلَا يُجْتَمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. الْحَدِيثَ. فَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْصِبَاءَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَمَا يَجِبُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَنْصِبَاءِ الْبَقْرِ، وَلَكِنْ بَيَّنَ أَنْصِبَاءَ الْبَقْرِ حَدِيثُ مُعَاذٍ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ. قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الْيَمَنِ، أَلَّا آخُذَ مِنَ الْبَقْرِ شَيْئًا حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ: فَفِيهَا عِجْلٌ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ. وَلِهَذَيْنَ النَّصَّيْنِ الصَّحِيحَيْنِ يَكْتَمِلُ بَيَانُ أَنْصِبَاءِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: فِي كُلِّ عَشْرٍ مِنَ الْبَقَرِ شَاةٌ إِلَى ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ. تَنْبِيهٌ. وَلَيْسَ فِي الْوَقْصِ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ زَكَاةٌ، وَالْوَقْصُ هُوَ مَا بَيْنَ كُلِّ نِصَابٍ وَالَّذِي يَلِيهِ، كَمَا بَيْنَ الْخَمْسَةِ وَالتِّسْعَةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْعِشْرِينَ وَمِائَةَ مِنَ الْغَنَمِ، وَمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، إِلَّا خِلَافٌ لِلْأَحْنَافِ فِي وَقْصِ الْبَقَرِ فَقَطْ، وَالصَّحِيحُ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْجَمِيعِ ; لِحَدِيثِ مُعَاذٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ» ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَمَا بَيْنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ فِيهِ بِنِسْبَةٍ مِنَ التَّبِيعِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ لِزَكَاةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ النَّسْلَ وَالسَّوْمَ، وَأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَلَا الَّتِي لِلْعَمَلِ: كَالْإِبِلِ لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَالْبَقَرِ لِلْحَرْثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْمَعْلُوفَةِ وَفِي الْعَوَامِلِ الزَّكَاةُ، قَالَ فِي الْمُوَطَّإِ مَا نَصُّهُ: فِي الْإِبِلِ النَّوَاضِحِ وَالْبَقَرِ السَّوَاقِي وَبَقَرِ الْحَرْثِ ; إِنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ. وَاسْتَدَلُّوا لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلِ: مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. أَمَّا النُّصُوصُ ; فَمَا جَاءَ عَامًّا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَنْصِبَاءِ الزَّكَاةِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهُ الْغَنَمُ، فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، لِعُمُومِهِ فِي السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ. هَذَا فِي الْإِبِلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، أَيْ: بِدُونِ قَيْدِ السَّوْمِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: فَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّ كَثْرَةَ النَّفَقَاتِ وَقِلَّتَهَا إِذَا أَثَّرَتْ فِي الزَّكَاةِ ; فَإِنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي تَخْفِيفِهَا وَتَثْقِيلِهَا وَلَا تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِهَا وَلَا إِثْبَاتِهَا: كَالْخُلْطَةِ، وَالتَّفْرِقَةِ، وَالسَّقْيِ، وَالنَّضْحِ، وَالسَّبْحِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ إِلَّا تَخْفِيفَ النَّفَقَةِ وَتَثْقِيلَهَا. وَأَمَّا التَّمَكُّنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَعَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَا يَمْنَعُ عَلْفُهَا مِنَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَرَدَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَدِلَّةِ مَالِكٍ أَيْضًا بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلِ: مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. أَمَّا النُّصُوصُ: فَمَا جَاءَ مِنَ الْإِبِلِ فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، وَفِيهِ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةٌ ابْنَةُ لَبُونٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الْغَنَمِ حَدِيثُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالُوا: جَاءَ قَيْدُ السَّوْمِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَأَدِلَّةُ مَالِكٍ مُطْلَقَةٌ ; وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ فِي حَدِيثِ الْغَنَمَ جَاءَ الْمُطْلَقُ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، فَهُوَ لِبَيَانِ النِّصَابِ أَكْثَرُ مِنْهُ لِبَيَانِ الْوَصْفِ. وَحَدِيثُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» : لِبَيَانِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ أَكْثَرُ مِنْهُ لِبَيَانِ الْعَدَدِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُعْتَبَرُ الْحَدِيثَانِ مُتَرَابِطَيْنِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ، خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَحَدِيثُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» عَامٌّ فِي الْغَنَمِ بِدُونِ عَدَدٍ، خَاصٌّ فِي السَّائِمَةِ. وَحَدِيثُ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . عَامٌّ فِي الشِّيَاهِ، خَاصٌّ بِالْأَرْبَعِينَ. فَيُخَصَّصُ عُمُومُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِخُصُوصِ الْآخَرِ، فَيُقَالُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ، وَيُقَالُ: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً، وَبِهَذَا تَلْتَئِمُ الْأَدِلَّةُ فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ; لِاشْتِرَاطِ السَّوْمِ وَتَحْدِيدِ الْعَدَدِ. أَمَّا الْبَقَرُ: فَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِ السَّوْمِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ السَّوْمَ وَالنَّسْلَ لِلنَّمَاءِ، فَيَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، أَمَّا الْمَعْلُوفَةُ وَالْعَوَامِلُ فَلَيْسَتْ تَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي اشْتِرَاطِ السَّوْمِ وَالنَّسْلِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَا جَاءَ فِي الْخُلْطَةِ، وَهِيَ اخْتِلَاطُ الْمَالَيْنِ مَعًا لِرَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَوَّلًا: خُلْطَةُ أَعْيَانٍ. ثَانِيًا: خُلْطَةُ أَوْصَافٍ. فَخُلْطَةُ الْأَعْيَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْخُلَطَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَشَاعِ، كَمَنْ وَرِثُوا غَنَمًا أَوْ بَقَرًا مَثَلًا وَلَمْ يَقْتَسِمُوهُ، أَوْ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْتَسِمُوهُ. وَهَذِهِ الْخُلْطَةُ يَكُونُ حُكْمُ الْمَالِ فِيهَا كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ خَلْطَةُ الْأَوْصَافِ، فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُتَمَيِّزًا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ حِصَّتَهُ وَمَالَهُ بِعَدَدٍ وَأَوْصَافٍ، سَوَاءٌ بِأَلْوَانِهَا أَوْ بِوَسْمِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُمْ خَلَطُوا الْمَالَ لِيَسْهُلَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ، كَاخْتِلَاطِهِمْ فِي الرَّاعِي وَالْمَرْعَى، وَالْمَسْرَحِ وَالْمَرَاحِ، وَالْفَحْلِ وَالدَّلْوِ وَالْمَحْلَبِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ وَالِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ فُرِّقَ لَاحْتَاجَ كُلُّ مَالٍ مِنْهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذِهِ الْخُلْطَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ عِنْدَهُ فِي خُلْطَةِ الْمَشَاعِ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِهَا فِي الزَّكَاةِ عَلَى مَنْ تُؤَثِّرُ: فَقَالَ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ: تُؤَثِّرُ عَلَى جَمِيعِ الْخُلَطَاءِ، مَنْ يَمْلِكُونَ نِصَابًا، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَأَكْثَرَ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا عَلَيْهِ. وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَأْثِيرِهَا هُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ بَيَانِ أَنْصِبَاءِ الصَّدَقَةِ: (وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ; خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ ; فَإِنَّهُمْ يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ) . فَقَالَ الْجُمْهُورُ: النَّهْيُ عَنْ تَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي اجْتِمَاعِ الْأَوْصَافِ ; لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْمَشَاعِ لَا يَتَأَتَّى تَفْرِيقُهُ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ التَّرَاجُعُ بِالسَّوِيَّةِ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ ; لِأَنَّ خُلْطَةَ الْمَشَاعِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَجْمُوعِ وَعَلَى الْمَشَاعِ أَيْضًا ; لِأَنَّ كُلَّ شَرِيكٍ عَلَى الْمَشَاعِ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ كُلِّ شَاةٍ عَلَى الْمَشَاعِ. مِثَالُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَإِلَيْكَ الْمِثَالُ لِلْجَمِيعِ: لَوْ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ شَاةً، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ، فَإِنِ اخْتَلَطُوا كَانَتْ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا شَاةٌ وَاحِدَةٌ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ حَدُّ الشَّاةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْقَائِلِينَ بِتَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَلَوْ أَنَّ لِلْأَوَّلِ عِشْرِينَ شَاةً وَلِلثَّانِي أَرْبَعِينَ وَلِلثَّالِثِ سِتِّينَ، فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ. وَلَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ كُلٌّ بِحِصَّتِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ بِسِتِّينَ دِرْهَمًا، لَكَانَ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِنِسْبَةِ غَنَمِهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ، وَعَلَى الثَّانِي عِشْرُونَ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثُونَ ; كُلٌّ بِنِسْبَةِ غَنَمِهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: لَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا، وَالشَّاةُ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَقَطْ، وَبِنِسْبَةِ غَنَمِهِمَا مِنَ الْمَجْمُوعِ، فَعَلَى الثَّانِي خُمْسَا الْقِيمَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَهَكَذَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ; خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» . فَقَالَ الْجُمْهُورُ: النَّهْيُ عَنْ تَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ وَتَقَاسُمِهِمَا بِالسَّوِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِرْفَاقٍ. قَالَ الْبَاجِيُّ: كَمَا فِي الْإِرْفَاقِ فِي سَقْيِ الْحَرْثِ مَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِ النَّضْحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ يَعْنِي: الشَّرِيكَيْنِ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» ; لِأَنَّ التَّرَاجُعَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي خُلْطَةِ الْجِوَارِ وَالْأَوْصَافِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَأْثِيرَ لِلْخُلْطَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَمْلِكِ النِّصَابَ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، فَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ أَرْبَعِينَ شَاةً فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْخُلْطَةِ عَلَيْهِ. وَلَعَلَّ مِنَ النُّصُوصِ الْمُقَدَّمَةِ يَكُونُ الرَّاجِحُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَضِيَّةِ الْخُلْطَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الشُّرُوطُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْخُلْطَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا كَالْآتِي: عِنْدَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَمْسَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ اتِّحَادُ الْمَالَيْنِ فِي الْآتِي: الْمَرْعَى. الْمَسْرَحِ. الْمَبِيتِ. الْمَحْلَبِ. الْفَحْلِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَشَرَةَ أَوْصَافٍ، الْخَمْسَةُ الْأُولَى. وَزَادَ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُخْتَلِطُ نِصَابًا، أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِمْ حَوْلٌ كَامِلٌ، اتِّحَادُ الْمَشْرَبِ، اتِّحَادُ الرَّاعِي. وَعِنْدَ مَالِكٍ: الرَّاعِي، وَالْفَحْلُ، وَالْمَرَاحُ، وَالدَّلْوُ، وَالْمُرَادُ بِالدَّلْوِ: الْمَشْرَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ: يَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَّفِقِينَ تَقْرِيبًا فِي الْأَوْصَافِ، وَمَا زَادَهُ الشَّافِعِيُّ مَعْلُومٌ شَرْعًا ; لِأَنَّهَا شُرُوطٌ فِي أَصْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ: هَلْ تُشْتَرَطُ جَمِيعُهَا أَوْ يَكْفِي وُجُودُ بَعْضِهَا؟ . الْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِرْفَاقُ، فَمَالِكٌ اكْتَفَى بِبَعْضِهَا: كَالْفَحْلِ، وَالْمَرْعَى، وَالرَّاعِي. وَالشَّافِعِيُّ: اشْتَرَطَ تَوَفُّرَ جَمِيعِ تِلْكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 الْأَوْصَافِ، وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ الْخُلْطَةُ مُؤَثِّرَةً، وَلِكُلٍّ فِي مَذْهَبِهِ خِلَافٌ فِي تِلْكَ الْأَوْصَافِ لَا نُطِيلُ الْكَلَامَ بِتَتَبُّعِهِ، وَإِنَّمَا يُهِمُّنَا بَيَانُ الرَّاجِحِ فِيمَا فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الْآتِي: أَوَّلًا: صِحَّةُ تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ. ثَانِيًا: اشْتِرَاطُ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِهَا الْخُلْطَةُ عُرْفًا. مَلْحُوظَةٌ. لَقَدْ عَرَفْنَا أَنْصِبَاءَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَبَقِيَ عَلَيْنَا الْإِجَابَةُ عَنْ سُؤَالٍ طَالَ مَا جَالَ تَفَكُّرُ كُلِّ دَارِسٍ فِيهِ، وَهُوَ مَا يَقُولُهُ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمَقَادِيرَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَمِنْهَا أَنْصِبَاءُ الزَّكَاةِ. وَمَعْنَى تَوْقِيفِيَّةٍ: أَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ فِيهَا، وَلَكِنْ هَلْ هِيَ جَاءَتْ لُغَوِيَّةً، أَوْ أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءِ ارْتِبَاطًا وَنِسْبَةً مُطَّرِدَةً. الْوَاقِعُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ - وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا - هُوَ الِامْتِثَالُ وَالطَّاعَةُ، إِلَّا أَنَّنَا لَمَّا كُنَّا فِي عَصْرٍ مَادِّيٍّ، وَالنِّظَامُ الِاقْتِصَادِيُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي سِيَاسَةِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ ; فَإِنَّ الْبَعْضَ قَدْ يَتَطَلَّعُ إِلَى الْإِجَابَةِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. وَقَدْ حَاوَلْتُ الْإِجَابَةَ عَلَيْهِ بِعَمَلِ مُقَارَنَةٍ عَامَّةٍ تُوجَدُ بِهَا نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ كَالْآتِي: أَوَّلًا: فِي النَّقْدَيْنِ ; مَعْلُومٌ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَالْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا رُبْعُ الْعُشْرِ، وَكَانَ صَرْفُ الدِّينَارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَيَكُونُ نِصَابُ الذَّهَبِ مِنْ ضَرْبِ عِشْرِينَ فِي عَشَرَةٍ فَيُسَاوِي مِائَتَيْنِ، فَهِيَ نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ كَمَا تَرَى. وَإِذَا جِئْنَا لِلنِّسْبَةِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - وَهِيَ أَصْلُ الْأَثْمَانِ - وَبَيْنَ الْغَنَمِ نَجِدُ الْآتِي: أَوَّلًا: فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ دِينَارًا ; لِيَتْشَرِيَ لَهُمْ شَاةً، فَذَهَبَ وَأَتَاهُمْ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَاذَا فَعَلْتَ؟» فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ شَاتَيْنِ بِالدِّينَارِ، ثُمَّ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: أَتَبِيعُنِي شَاةً فَبِعْتُهُ شَاةً بِدِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ» . مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الدِّينَارَ قِيمَتُهُ الشِّرَائِيَّةُ تُعَادِلُ شَاتَيْنِ، مِنْ ضَرْبِ عِشْرِينَ دِينَارًا فِي اثْنَتَيْنِ فَيُسَاوِي أَرْبَعِينَ شَاةً، وَهَذَا هُوَ نِصَابُ الْغَنَمِ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، وَقِيمَتُهَا الشِّرَائِيَّةُ نِصْفُ الدِّينَارِ، وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ فِي الْعِشْرِينَ مِثْقَالَا ; فَاطَّرَدَتِ النِّسْبَةُ أَيْضًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبَيْنَ الْغَنَمِ. أَمَّا بَيْنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ: فَقَدْ وَجَدْنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ فِي الْهَدْيِ، وَنِصَابُ الْإِبِلِ خَمْسَةٌ وَتَضْرِبُهَا فِي سَبْعٍ فَيُسَاوِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، وَلَوْ جُعِلَتْ سِتًّا لَكَانَتْ تُعَادِلُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَأَخَذْنَا بِالْأَقَلِّ ; احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْمِسْكِينِ، فَكَانَ بَيْنَ نِصَابِ الْإِبِلِ وَنِصَابِ الْغَنَمِ نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ. وَكَذَلِكَ نِصَابُ الْغَنَمِ وَنِصَابُ النَّقْدَيْنِ نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ. فَظَهَرَتِ الدِّقَّةُ وَاطِّرَادُ النِّسْبَةِ فِي الْأَنْصِبَاءِ. مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الزَّكَاةِ. اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الذُّكُورُ فِي الزَّكَاةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا ابْنُ لَبُونٍ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُورًا، وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذَا نَادِرٌ، وَلَكِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ السِّخَالُ مَعَ وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ بِهَا عَلَى صَاحِبِهَا. كَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَأْتِي بِهَا الرَّاعِي، وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ فَحْلِ الْإِبِلِ وَلَا تَيْسِ الْغَنَمِ، وَلَا الرُّبَى، وَلَا الْحَلُوبَةِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَرَّةِ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ. كَمَا لَا تُؤْخَذُ السَّخْلَةُ وَلَا الْعَجْفَاءُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ الْمِسْكِينِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي، وَلَا تَأْخُذْهَا، وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ، وَلَا الرُّبَى، وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ، وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْغَنَمِ وَخِيَارِهَا، وَغِذَاءُ الْغَنَمِ صِغَارُهَا، وَخِيَارُهَا كِبَارُهَا وَأَسْمَنُهَا ; فَهِيَ عَدْلٌ، أَيْ: وَسَطٌ. وَهُنَا تَتَحَتَّمُ كَلِمَةٌ، يُعْتَبَرُ كُلُّ نِظَامٍ مَالِيٍّ فِي الْعَالَمِ نِظَامًا مَادِّيًّا بَحْتًا يَقُومُ عَلَى مَبَانِي الْأَرْقَامِ وَالْإِحْصَاءِ، فَهُوَ جَافٌّ فِي شَكْلِهِ، كَالْجِسْمِ بِدُونِ رُوحٍ، إِلَّا نِظَامَ الزَّكَاةِ ; فَهُوَ نِظَامٌ حَيٌّ لَهُ رُوحُهُ وَعَاطِفَتُهُ. فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يُلْزِمُ الْغَنِيَّ بِدَفْعِ قِسْطٍ لِلْفَقِيرِ، يَحْظُرُ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ فَوْقَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 مَا وَجَبَ، أَوْ أَحْسَنَ مَا وَجَدَ. كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» . وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَدْفَعُ الْغَنِيُّ فِيهِ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ، يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَيَنْتَظِرُ أَجْرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فَأَصْبَحَتِ الزَّكَاةُ بَيْنَ عَامِلٍ مُتَحَفِّظٍ وَبَيْنَ مَالِكٍ مُتَطَوِّعٍ، عَامِلٍ يَخْشَى قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» ، وَمَالِكٍ يَرْجُو فِي الْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَسَبْعَمِائَةٍ، وَزِيَادَةً مُضَاعَفَةً. وَقَدْ وَقَعَتْ قَضِيَّةٌ مُذْهِلَةٌ لَمْ يَشْهَدْ نِظَامٌ مَالِيٌّ فِي الْعَالَمِ مِثْلَهَا، وَهِيَ أَنَّهُ: ذَهَبَ عَامِلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّدَقَةِ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ فِي قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ بِصَاحِبِ إِبِلٍ، فَحَسَبَهَا، فَقَالَ لِصَاحِبِهَا: أَخْرِجْ بِنْتَ لَبُونٍ. فَقَالَ صَاحِبُ الْإِبِلِ: كَيْفَ أُخْرِجُ بِنْتَ لَبُونٍ فِي الزَّكَاةِ ; وَهِيَ لَا ظَهْرَ يُرْكَبُ وَلَا ضَرْعَ يُحْلَبُ، وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ كَوْمَاءُ، فَخُذْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ الْعَامِلُ: وَكَيْفَ آخُذُ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْكَ؟ فَتَلَاحَيَا مَعًا - الْعَامِلُ وَصَاحِبُ الْمَالِ - وَأَخَذَا، قَالَ لَهُ الْعَامِلُ: إِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ مُصِرًّا، فَهَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى الله عليه وسلم - مِنْكَ قَرِيبٌ بِالْمَدِينَةِ. اذْهَبْ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهَا مِنْكَ أَخَذْتُهَا، فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعَنْ طِيبِ نَفْسٍ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَمَرَ الْعَامِلَ بِأَخْذِهَا، فَدَعَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ ; فَعَاشَ حَتَّى عَهْدِ مُعَاوِيَةَ. فَكَانَتْ زَكَاةُ إِبِلِهِ هَذِهِ هِيَ رُوحَ الزَّكَاةِ فِي الْإِسْلَامِ، لَا مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ فِي النُّظُمِ الْأُخْرَى. أَمَّا نِظَامُ الضَّرَائِبِ حَيْثُ يَتَهَرَّبُونَ، وَيُقَلِّلُونَ وَيَتَّخِذُونَ دَفَاتِرَ مُتَعَدِّدَةً بَعْضُهَا لِمَصْلَحَةِ الضَّرَائِبِ يُقَلِّلُ فِيهَا دَخْلَهُ وَكَسْبَهُ لِتَخِفَّ الضَّرِيبَةُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَرَاهَا مَغْرَمًا كَالْجِزْيَةِ، وَبَعْضُهَا لِنَفْسِهِ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ مَالِهِ. أَمَّا الزَّكَاةُ: فَإِنَّ مَالِكَهَا يُقَدِّمُ زَكَاتَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ ; لِيُطَهِّرَ مَالَهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [9 \ 103] . وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ، وَإِنَّهَا لَتَقَعُ أَوَّلَ مَا تَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ فَيُنَمِّيهَا لَهُ كَمَا يُنَمِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ - أَيْ: وَلَدَ فَرَسِهِ - حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» . زَكَاةُ الْفِطْرِ. إِنَّ أَهَمَّ مَبَاحِثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ هِيَ الْآتِي: أَوَّلًا: حُكْمُهَا، صَدْرُ تَشْرِيعِهَا. ثَانِيًا: عَلَى مَنْ تَكُونُ. ثَالِثًا: مِمَّ تَكُونُ. رَابِعًا: كَمْ تَكُونُ. خَامِسًا: مَتَى تَكُونُ. سَادِسًا: هَلْ تَجْزِئُ فِيهَا الْقِيمَةُ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الزَّكَوَاتِ. أَمَّا حُكْمُهَا: فَهِيَ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ وَاجِبٌ عَلَى اصْطِلَاحِهِ، أَيْ: مَا وَجَبَ بِالسُّنَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبَةٌ، وَقِيلَ: سُنَّةٌ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ: يَجِبُ بِالسُّنَّةِ الصَّاعُ. إلخ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَذَا، هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ: وَآتُوا الزَّكَاةَ [2 \ 43] ، أَيْ: شُرِعَتْ بِأَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الزَّكَاةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمْ أَنَّهَا شُرِعَتْ بِنَصٍّ مُسْتَقِلٍّ عَنْهَا. فَمَنْ قَالَ بِفَرْضِيَّتِهَا، قَالَ: إِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْأَحْنَافِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ فِي نَتِيجَةِ التَّكْلِيفِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَكْفُرُ بِجُحُودِهَا. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ بِالسُّنَّةِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ إلخ. أَيْ: أَنَّ وُجُوبَهَا بِالسُّنَّةِ لَا بِالْكِتَابِ. وَعِنْدَهُمْ: لَا يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى مَنْعِهَا، وَيُقْتَلُ مَنْ جَحَدَ مَشْرُوعِيَّتَهَا، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَحْنَافِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 وَلَكِنْ فِي عِبَارَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ إِطْلَاقُ الْوُجُوبِ أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ: أَنَّ الرَّجُلَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ يَضْمَنُ نَفَقَتَهُ. إلخ. وَمِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - نُصُوصُ السُّنَّةِ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. الْحَدِيثَ. فَلَفْظَةُ فَرَضَ: أَخَذَ مِنْهَا مَنْ قَالَ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَأَخَذَ مِنْهَا الْآخَرُونَ، بِمَعْنَى قَدَّرَ ; لِأَنَّ الْفَرْضَ: الْقَدْرُ وَالْقَطْعُ. وَحَدِيثُ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ» . فَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ وَالْفَرْضِ. قَالَ: الْأَمْرُ لِلْأَوَّلِ لِلْوُجُوبِ، وَفَرْضِيَّةُ زَكَاةِ الْمَالِ شَمَلَتْهَا بِعُمُومِهَا. فَلَمْ يُحْتَجْ مَعَهَا لِتَجْدِيدِ أَمْرٍ وَلَمْ تُنْسَخْ فَنَهَى عَنْهَا، وَبَقِيَتْ عَلَى الْوُجُوبِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ ; طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» . فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِفَرْضِيَّتِهَا قَالَ: إِنَّهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، فَهِيَ لِعِلَّةٍ مَرْبُوطَةٍ بِهَا وَتَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا فَاتَتْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَثِّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِأَدَائِهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا وَأَنْ تَكُونَ طُهْرَةً. وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [9 \ 103] ، فَهِيَ فَرِيضَةٌ وَهِيَ طُهْرَةٌ. وَالرَّاجِحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهَا فَرْضٌ ; لِلَفْظِ الْحَدِيثِ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ; لِأَنَّ لَفْظَ فَرَضَ إِنْ كَانَ ابْتِدَاءً فَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى قَدَّرَ، فَيَكُونُ الْوُجُوبُ بِعُمُومِ آيَاتِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَقْوَى. وَحَدِيثُ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلَا صَارِفَ لَهُ هُنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ، وَيَخْرُجُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الْعُهْدَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَمَّا مِمَّ تَكُونُ: فَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ. قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. وَجَاءَ لَفْظُ السُّلْتِ، وَجَاءَ لَفْظُ الدَّقِيقِ، وَجَاءَ لَفْظُ السَّوِيقِ. فَوَقَفَ قَوْمٌ عِنْدَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَقَطْ وَهُمُ الظَّاهِرِيَّةُ. وَنَظَرَ الْجُمْهُورُ إِلَى عُمُومِ الطَّعَامِ وَالْغَرَضِ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا عَلَى خِلَافٍ فِي التَّفْصِيلِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَالْآتِي: أَوَّلًا: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْ كُلِّ قُوتٍ ; لِأَثَرِ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِيهِ لَفْظُ الطَّعَامِ. ثَانِيًا: مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْمُكَلَّفِ بِهَا ; لِأَنَّهَا الْفَاضِلُ عَنْ قُوتِهِ. ثَالِثًا: مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ ; لِأَنَّهَا حَقٌّ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ تَعَلَّقَ بِالطَّعَامِ كَالْكَفَّارَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَجُوزُ مِنْ كُلِّ حَبِّ مُعَشَّرٍ، وَفِي الْأَقِطِ خِلَافٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْمَالِكِيَّةِ. رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمَ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِهِ: تُخْرَجُ مِنَ الْقُوتِ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُخْتَصَرِ: يُؤَدِّيهَا مِنْ كُلِّ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قُوتِهِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ النَّوَوِيِّ: مِنْ كُلِّ حَبِّ مُعَشَّرٍ. وَنَاقَشَ الْبَاجِيُّ مَسْأَلَةَ إِجْزَائِهَا مِنَ الْأُرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ. فَقَالَ: لَا تَجُوزُ مِنْهَا عِنْد أَشْهَبَ وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَنَاقَشَ الْقَطَّانِيُّ: الْحِمَّصَ، وَالتُّرْمُسَ، وَالْجُلُبَّانَ، فَقَالَ: مَالِكٌ يُجَوِّزُهَا إِذَا كَانَتْ قُوتَهُ، وَابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُجَوِّزُهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَنْصُوصِ. وَاتَّفَقَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْمَطْعُومَ الَّذِي يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْأَبَازِيرِ: كُزْبَرَةٍ، وَكَمُّونٍ وَنَحْوِهِ، أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ. الْحَنَابِلَةُ، قَالَ فِي الْمُغْنِي: مِنْ كُلِّ حَبَّةٍ وَثَمَرَةٍ تُقْتَاتُ. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ: أَيْ عِنْدِ عَدَمِ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَيُجْزِئُ كُلُّ مُقْتَاتٍ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الْمُقْتَاتُ مِنْ غَيْرِهَا كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ أَيْضًا يُعْطِي مَا قَامَ مَقَامَ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. وَعَنِ ابْنِ حَامِدٍ عِنْدَهُمْ: حَتَّى لَحْمُ الْحِيتَانِ وَالْأَنْعَامِ، وَلَا يَرُدُّونَ إِلَى أَقْرَبِ قُوتِ الْأَمْصَارِ، وَيُجْزِئُ الْأَقِطُ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ إِنْ كَانَ قُوتَهُمْ. وَعِنْدَهُمْ: مَنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ غَيْرَهُ لَمْ يُجْزِهِ. الْأَحْنَافُ: تَجُوزُ مِنَ الْبُرِّ، وَالتَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالسَّوِيقِ، وَالدَّقِيقِ. وَمِنَ الْخُبْزِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ، وَتَجُوزُ الْقِيمَةُ عِنْدَهُمْ عِوَضًا عَنِ الجَمِيعِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بَيْنَ الصَّاعِ أَوْ نِصْفِ الصَّاعِ، عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ نَاقَشَهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَعْطَى الْقِيمَةَ لَمْ تُجْزِئْهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: أَخَافُ أَلَّا تُجْزِئَهُ خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِهَذَا الْعَرْضِ نَجِدُ الْأَئِمَّةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اتَّفَقُوا عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي أَثَرِ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ: إِمَّا بِعُمُومِ لَفْظِ الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ عُرْفًا الْقَمْحُ، إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَهُوَ الْعُرْفُ اللُّغَوِيُّ. وَإِمَّا بِعُمُومِ مَدْلُولِ الْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَقِطِ. وَالنَّصُّ يَقْضِي بِهِ. وَانْفَرَدَ الْأَحْنَافُ بِالْقَوْلِ بِالْقِيمَةِ وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ لِمَعْنَى الزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طُعْمَةً لِلْمِسْكِينِ، وَطُهْرَةً لِلصَّائِمِ» . وَقَوْلُهُ: (أَغْنُوهُمْ بِهَا عَنِ السُّؤَالِ) . لَوَجَدْنَا إِشَارَةً إِلَى جَوَازِ إِخْرَاجِهَا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ طُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا نَحُدُّهُ بِحَدٍّ أَوْ نُقَيِّدُهُ بِصِنْفٍ، فَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ بِجَامِعِ الْعِلَّةِ مُتَّجِهٌ، أَمَّا الْقِيمَةُ: فَقَدْ نَاقَشَ مَسْأَلَتَهَا صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، وَعُمْدَةُ أَدِلَّتِهِمُ الْآتِي: أَوَّلًا: بَيْنَ الْجَذَعَةِ وَالْمُسِنَّةِ فِي الْإِبِلِ بِشَاتَيْنِ. ثَانِيًا: قَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: «ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ؟ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 ثَالِثًا: رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَةً حَسَنَةً فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟» قَالَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ: إِنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ حَوَاشِي الْإِبِلِ؟ . قَالَ: «نَعَمْ» . رَابِعًا: مِثْلُهَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ ; يُؤْخَذُ فِيهَا قَدْرُ الْوَاجِبِ كَمَا تُؤْخَذُ عَيْنُهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ كَالْآتِي: أَمَّا التَّعْوِيضُ بَيْنَ الْجَذَعَةِ وَالْمُسِنَّةِ أَوِ الْحِقَّةِ إِلَى آخِرِهِ فِي الْإِبِلِ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي كِتَابِ الْأَنْصِبَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَنَصُّهُ: وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلَّا ابْنَةُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا. إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ; لِأَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ فَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ أَعْلَى أَوْ أَنْزَلُ مِنْهَا ; فَلِلْعَدَالَةِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمِسْكِينِ جُعِلَ الْفَرْقُ لِعَدَمِ الْحَيْفِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْأَصْلِ وَلَيْسَ فِيهِ أَخْذُ الْقِيمَةِ مُسْتَقِلَّةً، بَلْ فِيهِ أَخْذُ الْمَوْجُودِ، ثُمَّ جَبْرُ النَّاقِصِ. فَلَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ بِذَاتِهَا وَحْدَهَا تُجْزِئُ لَصَرَّحَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا يَجُوزُ هَذَا الْعَمَلُ إِلَّا عِنْدَ افْتِقَادِ الْمَطْلُوبِ، وَالْأَصْنَافُ الْمَطْلُوبَةُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِذَا عُدِمَتْ أَمْكَنَ الِانْتِقَالُ إِلَى الْمَوْجُودِ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ لَا إِلَى الْقِيمَةِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَتْحِ: لَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ مَقْصُودَةً لَاخْتَلَفَتْ حَسَبَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَكِنَّهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ. أَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: «ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ» . فَقَدْ نَاقَشَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ وَالْمَعْنَى. وَلَكِنَّ السَّنَدَ ثَابِتٌ، أَمَّا الْمَعْنَى، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي الْجِزْيَةِ. وَرُدَّ هَذَا: بِأَنَّ فِيهِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْجِزْيَةُ لَيْسَتْ مِنْهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَلِمَ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ مِنْ أَجْنَاسِهَا يَسْتَبْدِلُهَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالْمُعَاوَضَةِ عَمَلًا بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلطَّرَفَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنَّهُ اجْتِهَادُ أَعْرَفِهِمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَصَرُّفٌ بَعْدَ الِاسْتِلَامِ وَبُلُوغِهَا مَحِلَّهَا وَلَا سِيَّمَا مَعَ نَقْلِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَيْسَتْ تُنْقَلُ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّ مُهِمَّةَ زَكَاةِ الْمَالِ أَعَمُّ مِنْ مُهِمَّةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ ; فَفِيهَا النَّقْدَانِ وَالْحَيَوَانِ. أَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَطُعْمَةٌ لِلْمِسْكِينِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ ; فَلَا تُقَاسُ عَلَيْهَا. أَمَّا النَّاقَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي رَآهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ بَعِيرَيْنِ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِبْدَالِ بِالْجِنْسِ عَمَلًا لِلْمَصْلَحَةِ، لَمْ تَخْرُجْ عَنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا الْجِزْيَةُ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ الْوَاجِبِ: فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ; إِذْ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِيهَا جَانِبُ تَعَبُّدٍ وَارْتِبَاطٍ بِرُكْنٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْجِزْيَةُ: فَهِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، فَأَيُّمَا أُخِذَ مِنْهُمْ فَهُوَ وَافٍ بِالْغَرَضِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْقَائِلِينَ بِالْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مُسْتَنَدٌ صَالِحٌ، فَضْلًا عَنْ عَدَمِ النَّصِّ عَلَيْهَا. وَخِتَامًا: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيمَةِ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْأُصُولِ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْجِهَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ تِلْكَ الْأَصْنَافَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا الْقِيمَةَ وَلَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَذَكَرَهَا مَعَ مَا ذَكَرَ، كَمَا ذَكَرَ الْعِوَضَ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْفَقُ وَأَرْحَمُ بِالْمِسْكِينِ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: - وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ - أَنَّهُ لَا يُنْتَقَلُ إِلَى الْبَدَلِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْمُبْدَلِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْفَرْعَ إِذَا كَانَ يَعُودُ عَلَى الْأَصْلِ بِالْبُطْلَانِ فَهُوَ بَاطِلٌ. كَمَا رَدَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى الْحَنَابِلَةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْأُشْنَانَ يُجْزِئُ عَنِ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ. أَيْ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِهِ وَيَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ أَخَذُوا بِإِخْرَاجِ الْقِيمَةِ ; لَتَعَطَّلَ الْعَمَلُ بِالْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 فَكَأَنَّ الْفَرْعَ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ سَيَعُودُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الطَّعَامُ بِالْإِبْطَالِ، فَيَبْطُلُ. وَمِثْلُ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْهَدْيِ بِمِنًى مِثْلًا بِمِثْلٍ، عِلْمًا بِأَنَّ الْأَحْنَافَ لَا يُجِيزُونَ الْقِيمَةَ فِي الْهَدْيِ ; لِأَنَّ الْهَدْيَ فِيهِ جَانِبُ تَعَبُّدٍ، وَهُوَ النُّسُكُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: إِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِيهَا جَانِبُ تَعَبُّدٍ ; طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ، وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، كَمَا أَنَّ عَمَلِيَّةَ شِرَائِهَا وَمُكَيَّلَتِهَا وَتَقْدِيمِهَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ. أَمَّا تَقْدِيمُهَا نَقْدًا فَلَا يَكُونُ فِيهَا فَرْقٌ عَنْ أَيِّ صَدَقَةٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ، مِنْ حَيْثُ الْإِحْسَاسُ بِالْوَاجِبِ وَالشُّعُورِ بِالْإِطْعَامِ. وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيمَةِ فِيهَا جَرَّأَ النَّاسَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْقِيمَةِ فِي الْهَدْيِ وَهُوَ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى وَلَا الْأَحْنَافُ. بَيَانُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ عَنْ نَفْسِهِ، إِنَّمَا هُوَ صَاعٌ بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَمْحِ، فَقَالَ: نِصْفُ الصَّاعِ فَقَطْ مِنْهَا يَكْفِي. وَسَيَأْتِي بَيَانُ الرَّاجِحِ فِي ذَلِكَ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ. مَا مِقْدَارُ الصَّاعِ، فَهُوَ فِي الْعُرْفِ الْكَيْلُ، وَهُوَ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيْ رَجُلٍ مُعْتَدِلِ الْكَفَّيْنِ، وَلِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ عَمَدَ الْعُلَمَاءُ إِلَى بَيَانِ مِقْدَارِهِ بِالْوَزْنِ. وَقَدْ نَبَّهَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمِقْدَارَ بِالْوَزْنِ تَقْرِيبِيٌّ ; لِأَنَّ الْمُكَيَّلَاتِ تَخْتَلِفُ فِي الْوَزْنِ ثِقَلًا وَخِفَّةً بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا: كَالْعَدَسِ، وَالشَّعِيرِ مَثَلًا، وَمَا كَانَ عُرْفُهُ الْكَيْلُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْوَزْنِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: إِنَّ مَنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ بِالْوَزْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ يُسَاوِي الْكَيْلَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَوْزُونُ ثَقِيلًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ وَزْنَ الثَّقِيلِ مِنَ الْخَفِيفِ يَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ بِالتَّأْكِيدِ. أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي وَزْنِ الصَّاعِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، الرِّطْلُ بِالْعِرَاقِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَخَذَ بِقَوْلِ أَنَسٍ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ بِمُدٍّ» وَهُوَ رِطْلَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، فَعَلَيْهِ يَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ. وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ: هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَيْلِ هُوَ عُرْفُ الْمَدِينَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَزْنِ هُوَ عُرْفُ مَكَّةَ، وَعُرْفُ الْمَدِينَةِ فِي صَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. كَمَا جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ: أَخَذْتُ الصَّاعَ مِنْ أَبِي النَّضْرِ. وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ: أَخَذْتُهُ عَنْ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَقَالَ: هَذَا صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يُعْرَفُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَخَذْنَا الْعَدَسَ فَعَبَّرْنَا بِهِ، وَهُوَ أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ يُكَالُ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَجَافَى عَنْ مَوْضِعِهِ، فَكِلْنَا بِهِ، ثُمَّ وَزَنَّاهُ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَقَالَ: هَذَا أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ، وَمَا تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ صَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلْثًا مِنَ الْبُرِّ وَالْعَدَسِ وَهُمَا أَثْقَلُ الْحُبُوبِ، فَمَا عَدَاهُمَا مِنْ أَجْنَاسِ الْفِطْرَةِ أَخَفُّ مِنْهُمَا، فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ صَاعٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَخْتَلِفُ مِنْهُمُ اثْنَانِ فِي أَنَّ مُدَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الصَّدَقَاتِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ رِطْلٍ وَنِصْفٍ، وَلَا دُونَ رِطْلٍ وَرُبُعٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا، وَلَكِنَّهُ عَلَى حَسَبِ رَزْنِهِ بِالرَّاءِ، أَيْ: رَزَانَتِهِ وَثِقَلِهِ مِنَ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ. قَالَ: وَصَاعُ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 وَثُلُثٌ، وَهُوَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ، وَسَبَبِ رُجُوعِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، مَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ: أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنِ الصَّاعِ، فَقَالُوا: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، فَطَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ، فَقَالُوا: غَدًا، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ سَبْعُونَ شَيْخًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ صَاعًا تَحْتَ رِدَائِهِ، فَقَالَ: صَاعِي وَرَثْتُهُ عَنْ أَبِي وَوَرِثَهُ أَبِي عَنْ جَدِّي، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخَذَ أَبُو يُوسُفَ يُقَارِنُهَا فَوَجَدَهَا كُلَّهَا سَوَاءً، فَأَخَذُوا وَاحِدًا مِنْهَا وَعَايَرَهُ بِالْمَاشِّ - وَهُوَ الْعَدَسُ غَيْرُ الْمَدْشُوشِ -، فَكَانَ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَفِي تِلْكَ الْقِصَّةِ: أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَيْتُكُمْ بِعِلْمٍ جَدِيدٍ ; الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، فَقَالُوا لَهُ: خَالَفْتَ شَيْخَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: وَجَدْتُ أَمْرًا لَمْ أَجِدْ لَهُ مَدْفَعًا. أَمَّا وَزْنُ الرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ فَأَسَاسُ الْوَحْدَةِ فِيهِ هِيَ الدِّرْهَمُ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا بِدَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ تِسْعُونَ مِثْقَالًا. وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: وَقَدْ زَادُوهُ مِثْقَالًا فَصَارَ وَاحِدًا وَتِسْعِينَ مِثْقَالًا، وَكَمُلَ بِهِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَقَصَدُوا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إِزَالَةَ كَسْرِ الدِّرْهَمِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْعَمَلُ الْأَوَّلُ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الْأَرْطَالِ فِي الْأَمْصَارِ الْأُخْرَى، فَكَالْآتِي نَقْلًا مِنْ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الرِّطْلُ الْبَعْلِيُّ: تِسْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَالْقُدْسِيُّ: ثَمَانِمِائَةٍ. وَالْحَلَبِيُّ: سَبْعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ. وَالدِّمَشْقِيُّ: سِتُّمِائَةٍ. وَالْمِصْرِيُّ: مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ. وَكُلُّ رِطْلٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، مَقْسُومٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ. وَعَلَيْهِ ; فَالصَّاعُ يُسَاوِي سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ الدِّرْهَمِ، وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ مِثْقَالًا. وَعَلَيْهِ أَيْضًا ; يَكُونُ الصَّاعُ بِالْأَرْطَالِ الْأُخْرَى. هُوَ الْمِصْرِيُّ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ وَتِسْعُ أَوَاقٍ وَسُبْعُ أُوقِيَّةٍ، وَبِالدِّمَشْقِيِّ رِطْلٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ. وَبِالْحَلَبِيِّ أَحَدَ عَشَرَ رِطْلًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ، وَبِالْقُدْسِيِّ عَشْرُ أَوَاقٍ وَسُبْعَا أُوقِيَّةٍ. وَإِذَا كَانَتْ مَوَازِينُ الْعَالَمِ الْيَوْمَ قَدْ تَحَوَّلَتْ إِلَى مَوَازِينَ فَرَنْسِيَّةٍ، وَهِيَ بِالْكِيلُوجِرَامِ، وَالْكِيلُو أَلْفُ جِرَامٍ، فَلَزِمَ بَيَانُ النِّسْبَةِ بِالْجِرَامِ، وَهِيَ: أَنَّ الْمُكَيَّلَاتِ تَتَفَاوَتُ ثِقَلًا وَكَثَافَةً، فَأَخَذْتُ الصَّاعَ الَّذِي عِنْدِي، وَعَايَرْتُهُ أَوَّلًا عَلَى صَاعٍ آخَرَ قَدِيمًا، فَوَجَدَتْ أَمْرًا مُلْفِتًا لِلنَّظَرِ عِنْدَ الْمُقَارَنَةِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّاعَ الَّذِي عِنْدِي يَزِيدُ عَنِ الصَّاعِ الْآخَرِ قَدْرَ مَلْءِ الْكَفِّ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا الْقِدْرُ الَّذِي فَوْقَ فَتْحَةِ الصَّاعَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ ; لِأَنَّ أَحَدَ الصَّاعَيْنِ فُتْحَتُهُ أَوْسَعُ. فَكَانَ الْجُزْءُ الْمُعَلَّى فَوْقَ فَتْحَتِهِ يُشَكِّلُ مُثَلَّثًا قَاعِدَتُهُ أَطْوَلُ مِنْ قَاعِدَةِ الْمُثَلَّثِ فَوْقَ الصَّاعِ الْآخَرِ، فَعَايَرْتُهُمَا مَرَّةً أُخْرَى عَلَى حَدِّ الْفُتْحَةِ فَقَطْ بِدُونِ زِيَادَةٍ فَكَانَا سَوَاءً. فَعَايَرْتُهُمَا بِالْمَاءِ حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ غَالِبًا مَا دَامَ صَالِحًا لِلشُّرْبِ وَلَيْسَ مَالِحًا، وَأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِوُجُودِ قَدْرٍ زَائِدٍ فَوْقَ الْحَافَّةِ، فَكَانَ وَزْنُ الصَّاعِ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ هُوَ بِالْعَدَسِ الْمَجْرُوشِ 2، 600 كَيلُوَيْنِ وَسِتَّمِائَةِ جِرَامٍ. وَبِالْمَاءِ 3، 100 ثَلَاثَةَ كِيلُوَاتٍ وَمِائَةَ جِرَامٍ. وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ كَافِيًا لِبَيَانِ الْوَزْنِ التَّقْرِيبِيِّ لِلصَّاعِ النَّبَوِيِّ فِي الزَّكَاةِ. زَكَاةُ الْوَرَقِ الْمُتَدَاوِلِ. مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْوَرَقِ بَدَلًا عَنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْرٌ قَدْ حَدَثَ بَعْدَ عُصُورِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَعُصُورِ تَدْوِينِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَمَا انْتَشَرَتْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِيلَادِيًّا فَقَطْ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - رَأْيٌ فِيهَا، وَمُنْذُ أَنْ وُجِدَتْ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مُخْتَلِفُونَ فِي تَقْيِيمِهَا وَفِي تَحْقِيقِ مَاهِيَّتِهَا مَا بَيْنَ كَوْنِهَا سَنَدَاتٍ: عَنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ عُرُوضِ تِجَارَةٍ، أَوْ نَقْدٍ بِذَاتِهَا. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّهَا وَثَائِقُ ضَمَانٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 مِنَ السُّلْطَانِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - إِبْدَاءُ وِجْهَةِ نَظَرِهِ فِيهَا فِي الرِّبَا، وَهَلْ يُبَاعُ بِهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ نَسِيئَةً أَمْ لَا؟ وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ نَظَرِيَّاتٍ فِي مَاهِيَّتِهَا، فَإِنَّهَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ تُعْتَبَرُ مَالًا، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ [70 \ 24] ; لِأَنَّهَا أَصْبَحَتْ ثَمَنَ الْمَبِيعَاتِ وَعِوَضَ السِّلَعِ. فِعْلَيْهِ تَكُونُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةً. وَالنِّصَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا يُعْتَبَرُ بِمَا يُشْتَرَى بِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فِي أَيِّ عُمْلَةٍ كَانَتْ هِيَ. فَفِي السُّعُودِيَّةِ مَثَلًا يُنْظَرُ كَمْ يُشْتَرَى بِهَا عِشْرُونَ مِثْقَالًا ذَهَبًا، أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِضَّةً، فَيُعْتَبَرُ هَذَا الْقَدْرُ هُوَ النِّصَابُ، وَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَهَكَذَا مِثْلُ الْإِسْتِرْلِينِيِّ، وَالرُّوبِيَّةِ وَالدُّولَارِ ; لِأَنَّ كُلَّ عُمْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَثِيقَةُ ضَمَانٍ مِنَ السُّلْطَانِ الَّذِي أَصْدَرَهَا، أَيْ: الدَّوْلَةِ الَّتِي أَصْدَرَتْهَا. سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِيمَا ضَمِنَتْهُ تِلْكَ الْوَثِيقَةُ، أَوْ فِيهَا بِعَيْنِهَا، أَوْ فِي قِيمَتِهَا كَعَرَضٍ، فَهِيَ لَنْ تَخْرُجَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ عَنْ دَائِرَةِ التَّمَوُّلِ وَالِاسْتِبْدَالِ، وَإِنَّ تَحْصِيلَ الْفَقِيرِ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَيًّا كَانَتْ ; فَإِنَّهُ بِهَا سَيَحْصُلُ عَلَى مَطْلُوبِهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَا يَشَاءُ مِنْ مَصَالِحَ وَفْقَ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ بِعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا زَكَاةَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَقْدِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَنْهَا إِسْقَاطٌ لِلزَّكَاةِ مِنْ أَغْلَبِيَّةِ الْعَالَمِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جَمِيعِهِ. تَنْبِيهٌ. سَبَقَ أَنْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مَوْضُوعِ زَكَاةِ الْعُرُوضِ فِي قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَنُصَّ فِي يَدِ التَّاجِرِ الْمُدِيرِ وَلَوْ دِرْهَمًا أَثْنَاءَ الْحَوْلِ، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي عُرُوضِ تِجَارَتِهِ. فَقَالَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: لَوْ كَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَوْجُودًا الْيَوْمَ لَمْ يَقِلْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعَالَمَ الْيَوْمَ كُلَّهُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ إِلَّا هَذِهِ الْأَوْرَاقَ، وَقَدْ لَا يَنُصُّ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 وَاحِدٌ فِضَّةً. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهِيَ غَالِبُ أَمْوَالِ النَّاسِ الْيَوْمَ. فَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ: أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ خَطِيرٌ ; وَهُوَ تَعْطِيلُ رَكْنِ الزَّكَاةِ، وَحِرْمَانُ الْمِسْكِينِ مِنْ حَقِّهِ الْمَعْلُومِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ ; فَهُوَ بَاطِلٌ. وَلَعَلَّنَا بِهَذَا الْعَرْضِ الْمُوجَزِ، نَكُونُ قَدْ أَوْرَدْنَا عُجَالَةَ مَا بَقِيَ مِنْ مَبْحَثِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ الْمَعْهُودِ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَنْ يُجَارَى فِي تَفْصِيلِهِ، وَأَنَّ تَتَبُّعَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ سَيُطِيلُ الْكِتَابَةَ، وَهُوَ - بِحَمْدِ اللَّهِ - مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بَيَانَ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ، وَبَيَانَ مَا هُوَ الرَّاجِحُ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ يَوْمُ الدِّينِ: هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ. كَمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ (الْفَاتِحَةِ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أَيْ: خَائِفُونَ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [55 \ 46] . وَقَوْلُهُ: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [52 \ 26 - 27] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا بَعْدَهَا، وَفِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، وَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مُبْتَغٍ وَرَاءَ الزَّوْجَةِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَخَاصَّةً مَنْ قَالَ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَمْتَعَ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً وَلَيْسَتْ أَمَةً مَمْلُوكَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 تَنْبِيهٌ. وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَقُولُ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبٍ لِطَائِفَةٍ مَا، إِلَّا الشِّيعَةُ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَمَّنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ أَنْفُسَهُمْ شِبْهُ مُتَنَاقِضِينَ فِي كُتُبِهِمْ، إِذْ يَنُصُّ الْحُلَلِيُّ - وَهُوَ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ - فِي بَابِ النِّكَاحِ: أَنَّ لِلْحُرِّ وَلِلْعَبْدِ عَلَى السَّوَاءِ أَنْ يَنْكِحَ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا، وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ، بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ وَبِدُونِ حَدٍّ، فَجَعَلَ هَذَا الْعَقْدَ كَمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا حُرَّةٌ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ. وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، قَالَ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فِي نِكَاحٍ دَائِمٍ وَلَيْسَ مُؤَقَّتًا. وَهُنَا يُقَالُ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تَعْتَدُّوا بِنِكَاحِهَا الثَّانِي الْمُؤَقَّتِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [2 \ 230] ، فَإِنِ اعْتَبَرْتُمُوهُ نِكَاحًا لَزِمَ إِحْلَالُهَا بِهِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ تَعْتَبِرُوهُ نِكَاحًا لَزِمَكُمُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مُبْتَغِي وَرَاءَ ذَلِكَ، أَيْ: أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمُ الْعَادُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ مَبْحَثِ: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [21 \ 78] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ قُرِئَ " بِشَهَادَاتِهِمْ " بِالْجَمْعِ، وَقُرِئَ " بِشَهَادَتِهِمْ " بِالْإِفْرَادِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْإِفْرَادَ يُؤَدِّي مَعْنَى الْجَمْعِ لِلْمَصْدَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [31 \ 19] . فَأَفْرَدَ فِي الصَّوْتِ مُرَادًا بِهِ الْأَصْوَاتُ. وَقِيلَ: الْإِفْرَادُ لِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ مُقِيمُونَ عَلَيْهَا. وَالْجَمْعُ لِتَنَوُّعِ الشَّهَادَاتِ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; فَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [41 \ 30] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيْ دَامُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهِ. وَيَدُلُّ لِلثَّانِي عُمُومَاتُ آيَةِ الشَّهَادَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الْبَيْعِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْكِتَابَةِ فِي الدَّيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عِدَّةُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَطْلَقَ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا وَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُمْ بِهَا إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [65 \ 2] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [4 \ 135] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ وَصْفِ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [70 \ 19] يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ غَيْرَ الْقَائِمِينَ بِشَهَادَاتِهِمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الذَّمِيمِ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [2 \ 283] ، وَقَوْلُهُ: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ [5 \ 106] . وَكَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ فِي وَصْفِ عِبَادِ الرَّحِمَنِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [25 \ 72] . وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ عِظَمِ جُرْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ " أَلَا وَشَهَادَةَ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةَ الزُّورِ "، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ ". تَنْبِيهٌ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، يُفِيدُ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ مُطْلَقًا، وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [2 \ 282] ، فَقَيَّدَ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: " خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي ذَمِّ الْمُبَادَرَةِ بِهَا، وَيَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا. وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ; بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي حَالَةِ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى شَهَادَاتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ: كَرِضَاعٍ، وَطَلَاقٍ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ ابْنُ فَرْحُونَ: أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَسْتَدِيمُ فِيهِ الْحُرْمَةُ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، فَلَا يَتْرُكُهَا، وَتَرْكُهَا جَرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ. وَقِسْمٌ لَا تَسْتَدِيمُ فِيهِ الْحُرْمَةُ: كَالزِّنَى، وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ تَرْكَهَا أَفْضَلُ مَا لَمْ يُدْعَ لِأَدَائِهَا ; لِحَدِيثِ هَزَّالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ ". الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَوَاطِنُ الشَّهَادَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَالَّتِي يَجِبُ الْقِيَامُ فِيهَا، نَسُوقُهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ. الْأَوَّلُ: الْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [2 \ 282] . الثَّانِي: الطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] . الثَّالِثُ: كِتَابَةُ الدَّيْنِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [2 \ 282] . الرَّابِعُ: الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [5 \ 106] . الْخَامِسُ: دَفْعُ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ إِذَا رَشَدَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [4 \ 6] . السَّادِسُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [24 \ 2] . السَّابِعُ: فِي السُّنَّةِ عَقْدُ النِّكَاحِ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ "، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَوَاطِنُ هَامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ، وَحَقِّ الْعِبَادِ مِنْ: حِفْظٍ لِلْمَالِ، وَالْعِرْضِ، وَالنَّسَبِ، وَفِي حَقِّ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَالْيَتِيمِ وَالْكَبِيرِ، فَهِيَ فِي شَتَّى مَصَالِحِ الْأُمَّةِ اسْتَوْجَبَتِ الْحَثَّ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالتَّحْذِيرَ مِنْ كِتْمَانِهَا: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [2 \ 283] . وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [2 \ 140] . وَقَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [2 \ 282] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، كُلُّهَا صِيَغُ الْجَمْعِ، وَالشَّهَادَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ فَرْدٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جَمَاعَةٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَثِّ الشَّاهِدِ تَكُونُ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي إِجْمَالًا: رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَرَجُلٌ وَيَمِينٌ، وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَرَجُلَانِ، وَثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَأَرْبَعَةٌ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَامْرَأَةٌ، وَامْرَأَتَانِ، وَجَمَاعَةُ الصِّبْيَانِ. وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ بِذَلِكَ صَرِيحَةً. أَمَّا الْوَاحِدُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [12 \ 26] . فَهُوَ، وَإِنْ كَانَ مُلْفِتَ النَّظَرِ إِلَى الْقَرِينَةِ فِي شَقِّ الْقَمِيصِ، إِلَّا أَنَّهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ. وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ: شَهَادَةُ خُزَيْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا شَهِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِرَاءِ الْفَرَسِ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ، وَجَعَلَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ. وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِثُبُوتِ شَهَادَةِ الطَّبِيبِ، وَالْقَائِفِ، وَالْخَارِصِ، وَنَحْوِهِمْ. وَجَاءَ فِي ثُبُوتِ رَمَضَانَ، فَقَدْ قَبِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، سَوَاءٌ كَانَ قَبُولُهَا اكْتِفَاءً بِهَا أَوِ احْتِيَاطًا لِرَمَضَانَ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي، فَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ " وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَطَالَ فِي تَصْحِيحِهِ وَتَوْجِيهِهِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَمَذْهَبٌ لِأَحْمَدَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي، وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] . وَبَيَّنَ تَعَالَى تَوْجِيهَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 وَبِهَذَا النَّصِّ رَدَّ الْجُمْهُورُ مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَالْمَذْهَبَ الْمَحْكِيَّ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ إِلَّا أَرْبَعَ نِسْوَةٍ وَلَمْ تَسْتَقِلَّ التَّسْوِيَةُ بِالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الرَّجُلَيْنِ ; فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [2 \ 282] . وَأَمَّا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِثْبَاتِ الْفَاقَةِ وَالْإِعْسَارِ: " حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، فَيَقُولُونَ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانَةَ فَاقَةٌ " الْحَدِيثَ. وَهُوَ حَدِيثُ قَبِيصَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَفِي إِثْبَاتِ الزِّنَا خَاصَّةً، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " النُّورِ ". وَأَمَّا الطَّائِفَةُ فَفِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [24 \ 2] . وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ فَفِي أَحْوَالِ النِّسَاءِ خَاصَّةً، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: " جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرْضَعْتُهُمَا، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فَارِقْهَا "، فَقَالَ: كَيْفَ أُفَارِقُهَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ " وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهَا وَحْدَهَا، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ فَعِنْدَ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ، وَقِيلَ عِنْدَ اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ حُضُورُ أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا جَمَاعَةُ الصِّبْيَانِ فَفِي جِنَايَاتِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ كَبِيرٌ. وَفِيهِ خِلَافٌ. وَرَجَّحَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْعَمَلَ بِهَا فِي مُذَكِّرَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فِي مَبْحَثِ رِوَايَةِ الصِّغَارِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا دَخْلَ لِلنِّسَاءِ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَالِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَى الْمَالِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا تَحْتَ الثِّيَابِ مِنَ النِّسَاءِ. وَفِي الشَّهَادَةِ مَبَاحِثُ عَدِيدَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْقَضَاءِ، كَتَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 لِابْنِ فَرْحُونَ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي الطُّرُقِ الْحِكَمِيَّةِ، وَابْن فَرْحُونَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ، لِمَنْ أَحَبَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ شُرُوطُ الشَّاهِدِ الْمُعْتَبَرَةُ، وَكُلُّهَا تَدُورُ عَلَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ ; لِأَمْرَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ هُمَا: الضَّبْطُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ النِّسْوَةِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] . وَالثَّانِي: الْعَدَالَةُ، وَالصِّدْقُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [49 \ 6] . وَهُنَا مَبْحَثٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ: هَلِ الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ حَتَّى يَظْهَرَ جَرْحُهُ أَمِ الْعَكْسُ؟ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْعِرَاقِ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ لَهُ: أَدْرِكِ النَّاسَ ; لَقَدْ تَفَشَّتْ شَهَادَةُ الزُّورِ. فَقَالَ عُمَرُ: بِتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَإِثْبَاتِ عَدَالَتِهِمْ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي مَرَاتِبِ الشُّهُودِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْتَبَةً، وَهِيَ: الْأُولَى: الشَّاهِدُ الْمُبَرَّزُ فِي الْعَدَالَةِ الْعَالِمُ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَجْرِيحُهُ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا أَبْهَمَهُ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ التَّجْرِيحُ إِلَّا بِالْعَدَاوَةِ. الثَّانِيَةُ: الْمُبَرَّزُ فِي الْعَدَالَةِ غَيْرُ الْعَالِمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَحُكْمُهُ كَالْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إِذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: الشَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ الْعَالِمُ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِلَّا فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِهَا، وَهِيَ: التَّزْكِيَةُ، شَهَادَتُهُ لِأَخِيهِ وَلِمَوْلَاهُ وَلِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ وَلِشَرِيكِهِ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ، وَإِذَا زَادَ فِي شَهَادَتِهِ أَوْ نَقَصَ فِيهَا، وَيُقْبَلُ فِيهِ التَّجْرِيحُ بِالْعَدَاوَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إِذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ. الرَّابِعَةُ: الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ غَيْرُ الْعَالِمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، حُكْمُهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إِذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 الْخَامِسَةُ: الشَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ ; إِذَا قَذَفَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ، فَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. السَّادِسَةُ: الَّذِي يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْعَدَالَةُ ; تَجُوزُ دُونَ تَزْكِيَةٍ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَافِرِينَ فِي السَّفَرِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ تَزْكِيَتِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِمَجْهُولِ الْحَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّحَرِّي عَنْهُ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُهُ. السَّابِعَةُ: الَّذِي لَا يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَلَا الْجَرْحَةُ ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ دُونَ تَزْكِيَةٍ، إِلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ تَكُونُ شَبِيهَةً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَتُوجِبُ الْيَمِينَ، وَتُوجِبُ الْحَمِيلَ، وَتَوْقِيفَ الشَّيْءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. الثَّامِنَةُ: الَّذِي يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْجَرْحَةُ ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ دُونَ تَزْكِيَةٍ، وَلَا تَكُونُ شَهَادَتُهُ شُبْهَةً تُوجِبُ حُكْمًا. التَّاسِعَةُ: الشَّاهِدُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ جَرْحَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْ يَعْلَمُهَا الْحَاكِمُ فِيهِ ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ دُونَ تَزْكِيَةٍ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ التَّزْكِيَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِمَّنْ عَلِمَ بِجَرْحَتِهِ إِذَا شَهِدَ عَلَى تَوْبَتِهِ مِنْهَا، وَنُزُوعِهِ مِنْهَا، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بِمَنْزِلَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ ; لِأَنَّ تَزْكِيَتَهُ لَا تَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ بِمَعْرِفَةٍ تُزِيدُهُ فِي الْخَبَرِ. الْعَاشِرَةُ: الْمُقِيمُ عَلَى الْجَرْحَةِ الْمَشْهُودُ بِهَا ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَلَا تُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ فِيهِ وَإِنْ زُكِّيَ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِذَا تَابَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: شَاهِدُ الزُّورِ ; فَلَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ شَهَادَتَهُ تَجُوزُ إِذَا تَابَ وَعُرِفَتْ تَوْبَتُهُ بِتَزَيُّدِ حَالِهِ فِي الصَّلَاحِ. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فِي قَوْلِ مَالِكٍ، فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مِنَ الْقَوْلِ. وَقِيلَ: مَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ إِذَا جَاءَ تَائِبًا مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْمَرَاتِبَ ; لِأَنَّهَا شَمِلَتْ أَنْوَاعَ الشُّهُودِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَفِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَاتُهُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 تَنْبِيهٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْرِيقِ الشُّهُودِ: إِنَّ هَذَا فِي الزِّنَا خَاصَّةً، وَقِيلَ: لِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَهُمْ مَتَى مَا رَأَى ذَلِكَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - تَفْرِيقَ الشُّهُودِ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ كَلَامٌ فِي قَضِيَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رُمِيَتْ بِالزِّنَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ. فَالْجُمْهُورُ: لَا يُحَلَّفُ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ جَوَازَهُ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْكَافِرِ فِي السَّفَرِ، وَمَدَارُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ لِصِدْقِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ يَدُورُ عَلَى أَصْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ الضَّابِطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] . وَالثَّانِي: الْعَدَالَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [49 \ 6] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِلشَّهَادَةِ مَبَاحِثُ عَدِيدَةٌ اكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدْنَا. وَقَدْ بَحَثَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبَاحِثَ الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَالْمَوْضُوعُ فِي كِتَابِ الطُّرُقِ الْحِكَمِيَّةِ. تَنْبِيهٌ. لِلشَّهَادَةِ عَلَاقَةٌ بِالْيَمِينِ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شَاهِدَانِ أَوْ يَمِينُهُ» . فَمَا هِيَ تِلْكَ الْعَلَاقَةُ؟ وَبَيَّنَ هَذِهِ الْعَلَاقَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [6 \ 19] ، وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [41 \ 53] ، وَقَوْلُهُ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [21 \ 78] ، وَقَوْلُهُ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [46 \ 8] . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى: شَاهِدٌ وَمُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ الْعِبَادِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَعْلَمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَإِذَا أَعْوَزَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْتَشْهِدُ بِاللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنِّي صِدْقَ دَعْوَايَ. وَكَذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنِ الْبَيِّنَةِ وَكَانَتِ الدَّعْوَى مُتَوَجِّهَةً، وَمِمَّا يُشْبِهُ، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقُولُ: لَدَيَّ الْبَيِّنَةُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيَّ، أَلَا وَهُوَ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ. مَنْ هُوَ أَكْبَرُ شَهَادَةً مِمَّا عَجَزَ عَنْهَا الْمُدَّعِي أَلَا وَهُوَ الِاسْتِشْهَادُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيَحْلِفُ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِمَّا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» أَيْ ; لِأَنَّ الْحَالِفَ يُقِيمُ الْمَحْلُوفَ بِهِ مَقَامَ الشُّهُودِ الَّذِينَ رَأَوْا أَوْ سَمِعُوا، وَالْمَخْلُوقُ إِذَا كَانَ غَائِبًا لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ، فَإِذَا حَلَفَ بِهِ كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ صِفَاتِ مَنْ يَرَى وَيَسْمَعُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى الْحَالِفُ وَالْمُسْتَحْلِفُ بِاللَّهِ يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَغَيْرُ اللَّهِ إِذَا مَا حُلِفَ بِهِ لَا يَقْوَى وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ «مُهْطِعِينَ» : أَيْ مُسْرِعِينَ نَافِرِينَ، «وَعِزِينَ» جَمْعُ عِزَةٍ، وَهُمُ الْجَمَاعَةُ، أَيْ: مَا بَالُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْكَ مُتَفَرِّقِينَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: وَنَحْنُ وَجَنْدَلٌ بَاغٍ تَرَكْنَا ... كَتَائِبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِينَ وَكَذَلِكَ هُنَا فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَاتٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ. تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْأَهْوَاءُ، وَأَخَذَتْهُمُ الْحَيْرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [74 \ 49 - 51] . وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُخْتَلِفُونَ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 أَجْمَلُ مَا يَعْلَمُونَ فِي مَا الْمَوْصُولَةِ «مِمَّا» ، وَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي عِدَّةِ مَرَاحِلَ: مِنْ تُرَابٍ أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، وَأَصْرَحُ نَصٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [77 \ 20] ، وَقَوْلُهُ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [86 \ 5 - 7] أَيْ: مَاءُ الرَّجُلِ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ يَخْتَلِطَانِ مَعًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [76 \ 1 - 2] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [70 \ 39] لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ، وَالْعَالِمُ لَيْسَ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِخْبَارٍ، وَلَكِنْ يُرَادُ بِذَلِكَ لَازِمُ الْخَبَرِ، وَهُوَ إِفْهَامُهُمْ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَهُمْ مِنْ هَذَا الَّذِي يَعْلَمُونَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ، كَمَا فِي سُورَةِ «الدَّهْرِ» إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [76 \ 2] . ثُمَّ قَالَ: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [76 \ 3] . ثُمَّ بَيَّنَ الْمَصِيرَ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 4 - 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا أُقْسِمُ ظَاهِرُهُ النَّفْيُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِدَلِيلِ جَوَابِ الْقَسَمِ بَعْدَهُ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ [70 \ 40 - 41] ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَجِيءِ «لَا» هَذِهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ فَصَّلَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» ، وَسَيُطْبَعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي نِهَايَةِ هَذِهِ التَّتِمَّةِ. وَقَوْلُهُ: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [70 \ 40] فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 17 - 18] . وَقَدْ جُمِعَتِ «الْمَشَارِقُ» هُنَا، وَثُنِّيَتْ فِي «الرَّحْمَنِ» وَأُفْرِدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [2 \ 115] ، فَالْجَمْعُ عَلَى مَشَارِقِ الشَّمْسِ فِي السَّنَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ مَشْرِقٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالتَّثْنِيَةُ لِمَشْرِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْإِفْرَادُ عَلَى الْجِهَةِ، وَسَيَأْتِي فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا بَيَّنَ هُنَا حَالَةَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَهِيَ الْقُبُورُ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ سِرَاعًا، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مُبَعْثَرِينَ هُنَا وَهُنَاكَ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [100 \ 9] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [99 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ حَالَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقَدْ جَمَعَ الْحَالَاتِ فِي سُورَةِ «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [54 \ 6 - 8] . نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ. وَفِي خِتَامِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ لِهَذَا الْوَصْفِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ تَأْيِيدٌ لِلْقَوْلِ ; بِأَنَّ سُؤَالَهُمْ فِي أَوَّلِهَا «بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» ، إِنَّمَا هُوَ اسْتِخْفَافٌ وَاسْتِبْعَادٌ. فَبَيَّنَ لَهُمْ تَعَالَى بَعْدَ عَرْضِ السُّورَةِ نِهَايَةَ مَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ ; لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَيَرْجِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ. فَارْتَبَطَ آخِرُ السُّورَةِ بِأَوَّلِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ نُوحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ نُوحًا لِيُنْذِرَ قَوْمَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ، فَالنِّذَارَةُ أَوَّلًا وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالرُّسُلِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ; وَذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ أَوَّلًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ الْآيَةَ. جَعَلَ الطَّاعَةَ هُنَا لِنَبِيِّ اللَّه ِ نُوحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَلَّقَ عَلَيْهَا مَغْفِرَةَ اللَّهِ لِذُنُوبِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ طَاعَةَ النَّبِيِّ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ، فَهِيَ فِي الْأَصْلِ طَاعَةٌ لِلَّهِ ; لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 79 - 80] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا أَيْ: عَلَى الدَّوَامِ كَمَا قَالَ: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [71 \ 8 - 9] . أَيْ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عَلَيْهِ - وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَذَلَ كُلَّ مَا يُمْكِنُهُ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مُدَّةَ مُكْثِهِ فِيهِمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [29 \ 14] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا بَيَّنَ تَعَالَى الْغَرَضَ مِنْ جَعْلِ الْأَصَابِعِ فِي الْآذَانِ لِعَدَمِ السَّمَاعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ [41 \ 26] ، وَإِصْرَارُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَنِ اتِّبَاعِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. كَمَا قَالُوا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ [11 \ 27] ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [42 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا رَتَّبَ إِرْسَالَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي تَيْسِيرِ الرِّزْقِ. وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ; فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا [11 \ 3] . كَمَا دَلَّتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [71 \ 25] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا هِيَ الْمُبِيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [12 \ 12 - 14] . وَهَذَا مَرْوِيٌّ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ. وَقِيلَ: «أَطْوَارًا» : شَبَابًا، وَشُيُوخًا، وَضُعَفَاءً. وَقِيلَ: «أَطْوَارًا» أَيْ: أَنْوَاعًا: صَحِيحًا، وَسَقِيمًا، وَبَصِيرًا، وَضَرِيرًا، وَغَنِيًّا، وَفَقِيرًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 وَقِيلَ: «أَطْوَارًا» : اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَلَكِنْ كَمَا قَدَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَقْوَالُ فِي الْآيَةِ وَكَانَ فِيهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُهُ، وَهُنَا قَرِينَةٌ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ صَحِيحًا، وَالْقَرِينَةُ هِيَ أَنَّ الْآيَةَ فِي قَضِيَّةِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْإِيجَادُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْإِيجَادِ صِفَاتٌ عَارِضَةٌ. وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنُونَ» كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ ذُيِّلَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [23 \ 14] . وَمِنْهَا أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى بَعْثِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِمُجَازَاتِهِمْ، فَكَانَ الْأَنْسَبُ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُهَا كَمَالَ الْخِلْقَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيجَادِ. وَالْأَنْسَبُ لِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ خَلْقُهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ وَمَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ تَطْوِيرُهَا إِلَى عَلَقَةٍ، ثُمَّ تَطْوِيرُ الْعَلَقَةِ مُضْغَةً، ثُمَّ خَلْقُ الْمُضْغَةِ عِظَامًا، ثُمَّ كَسْوُ الْعِظَامِ لَحْمًا. ثُمَّ نَشْأَتُهُ نَشْأَةً أُخْرَى. إِنَّهَا قُدْرَةٌ بَاهِرَةٌ وَسُلْطَةٌ قَاهِرَةٌ. وَمِثْلُهُ فِي «الْوَاقِعَةِ» : أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 58 - 59] . وَفِي «الطُّورِ» فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [52 \ 35] . إِنَّ أَصْلَ الْخِلْقَةِ وَالْإِيجَادِ، وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُجَابُ بِهِ عَلَى الْكَفَرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [80 \ 17] ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [80 \ 18 - 19] ذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَطْوَارِ فِي الْآيَةِ، هُوَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَيْهِ سُورَةُ «الْمُؤْمِنُونَ» . تَنْبِيهٌ. إِنَّ بَيَانَ أَطْوَارِ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَقَدِّمِ أَقْوَى فِي انْتِزَاعِ الِاعْتِرَافِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 مِنَ الْعَبْدِ، مَنْ يُحْيِي الْمَخْلُوقَ جُمْلَةً ; لِأَنَّهُ يُوقِفُهُ عَلَى عِدَّةِ مَرَاحِلَ مِنْ حَيَاتِهِ وَإِيجَادِهِ، وَكُلُّ طَوْرٍ مِنْهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ مَوْجُودٌ فِي الظَّوَاهِرِ الْكَوْنِيَّةِ أَيْضًا مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ، فَالسَّمَاءُ كَانَتْ دُخَانًا وَكَانَتْ رَتْقًا فَفَتَقَهُمَا، وَالْأَرْضُ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَبَيَّنَ الْجَمِيعَ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [79 \ 27 - 32] . وَأَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي «فُصِّلَتْ» قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا [41 \ 9 - 12] . ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى هَذَا التَّفْصِيلَ الْكَامِلَ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [41 \ 12] ، فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَطْوَارَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّهُ بِعِلْمٍ، وَمِنَ الْعَزِيزِ سُبْحَانَهُ، فَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ خَلْقُهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَلَكِنَّ الْعَرْضَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَبْعَدُ أَثَرًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا ثَلَاثَةُ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي كَثُرَ مَجِيئُهَا فِي الْقُرْآنِ: الْأُولَى: خَلْقُ الْإِنْسَانِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] . وَالثَّانِيَةُ: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 وَالثَّالِثَةُ: إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41 \ 39] . وَالرَّابِعُ: الَّذِي لَمْ نَذْكُرْ هُنَا هُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى بِالْفِعْلِ، كَقَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى [2 \ 73] . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - وَهُنَا سِيَاقُ هَذِهِ الْبَرَاهِينِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، وَلَكِنْ فِي هَذَا السِّيَاقِ إِشْكَالٌ فِيمَا يَبْدُو كَبِيرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا [71 \ 15] . وَإِذَا كَانَ السِّيَاقُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِالْمَعْلُومِ الْمُشَاهَدِ عَلَى الْمَجْهُولِ الْغَيْبِيِّ، فَإِنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ أَطْوَارًا مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ وَمُسَلَّمٌ بِهِ، وَإِنْبَاتُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ بِإِطْعَامِهِ مِنْ نَبَاتِهَا، وَإِحْيَاؤُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَاهْتِزَازُهَا، وَإِنْبَاتُهَا النَّبَاتَ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَاطَبِ: كَمَا شَاهَدْتَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدَمٍ وَتَطَوُّرَهُ أَطْوَارًا، وَشَاهَدْتَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَكَ وَأَحْيَا لَكَ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَكَ وَيُخْرِجَكَ مِنْهَا إِخْرَاجًا. وَلَكِنْ كَيْفَ تَقُولُ: وَكَمَا شَاهَدْتَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا طِبَاقًا، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِكَ. وَالْحَالُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُشَاهِدْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا طِبَاقًا، وَلَا رَأَى كَيْفَ خَلَقَهَا اللَّهُ سَبْعًا طِبَاقًا، وَالْإِشْكَالُ هُنَا هُوَ كَيْفَ قِيلَ لَهُمْ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ [71 \ 15] . وَالْكَيْفُ لِلْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ، وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [18 \ 51] . وَكَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ بِالْمَجْهُولِ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ؟ وَهُنَا تَسَاءَلَ ابْنُ كَثِيرٍ تَسَاؤُلًا وَارِدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: طِبَاقًا أَيْ: وَاحِدَةً فَوْقَ وَاحِدَةٍ، وَهَلْ هَذَا يُتَلَقَّى مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَقَطْ؟ أَوْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ، مِمَّا عُلِمَ مِنَ التَّسْيِيرِ وَالْكُسُوفَاتِ. وَأَظُنُّهُ يَعْنِي التَّسْيِيرَ مِنَ السَّيْرِ، فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ يَكْسِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَأَدْنَاهَا الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَذَكَرَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَكَلَامَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْإِشْكَالِ بِحَلٍّ يُرْكَنُ إِلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ لَا الْمُعَايَنَةِ. كَمَا تَقُولُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلْتُ بِفُلَانٍ كَذَا؟ وَعَلَى كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ يَرِدُ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْخَبَرُ دَلِيلًا عَلَى خَبَرٍ آخَرَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالسَّمْعِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مُجْمَلًا مِمَّا تُشِيرُ إِلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَالْآتِي: أَوَّلًا: إِنَّ تَسَاؤُلَ ابْنِ كَثِيرٍ هَلْ يُتَلَقَّى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَقَطْ؟ أَوْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ، لَا مَحَلَّ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَّا النَّقْلُ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [18 \ 51] ، أَيْ: آدَمُ. فَلَمْ نَعْلَمْ كَيْفَ خُلِقَ، وَلَا كَيْفَ سَارَتِ الرُّوحُ فِي جِسْمِ جَمَادٍ صَلْصَالٍ، فَتَحَوَّلَ إِلَى جِسْمٍ حَسَّاسٍ نَامٍ نَاطِقٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: إِنَّهُ عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ لَا الْمُعَايَنَةِ، فَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ. وَيُجِيبُ الْقُرْآنُ عَلَى السُّؤَالِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [41 \ 9 - 13] ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ هُنَا الْكُفَّارَ قَطْعًا ; لِقَوْلِهِ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ. وَخَاطَبَهُمْ بِأُمُورٍ مُفَصَّلَةٍ لَمْ يَشْهَدُوهَا قَطْعًا مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ، وَمِنْ تَقْدِيرِ أَقْوَاتِهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَمِنَ اسْتِوَائِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ. وَمِنْ قَوْلِهِ لَهَا وَلِلْأَرْضِ: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَمِنْ قَوْلِهِمَا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 وَمِنْ قَضَائِهِنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ. وَمِنْ وَحْيِهِ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا. كُلُّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِأُمُورٍ لَمْ يَشْهَدُوهَا وَلَمْ يَعْلَمُوا عَنْهَا بِشَيْءٍ، وَمِنْ ضِمْنِهَا قَضَاؤُهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، فَكَانَ كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ لِجَمَاعَةِ الْكُفَّارِ. وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ; فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْإِخْبَارِ وَمُوجِبُ هَذَا التَّقْدِيرِ مِنَ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، أَنْ يُصَدِّقُوا أَوْ أَنْ يُؤْمِنُوا. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ كُلِّ إِخْبَارٍ يَكُونُ مَقْطُوعًا بِصِدْقِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ هُوَ وَاثِقٌ بِقَوْلِهِ: يَقُولُ الْخَبَرَ، وَكَانَ لِقُوَّةِ صِدْقِهِ مُلْزِمًا لِسَامِعِهِ، وَلَا يُبَالِي قَائِلُهُ بِقَبُولِ السَّامِعِ لَهُ أَوْ إِعْرَاضِهِ عَنْهُ. وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً: فَإِنْ أَعْرَضُوا أَيْ: بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَا عَلَيْكَ مِنْهُمْ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَحَيْثُ إِنَّ اللَّهَ خَاطَبَهُمْ هُنَا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا لِفَرْطِ صِدْقِ الْإِخْبَارِ بِهِ، كَالْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ الْمُلْزِمِ لَهُمْ وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ، وَبَيَّنَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ أَنَّهَا سَبْعٌ طِبَاقٌ، بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَشَمْلُ كُلِّ سَمَاءٍ وَسُمْكُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا فِي الْكَيْفِيَّةِ حَاصِلَةٌ بِالْعَيْنِ مَحْسُوسَةٌ، وَلَكِنْ فِي شَخْصِيَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ ; حَيْثُ عُرِجَ بِهِ وَرَأَى السَّبْعَ الطِّبَاقَ، وَكَانَ يَسْتَأْذِنُ لِكُلِّ سَمَاءٍ. وَمُشَاهَدَةُ الْوَاحِدِ مِن َ الْجِنْ سِ كَمُشَاهَدَةِ الْجَمِيعِ، فَكَأَنَّنَا شَاهَدْنَاهَا كُلُّنَا لِإِيمَانِنَا بِصِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِحَقِيقَةِ مَعْرِفَتِهِمْ إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّدْقِ مِنْ قَبْلُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا يَنُصُّ تَعَالَى هُنَا أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ اتَّبَعُوا مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مَعَ أَنَّ الْمَالَ يَزِيدُ الْإِنْسَانَ نَفْعًا. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَالَ فِعْلًا قَدْ يُورِثُ خَسَارَةً وَهَلَاكًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [96 \ 6 - 7] ، أَيْ: بِالطُّغْيَانِ يَكُونُ إِهْلَاكًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 فِي هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ إِهْلَاكَ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ جَمِيعًا، مَعَ أَنَّ عَادَةَ الرُّسُلِ الصَّبْرُ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَفِيهِ إِخْبَارُ نَبِيِّ اللَّهِ نُوحٍ عَمَّنْ سَيُولَدُ مِنْ بَعْدُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، فَكَيْفَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ هَذَا الدُّعَاءَ، وَكَيْفَ حَكَمَ عَلَى الْمَوَالِيدِ فِيمَا بَعْدُ؟ وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بَيَّنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ هَذَا الدُّعَاءَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَحَدَّوْهُ وَيَئِسَ مِنْهُمْ، أَمَّا تَحَدِّيهِمْ فَفِي قَوْلِهِمْ: يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [11 \ 32] . وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [54 \ 9 - 10] . وَأَمَّا يَأْسُهُ مِنْهُمْ ; فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [11 \ 36] . وَأَمَّا إِخْبَارُهُ عَمَّنْ سَيُولَدُ: بِأَنَّهُ لَنْ يُولَدَ لَهُمْ إِلَّا فَاجِرٌ كَفَّارٌ، فَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَسَوَاءٌ فِي الْحَاضِرِ أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَذَلِكَ بِدَلِيلِ الِاسْتِقْرَاءِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَهُوَ أَنَّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، كَانُوا هُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ حِمْلَ سَفِينَةٍ فَقَطْ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى قَوْمِهِ أَنَّهُمْ فُتِنُوا بِالْمَالِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُ، وَهُوَ دَلِيلُ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا عَلَى قَوْمِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 88] . فَأَخْبَرَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَنْ قَوْمِهِ: أَنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَذَلِكَ مِنَ اسْتِقْرَاءِ حَالِهِمْ فِي مِصْرَ لَمَّا أَرَاهُمُ الْآيَةَ الْكُبْرَى: فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 21 - 24] . وَبَعْدَ أَنِ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِمَا قَصَّ عَلَيْنَا فِي قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [7 \ 133] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [7 \ 134 - 135] . فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَتُهُ وَمُوسَى يُعَايِنُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَكَذَلِكَ كَانَ دَلِيلُ الِاسْتِقْرَاءِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْمِهِ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَكْسِ الْأَقْوَامِ الْآخَرِينَ، حِينَمَا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ، وَفَعَلَتْ مَعَهُ ثَقِيفٌ مَا فَعَلَتْ فَأَدْمَوْا قَدَمَيْهِ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ وَمَعَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ: «لَا، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِاسْتِقْرَاءِ حَالِهِمْ ; أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ لِقِلَّةِ تَعَلُّمِهِمْ، وَأَنَّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى التَّعْلِيمِ. فَإِذَا عُلِّمُوا تَعَلَّمُوا، وَأَنَّ طَبِيعَتَهُمْ قَابِلَةٌ لِلتَّعْلِيمِ لَا أَنَّهُمْ كَغَيْرِهِمْ فِي إِصْرَارِهِمْ ; لِأَنَّهُ شَاهَدَ مِنْ كِبَارِهِمْ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، وَخُوطِبُوا بِخِطَابِ الْعَقْلِ، وَوَعَوْا مَا يُخَاطَبُونَ بِهِ، وَسَلِمُوا مِنَ الْعَصَبِيَّةِ وَالنَّوَازِعِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُمْ يَسْتَجِيبُونَ حَالًا كَمَا حَدَثَ لِعُمَرَ وَغَيْرِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِحَالِهِ مِثْلَ: الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا إِلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِلَى قَوْلِهِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [74 \ 11 - 26] فَعَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَهُ وَمَآلَهُ، وَلِذَا فَقَدْ دَعَا عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمِثْلُهُ أَبُو لَهَبٍ لَمَّا تَبَيَّنَ حَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [111 \ 3 - 4] فَلِكَوْنِ الْعَرَبِ أَهْلَ فِطْرَةٍ، وَلِكَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ أَيْضًا كَانَتِ الِاسْتِجَابَةُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ. انْظُرْ مُدَّةَ مُكْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَعْثَةِ إِلَى انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، كَمْ عَدَدُ مَنْ أَسْلَمَ فِيهَا بَيْنَمَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَمْكُثُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَلَمْ يُؤْمِنْ مَعَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 وَلِذَا كَانَ قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، كَانَ بِدَلِيلِ الِاسْتِقْرَاءِ مِنْ قَوْمِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ اسْتُجِيبَ لَهُ أَمْ لَا؟ وَبَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، مِنْهَا قَوْلُهُ: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [21 \ 76] . وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا وَقَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُبَاشَرَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [71 \ 25] ، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ أَقْصَى الْعُقُوبَتَيْنِ: الْإِغْرَاقَ، وَالْإِحْرَاقَ، مُقَابِلَ أَعْظَمِ الذَّنْبَيْنِ: الضَّلَالِ، وَالْإِضْلَالِ. وَكَذَلِكَ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ وَنَجَاتِهِ هُوَ وَأَهْلُهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي قَوْلِهِ: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا الْآيَةَ [54 \ 10 - 14] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: لَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ كُلَّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْكُفَّارِ، حَتَّى وَلَدَ نُوحٍ مِنْ صُلْبِهِ. وَهُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى قَضِيَّةِ وَلَدِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا إِلَى قَوْلِهِ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [11 \ 42 - 43] لَمَّا أَخَذَتْ نُوحًا الْعَاطِفَةُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [11 \ 45 - 46] أَثَارَ بَعْضُ النَّاسِ تَسَاؤُلًا حَوْلَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [11 \ 46] إِنَّهُ عَمَلٌ مَاضٍ يَعْمَلُ، أَيْ: بِكُفْرِهِ. وَتَسَاءَلُوا حَوْلَ صِحَّةِ نَسَبِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَصَمَ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ ; إِكْرَامًا لَهُمْ، وَأَنَّهُ ابْنُهُ حَقًّا ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي تَضَمَّنَ هَذَا الْقَوْلُ أَمْرَيْنِ: نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ فِي بُنُوَّتِهِ، ثَانِيًا: نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ فِي أَهْلِهِ، فَكَانَ الْجَوَابُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بِنَفْيِ النِّسْبَةِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى، «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» . وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ لَيْسَ ابْنَكَ، وَالْأَهْلُ أَعَمُّ مِنَ الِابْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، فَلَمَّا نَفَى نِسْبَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ عَلِمْنَا أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ بَاقِيَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ لَكَانَ النَّفْيُ يَنْصَبُّ عَلَيْهَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَيْسَ ابْنَكَ، وَإِذَا نَفَى عَنْهُ الْبُنُوَّةَ انْتَفَتْ عَنْهُ نِسْبَتُهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 تَعَالَى بَعْدَهَا: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [11 \ 37] أَيْ ; لِأَنَّ الظَّالِمِينَ لَيْسُوا مِنَ الْأَهْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلدِّينِ ; لِأَنَّ الدِّينَ يَرْبِطُ الْبَعِيدِينَ، وَالظُّلْمَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْكُفْرِ يُفَرِّقُ الْقَرِيبِينَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْجِنِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِن َ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فِيهِ إِثْبَاتُ سَمَاعِ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ وَإِعْجَابِهِمْ بِهِ، وَهِدَايَتِهِمْ بِهَدْيِهِ، وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ. وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [46 \ 29] ، وَفِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» بَيَانٌ لِمَا قَامَ بِهِ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ بَعْدَ سَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ، بِأَنَّهُمْ لَمَّا قُضِيَ سَمَاعُهُمْ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. وَفِيهَا: بَيَانُ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِكِتَابِ مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَدْ شَهِدُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، كَمَا جَاءَ هُنَا قَوْلُهُ: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَالشَّطَطُ: الْبَعِيدُ الْمُفْرِطُ فِي الْبُعْدِ، قَالَ عَنْتَرَةُ فِي مُعَلَّقَتِهِ: شَطَّتْ مَزَارُ الْعَاشِقِينَ فَأَصْبَحَتْ ... عِسِرًا عَلَى طُلَّابِهَا ابْنَةُ مَخْرَمِ وَرُوِيَ: حَلَّتْ بِأَرْضِ الزَّائِرِينَ فَأَصْبَحَتْ وَأَنْشَدَ أَيْضًا لِغَيْرِهِ: شَطَّ الْمَزَارُ بِجَذْوِي وَانْتَهَى الْأَمَلُ فَفِي كِلَا الْبَيْتَيْنِ الشَّطَطُ: الْإِفْرَاطُ فِي الْبُعْدِ، إِذْ فِي الْأَوَّلِ قَالَ: فَأَصْبَحَتْ عَسِرًا عَلَى طُلَّابِهَا، وَفِي الثَّانِي قَالَ: وَانْتَهَى الْأَمَلُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطَطِ الْبُعْدُ الْخَاصُّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 وَهُوَ الْبُعْدُ عَنِ الْحَقِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ [38 \ 22] . وَمِنْهُ الْبُعْدُ عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ إِلَى الشِّرْكِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَمَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي قَوْلِهِ: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [18 \ 14] ; لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ الْحَقِّ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا مَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [72 \ 2 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْحِرَاسَةِ: بِأَنَّهُ لِحِفْظِهَا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا [37 \ 6 - 7] ، وَبَيَّنَ تَعَالَى حَالَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَرِقُونَ الْكَلِمَةَ وَيَنْزِلُونَ بِهَا إِلَى الْكَاهِنِ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الشُّهُبَ تَأْتِيهِمْ مِنَ النُّجُومِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [67 \ 5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ لَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [34 \ 14] . وَقَدْ يَبْدُو مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِشْكَالٌ، حَيْثُ قَالُوا أَوَّلًا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [72 \ 1 - 2] ثُمَّ يَقُولُونَ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [72 \ 10] وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمْ تَسَاءَلُوا لَمَّا لَمَسُوا السَّمَاءَ فَمُنِعُوا مِنْهَا لِشِدَّةِ حِرَاسَتِهَا، وَأَقَرُّوا أَخِيرًا لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا السَّبَبَ فِي تَشْدِيدِ حِرَاسَةِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا مُنِعُوا مَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ الْوَحْيِ ; لِقَوْلِهِ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا [72 \ 7] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [72 \ 8] يَدُلُّ بِفَحْوَاهُ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنَ السَّمْعِ، كَمَا قَالُوا: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [72 \ 9] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 وَلَكِنْ قَدْ يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ السَّمَاعَ وَلَوْ مَعَ الْحِرَاسَةِ الشَّدِيدَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُمْ لَمْ وَلَنْ يَسْتَمِعُوا بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [26 \ 212] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [5 \ 66] ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [7 \ 96] فَكُلُّهَا نُصُوصٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اسْتَقَامَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْقَوِيمَةِ شِرْعَةِ اللَّهِ لَفَتَحَ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [71 \ 10 - 12] . وَمَفْهُومُ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ فَقَدْ يَكُونُ انْحِرَافُهُ أَوْ شِرْكُهُ مُوجِبًا لِحِرْمَانِهِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [18 \ 10 - 34] . فَهَذِهِ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا إِلَى قَوْلِهِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا [18 \ 34 - 43] . وَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ فِيمَا يَعِيشُهُ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ الْيَوْمَ بَيْنَ الِاتِّجَاهَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ الشُّيُوعِيِّ وَالرَّأْسِمَالِيِّ. وَمَا أَثْبَتَهُ الْوَاقِعُ مِنْ أَنَّ الْمُعَسْكَرَ الشُّيُوعِيَّ الَّذِي أَنْكَرَ وُجُودَ اللَّهِ، وَكَفَرَ بِالَّذِي خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاهُ رَجُلًا، فَإِنَّهُ وَكُلُّ مَنْ يَسِيرُ فِي فَلَكِهِ مَعَ مَدَى تَقَدُّمِهِ الصِّنَاعِيِّ، فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ لِكَافَّةِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فِي اسْتِيرَادِ الْقَمْحِ، وَإِنَّ رُوسْيَا بِنَفْسِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 لَتُفْرِجُ عَنْ بَعْضِ احْتِيَاطِهَا مِنَ الذَّهَبِ لِتَشْتَرِيَ قَمْحًا. وَلَا زَالَتْ تَشْتَرِيهِ مِنَ الْمُعَسْكَرِ الرَّأْسِمَالِيِّ. وَهَكَذَا الدُّوَلُ الْإِسْلَامِيَّةُ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اقْتِصَادِيَّاتِهَا بِالْمَذْهَبِ الِاشْتِرَاكِيِّ الْمُتَفَرِّعِ مِنَ الْمَذْهَبِ الشُّيُوعِيِّ ; فَإِنَّهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَفِيضُ بِإِنْتَاجِهَا الزِّرَاعِيِّ عَلَى غَيْرِهَا، أَصْبَحَتْ تَسْتَوْرِدُ لَوَازِمَهَا الْغِذَائِيَّةَ مِنْ خَارِجِهَا، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا قِصَّةَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، إِلَى قَوْلِهِ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، إِلَى قَوْلِهِ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [68 \ 17 - 29] . وَلِذَا كَانَتِ الزَّكَاةُ طُهْرَةً لِلْمَالِ وَنَمَاءً لَهُ. وَقَوْلُهُ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [72 \ 17] ، أَيْ: نَخْتَبِرَهُمْ فِيمَا هُمْ فَاعِلُونَ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَصَرْفِهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ، أَمِ الطُّغْيَانِ بِهَا وَمَنْعِ حَقِّهَا؟ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [96 \ 6 - 7] ، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18 \ 7] ، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [64 \ 15 - 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا «الْمَسَاجِدُ» : جَمْعُ مَسْجِدٍ. وَالْمَسْجِدُ لُغَةً اسْمُ مَكَانٍ عَلَى وَزْنٍ مَفْعِلٍ، كَمَجْلِسٍ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ مَكَانُ الْجُلُوسِ، وَهُوَ لُغَةً يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ صَالِحٍ لِلسُّجُودِ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا أَمَاكِنَ خَاصَّةً نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا ; لِأَوْصَافٍ طَارِئَةٍ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْمَزْبَلَةُ، وَالْمَجْزَرَةُ، وَالْمَقْبَرَةُ، وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ، وَفَوْقَ الْحَمَّامِ، وَمَوَاضِعُ الْخَسْفِ، وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ، وَالْمَكَانُ الْمَغْصُوبُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَعَدَمُهَا، وَالْبِيَعُ. وَقَدْ عَدَّ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - تِسْعَةَ عَشَرِ مَوْضِعًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [15 \ 80] فِي الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ أَرْضِ الْحِجْرِ، وَمُوَاطِنِ الْخَسْفِ، وَسَاقَ كُلَّ مَوْضِعٍ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ بَحْثٌ مُطَوَّلٌ مُسْتَوْفًى ; وَالْمَسْجِدُ عُرْفًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 كُلُّ مَا خُصِّصَ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِضَافَةِ هُنَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ مَعَ الْإِشْعَارِ بِاخْتِصَاصِهَا بِاللَّهِ، أَيْ: بِعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ [24 \ 36 - 37] . وَلِهَذَا مُنِعَتْ مِنَ اتِّخَاذِهَا لِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ بَيْعٍ وَتِجَارَةٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَهُ: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ» رَوَاهُ النِّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَكَذَلِكَ إِنْشَادُ الضَّالَّةِ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا سَمِعْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً بِالْمَسْجِدِ، فَقُولُوا لَهُ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ ; فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِذَلِكَ ; إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ» ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَنَى رَحْبَةً فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى: الْبَطْحَاءَ. وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ. وَاللَّغَطُ هُوَ: الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ جَلَبَةٌ وَاخْتِلَاطٌ. وَأَلْ فِي الْمَسَاجِدِ: لِلِاسْتِغْرَاقِ ; فَتُفِيدُ شُمُولَ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ، كَمَا تَدُلُّ فِي عُمُومِهَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَلَكِنْ جَاءَتْ آيَاتٌ تُخَصِّصُ بَعْضَ الْمَسَاجِدِ بِمَزِيدِ فَضْلٍ وَاخْتِصَاصٍ، وَهِيَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ; خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [3 \ 96 - 97] . فَذَكَرَ هُنَا سَبْعَ خِصَالٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ مِنْ أَنَّهُ: أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَمُبَارَكٌ، وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَفِيهِ آيَاتُ بَيِّنَاتٌ، وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ إِلَيْهِ، وَآيَاتٌ أُخَرُ. وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ; قَالَ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [17 \ 1] فَخُصَّ بِكَوْنِهِ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ، وَبِالْبَرَكَةِ حَوْلَهُ، وَأُرِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 وَقَدْ كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَعْرُجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَمِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَكِنْ لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ: كَعَلَامَاتِ الطَّرِيقِ ; لِتَكُونَ دَلِيلًا لَهُ عَلَى قُرَيْشٍ فِي إِخْبَارِهِ بِالْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَتَقْدِيمِ جِبْرِيلَ لَهُ الْأَقْدَاحَ الثَّلَاثَةَ: بِالْمَاءِ، وَاللَّبَنِ، وَالْخَمْرِ، وَاخْتِيَارِهِ اللَّبَنَ رَمْزًا لِلْفِطْرَةِ. وَاجْتِمَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ وَالصَّلَاةِ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، بَيْنَمَا رَآهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أُرِيَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ: فَمَسْجِدُ قُبَاءٍ: نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [9 \ 108] . فَجَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ مَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ؟ فَأَخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ وَضَرَبَ بِهَا أَرْضَ مَسْجِدِهِ، وَقَالَ: «مَسْجِدُكُمْ هَذَا» . وَجَاءَ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ وَغَيْرِهِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ أَهْلَ قُبَاءٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُثْنِي عَلَيْكُمْ» ، فَقَالُوا: إِنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. قال في سبل السلام وأصله في أبي داود والترمذي في السنن عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [9/108] . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِدُونِ ذِكْرِ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ وَفَاءِ الْوَفَاءِ: وَرَوَى ابْنُ شَيْبَةَ مِنْ طُرُقٍ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ: الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ قُبَاءٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَهْلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ. وَفِي رِوَايَةٍ: بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ، فَمَا بَلَغَ مِنْ طُهُورِكُمْ؟ قَالُوا: نَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» . قَالَ: وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى مَسْجِدِ التَّقْوَى أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا لَنَا: انْطَلِقُوا إِلَى مَسْجِدِ التَّقْوَى، فَانْطَلَقْنَا نَحْوَهُ. فَاسْتَقْبَلَنَا يَدَاهُ عَلَى كَاهِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَثُرْنَا فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجُنْدُبٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 فَحَدِيثُ مُسْلِمٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتِلْكَ النُّصُوصُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [9 \ 108] ظَاهِرٌ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ. وَقِيلَ: إِنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ فِي خُصُوصِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَاءَ رَدًّا عَلَى اخْتِلَافِ رَجُلَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْمَعْنِيِّ بِهَا، فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ. وَعَلَيْهِ، فَالْآيَةُ إِذًا اشْتَمَلَتْ وَتَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ مَسْجِدٍ أَيْنَمَا كَانَ، إِذَا كَانَ أَسَاسُهُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ بِنَائِهِ عَلَى التَّقْوَى، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ سِيَاقُ الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَدْ جَاءَتْ قَبْلَهَا قِصَّةُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [9 \ 107 - 108] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ كَانَ بِمِنْطَقَةِ قُبَاءٍ، وَطَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ فِيهِ تَبَرُّكًا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَتَقْرِيرًا لِوُجُودِهِ يَتَذَرَّعُونَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَشَفَ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ. وَجَاءَتِ الْآيَةُ بِمُقَارَنَةٍ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى لَهُ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا الْآيَةَ [9 \ 108] . وَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً لِلْمُقَارَنَةِ مَرَّةً أُخْرَى أَعَمَّ مِنَ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ [9 \ 109 - 110] . وَبِهَذَا يَكُونُ السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ هُوَ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ مَبْدَأَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَأَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [9 \ 108] أَوَّلِيَّةٌ نِسْبِيَّةٌ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَسْجِدٍ فِي أَوَّلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 يَوْمِ بِنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهَا أَوَّلِيَّةً زَمَانِيَّةً خَاصَّةً، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ وَصَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ بِقُبَاءٍ، وَتَظَلُّ هَذِهِ الْمُقَارَنَةُ فِي الْآيَةِ مَوْجُودَةً إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدِ اخْتُصَّتْ تِلْكَ الْمَسَاجِدُ الْأَرْبَعَةُ بِأُمُورٍ تَرْبِطُ بَيْنَهَا بِرَوَابِطَ عَدِيدَةٍ، أَهَمُّهَا: تَحْدِيدُ مَكَانِهَا حَيْثُ كَانَ بِوَحْيٍ أَوْ شِبْهِ الْوَحْيِ، فَفِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [22 \ 26] . وَفِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ عَنْهُ: أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ دَاوُدَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتًا، قَالَ: وَأَيْنَ تُرِيدُنِي أَبْنِيهِ لَكَ يَا رَبِّ؟ قَالَ: حَيْثُ تَرَى الْفَارِسَ الْمُعَلِّمَ شَاهِرًا سَيْفَهُ. فَرَآهُ فِي مَكَانِهِ الْآنَ، وَكَانَ حَوْشًا لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فِي الْبَيْهَقِيِّ. وَفِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ. لَمَّا نَزَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبَاءٍ، قَالَ: «مَنْ يَرْكَبُ النَّاقَةَ» إِلَى أَنْ رَكِبَهَا عَلِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: «أَرْخِ زِمَامَهَا» فَاسْتَنَّتْ، فَقَالَ: «خُطُّوا الْمَسْجِدَ حَيْثُ اسْتَنَّتْ» . وَفِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: جَاءَ فِي السِّيَرِ كُلِّهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كُلَّمَا مَرَّ بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُ: هَلُمَّ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، فَيَقُولُ: «خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» ، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى أَمَامِ بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَانَ أَمَامَهُ مِرْبَدٌ لِأَيْتَامٍ وَمَقْبَرَةٌ لِيَهُودَ، فَاشْتَرَى الْمَكَانَ وَنَبَشَ الْقُبُورَ وَبَنَى الْمَسْجِدَ. وَكَذَلِكَ فِي الْبِنَاءِ فَكُلُّهَا بِنَاءُ رُسُلِ اللَّهِ، فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَيِ الْبِنَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ وَمَا قَبْلَهُ فِيهِ رِوَايَاتٌ عَدِيدَةٌ، وَلَكِنَّ الثَّابِتَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [2 \ 127] . وَكَذَلِكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْبُخَارِيِّ، أَيْ: تَجْدِيدُ بِنَائِهِ. وَكَذَلِكَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَقَدْ شَارَكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِنَائِهِ، وَجَاءَ فِي قِصَّةِ بِنَائِهِ أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَامِلًا حَجَرًا، فَقَالَ: دَعْنِي أَحْمِلْهُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: «انْطَلِقْ وَخُذْ غَيْرَهَا، فَلَسْتَ بِأَحْوَجَ مِنَ الثَّوَابِ مِنِّي» . وَكَذَلِكَ مَسْجِدُهُ الشَّرِيفُ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، حِينَ بَنَاهُ أَوَّلًا مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ وَجَرِيدِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 ثُمَّ بَنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى بِالْبِنَاءِ بَعْدَ عَوْدَتِهِ مِنْ تَبُوكَ. وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ لِهَذِهِ الْمَسَاجِدِ الْأَرْبَعَةِ، تَمَيَّزَتْ عَنْ عُمُومِ الْمَسَاجِدِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ مُضَاعَفَةُ الْأَعْمَالِ فِيهَا، أَصْلُهَا الصَّلَاةُ، كَمَا بَوَّبَ لِهَذَا الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: بَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَيْنِ. الْأَوَّلُ حَدِيثُ: «لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» . كَمَا اخْتُصَّ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ بِرَوْضَتِهِ، الَّتِي هِيَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» . وَاخْتُصَّ مَسْجِدُ قُبَاءٍ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ بِسَنَدٍ. قَالَ فِي وَفَاءِ الْوَفَاءِ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ حَيَامٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الرُّقَيْشِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: جَاءَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ السَّوَارِي، ثُمَّ سَلَّمَ وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! : مَا أَعْظَمَ حَقَّ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ كَانَ أَهْلًا أَنْ يُؤْتَى، مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُهُ مُعْتَمِدًا إِلَيْهِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَقْلَبَهُ اللَّهُ بِأَجْرِ عُمْرَةٍ. وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحِمَنِ بْنُ الْحَكَمِ فِي شِعْرٍ لَهُ: فَإِنْ أَهْلِكْ فَقَدْ أَقْرَرْتُ عَيْنًا ... مِنَ الْمُعْتَمِرَاتِ إِلَى قُبَاءٍ مِنَ اللَّائِي سَوَالِفُهُنَّ غِيدٌ ... عَلَيْهِنَّ الْمَلَاحَةُ بِالْبَهَاءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 وَرَوَى ابْنُ شَبَّةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَأَنْ أُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ. لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي قُبَاءٍ ; لَضَرَبُوا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً، مِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّ قُبَاءً اخْتُصَّ بِأَنَّ مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ وَأَتَى إِلَيْهِ عَامِدًا، وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ; كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ. تَنْبِيهٌ. وَهُنَا سُؤَالٌ يَفْرِضُ نَفْسَهُ: لِمَاذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِمَاذَا اشْتُرِطَ التَّطَهُّرُ فِي بَيْتِهِ لَا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ؟ وَلَقَدْ تَطَلَّبْتُ ذَلِكَ طَوِيلًا فَلَمْ أَقِفْ عَلَى قَوْلٍ فِيهِ، ثُمَّ بَدَا لِي مِنْ وَاقِعِ تَارِيخِهِ، وَارْتِبَاطِهِ بِوَاقِعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءٍ لَهُ ارْتِبَاطَاتٌ عَدِيدَةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَوَّلًا: مِنْ حَيْثُ الزَّمَنِ، فَهُوَ أَسْبَقُ مِنْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ. وَمِنْ حَيْثُ الْأَوَّلِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ، فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ. وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ. وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بَنَاهُ الْخَلِيلُ. وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ بَنَاهُ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ. وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كَانَ مَكَانُهُ بِاخْتِيَارٍ مِنَ اللَّهِ، وَشَبِيهٌ بِهِ مَكَانُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ. وَمِنْ حَيْثُ الْمَوْضُوعِيَّةُ; فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مَأْمَنٌ وَمَوْئِلٌ لِلْعَاكِفِ وَالْبَادِ. وَمَسْجِدُ قُبَاءٍ مَأْمَنٌ وَمَسْكَنٌ وَمَوْئِلٌ لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلِأَهْلِ قُبَاءٍ، فَكَانَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ شِدَّةُ ارْتِبَاطٍ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَجْعَلُ الْمُتَطَهِّرَ فِي بَيْتِهِ وَالْقَاصِدَ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ التَّطْهِيرِ فِي بَيْتِهِ لَا عِنْدَ الْمَسْجِدِ شِدَّةُ عِنَايَةٍ بِهِ أَوَّلًا، وَتَمْحِيصُ الْقَصْدِ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَتَشْبِيهٌ أَوْ قَرِيبٌ بِالْفِعْلِ مِنَ اشْتِرَاطِ الْإِحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ مِنَ الْحِلِّ، لَا مِنْ عِنْدِ الْبَيْتِ فِي الْعُمْرَةِ الْحَقِيقَةِ، لَمَّا كَانَ بَعِيدًا. فَالتَّطَهُّرُ مِنْ بَيْتِهِ وَالذَّهَابُ إِلَى قُبَاءٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَالْإِحْرَامِ مِنَ الْحِلِّ وَالدُّخُولِ فِي الْحَرَمِ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، كَمَا فِيهِ تَعْوِيضُ الْمُهَاجِرِينَ عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْ جِوَارِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قَبْلَ الْفَتْحِ. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 تَنْبِيهٌ آخَرُ. إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ لِلْمَسْجِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ رِسَالَةً عُظْمَى، أَلْزَمَ مَا يَكُونُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِحْيَاؤُهَا: وَهِيَ أَنَّ الْمَسْجِدَ لَهُمْ هُوَ بَيْتُ الْأُمَّةِ فِيهِمْ، لِجَمِيعِ مَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ تَقْرِيبًا مِمَّا يَصْلُحُ لَهُ، فَكَأَنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمِثَالُ لِذَلِكَ. إِذْ كَانَ الْمُصَلَّى الَّذِي تَتَضَاعَفُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَكَانَ الْمَعْهَدَ لِتَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمِنَ الْأَئِمَّةِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَزَالُ - بِحَمْدِ اللَّهِ - كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا كَعَالِمِ الْمَدِينَةِ» . وَكَمَا قَالَ: «مَنْ رَاحَ إِلَى مَسْجِدِي لِعِلْمٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ كَانَ كَمَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وَكَانَ فِيهِ تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ لِلْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَكَانَ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ - بِحَمْدِ اللَّهِ -، وَكَانَ مَقَرًّا لِلْإِفْتَاءِ، وَمَجْلِسًا لِلْقَضَاءِ، وَمَقَرًّا لِلضِّيَافَةِ، وَمَنْزِلًا لِلْأَسَارَى، وَمَصَحًّا لِلْجَرْحَى. وَقَدْ ضُرِبَتْ لِسَعْدٍ فِيهِ قُبَّةٌ لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ لِيَعُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَرِيبٍ، وَمَقَرًّا لِلْقِيَادَةِ، فَتُعْقَدُ فِيهِ أَلْوِيَةُ الْجِهَادِ، وَتُبْرَمُ فِيهِ مُعَاهَدَاتُ الصُّلْحِ، وَمَنْزِلًا لِلْوُفُودِ: كَوَفْدِ تَمِيمٍ وَعَبْدِ الْقَيْسِ، وَبَيْتًا لِلْمَالِ: كَمَجِيءِ مَالِ الْبَحْرَيْنِ وَحِرَاسَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ. وَلَمَّا نُقِبَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعَامِلِهِ هُنَاكَ: انْقُلْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَزَالُ الْمَسْجِدُ فِيهِ مُصَلِّي، أَيْ: لِيَتَوَلَّى حِرَاسَتَهُ وَمَقِيلًا لِلْعُزَّابِ وَمَبِيتًا لِلْغُرَبَاءِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي أَيِّ مُؤَسَّسَةٍ أُخْرَى. وَلَا تَتَأَتَّى إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ رِسَالَةَ الْمَسْجِدِ، وَيَسْتَدْعِي الِانْتِبَاهَ إِلَيْهِ وَحُسْنَ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ. وَبِمُنَاسَبَةِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الْأَرْبَعَةِ بِمَزِيدِ الْفَضْلِ وَزِيَادَةِ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَاصَّةً عِدَّةَ مَبَاحِثَ طَالَمَا أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ، وَأَهَمُّهَا أَرْبَعَةُ مَبَاحِثَ نُورِدُهَا بِإِيجَازٍ، وَهِيَ: الْأَوَّلُ: مُضَاعَفَةُ الصَّلَاةِ بِأَلْفٍ. وَهَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِمَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ مِنْ بِنَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمْ يَشْمَلُ ذَلِكَ مَا دَخَلَهُ مِنْ زِيَادَاتٍ. وَكَذَلِكَ امْتِدَادُ الصُّفُوفِ خَارِجَهُ عَنِ الزَّحْمَةِ، وَهَلْ هِيَ فِي الْفَرْضِ فَقَطْ أَمْ فِيهِ وَفِي النَّفْلِ؟ ، وَهَلْ هِيَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَمْ لِلرِّجَالِ فَقَطْ؟ . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 وَقَضِيَّةُ الْأَرْبَعِينَ صَلَاةً الثَّانِيَةَ بَعْدَ التَّوْسِعَةِ الْأُولَى لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَنَقْلِ الْمِحْرَابِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَنِ الرَّوْضَةِ، فَأَيُّ الصَّفَّيْنِ أَفْضَلُ؟ الصَّفُّ الْأَوَّلُ أَمْ صُفُوفُ الرَّوْضَةِ. الثَّالِثَةُ: صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ عِنْدَ الزِّحَامِ أَمَامَ الْإِمَامِ. الرَّابِعَةُ: حَدِيثُ شَدِّ الرِّحَالِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يَأْتِي مَبْحَثٌ مُوجِبٌ الرَّبْطَ بَيْنَ أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْوِيهِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مَعَ تَمْحِيصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَتِلْكَ الْمَبَاحِثُ كُنْتُ قَدْ فَصَّلْتُهَا فِي رِسَالَةِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الَّتِي كَتَبْتُهَا مِنْ قَبْلُ، وَنُجْمِلُ ذَلِكَ هُنَا. الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ. هَلِ الْفَضْلِيَّةُ خَاصَّةٌ بِالْفَرْضِ، أَمْ بِالنَّفْلِ؟ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى الْفَرْضِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي النَّفْلِ، مَا عَدَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ عُمُومُ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ شَمَلَهُ بِالنَّافِلَةِ، وَمَنْ حَمَلَ الْعُمُومَ عَلَى الْأَصْلِ فِيهِ قَصَرَهُ عَلَى الْفَرِيضَةِ، إِذِ الْعَامُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَخَصِّ مِنْهُ، وَهِيَ الْفَرِيضَةُ. وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . وَجَاءَ التَّصْرِيحُ بِمَسْجِدِهِ بِقَوْلِهِ: «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . وَمَا جَاءَ عَنِ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ وَمَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ تَرَى مَا أَقْرَبَ بَيْتِي مِنَ الْمَسْجِدِ ; فَلَأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِيَ فِي الْمَسْجِدِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَكْتُوبَةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَرَأَيْتَ قُرْبَ بَيْتِي مِنَ الْمَسْجِدِ؟» ، قَالَ: بَلَى. قَالَ: «فَإِنِّي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 أُصَلِّي النَّافِلَةَ فِي بَيْتِي» . الْمَبْحَثُ الثَّانِي. أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ كَانَتْ أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَالتَّالِي: قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ، وَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَانَ لَهَا نَفْسُ الْأَجْرِ، أَيْ: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ. وَلَكِنَّهَا فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ هِيَ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، فَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْعُمُومَ. وَجَاءَ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ مَا يُفِيدُ الْخُصُوصَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ. وَالنُّصُوصُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا: «اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ» . وَمِنْهَا: «أَكْرِمُوا بُيُوتَكُمْ بِبَعْضِ صَلَاتِكُمْ» . وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ: «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ ; فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صِلَاتِهِ» . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَعُمُّ، أَيْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» ، فَصَلَاةٌ لَفْظٌ نَكِرَةٌ. وَفِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالتَّفَضُّلِ بِهَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، فَكَانَ عَامًّا فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. إِذْ فَضِيلَةُ الْأَلْفِ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا الْإِنْسَانُ فِيهِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا. وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ بِدَوَامِ صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّوَافِلَ فِي الْبَيْتِ مَعَ قُرْبِ بَيْتِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ تَشْمَلُ صَلَاةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 وَلَكِنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلُ فِي بَيْتِهَا مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذَا هُوَ الْمَبْحَثُ الثَّانِي، أَيْ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لِلْمَرْأَةِ: صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَمْ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ؟ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَحَثَهَا فَضِيلَةُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [24 \ 37] . وَأَنَّ مَفْهُومَ «رِجَالٌ» مَفْهُومُ صِفَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا مَفْهُومَ لَقَبٍ ; وَعَلَيْهِ فَالنِّسَاءُ يُسَبِّحْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَقَدْ سَاقَ الْبَحْثَ وَافِيًا فِي عُمُومِ الْمَسَاجِدِ وَخُصُوصِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، مِمَّا يَكْفِي تَوَسُّعًا. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ. وَهُوَ: هَلِ الْمُضَاعَفَةُ خَاصَّةٌ بِمَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي بَنَاهُ، وَالَّذِي كَانَ مَوْجُودًا أَثْنَاءَ حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ أَنَّهَا تُوجَدُ فِيهِ وَفِيمَا دَخَلَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ مِنْ بَعْدِهِ. أَمَّا مَثَارُ الْبَحْثِ هُوَ مَا جَاءَ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اسْمُ الْإِشَارَةِ مَوْضُوعٌ لِلتَّعْيِينِ، وَقَالَ عُلَمَاءُ الْوَضْعِ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِوَضْعٍ عَامٍّ لِمَوْضُوعٍ لَهُ خَاصٍّ، فَيَخْتَصُّ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ بِمُفْرَدٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا كَانَ مَوْجُودًا زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَمْ تَتَنَاوَلِ الزِّيَادَةَ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْإِشَارَةِ، فَمِنْ هُنَا جَاءَ الْخِلَافُ وَالتَّسَاؤُلُ. وَقَدْ نَشَأَ هَذَا التَّسَاؤُلُ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ أَوَّلِ زِيَادَةٍ زَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَرَأَى بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَيَرْغَبُونَ فِي الْقَدِيمِ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ تَوْسِعَةَ الْمَسْجِدِ لَمَا وَسَّعْتُهُ، وَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوِ امْتَدَّ إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، أَوْ وَلَوِ امْتَدَّ إِلَى صَنْعَاءَ، فَهَذَا مَثَارُ الْبَحْثِ وَسَبَبُهُ. وَلَكِنْ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَبْحَثٌ لُغَوِيٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 مَسْجِدِي» ، بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْإِضَافَةُ تُفِيدُ التَّخْصِيصَ أَوِ التَّعْرِيفَ. وَفِيهِ مَعْنَى الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ، وَالْآنَ مَعَ الزِّيَادَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَعَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلَيْهِ كَانَ تَصْرِيحُ عُمَرَ: إِنَّهُ لَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ بِمَا فِيهَا الزِّيَادَةُ، وَنُقِلَ عَنِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمَسْجِدِ. الْأَوَّلُ: قَبْلَ الزِّيَادَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ. وَهَذَا الرُّجُوعُ مَوْجُودٌ فِي الْمَجْمُوعِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَعَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَقَفْتُ عَلَى كَلَامٍ لِمَالِكٍ، سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشَارَ بِقَوْلِهِ: «فِي مَسْجِدِي هَذَا» إِلَّا لِمَا سَيَكُونُ مِنْ مَسْجِدٍ بَعْدَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا زَادَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَغْبَتَهُ فِي الزِّيَادَةِ، فَيَكُونُ تَأْيِيدًا لِقَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَرُوِيَ أَيْضًا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمًا وَهُوَ فِي مُصَلَّاهُ فِي الْمَسْجِدِ: «لَوْ زِدْنَا فِي مَسْجِدِنَا» ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَزِيدَ فِي قِبْلَةِ مَسْجِدِنَا» ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ فِي حُسْبَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَعَ الرَّغْبَةِ فِي الزِّيَادَةِ لَمْ تَأْتِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْمُنْتَظَرَةِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهَا قَبْلَ وُجُودِهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ ; لِأَنَّنَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رَتَّبَ أَحْكَامًا عَلَى أُمُورٍ لَمْ تُوجَدْ بَعْدُ: كَمَوَاقِيتِ الْإِحْرَامِ الْمِصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَتُفْتَحُ الْيَمَنُ، وَسَتُفْتَحُ الشَّامُ، وَسَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ» ، وَمَعَ كُلٍّ مِنْهَا يَقُولُ: «سَيُؤْتَى بِأَقْوَامٍ يَبُسُّونَ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ فَيَحْمِلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» . وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي مَسْجِدِي هَذَا» لِدَفْعِ تَوَهُّمِ دُخُولِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ هَذَا الْمَسْجِدِ، لَا لِإِخْرَاجِ مَا سَيُزَادُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. قَالَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 السَّمْهُودِيُّ. اهـ. وَلَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَانَتْ هُنَاكَ عِدَّةُ مَسَاجِدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا الْمَسْجِدُ وَالْمُصَلَّى، وَبَقِيَّةُ الْمَسَاجِدِ أُطْلِقَتْ عَلَيْهَا اصْطِلَاحًا. وَلِابْنِ تَيْمِيَةَ كَلَامٌ مُوجَزٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ فِي عَهْدَيْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَعَتْ زِيَادَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ قَامَ فِي الْقِبْلَةِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَيْسَتْ لَهَا فَضِيلَةُ الْمَسْجِدِ، إِذْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ صَلَاةُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ بِالنَّاسِ. وَصَلَاةُ النَّاسِ مَعَهُمْ فِي الصُّفُوفِ الْأُولَى فِي الْمَكَانِ الْمَفْضُولِ مَعَ تَرْكِ الْأَفْضَلِ. اهـ. وَمِنْ كُلِّ مَا قَدَّمْنَا يَتَّضِحُ أَنَّ: حُكْمَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَحُكْمِ الْأَصْلِ فِي مُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ إِلَى الْأَلْفِ. وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَا يُفِيدُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي مَبْحَثِ الْأَرْبَعِينَ صَلَاةً، وَصَلَاةُ النَّاسِ فِي الصَّفِّ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. تَنْبِيهٌ. هَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْكَيْفِ لَا فِي الْكَمِّ، فَلَوْ أَنَّ عَلَى إِنْسَانٍ فَوَائِتَ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَصَلَّى صَلَاةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ، لَنْ تُسْقِطَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْفَوَائِتِ، فَهِيَ فِي نَظَرِي بِمَثَابَةِ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ آخَرَ أَحَدُهُمَا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَالْآخَرُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ثَوْبٌ فِي مُهِمَّتِهِ، وَلَنْ يَلْبَسَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَخْصٍ فِي وَقْتٍ مَهْمَا كَانَ ثَمَنُهُ. وَكَذَلِكَ كَالْقَلَمِ وَالْقَلَمِ، فَمَهْمَا غَلَا ثَمَنُ الْقَلَمِ، فَلَنْ يَكْتُبَ بِهِ شَخْصَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. تَنْبِيهٌ آخَرُ. مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْأَسَاسِيِّ خَصَائِصَ لَمْ تُوجَدْ فِي بَقِيَّةِ الْمَسْجِدِ: كَالرَّوْضَةِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَالْمِنْبَرِ عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ، بَعْضِ السَّوَارِي ذَاتِ التَّارِيخِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ سَيُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَوْ نَفْلًا، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الرَّوْضَةِ وَإِلَّا فَفِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْجَمَاعَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الصَّفَّ الْأَوَّلَ، وَإِلَّا فَفِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ. وَهُوَ بَعْدَ هَذِهِ التَّوْسِعَةِ وَانْتِقَالِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ عَنِ الرَّوْضَةِ، فَهَلِ الْأَفْضَلُ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، أَمْ فِي الرَّوْضَةِ مَعَ تَخَلُّفِهِ عَنِ الْأَوَّلِ؟ وَلِتَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نُقَدِّمُ الْآتِي: أَمَامَ الْمُصَلَّى مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا الرَّوْضَةُ ; بِفَضْلِهَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ: وَفِيهِ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا الصَّفُّ الْأَوَّلُ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ» ، فَأَيُّ الْمَوْضِعَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى الْآخَرِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ التَّوْسِعَةِ يُمْكِنُهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ، إِذِ الصَّفُّ الْأَوَّلُ كَانَ فِي الرَّوْضَةِ. أَمَّا الْآنَ وَبَعْدَ التَّوْسِعَةِ فَقَدِ انْفَصَلَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَنِ الرَّوْضَةِ، مَا دَامَ الْإِمَامُ يُصَلِّي فِي مُقَدِّمَةِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَلَكِنْ عُمُومَاتٌ لِلنَّوَوِيِّ، وَلِابْنِ تَيْمِيَةَ - عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي مَبْحَثِ شُمُولِ الْمُضَاعَفَةِ لِلزِّيَادَةِ، وَلَكِنْ تُوجَدُ قَضِيَّةٌ يُمْكِنُ اسْتِنْتَاجُ الْجَوَابِ مِنْهَا، وَهِيَ قَبْلَ التَّوْسِعَةِ كَانَ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ مَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ، وَكَانَ لِلْمَيْمَنَةِ فَضِيلَةٌ عَلَى الْمَيْسَرَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَيْمَنَةَ الصَّفِّ قَبْلَ التَّوْسِعَةِ كَانَتْ تَقَعُ غَرْبِيَّ الْمِنْبَرِ، أَيْ: خَارِجَةً عَنِ الرَّوْضَةِ، وَالْمَيْسَرَةُ كُلُّهَا كَانَتْ فِي الرَّوْضَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا يُفَضِّلُونَ الْمَيْمَنَةَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ لِذَاتِهَا، عَنِ الرَّوْضَةِ لِذَاتِهَا أَيْضًا، فَإِذَا كَانَتِ الْمَيْمَنَةُ - وَهِيَ خَارِجَ الرَّوْضَةِ - مُقَدَّمَةٌ عِنْدَهُمْ عَنِ الرَّوْضَةِ، فَلَأَنْ يُقَدَّمَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. وَهُنَاكَ حَقِيقَةٌ فِقْهِيَّةٌ ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ، وَهِيَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ الذَّاتِيِّ عَلَى الْوَصْفِ الْعَرَضِيِّ، وَهُوَ هُنَا الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلْجَمَاعَةِ. وَفَضْلُ الرَّوْضَةِ وَصْفٌ عَرَضِيٌّ لِلْمَكَانِ. أَيْ: لِكُلِّ حَالٍ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ، فَتَقْدِيمُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ ذَاتِيًّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 بِالنِّسْبَةِ لِلْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ الرَّوْضَةِ ; لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَرَضِيًّا. وَقَدْ مَثَّلَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ النَّوَوِيُّ بِقَوْلِهِ: فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا فِي طَرِيقِهِ إِلَى الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَوَجَدَ مَسْجِدًا آخَرَ يُصَلِّي جَمَاعَةً، فَكَانَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَ الْجَمَاعَةَ مَعَ هَؤُلَاءِ أَوْ يَتْرُكَهَا وَيَمْضِيَ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَتَفُوتُهُ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي مُنْفَرِدًا بِأَلْفِ صَلَاةٍ، فَقَالَ: يُصَلِّي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً أَوْلَى لَهُ ; لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْجَمَاعَةِ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلصَّلَاةِ، وَتَحْصِيلُ خَيْرٍ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ وَصْفٌ عَرَضِيٌّ بِسَبَبِ فَضْلِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. اهـ. مُلَخَّصًا. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ أَكْثَرَ مِنْهُ تَكْلِيفًا بِإِيقَاعِهَا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. وَهَكَذَا الْحَالُ ; فَإِنَّا مُطَالَبُونَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَيْثُ مَا كَانَ، أَكْثَرَ مِنَّا مُطَالَبَةً بِالصَّلَاةِ فِي الرَّوْضَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ. وَهُوَ فِي حَالَةِ ازْدِحَامِ الْمَسْجِدِ وَامْتِدَادِ الصُّفُوفِ إِلَى الْخَارِجِ فِي الشَّارِعِ أَوِ الْبَرْحَةِ، فَهَلْ لِامْتِدَادِ الصُّفُوفِ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةُ أَمْ لَا؟ لِنَعْلَمَ أَنَّ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ حَاصِلَةٌ بِلَا خِلَافٍ. أَمَّا الْمُضَاعَفَةُ إِلَى أَلْفٍ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ فِيهَا، وَقَدْ سَأَلْتُ الشَّيْخَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَنْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَفِي الْأُولَى: مَالَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْمَسْجِدِ بِذَلِكَ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ - وَبَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ عَشْرِ سَنَوَاتٍ -: مَالَ إِلَى عُمُومِ الْأَجْرِ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الزِّيَادَةَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَى عِبَادِهِ، فَالْمُؤَمَّلُ فِي سِعَةِ فَضْلِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَجُلَانِ فِي الصَّفِّ مُتَجَاوِرَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَى عَتَبَةِ الْمَسْجِدِ إِلَى الْخَارِجِ، وَالْآخَرُ عَلَيْهَا إِلَى الدَّاخِلِ، وَيُعْطِي هَذَا أَلْفًا وَيُعْطِي هَذَا وَاحِدَةً. وَكَتِفَاهُمَا مُتَلَاصِقَتَانِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَسْأَلَةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ نَصًّا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَشْتَرِطُونَ الْمَسْجِدَ لِلْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ الصُّفُوفَ إِذَا امْتَدَّتْ إِلَى الشَّوَارِعِ وَالرَّحَبَاتِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَنَّ الْجُمُعَةَ صَحِيحَةٌ، مَعَ أَنَّهُمْ أَوْقَعُوهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الصُّفُوفُ مُمْتَدَّةً مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى خَارِجِهِ انْجَرَّ عَلَيْهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَصَحَّتِ الْجُمُعَةُ. فَنَقُولُ هُنَا: كَذَلِكَ لَمَّا كَانَتِ الصُّفُوفُ خَارِجَةً عَنِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: يَنْجَرُّ عَلَيْهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِالْعُرْفِ وَهُوَ: لَوْ سَأَلْتَ مَنْ صَلَّى فِي مِثْلِ ذَلِكَ: أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ أَفِي قُبَاءٍ؟ أَمْ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ؟ لَقَالَ: بَلْ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. فَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ مُسَمَّى الْمَسْجِدِ عُرْفًا. الْمَبْحَثُ السَّادِسُ. وَهُوَ عِنْدَ الزِّحَامِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَاصَّةً، وَفِي بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ عَامَّةً. حِينَمَا يَضِيقُ الْمَكَانُ وَيُضْطَرُّ الْمُصَلُّونَ لِلصَّلَاةِ فِي صُفُوفٍ عَدِيدَةٍ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَأَمَامَ الْإِمَامِ مُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ بِعِدَّةِ صُفُوفٍ، فَمَا حُكْمُ صَلَاةِ هَؤُلَاءِ؟ قَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ الْخِلَافَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَأَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذْهَبِ هُوَ الصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الصِّحَّةَ كَذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لَهَا بِصَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَابْنُ عَبَّاسٍ آنَذَاكَ غُلَامٌ، فَقَامَ عَلَى يَسَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ يَمِينِهِ ; تَكْرِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا شَعَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَ أَنْ كَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَخَذَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ وَنَقَلَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَجَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ يَمِينِهِ بِحِذَائِهِ فِي مَوْقِفِ الْوَاحِدِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ مَعَ الْإِمَامِ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ أَرْبَعٌ: خَلْفَهُ ; وَهِيَ لِلْكَثِيرِينَ مِنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا. وَعَنْ يَمِينِهِ ; وَهُوَ مَوْقِفُ الْفَرْدِ، وَيَسَارَهُ وَأَمَامَهُ. أَمَّا الْيَسَارُ ; فَقَدْ وَقَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَيْسَ بِمَوْقِفٍ، فَأَخَذَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ. وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَأَوْقَعَ بَعْضَ صِلَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَقَدْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ حَيْثُ بَنَى عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي سَبَقَ أَنْ أَوْقَعَهُ عَنِ الْيَسَارِ ; لِضَرُورَةِ الْجَهْلِ بِالْمَوْقِفِ. وَبَقِيَتْ جِهَةُ الْإِمَامِ ; فَلَيْسَتْ بِجِهَةِ مَوْقِفٍ، وَلَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلِلزَّحْمَةِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ بُدٌّ، فَجَازَتْ أَوْ فَصَحَّتْ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا صَحَّتْ عَنْ يَسَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. وَيُقَوِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ شَخْصٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَكَانًا إِلَّا بِجِوَارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَقِفُ عَنْ يَمِينِهِ بِجِوَارِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا مَعَ وُجُودِ الصُّفُوفِ الْعَدِيدَةِ. وَلَكِنْ صَحَّ وُقُوفُهُ لِلضَّرُورَةِ. الْمَبْحَثُ السَّابِعُ. مَوْضُوعُ الْأَرْبَعِينَ صَلَاةً، وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ خَاصٌّ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَمِنْ جِهَةٍ عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَلَكِنْ لَا بِأَرْبَعِينَ صَلَاةً بَلْ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا. أَمَّا مَا يَخُصُّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِي أَرْبَعِينَ صَلَاةً لَا تَفُوتُهُ صَلَاةٌ ; كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ وَنَجَاةٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَبَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ» . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ: رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَفِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ: «مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى، كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَسٍ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ. وَقَالَ مُلَّا عَلِيٍّ الْقَارِّيِّ: مِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِرِوَايَتَيْنِ: أَمَّا الْأُولَى: فَبِسَبَبِ نُبَيْطِ بْنِ عُمَرَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَمِنْ جِهَةِ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ. وَقَدْ تَتَبَّعَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّدْقِيقِ فِي السَّنَدِ، وَأَثْبَتَ صِحَّةَ الْأَوَّلِ، وَحُكْمَ الرَّفْعِ لِلثَّانِي. وَقَدْ أَفْرَدَهُمَا الشَّيْخُ حَمَّادٌ الْأَنْصَارِيُّ بِرِسَالَةٍ رَدَّ فِيهَا عَلَى بَعْضِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِمَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. نُوجِزُ كَلَامَهُ فِي الْآتِي: قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ فِي زَوَائِدِ الْأَرْبَعَةِ: نُبَيْطُ بْنُ عُمَرَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، فَاجْتَمَعَ عَلَى تَوْثِيقِ نُبَيْطٍ كُلٌّ مِنَ ابْنِ حِبَّانَ وَالْمُنْذِرِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ، وَلَمْ يُجَرِّحْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ. فَمِنْ ثَمَّ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَطْعَنَ وَلَا أَنْ يُضَعِّفَ مَنْ وَثَّقَهُ أَئِمَّةٌ مُعْتَبَرُونَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. وَكَفَى مَنْ ذَكَرُوا مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ قُدْوَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 ذَلِكَ ; وَلَوْ فُرِضَ وَقُدِّرَ جَدَلًا أَنَّهُ فِي السَّنَدِ مَقَالٌ، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ لَا يَمْنَعُونَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ عَقِيدَةٌ، بَلْ كَانَ بَابُ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ لَا يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِهِ ; لِأَنَّ بَابَ الْفَضَائِلِ لَا يُشَدَّدُ فِيهِ هَذَا التَّشْدِيدَ. وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ. أَمَّا حَدِيثُ إِدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ، فَهَذَا أَعَمُّ مِنْ مَوْضُوعِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الَّذِي نَتَحَدَّثُ عَنْهُ، وَكُلُّ أَسَانِيدِهِ ضَعِيفَةٌ، وَلَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يَنْدَرِجُ ضِمْنَ مَا يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذَا الْحَثُّ عَلَى أَرْبَعِينَ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، لَعَلَّهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - مِنْ بَابِ التَّعَوُّدِ وَالتَّزَوُّدِ، لِمَا يُكْسِبُهُ ذَلِكَ الْعَمَلُ مِنْ مُدَاوَمَةٍ، وَحِرْصٍ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فِي الْجَمَاعَةِ، وَاشْتِغَالِهِ الدَّائِمِ بِشَأْنِ الصَّلَاةِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهَا، حَتَّى لَا تَفُوتَهُ صَلَاةٌ مِمَّا يُعَلِّقُ قَلْبَهُ بِالْمَسْجِدِ، فَتُصْبِحُ الْجَمَاعَةُ لَهُ مَلَكَةً، وَيُصْبِحُ مُرْتَاحًا لِارْتِيَادِ الْمَسْجِدِ، وَحَرِيصًا عَلَى بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِهِ لَا تَفُوتُهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ. فَلَوْ كَانَ زَائِرًا وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ رَجَعَ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ، وَلَعَلَّ فِي مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ بِأَلْفٍ تَكُونُ بِمَثَابَةِ الدَّوَاءِ الْمُكَثَّفِ الشَّدِيدِ الْفَعَالِيَةِ، السَّرِيعِ الْفَائِدَةِ، أَكْثَرَ مِمَّا جَاءَ فِي عَامَّةِ الْمَسَاجِدِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا تَفُوتُهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، إِذِ الْأَرْبَعُونَ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ تُعَادِلُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَهِيَ تُعَادِلُ حَوَالَيْ صَلَوَاتِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَوْ رَاعَيْنَا أَجْرَ الْجَمَاعَةِ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، لَكَانَتْ تُعَادِلُ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ: خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، أَيْ: فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لَا فِي الْعَدَدِ، أَيْ: كَيْفًا لَا كَمًّا، كَمَا قَدَّمْنَا. وَفَضْلُ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ هُوَ كَمَا أَسْلَفْنَا التَّعَوُّدُ وَالْحِرْصُ عَلَى الْجَمَاعَةِ. أَمَّا لَوْ رَجَعَ فَتَرَكَ الْجَمَاعَةَ وَتَهَاوَنَ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ غَايَةَ النَّكْسَةِ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ صَلَاةً لَا عَلَاقَةَ لَهَا لَا بِالْحَجِّ وَلَا بِالزِّيَارَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي آدَابِ الزِّيَارَةِ فِي سُورَةِ «الْحُجُرَاتِ» . وَأَنَّ الزِّيَارَةَ تَتِمُّ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 صَاحِبَيْهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ -، ثُمَّ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ انْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ جَلَسَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. مَبْحَثُ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [49 \ 2] فِي التَّحْذِيرِ مِنْ مُبْطِلَاتِ الْأَعْمَالِ وَبَيَانِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلَا يُصْرَفُ لِغَيْرِهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُتَجَاوَزُ بِهِ. وَقَدْ يَجُرُّ الْحَدِيثُ عَنِ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضْلِهِ وَفَضِيلَتِهِ إِلَى مَوْضُوعِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَإِلَى السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. شَدُّ الرِّحَالِ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِلسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، بَلْ وَمِنْ أَهَمِّ خَصَائِصِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَاخِلِ هَذَا الْمَسْجِدِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، فَأَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَمُجْمِعُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَرِيبٍ، وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَامُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ إِلَّا مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، سَوَاءٌ قَبْلَ أَوْ بَعْدَ إِدْخَالِ الْحُجْرَةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَوَّلَ آدَابِ الزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الْبَدْءُ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ السَّلَامِ يَنْصَرِفُ عَنِ الْمُوَاجَهَةِ، وَيَدْعُو مَا شَاءَ وَهُوَ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْمَسْجِدِ. وَهُنَا مَسْأَلَةٌ طَالَمَا أُثِيرَ النِّزَاعُ فِيهَا: وَهِيَ شَدُّ الرِّحَالِ لِلسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهِيَ إِنْ كَانَ مَحَلُّهَا مَبْحَثَ الزِّيَارَةِ وَأَحْكَامِهَا وَآدَابِهَا، إِلَّا أَنَّنَا نَسُوقُ مُوجَزًا عَنْهَا بِمُنَاسَبَةِ حَدِيثِ شَدِّ الرِّحَالِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ. مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ حَدِيثُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ ; لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَقْدِيرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 الْمَسَاجِدِ، أَهُوَ خُصُوصُ الصَّلَاةِ أَمْ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؟ . وَلِنَتَصَوَّرَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ أَوَّلًا: أَنَّ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: شَدُّ الرِّحَالِ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِلزِّيَارَةِ. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: زِيَارَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ بِدُونِ شَدِّ الرِّحَالِ، وَهَذَا أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ: شَدُّ الرِّحَالِ لِلزِّيَارَةِ فَقَطْ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ مَحَلُّ الْبَحْثِ عِنْدَهُمْ، وَمَثَارُ النِّقَاشِ السَّابِقِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَلَى حَدِيثِ شَدِّ الرِّحَالِ: قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَصْرِنَا فِي الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ مُنَاظَرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَصُنِّفَتْ فِيهَا مَسَائِلُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. قُلْتُ: - أَيِ: ابْنُ حَجَرٍ - يُشِيرُ إِلَى مَا رَدَّ بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَةَ، وَمَا انْتَصَرَ بِهِ الْحَافِظُ: شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي وَغَيْرُهُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي بِلَادِنَا. اهـ. وَهَذَا يُعْطِينَا مَدَى الْخِلَافِ فِيهَا وَتَارِيخِهِ. وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى مُجْمَلِ الْقَوْلِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْجُمْهُورَ أَجَازُوا بِالْإِجْمَاعِ شَدَّ الرِّحَالِ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّ حَدِيثَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ» إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ خُصُوصُ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ مَكَانٌ أَوْلَى مِنْ مَكَانٍ بِالصَّلَاةِ تُشَدُّ لَهُ الرِّحَالُ إِلَّا الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ ; لِمَا خُصَّتْ مِنْ فَضِيلَةِ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا. تَقِيُّ الدِّينِ جَعَلَ مَوْضُوعَ النَّهْيِ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ عَامًّا لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ شَدِّ الرِّحَالِ لِأَيِّ مَكَانٍ ; لِعِدَّةِ أُمُورٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ شَدِّ الرِّحَالِ لِمُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ، مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: كَرَاهِيَةُ أَنْ يُقَالَ: زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ كَرَاهِيَةَ مَالِكٍ لِلَّفْظِ فَقَطْ تَأَدُّبًا لَا أَنَّهُ كَرِهَ أَصْلَ الزِّيَارَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذِي الْجَلَالِ، وَأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 بِلَا نِزَاعٍ. وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ. اهـ. وَلَعَلَّ مَذْهَبَ الْبُخَارِيِّ حَسَبَ صَنِيعِهِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ أَتَى فِي نَفْسِ الْبَابِ، بَعْدَ حَدِيثِ شَدِّ الرِّحَالِ مُبَاشَرَةً بِحَدِيثِ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» ، مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ مُوجِبِ شَدِّ الرِّحَالِ هُوَ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ مُخْتَصًّا بِالْمَسَاجِدِ، وَلِأَجْلِ الصَّلَاةِ إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ; لِاخْتِصَاصِهَا بِمُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَمَاكِنِ الْأُخْرَى. وَقَدْ نَاقَشَ ابْنُ حَجَرٍ لَفْظَ الْحَدِيثِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْمَذْهَبَ حَيْثُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَوْلُهُ: «إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ. فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ عَامًّا فَيَصِيرَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَكَانٍ فِي أَيِّ أَمْرٍ كَانَ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ. أَوْ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ. لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى سَدِّ بَابِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي. وَالْأَوْلَى: أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً، وَهُوَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ. فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْلُ: مَنْ مَنَعَ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَغَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الصَّالِحِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ تُفَضَّلُ لِذَاتِهَا حَتَّى تُشَدَّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ غَيْرَ الْبِلَادِ الثَّلَاثَةِ. وَمُرَادِي بِالْفَضْلِ: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا. أَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَلَا تُشَدُّ إِلَيْهَا لِذَاتِهَا، بَلْ لِزِيَارَةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمُبَاحَاتِ. قَالَ: وَقَدِ الْتَبَسَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَزَعَمَ أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى الزِّيَارَةِ لِمَنْ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ دَاخِلٌ فِي الْمَنْعِ وَهُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ أَوْ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةٍ أَوْ طَلَبٍ لَيْسَ إِلَى الْمَكَانِ، بَلْ إِلَى مَنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 وَبِتَأَمُّلِ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، نَجِدُهُ يَتَضَمَّنُ إِجْرَاءَ مُعَادَلَةٍ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ بِأَنَّ لَهُ حَالَتَيْنِ فَقَطْ: الْأُولَى: أَنْ يُقَالَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِخُصُوصِ الصَّلَاةِ، وَلَا تُشَدُّ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ مُنْصَبًّا عَلَى شَدِّ الرِّحَالِ لِأَيِّ مَكَانٍ سِوَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ; مِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيمَا عَدَاهَا. فَيَبْقَى غَيْرُ الصَّلَاةِ خَارِجًا عَنِ النَّهْيِ ; فَتُشَدُّ لَهُ الرِّحَالُ لِأَيِّ مَكَانٍ كَانَ. وَغَيْرُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ: طَلَبَ الْعِلْمِ، وَالتِّجَارَةَ، وَالنُّزْهَةَ، وَالِاعْتِبَارَ، وَالْجِهَادَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَضَافِرَةٌ. فَفِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ نُصُوصٍ، وَقَدْ رَحَلَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى إِلَى الْخَضِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، إِلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، إِلَى قَوْلِهِ: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [18 \ 60 - 66] . وَفِي السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [73 \ 20] . وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [67 \ 15] ، وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ. وَالسَّفَرُ لِلْعِبْرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا [27 \ 69] . وَقَوْلُهُ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 136 - 138] . وَقَوْلُهُ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [22 \ 45 - 46] . فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِالسَّيْرِ ; لِيَعْقِلُوا بِقُلُوبِهِمْ حَالَةَ تِلْكَ الْقُرَى الْخَاوِيَةِ لِيَتَّعِظُوا بِأَحْوَالِ أَهْلِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 فَهَذِهِ نُصُوصُ جَوَازِ السَّفَرِ لِعِدَّةِ أُمُورٍ، فَيَكُونُ مِنْ ضِمْنِهَا السَّفَرُ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ. حَيْثُ إِنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِلَا نِزَاعٍ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْأَمَاكِنِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ ; فَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ قَطُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ وَبُلْدَانِهَا الثَّلَاثَةِ. وَلَكِنْ لَا لِخُصُوصِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، بَلْ لِكُلِّ شَيْءٍ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنْوَاعَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتِّجَارَةِ وَالْعِظَةِ وَالنُّزْهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: كَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَمُجَاوَرَةٍ، وَحَجٍّ، وَعُمْرَةٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَمُشَاهَدَةِ مَعَالِمَ تَارِيخِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا شَدَّ الرِّحَالَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْهَا الزِّيَارَةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا مُعَارَضَةَ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْحَالَتَيْنِ، وَلَا يَتَعَارَضُ مَعَهُمَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، عَلَى أَيِّ تَقْدِيرٍ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وُجْهَةُ نَظَرٍ. وَبِالتَّحْقِيقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِثَارَةِ النِّزَاعِ فِيهَا، يَظْهَرُ أَنَّ النِّزَاعَ وَالْجِدَالَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ تَحْتَمِلُ، وَهُوَ إِلَى الشَّكْلِيِّ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْحَقِيقِيِّ. وَلَا وُجُودَ لَهُ عَمَلِيًّا. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ كَالْآتِي: وَهُوَ مَا دَامُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى شَدِّ الرِّحَالِ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِلسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُونِ شَدِّ الرِّحَالِ ; فَلَنْ يَتَأَتَّى لِإِنْسَانٍ أَنْ يَشُدَّ الرِّحَالَ لِلسَّلَامِ دُونَ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَخْطُرُ ذَلِكَ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ، وَكَذَلِكَ شَدُّ الرَّحْلِ لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دُونَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنْ يَخْطُرَ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ. وَعَلَيْهِ فَلَا انْفِكَاكَ لِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ مَا هُوَ إِلَّا بَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَلْ بَيْتُهُ إِلَّا جُزْءٌ مِنَ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي حَدِيثِ الرَّوْضَةِ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» . فَهَذَا قُوَّةُ رَبْطٍ بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ فِي مَسْجِدِهِ. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: هَلْ يُسَلِّمُ أَحَدٌ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَرِيبٍ، لِيَنَالَ فَضْلَ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِلَّا إِذَا كَانَ سَلَامُهُ عَنْ قُرْبٍ وَمِنَ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 وَهَلْ تَكُونُ الزِّيَارَةُ سُنِّيَّةً إِلَّا إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى أَوَّلًا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ؟ وَبِهَذَا ; فَلَا انْفِكَاكَ لِشَدِّ الرَّحْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ عَنْ زِيَارَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا لِزِيَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَسْجِدِ، فَلَا مُوجِبَ لِهَذَا النِّزَاعِ. وَهُنَا وُجْهَةُ نَظَرٍ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، فَأَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . فَإِنَّ إِطْلَاقَهُ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ حَيْثُ الْمَجِيءُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ. فَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَا يَتَأَتَّى لِلْبَعِيدِ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا كَوَسِيلَةٍ لِتَحْصِيلِهَا، وَالْوَسِيلَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ الْغَايَةِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ، كَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ أَدَاءَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ، وَإِعْدَادَ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ إِلَيْهَا مَثَلًا مَنْدُوبٌ ; لِأَنَّ التَّجَمُّلَ إِلَيْهَا مَنْدُوبٌ، وَمِثْلُهُ إِعْدَادُ الطِّيبِ بِالنِّسْبَةِ لِحُضُورِهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ مُنَاقَشَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِأَمْثِلَةٍ قَابِلَةٍ هِيَ لِلنِّقَاشِ، فَقَالَ: لَيْسَ كُلُّ غَايَةٍ مَشْرُوعَةٍ تَكُونُ وَسِيلَتُهَا مَشْرُوعَةً، كَحَجِّ الْمَرْأَةِ وَخُرُوجِهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ فِيهِ وُجُودُ الْمَحْرَمِ. وَالثَّانِي: مَشْرُوطٌ فِيهِ إِذْنُ الزَّوْجِ. وَالنِّقَاشُ لَهَا أَنَّ سَفَرَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ إِلَّا مَعَ الْمَحْرَمِ، سَوَاءٌ كَانَ لِهَذَا الْمَسْجِدِ وَلِلْحَجِّ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَخُرُوجُهَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ إِذَا طَلَبَتِ الْإِذْنَ يُؤْذَنُ لَهَا. فَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ حَتَّى تَحْصُلَ عَلَى الْإِذْنِ. وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ شَدُّ الرَّحْلِ إِلَيْهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، لَمَا كَانَ لِفَاعِلِهِ نَصِيبٌ فِي فَضْلِهَا، وَلَا يَحْصُلُ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيَانِ فَضِيلَتِهِ ; لِعَدَمِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، فَكَأَنْ يُقَالُ مَثَلًا: فَأَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، إِلَّا مَنْ شَدَّ الرَّحْلَ لِذَلِكَ. أَوْ يُقَالُ: مَنْ أَتَانِي مِنْ قَرِيبٍ فَسَلَّمَ عَلَيَّ. . . إلخ. وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَلَى عُمُومِهِ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُقُوقٍ وَخَصَائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ: وُجُوبِ مَحَبَّةٍ، وَتَعْظِيمٍ، وَفَرْضِيَّةِ صَلَاةٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 وَتَسْلِيمٍ فِي صَلَوَاتِنَا، وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، بَلْ وَعِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ مِمَّا لَيْسَ لِغَيْرِهِ قَطُّ. كَمَا أَنَّ زِيَارَةَ غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلدُّعَاءِ لَهُ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، بَيْنَمَا زِيَارَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ ; لِيَرُدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رُوحَهُ فَيَرُدَّ عَلَيْنَا السَّلَامَ. وَزِيَارَةُ غَيْرِهِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْعَالَمِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ، بَيْنَمَا زِيَارَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَسْجِدِهِ وَقَدْ خُصَّ بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ غَيْرُهُ. وَأَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَوْلَا نِزَاعُ مُعَاصِرِي ابْنِ تَيْمِيَةَ مَعَهُ فِي غَيْرِهَا لَمَا كَانَ لَهَا مَحَلٌّ وَلَا مَجَالٌ. وَلَكِنَّهُمْ وَجَدُوهَا حَسَّاسَةً وَلَهَا مَسَاسٌ بِالْعَاطِفَةِ، وَمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَثَارُوهَا وَحَكَمُوا عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ. أَيْ: يُلَازِمُ كَلَامَهُ حِينَمَا قَالَ: لَا يَكُونُ شَدُّ الرِّحَالِ لِمُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ، بَلْ تَكُونُ لِلْمَسْجِدِ مِنْ أَجْلِ الزِّيَارَةِ، عَمَلًا بِنَصِّ الْحَدِيثِ، فَتَقَوَّلُوا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ صَرَاحَةً. وَلَوْ حُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى النَّفْيِ بَدَلًا مِنَ النَّهْيِ لَكَانَ مُوَافِقًا، أَيْ: لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ زِيَارَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا السَّلَامَ عَلَيْهِ، بَلْ يَجْعَلُهَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْقُرُبَاتِ، وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ بِنَصِّ الْحَدِيثِ فِي جَعْلِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِ. قَالَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ وَرُدُودِهِ مَا نَصُّهُ: فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْتُ فِيمَا كَتَبْتُهُ مِنَ الْمَنَاسِكِ: أَنَّ السَّفَرَ إِلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَةَ قَبْرِهِ، كَمَا يَذْكُرُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ عَمَلٌ صَالِحٌ مُسْتَحَبٌّ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي عِدَّةِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَكَيْفَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ أَمِ الْقِبْلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالصَّلَاةُ تُقْصَرُ فِي هَذَا السَّفَرِ الْمُسْتَحَبِّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَلَا نَهَى أَحَدٌ عَنِ السَّفَرِ إِلَى مَسْجِدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ إِلَى مَسْجِدِهِ يَزُورُ قَبْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِي وَكَلَامِ غَيْرِي نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا نَهْيٌ عَنِ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا عَنِ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ سَائِرِ الْقُبُورِ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ قُبُورِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعَةً، فَزِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهُوَ أَنْ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ، وَأَنْ نُصَلِّيَ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ ; فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ. وَالسَّفَرُ إِلَى مَسْجِدِهِ مَشْرُوعٌ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، حِينَ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُقَالَ: زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ السَّلَامُ عَلَيْهَا وَالدُّعَاءُ لَهُمْ، وَذَلِكَ السَّلَامُ وَالدُّعَاءُ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ وَعِنْدَ كُلِّ دُعَاءٍ. فَتُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ دُعَاءٍ، فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. اهـ. وَإِذَا كَانَ هَذَا كَلَامَهُ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ شَكْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقِيقِيَّةً. إِذْ أَنَّهُ يُقَرِّرُ بِأَنَّ السَّفَرَ إِلَى مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشْرُوعٌ وَإِنْ كَانَ يَزُورُ قَبْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَمِنْ صَالَحِ الْأَعْمَالِ. أَيْ: وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَارَةُ مَقْصُودَةً عِنْدَ السَّفَرِ. وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ السَّلَامِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ. فَلَا مُوجِبَ لِهَذَا النِّقَاشِ، وَجَعْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَثَارَ نِزَاعٍ أَوْ جِدَالٍ. وَقَدْ صَرَّحَ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كَلَامِهِ، إِذْ يَقُولُ فِي ج 27 ص 342 مِنَ الْمَجْمُوعِ، مَا نَصُّهُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 فَمَنْ سَافَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَصَلَّى فِي مَسْجِدِهِ وَصَلَّى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَزَارَ الْقُبُورَ كَمَا قَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا هُوَ الَّذِي عَمِلَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ. وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا السَّفَرَ، فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقَبْرِ وَلَمْ يَقْصِدِ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَسَافَرَ إِلَى مَدِينَتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ أَتَى الْقَبْرَ ثُمَّ رَجَعَ ; فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ، مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِإِجْمَاعِ أَصْحَابِهِ، وَلِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا أَجْرَ لَهُ. وَالَّذِي يَفْعَلُهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ لِلْمَسْجِدِ وَفِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَذَكَرْتُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى صَاحِبَيْهِ. اهـ. فَأَيُّ مُوجِبٍ لِنِزَاعٍ أَوْ خِلَافٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنْ كَانَ فِي قَوْلِهِ فِيمَنْ قَصَدَ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقَبْرِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَسَافَرَ إِلَى مَدِينَتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ بَلْ أَتَى الْقَبْرَ ثُمَّ رَجَعَ ; فَهَذَا مُبْتَدِعٌ. . إلخ. فَمَنْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُجِيزُ لِمُسْلِمٍ: أَنْ يَشُدَّ رَحْلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ ; لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقَبْرِ دُونَ قَصْدِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدُونَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَلْفِ صَلَاةٍ. فَدَلَّ كَلَامُهُ أَنَّ زِيَارَةَ الْقَبْرِ وَالصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مُرْتَبِطَتَانِ، وَمَنِ ادَّعَى انْفِكَاكَهُمَا عَمَلِيًّا فَقَدْ خَالَفَ الْوَاقِعَ، وَإِذَا ثَبَتَتِ الرَّابِطَةُ بَيْنَهُمَا انْتَفَى الْخِلَافُ وَزَالَ مُوجِبُ النِّزَاعِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ص 346 فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ. الثَّالِثُ مِنْهَا: تُقْصَرُ إِلَى قَبْرِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَالَ فِي التَّعْلِيلِ لِهَذَا الْقَوْلِ: إِذَا كَانَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 فَكُلُّ مَنْ سَافَرَ إِلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ فَقَدْ سَافَرَ إِلَى مَسْجِدِهِ الْمُفَضَّلِ. وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ السَّفَرَ إِلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ السَّفَرَ إِلَى مَسْجِدِهِ، إِذْ كَانَ كُلُّ مُسْلِمٍ لَا بُدَّ إِذَا أَتَى الْحُجْرَةَ الْمُكَرَّمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ فَهُمَا عِنْدَهُمْ مُتَلَازِمَانِ. وَبَعْدَ نَقْلِهِ لِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ مَا نَصُّهُ: وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا السَّفَرِ، فَكُلُّ مَنْ سَافَرَ إِلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ لَا بُدَّ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، يُثَابُ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ. وَأَمَّا نَفْسُ الْقَصْدِ، فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَقْصِدُونَ السَّفَرَ إِلَى مَسْجِدِهِ، وَإِنْ قَصْدَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ إِلَى الْقَبْرِ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ النَّهْيَ. وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّصْرِيحِ مِنْهُ أَنَّهُ لَا انْفِكَاكَ مِنْ حَيْثُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الزِّيَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ قَالَ فِي حَقِّ الْجَاهِلِ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا فَقَدْ لَا يَقْصِدُ إِلَّا السَّفَرَ إِلَى الْقَبْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ فَيُثَابَ عَلَى ذَلِكَ. وَمَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلُ لَهُ أَجُرٌ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ. اهـ. وَقَدْ أَكْثَرْنَا النُّقُولَ عَنْهُ ; لِمَا وَجَدْنَا مَنْ لَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِيهَا: وَهَذَا أَعْظَمُ مَا أُخِذَ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً مِنَ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهَا أَشَدُّ مَا أُخِذَ عَلَيْهِ مَعَ مَا رُمِيَ بِهِ مِنْ خُصُومِهِ فِي الْعَقَائِدِ وَمُحَارَبَةِ الْبِدَعِ، إِلَّا أَنَّهَا - بِحَمْدِ اللَّهِ - بَعْدَ هَذِهِ النُّقُولِ عَنْهُ مِنْ صَرِيحِ كَلَامٍ لَمْ يَعُدْ فِيهَا مَا يَتَعَاظَمُ مِنْهُ، فَعَلَى كُلِّ مُتَكَلِّمٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَقْوَالِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ جَانِبًا إِلَّا وَبَيَّنَهُ، سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْعَالِمِ أَوِ الْجَاهِلِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ السَّفَرِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ لِلْمَسْجِدِ وَلِلزِّيَارَةِ مَعًا، عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَمَاكِنِ مَا عَدَا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ، فَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيْهَا لِلصَّلَاةِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوِ الِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا مَزِيَّةَ لَهَا فِي مَكَانٍ دُونَ آخَرَ قَطُّ، أَيًّا كَانَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ أَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 كَانَتْ تِلْكَ الْعِبَادَةُ. وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُوَطَّأِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ: " خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَجَلَسْتُ مَعَهُ، فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ أَنْ قُلْتُ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ; فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ ; شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ". قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ. فَقُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَقِيتُ بُصْرَةَ بْنَ أَبِي بُصْرَةَ الْغِفَارِيَّ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الطُّورِ. فَقَالَ: لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا، وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلِيَاءَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " يَشُكُّ أَبُو هُرَيْرَةَ. ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَا حَدَّثْتُهُ بِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ هَذَا الْعَظِيمِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: خُرُوجُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الطُّورِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ عَنَّتْ لَهُ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَهُ عَلَى مَعْنَى التَّعَبُّدِ وَالتَّقَرُّبِ بِإِتْيَانِهِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ بُصْرَةَ: لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ. دَلِيلٌ عَلَى أَنْ فَهِمَ مِنْهُ التَّقَرُّبَ بِقَصْدِهِ. وَسُكُوتُ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَهِمَ مِنْهُ كَانَ قَصْدَهُ. أَقُولُ: لَقَدْ صَرَّحَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ لِلصَّلَاةِ كَمَا فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ لِأَحْمَدَ عَنْ شَهْرٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً بِمَسْجِدِ الْبَصْرَةِ أَوِ الْكُوفَةِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِمَوْضِعِهِ وَلَا يَأْتِيهِ ; لِحَدِيثِ بُصْرَةَ الْمَنْصُوصِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ يَكُونُ فِيمَا فِيهِ الْقُرْبَةُ. وَلَا فَضِيلَةَ لِمَسَاجِدِ الْبِلَادِ عَلَى بَعْضِهَا الْبَعْضِ، تَقْتَضِي قَصْدَهُ بِإِعْمَالِ الْمَطِيِّ إِلَيْهِ إِلَّا الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ ; فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْفَضِيلَةِ. وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِ الثُّغُورِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِتْيَانُهَا وَالْوَفَاءُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 بِنَذْرِهِ ; لِأَنَّ نَذْرَهُ قَصْدَهَا لَمْ يَكُنْ لِمَعْنَى الصَّلَاةِ فِيهَا، بَلْ قَدِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ الرِّبَاطِ، فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ. وَلَا خِلَافَ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، إِلَّا مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي الْمَبْسُوطِ. فَإِنَّهُ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَسْجِدًا رَابِعًا وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَقَالَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَيُصَلِّي فِيهِ كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. اهـ. وَلَعَلَّ مَقْصِدَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي إِضَافَتِهِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، الْعَمَلُ بِمَا جَاءَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ مِنْ أَثَرٍ اخْتُصَّ بِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِيمَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ صِيَامٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الرُّقَيْشِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: جَاءَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ السَّوَارِي، ثُمَّ سَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا أَعْظَمَ حَقَّ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ كَانَ أَهْلًا أَنْ يُؤْتَى، مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُهُ مُعْتَمِدًا إِلَيْهِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَقْلَبَهُ اللَّهُ بِأَجْرِ عُمْرَةٍ. وَتَقَدَّمَ عَنْ وَفَاءِ الْوَفَاءِ نَقْلُهُ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَامَّةِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ شَبَّةَ: قَالَ أَبُو غَسَّانَ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَيَدُلُّ عَلَى تَظَاهُرِهَا فِي الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فِي شِعْرٍ لَهُ: فَإِنْ أَهْلِكَ فَقَدْ أَقْرَرْتُ عَيْنًا ... مِنَ الْمُعْتَمِرَاتِ إِلَى قُبَاءٍ مِنَ اللَّاتِي سَوَالِفْهُنَّ غِيدٌ ... عَلَيْهِنَّ الْمَلَاحَةُ بِالْبَهَاءِ تَنْبِيهٌ. إِنَّ قَوْلَ أَنَسٍ لَيُشْعِرُ بِجَوَازِ شَدِّ الرَّحْلِ إِلَى قُبَاءٍ لَوْ كَانَ بَعِيدًا، وَلَكِنَّهُ لِلْمَعَانِي فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يَتَعَارَضُ مَعَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. تَنْبِيهٌ آخَرٌ. أَبْيَاتُ الشَّاعِرِ تُشْعِرُ بِخَطَأِ التَّجَمُّعِ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لِقُبَاءٍ، وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 تَنْبِيهٌ ثَالِثٌ. يُوجَدُ فَرْقٌ بِصِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ عَامَّةٍ بَيْنَ زِيَارَةِ عُمُومِ الْمَقَابِرِ لِعَامَّةِ النَّاسِ، وَخُصُوصِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ. إِذِ الْغَرَضُ مِنْ زِيَارَةِ عَامَّةِ الْمَقَابِرِ هُوَ الدُّعَاءُ لَهَا، وَتَذَكُّرُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا ; فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ ". أَمَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْمُشَرَّفَةُ، فَلَهَا خَصَائِصُ لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهَا غَيْرُهَا: أَوَّلًا: وَمِنْ حَيْثُ الْمَوْضُوعُ: ارْتِبَاطُهَا بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي مِنْ حَقِّهَا شَدُّ الرَّحَالِ إِلَيْهَا. ثَانِيًا: عَظِيمُ حَقِّ مَنْ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إِذْ بِزِيَارَتِهِمْ لَا بِتَذَكُّرِ الْآخِرَةِ فَحَسْبُ، بَلْ وَيَسْتَفِيدُ ذِكْرَيَاتِ الدُّنْيَا وَعَظِيمَ جِهَادِهِمْ فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَهِدَايَةِ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ، حَتَّى عُبِدَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَعُمِلَ بِشَرْعِهِ، فِيمَا يُثِيرُ إِحْسَاسَ الْمُسْلِمِ وُجُوبَ تَجْدِيدِ الْعَهْدِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَدْيِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَهَذَا مَا يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ يَتَوَجَّهُ إِلَى اللَّهِ عَقِبَ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ، أَنْ يَجْزِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لَهُ. ثَالِثًا: عَظِيمُ الْفَضْلِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوحَهُ فَيَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَقَابِرِ. وَهَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الزِّيَارَةِ لِمَا تَقَدَّمَ. مَسْأَلَةٌ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [72 \ 18] ، جَمَعَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ، فَكَأَنَّ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى الثَّانِيَةِ بِمَفْهُومِهَا، وَكَأَنَّ الثَّانِيَةَ تَكُونُ مَنْطُوقَ الْأُولَى ; لِأَنَّ كَوْنَ الْمَسَاجِدِ لِلَّهِ يَقْتَضِي إِفْرَادَهُ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَأَلَّا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ. أَمَّا إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، فَقَدْ كَتَبَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَلَى ذَلِكَ مَبْحَثًا كَامِلًا فِي سُورَةِ " الْحُجُرَاتِ " فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [49 \ 2] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَوُجُوبَ إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ حَقُّهُ تَعَالَى، وَبَيَّنَ فِيهَا آدَابَ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ كَهَيْأَةِ الصَّلَاةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. اهـ. وَأَنَّ الْجَمْعَ هُنَا بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ بِنَفْسِ الْمَفْهُومِ، لِمَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَالْعِنَايَةِ بِأَمْرِهِ، وَإِنَّهُ لَيَلْفِتُ النَّظَرَ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ الْأَكِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِالنِّسْبَةِ لِقَضِيَّةِ الْمَسَاجِدِ وَدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَيَفْتَحُونَ بِذَلِكَ بَابًا مُطِلًّا عَلَى الشِّرْكِ. كَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فِي قِصَّتَيْهِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شَاهَدَتَاهُ بِالْحَبَشَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُولَئِكَ كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، أَوِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ; أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَكَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ "، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لِأُبْرِزَ قَبْرُهُ، أَيْ: خَشْيَةَ اتِّخَاذِهِ مَسْجِدًا ". حَدِيثُ الْمُوَطَّأِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُشَدِّدُ الْحَذَرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُبُورِ وَالْمَسَاجِدِ ; خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ، أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَفَشَّتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلْدَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّنَبُّهَ لَهَا، وَرَبْطَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَا مَعَ تِلْكَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي شَأْنِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَسْجِدُ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَمَسْجِدَ إِيلِيَاءَ، بَيْتِ الْمَقْدِسِ. تَنْبِيهٌ. قَدْ أُثِيرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَسَاؤُلَاتٌ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَمَوْضِعِ الْحُجْرَةِ مِنْهُ بَعْدَ إِدْخَالِهَا فِيهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي بِقَوْلِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ; اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ". قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ، فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ قَبْلَ أَنْ يُوَسَّعَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَلِهَذَا لَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ جُعِلَتْ حُجْرَتُهَا مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ مُحَدَّدَةً ; حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ مَعَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ. اهـ. وَذَكَرَتْ كُتُبُ السِّيرَةِ وَتَارِيخِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بَعْضَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ السَّمْهُودِيُّ فِي وَفَاءِ الْوَفَاءِ، قَالَ: وَعَنِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ بِجِدَارٍ فَضُرِبَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي الْجِدَارِ كُوَّةٌ فَأَمَرَتْ بِالْكُوَّةِ فَسُدَّتْ هِيَ أَيْضًا. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ شَبَّةَ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ - وَكَانَ عَالِمًا بِأَخْبَارِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ بَيْتِ كِتَابَةٍ وَعِلْمٍ -: لَمْ يَزَلْ بَيْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي دُفِنَ فِيهِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ظَاهِرًا، حَتَّى بَنَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ الْخِطَارَ الْمُزَوَّرَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، حِينَ بَنَى الْمَسْجِدَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُزَوَّرًا ; كَرَاهَةَ أَنْ يُشْبِهَ تَرْبِيعَ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يُتَّخَذَ قِبْلَةً يُصَلَّى إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ: وَقَدْ سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَنَى الْبَيْتَ غَيْرَ بِنَائِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: بَنَى عَلَى بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَجْدُرٍ فَدُونَ الْقَبْرِ ثَلَاثَةُ أَجْدُرٍ: جِدَارُ بِنَاءِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجِدَارُ الْبَيْتِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بَنَى عَلَيْهِ - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ -، وَجِدَارُ الْخِطَارِ الظَّاهِرِ، وَقَالَ: قَالَ أَبُو غَسَّانَ فِيمَا حَكَاهُ الْأَقْشَهْدِيُّ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ: نَازَلْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَلَّا يُجْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدَّ الْمُنَازَلَةِ، فَأَبَى وَقَالَ: كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ مِنْ إِنْفَاذِهِ. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاجْعَلْ لَهُ جُؤْجُؤًا. أَيْ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ لِنَزُورَ خَلْفَ الْحُجْرَةِ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 فَهَذِهِ مُنَازَلَةٌ فِي مَوْضُوعِ الْحُجْرَةِ وَالْمَسْجِدِ، وَهَذَا جَوَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَدْ آلَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْخَامِسُ، وَقَدْ أَقَرَّ هَذَا الْوَضْعَ لَمَّا اتُّخِذَتْ تِلْكَ الِاحْتِيَاطَاتُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ قِبْلَةً لِلْمُصَلِّينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْأُولَى، وَمَشْهَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا لَا يَدَعُ لِأَحَدٍ مَجَالًا لِاعْتِرَاضٍ أَوِ احْتِجَاجٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ، وَقَدْ بُحِثَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بَالَغَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَعْلَوْا حِيطَانَ تُرْبَتِهِ، وَسَدُّوا الْمَدْخَلَ إِلَيْهَا، وَجَعَلُوهَا مُحْدِقَةً بِقَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ خَافُوا أَنْ يُتَّخَذَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قِبْلَةً إِذَا كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْمُصَلِّينَ، فَتُصَوَّرُ الصَّلَاةُ إِلَيْهِ بِصُورَةِ الْعِبَادَةِ، فَبَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيِ الْقَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى زَاوِيَةٍ مُثَلَّثَةٍ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ ; حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ اسْتِقْبَالِ قَبْرِهِ. اهـ. مِنْ فَتْحِ الْمَجِيدِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي اتُّخِذَ حِيَالَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَقَبْرَيْ صَاحِبَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ "، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي نُونِيَّتِهِ، كَابْنِ تَيْمِيَّةَ قَالَ: فَأَجَابَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دُعَاءَهُ ... وَأَحَاطَهُ بِثَلَاثَةِ الْجُدْرَانِ حَتَّى غَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ ... فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَانِ وَقَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْمَجِيدِ: وَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ عُبِدَ لَكَانَ وَثَنًا. وَلَكِنْ حَمَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ; فَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ. وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْوَثَنَ هُوَ مَا يُبَاشِرُهُ الْعَابِدُ مِنَ الْقُبُورِ وَالتَّوَابِيتِ الَّتِي عَلَيْهَا. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَقِيقَةٌ دَقِيقٌ مَأْخَذُهَا ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ إِدْخَالِ الْحُجْرَةِ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَيْهِ لَكَانَ وَثَنًا، وَحَاشَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ وَبَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى يَكُونُ قَبْرُهُ وَثَنًا يُنَافِي التَّوْحِيدَ، وَيَهْدِمُ مَا بَنَاهُ فِي حَيَاتِهِ. وَكَيْفَ يَرْضَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَاشَا وَكَلَّا. هَذَا مُجْمَلُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 وُجْهَةُ نَظَرٍ. وَهُنَا وُجْهَةُ نَظَرٍ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَقِفْ عَلَى قَوْلٍ فِيهَا، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ نَصٍّ مُتَقَدِّمٍ صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ ; بِأَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ أَوَّلًا ثُمَّ يُتَّخَذَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدُ. كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا أَيْ: أَنَّ الْقَبْرَ أَوَّلًا وَالْمَسْجِدَ ثَانِيًا. أَمَّا قَضِيَّةُ الْحُجْرَةِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَهِيَ عَكْسُ ذَلِكَ، إِذِ الْمَسْجِدُ هُوَ الْأَوَّلُ وَإِدْخَالُ الْحُجْرَةِ ثَانِيًا، فَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تِلْكَ النُّصُوصُ فِي نَظَرِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، لَمْ يَكُنِ الَّذِي أُدْخِلُ فِي الْمَسْجِدِ هُوَ الْقَبْرَ أَوِ الْقُبُورَ، بَلِ الَّذِي أُدْخِلَ فِي الْمَسْجِدِ هُوَ الْحُجْرَةُ، أَيْ: بِمَا فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ صَاحِبِ فَتْحِ الْمَجِيدِ فِي تَعْرِيفِ الْوَثَنِ: أَنَّهُ مَا سُجِدَ إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ. وَعَلَيْهِ فَمَا مِنْ مُصَلٍّ يَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ إِلَّا وَيَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ قُبُورٌ وَمَقَابِرُ. وَلَا يُعْتَبَرُ مُصَلِّيًا إِلَى الْقُبُورِ لِبُعْدِهَا وَوُجُودِ الْحَوَاجِزِ دُونَهُ، وَإِنْ كَانَ الْبُعْدُ نِسْبِيًّا. فَكَذَلِكَ فِي مَوْضُوعِ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحُجْرَةِ، فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَيْضًا لِابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلَامٌ فِي ذَلِكَ مُلَخَّصُهُ مِنَ الْمَجْمُوعِ: مُجَلَّدُ 27 ص 323 وَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَاتَ وَدُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَكَانَتْ هِيَ وَحُجَرُ نِسَائِهِ فِي شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلِيِّهِ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ. وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنِ انْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِنَحْوٍ مِنْ سَنَةٍ مِنْ بَيْعَتِهِ، وُسِّعَ الْمَسْجِدُ، وَأُدْخِلَتْ فِيهِ الْحُجْرَةُ لِلضَّرُورَةِ. فَإِنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ - عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -: أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ مِنْ مُلَّاكِهَا وَرَثَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُنَّ كُنَّ تُوُفِّينَ كُلُّهُنَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ، فَهَدَمَهَا وَأَدْخَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَبَقِيَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ عَلَى حَالِهَا. وَكَانَتْ مُغْلَقَةً لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا لِصَلَاةٍ عِنْدَهُ، وَلَا لِدُعَاءٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. إِلَى حِينِ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَيَاةِ وَهِيَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ إِدْخَالِ الْحُجْرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقَالَ فِي صَفْحَةِ 328: وَلَمْ تَكُنْ تُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ شَيْئًا مِمَّا نَهَى عَنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 وَبَعْدَهَا كَانَتْ مُغْلَقَةً، إِلَى أَنْ أُدْخِلَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدَّ بَابُهَا وَبُنِيَ عَلَيْهَا حَائِطٌ آخَرُ. فَكُلُّ ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنْ يُتَّخَذَ بَيْتُهُ عِيدًا وَقَبْرُهُ وَثَنًا. وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يَأْتِي إِلَى هُنَاكَ إِلَّا مُسْلِمٌ، وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُسْتَهَانَ بِالْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ ; بَلْ فَعَلَوْهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ وَثَنًا يُعْبَدُ. وَلَا يُتَّخَذَ بَيْتُهُ عِيدًا، وَلِئَلَّا يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِوَضْعِ الْجُدْرَانِ الثَّلَاثَةِ وَجَعْلِ طَرَفِ الْجِدَارِ الثَّالِثِ مِنَ الشَّمَالِ عَلَى شَكْلِ رَأْسِ مُثَلَّثٍ، وَأَنَّ الْمُشَاهَدَ الْيَوْمَ بَعْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ، وُجُودُ الشَّبَكِ الْحَدِيدِيِّ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَبْعُدُ عَنْ رَأْسِ الْمُثَلَّثِ إِلَى الشَّمَالِ مَا يَقْرُبُ مِنْ سِتَّةِ أَمْتَارٍ يَتَوَسَّطُهَا، أَيْ: تِلْكَ الْمَسَافَةُ مِحْرَابٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ سَابِقًا، أَيْ: قَبْلَ الشَّبَكِ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ الْمُصَلِّي فِي الْجِهَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ الْحُجْرَةِ الْمُكَرَّمَةِ وَبَيْنَ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ، وَيَنْفِي أَيَّ عَلَاقَةٍ لِلصَّلَاةِ مِنْ وَرَائِهِ بِالْقُبُورِ الشَّرِيفَةِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي خِتَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أُثِيرَ فِيهَا كَلَامٌ فِي مَوْسِمِ حَجِّ سَنَةِ 1394 فِي مِنَى وَمِنْ بَعْضِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ نَقُولُ: لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ بِالْفِعْلِ لَكَانَ لِلْقَوْلِ بِعَدَمِ إِدْخَالِهَا مَجَالٌ. أَمَّا وَقَدْ أُدْخِلَتْ بِالْفِعْلِ وَفِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفِي الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَمَضَى عَلَى إِدْخَالِهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا، فَلَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ إِذًا. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا وَهُوَ مَوْضُوعُ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَكَوْنِهَا لَمْ تَسْتَوْعِبْ قَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمَ، وَلَهَا بَابٌ وَاحِدٌ، وَمُرْتَفِعٌ عَنِ الْأَرْضِ. وَكَانَ بِاسْتِطَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعِيدَ بِنَاءَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ، فَتَسْتَوْعِبَ قَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونَ لَهَا بَابَانِ وَيُسَوِّيَهُمَا بِالْأَرْضِ. وَلَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ ذَلِكَ ; لِاعْتِبَارَاتٍ بَيَّنَهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. أَلَا يَسَعُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَوْضُوعِ الْحُجُرَاتِ الْيَوْمَ مَا وَسِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَعْبَةِ، وَمَا وَسِعَ السَّلَفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي عَيْنِ الْحُجْرَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 وَمِنْ نَاحِيَةٍ ثَالِثَةٍ: لَوْ أَنَّهُ أُخِذَ بِقَوْلِهِمْ، فَأُخْرِجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَيْ: جُعِلَ الْمَسْجِدُ مِنْ دُونِهَا عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُونَ، وَقَالُوا: نُعِيدُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ مَالِكٌ لِلرَّشِيدِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي خُصُوصِ الْكَعْبَةِ لَمَّا بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَعَادَهَا الْحَجَّاجُ، وَأَرَادَ الرَّشِيدُ أَنْ يُعِيدَهَا عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَفْعَلْ ; لِأَنِّي أَخْشَى أَنْ تُصْبِحَ الْكَعْبَةُ أُلْعُوبَةَ الْمُلُوكِ. فَيُقَالُ: هُنَا أَيْضًا فَتُصْبِحُ الْحُجْرَةُ أُلْعُوبَةَ الْمُلُوكِ بَيْنَ إِدْخَالٍ وَإِخْرَاجٍ. وَفِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ مَا فِيهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ مِنَ الْمِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ قِيَامُهُ بِمَا جَاءَ بَعْدَهُ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ [73 \ 3] ، أَيْ: مِنْ نِصْفِهِ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى نِصْفِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ الْآيَةَ [17 \ 79] . وَفِيهَا بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ، وَهُوَ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ اخْتُلِفَ فِيهِمَا. الْأُولَى مِنْهُمَا: عَدَدُ رَكَعَاتِ قِيَامِ اللَّيْلِ، أَهْوَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ أَوْ أَكْثَرُ؟ وَقَدْ خُيِّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ لِنَشَاطِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ وَارْتِيَاحِهِ. فَلَا يُمْكِنُ التَّعَبُّدُ بِعَدَدٍ لَا يَصِحُّ دُونَهُ وَلَا يَجُوزُ تَعَدِّيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِمَا ارْتَضَاهُ السَّلَفُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً عَامَّةً هِيَ رِسَالَةُ التَّرَاوِيحِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ عَامٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدِ اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ عَلَى عِشْرِينَ فِي رَمَضَانَ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَامَّةً: هَلِ الْأَفْضَلُ كَثْرَةُ الرَّكَعَاتِ لِكَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ ، وَحَيْثُ إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، أَمْ طُولَ الْقِيَامِ لِلْقِرَاءَةِ؟ حَيْثُ إِنَّ لِلْقَارِئِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، فَهُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [73 \ 4] ، نَصَّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ تَرْتِيلًا، وَأَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ تَأْكِيدًا لِإِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الرَّمْلِ، وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ؟ قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ» . وَقَدْ بَيَّنَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تِلَاوَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهَا: كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] . رَوَاهُ أَحْمَدُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ. تَنْبِيهٌ. إِنْ لِلْمَدِّ حُدُودًا مَعْلُومَةً فِي التَّجْوِيدِ حَسَبَ تَلَقِّي الْقُرَّاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَمَا زَادَ عَنْهَا فَهُوَ تَلَاعُبٌ، وَمَا قَلَّ عَنْهَا فَهُوَ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ التِّلَاوَةِ. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُتَّخِذِينَ الْقُرْآنَ كَغَيْرِهِ فِي طَرِيقَةِ الْأَدَاءِ مِنْ تَمْطِيطٍ وَتَزَيُّدٍ لَمْ يُرَاعُوا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ تَحْسِينَ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . وَقَالَ أَبُو مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْمَعُ قِرَاءَتِي ; لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا. وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ الْغَرَضُ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَهُوَ التَّدَبُّرُ وَالتَّأَمُّلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [4 \ 82] ، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَأَتَّى مَعَهُ الْغَرَضُ مِنْ تَخَشُّعِ الْقَلْبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [39 \ 23] ، وَلَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ وَالْجُلُودُ إِلَّا إِذَا كَانَ مُرَتَّلًا، فَإِذَا كَانَ هَذَا كَالشِّعْرِ أَوِ الْكَلَامِ الْعَادِيِّ لَمَا فُهِمَ، وَإِذَا كَانَ مُطْرِبًا كَالْأَغَانِي لَمَا أَثَّرَ. فَوَجَبَ التَّرْتِيلُ كَمَا بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا مَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوْلَ هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [69 \ 40] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [28 \ 51] . وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [86 \ 13] ، وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [4 \ 122] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلَكِنَّ وَصْفَهُ بِالثِّقَلِ مَعَ أَنَّ الثِّقَلَ لِلْأَوْزَانِ وَهِيَ الْمَحْسُوسَاتُ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الثِّقَلَ فِي وَزْنِ الثَّوَابِ، وَقِيلَ فِي التَّكَالِيفِ بِهِ، وَقِيلَ مِنْ أَثْنَاءِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: فَمِنْ جِهَةِ نُزُولِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْوَحْيُ أَخَذَتْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 بُرَحَاءُ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي سَفَرِهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بَرَكَتْ بِهِ النَّاقَةُ، وَجَاءَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَأَتَاهُ الْوَحْيُ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فَخِذِي تَكَادُ تَنْفَصِلُ مِنِّي، وَمِنْ جَانِبِ تَكَالِيفِهِ فَقَدْ ثَقُلَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَمِنْ جَانِبِ ثَوَابِهِ: فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . وَحَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ وَلَا يُنَافِيهِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الثُّقْلَ قَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [2 \ 45 - 46] ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ ثَقِيلٌ عَلَى الْكُفَّارِ، خَفِيفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُحَبَّبٌ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ بِسُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ تَلَذُّذًا وَارْتِيَاحًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [54 \ 17] ، فَهُوَ ثَقِيلٌ فِي وَزْنِهِ ثَقِيلٌ فِي تَكَالِيفِهِ، وَلَكِنْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ وَيُيَسِّرُهُ لِمَنْ هَدَاهُ وَوَفَّقَهُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا أَيْ: مَا تَنَشَّأَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ أَشَدُّ مُوَاطَأَةً لِلْقَلْبِ، وَأَقْوَمُ قِيلًا فِي التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَبِالتَّالِي بِالتَّأَثُّرِ، فَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يُقَابِلُ هَذَا الثُّقْلَ فِيمَا سَيُلْقَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ التَّوْجِيهِ إِلَى مَا يَتَزَوَّدُ بِهِ لِتَحَمُّلِ ثُقْلِ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ. وَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - قَوْلَهُ: لَا يُثَبِّتُ الْقُرْآنَ فِي الصَّدْرِ، وَلَا يُسَهِّلُ حِفْظَهُ وَيُيَسِّرُ فَهْمَهُ إِلَّا الْقِيَامُ بِهِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتْرُكُ وِرْدَهُ مِنَ اللَّيْلِ صَيْفًا أَوْ شِتَاءً، وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [2 \ 45] ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَهَكَذَا هُنَا فَإِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ كَانَتْ عَوْنًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سَيُلْقَى عَلَيْهِ مِنْ ثُقْلِ الْقَوْلِ. مَسْأَلَةٌ: قِيلَ: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ; لِقَوْلِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [17 \ 79] ، وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ، وَقِيلَ: كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ، ثُمَّ خَفَّفَ هَذَا كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [73 \ 20] . وَلَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا دَاوَمَ عَلَيْهِ، فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ شُكْرًا لِلَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» ، وَبَقِيَ سُنَّةً لِغَيْرِهِ بِقَدْرِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ الْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ بِتَخْوِيفٍ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ لِمَفْعُولَيْنِ الْمُنْذِرِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالْمُنْذَرِ بِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. أَمَّا الْمُنْذِرُ فَقَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ أُخَرُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْكَافِرِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] ; تَخْوِيفًا لَهُمْ. وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [36 \ 11] . وَقَدْ يَكُونُ لِلْجَمِيعِ، أَيْ: لِعَامَّةِ النَّاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [10 \ 2] . وَأَمَّا الْمُنْذَرُ بِهِ فَهُوَ مَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ قَدَّرَ الْأَمْرَيْنِ هُنَا ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِهِ: فَأَنْذِرْ عَذَابَ اللَّهِ قَوْمَكَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 2] فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ كُلٍّ مِنْ لَفْظَتَيِ: الثِّيَابِ، وَفَطَهِّرْ، هَلْ هُمَا دَلَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ طَهَارَةَ الثَّوْبِ مِنَ النَّجَاسَاتِ؟ أَمْ هُمَا عَلَى الْكِنَايَةِ؟ وَالْمُرَادُ بِالثَّوْبِ: الْبَدَنُ، وَالطَّهَارَةُ عَنِ الْمَعْنَوِيَّاتِ مِنْ مَعَاصِيَ وَآثَامٍ وَنَحْوِهَا، أَمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكِنَايَةِ؟ ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرَةٍ، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ غَيْلَانَ: وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ ... عِرْضُهُ فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ فَاسْتَعْمَلَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْكِنَايَةِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [94 \ 2] . وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ مِنْ كَسْبٍ غَيْرِ طَيِّبٍ، فَاسْتَعْمَلَ الثِّيَابَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالتَّطْهِيرَ فِي الْكِنَايَةِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَصْلِحْ عَمَلَكَ، وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، فَاسْتَعْمَلَهُمَا مَعًا فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ زَيْدٍ: عَلَى حَقِيقَتِهِمَا، فَطَهِّرْ ثِيَابَكَ مِنَ النَّجَاسَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ أَظْهَرُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ قَوْلٌ عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ثِيَابُكَ هِيَ نِسَاؤُكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [2 \ 187] ، فَأْمُرْهُنَّ بِالتَّطَهُّرِ، وَتَخَيَّرْهُنَّ طَاهِرَاتٍ خَيِّرَاتٍ. هَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْهَا، وَالْوَاقِعُ فِي السِّيَاقِ مَا يَشْهَدُ لِاخْتِيَارِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا. وَتَرْجِيحُ قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: طَهَارَةُ الثَّوْبِ، وَالثَّانِي: هَجْرُ الرِّجْزِ. وَمِنْ مَعَانِي الرِّجْزِ: الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ حَمْلُ طِهَارَةِ الثَّوْبِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الرِّجْزُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِمَعْنًى جَدِيدٍ أَوْلَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 وَهَذِهِ الْآيَةُ بِقِسْمَيْهَا جَاءَ نَظِيرُهَا بِقِسْمَيْهَا أَصْرَحَ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [8 \ 11]-. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ النَّاقُورُ: هُوَ الصُّورُ، وَأَصْلُ النَّاقُورِ الصَّوْتُ، وَقَوْلُهُ: يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ. قِيلَ: عَسِيرٌ وَغَيْرُ يَسِيرٍ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ غَيْرَ يَسِيرٍ كَانَ يَكْفِي عَنْهَا يَوْمٌ عَسِيرٌ، إِلَّا أَنَّهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ عُسْرَهُ لَا يُرْجَى تَيْسِيرُهُ، كَعُسْرِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ وَعِيدٍ لِلْكَافِرِينَ. وَنَوْعُ بِشَارَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لِسُهُولَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ الْمَعْنَيَيْنِ مُسْتَقِلَّانِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمٌ عَسِيرٌ، هَذَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ وَصْفٌ لِهَذَا الْيَوْمِ، وَبَيَانٌ لِلْجَمِيعِ شِدَّةَ هَوْلِهِ، كَمَا جَاءَ فِي وَصْفِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [22 \ 1 - 2] ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [80 \ 34 - 35] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْيَوْمَ الْعَسِيرَ أَنَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [73 \ 17 - 18] ، بَيْنَمَا يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَسِيرًا، مَعَ أَنَّهُ عَسِيرٌ فِي ذَاتِهِ لِشِدَّةِ هَوْلِهِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الصُّورَةَ بِجَانِبِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «النَّمْلِ» : وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ إِلَى قَوْلِهِ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [27 \ 87 - 90] . \ 5 الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 فَالْفَزَعُ مِنْ صَعْقَةِ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ مَنْ شَاءَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَثْنَيْنَ وَمَنْ يَبْقَى فِي الْفَزَعِ، فَبَيَّنَ الْآمِنِينَ وَهُمْ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ، وَالْآخَرُونَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا حَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا مَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: التَّحْرِيقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [85 \ 10] . وَالثَّانِي: الِابْتِلَاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ مِرَارًا فِي كِتَابِهِ وَدُرُوسِهِ، أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ. تَقُولُ: اخْتَبَرْتُ الذَّهَبَ إِذَا أَدْخَلْتَهُ النَّارَ ; لِتَعْرِفَ زَيْفَهُ مِنْ خَالِصِهِ. وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا. وَقَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أَيْ: عَدَدَهُمْ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّحْرِيقَ وَالْوَعِيدَ بِالنَّارِ، لَمَا كَانَ مَجَالٌ لِتَسَاؤُلِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرِينَ عَنْ هَذَا الْمَثَلِ، وَلَمَا كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا، وَلَمَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ عَدَدِ جُنُودِ رَبِّكَ بِحَالٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِدَّةُ مَسَائِلَ هَامَّةٍ. الْأُولَى: جَعْلُ الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: جَعْلُ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ فِتْنَةً لِتَوَجُّهِ السُّؤَالِ أَوْ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِذْعَانِ، فَقَدْ تَسَاءَلَ الْمُسْتَبْعِدُونَ وَاسْتَسْلَمَ وَأَذْعَنَ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي صَرِيحِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [2 \ 62] . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ طِبْقَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ هُنَا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [2 \ 26] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مُبَيِّنَةٌ تَمَامًا لِآيَةِ «الْمُدَّثِّرِ» . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَنَّ هَذَا مُطَابِقٌ لِمَا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ لِقَوْمِهِمْ عَلَى صِدْقِ مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا ادَّعَاهُ لِإِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ حَدِيثًا فِي ذَلِكَ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَلَكِنَّ النَّصَّ يَشْهَدُ لِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا جَاءَهُ أَمْرٌ عَنِ اللَّهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ اكْتِفَاءً بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، ازْدَادَ بِهَذَا التَّصْدِيقِ إِيمَانًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ ازْدِيَادِ الْإِيمَانِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: بَيَانُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّصْدِيقِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْحِكْمَةَ أَوِ السِّرَّ أَوِ الْغَرَضَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَاهُ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَثَارُ نِقَاشِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَاسِعٌ، وَلَكِنَّ الْمُهِمَّ عِنْدَنَا هُنَا وَنَحْنُ فِي عَصْرِ الْمَادِّيَّاتِ، وَتَقَدُّمِ الْمُخْتَرَعَاتِ، وَظُهُورِ كَثِيرٍ مِنْ عَلَامَاتِ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّا نَوَدُّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ كُلَّ مَا صَحَّ عَنِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَجَبَ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ إِلَيْهِ، عَلِمْنَا الْحِكْمَةَ أَوْ لَمْ نَعْلَمْ ; لِأَنَّ عِلْمَنَا قَاصِرٌ، وَفَهْمَنَا مَحْدُودٌ، وَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ - سُبْحَانَهُ - لَا يُكَلِّفُ عِبَادَهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ الْحِكْمَةُ. وَمُجْمَلُ الْقَوْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ بِالنِّسْبَةِ لِحِكْمَتِهَا قَدْ تَكُونُ مَحْصُورَةً فِي أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: حُكْمٌ تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ بِنَصٍّ كَمَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ، جَاءَ: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [29 \ 45] ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ، وَالزَّكَاةُ جَاءَ عَنْهَا أَنَّهَا: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ [9 \ 103] . وَفِي الصَّوْمِ جَاءَ فِيهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [2 \ 183] . وَفِي الْحَجِّ جَاءَ فِيهِ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [22 \ 28] . فَمَعَ أَنَّهَا عِبَادَاتٌ لِلَّهِ فَقَدْ ظَهَرَتْ حِكْمَتُهَا جَلِيَّةً. وَفِي الْمَمْنُوعَاتِ كَمَا قَالُوا فِي الضَّرُورِيَّاتِ السِّتِّ، حِفْظِ الدِّينِ، وَالْعَقْلِ، وَالدَّمِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 وَالْعِرْضِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَالِ لِقِيَامِ الْحَيَاةِ وَوَفْرَةِ الْأَمْنِ، وَصِيَانَةِ الْمُجْتَمَعِ، وَجُعِلَتْ فِيهَا حُدُودٌ لِحِفْظِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِسْمٌ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَتُهُ بِهَذَا الظُّهُورِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ حِكْمَةٍ: كَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالْغُسْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِسْمٌ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ أَوَّلًا، وَلِحِكْمَةٍ ثَانِيًا: كَتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [2 \ 143] . وَفِي التَّحَوُّلِ عَنْهَا حِكْمَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [2 \ 150] . وَالْمُسْلِمُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ ظَهَرَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ وَالِانْقِيَادُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ لِلْحَجَرِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. فَقَبَّلَهُ امْتِثَالًا وَاقْتِدَاءً بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَا جَاءَ مِنْ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، فَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانٌ وَعَيْنَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ قَبَّلَهُ ; لِأَنَّ عُمَرَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ لِيُقَبِّلَهُ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ تَنْكَشِفُ الْأُمُورُ عَنْ حِكْمَةٍ لَا نَعْلَمُهَا كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، إِذْ خَرَقَ السَّفِينَةَ، وَقَتَلَ الْغُلَامَ، وَأَقَامَ الْجِدَارَ، وَكُلُّهَا أَعْمَالٌ لَمْ يَعْلَمْ لَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِكْمَةً، فَلَمَّا أَبْدَاهَا لَهُ الْخَضِرُ عَلِمَ مَدَى حِكْمَتِهَا. وَهَكَذَا نَحْنُ الْيَوْمَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَوْقِفَ بِقَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [3 \ 7] . وَقَدْ جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يُلْزِمُ الْبَشَرَ بِالْعَجْزِ وَيَدْفَعُهُمْ إِلَى التَّسْلِيمِ، فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. فَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأُمُورِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَعْلَمُ بِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، وَسَبَبِ دُخُولِهِمُ النَّارَ، وَكَانَ الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُطْعِمُوا الْمِسْكِينَ، وَكَانُوا يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ بِتَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الدِّينِ وَبَيْنَ الْفُرُوعِ، وَهِيَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ إِلَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُطَالَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ مَعَ أُصُولِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مُنَاقَشَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [41 \ 7] فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فِيهِ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، كَمَا أَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ الشَّفَاعَةِ لِلشَّافِعِينَ، وَمَفْهُومُ كَوْنِهَا لَا تَنْفَعُ الْكُفَّارَ أَنَّهَا تَنْفَعُ غَيْرَهُمْ. وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصٌ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنِ ارْتَضَاهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصٌ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ، فَمِنْ عَدَمِ الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [40 \ 18] . وَقَوْلُهُ: وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ [26 \ 99 - 100] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [21 \ 28] . وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ أُذِنَ لَهُ، وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا فِيمَنْ أُذِنُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [2 \ 255] ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [20 \ 109] . وَمَبْحَثُ الشَّفَاعَةِ وَاسِعٌ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ. وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِيهَا: أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا، وَقَدْ ثَبَتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَعِدَّةُ شَفَاعَاتٍ بَعْدَهَا مِنْهَا مَا اخْتُصَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ وَهُوَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْبِيهُ الْمَدْعُوِّينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، بِالْحُمُرِ الْفَارَّةِ مِنَ الصَّيَّادِينَ أَوِ الْأَسَدِ، وَقَدْ شُبِّهَ أَيْضًا الْعَالِمُ غَيْرُ الْمُنْتَفِعِ بِعِلْمِهِ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فَهُمَا تَشْبِيهَانِ بِالدَّاعِي وَالْمَدْعُوِّ إِذَا لَمْ تَنْفَعْهُ الدَّعْوَةُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْم ِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: «لَا أُقْسِمُ» مَفْصُولَةً مِنْ أُقْسِمُ سِوَى الْحَسَنِ وَالْأَعْرَجِ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَءَانِ ذَلِكَ: «لَأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ» . بِمَعْنَى: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَامُ الْقَسَمِ، وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ «لَا» مَفْصُولَةً، «أُقْسِمُ» مُبْتَدَأَةٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْنَا قِرَاءَتَهُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا صِلَةٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: «أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَعَزَاهُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ دَخَلَتْ «لَا» تَوْكِيدًا لِلْكَلَامِ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ فِي قَوْلِهِ: «لَا أُقْسِمُ» تَوْكِيدٌ لِلْقَسَمِ، كَقَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّ الْكُوفَةِ: «لَا» رَدٌّ لِكَلَامٍ قَدْ مَضَى مِنْ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ. ثُمَّ ابْتُدِئَ الْقَسَمُ، فَقِيلَ: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: كُلُّ يَمِينٍ قَبْلَهَا رَدُّ كَلَامٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ «لَا» قَبْلَهَا ; لِيُفَرِّقَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْيَمِينِ الَّتِي تَكُونُ جَحْدًا وَالْيَمِينِ الَّتِي تُسْتَأْنَفُ، وَيَقُولُ: أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ مُبْتَدِئًا: وَاللَّهِ إِنَّ الرَّسُولَ لَحَقٌّ، وَإِذَا قُلْتَ: لَا وَاللَّهِ، إِنَّ الرَّسُولَ لَحَقٌّ، فَكَأَنَّكَ أَكْذَبْتَ قَوْمًا أَنْكَرُوهُ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ قَسَمٌ أَمْ لَا؟ . وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ مِنْ حَيْثُ وُجُودُ اللَّامِ، وَهَلْ هِيَ نَافِيَةٌ لِلْقَسَمِ أَمْ مُثْبِتَةٌ؟ وَعَلَى أَنَّهَا مُثَبِتَةٌ فَمَا مُوجِبُهَا؟ هَلْ هِيَ رَدٌّ لِكَلَامٍ سَابِقٍ أَمْ تَأْكِيدٌ لِلْقَسَمِ؟ وَهَلْ وَقَعَ إِقْسَامٌ أَمْ لَا؟ كَمَا ذَكَرَ كُلَّ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 وَقَدْ تَنَاوَلَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي كِتَابِهِ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ، الْأَوَّلُ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالثَّانِي: فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [90 \ 1] ، فَبَيَّنَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا - أَيْ «لَا» -: نَافِيَةٌ لِكَلَامٍ قَبْلَهَا ; فَلَا تَتَعَارَضُ مَعَ الْإِقْسَامِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِعْلًا الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [85 \ 2] . وَالثَّانِي: أَنَّهَا صِلَةٌ، وَقَالَ: سَيَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ، وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، سَاقَ فِيهِ بَحْثًا طَوِيلًا مُهِمًّا جِدًّا نَسُوقُ خُلَاصَتَهُ. وَسَيُطْبَعُ الْكِتَابُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مَعَ هَذِهِ التَّتِمَّةِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. خُلَاصَةُ مَا سَاقَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: قَالَ: الْجَوَابُ عَلَيْهَا مِنْ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ - وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ -: أَنَّ «لَا» هُنَا صِلَةٌ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهَا رُبَّمَا لَفَظَتْ بِلَفْظَةِ «لَا» مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، بَلْ لِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ الْكَلَامِ وَتَوْكِيدِهِ كَقَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي [20 \ 92 - 93] . يَعْنِي أَنْ تَتَّبِعَنِي. وَقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [57 \ 29] . وَقَوْلِهِ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [4 \ 65] . وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةُ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِ الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ يَعْنِي وَأَبِيكِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ لِزِيَادَةِ لَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ: مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمُ ... وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ يَعْنِي وَعُمَرُ، وَأَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ لِزِيَادَتِهَا قَوْلَ الْعَجَّاجِ: فِي بِئْرٍ لَا حَوْرَ سَرَى وَمَا شَعَرَ ... بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ شَجَرَ وَالْحَوْرُ: الْهَلَكَةُ: يَعْنِي فِي بِئْرِ هَلَكَةٍ، وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «لَا» نَفْيٌ لِكَلَامِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 وَقَوْلُهُ: أُقْسِمُ: إِثْبَاتٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ، وَإِنْ قَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْإِثْبَاتَ الْمُسْتَأْنَفَ بَعْدَ النَّفْيِ بِقَوْلِهِ «أُقْسِمُ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا حَرْفُ نَفْيٍ أَيْضًا، وَوَجْهُهُ أَنَّ إِنْشَاءَ الْقَسَمِ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ. فَهُوَ نَفْيٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ الضِّمْنِيِّ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُعَظَّمُ بِالْقَسَمِ، بَلْ هُوَ فِي نَفْسِهِ عَظِيمٌ أَقْسَمَ بِهِ أَوْ لَا. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَصَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي، وَلَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ نَظَرٍ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّامَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، أُشْبِعَتْ فَتْحَتُهَا. وَالْعَرَبُ رُبَّمَا أَشْبَعَتِ الْفَتْحَةَ بِأَلِفٍ، وَالْكَسْرَةَ بِيَاءٍ، وَالضَّمَّةَ بِوَاوٍ. وَمِثَالُهُ فِي الْفَتْحَةِ قَوْلُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ الْحَارِثِ: وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ... كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَّا فَالْأَصْلُ: كَأَنْ لَمْ تَرَ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَةَ أُشْبِعَتْ. وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْعَتِيقِ الْمُكْدَمِ فَالْأَصْلُ يَنْبَعُ، يَعْنِي الْعَرَقَ، يَنْبَعُ مِنَ الذِّفْرَى: مِنْ نَاقَتِهِ، فَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَصَارَتْ يَنْبَاعُ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْإِشْبَاعُ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. ثُمَّ سَاقَ الشَّوَاهِدَ عَلَى الْإِشْبَاعِ بِالضَّمَّةِ وَالْكَسْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ قُنْبُلٍ: «لَأُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ» بِلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْبَزِّيِّ وَالْحَسَنِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. مُلَخَّصًا. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدَّمَ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: صِلَةٌ، وَنَفْيُ الْكَلَامِ قَبْلَهَا، وَتَأْكِيدٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 لِلْقَسَمِ، وَلَامُ ابْتِدَاءٍ. وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقِرَاءَةِ قُنْبُلٍ، أَيْ: «لَأُقْسِمُ» مُتَّصِلَةٌ، أَمَّا كَوْنُهَا لَامَ ابْتِدَاءٍ لِقِرَاءَةِ قُنْبُلٍ وَالْحَسَنِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَا يَسْتَجِيزُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ; لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَتِهَا مَفْصُولَةً: لَا أُقْسِمُ. وَلَعَلَّ أَرْجَحَ هَذِهِ الْأَوْجُهِ كُلِّهَا أَنَّهَا لِتَوْكِيدِ الْقَسَمِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ هَذَا الْحُسْبَانُ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] . وَجَاءَهُ الْجَوَابُ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] . قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ كُلُّ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى نَجْعَلُ بَنَانَهُ مُتَسَاوِيَةً مُلْتَحِمَةً كَخُفِّ الْبَعِيرِ، أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَنَاوَلَ بِهَا شَيْئًا وَلَا يُحْسِنُ بِهَا عَمَلًا. وَهَذَا فِي الْوَاقِعِ لَمْ نَفْهَمْ لَهُ وَجْهًا مَعَ السِّيَاقِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَجْزِ الْعَبْدِ. وَلَكِنَّ السِّيَاقَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَاسْتِبْعَادِهِ وَمَجِيءِ نَظِيرِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «يس» ، يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ وَتَلَاشِيهِ فِي التُّرَابِ وَتَحَوُّلِ عِظَامِهِ رَمِيمًا، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُ تَمَامًا، كَمَا أَنْشَأَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَمِنْ ضِمْنِ تِلْكَ الْإِعَادَةِ أَنْ يُسَوِّيَ بَنَانَهُ، أَيْ: يَعْدِلُهَا وَيُنَشِّؤُهَا كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُرْشِدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 79] ، وَمِنَ الْخَلْقِ مَا كَانَ عَلَيْهِ خَلْقُ هَذَا الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ الْمُعْتَرِضِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُعِيدُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ تَمَامًا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَبْلَغُ فِي الْإِلْزَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ قُرِئَ «بَرِقَ» بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا ; فَبِالْكَسْرِ: فَزِعَ وَدَهِشَ، أَصْلُهُ مِنْ بَرِقَ الرَّجُلُ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 لَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ ... لِعَيْنَيْهِ مَيُّ سَافِرًا كَادَ يُبْرَقُ وَقَوْلُ الْأَعْشَى: وَكُنْتُ أَرَى فِي وَجْهِ مَيَّةَ ... لَمْحَةً فَأُبْرَقُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ مَكَانِيَا وَ «بَرَقَ» بِالْفَتْحِ: شُقَّ بَصَرُهُ، وَهُوَ مِنَ الْبَرِيقِ، أَيْ: لَمَعَ بَصَرُهُ مِنْ شِدَّةِ شُخُوصِهِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ مَا دَامَتِ الْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ، وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا النَّصِّ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [14 \ 42 - 43] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَنْظُرُونَ مِنَ الْفَزَعِ هَكَذَا وَهَكَذَا، لَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ بَصَرٌ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ. وَقَوْلُهُ: يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ، تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «ص» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [38 \ 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ الْمُرَادُ: «بِمَا قَدَّمَ» هُنَا هُوَ مَا قَدَّمَهُ مِنْ عَمَلٍ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [89 \ 23 - 24] ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [39 \ 48] مِنْ سُورَةِ «الزُّمَرِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 14] . وَقَوْلُهُ: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [18 \ 49] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ أَيْ: أَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ آنَذَاكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [40 \ 52] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى بَعْضَ مَعَاذِيرِهِمْ تِلْكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [28 \ 63] . وَقَوْلِهِ: فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ [37 \ 32] . وَقَوْلِهِ: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [23 \ 106 - 108] . وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 10 - 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ جَمْعُهُ وَقُرْآنُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى اسْتِيعَابِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، يُحَرِّكُ لِسَانَهُ عِنْدَ الْوَحْيِ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَدَى هَذَا النَّهْيِ وَمُدَّةَ هَذِهِ الْعَجَلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [20 \ 114] ، وَفِيهِ الْإِيمَاءُ إِلَى حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءُ عِنْدَ الْإِيحَاءِ بِهِ، كَمَا فِي آدَابِ الِاسْتِمَاعِ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [7 \ 204] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [75 \ 17] ، قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ جَمْعَهُ وَقِرَاءَتَهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] . تَنْبِيهٌ. إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمْعَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَوْجُودِ بِرِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْقِيقًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ الْمَوْجُودَ مِنْ وَسَائِلِ حِفْظِهِ، كَمَا تَعَهَّدَ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ. «وَقُرْآنَهُ» ، أَيْ: تَقْرَؤُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [53 \ 5] ، مِنْ سُورَةِ «النَّجْمِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ قَدْ نَبَّهَ تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي مُقَدِّمَةِ الْأَضْوَاءِ أَنَّهُ مَا مِنْ مُجْمَلٍ إِلَّا وَجَاءَ تَفْصِيلُهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ [41 \ 3] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ «فُصِّلَتْ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [7 \ 143] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ لَمْ يُبَيِّنْ مَا هِيَ الَّتِي بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا الرُّوحُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [56 \ 83 - 87] ، فَهَذِهِ حَالَاتُ النَّزْعِ، وَالرُّوحُ تَبْلُغُ الْحُلْقُومَ وَتَبْلُغُ التَّرَاقِيَ. وَقَدْ يُتْرَكُ التَّصْرِيحُ لِلْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [38 \ 32] ، أَيِ: الشَّمْسُ، وَهَكَذَا هُنَا فَلِمَعْرِفَتِهَا بِالْقَرَائِنِ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِالرُّوحِ أَوِ النَّفْسِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ الْآيَةَ [6 \ 93] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى رَاقٍ هَذِهِ، فَقِيلَ مِنَ الرُّقْيَةِ أَيْ: قَالَ مَنْ حَوْلَهُ: مَنْ يَرْتَقِيهِ هَلْ مِنْ طَبِيبٍ يَرْقِيهِ؟ أَيْ حَالَةَ اشْتِدَادِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ رَجَاءً لِشِفَائِهِ أَوِ اسْتِبْعَادًا بِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ، وَقِيلَ: مِنَ الرُّقِيِّ أَيْ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: مَنِ الَّذِي سَيَرْقَى بِرُوحِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 أَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ أَمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ؟ وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ ; لِأَنَّ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ يَكُونُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْمُتَرَدَّدِ فِي أَمْرِهِ، وَهَذَا هُنَا لَيْسَ مَوْضِعَ تَرَدُّدٍ ; لِأَنَّ نِهَايَةَ السِّيَاقِ فِيهِ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [75 \ 31، 32] ، إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: عَلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً مِنْهُمْ أَنْ يَصْعَدُوا بِهَا، وَفِي هَذَا نَظَرٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَلَائِكَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَمَلَائِكَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَلَا يَسْتَكْرِهُ فَرِيقٌ مِنْهُمَا أَنْ يَصْعَدَ بِمَا تَخَصَّصَ لَهُ، بَلْ قَدْ لَا يَسْمَحُ لِلْآخَرِ بِمَا يَخُصُّهُ. كَمَا فِي حَدِيثِ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، وَأَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ، فَحَضَرَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ يَخْتَصِمُونَ أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِرُوحِهِ، كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَلَّى قَبْضَ رُوحِهِ، أُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ خَرَجَ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ ; لِوُجُودِ قَرِينَةٍ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ وُجِدَتِ الْقَرِينَةُ وَهِيَ مَا فِي آخِرِ الْآيَةِ وَالسِّيَاقِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ تَرَدُّدٍ: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى الْآيَةَ [75 \ 31] . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَب ُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى رَدٌّ عَلَى زَعْمِ أَنَّهُ خُلِقَ سُدًى وَهَمَلًا، وَأَنَّهُ لَا يُحَاسَبُ وَلَا يُسْأَلُ وَبِالتَّالِي لَا يُبْعَثُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 115 - 116] ، أَيْ: تَعَالَى اللَّهُ عَنِ الْعَبَثِ، وَقَدْ سَاقَ الشَّيْخُ الْأَدِلَّةَ الْوَافِيَةَ هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَجِيءُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَوِ التَّقْرِيرِيِّ، بَعْدَ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، وَسَوْقُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، فِيهِ رَدٌّ عَلَى إِنْكَارٍ ضِمْنِيٍّ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُودَهُ سُدًى، وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ إِلَّا مَنِ اسْتَبْعَدَ الْبَعْثَ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالْبَعْثِ لَآمَنَ بِالْجَزَاءِ وَاعْتَرَفَ بِالسُّؤَالِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا، وَلَنْ يُتْرَكَ سُدًى. وَلَكِنْ لَمَّا أَنْكَرَ الْبَعْثَ ظَنَّ وَحَسِبَ أَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى، فَجَاءَ تَذْكِيرُهُ بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ وَتَطَوُّرِهِ لِيَسْتَخْلِصَ مِنْهُ اعْتِرَافَهُ ; لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ مَنِيِّ يُمْنَى، وَتَطْوِيرِهِ إِلَى عَلَقَةٍ ثُمَّ إِلَى خَلْقٍ سَوِيٍّ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذِهِ الْأَطْوَارَ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ، وَأَحَالَ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [53 \ 45 - 47] فِي سُورَةِ «النَّجْمِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْإِنْسَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ «هَلْ» هُنَا بِمَعْنَى قَدْ، أَيْ: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ تَقْرِيرِيٌّ يَسْتَوْجِبُ الْإِجَابَةَ عَلَيْهِ بِنَعَمْ. وَلَفْظُ الْإِنْسَانِ فِي هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ. وَقِيلَ: هُوَ عُمُومُ الْإِنْسَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ، أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، قِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ طِينًا، ثُمَّ صَلْصَالًا، حَتَّى نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. وَيَكُونُ عَلَى الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، هُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعُونَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُضْغَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا، أَيْ ضَعِيفًا، وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ. وَلَفْظُ الْإِنْسَانِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي بَنِي آدَمَ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ أَخْلَاطٍ، وَقَدْ رَجَّحَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ ; لِيَسْتَقِيمَ الْأُسْلُوبُ بِدُونِ مُغَايَرَةٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ إِذْ لَا قَرِينَةَ مُمَيِّزَةٌ. وَلَعَلَّ فِي السِّيَاقِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَبْتَلِيهِ قَطْعًا لِبَنِي آدَمَ ; لِأَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - انْتَهَى أَمْرُهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [2 \ 37] ، وَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِابْتِلَائِهِ، إِنَّمَا ذَلِكَ لِبَنِيهِ. وَاللَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ فِيهِ بَيَانُ مَبْدَأِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَهُ أَطْوَارٌ فِي وُجُودِهِ بَعْدَ النُّطْفَةِ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ خَلْقًا آخَرَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ لَا شَيْءَ قَبْلَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [19 \ 9] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا الْهِدَايَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْبَيَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [41 \ 17] . وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّوِيُّ، وَفِيهِ بَيَانُ انْقِسَامِ الْإِنْسَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: شَاكِرٌ مُعْتَرِفٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، مُقَابِلٌ لَهَا بِالشُّكْرِ، أَوْ كَافِرٌ جَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: إِمَّا شَاكِرًا، يُشِيرُ إِلَى إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: الْأُولَى: إِيجَادُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْعَدَمِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عُظْمَى لَا كَسْبَ لِلْعَبْدِ فِيهَا. وَالثَّانِيَةُ: الْهِدَايَةُ بِالْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَالسَّعَادَةِ، وَهَذِهِ نِعْمَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَلَا كَسْبَ لِلْعَبْدِ فِيهَا أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: هُنَاكَ ثَلَاثُ نِعَمٍ لَا كَسْبَ لِلْعَبْدِ فِيهَا: الْأُولَى: وُجُودُهُ بَعْدَ الْعَدَمِ. الثَّانِيَةُ: نِعْمَةُ الْإِيمَانِ. الثَّالِثَةُ: دُخُولُ الْجَنَّةِ. وَقَالُوا: الْإِيجَادُ مِنَ الْعَدَمِ، تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [42 \ 49 - 50] ، وَمَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ عَقِيمًا فَلَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 يُنْجِبَ قَطُّ. وَالثَّانِيَةُ: الْإِنْعَامُ بِالْإِيمَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [28 \ 56] . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ". الْحَدِيثَ. وَكَوْنُ الْمَوْلُودِ يُولَدُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، لَا كَسْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَالثَّالِثَةُ: الْإِنْعَامُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: " لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا ; إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ". وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَتَيْنِ صَرَاحَةً، وَهُمَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَهِدَايَتُهُ السَّبِيلَ. وَالثَّالِثَةُ: تَأْتِي ضِمْنًا فِي ذِكْرِ النَّتِيجَةِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 5] ; لِأَنَّ الْأَبْرَارَ هُمُ الشَّاكِرُونَ بِدَلِيلِ التَّقْسِيمِ: شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 3 - 5] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [76 \ 3] تَقَدَّمَ أَنَّهَا هِدَايَةُ بَيَانٍ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانٌ لِمَبْدَأِ الْإِنْسَانِ وَمَوْقِفِهِ مِنْ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهِدَايَتِهِمْ، وَنَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ شُكْرٍ أَوْ كُفْرٍ. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، مَعَ قِرَاءَةِ سُورَةِ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: إِنَّ قِرَاءَتَهُمَا مَعًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ; لِمُنَاسَبَةِ خَلْقِ آدَمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لِيَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - مَبْدَأَ خَلْقِ أَبِيهِ آدَمَ، وَمَبْدَأَ خَلْقِ عُمُومِ الْإِنْسَانِ، وَيَتَذَكَّرُ مَصِيرَهُ وَمُنْتَهَاهُ ; لِيَرَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَلْ هُوَ شَاكِرٌ أَوْ كَفُورٌ. اهـ مُلَخَّصًا. وَمَضْمُونُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ، أَنَّ يَوْمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 الْجُمُعَةِ هُوَ يَوْمُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ خُلِقَ، وَفِيهِ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. كَمَا قِيلَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ آدَمَ، وَيَوْمُ الْإِثْنَيْنِ يَوْمُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ: فِيهِ وُلِدَ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ وَصَلَ الْمَدِينَةَ فِي الْهِجْرَةِ، وَفِيهِ تُوُفِّيَ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ وَيَوْمَ أَحْدَاثِهِ كُلِّهَا، إِيجَادًا مِنَ الْعَدَمِ، وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ، وَتَوَاجُدِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَلَقِّي التَّوْبَةِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ ; أَيْ: يَوْمَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ حِسًّا وَمَعْنًى، فَنَاسَبَ أَنْ يُذَكِّرَ الْإِمَامَ بِقِرَاءَتِهِ سُورَةَ " السَّجْدَةِ " فِي فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ; لِمَا فِيهَا مِنْ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [32 \ 7 - 9] . وَفِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [32 \ 13] ، مِمَّا يَبُثُّ الْخَوْفَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ، فَيَجْعَلُهُ أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَأَشَدَّ خَوْفًا مِنَ الشَّرِّ. ثُمَّ حَذَّرَ مِنْ نِسْيَانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [32 \ 14] . وَهَكَذَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، يَرْجِعُ الْمُسْلِمُ إِلَى أَصْلِ وُجُودِهِ وَيَسْتَحْضِرُ قِصَّةَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ يَأْتِي فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقِصَّتِهِ هُوَ مُنْذُ بَدَأَ خَلْقُهُ: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، وَيُذَكِّرُهُ بِالْهَدْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي شُكْرِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنْ جُحُودِهَا وَكُفْرَانِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ مُنْتَهَاهُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 4 - 5] . فَإِذَا قَرَعَ سَمْعَهُ ذَلِكَ فِي يَوْمِ خَلْقِهِ وَيَوْمِ مَبْعَثِهِ، حَيْثُ فِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَكَأَنَّهُ يَنْظُرُ وَيُشَاهِدُ أَوَّلَ وُجُودِهِ وَآخِرَ مَآلِهِ ; فَلَا يُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ. وَقَدْ عَلِمَ مَبْدَأَ خَلْقِهِ وَلَا يُقَصِّرُ فِي وَاجِبٍ، وَقَدْ عَلِمَ مُنْتَهَاهُ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ كَمَا تَرَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَاتِ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [2 \ 185] ، فَجَمِيعُ الشُّهُورِ مِنْ حَيْثُ الْزَمْنُ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ بِمُنَاسَبَةِ بَدْءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الشَّهْرِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَأَكْرَمَ فِيهِ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بَلِ الْعَالَمَ كُلَّهُ، فَتَتَزَيَّنُ فِيهِ الْجَنَّةُ وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الْأَعْمَالُ. وَكَذَلِكَ اللَّيْلَةُ مِنْهُ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْبَدْءُ اخْتَصَّهَا تَعَالَى عَنْ بَقِيَّةِ لَيَالِي الشَّهْرِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] السُّورَةَ بِتَمَامِهَا. مَسْأَلَةٌ. لَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ فِي اعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْإِسْلَامِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَوَقَعَ فِيهَا الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ، وَكَمَا قِيلَ: كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ وَمُنْطَلَقًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، نُقَدِّمُ هَذِهِ النُّبْذَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي الشَّرْعِ وَأَحْدَاثِ الْإِسْلَامِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، أَيْ فِي عُمُومِ الْأُمَمِ وَخُصُوصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، نَجِدُ الْمُنَاسَبَاتِ قِسْمَيْنِ: مُنَاسَبَةٌ مُعْتَبَرَةٌ عُنِيَ بِهَا الشَّرْعُ لِمَا فِيهَا مِنْ عِظَةٍ وَذِكْرَى تَتَجَدَّدُ مَعَ تَجَدُّدٍ الْأَيَّامِ وَالْأَجْيَالِ، وَتَعُودُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ بِالتَّزَوُّدِ مِنْهَا. وَمُنَاسَبَةٌ لَمْ تُعْتَبَرْ، إِمَّا لِاقْتِصَارِهَا فِي ذَاتِهَا وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الْأَفْرَادِ مُسَايَرَتَهَا. فَمِنَ الْأَوَّلِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَتَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْيَوْمِ فِي سُورَةِ «الْجُمُعَةِ» ، وَكَلَامُ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَقَدْ عُنِيَ بِهَا الْإِسْلَامُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمُنَوَّهِ عَنْهَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى أَدَائِهَا وَالْحَفَاوَةِ بِهَا مِنَ اغْتِسَالٍ وَطِيبٍ وَتَبْكِيرٍ إِلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْجُمُعَةِ» . وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا إِفْرَاطٍ، فَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِهَا وَحْدَهُ، دُونَ أَنْ يُسْبَقَ بِصَوْمٍ قَبْلَهُ، أَوْ يُلْحَقَ بِصَوْمٍ بَعْدَهُ، كَمَا نَهَى عَنْ إِفْرَادِ لَيْلَتِهَا بِقِيَامٍ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ مُتَضَافِرَةٌ ثَابِتَةٌ، فَكَانَتْ مُنَاسَبَةً مُعْتَبَرَةً مَعَ اعْتِدَالٍ وَتَوَجُّهٍ إِلَى اللَّهِ، أَيْ بِدُونِ إِفْرَاطٍ أَوْ تَفْرِيطٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 وَمِنْهَا يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ كَمَا أَسْلَفْنَا، فَقَدْ جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صِيَامِهِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، فَقَالَ: «هَذَا يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَعَلَيَّ فِيهِ أُنْزِلَ» ، وَكَانَ يَوْمَ وُصُولِهِ الْمَدِينَةَ فِي الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يَوْمَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَدِ احْتَفَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسَبَّبَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَكُلُّهَا أَحْدَاثٌ عِظَامٌ وَمُنَاسَبَاتٌ جَلِيلَةٌ. فَيَوْمُ مَوْلِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَتْ مَظَاهِرُ كَوْنِيَّةٌ ابْتِدَاءً مِنْ وَاقِعَةِ أَبْرَهَةَ، وَإِهْلَاكِ جَيْشِهِ إِرْهَاصًا بِمَوْلِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ ظُهُورُ نَجْمٍ بَنِي الْخِتَانِ، وَحَدَّثَتْ أُمُّهُ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ فِيمَا قِيلَ: أَنَّهَا أُتِيَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقِيلَ لَهَا: «إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَقُولِي: أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ ثُمَّ سَمِّيهِ مُحَمَّدًا» ، وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنَّهَا رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ رَأَتْ بِهِ قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَهُوَ غُلَامٌ سَمِعَ يَهُودِيًّا يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أُطْمَةٍ بِيَثْرِبَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، قَالُوا: وَيْلَكَ! مَا لَكَ؟ ، قَالَ: طَلَعَ اللَّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي وُلِدَ بِهِ. وَسَاقَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي خَصَائِصِهِ، وَابْنُ هِشَامٍ فِي سِيرَتِهِ أَخْبَارًا عَدِيدَةً مِمَّا شَهِدَهُ الْعَالَمُ لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نُوجِزُ مِنْهَا الْآتِي: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّ أُمَّهُ حَضَرَتْ مَوْلِدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَتْ: فَمَا شَيْءٌ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي الْبَيْتِ إِلَّا نُورٌ، وَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى النُّجُومِ تَدْنُو حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: لَيَقَعْنَ عَلَيَّ. وَعَنْ أَبِي الْحَكَمِ التَّنُوخِيِّ، قَالَ: كَانَ الْمَوْلُودُ إِذَا وُلِدَ فِي قُرَيْشٍ دَفَعُوهُ إِلَى نِسْوَةٍ إِلَى الصُّبْحِ يَكْفَأْنَ عَلَيْهِ بُرْمَةً، فَأَكْفَأْنَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُرْمَةً، فَانْفَلَقَتْ عَنْهُ، وَوُجِدَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ، شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَدْ كَانَ لِمَوْلِدِهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْكَوْنِيَّةِ مَا لَفَتَ أَنْظَارَ الْعَالَمِ كُلِّهِ. ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْهَا انْكِفَاءَ الْأَصْنَامِ عَلَى وُجُوهِهَا، وَارْتِجَاسَ إِيوَانِ كِسْرَى، وَسُقُوطَ بَعْضِ شُرَفِهِ، وَخُمُودَ نَارِ فَارِسَ، وَلَمْ تُخْمَدْ قَبْلَهَا، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ إِرْهَاصٌ بِتَكْسِيرِ الْأَصْنَامِ وَانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَدُخُولِ الْفُرْسِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ. الْحَفَاوَةُ بِهَذَا الْيَوْمِ. لَا شَكَّ أَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَشْهَدْ حَدَثَيْنِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدَثَيْنِ: مَوْلِدِ سَيِّدِ الْخَلْقِ، وَبَدْءِ إِنْزَالِ أَفْضَلِ الْكُتُبِ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَفِي بِهِ، وَذَلِكَ بِصِيَامِهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يُعَبِّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ عَنْ شُعُورِهِ فِيهِ، وَالْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي يَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى بِهَا عَلَى هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ. أَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ احْتِفَالَاتٍ وَمَظَاهِرَ، فَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي، وَلَا الثَّالِثِ، وَهِيَ الْقُرُونُ الْمَشْهُودُ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَأَوَّلُ إِحْدَاثِهِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ. وَقَدِ افْتَرَقَ النَّاسُ فِيهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ يُنْكِرُهُ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُهُ ; لِعَدَمِ فِعْلِ السَّلَفِ إِيَّاهُ، وَلَا مَجِيءِ أَثَرٍ فِي ذَلِكَ. وَفَرِيقٌ يَرَاهُ جَائِزًا ; لِعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَقَدْ يُشَدِّدُ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. لِابْنِ تَيْمِيَةَ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَلَامٌ وَسَطٌ فِي غَايَةِ الْإِنْصَافِ، نُورِدُ مُوجَزَهُ لِجَزَالَتِهِ، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي فَصْلٍ قَدْ عَقَدَهُ لِلْأَعْيَادِ الْمُحْدَثَةِ: فَذَكَرَ أَوَّلَ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَعِيدَ خُمٍّ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، حَيْثُ خَطَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَثَّ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبِأَهْلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ أَتَى إِلَى عَمَلِ الْمَوْلِدِ، فَقَالَ: وَكَذَلِكَ مَا يُحْدِثُهُ بَعْضُ النَّاسِ إِمَّا مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى فِي مِيلَادِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِمَّا مَحَبَّةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَاللَّهُ قَدْ يُثِيبُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَالِاجْتِهَادِ لَا عَلَى الْبِدَعِ مِنَ اتِّخَاذِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدًا، مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي مَوْلِدِهِ، أَيْ: فِي رَبِيعٍ أَوْ فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهُ وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَحْضًا أَوْ رَاجِحًا لَكَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَحَقَّ بِهِ مِنَّا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَعْظِيمًا لَهُ مِنَّا، وَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ أَحْرَصُ. وَإِنَّمَا كَمَالُ مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ فِي مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَإِحْيَاءِ سُنَّتِهِ بَاطِنًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 وَظَاهِرًا، وَنَشْرِ مَا بُعِثَ بِهِ، وَالْجِهَادِ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ، فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَاهُمْ حُرَصَاءَ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْبِدَعِ، مَعَ مَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ الَّذِي يُرْجَى لَهُمْ بِهِ الْمَثُوبَةُ تَجِدُونَهُمْ فَاتِرِينَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ عَمَّا أُمِرُوا بِالنَّشَاطِ فِيهِ. وَإِنَّمَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُحَلِّي الْمُصْحَفَ وَلَا يَقْرَأُ فِيهِ وَلَا يَتَّبِعُهُ. وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُزَخْرِفُ الْمَسْجِدَ وَلَا يُصَلِّي فِيهِ، أَوْ يُصَلِّي فِيهِ قَلِيلًا، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَتَّخِذُ الْمَسَابِيحَ وَالسَّجَاجِيدَ الْمُزَخْرَفَةِ، وَأَمْثَالَ هَذِهِ الزَّخَارِفِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ وَيَصْحَبُهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنِ الْمَشْرُوعِ مَا يُفْسِدُ حَالَ صَاحِبِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَشْرُوعِ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ بِدْعَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ رَسَمَ طَرِيقَ الْعَمَلِ السَّلِيمِ لِلْفَرْدِ فِي نَفْسِهِ وَالدَّاعِيَةِ مَعَ غَيْرِهِ، فَقَالَ: فَعَلَيْكَ هُنَا بِأَدَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حِرْصُكَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. الثَّانِي: أَنْ تَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى السُّنَّةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ; فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يَعْمَلُ هَذَا وَلَا يَتْرُكُهُ إِلَّا إِلَى شَرٍّ مِنْهُ، فَلَا تَدْعُو إِلَى تَرْكِ مُنْكَرٍ بِفِعْلِ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ، أَوْ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ تَرْكُهُ أَضْمَرُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ. وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي الْبِدْعَةِ نَوْعٌ مِنَ الْخَيْرِ، فَعَوِّضْ عَنْهُ مِنَ الْخَيْرِ الْمَشْرُوعِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، إِذِ النُّفُوسُ لَا تَتْرُكُ شَيْئًا إِلَّا بِشَيْءٍ. وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ خَيْرًا إِلَّا إِلَى مِثْلِهِ أَوْ إِلَى خَيْرٍ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْفَاعِلِينَ لِهَذِهِ الْبِدَعِ مَعِيبُونَ، قَدْ أَتَوْا مَكْرُوهًا فَالتَّارِكُونَ أَيْضًا لِلسُّنَنِ مَذْمُومُونَ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِبِدَعِ الْعِبَادَاتِ تَجِدُهُمْ مُقَصِّرِينَ فِي فِعْلِ السُّنَنِ مِنْ ذَلِكَ أَوِ الْأَمْرِ بِهِ. . . وَلَعَلَّ حَالَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ يَكُونُ أَسْوَأَ مِنْ حَالِ مَنْ يَأْتِي بِتِلْكَ الْعَادَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْكَرَاهَةِ، بَلِ الدِّينُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَتَعْظِيمُ الْمَوْلِدِ وَاتِّخَاذُهُ مَوْسِمًا قَدْ يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ لِحُسْنِ قَصْدِهِ وَتَعْظِيمِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَدَّمْتُهُ لَكَ أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ مَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الْمُسَدِّدِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 وَلِهَذَا قِيلَ لِأَحْمَدَ: إِنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ يُنْفِقُ عَلَى مُصْحَفٍ أَلْفَ دِينَارٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَعْهُ، فَهَذَا أَفْضَلُ مَا أُنْفِقَ فِيهِ الذَّهَبُ، أَوْ كَمَا قَالَ، مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ: أَنَّ زَخْرَفَةَ الْمَصَاحِفِ مَكْرُوهَةٌ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا هَذَا، وَإِلَّا اعْتَاضُوا عَنْهُ الْفَسَادَ الَّذِي لَا صَلَاحَ فِيهِ مِثْلَ أَنْ يُنْفِقَهَا فِي كُتُبِ فُجُورٍ، كَكُتُبِ الْأَسْمَارِ وَالْأَصْفَارِ، أَوْ حِكْمَةِ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَمَرَاتِبُ الْأَعْمَالِ ثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي لَا كَرَاهَةَ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنْ بَعْضِ وُجُوهِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا، إِمَّا لِحُسْنِ الْقَصْدِ، أَوْ لِاشْتِمَالِهِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَشْرُوعِ. وَالثَّالِثَةُ: مَا لَيْسَ فِيهِ صَلَاحٌ أَصْلًا. فَأَمَّا الْأُولَى: فَهِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ أَعْمَالُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي طُرُقِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى عِلْمٍ أَوْ عِبَادَةٍ، وَمِنَ الْعَامَّةِ أَيْضًا، وَهَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِمَّا لَا يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا مَشْرُوعًا وَلَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَمَعَ هَذَا فَالْمُؤْمِنُ يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُ الْمُنْكَرَ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافَقَةُ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لَهُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ، وَلَا مُخَالَفَةُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا اهـ. لَقَدْ عَالَجَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِحِكْمَةِ الدَّاعِي وَسِيَاسَةِ الدَّعْوَةِ مِمَّا لَا يَدَعُ مَجَالًا لِلْكَلَامِ فِيهَا. وَلَكِنْ قَدْ حَدَثَ بَعْدَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُمُورٌ لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلُ، ابْتُلِيَ بِهَا الْعَالَمُ الْغَرْبِيُّ، وَغَزَا بِهَا الْعَالَمَ الشَّرْقِيَّ، وَلُبِّسَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ تِلْكَ الْمَبَادِئُ الْهَدَّامَةُ وَالْغَزْوُ الْفِكْرِيُّ، وَإِبْرَازُ شَخْصِيَّاتٍ ذَاتِ مَبَادِئَ اقْتِصَادِيَّةٍ أَوْ فَسَلَفِيَّةٍ، ارْتَفَعَ شَأْنُهَا فِي قَوْمِهِمْ، وَنُفِثَتْ سُمُومُهُمْ إِلَى بَنِي جِلْدَتِنَا، وَصَارُوا يُقِيمُونَ لَهُمُ الذِّكْرَيَاتِ، وَيُقَدِّمُونَ عَنْهُمُ الدِّرَاسَاتِ جَهْلًا أَوْ تَضْلِيلًا، فَقَامَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ: نَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْلِدَ لَيْسَ سُنَّةً نَبَوِيَّةً، وَلَا طَرِيقًا سَلَفِيًّا، وَلَا عَمَلَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ مُقَابَلَةَ الْفِكْرَةِ بِالْفِكْرَةِ، وَالذِّكْرَيَاتِ بِالذِّكْرَى، لِنَجْمَعَ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 عَلَى سِيرَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ: يُحْدَثُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَحْكَامِ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثَتْ مِنَ الْبِدَعِ إِلَى آخِرِهِ. وَهُنَا لَا يَنْبَغِي الْإِسْرَاعُ فِي الْجَوَابِ، وَلَكِنِ انْطِلَاقًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ الْمُتَقَدِّمِ، يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ إِحْيَاءَ الذِّكْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَوَلَّى ذَلِكَ بِأَوْسَعِ نِطَاقٍ ; حَيْثُ قَرَنَ ذِكْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ ذِكْرِهِ تَعَالَى فِي الشَّهَادَتَيْنِ، مَعَ كُلِّ أَذَانٍ عَلَى كُلِّ مَنَارَةٍ مِنْ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَفِي كُلِّ إِقَامَةٍ لِأَدَاءِ صَلَاةٍ، وَفِي كُلِّ تَشَهُّدٍ فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِينَ مَرَّةً جَهْرًا وَسِرًّا. جَهْرًا يَمْلَأُ الْأُفُقَ، وَسِرًّا يَمْلَأُ الْقَلْبَ وَالْحِسَّ. ثُمَّ تَأْتِي الذِّكْرَى الْعَمَلِيَّةُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ: فِي الْمَأْكَلِ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّهُ السُّنَّةُ، وَفِي الْمَلْبَسِ فِي التَّيَامُنِ ; لِأَنَّهُ السُّنَّةُ، وَفِي الْمَضْجَعِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ ; لِأَنَّهُ السُّنَّةُ، وَفِي إِفْشَاءِ السَّلَامِ وَفِي كُلِّ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ وَسَكَنَاتِهِ إِذَا رَاعَى فِيهَا أَنَّهَا السُّنَّةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمَحَبَّةِ، وَالْمَحَبَّةُ هِيَ عُنْوَانُ الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ طَاعَةُ مَنْ تُحِبُّ، وَفِعْلُ مَا يُحِبُّهُ، وَتَرْكُ مَا لَا يَرْضَاهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ، وَمِنْ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا يُلَابِسُ عَمَلَ الْمَوْلِدِ مِنْ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَاخْتِلَاطٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَأَعْمَالٍ فِي أَشْكَالٍ لَا أَصْلَ لَهَا، يَجِبُ تَرْكُهُ وَتَنْزِيهُ التَّعْبِيرِ عَنْ مَحَبَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا لَا يَرْضَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَرِّمُ هَذَا الْيَوْمَ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُقَابَلَةَ فِكْرَةٍ بِفِكْرَةٍ. فَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ، وَلَا مُوجِبَ لِلرَّبْطِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، كَبُعْدِ الْحَقِّ عَنِ الْبَاطِلِ وَالظُّلْمَةِ عَنِ النُّورِ. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَلَا مُوجِبَ لِلتَّقْيِيدِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ الْعَامُ كُلُّهُ لِإِقَامَةِ الدِّرَاسَاتِ فِي السِّيرَةِ، وَتَعْرِيفِ الْمُسْلِمِينَ النَّاشِئَةَ مِنْهُمْ وَالْعَوَامَّ وَغَيْرَهُمْ بِمَا تُرِيدُهُ مِنْ دِرَاسَةٍ لِلسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَخِتَامًا ; فَبَدَلًا مِنَ الْمَوْقِفِ السَّلْبِيِّ عِنْدَ التَّشْدِيدِ فِي النَّكِيرِ، أَنْ يَكُونَ عَمَلًا إِيجَابِيًّا فِيهِ حِكْمَةٌ وَتَوْجِيهٌ لِمَا هُوَ أَوْلَى بِحَسَبِ الْمُسْتَطَاعِ، كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمِنَ الْمُنَاسَبَاتِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِبَدْءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مِقْدَارَهَا بِقَوْلِهِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [97 \ 3] ، وَبَيَّنَ خَوَاصَّهَا بِقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [97 \ 4 - 5] . الْحَفَاوَةُ بِهَا. لَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَفِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ كُلَّهَا ; الْتِمَاسًا لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَكَانَ يُحْيِيهَا قَائِمًا فِي مُعْتَكَفِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا جَاءَ الْعَشْرُ: شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَطَوَى فِرَاشَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» ، فَلَمْ يَكُنْ يَمْرَحُ وَلَا يَلْعَبُ وَلَا حَتَّى نَوْمٌ، بَلِ اجْتِهَادٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَكَذَلِكَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِكَامِلِهِ ; لِكَوْنِهِ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، فَكَانَ تَكْرِيمُهُ بِصَوْمِ نَهَارِهِ وَقِيَامِ لَيْلِهِ، لَا بِالْمَلَاهِي وَاللُّعَبِ وَالْحَفَلَاتِ، كَمَالُهُ بَعْضٌ صَارَ يُعِدُّ النَّاسُ وَسَائِلَ تَرْفِيهٍ خَاصَّةٍ، فَيَعْكِسُ فِيهِ الْقَصْدَ وَيُخَالِفُ الْمَشْرُوعَ. وَمِنَ الْمُنَاسَبَاتِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، لَقَدْ كَانَ لَهُ تَارِيخٌ قَدِيمٌ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُعَظِّمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكْسُو فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَلَمَّا قَدِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَ تَصُومُونَهُ؟» ، فَقَالُوا: يَوْمًا نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ، فَصَامَهُ شُكْرًا لِلَّهِ فَصُمْنَاهُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. إِنَّهَا مُنَاسَبَةٌ عُظْمَى: نَجَاةُ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ، نُصْرَةُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَنَصْرُ جُنْدِ اللَّهِ وَإِهْلَاكُ جُنْدِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا بِحَقٍّ مُنَاسِبَةٌ يَهْتَمُّ لَهَا كُلُّ مُسْلِمٍ. وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ» . وَقَدْ كَانَ صِيَامُهُ فَرْضًا حَتَّى نُسِخَ بِفَرْضِ رَمَضَانَ، وَهَكَذَا مَعَ عِظَمِ مُنَاسَبَتِهِ مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ، كَانَ ابْتِهَاجُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِ فِي صِيَامِهِ شُكْرًا لِلَّهِ. وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ السَّلِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْكَرِيمَةُ، لَا مَا يُحْدِثُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ وَالْجُهَّالِ مِنْ مَظَاهِرَ وَأَحْدَاثٍ لَا أَصْلَ لَهَا، ثُمَّ يَأْتِي الْعَمَلُ الْأَعَمُّ وَالْمُنَاسَبَاتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 الْمُتَعَدِّدَةُ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ مِنْهَا الْهَرْوَلَةُ فِي الطَّوَافِ، لَقَدْ كَانَتْ عَنْ مُؤَامَرَةِ قُرَيْشٍ فِي عَزْمِهَا عَلَى الْغَدْرِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُظْهِرُوا النَّشَاطَ فِي الطَّوَافِ، وَذَلِكَ حِينَمَا جَاءَ الشَّيْطَانُ لِقُرَيْشٍ وَقَالَ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَاءُوا إِلَيْكُمْ وَقَدْ أَنْهَكَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَلَوْ مِلْتُمْ عَلَيْهِمْ لَاسْتَأْصَلْتُمُوهُمْ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ الْمَوْقِفُ خَطِيرًا جِدًّا وَحَرِجًا ; حَيْثُ لَا مَدَدَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا سَبِيلَ لِلِانْسِحَابِ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِتْمَامِ الْعُمْرَةِ. فَكَانَ التَّصَرُّفُ الْحَكِيمُ، أَنْ يَعْكِسُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ نَظَرِيَّتَهُمْ، وَيَأْتُونَهُمْ مِنَ الْبَابِ الَّذِي أَتَوْا مِنْهُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: «أَرُوهُمُ الْيَوْمَ مِنْكُمْ قُوَّةً» ، فَهَرْوَلُوا فِي الطَّوَافِ، وَأَظْهَرُوا قُوَّةً وَنَشَاطًا مِمَّا أَدْهَشَ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى قَالُوا: وَاللَّهِ مَا هَؤُلَاءِ بِإِنْسٍ إِنَّهُمْ لَكَالْجِنِّ «، وَفَوَّتُوا عَلَيْهِمُ الْفُرْصَةَ بِذَلِكَ، وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ. فَهُوَ أَشْبَهُ بِمَوْقِفِ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ، فَنَجَّى اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَدْرِ قُرَيْشٍ، فَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ مُخَلَّدًا وَمَشْرُوعًا فِي كُلِّ طَوَافِ قُدُومٍ حَتَّى الْيَوْمَ، مَعَ زَوَالِ السَّبَبِ حَيْثُ هَرْوَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَتَيْنِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: بَقِيَ هَذَا الْعَمَلُ ; تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا، وَتَذَكَّرُوا لِهَذَا الْمَوْقِفِ وَمَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي بَادِئِ الدَّعْوَةِ. وَجَاءَ السَّعْيُ وَالْهَرْوَلَةُ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَجْدِيدِ الْيَقِينِ بِاللَّهِ، حَيْثُ تُرِكَتْ هَاجَرُ، وَهِيَ مِنْ سَادَةِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ وَالَّتِي قَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: اذْهَبْ فَلَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ. تُرِكَتْ حَتَّى سَعَتْ إِلَى نِهَايَةِ الْعَدَدِ، كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْفَرَائِضَ وَهُوَ سَبْعَةٌ. إِذْ كَلُّ عَدَدٍ بَعْدَهُ تَكْرَارٌ لِمُكَرَّرٍ قَبْلَهُ، كَمَا قَالُوا فِي عَدَدِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَحَصَى الْجِمَارِ، وَأَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. إلخ. وَذَلِكَ لِتَصِلَ إِلَى أَقْصَى الْجُهْدِ، وَتَنْقَطِعَ أَطْمَاعُهَا مِنْ غَوْثٍ يَأْتِيهَا مِنَ الْأَرْضِ، فَتَتَّجِهُ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ وَشِدَّةِ الضَّرَاعَةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَتَتَوَجَّهُ بِكُلِّيَّتِهَا وَإِحْسَاسِهَا بِقَلْبِهَا وَقَالَبِهَا إِلَى اللَّهِ. فَيَأْتِيهَا الْغَوْثُ الْأَعْظَمُ سَقْيًا لَهَا وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهَا. فَكَانَ ذَلِكَ دَرْسًا عَمَلِيًّا ظَلَّ إِحْيَاؤُهُ تَجْدِيدًا لَهُ. وَهَكَذَا النَّحْرُ، وَقِصَّةُ الْفِدَاءِ لِمَا كَانَ فِيهِ دَرْسُ الْأُمَّةِ لِأَفْرَادِهَا وَجَمَاعَتِهَا فِي أُسْرَةٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 كَامِلَةٍ. وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ، وَوَلَدٌ كَلٌّ يُسَلِّمُ قِيَادَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِلَى أَقْصَى حَدِّ التَّضْحِيَةِ حِينَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ مَا قَصَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا: يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [37 \ 102] . إِنَّهُ حَدَثٌ خَطِيرٌ، وَأَيُّ رَأْيٍ لِلْوَلَدِ فِي ذَبْحِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ التَّمْهِيدُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَكَانَ مَوْقِفُ الْوَلَدِ لَا يَقِلُّ إِكْبَارًا عَنْ مَوْقِفِ الْوَالِدِ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [37 \ 102] ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَرْضًا وَقَبُولًا فَحَسْبُ، بَلْ جَاءَ وَقْتُ التَّنْفِيذِ إِلَى نُقْطَةِ الصِّفْرِ كَمَا يُقَالُ. وَالْكُلُّ مَاضٍ فِي سَبِيلِ التَّنْفِيذِ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [37 \ 103] ، يَا لَهُ مِنْ مَوْقِفٍ يَعْجَزُ كُلُّ بَيَانٍ عَنْ تَصْوِيرِهِ وَيَئِطُّ كُلُّ قَلَمٍ عَنْ تَفْسِيرِهِ، وَيَثْقُلُ كُلُّ لِسَانٍ عَنْ تَعْبِيرِهِ، شَيْخٌ فِي كِبَرِ سِنِّهِ يَحْمِلُ سِكِّينًا بِيَدِهِ، وَيَتِلُّ وَلَدَهُ وَضَنَاهُ بِالْأُخْرَى، كَيْفَ قَوِيَتْ يَدُهُ عَلَى حَمْلِ السِّكِّينِ، وَقَوِيَتْ عَيْنَاهُ عَلَى رُؤْيَتِهَا فِي يَدِهِ، وَكَيْفَ طَاوَعَتْهُ يَدُهُ الْأُخْرَى عَلَى تَلِّ وَلَدِهِ عَلَى جَبِينِهِ؟ إِنَّهَا قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَسُنَّةُ الِالْتِزَامِ، وَهَا هُوَ الْوَلَدُ مَعَ أَبِيهِ طَوْعَ يَدِهِ، يَتَصَبَّرُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَيَسْتَسْلِمُ لِقَضَاءِ اللَّهِ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [37 \ 102] ، وَالْمَوْقِفُ الْآنَ وَالِدٌ بِيَدِهِ السِّكِّينُ، وَوَلَدٌ مُلْقًى عَلَى الْجَبِينِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَوَقُّفُ الْأَنْفَاسِ لِلَحْظَةِ التَّنْفِيذِ، وَلَكِنْ - رَحْمَةُ اللَّهِ - أَوْسَعُ، وَفَرَجُهُ مِنْ عِنْدِهِ أَقْرَبُ: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [37 \ 104 - 105] . فَكَانَتْ مُنَاسَبَةً عَظِيمَةً وَفَائِدَتُهَا كَبِيرَةٌ، خَلَّدَهَا الْإِسْلَامُ فِي الْهَدْيِ وَالضَّحِيَّةِ. وَفِي رَمْيِ الْجِمَارِ، إِلَى آخِرِهِ، وَهَكَذَا كُلُّهَا فِي مَنَاسِكَ وَعِبَادَةٍ وَقُرْبَةٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَجَرُّدٍ وَانْقِطَاعٍ، وَدَوَامِ ذِكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى. وَهُنَاكَ أَحْدَاثٌ جِسَامٌ وَمُنَاسَبَاتٌ عِظَامٌ، لَا تِقِلُّ أَهَمِّيَّةً عَنْ سَابِقَاتِهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا الْإِسْلَامُ أَيَّ ذِكْرَى، كَمَا فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. لَقَدْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْإِسْلَامِ، إِذْ كَانَ فِيهِ انْتِزَاعُ اعْتِرَافِ قُرَيْشٍ بِالْكِيَانِ الْإِسْلَامِيِّ مَائِلًا فِي الصُّلْحِ، وَالْعَهْدِ الَّذِي وُثِّقَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ فَتْحًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [48 \ 27] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 وَنَزَلَتْ سُورَةُ» الْفَتْحِ «فِي عَوْدَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَكَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ كَانَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ، فَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَنَصَرَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قِلَّتِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، وَتَحْطِيمِ الْأَصْنَامِ، وَالْقَضَاءِ نِهَائِيًّا عَلَى دَوْلَةِ الشِّرْكِ فِي الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ لَيْلَةُ خُرُوجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ وَنُزُولِهِ فِي الْغَارِ، إِذْ كَانَ فِيهَا نَجَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَتْكِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ الصَّدِّيقُ وَهُمَا فِي الطَّرِيقِ إِلَى الْغَارِ، حِينَمَا كَانَ يَسِيرُ أَحْيَانًا أَمَامَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْيَانًا خَلْفَهُ، فَسَأَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتَذَكَّرُ الرَّصَدَ فَأَكُونُ أَمَامَكَ، وَأَتَذَكَّرُ الطَّلَبَ فَأَكُونُ خَلْفَكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» أَتُرِيدُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَكُونُ فِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ «. فَقُلْتُ: نَعَمْ ; فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ; فَإِنِّي إِنْ أَهْلِكْ أَهْلِكْ وَحْدِي، وَإِنْ تُصَبْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَبِ الدَّعْوَى مَعَكَ» . وَكَذَلِكَ وُصُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ بِدَايَةُ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ وَبِنَاءُ كِيَانِ أُمَّةٍ جَدِيدَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلِ الْإِسْلَامُ لِذَلِكَ كُلِّهِ عَمَلًا خَاصًّا بِهِ وَالنَّاسُ فِي إِبَّانِهَا تَأْخُذُهُمْ عَاطِفَةُ الذِّكْرَى، وَيَجُرُّهُمْ حَنِينُ الْمَاضِي وَتَتَرَاءَى لَهُمْ صَفَحَاتُ التَّارِيخِ، فَهَلْ يَقِفُونَ صُمًّا بُكْمًا أَمْ يَنْطِقُونَ بِكَلِمَةِ تَعْبِيرٍ؟ وَشُكْرٍ لِلَّهِ إِنَّهُ إِنْ يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَلَا يَصِحُّ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْمُنْكَرِ، وَمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَا رَسُولَهُ. إِنَّهُ إِنْ يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الْمَنْهَجِ الَّذِي رَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ مِنْ عِبَادَةٍ فِي: صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا بِمَا يُقَالُ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ حَيْثُ كَانَتْ. وَكَانَ عَهْدُ التَّشْرِيعِ وَلَمْ يُشْرَعْ فِي خُصُوصِهَا شَيْءٌ، وَهَلِ الْأَمْرُ فِيهَا كَالْأَمْرِ فِي الْمَوْلِدِ، وَتَكُونُ ضِمْنَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [51 \ 55] ، وَضِمْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [59 \ 2] رَأْيٌ بِقِصَصِ الْمَاضِينَ. وَنَحْنُ أَيْضًا نَقُصُّ عَلَى أَجْيَالِنَا بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ، أَهَمَّ أَحْدَاثِ الْإِسْلَامِ لِاسْتِخْلَاصِ الْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا مَا يَتَيَسَّرُ إِيرَادُهُ بِإِيجَازٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَنْبِيهٌ. مِمَّا يُعْتَبَرُ ذَا صِلَةٍ بِهَذَا الْمَبْحَثِ فِي الْجُمْلَةِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] . قَالَ عِنْدَهَا: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ بِهِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ طَارِقٍ، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لَاتَّخَذْنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حِينَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُنْزِلَتْ: يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَنَا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ. وَسَاقَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، قَالَ كَعْبٌ: لَوْ أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنَظَرُوا الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَاتَّخَذُوهُ عِيدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ آيَةٍ يَا كَعْبُ؟ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فَأَجَابَهُ عُمَرُ بِمَا أَجَابَ بِهِ سَابِقًا، وَقَالَ: فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَكِلَاهُمَا - بِحَمْدِ اللَّهِ - لَنَا عِيدٌ. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرَأَ الْآيَةَ، فَقَالَ يَهُودِيٌّ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ: يَوْمَ عِيدٍ، وَيَوْمَ جُمُعَةٍ. وَمَحَلُّ الْإِيرَادِ أَنَّ عُمَرَ سَمِعَ الْيَهُودِيَّ يُشِيدُ بِيَوْمِ نُزُولِهَا، فَقَدْ أَقَرَّ الْيَهُودِيَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ بِالْوَاقِعِ وَهُوَ أَنَّ يَوْمَ نُزُولِهَا عِيدٌ بِنَفْسِهِ بِدُونِ أَنْ نَتَّخِذَهُ نَحْنُ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ ; أَقَرَّ الْيَهُودِيَّ عَلَى إِخْبَارِهِ وَتَطَلُّعِهِ وَاقْتِرَاحِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يُنْكِرْ عُمَرُ، مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ نُزُولُهَا يَوْمَ عِيدٍ، لَكَانَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ تُتَّخَذَ عِيدًا. وَلَكِنَّهُ صَادَفَ عِيدًا أَوْ عِيدَيْنِ، فَهُوَ تَكْرِيمٌ لِلْيَوْمِ بِمُنَاسَبَةِ مَا نَزَلْ فِيهِ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [76 \ 2] ، الْأَمْشَاجُ: الْأَخْلَاطُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [86 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هَدَى الْإِنْسَانَ السَّبِيلَ، وَهُوَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا. وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِدَايَةُ بَيَانٍ وَإِرْشَادٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [41 \ 17] ، كَمَا أَنَّ الْهِدَايَةَ الْحَقِيقِيَّةَ بِخَلْقِ التَّوْفِيقِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ شَاءَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [28 \ 56] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَمَعْنَى الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعَ هَذِهِ السَّلَاسِلِ بِذَرْعِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا [69 \ 32] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ مَادَّةُ يَشْرَبُ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا، فَيُقَالُ: يَشْرَبُ كَأْسًا بِدُونِ مَجِيءِ «مِنْ» ، وَ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ وَلِلِابْتِدَاءِ، فَقِيلَ: هِيَ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ، وَهُوَ: يَتَنَعَّمُونَ وَيَرْتَوُونَ كَمَا قَالُوا فِي: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [76 \ 6] . إِذِ الْبَاءُ تَكُونُ لِلْإِرَادَةِ وَلَا إِرَادَةَ هُنَا، فَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ بِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ فِعْلًا، وَأَنَّ شُرْبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَفُّهِ وَالتَّلَذُّذِ، وَهِيَ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ الْمُنَعَّمِينَ، يَشْرَبُونَ بَعْضَ الْكَأْسِ لَا كُلَّهُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَشْرَبُونَ عَنْ ظَمَأٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [20 \ 119] ، وَسَيَأْتِي تَعْدِيَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 يُسْقَوْنَ بِنَفْسِهَا إِلَى الْكَأْسِ: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا [76 \ 17] ، وَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [76 \ 21] . وَيُؤَيِّدُ هَذَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى التَّضْمِينِ فِي: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ، فَهُوَ هُنَا وَاضِحٌ. وَهُنَاكَ التَّبْعِيضُ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَبْحَثُ النَّذْرِ وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ الْآيَةَ [22 \ 29] فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي عَلَى حُبِّهِ، هَلْ هُوَ رَاجِعٌ عَلَى الطَّعَامِ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ أَيْ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ لِقِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، أَمْ عَلَى حُبِّ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ؟ وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَسَاقَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [2 \ 177] ، وَقَوْلِهِ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [3 \ 92] . وَالْوَاقِعُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ فِيهِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ أَقْرَبُ دَلِيلًا وَأَصْرَحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [59 \ 9] . وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَرِينَةٌ تَشْهَدُ لِرُجُوعِهِ لِلطَّعَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [76 \ 9] ; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى حُبِّ اللَّهِ، مِمَّا يَجْعَلُ الْأُولَى لِلطَّعَامِ وَهَذِهِ لِلَّهِ. وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ السِّيَاقُ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حَاجَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَلِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. مَسْأَلَةٌ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، جَمْعُ أَصْنَافٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَالِبًا، أَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْأَسِيرُ فَلَمْ يَكُنْ لَدَى الْمُسْلِمِينَ أَسْرَى إِلَّا مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 كَانَتِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا فِي الْفُرْسِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَسَاقَ قِصَّةَ أَسَارَى بَدْرٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْأَسْرَى هُمُ الْخَدَمُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْأَسَارَى هُنَا عَلَى مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ ; لِأَنَّ الْخَدَمَ لَا يَخْرُجُونَ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمِسْكِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْأَسَارَى بَعْدَ وُقُوعِهِمْ فِي الْأَسْرِ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَوْلٌ وَلَا طَوْلٌ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَسُمُوِّ تَعَالِيمِهِ، وَإِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ الْيَوْمَ لَفِي حَاجَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ التَّعَالِيمِ السَّمَاوِيَّةِ السَّامِيَةِ حَتَّى مَعَ أَعْدَائِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [60 \ 8] ، وَهَؤُلَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ لَيْسُوا مُقَاتِلِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا تَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [75 \ 22] ، وَهُنَا جَمْعٌ لَهُمْ بَيْنَ النُّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ النُّضْرَةَ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ النَّعِيمِ، وَالسُّرُورَ لِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [75 \ 22 - 23] فَيَكُونُ السُّرُورُ نَتِيجَةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا فِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَوَانِي الْفِضَّةِ فِي الْجَنَّةِ. وَجَاءَ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي الدُّنْيَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَطُوفُ عَلَيْهِمْ هُمْ: وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [76 \ 19] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الطُّورِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ [52 \ 24] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 وَالْقَوَارِيرُ جَمْعُ قَارُورَةٍ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقَارُورَةَ عَلَى إِنَاءِ الزُّجَاجِ خَاصَّةً، وَلَكِنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا قَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْقَارُورَةِ عَلَى غَيْرِ آنِيَةِ الزُّجَاجِ كَالْفِضَّةِ مَثَلًا. قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْقَارُورَةُ: مَا قَرَّ فِيهِ الشَّرَابُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الزُّجَاجِ خَاصَّةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَوَارِيرَ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ أَوَانِي زُجَاجٍ فِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَصَفَاءِ الْقَوَارِيرِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا أَحْسَنُ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ شِدْيَاقٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي مَادَّةٍ قَرَّ: الْقَافُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى بَرْدٍ، وَالْآخَرُ عَلَى تَمَكُّنٍ، وَذَكَرَ مِنَ التَّمَكُّنِ: اسْتَقَرَّ وَمُسْتَقَرٌّ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ اللِّسَانِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْبَابِ الْقَرُّ - بِضَمِّ الرَّاءِ -: صَبُّ الْمَاءِ فِي الشَّيْءِ. يُقَالُ: قَرَّرْتُ الْمَاءَ، وَالْقَرُّ: صَبُّ الْكَلَامِ فِي الْأُذُنِ، وَذَكَرَ مِنْهُ الْإِقْرَارَ: ضِدَّ الْجُحُودِ ; لِاسْتِقْرَارِ الْحَقِّ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ إِثْبَاتِ اللُّغَةِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: وَهَذِهِ مَقَايِيسُ صَحِيحَةٌ، فَإِمَّا أَنْ نَتَعَدَّى وَنَتَحَمَّلَ الْكَلَامَ، كَمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: سُمِّيَتِ الْقَارُورَةُ لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهَا وَغَيْرِهِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِنَا. وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ قِيَاسٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُ مَا وُضِعَ وَضْعًا. وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي الْأَلْفَاظِ، هَلْ هِيَ بِوَضْعٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَتَبْقَى كَمَا وَضَعَتْهَا الْعَرَبُ، أَوْ أَنَّهَا تُوضَعُ بِالْقِيَاسِ؟ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ هَلِ الْمُسْكِرَاتُ كُلُّهَا مَثَلًا يَتَنَاوَلُهَا مُسَمَّى الْخَمْرِ بِالْوَضْعِ فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً بِنَصِّ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [5 \ 90] ، أَوْ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ بِجَامِعِ عِلَّةِ الْإِسْكَارِ؟ وَعَلَيْهِ فَإِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ تُسَاعِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ قِيَاسًا، فَهُوَ أَقْوَى فِي الْحُكْمِ ; بِأَنْ يَأْتِيَ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بِجَامِعِ الْعِلَّةِ. وَلَعَلَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْوَضْعِ: مِنْ أَنَّ اللُّغَاتِ مِنْهَا تَوْقِيفِيٌّ وَمِنْهَا قِيَاسِيٌّ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [76 \ 16] تَوْجِيهٌ إِلَى حُسْنِ الصُّنْعِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْمَقَاسَاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا وَقَبْلَهَا قَالَ تَعَالَى: كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 5] ، فَقَدْ قِيلَ: هُمَا مَعًا، فَهِيَ فِي بَرْدِ الْكَافُورِ وَطِيبِ الزَّنْجَبِيلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا وَهَذَا وَصْفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ، وَالشَّرَابُ هُنَا هُوَ الْخَمْرُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذَا الْمَفْهُومِ مِنْ أَنَّ شَرَابَ خَمْرِ الدُّنْيَا لَيْسَ طَهُورًا ; لِأَنَّ أَحْوَالَ الْجَنَّةِ لَهَا أَحْكَامُهَا الْخَاصَّةُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ [76 \ 15] ، مَعَ أَنَّ أَوَانِيَ الْفِضَّةِ مُحَرَّمَةٌ فِي الدُّنْيَا ; لِحَدِيثِ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ بِهَا. وَكَذَلِكَ يُنَعَّمُونَ بِخَمْرِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ أَوْصَافِهَا فِي الْجَنَّةِ عَكْسُ أَوْصَافِهَا فِي الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ، كَمَا أَوْضَحَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 19] فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا «نَزَّلْنَا» «تَنْزِيلًا» : يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ بِخِلَافِ «أَنْزَلْنَا» ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي سُورَةِ «الْقَدْرِ» : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] ، وَهُنَا إِثْبَاتُ التَّنْزِيلِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ التَّنْزِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [17 \ 106] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ عَلَى مُكْثٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [25 \ 32] ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، وَالْإِحَالَةُ فِيهَا عَلَى بَيَانٍ سَابِقٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا تَقَدَّمَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ قِيَامُهُ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْمُزَّمِّلِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ الْآيَةَ [73 \ 4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ الْأَسْرُ: الرَّبْطُ بِقُوَّةٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَسْرِ هُوَ جِلْدُ الْبَعِيرِ رَطْبًا، وَهُوَ الْقَدُّ، وَسُمِّيَ الْأَسِيرُ أَسِيرًا لِشَدِّ قَيْدِهِ بِقُوَّةٍ بِجِلْدِ الْبَعِيرِ الرَّطْبِ، وَهُوَ هُنَا تُقَوِّيةٌ بِشَدِّ رَبْطِ الْأَعْضَاءِ الْمُتَحَرِّكَةِ فِي الْإِنْسَانِ فِي مَفَاصِلِهِ بِالْعَصَبِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِتْقَانِ وَالْقُوَّةِ فِي الْخَلْقِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [32 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا السَّبِيلُ هَنَا مُنْكَرٌ، وَلَكِنَّهُ مُعَيَّنٌ بِقَوْلِهِ: إِلَى رَبِّهِ ; لِأَنَّ السَّبِيلَ إِلَى رَبِّهِ هُوَ السَّبِيلُ الْمُسْتَقِيمُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [6 \ 151] ، وَفِي النِّهَايَةِ قَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [6 \ 153] ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [42 \ 52 - 53] وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [1 \ 6] ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 1 - 2] بَعْدَ قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْهَادِي إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُنَوَّهِ عَنْهُ فِي الْفَاتِحَةِ: هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [2 \ 2 - 3] إِلَى آخِرِ «الصِّفَاتِ» ، فَيَكُونُ السَّبِيلُ هُنَا مَعْلُومًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهَا: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ [76 \ 29] مُشْعِرٌ بِأَنَّ السَّبِيلَ عَنْ طَرِيقِ التَّذَكُّرِ فِيهَا وَالِاتِّعَاظِ بِهَا. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، عَلَّقَ اتِّخَاذَ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَشِيئَةِ مَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 شَاءَ، وَقَيْدُهَا رَبْطُ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [76 \ 30] ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثُهَا بَحْثًا وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [10 \ 99] فِي «يُونُسَ» وَأَحَالَ عَلَى «النِّسَاءِ» . إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي التَّذْيِيلِ عَلَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [4 \ 11] أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ سُلُوكٍ وَأَعْمَالٍ أَنَّهُ بِعِلْمٍ مِنَ اللَّهِ وَحِكْمَةٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الْمُرْسَلَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا يُقْسِمُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَاخْتُلِفَ فِي: وَالْمُرْسَلَاتِ، وَ: فَالْعَاصِفَاتِ، وَ: وَالنَّاشِرَاتِ. فَقِيلَ: هِيَ الرِّيَاحُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ أَوِ الرُّسُلُ، وَعُرْفًا أَيْ: مُتَتَالِيَةً كَعُرْفِ الْفَرَسِ، وَاخْتَارَ كَوْنَهَا الرِّيَاحَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. وَاخْتَارَ كَوْنَهَا الْمَلَائِكَةَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: أَنَّهَا الرُّسُلُ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: تَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدَهُ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى مُحْتَمَلٌ وَلَا مَانِعَ عِنْدَهُ. وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهَا الرِّيَاحُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [15 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [7 \ 57] . وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ، أَمَّا الْفَارِقَاتُ، فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَرَجَّحَ الشَّيْخُ الْأَوَّلَ، وَأَمَّا الْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهَا فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [37 \ 3] . وَفِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ. قَوْلُهُ: عُذْرًا: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِعْذَارِ، وَمَعْنَاهُ قَطْعُ الْعُذْرِ. وَمِنْهُ الْمَثَلُ: مَنْ أَعْذَرَ فَقَدْ أَنْذَرَ، وَهُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَالنَّذْرُ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَيْضًا، وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ، وَ «أَوْ» فِي قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 أَوْ نُذْرًا بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَمَجِيءِ «أَوْ» بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَجِيءِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: قَوْمٌ إِذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ أَيْ: وَسَافِعٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ قَسَمٍ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةَ ارْتِبَاطٍ فِي الْجُمْلَةِ غَالِبًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ ; لِأَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَاخْتِيَارُ مَا يُقْسَمُ بِهِ هُنَا أَوْ هُنَاكَ غَالِبًا يَكُونُ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ، وَلَوْ تَأَمَّلْنَاهُ هُنَا، لَوَجَدْنَا الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ ; فَأَقْسَمَ لَهُمْ بِمَا فِيهِ إِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَالرِّيَاحُ عُرْفًا تَأْتِي بِالسَّحَابِ تَنْشُرُهُ ثُمَّ يَأْتِي الْمَطَرُ، وَيُحْيِي اللَّهُ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَالْعَاصِفَاتُ مِنْهَا بِشِدَّةٍ، وَقَدْ تَقْتَلِعُ الْأَشْجَارَ وَتَهْدِمُ الْبُيُوتَ مِمَّا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَالتَّدْمِيرِ، وَكِلَاهُمَا دَالٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ. ثُمَّ تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ بِالْبَيَانِ وَالتَّوْجِيهِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ كُلُّهَا تَغْيِيرَاتٌ كَوْنِيَّةٌ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. وَطَمْسُ النُّجُومِ: ذَهَابُ نُورِهَا، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [81 \ 2] . وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ أَيْ: تَشَقَّقَتْ وَتَفَطَّرَتْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [84 \ 1] ، إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] ، وَنَسْفُ الْجِبَالِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي عِدَّةِ مَحَالٍّ. وَمَا يَكُونُ لَهَا مِنْ عِدَّةِ أَطْوَارٍ مِنْ: دَكٍّ وَتَفْتِيتٍ، وَبَثٍّ وَتَسْيِيرٍ: كَالسَّحَابِ ثُمَّ كَالسَّرَابِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «ق» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [50 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهُ فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [56 \ 49 - 50] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ يَوْمُ الْفَصْلِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَالدَّائِنِ وَالْمَدِينِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [77 \ 38] ، وَكَقَوْلِهِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [11 \ 103] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ آخِرِ سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [51 \ 60] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ الْمَاءُ الْمَهِينُ: هُوَ النُّطْفَةُ الْأَمْشَاجُ، وَالْقَرَارُ الْمَكِينُ: هُوَ الرَّحِمُ، وَقَدْ مَكَّنَهُ اللَّهُ وَصَانَهُ حَتَّى مِنْ نَسَمَةِ الْهَوَاءِ. وَالْآيَاتُ الْبَاهِرَاتُ فِي هَذَا الْقَرَارِ فَوْقَ أَنْ تُوصَفَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الرَّحِمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [22 \ 5] ، وَالْقَدْرُ الْمَعْلُومُ هُوَ مُدَّةُ الْحَمْلِ إِلَى السَّقْطِ أَوِ الْوِلَادَةِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ التَّنْوِيهُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» ، وَأَنَّهَا أَقْدَارٌ مُخْتَلِفَةٌ وَآجَالٌ مُسَمَّاةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ فِيهِ التَّمَدُّحُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ حَقٌّ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 59] . وَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» : ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [22 \ 5] إِلَى آخِرِ السِّيَاقِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «طه» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا [20 \ 35] ، وَالْكِفَاتُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكْفِتُونَ فِيهِ، وَالْكَفْتُ: الضَّمُّ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَمْوَاتًا فِي بُطُونِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [20 \ 55] ، وَقَدْ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [71 \ 1 - 18] . قَوْلُهُ تَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ بَيَّنَهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [77 \ 30 - 33] ، أَيْ: وَهِيَ جَهَنَّمُ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يُدْفَعُونَ إِلَيْهَا دَفْعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [52 \ 13] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ وَيُجِيبُونَ عَلَى مَا يُسْأَلُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [37 \ 24] . وَقَوْلِهِ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ [68 \ 30] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [27 \ 85] . وَبَيَّنَ وَجْهَ الْجَمْعِ بِالْإِحَالَةِ عَلَى دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عِنْدَ سُورَةِ «الْمُرْسَلَاتِ» ، هَذِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي مَنَازِلَ وَحَالَاتٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِيهِ النَّصُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا سَبَبٌ فِي تَمَتُّعِهِمْ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ النَّصَّيْنِ، إِذِ الدُّخُولُ بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ يَكُونُ التَّوَارُثُ، وَتَكُونُ الدَّرَجَاتُ، وَيَكُونُ التَّمَتُّعُ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ. فَكُلُّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي التَّفَضُّلِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا قَالَ تَعَالَى: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [77 \ 43] . وَهُنَا قَالَ: نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَلَمْ يَقُلْ: نَجْزِي الْعَامِلِينَ، مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ لَا مُجَرَّدُ الْعَمَلِ فَقَطْ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْغَايَةَ مِنَ التَّكْلِيفِ، إِنَّمَا هِيَ الْإِحْسَانُ فِي الْعَمَلِ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 1 - 2] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ آيَاتِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُؤَاخَذُونَ بِتَرْكِ الْفُرُوعِ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا، وَالْمُهِمُّ هُنَا أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ مِنَ الْفُرُوعِ هِيَ الصَّلَاةُ ; مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهَا هِيَ بِحَقٍّ عِمَادُ الدِّينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِمَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ وَدَلَائِلَ وَمَوَاعِظَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [45 \ 6] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ نَزَّلَهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ هُدًى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [39 \ 23] . وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ: إِذَا قَرَأَ: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، فَقَرَأَ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 وَذَكَرَ فِي سُورَةِ «الْقِيَامَةِ» عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَأَحْمَدَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ بِعِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَرَأَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 40] ، قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فَبَلَى. وَإِذَا قَرَأَ سُورَةَ» وَالتِّينِ «فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [95 \ 8] ، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلَاتِ، فَبَلَغَ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ» . اهـ. وَإِنَّا نَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ النَّبَأِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَن ِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ عَمَّ أَصْلُهُ عَنْ مَا أُدْغِمَتِ النُّونَ فِي الْمِيمِ، ثُمَّ حُذِفَ أَلِفُ الْمِيمِ، لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهِ ; لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَمَا الْمَوْصُولَةِ. وَالْمَعْنَى: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ، وَقَدْ يُفْصَلُ حَرْفُ الْجَرِّ عَنْ مَا، فَلَا يُحْذَفُ الْأَلِفُ. وَأَنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَ حَسَّانٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ «عَمَّهْ» بِهَاءِ السَّكْتِ، ثُمَّ وَجَّهَهَا بِقَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ يُجْرَى الْوَصْلُ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ وَيَبْتَدِئَ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، عَلَى أَنْ يُضْمَرَ يَتَسَاءَلُونَ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يُفَسِّرُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ: لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِـ: يَتَسَاءَلُونَ الْمَذْكُورِ فِي التِّلَاوَةِ، وَلَكِنْ يُقَدَّرُ فِعْلٌ آخَرُ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَإِلَّا لَأُعِيدَ الِاسْتِفْهَامُ: أَعَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ؟ وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ مَا تَسَاءَلُوا عَنْهُ أُبْهِمَ أَوَّلًا، ثُمَّ بُيِّنَ بَعْدَهُ بِأَنَّهُمْ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنْ بَقِيَ بَيَانُ هَذَا النَّبَإِ الْعَظِيمِ مَا هُوَ؟ . فَقِيلَ: هُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْثَتِهِ لَهُمْ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ يَدْعُوهُمْ بِهِ. وَقِيلَ فِي الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ: احْتِمَالَ الْجَمِيعِ وَأَلَّا تَعَارُضَ بَيْنَهَا. وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا كُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ ; لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا كَذَّبَ بِهَا كُلِّهَا، وَمَنْ صَدَّقَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا صَدَّقَ بِهَا كُلِّهَا، وَمَنِ اخْتَلَفَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيهَا كُلِّهَا. وَلَكِنَّ السِّيَاقَ فِي النَّبَأِ وَهُوَ مُفْرَدٌ. فَمَا الْمُرَادُ بِهِ هُنَا بِالذَّاتِ؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ: مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْقُرْآنُ: قَالَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [38 \ 67 - 68] . وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْبَعْثُ، قَالَ بِدَلِيلِ الْآتِي بَعْدَهَا: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [78 \ 17] . وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ أَظْهَرَهَا دَلِيلًا هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَهُ بِدَلَائِلِ وَبَرَاهِينِ الْبَعْثِ كُلِّهَا، وَعَقَّبَهَا بِالنَّصِّ عَلَى يَوْمِ الْفَصْلِ صَرَاحَةً، أَمَّا بَرَاهِينُ الْبَعْثِ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ أَرْبَعَةٌ: خَلْقُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَنَشْأَةُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْعَدَمِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى بِالْفِعْلِ فِي الدُّنْيَا لِمُعَايَنَتِهَا. وَكُلُّهَا مَوْجُودَةٌ هُنَا. أَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [78 \ 6 - 7] ، وَقَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [78 \ 12 - 13] ، فَكُلُّهَا آيَاتٌ كَوْنِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] . وَأَمَّا إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [78 \ 14 - 16] كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41 \ 39] . وَأَمَّا نَشْأَةُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْعَدَمِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا [78 \ 8] ، أَيْ: أَصْنَافًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 79] . وَأَمَّا إِحْيَاءُ الْمَوْتَى فِي الدُّنْيَا بِالْفِعْلِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [78 \ 9] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 وَالسُّبَاتُ: الِانْقِطَاعُ عَنِ الْحَرَكَةِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَوْتُ، فَهُوَ مِيتَةٌ صُغْرَى، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ وَفَاةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [39 \ 42] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [6 \ 60] ، وَهَذَا كَقَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَطُيُورِ إِبْرَاهِيمَ، فَهَذِهِ آيَاتُ الْبَعْثِ ذُكِرَتْ كُلُّهَا مُجْمَلَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - إِيرَادُهَا مُفَصَّلَةً فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، وَلِذَا عَقَّبَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [78 \ 17] ، أَيْ: لِلْبَعْثِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، يَكُونُ السِّيَاقُ مُرَجِّحًا لِلْمُرَادِ بِالنَّبَأِ هُنَا. وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا، كَثْرَةُ إِنْكَارِهِمْ وَشِدَّةُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْبَعْثِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فِي الْبَعْثَةِ وَفِي الْقُرْآنِ، فَقَدْ أَقَرَّ أَكْثَرُهُمْ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ سِحْرًا وَلَا شِعْرًا، كَمَا أَقَرُّوا جَمِيعًا بِصِدْقِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَمَانَتِهِ، وَلَكِنَّ شِدَّةَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْبَعْثِ كَمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «ص» وَ «ق» ، فَفِي «ص» قَالَ تَعَالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [38 \ 4 - 5] . وَفِي «ق» قَالَ تَعَالَى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، فَهُمْ أَشَدُّ اسْتِبْعَادًا لِلْبَعْثِ مِمَّا قَبْلَهُ، - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ عَلِمُوا أَمْ لَا. وَلَكِنَّ ذِكْرَ آيَاتِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِمَثَابَةِ إِعْلَامِهِمْ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَنَفْيِهِ، فَهَذِهِ هِيَ آيَاتُهُ وَدَلَائِلُهُ فَاعْتَبِرُوا بِهَا وَقَايِسُوهُ عَلَيْهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِ تِلْكَ، قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ نَظِيرِهَا. وَلَكِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ بِالْمُعَايَنَةِ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ لِوُجُودِ السِّينِ وَهِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ «التَّكَاثُرِ» فِي قَوْلِهِ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [102 \ 1 - 7] ، وَهَذَا الَّذِي سَيَعْلَمُونَهُ يَوْمَ الْفَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 فِي السِّيَاقِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [78 \ 17] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا قُرِئَ بِالْإِفْرَادِ، «مَهْدًا» أَيْ: كَالْمَهْدِ لِلطِّفْلِ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَوْنُ النَّوْمِ سُبَاتًا: رَاحَةً أَوْ مَوْتًا، وَاللَّيْلِ لِبَاسًا: سَاتِرًا وَمُرِيحًا، وَالنَّهَارِ مَعَاشًا: لِطَلَبِ الْمَعَاشِ، وَذَلِكَ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [25 \ 47] ، وَكُلُّهَا آيَاتٌ دَالَّاتٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا أَيِ: السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «ق» : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [50 \ 6] ، وَسَاقَ النُّصُوصَ مُمَاثِلَةً هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا النَّفْخُ فِي الصُّورِ لِلْبَعْثِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ، وَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا: قَدْ بَيَّنَ حَالَ هَذَا الْمَجِيءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [70 \ 43] ، وَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي [54 \ 7 - 8] ، وَالْأَفْوَاجُ هُنَا قِيلَ: الْأُمَمُ الْمُخْتَلِفَةُ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ الْآيَةَ [17 \ 71] ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ بِتَاءِ الْخِطَابِ: فَتَأْتُونَ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْأَفْوَاجَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ رَوَى الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَثَرًا عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأُمُورِ» ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: «تُحْشَرُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ مِنْ أُمَّتِي» وَسَاقَهَا، وَكَذَلِكَ سَاقَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْكَافِي الشَّافِي فِي تَخْرِيجِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ: أَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْهِنْدِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْهُ بِطُولِهِ وَهِيَ: «بَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْخَنَازِيرِ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكِّسُونَ أَرْجُلَهُمْ فَوْقَ وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَعْضُهُمْ عُمْيًا، وَبَعْضُهُمْ صُمًّا، بُكْمًا، وَبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ أَلْسِنَتَهُمْ، فَهِيَ مُدَلَّاتٌ عَلَى صُدُورِهِمْ يَسِيلُ الْقَيْحُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يَتَقَذَّرُهُمْ أَهْلُ الْجَمْعِ، وَبَعْضُهُمْ مُقَطَّعَةٌ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ مُصَلَّبُونَ عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَارٍ، وَبَعْضُهُمْ أَشَدُّ نَتَنًا مِنَ الْجِيَفِ، وَبَعْضُهُمْ مُلْبَسُونَ جِلْبَابًا سَابِغَةً مِنْ قَطْرَانٍ لَازِقَةً بِجُلُودِهِمْ» . أَمَّا الَّذِينَ عَلَى صُورَةِ الْخَنَازِيرِ: فَأَهْلُ السُّحْتِ، وَالْمُنَكَّسُونَ: أَكَلَةُ الرِّبَا، وَالْعُمْيُ: الْجَائِرُونَ فِي الْحُكْمِ، وَالصُّمُّ: الْمُعْجَبُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالَّذِينَ يَمْضُغُونَ أَلْسِنَتَهُمُ: الْعُلَمَاءُ وَالْقُصَّاصُ الَّذِينَ خَالَفَ قَوْلُهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَمَقْطُوعُو الْأَيْدِي: مُؤْذُو الْجِيرَانِ، وَالْمُصَلَّبُونَ: السُّعَاةُ بِالنَّاسِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالَّذِينَ أَشَدُّ نَتَنًا: مُتِّبِعُو الشَّهَوَاتِ، وَمَانِعُو حَقِّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَابِسُو الْجِلْبَابِ: أَهْلُ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ. انْتَهَى بِإِيجَازٍ بِالْعِبَارَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا تَقَدَّمَ بَيَانُ أَحْوَالِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا ; عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «طه» : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [20 \ 105] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» : وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [27 \ 88] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا لَمْ يُبَيِّنِ الْأَحْقَابَ هُنَا كَمْ عَدَدُهَا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ فَنَاءِ النَّارِ، وَعَدَمِ فَنَائِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْقَابِ هُنَا: جُزْءٌ مِنَ الزَّمَنِ لَا كُلُّهُ، وَهِيَ الْأَحْقَابُ الْمَوْصُوفُ حَالُهُمْ فِيهَا لِمَا بَعْدَهُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا، أَيْ: فِي النَّارِ أَحْقَابًا مِنَ الزَّمَنِ، لَا يَذُوقُونَ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا. أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَحْقَابِ فَيُقَالُ لَهُمْ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [78 \ 30] ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي كِتَابِ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عِنْدَ الْكَلَامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ [6 \ 128] ، وَهُوَ بَحْثٌ مُطَوَّلٌ، وَسَيُطْبَعُ الْكِتَابُ - بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى - مَعَ هَذِهِ التَّتِمَّةِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَى الْحِقَبِ آثَارًا عَدِيدَةً مِنْهَا: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاللَّهِ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا حَتَّى يَكُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. الْحِقْبُ: بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةَ، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. فَلَا يَتَّكِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ» . ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَدْ رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ دَوَامَهُمْ - أَيِ: الْكُفَّارُ فِي النَّارِ - أَبَدَ الْآبِدِينَ. اهـ. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا قِيلَ الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ هُنَا: أَعْمَالُ الْعِبَادِ، أَيْ: أَنَّهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: جَزَاءً وِفَاقًا [78 \ 26] ، أَيْ: وِفْقَ أَعْمَالِهِمْ بِدُونِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، قَالَ: وَقَدْ أَحْصَيْنَا أَعْمَالَهُمْ وَكَتَبْنَاهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18 \ 49] . وَقَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [99 \ 7 - 8] ، وَقَوْلِهِ: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [58 \ 6] . وَاللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 \ 49] وَبِقَدَرٍ فِيهِ مَعْنَى الْإِحْصَاءِ، وَفِي السُّنَّةِ: حَدِيثُ الْقَلَمِ الْمَشْهُورُ، وَكَقَوْلِهِ: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [36 \ 12] ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْجِنِّ» قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [72 \ 28] . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَعْظَمُ الدَّلَالَاتِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَسِعَةِ عِلْمِهِ، وَأَلَّا يَفُوتَهُ شَيْءٌ قَطُّ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ بِالْجُزْئِيَّاتِ عِلْمَهُ بِالْكُلِّيَّاتِ. وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» : مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [58 \ 7] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 وَكَذَلِكَ التَّفْصِيلُ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا بَيَّنَهُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا إِلَى قَوْلِهِ: جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [78 \ 32 - 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: عَطَاءً حِسَابًا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ قَالَ: جَزَاءً وِفَاقًا، وَفِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عَطَاءً حِسَابًا. فَفِي الْأَوَّلِ بَيَانُ أَنَّ مُجَازَاتِهِمْ وِفْقَ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. وَفِي الثَّانِي بَيَانٌ بِأَنَّ هَذَا النَّعِيمَ عَطَاءٌ مِنَ اللَّهِ وَتَفَضُّلٌ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمَفَازُ الْمُفَسَّرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [3 \ 185] . وَدُخُولُ الْجَنَّةِ ابْتِدَاءً عَطَاءٌ مِنَ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» ، وَقَوْلُهُ: حِسَابًا: إِشْعَارٌ بِأَنَّ تَفَاوُتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ بِالْحِسَابِ وَنَتَائِجِ الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ حِسَابًا: بِمَعْنَى كِفَايَةٍ، حَتَّى يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: حَسْبِي حَسْبِي. أَيْ: كَافِينِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «الْكَهْفِ» : وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا [18 \ 48] . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ لِمَعْنَى الرُّوحِ هُنَا سَبْعَةَ أَقْوَالٍ هِيَ: أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، أَوْ بَنُو آدَمَ أَنْفُسُهُمْ، أَوْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ لَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ وَلَا بَشَرٍ، وَيَأْكُلُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 وَيَشْرَبُونَ، أَوْ جِبْرِيلُ أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ مَلَكٌ عَظِيمٌ بِقَدْرِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَنَقَلَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَحَكَاهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَزَادَ ثَامِنًا: وَهُمْ حَفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَرْجِيحِ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ بِمِثْلِ هَذَا النَّصِّ أَنَّهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [97 \ 4] ، فَفِيهِ عَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّوحِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَفِي سُورَةِ «الْقَدْرِ» عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِشِدَّةِ هَوْلِ الْمَوْقِفِ، وَهَؤُلَاءِ وَهُمْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ، فَغَيْرُهُمْ مِنَ الْخَلْقِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [11 \ 105] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [2 \ 255] . وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا سُلْطَةَ وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ فَقَطْ، حَتَّى وَلَا بِكَلِمَةٍ إِلَّا مَا أُذِنَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] . قَوْلُهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بِالْبَعِيدِ ذَلِكَ بَدَلًا مِنْ هَذَا، مَعَ قُرْبِ التَّكَلُّمِ عَلَيْهِ ; وَلَكِنْ إِمَّا لِبُعْدِهِ زَمَانِيًّا عَنْ زَمَنِ التَّحَدُّثِ عَنْهُ، وَإِمَّا لِبُعْدِ مَنْزِلَتِهِ وَعِظَمِ شَأْنِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ [2 \ 1 - 2] ، وَفِي هَذَا عَوْدٌ عَلَى بَدْءٍ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَهُوَ إِذَا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ مُسْتَغْرِبِينَ أَوْ مُنْكِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ حَقًّا، وَهَا هُوَ الْيَوْمُ الْحَقُّ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا شَكَّ لَيَرَوْنَهُ عَيْنَ الْيَقِينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا. الْمَآبُ: الْمَرْجِعُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [73 \ 19] ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ كَائِنًا حَقًّا، وَالنَّاسُ فِيهِ إِمَّا إِلَى جَهَنَّمَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا [78 \ 21 - 22] ، وَإِمَّا مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا [78 \ 31 - 32] ، فَبَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا، يَؤُوبُ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ مَآبًا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ شَاءَ هُنَا نَصٌّ فِي التَّخْيِيرِ، وَلَكِنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ تَخْيِيرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا الْآيَةَ [18 \ 29] . فَهُوَ إِلَى التَّهْدِيدِ أَقْرَبُ، كَمَا أَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ فِيمَا يَسْلُكُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيَدُلُّ عَلَى التَّهْدِيدِ مَا جَاءَ بَعْدَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [78 \ 40] ، وَهَذَا كُلُّهُ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ، وَحَثٌّ أَكِيدٌ عَلَى السَّعْيِ الْحَثِيثِ لِفِعْلِ الْخَيْرِ، وَطَلَبِ النَّجَاةِ فِي الْيَوْمِ الْحَقِّ. نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَتِيجَةَ هَذَا النَّظَرِ إِمَّا الْمَسَرَّةَ بِهِ وَإِمَّا الْفَزَعَ مِنْهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [3 \ 30] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النَّازِعَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا الْوَاوُ لِلْقَسَمِ، وَالْمُقْسَمُ بِهِ مَحْذُوفٌ، ذُكِرَتْ صِفَاتُهُ فِي كُلِّ الْمَذْكُورَاتِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [79 \ 5] . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُقْسَمِ بِهِ فِيهَا كُلِّهَا، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. «وَالنَّازِعَاتِ» : جَمْعُ نَازِعَةٍ، وَالنَّزْعُ: جَذْبُ الشَّيْءِ بِقُوَّةٍ مِنْ مَقَرِّهِ، كَنَزْعِ الْقَوْسِ عَنْ كَبِدِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَعْنَوِيِّ، فَمِنَ الْأَوَّلِ نَزْعُ الْقَوْسِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «وَنَزَعَ يَدَهُ» [7 \ 108] ، وَقَوْلُهُ: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [54 \ 20] ، وَقَوْلُهُ: «يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا» [7 \ 27] ، وَمِنَ الْمَعْنَوِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا [15 \ 47] ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [4 \ 59] ، وَالْحَدِيثُ: «لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . وَالْإِغْرَاقُ: الْمُبَالَغَةُ، وَالِاسْتِغْرَاقُ: الِاسْتِيعَابُ. أَمَّا الْمُرَادُ ب ِـ «النَّازِعَاتِ غَرْقًا» هُنَا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَى حَوَالِي عَشَرَةِ أَقْوَالٍ مِنْهَا: أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ تَنْزِعُ الْأَرْوَاحَ، وَالنُّجُومُ تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَالْأَقْوَاسُ تَنْزِعُ السِّهَامَ، وَالْغُزَاةُ يَنْزِعُونَ عَلَى الْأَقْوَاسِ، وَالْغُزَاةُ يَنْزِعُونَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ، وَالْوُحُوشُ تَنْزِعُ إِلَى الطَّلَا، أَيِ: الْحَيَوَانُ الْوَحْشِيُّ. «وَالنَّاشِطَاتِ» : قِيلَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ: النَّشَاطُ وَالْخِفَّةُ، وَالْأُنْشُوطَةُ: الْعُقْدَةُ سَهْلَةُ الْحَلِّ، وَنَشَّطَهُ بِمَعْنَى رَبَطَهُ، وَأَنْشَطَهُ حَلَّهُ بِسُرْعَةٍ وَخِفَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ» . أَمَّا الْمُرَادُ بِهِ هُنَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَقَدِّمِ تَقْرِيبًا، فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ تَنْشَطُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 الْأَرْوَاحَ، وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ تَنْشَطُ عِنْدَ الْفَزَعِ، وَلَمْ يُرَجِّحِ ابْنُ جَرِيرٍ مَعْنًى مِنْهَا، وَقَالَ: كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ، وَحَكَاهَا غَيْرُهُ كُلَّهَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْجَلَالَيْنِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ مِنْهَا فَقَطْ، وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ السِّيَاقُ وَالنُّصُوصُ الْأُخْرَى: أَنَّ كُلًّا مِنَ «النَّازِعَاتِ» وَ «النَّاشِطَاتِ» : هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَهِيَ صِفَاتٌ لَهَا فِي قَبْضِ الْأَرْوَاحِ. وَدَلَالَةُ السِّيَاقِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ أَنَّهُمَا وَصْفَانِ مُتَقَابِلَانِ: الْأَوَّلُ نَزْعٌ بِشِدَّةٍ، وَالْآخَرُ نَشَاطٌ بِخِفَّةٍ، فَيَكُونُ النَّزْعُ غَرْقًا لِأَرْوَاحِ الْكُفَّارِ، وَالنَّشْطُ بِخِفَّةٍ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ نَزْعِ أَوَرَاحِ الْكُفَّارِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ الْآيَةَ [6 \ 93] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [8 \ 50] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [89 \ 27 - 28] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [41 \ 30] . وَهَذَا يَتَنَاسَبُ كُلَّ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ آخَرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ جَاءَ فِيهَا: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [78 \ 40] ، وَنَظَرُ الْمَرْءِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ يَبْدَأُ مِنْ حَالَةِ النَّزْعِ حِينَمَا يَثْقُلُ اللِّسَانُ عَنِ النُّطْقِ فِي حَالَةِ الْحَشْرَجَةِ، حِينَ لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ عِنْدَ الْعَايِنَةِ لِمَا سَيَئُولُ إِلَيْهِ، فَيَنْظُرُ حِينَئِذٍ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ نَزْعِ الرُّوحِ أَوْ نَشْطِهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا قِيلَ: «السَّابِحَاتُ» النُّجُومُ. وَقِيلَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالسَّحَابُ وَالسُّفُنُ وَالْحِيتَانُ فِي الْبِحَارِ، وَالْخَيْلُ فِي الْمَيْدَانِ. وَذَكَرَهَا كُلَّهَا أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يُرَجِّحْ. وَقَالَ: كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ، وَذَكَرَهَا غَيْرُهُ كَذَلِكَ. وَالْوَاقِعُ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا آيَاتٌ عِظَامٌ تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ السِّيَاقَ فِي أَمْرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 الْبَحْثِ وَالْمَعَادِ، وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ: الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِالسَّابِحَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [36 \ 40] ، «وَالسَّابِقَاتِ» مِنَ النُّجُومِ، السَّيَّارَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ رَأْيًا لَهُ بَعِيدًا، وَهُوَ أَنَّهَا الْأَرْوَاحُ، وَأَنَّهَا قَدْ تُدَبِّرُ أَمْرَ الْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامَاتِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى. وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [97 \ 4] ، وَكَمَا وَصَفَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِقَوْلِهِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ هُمَا النَّفْخَتَانِ فِي الصُّوَرِ، الرَّاجِفَةُ هِيَ الْأُولَى، وَالرَّادِفَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [39 \ 68] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «يس» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [36 \ 51] ، وَسُمِّيَتِ الْأُولَى الرَّاجِفَةُ ; لِمَا يَأْخُذُ الْعَالَمَ كُلَّهُ مِنْ شِدَّةِ الرَّجْفَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [69 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [39 \ 68] . وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِسَنَدِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَاءَتِ الرَّجْفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ:» إِذَنْ يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ «وَسَنَدُهُ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَسْتَنْكِرُ الْمُشْرِكُونَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَ «الْحَافِرَةُ» : الْحَيَاةُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَى الْقُبُورِ. وَنُقِلَ أَنَّ الْحَافِرَةَ النَّارُ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا الْحَيَاةُ الْأُولَى، يُقَالُ: عَادَ فِي حَافِرَتِهِ رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ، كَأَنَّ مَحْيَاهُ الْأَوَّلَ حَفَرَ طَرِيقَهُ بِمَشْيِهِ فِيهَا، وَعَلَيْهِ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِحُفْرَةِ الْقَبْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرٌ عَرَبِيٌّ عَنِ الْعَوْدَةِ فِي الْأَمْرِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَحَافِرَةٌ عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ صَلَعٍ وَعَارِ أَيْ: أَرْجِعُ إِلَى الصِّبَا بَعْدَ الصَّلَعِ وَالشَّيْبِ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَقْدِمْ أَخَا نَهْمٍ عَلَى الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا يَهُولَنْكَ رُءُوسٌ نَادِرَهْ فَإِنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... حَتَّى تَعُودَ بَعْدَهَا فِي الْحَافِرَهْ مِنْ بَعْدِ مَا صِرْتَ عِظَامًا نَاخِرَهْ وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ بَعْدَهَا، إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَافِرَةِ الْعَوْدَةُ إِلَى الْحَيَاةِ مَرَّةً أُخْرَى، فِي قَوْلِهِ: قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [79 \ 12] . وَالْكَرَّةُ: هِيَ الْعَوْدَةُ إِلَى الْحَيَاةِ الْأُولَى، وَهِيَ مَا قَبْلَ حُفْرَةِ الْقَبْرِ مِنْ تَكْرَارِ الْحَيَاةِ السَّابِقَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً الْعِظَامُ النَّخِرَةُ الْبَالِيَةُ، وَالَّتِي تَخَلَّلَهَا الرِّيحُ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَأَخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فَكَأَنَّهَا قَوَارِيرُ ... فِي أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تَنْخُرُ وَنَخْرَةُ الرِّيحِ شِدَّةُ صَوْتِهَا، وَمِنْهُ الْمَنْخَرُ، لِأَخْذِ الْهَوَاءِ مِنْهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْحَدِيثَ وَمَوْضُوعَهُ وَمَكَانَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى إِلَى قَوْلِهِ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 24] . قَوْلُهُ تَعَالَى: نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ، بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّهُ الطُّورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ [28 \ 29 - 30] وَالْمُبَارَكَةُ تُسَاوِي الْمُقَدَّسَ. فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُنَادَاةَ كَانَتْ بِالطُّورِ وَهُوَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ، وَهُوَ طُوًى، وَفِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ مُنَاجَاةٍ وَأَمْرِ الْعَصَا وَالْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي سُورَةِ «طه» مِنْ أَوَّلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا إِلَى قَوْلِهِ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [20 \ 9 - 24] . وَقَدْ فَصَّلَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [19 \ 52] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «طه» ، كَامِلَ قِصَّةِ الْمُنَادَاةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [20 \ 12 - 15] . ثُمَّ قِصَّةَ الْعَصَا وَالْآيَةَ فِي يَدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِرْسَالَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، وَسُؤَالَ مُوسَى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [20 \ 25 - 26] ، وَاسْتِوْزَارَ أَخِيهِ مَعَهُ، دُونَ التَّعَرُّضِ إِلَى أُسْلُوبِ الدَّعْوَةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَانٌ لِمَنْهَجِ الدَّعْوَةِ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى مَعَ عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ. وَأُسْلُوبُ الْعَرْضِ: «هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى» [79 \ 18 - 19] ، ثُمَّ تَقْدِيمُ الْآيَةِ الْكُبْرَى، وَدَلِيلِ صِحَّةِ دَعْوَاهُ مِمَّا يَلْزَمُ كُلَّ دَاعِيَةٍ الْيَوْمَ أَنْ يَقِفَ هَذَا الْمَوْقِفَ، حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَلَا أَشَدُّ طُغْيَانًا مِنْهُ ; حَيْثُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَالْأُلُوهِيَّةَ مَعًا، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 24] ، وَقَالَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 \ 38] ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 وَلَا يُوجَدُ الْيَوْمَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَنْهَجُ الدَّعْوَةِ مِنْ أَكْرَمِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَى أَكْفَرِ عِبَادِ اللَّهِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الْهَادِئِ اللَّيِّنِ الْحَكِيمِ، مُنْطَلِقًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [20 \ 44] فَكَانَا كَمَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَا كَمَا عَلَّمَهُمَا اللَّهُ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى، وَهَذَا الْمَنْهَجُ هُوَ تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [16 \ 125] . وَقَدْ وَضَعَ الْقُرْآنُ مَنْهَجًا مُتَكَامِلًا لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَفَصَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِمَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّاعِي وَالْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، وَمُرَاعَاةِ حَالِ الْمَدْعُوِّ. وَقَدْ قَدَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [5 \ 105] مِنْ سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» . وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [11 \ 88] فِي سُورَةِ «هُودٍ» . وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» . وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ كُلِّهِ يُشَكِّلُ مَنْهَجًا كَامِلًا لِمَادَّةِ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّاعِي وَالْمَدْعُوِّ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ذَكَرَ هُنَا الْآيَةَ الْكُبْرَى فَقَطْ، وَذَكَرَ تَعَالَى مِنْهَا أَنَّ فِرْعَوْنَ جَمْعَ بَيْنَ التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْقَمَرِ» قَوْلُهُ: وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. [54 \ 41 - 42] ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى النَّكَالُ: هُوَ اسْمٌ لِمَا جُعِلَ نَكَالًا لِلْغَيْرِ، أَيْ: عُقُوبَةً لَهُ حَتَّى يُعْتَبَرَ بِهِ، وَالْكَلِمَةُ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 الِامْتِنَاعُ، وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ، وَالنَّكْلُ الْقَيْدُ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَاخْتُلِفَ فِي «الْآخِرَةِ وَالْأُولَى» : أَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ؟ أَمْ هُمُ الْكَلِمَتَانِ الْعَظِيمَتَانِ اللَّتَانِ تَكَلَّمَ بِهِمَا فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 \ 38] . وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 24] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ كَثِيرٍ الْأَوَّلَ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الثَّانِيَ، وَمَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَى اخْتِيَارِ ابْنِ كَثِيرٍ: أَنَّ السِّيَاقَ قَدَّمَ الْآخِرَةَ، مَعَ أَنَّ تَعْذِيبَ فِرْعَوْنَ مُقَدَّمٌ فِيهِ نَكَالُ الْأُولَى، وَهِيَ الدُّنْيَا. كَمَا يُرَدُّ عَلَى اخْتِيَارِ ابْنِ جَرِيرٍ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَخْذَهُ إِيَّاهُ نَكَالًا، لِيَعْتَبِرَ بِهِ مَنْ يَخْشَى، وَالْعِبْرَةُ تَكُونُ أَشَدَّ بِالْمَحْسُوسِ، وَكَلِمَتَاهُ قِيلَتَا فِي زَمَنِهِ. وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [10 \ 92] ، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْآيَةِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [79 \ 26] . وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ فِي ذَلِكَ» : رَاجِعٌ إِلَى الْأَخْذِ وَالنَّكَالِ الْمَذْكُورَيْنِ، أَيِ: الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ ضِمْنًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ، وَقَوْلِهِ: «نَكَالَ» ، بَلْ إِنَّ «نَكَالَ» مَصْدَرٌ بِنَفْسِهِ، أَيْ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ وَنَكَّلَ بِهِ، وَجَعَلَ نَكَالَهُ بِهِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا لَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى تِلْكَ الْمَثَابَةِ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرِ، وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ طُغْيَانِهِ الْمُلْكُ وَالْقُوَّةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [89 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ [28 \ 4] ، وَقَوْلِهِ عَنْهُ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [43 \ 51] . وَهَذِهِ كُلُّهَا مَظَاهِرُ طُغْيَانِهِ وَعَوَامِلُ قُوَّتِهِ، خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِمَا آلَ إِلَيْهِ هَذَا الطُّغْيَانُ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُحَذِّرًا مِنْ طُغْيَانِ الْقُوَّةِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ، حَتَّى لَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 ادَّعَيْتُمْ أَنَّكُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ فِرْعَوْنَ، الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَهَلْ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ؟ وَقَدْ جَاءَ الْجَوَابُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ السَّمَاءَ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [40 \ 57] . وَبَيَّنَ ضَعْفَ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [37 \ 11] . وَفِي هَذَا بَيَانٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِهِمْ بَعْدَ إِمَاتَتِهِمْ وَصَيْرُورَتِهِمْ عِظَامًا نَخِرَةً. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ آيَةِ «الصَّافَّاتِ» : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا [37 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «ق» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا الْآيَةَ [50 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَصْفُ الْأَرْضِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى «دَحَاهَا» ، وَجَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ «طَحَاهَا» بِالطَّاءِ، وَجَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ بَسَطَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [88 \ 20] . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: «دَحَاهَا» ، فَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفْسِيرُهُ مَا بَعْدَهُ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [79 \ 31 - 32] وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «دَحَاهَا» أَيْ: بَسَطَهَا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: دَحَا الشَّيْءَ إِذَا بَسَطَهُ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: «دَحَاهَا» بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى وَالِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهَا، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى، وَإِرْسَائِهَا بِالْجِبَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 وَمِمَّا ذُكِرَ يَتَأَتَّى السُّكْنَى وَالْمَعِيشَةُ حَتَّى الْمِلْحَ وَالْمَأْكَلَ وَالْمَشْرَبَ، وَهَذَا هُوَ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: «دَحَاهَا» : بَسَطَهَا، فَتَرَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ تَقْرِيبًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ دَحَاهَا بِمَعْنَى بَسَطَهَا. وَقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ: إِنَّ «دَحَاهَا» فُسِّرَ بِمَا بَعْدَهُ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ الْبَسْطِ وَالتَّمْهِيدِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَيَّانِ: إِنَّهُ ذَكَرَ لَوَازِمَ التَّسَكُّنِ إِلَى الْمَعِيشَةِ عَلَيْهَا مِنْ إِخْرَاجِ مَائِهَا وَمَرْعَاهَا ; لِأَنَّ بِهِمَا قِوَامَ الْحَيَاةِ. وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ أَنَّ الدَّحْوَ مَعْرُوفٌ بِمَعْنَى الْبَسْطِ، قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ: مَا أَنْسَ لَا أَنْسَ خَبَّازًا مَرَرْتُ بِهِ ... يَدْحُو الرُّقَاقَةَ وَشْكَ اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ مَا بَيْنَ رُؤْيَتِهَا فِي كَفِّهِ كُرَةً ... وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا قَوْرَاءَ كَالْقَمَرِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَنْدَاحُ دَائِرَةٌ ... فِي صَفْحَةِ الْمَاءِ تَرْمِي فِيهِ بِالْحَجَرِ وَقَدْ أُثِيرَ حَوْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَبْحَثُ شَكْلِ الْأَرْضِ أَمَبْسُوطَةٌ هِيَ أَمْ كُرَوِيَّةٌ مُسْتَدِيرَةٌ؟ وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى أُمَّهَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ نَجِدُ الْآتِي: أَوَّلًا: فِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ: قَالَ «دَحَاهَا» ، أَزَالَهَا مِنْ مَوْضِعِهَا وَمَقَرِّهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دَحَا الْمَطَرُ الْحَصَى مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ: جَرَفَهَا، وَمَرَّ الْفَرَسُ يَدْحُو دَحْوًا: إِذَا جَرَّ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَدْحُو تُرَابَهَا. وَمِنْهُ أُدْحِيُّ النَّعَامِ، وَقَالَ: الطَّحْوُ كَالدَّحْوِ، وَهُوَ بَسْطُ الشَّيْءِ وَالذَّهَابُ بِهِ وَالْأَرْضَ وَمَا طَحَاهَا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ أَيْ ذَهَبَ بِكَ. وَفِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ، مَادَّةُ دَحْوٍ: الدَّالُ وَالْحَاءُ وَالْوَاوُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى بَسْطٍ وَتَمْهِيدٍ. يُقَالُ: دَحَى اللَّهُ الْأَرْضَ يَدْحُوهَا دَحْوًا إِذَا بَسَطَهَا. وَيُقَالُ: دَحَا الْمَطَرُ الْحَصَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ مَهَّدَ الْأَرْضَ. وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ، إِذَا رَمَى بِيَدِهِ رَمْيًا لَا يَرْفَعُ سُنْبُكَهُ عَنِ الْأَرْضِ كَثِيرًا: مَرَّ يَدْحُو دَحْوًا، وَمِنَ الْبَابِ أُدْحِيُّ النَّعَامِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُفَرِّخُ فِيهِ، أُفْعِوْلُ مِنْ دَحَوْتُ، لِأَنَّهُ يَدْحُوهُ بِرِجْلِهِ ثُمَّ يَبِيضُ فِيهِ، وَلَيْسَ لِلنَّعَامَةِ عُشٌّ. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَادَّةَ دَحَا، وَالدَّحْوُ: الْبَسْطُ، دَحَى الْأَرْضَ يَدْحُوهَا دَحْوًا: بَسَطَهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا قَالَ: بَسَطَهَا، وَذَكَرَ الْأُدْحِيَّ مَبْيَضَ النَّعَامِ فِي الرَّمْلِ ; لِأَنَّ النَّعَامَةَ تَدْحُوهُ بِرِجْلِهَا، ثُمَّ تَبِيضُ فِيهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: «فَدَحَا السَّيْلَ فِيهِ بِالْبَطْحَاءِ» ، أَيْ: رَمَى وَأَلْقَى. قَالَ: وَسُئِلَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنِ الدَّحْوِ بِالْحِجَارَةِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، أَيِ: الْمُرَامَاةُ بِهَا وَالْمُسَابَقَةُ. وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ يَدْحُو بِالْحَجَرِ، أَيْ يَرْمِي بِهِ وَيَدْفَعُهُ، وَالدَّاحِي: الَّذِي يَدْحُو الْحَجَرَ بِيَدِهِ، وَأَنْشَدَ لِأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ بِمَعْنَى يَنْزِعُ قَوْلَهُ: يَنْزِعُ جِلْدَ الْحَصَى أَجَشُّ مُبْتَرِكٌ ... كَأَنَّهُ فَاحِصٌ أَوْ لَاعِبٌ دَاحٍ ؟ وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ: «كُنْتُ أُلَاعِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - بِالْمَدَاحِي» ، هِيَ أَحْجَارٌ أَمْثَالُ الْقَرْصَةِ، كَانُوا يَحْفِرُونَ حُفْرَةً يَدْحُونَ فِيهَا بِتِلْكَ الْحِجَارَةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْحَجَرُ فِيهَا غَلَبَ صَاحِبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ غُلِبَ. وَالدَّحْوُ: هُوَ رَمْيُ اللَّاعِبِ بِالْحَجَرِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهِ. اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ لَا زَالَ مَوْجُودًا حَتَّى الْآنَ بِالْمَدِينَةِ، وَيُسَمَّى الدَّحْلُ بِاللَّامِ، كَمَا وُصِفَ تَمَامًا. وَبَعْدَ إِيرَادِ أَقْوَالِ أُصُولِ مَرَاجِعِ اللُّغَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ. فَإِنَّنَا نُوَاجِهُ الْجَدَلَ الْقَائِمَ بَيْنَ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ، وَبَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْآخَرِينَ، فِي مَوْضُوعِ شَكْلِ الْأَرْضِ، وَلَعَلَّنَا نُوَفَّقُ بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى بَيَانِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَظُنَّ ظَانٌّ تَعَارُضَ الْقُرْآنِ، وَمَا يَثْبُتُ مِنْ عُلُومِ الْهَيْئَةِ أَوْ يَغْتَرَّ جَاهِلٌ بِمَا يُقَالُ فِي الْإِسْلَامِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 وَبِتَأَمُّلِ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ نَجِدُهَا مُتَّفِقَةً فِي مَجْمُوعِهَا: بِأَنَّ «دَحَاهَا» مَهَّدَهَا وَسَهَّلَ الْحَيَاةَ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ لَوَازِمَ التَّمْكِينِ مِنَ الْحَيَاةِ عَلَيْهَا مِنْ إِخْرَاجِ الْمَاءِ، وَالْمَرْعَى، وَوَضْعِ الْجِبَالِ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [78 \ 6 - 7] . وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [67 \ 15] . وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَمْهِيدُهَا وَالتَّمْكِينُ لِلْعَيْشِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّكْوِيرِ وَالِاسْتِدَارَةِ. وَإِذَا جِئْنَا إِلَى كُتُبِ اللُّغَةِ نَجِدُهَا كُلَّهَا، تَنُصُّ عَلَى أَنَّ الدَّحْوَ: الْبَسْطُ، وَالرَّمْيُ، وَالْإِزَالَةُ، وَالتَّمْهِيدُ، فَالْبَسْطُ وَالتَّمْهِيدُ وَالرَّمْيُ بِالْحَجَرِ الْمُسْتَدِيرِ فِي الْحُفْرَةِ الصَّغِيرَةِ مَعَانٍ مُشْتَرَكَةٌ، وَكُلُّهَا تُفَسِّرُ «دَحَاهَا» بِمَعْنَى بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا. وَأَنَّ الْأُدْحِيَّةَ مَبْيَضُ النَّعَامِ لَا بَيْضُهُ كَمَا يَقُولُونَ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تَدْحُوهُ بِيَدِهَا لِتَبِيضَ فِيهِ، إِذْ لَا عُشَّ لَهَا. وَعَلَيْهِ، فَلَا دَلِيلَ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الدَّحْوَ هُوَ التَّكْوِيرُ، وَلَكِنْ مَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي شَكْلِ الْأَرْضِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ تَعَرَّضَ لَهُ أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ؟ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى كَلَامِ مَنْ نَظَرَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا نَجِدُهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ شَكْلَ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرٌ. وَقَبْلَ إِيرَادِ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ نُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لِهَذَا الْبَحْثِ بِمَوْضُوعِ الْحَرَكَةِ، سَوَاءٌ لِلْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَذَاكَ بَحْثٌ مُسْتَقِلٌّ، لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، وَإِنَّمَا الْبَحْثُ فِي الشَّكْلِ. أَمَّا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي شَكْلِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ أَجْمَعَ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، وَأَصْرَحَ، وَأَبْيَنَ، هُوَ كَلَامُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَةِ الْهِلَالِ، جَاءَ فِيهَا: قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا قَوْلَهُ: وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [41 \ 37] ، وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [21 \ 37] ، وَقَالَ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [36 \ 40] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ مِثْلَ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَهَكَذَا هُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْفَلَكُ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ. وَمِنْهُ يُقَالُ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إِذَا اسْتَدَارَ. قَالَ تَعَالَى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [39 \ 5] ، وَالتَّكْوِيرُ هُوَ التَّدْوِيرُ. وَمِنْهُ قِيلَ: كَارَ الْعِمَامَةَ وَكَوَّرَهَا، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْأَفْلَاكِ: كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ ; لِأَنَّ أَصْلَ الْكُرَةِ كُورَةٌ - تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا. وَقَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [55 \ 5] مِثْلَ حُسْبَانِ الرَّحَى، وَقَالَ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَسْتَدِيرُ مِنْ أَشْكَالِ الْأَجْسَامِ دُونَ الْمُضَلَّعَاتِ مِنَ الْمُثَلَّثِ أَوِ الْمُرَبَّعِ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ يَتَفَاوَتُ ; لِأَنَّ زَوَايَاهُ مُخَالِفَةٌ لِقَوَائِمِهِ. وَالْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ مُتَشَابِهُ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي، لَيْسَ بَعْضُهُ مُخَالِفًا لِبَعْضٍ. وَجَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ أَيْضًا: وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ: أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي، مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِمَعْرِفَةِ الْآثَارِ وَالتَّصَانِيفِ الْكِبَارِ، فِي مُتُونِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السَّمَاءَ عَلَى مِثَالِ الْكُرَةِ، وَأَنَّهَا تَدُورُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ، كَدَوْرَةِ الْكُرَةِ عَلَى قُطْبَيْنِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مُتَحَرِّكَيْنِ، أَحَدُهُمَا فِي الشَّمَالِ، وَالْآخَرُ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ جَمِيعَهَا تَدُورُ مِنَ الْمَشْرِقِ تَقَعُ قَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ فِي حَرَكَتِهَا وَمَقَادِيرِ أَجْزَائِهَا، إِلَى أَنْ تَتَوَسَّطَ السَّمَاءَ، ثُمَّ تَنْحَدِرُ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ، فَكَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي كُرَةٍ تُدِيرُهَا جَمِيعَهَا دَوْرًا وَاحِدًا. هَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي شَكْلِ الْأَفْلَاكِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَحَلُّ الْقَصْدِ بِالذَّاتِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِثْلَ الْكُرَةِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ، لَا يُوجَدُ طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ عَلَى الْمَشْرِقِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ. قَالَ: فَكُرَةُ الْأَرْضِ مُثَبَّتَةٌ فِي وَسَطِ كُرَةِ السَّمَاءِ، كَالنُّقْطَةِ فِي الدَّائِرَةِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جِرْمَ كُلِّ كَوْكَبٍ يُرَى فِي جَمِيعِ نَوَاحِي السَّمَاءِ، عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى بُعْدٍ مَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ بِقَدْرٍ وَاحِدٍ، فَاضْطِرَارٌ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَسَطَ السَّمَاءِ. اهـ. بِلَفْظِهِ. فَهَذَا نَقْلٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، مِنْ إِمَامٍ جَلِيلٍ فِي عِلْمَيِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ عَلَى شَكْلِ الْكُرَةِ، وَقَدْ سَاقَ الْأَدِلَّةَ الِاضْطِرَارِيَّةَ مِنْ حَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا يُقَالُ: إِنَّ أَكْمَلَ الْأَجْرَامِ هُوَ الْمُسْتَدِيرُ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] . وَعَلَيْهِ، فَلَوْ قُدِّرَ لِسَائِرٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَافْتَرَضْنَا الْأَرْضَ مُسَطَّحَةً كَسَطْحِ الْبَيْتِ أَوِ الْقِرْطَاسِ مَثَلًا، لَكَانَ لِهَذَا السَّائِرِ مِنْ نِهَايَةٍ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَهِيَ مُنْتَهَى التَّسْطِيحِ أَوْ يَسْقُطُ فِي هَاوِيَةٍ، وَبِاعْتِبَارِهَا كُرَةً، فَإِنَّهُ يُكْمِلُ دَوْرَتَهُ، وَيُكَرِّرُهَا وَلَوْ سَارَ طِيلَةَ عُمُرِهِ لَمَا كَانَ لِمَسِيرِهِ مُنْتَهًى، لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى سَطْحِهَا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ نُقَدِّمَ هَذِهِ النَّتِيجَةَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا دَامَتْ مُتَّفِقَةً فِي النِّهَايَةِ مَعَ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ، وَلَا نُطِيلُ النُّقُولَ مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ، وَلَكِنْ قَدْ سُقْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ لِغَرَضٍ أَعَمَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَقَضِيَّةٍ أَشْمَلَ وَهِيَ مِنْ جِهَتَيْنِ: أُولَاهُمَا: أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مُدْرِكُونَ مَا قَالَ بِهِ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ، وَلَكِنْ لَا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ أَوْ دَلَالَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ عَنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ; إِذْ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْهَلُوا هَذِهِ النَّظَرِيَّةَ، وَلَمْ تَخْفَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ. ثَانِيَتُهُمَا: مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَإِدْرَاكِهِمْ لِهَذِهِ النَّظَرِيَّةِ، لَمْ يَعْزُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَلَالَتَهَا لِنُصُوصِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. وَبِنَاءً عَلَيْهِ نَقُولُ: إِذَا لَمْ تَكُنِ النُّصُوصُ صَرِيحَةً فِي نَظَرِيَّةٍ مِنَ النَّظَرِياتِ الْحَدِيثَةِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ نُقْحِمَهَا فِي مَبَاحِثِهَا نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا نَتَطَلَّبُ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِهِ، فَعُلُومُ الْهَيْئَةِ مِنَ النَّظَرِ الِاسْتِدْلَالُ، وَعُلُومُ الطِّبِّ مِنَ التَّجَارِبِ وَالِاسْتِقْرَاءِ، وَهَكَذَا يَبْقَى الْقُرْآنُ مُصَانًا عَنْ مَجَالِ الْجَدَلِ فِي نَظَرِيَّةٍ قَابِلَةٍ لِلثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، أَوِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، كَمَا لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ أَمْرٍ فِي فَنِّهِ أَنْ يُبَادِرَ بِإِنْكَارِهَا مَا لَمْ تَكُنْ مُصَادِمَةً لِنَصٍّ صَرِيحٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ أَوَّلًا، وَقَدْ نَبَّهْنَا سَابِقًا عَلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ مَعَ بِلْقِيسَ وَالْهُدْهُدِ حِينَمَا جَاءَهُ، فَقَالَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [27 \ 22] ، وَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَهَا مَعَ قَوْمِهَا، فَلَمْ يُبَادِرْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْإِنْكَارِ لِكَوْنِ الْآتِي بِالْخَبَرِ هُدْهُدًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِهِ وَلَمْ يُسَارِعْ أَيْضًا بِتَصْدِيقِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِ مُسْتَنَدٌ عَلَيْهِ، بَلْ أَخَذَ فِي طَرِيقِ التَّثَبُّتِ بِوَاسِطَةِ الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءَهُ الْخَبَرُ بِهِ، قَالَ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [27 \ 27] ، وَأَرْسَلَهُ بِالْكِتَابِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ، وَلَدَيْهِ وَسَائِلُ وَإِمْكَانِياتٌ كَمَا تَعْلَمُ ; فَغَيْرُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. تَنْبِيهٌ آخَرُ. إِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ يُثْبِتُونَ كُرَوِيَّةَ الْأَرْضِ، فَمَاذَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ إِلَى قَوْلِهِ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [88 \ 17 - 20] . وَجَوَابُهُمْ كَجَوَابِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [18 \ 86] ، أَيْ فِي نَظَرِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ عَنْ أُمَّةٍ، وَتَسْتَمِرُّ فِي الْأُفُقِ عَلَى أُمَّةٍ أُخْرَى، حَتَّى تَأْتِيَ مَطْلَعَهَا مِنَ الشَّرْقِ فِي صَبِيحَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَيَكُونُ بَسْطُ الْأَرْضِ وَتَمْهِيدُهَا، نَظَرًا لِكُلِّ إِقْلِيمٍ وَجُزْءٍ مِنْهَا لِسِعَتِهَا وَعِظَمِ جِرْمِهَا. وَهَذَا لَا يَتَنَافَى مَعَ حَقِيقَةِ شَكْلِهَا ; فَقَدْ نَرَى الْجَبَلَ الشَّاهِقَ، وَإِذَا تَسَلَّقْنَاهُ وَوَصَلْنَا قِمَّتَهُ وَجَدْنَا سَطْحًا مُسْتَوِيًا، وَوَجَدْنَا أُمَّةً بِكَامِلِ لَوَازِمِهَا، وَقَدْ لَا يَعْلَمُ بَعْضُ مَنْ فِيهِ عَنْ بَقِيَّةِ الْعَالَمِ، وَهَكَذَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا الْعَشِيَّةُ: مَا بَيْنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَالضُّحَى: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ بِنِصْفِ نَهَارٍ. وَقَدْ جَاءَ التَّحْدِيدُ بِسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ. وَجَاءَ: يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [2 \ 259] . وَجَاءَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [10 \ 103] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 «يُونُسَ» : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ [10 \ 45] ، وَأَحَالَ عَلَى دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، وَسَيُطْبَعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ هَذِهِ التَّتِمَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ عَبَسَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَشْغُولًا بِدَعْوَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَأَتَاهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ رَجُلٌ أَعْمَى، وَقَالَ: " أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ وَمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا يَرْجُوهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ، فَعَبَسَ وَتَوَلَّى عَنْهُ مُنْصَرِفًا، لِمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى مَا نَصُّهُ: عَبَّرَ تَعَالَى عَنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ - الَّذِي هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ - بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ النَّاسُ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [49 \ 11] . وَالْجَوَابُ: هُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِنْ أَنَّ السِّرَّ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ " الْأَعْمَى " ; لِلْإِشْعَارِ بِعُذْرِهِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى قَطْعِ كَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَرَى مَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ مَعَ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ لَمَا قَطَعَ كَلَامَهُ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَا يَرَى، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَبِسَمَاعِهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِقْدَامِهِ عَلَى مُقَاطَعَتِهِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا مَعْصِيَةً، فَكَيْفَ يُعَاتَبُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَكَلَامُهُ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَلَيْسَ مَعْذُورًا لِإِمْكَانِ سَمَاعِهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ بِوَصْفِهِ لِيُوجِبَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ وَالرِّفْقَ بِهِ. وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ كَلَامَ الرَّازِيِّ لَيْسَ بَعِيدًا عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَاتَبَهُ لِعَدَمِ رِفْقِهِ بِهِ. وَمُرَاعَاةِ حَالَةِ عَمَاهُ. فِعْلَيْهِ، يَكُونُ ذِكْرُهُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ بِغَيْرِهِ مِنْ أُولَئِكَ الصَّنَادِيدِ وَسَادَةِ الْقَوْمِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 [22 \ 46] ، فَهَذَا كَفِيفُ الْبَصَرِ، وَلَكِنْ وَقَّادُ الْبَصِيرَةِ أَبْصَرَ الْحَقَّ وَآمَنَ، وَجَاءَ مَعَ عَمَاهُ يَسْعَى طَلَبًا لِلْمَزِيدِ، وَأَنْتُمْ تَغَلَّقَتْ قُلُوبُكُمْ وَعَمِيَتْ بَصَائِرُكُمْ فَلَمْ تُدْرِكُوا الْحَقِيقَةَ وَلَمْ تُبْصِرُوا نُورَ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ: جَوَازُ ذِكْرِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ إِذَا كَانَتْ لِلتَّعْرِيفِ لَا لِلتَّنْقِيصِ، فَقَالُوا: الْأَعْمَى وَالْأَعْوَرُ وَالْأَعْرَجُ. وَفِي الْحِرَفِ قَالُوا: الْخَرَّازُ، وَالْخَرَقِيُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِتَرْجَمَةِ الرِّجَالِ فِي السَّنَدِ. وَمِثْلُهُ لَيْسَ تَنَابُزًا بِالْأَلْقَابِ فِي هَذَا الْفَنِّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِثْلُهُ إِذَا كَانَ لِلتَّعْرِيفِ فِي غَرَضٍ سَلِيمٍ دُونَ تَنَقُّصٍ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى، فَإِنَّ فِيهِ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ; لِأَنَّ الْعُبُوسَةَ أَمْرٌ لَا يَتَّفِقُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] ، وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] . وَلَمْ أَقِفْ عَلَى جَوَابٍ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مَعَهُ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يُسِيءُ إِلَى هَذَا الصَّحَابِيِّ فِي نَفْسِهِ بِشَيْءٍ يَسْمَعُهُ فَيُزْعِجُهُ، كُلُّ مَا كَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هُوَ تَقْطِيبُ الْجَبِينِ، وَهَذِهِ حَرَكَةٌ مَرْئِيَّةٌ لَا مَسْمُوعَةٌ. وَالْحَالُ: أَنَّ هَذَا أَعْمَى لَا يَرَى تِلْكَ الْحَرَكَةَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَلْقَ إِسَاءَةً مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْمَئِنٌّ لَهُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ فِي دِينِهِ. كَمَا قَالَ فِي حُنَيْنٍ: " وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ "، أَيْ: لَمَّا أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْقِصَّةِ، فَلَمْ يُعَاتِبْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَرَضِيَ الْأَنْصَارُ، وَبَكَوْا فَرَحًا وَرِضًا. ثُمَّ إِنَّ تَقْطِيبَ الْجَبِينِ وَانْبِسَاطَ أَسَارِيرِ الْوَجْهِ لِحُزْنٍ أَوْ فَرَحٍ، يَكَادُ يَكُونُ جِبِلِّيًّا مِمَّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 كَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْجِبِلِّيَّةِ تَقْرِيبًا، كَأَنَّ الْمُثِيرَ لَهُ غَرَضٌ عَامٌّ مِنْ خُصُوصِ الرِّسَالَةِ وَمُهِمَّتِهَا. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِهَا يَقُولُ لَهُ: " مَرْحَبًا فِيمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي "، وَيُكْرِمُهُ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهَذَا أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: التَّسَامِي بِأَخْلَاقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، إِلَى حَدِّ اللَّحْظِ بِالْعَيْنِ، وَالتَّقْطِيبِ بِالْجَبِينِ، وَلَوْ لِمَنْ لَا يَرَاهُ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ " وَذَلِكَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَالثَّانِي: تَأْدِيبٌ لِلْأُمَّةِ وَلِلدُّعَاةِ خَاصَّةً، فِي شَخْصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا عَلَّمَهُمْ فِي شَخْصِيَّتِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا [17 \ 23] . وَهَذَا السِّيَاقُ بِكَامِلِهِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ [80 \ 11 - 12] ، بَيَانٌ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُرَاعِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ غَنِيًّا وَلَا فَقِيرًا، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى ضَعْفَةِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَبْلِيغٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فِي مَسْئُولِيَّةٍ، فَلَا يَتَكَلَّفُ لَهُمْ. وَقَدْ حَثَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الصَّبْرِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِإِيمَانِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [18 \ 28 - 29] . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [6 \ 52] . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّنْبِيهَ قَدْ وَقَعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ نُوحٍ إِلَى قَوْمِهِ، حِينَمَا ازْدَرَوْا ضَعْفَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ إِلَى قَوْلِهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [11 \ 27 - 29] . وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا عَلَى صِدْقِ مَقَالَةِ هِرَقْلَ، حِينَمَا سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَهُمْ سَادَةُ الْقَوْمِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. فَقَالَ: هَكَذَا هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْفِطْرَةِ، وَأَبْعَدُ عَنِ السُّلْطَانِ وَالْجَاهِ، فَلَيْسَ لَدَيْهِمْ حِرْصٌ عَلَى مَنْصِبٍ يَضِيعُ، وَلَا جَاهٍ يُهْدَرُ، وَيَجِدُونَ فِي الدِّينِ عِزًّا وَرِفْعَةً، وَهَكَذَا كَانَ بِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ، وَهَكَذَا هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى بَيَانٌ لِمَوْقِفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَحِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِ الْجَمِيعِ حَتَّى مَنْ أَعْرَضَ وَاسْتَغْنَى، شَفَقَةً بِهِمْ وَرَحْمَةً، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى حَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [9 \ 128] وَكَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 \ 6] . وَقَوْلِهِ: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، بَيَانٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَتَزَكَّى، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [13 \ 7] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [42 \ 48] ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [2 \ 172] ، وَمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [26 \ 114 - 115] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ مَعْلُومٌ أَنَّ كَلِمَةَ «كَلَّا» : رَدْعٌ عَمَّا سَبَقَ، وَهُوَ فِي جُمْلَتِهِ مُنْصَبٌّ عَلَى التَّصَدِّي لِمَنِ اسْتَغْنَى. وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ وَالْحِرْصِ عَلَى سَمَاعِهِمْ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالدِّينِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ أَنْ تُبْذَلَ لِقَوْمٍ هَذِهِ حَالَتُهُمْ، فَهِيَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 تَكْرِيمٍ وَرِفْعَةٍ وَطُهْرَةٍ وَصِيَانَةٍ، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ حَفَظَةٍ سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ، أَحْرَى بِأَنْ يُسْعَى إِلَيْهَا، وَالْخَيْرُ لِمَنْ أَتَاهَا يَطْلُبُهَا. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَهَذَا لِلتَّهْدِيدِ لَا لِلتَّخْيِيرِ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [80 \ 17] ، «قُتِلَ الْإِنْسَانُ» : دُعَاءُ عَلَيْهِ، وَالْإِنْسَانُ: لِلْجِنْسِ الْكَافِرِ، وَ «مَا أَكْفَرَهُ» : أَيْ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ بِهَا، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مِنْ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ قِيلَ: «مَا أَكْفَرَهُ» هُنَا، مَا أَفْعَلُهُ، أَيْ: مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ تَعَجُبٌ مِنْ إِفْرَاطِهِ فِي كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ حَمَلَهُ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ؟ وَكُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ. وَلَعَلَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَظْهَرُ ; لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: «قُتِلَ الْإِنْسَانُ» ، وَلِمَجِيءِ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» [14 \ 34] ، وَكَذَلِكَ فَعُولٌ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ [22 \ 66] ، وَهَكَذَا صِفَةُ الْجَاحِدِينَ لِآيَاتِ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [31 \ 32] . ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِ ذَلِكَ بِرَدِّهِ إِياهُ إِلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ، لِيَتَّعِظَ مِنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [80 \ 18 - 21] ; لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُسَلَّمٌ بِهَا، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الرَّابِعَةَ: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [70 \ 22] . وَقَوْلُهُ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ تَقَدَّمَ مِرَارًا بَيَانُ أَصْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَطْوَارِهِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ قِيلَ: «السَّبِيلُ» إِلَى خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، حَيْثُ أَدَارَ رَأْسَهُ إِلَى جِهَةِ الْخُرُوجِ، بَدَلًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَى أَعْلَى، وَهَذَا مِنَ التَّيْسِيرِ فِي سَبِيلِ خُرُوجِهِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: «السَّبِيلُ» : أَيِ الدِّينُ فِي وُضُوحِهِ، وَيُسْرِ الْعَمَلِ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [76 \ 3] ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَلَعَلَّ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ الْأَرْجَحُ ; لِأَنَّ تَيْسِيرَ الْوِلَادَةِ أَمْرٌ عَامٌّ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَلْمُوسٌ، فَلَا مَزِيَّةَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَهُ دَالٌّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَدْلُولِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. وَقَدْ يَكُونُ تَيْسِيرُ الْوِلَادَةِ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: «فَقَدَّرَهُ» . أَيْ: قَدَّرَ تَخَلُّقَهُ وَزَمَنَ وُجُودِهِ وَزَمَنَ خُرُوجِهِ، وَتَقْدِيرَاتِ جِسْمِهِ وَقَدْرَ حَيَاتِهِ، وَقَدْرَ مَمَاتِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. أَمَّا تَيْسِيرُ سَبِيلِ الدِّينِ، فَهُوَ الْخَاصُّ بِالْإِنْسَانِ. وَهُوَ الْمَطْلُوبُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ. وَهُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ مَا بَيْنَ تَخَلُّقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَتَقْدِيرِهِ. وَبَيْنَ إِمَاتَتِهِ وَإِقْبَارِهِ. أَيْ: فَتْرَةُ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ وَقَدَّرَ مَجِيئَهُ إِلَى الدُّنْيَا. وَيَسَّرَ لَهُ الدِّينَ فِي التَّكَالِيفِ. ثُمَّ أَمَاتَهُ لِيَرَى مَاذَا عَمِلَ: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ. وَلِذَا جَاءَ فِي النِّهَايَةِ بِقَوْلِهِ: «كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ» [80 \ 23] . وَلَيْسَ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ إِلَّا السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبَّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا بَعْدَ مَا بَيَّنَ لَهُ مِمَّ خُلِقَ،، بَيَّنَ لَهُ هُنَا كَيْفَ يُطْعِمُهُ، وَفِي كِلَيْهِمَا آيَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْآيَتَانِ عَلَى خُطُوَاتٍ ثَلَاثٍ مُتَطَابِقَةٍ فِيهِمَا. فَصَبُّ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، يُقَابِلُ دَفْقَ الْمَاءِ فِي الرَّحِمِ. وَشَقُّ الْأَرْضِ لِلنَّبَاتِ يُقَابِلُ خُرُوجَهُ إِلَى الدُّنْيَا. وَإِنْبَاتُ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، يُقَابِلُ تَقَادِيرَ الْخَلْقِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَفِي التَّنْصِيصِ عَلَى أَنْوَاعِ النَّبَاتِ مِنْ: حَبٍّ، وَقَضْبٍ، وَعِنَبٍ، وَرُمَّانٍ، وَزَيْتُونٍ، وَنَخِيلٍ، وَفَوَاكِهَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَحَدَائِقَ مُلْتَفَّةٍ، لِظُهُورِ مَعْنَى الْمُغَايَرَةِ فِيهَا، مَعَ أَنَّهَا مِنْ أَصْلَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ: الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ. وَالتُّرْبَةُ فِي الْأَرْضِ، يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ. وَمَرَّةً أُخْرَى، يُقَالُ لِلشُّيُوعِيِّينَ وَالدَّهْرِيِّينَ: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [80 \ 17 - 18] : الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [56 \ 58 - 65] . إِنَّهُمْ بِلَا شَكٍّ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ لَهَا خَالِقًا مُدَبِّرًا. وَلَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [27 \ 14] ، صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ، وَكَذَبَ كُلُّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ سَابِقَةٍ، آخِرُهَا فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» : خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [55 \ 14] ، وَبَيَانُ طَعَامِهِ فِي كُلٍّ مِنْ سُورَتِي «الْوَاقِعَةِ» وَ «الْجَاثِيَةِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ الْإِسْفَارُ: الْإِضَاءَةُ، وَهُوَ تَهَلُّلُ الْوَجْهِ بِالسُّرُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [76 \ 11] ، وَالِاسْتِبْشَارُ مِنْ تَقَدُّمِ الْبُشْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [41 \ 30] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [57 \ 12] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، بَيَّنَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» عَلَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [55 \ 41] . وَقَدْ جَمَعَ لَهُمْ هُنَا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَهُمَا الْكُفْرُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْفُجُورُ فِي الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [71 \ 27] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ التَّكْوِيرِ. قُوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ اخْتَلَفَ فِي مَعْنَى «كُوِّرَتْ» هُنَا أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ، وَكُلُّهَا تَدُورُ عَلَى نِهَايَةِ أَمْرِهَا. فَقِيلَ: «كُوِّرَتْ» : لُفَّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَمَسَ نُورُهَا. وَقِيلَ: حُجِبَتْ بِكَارَةٍ، أَيْ: لُفَّتْ بِهَا. وَقِيلَ: أُلْقِيَتْ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ فِي الْعَرْشِ. وَقِيلَ: اضْمَحَلَّتْ. وَقِيلَ: نُكِّسَتْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُوِّرَتْ. وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، أَنَّ هَذَا كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَى تَغَيُّرِ حَالِهَا فِي آخِرِ أَمْرِهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهَا أَجَلًا مُسَمًّى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَعْلَمُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [31 \ 29] . فَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ إِذَا جَاءَ هَذَا الْأَجَلُ تَوَقَّفَتْ عَنْ جَرَيَانِهَا. وَهُوَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [75 \ 7 - 9] ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ لَمْ يَجْتَمِعَا قَطُّ، وَمَا كَانَ لَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [36 \ 40] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 وَلَعَلَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى: نُكِّسَتْ. أَيْ: رُدَّتْ إِلَى حَيْثُ أَتَتْ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَعَلَيْهِ فَتَجْتَمِعُ مَعَ الْقَمَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ قِيلَ: «انْكَدَرَتْ» انْصَبَّتْ، وَقِيلَ: تَغَيَّرَتْ مِنَ الْكُدْرَةِ، وَكُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ وَلَا تَعَارُضَ. وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ [82 \ 2] . وَيَشْهَدُ لِلثانِي: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [77 \ 8] ; لِأَنَّهَا إِذَا تَنَاثَرَتْ وَذَهَبَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَغَيَّرَ نِظَامُهَا، فَقَدْ ذَهَبَ نُورُهَا وَطُمِسَتْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ أَيْ: ذَهَبَ بِهَا مِنْ مَكَانِهَا. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ حَالَةِ الْجِبَالِ فِي نِهَايَةِ الدُّنْيَا فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ. مِنْ أَهَمِّهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «طه» : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [20 \ 105] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «الْكَهْفِ» : وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [18 \ 47] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ الْوَأْدُ: الثِّقْلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [2 \ 255] . وَالْمَوْءُودَةُ: الْمُثْقَلَةُ بِالتُّرَابِ حَتَّى الْمَوْتِ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ كَانَتْ تُدْفَنُ حَيَّةً، فَكَانُوا يَحْفِرُونَ لَهَا الْحُفْرَةَ وَيُلْقُونَهَا فِيهَا، ثُمَّ يُهِيلُونَ عَلَيْهَا التُّرَابَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهَا فَتُقْتَلَ بِسَبَبِهِ، بَلِ الْجُرْمُ عَلَى قَاتِلِهَا. وَلَكِنْ لِعِظَمِ الْجُرْمِ يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ إِلَيْهَا تَبْكِيتًا لِوَائِدِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُهُ: أَمْرَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. أَحَدُهُمَا يُبْكِينِي وَالْآخِرُ يُضْحِكُنِي. أَمَّا الَّذِي يُبْكِينِي: فَقَدْ ذَهَبْتُ بِابْنَةٍ لِي لِوَأْدِهَا، فَكُنْتُ أَحْفِرُ لَهَا الْحُفْرَةَ وَتَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ لِحْيَتِي، وَهِيَ لَا تَدْرِي مَاذَا أُرِيدُ لَهَا، فَإِذَا تَذَكَّرْتُ ذَلِكَ بَكَيْتُ. وَالْأُخْرَى: كُنْتُ أَصْنَعُ إِلَهًا مِنَ التَّمْرِ أَضَعُهُ عِنْدَ رَأْسِي يَحْرُسُنِي لَيْلًا، فَإِذَا أَصْبَحْتُ مُعَافًى أَكَلْتُهُ، فَإِذَا تَذَكَّرْتُ ذَلِكَ ضَحِكْتُ مِنْ نَفْسِي. أَمَّا سَبَبُ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الشَّنِيعَةِ وَمَا دَفَعَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِهَا، فَقَدْ نَاقَشَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بِتَوَسُّعٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «النَّحْلِ» : وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ الْآيَةَ [57 \ 59] . وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ هُنَا تَنْبِيهَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ إِيرَادِهِمَا. التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ: مَا يُشْبِهُ الْوَأْدَ فِي هَذِهِ الْآوِنَةِ الْحَدِيثَةِ، وَهُوَ التَّعَرُّضُ لِمَنْعِ الْحَمْلِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ. وَقَدْ بَحَثْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. أَمَّا قَدِيمًا فَفِي عَمَلِيَّةِ الْعَزْلِ، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ: " كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. زَادَ إِسْحَاقُ قَالَ سُفْيَانُ: لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ. وَجَاءَ فِيهِ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَنْهَنَا. كَمَا جَاءَ التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ فِي حَدِيثِ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُخْتِ عُكَاشَةَ، قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ، قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغَيْلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا " فَسَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ: " ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ ". زَادَ عَبْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْمُقْرِئِ زِيَادَةً وَهِيَ: " وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 فَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: مَا يُفِيدُ التَّقْرِيرُ. وَفِي الثَّانِي: مَا يُفِيدُ شِدَّةَ النَّكِيرِ. وَجَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَسَبَيْنَا كَرَائِمَ الْعَرَبِ، فَطَالَتْ عَلَيْنَا الْغُرْبَةُ، وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ وَنَعْزِلَ، فَقُلْنَا: نَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا لَا نَسْأَلُهُ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا، مَا كَتَبَ اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَتَكُونُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَقَالَ لَنَا: وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ، وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ، وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ. مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا ; فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ ". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَوْلُهُ: " لَا عَلَيْكُمْ " أَقْرَبُ إِلَى النَّهْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ هَذَا زَجْرٌ. فَأَنْتَ تَرَى قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ " مُشْعِرٌ بِعَدَمِ عِلْمِهِ سَابِقًا، مِمَّا يَتَعَارَضُ مَعَ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَنْهَنَا، نُبْقِي قَوْلَ جَابِرٍ، مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمُجَوِّزُونَ، وَيُعَارِضُهُ: وَهِيَ الْمَوْءُودَةُ، أَوِ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ. وَكَانَ لِلْوَأْدِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَبَبَانِ: الْأَوَّلُ: اقْتِصَادِيٌّ، خَشْيَةُ إِمْلَاقٍ، وَمِنْ إِمْلَاقٍ حَاضِرٍ. وَالثَّانِي: حَمِيَّةٌ وَغَيْرَةٌ. وَقَدْ رَدَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [17 \ 31] . وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [6 \ 151] . وَأَخِيرًا كَانَ هَذَا التَّسَاؤُلُ شَدِيدَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أُثِيرَتْ مَرَّةً أُخْرَى، وَبِشَكْلٍ آخَرَ أَثَارَهَا أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَكِيدَةً لِلسُّذَّجِ، فَأُثِيرَتْ مِنَ النَّاحِيَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ. وَكَانَ مَبْدَؤُهَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ كُتَّابِ هَذَا الْعَصْرِ بِنَظَرِيَّةِ: " مَالْتِسْ " وَالْآنَ لِغَرَضٍ عَسْكَرِيٍّ لِتَقْلِيلِ عَدَدِ جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، حِينَمَا عَلِمَ الْعَدُوُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُبِيحُ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، فَأَرَادُوا أَنْ يُوقِفُوا هَذَا النُّمُوَّ. وَيَكْفِي أَنْ نُورِدَ هُنَا قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا ; فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ ". وَفِيهِ: " تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ " وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ كُنْتُ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ بَحْثًا فِي مُحَاضَرَةٍ وَافِيَةٍ فِي هَذَا الْغَرَضِ، مِنْ حَيْثُ السِّيَاسَةِ وَالِاقْتِصَادِ، وَالدِّفَاعِ مَعَ عَمَلِ إِحْصَائِياتٍ لِلدُّوَلِ الَّتِي تُطَالِبُ بِهَذَا الْعَمَلِ، مِمَّا يَدْفَعُ رَأْيَ كُلِّ قَائِلٍ بِهِ. وَالَّذِي يَهُمُّنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى تَحْدِيدِ أَوْ تَنْظِيمِ النَّسْلِ مَنْشَؤُهَا مِنَ الْيَهُودِ، وَتَشْجِيعُهَا فِي الشَّرْقِ مِنْ دُوَلِ الْغَرْبِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الدُّوَلِ الْغَرْبِيَّةِ تَبْذُلُ الْمَالَ الطَّائِلَ لِتُفْشِيَ هَذَا الْأَمْرَ فِي دُوَلِ الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ، وَخَاصَّةً الْإِسْلَامِيَّةَ وَالْعَرَبِيَّةَ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: وَهُوَ حَوْلَ مَا يُصَرِّحُ بِهِ دُعَاةُ تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ فِي صُورَةِ مُنَاصَرَةٍ لَهَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمْ دُعَاةُ شَقَائِهَا وَمُعَادَاةٌ لَهَا، وَهَدْمٌ لِمَا مَكَّنَهَا اللَّهُ مِنْهُ فِي ظِلِّ الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ هَذِهِ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِهَا تُوءَدُ حَيَّةً، وَتُورَثُ كَالْمَتَاعِ، وَمُهْمَلَةَ الشَّخْصِيَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَحَبَاهَا الْإِسْلَامُ مَا يُثْبِتُ شَخْصِيَّتَهَا ابْتِدَاءً مِنْ إِيفَائِهَا حَقَّهَا فِي الْحَيَاةِ كَالرَّجُلِ، ثُمَّ اخْتِيَارِهَا فِي الزَّوَاجِ، وَحَقِّهَا فِي الْمِيرَاثِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدِّمَ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَحِلَّاتٍ، مِنْهَا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [4 \ 34] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «الْحَجِّ» : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 3] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ الزُّلْفَى: الْقُرْبَى، «وَأُزْلِفَتْ» : قُرِّبَتْ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «ق» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [50 \ 31] . قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا: الْعُمُومُ، أَيْ كُلُّ نَفْسٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [3 \ 30] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ نَفْيُ الْقَسَمِ، وَلَكِنَّهُ قَسَمٌ قَطْعًا، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِجَوَابِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [81 \ 19] . وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْقِيَامَةِ ": لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [75 \ 1] . وَمِثْلُ الْآتِي لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [90 \ 1] . تَنْبِيهٌ. يُجْمِعُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ; لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يَحْلِفَ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ ; هَلْ فِي الْمُغَايَرَةِ بِمَا يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَعْنًى مَقْصُودٌ، أَمْ لِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ، وَتَعَدُّدِ الْمُقْسَمِ بِهِ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 وَبَعْدَ التَّأَمُّلِ، ظَهَرَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، إِلَّا لِغَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، يَكُونُ بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مُنَاسِبَةٌ وَارْتِبَاطٌ، وَقَدْ يَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا. وَهَذَا فِعْلًا مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَقِفْ عَلَى بَحْثٍ فِيهِ. وَلَكِنْ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَوْضُوعِ، مَا جَاءَ بِالْإِقْسَامِ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ، وَفِي حَالَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ. الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [90 \ 1 - 4] . وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 1 - 4] . فَالْمَقْسَمُ بِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مُكَابَدَةَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى نَشْأَتِهِ، إِلَى كَدِّهِ فِي حَيَاتِهِ، إِلَى نِهَايَتِهِ وَمَمَاتِهِ. مِنْ ذَلِكَ مُكَابَدَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ وِلَادَتِهِ إِلَى حَيْثُ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَهُ، وَلَحِقَتْ بِهِ أُمُّهُ، وَهُوَ فِي طُفُولَتِهِ، وَبَعْدَ الْوَحْيِ كَابَدَ مَعَ قَوْمِهِ وَلَقِيَ مِنْهُمْ عَنَتًا شَدِيدًا، حَتَّى تَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُكَابَدَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْإِنْسَانِ كَمُلَازَمَتِكَ لِهَذَا الْبَلَدِ مُنْذُ وِلَادَتِكَ. وَفِي ذِكْرِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ إِشْعَارٌ بِبَدْءِ الْمُكَابَدَةِ، وَبِأَشُدِّهَا مِنْ حَالَةِ الْوِلَادَةِ وَطَبِيعَةِ الطُّفُولَةِ، وَلِذَا ذَكَرَ هُنَا هَذَا الْبَلَدَ بِدُونِ أَيِّ وَصْفٍ. أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي: فَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَهِيَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ جَاءَ بِالْمُقْسَمِ بِهِ عَرْضًا لِلنِّعَمِ، وَتَعَدُّدِهَا مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْفَاكِهَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوْ أَمَاكِنُهَا، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَعَ طُورِ سِينِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 فَجَاءَ بِمَكَّةَ أَيْضًا وَلَكِنْ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ، فَقَالَ: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَى تِلْكَ الْبِقَاعِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالْقَدَاسَةِ، أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِنِعْمَةِ حُسْنِ خِلْقَتِهِ وَحُسْنِ تَقْوِيمِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَهُنَا يُقْسِمُ بِحَالَاتِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، فِي ظُهُورِهَا وَاخْتِفَائِهَا وَجَرَيَانِهَا، وَبِـ " وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ": أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، أَوْ أَضَاءَ وَأَظْلَمَ، " وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ": أَيْ أَظْهَرَ وَأَشْرَقَ، وَهُمَا أَثَرَانِ مِنْ آثَارِ الشَّمْسِ فِي غُرُوبِهَا وَشُرُوقِهَا. وَالْمَقْسَمُ عَلَيْهِ: هُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي الثُّبُوتِ وَالظُّهُورِ، وَحَالُ النَّاسِ مَعَهُ كَحَالِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ لَدَيْكُمْ فِي ظُهُورِهَا تَارَةً، وَاخْتِفَائِهَا أُخْرَى. وَكَحَالِ اللَّيْلِ وَالصُّبْحِ، فَهُوَ عِنْدَ أُنَاسٍ مَوْضِعُ ثِقَةٍ وَهِدَايَةٍ كَالصُّبْحِ فِي إِسْفَارِهِ، قُلُوبُهُمْ مُتَفَتِّحَةٌ إِلَيْهِ وَعُقُولُهُمْ مُهْتَدِيَةٌ بِهِ، فَهُوَ لَهُمْ رُوحٌ وَنُورٌ، وَعِنْدَ أُنَاسٍ مُظْلِمَةٌ أَمَامَهُ قُلُوبُهُمْ، عَمًى عَنْهُ بَصَائِرُهُمْ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، وَأُنَاسٌ تَارَةً وَتَارَةً كَالنُّجُومِ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا، تَارَةً يَنْقَدِحُ نُورُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَتَظْهَرُ مَعَالِمُهُ فَيَسِيرُونَ مَعَهُ، وَتَارَةً يَغِيبُ عَنْهُمْ نُورُهُ فَتَخْنِسُ عَنْهُ عُقُولُهُمْ وَتَكْنُسُ دُونَهُ قُلُوبُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [2 \ 20] . وَلَيْسَ بَعِيدًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، تُعْتَبَرُ النُّجُومُ كَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ، مَضَى عَلَيْهَا الظُّهُورُ فِي حِينِهَا وَالْخَفَاءُ بَعْدَهَا. " وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ": هُوَ ظَلَامُ الْجَاهِلِيَّةِ. " وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ": يُقَابِلُهُ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ سَيَنْتَشِرُ انْتِشَارَ ضَوْءِ النَّهَارِ، وَلَا تَقْوَى قُوَّةٌ قَطُّ عَلَى حَجْبِهِ، وَسَيَعُمُّ الْآفَاقَ كُلَّهَا، مَهْمَا وَقَفُوا دُونَهُ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [61 \ 8] . وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا الْإِيرَادِ غَرَابَةٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا وَأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ فِيهِ، وَلَا تَوْجِيهٍ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَعَ التَّتَبُّعِ وَجَدْتُ اطِّرَادَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَجَدِيرٌ بِأَنْ يُفْرَدَ بِرِسَالَةٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 وَمِمَّا اطَّرَدَ فِيهِ هَذَا التَّوْجِيهُ سُورَةُ " الضُّحَى "، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [93 \ 1 - 3] ، فَإِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ عَدَمُ تَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا التَّخَلِّي عَنْهُ، فَجَاءَ بِالْمُقْسَمِ بِهِ قِسْمَيِ الزَّمَنِ لَيْلًا وَنَهَارًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: مَا قَلَاكَ رَبُّكَ وَلَا تَخَلَّى عَنْكَ، لَا فِي ضُحَى النَّهَارِ حَيْثُ تَنْطَلِقُ لِسَعْيِكَ، وَلَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حِينَ تَأْوِي إِلَى بَيْتِكَ. وَمَعْلُومٌ مَا كَانَ مِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَمَا كَانَ يَجْعَلُهُ يَنَامُ مَعَ أَوْلَادِهِ لَيْلًا، حَتَّى إِذَا أَخَذَ الْجَمِيعُ مَضَاجِعَهُمْ يَأْتِي خِفْيَةً فَيُقِيمُهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَيَضَعُ أَحَدَ أَوْلَادِهِ مَحَلَّهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَوَاهُ بِسُوءٍ، وَقَدْ رَآهُ فِي مَكَانِهِ الْأَوَّلِ يُصَادِفُ وَلَدَهُ، وَيَسْلَمُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [93 \ 4] ، أَيْ: مِنْ كُلِّ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَسَجَاهُ اللَّيْلُ. وَمِنْهُ أَيْضًا: وَهُوَ أَشَدُّ ظُهُورًا فِي سُورَةِ " الْعَصْرِ " قَالَ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [103 \ 1 - 3] ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. فَإِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ حَالَةُ الْإِنْسَانِ، الْغَالِيَةُ عَلَيْهِ مِنْ خُسْرٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُقْسَمُ بِهِ، وَالْعَصْرُ الْمُعَاصِرُ لِلْإِنْسَانِ طِيلَةَ حَيَاتِهِ وَهُوَ مَحَلُّ عَمَلِهِ، الَّذِي بِهِ يَخْسَرُ وَيَرْبَحُ. وَهُوَ مُعَاصِرٌ لَهُ وَأَصْدَقُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ. وَكُنْتُ قَدْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - يَقُولُ: إِنَّ الْعُمُرَ وَزَمَنَ الْحَيَاةِ حُجَّةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ كَالرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ سَوَاءٌ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [35 \ 37] ، فَجَعَلَ فِي الْآيَةِ التَّعْمِيرَ، وَهُوَ إِشْغَالُ الْعُمُرِ مُوجِبًا لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَمُهْلَةً لِلْعَمَلِ، كَمَا تُخْبِرُ إِنْسَانًا بِأَمْرٍ ثُمَّ تُمْهِلُهُ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا مَرَّ بِهِ، فَهُوَ أَمْكَنُ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. فَكَانَ الْقَسَمُ فِي الْعَصْرِ عَلَى الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، أَنْسُبُ مَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا، إِذْ جُعِلَتْ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ كَسُوقٍ قَائِمَةٍ وَالسِّلْعَةُ فِيهِ الْعَمَلُ وَالْعَامِلُ هُوَ الْإِنْسَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [61 \ 10 - 11] . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " سُبْحَانَ اللَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ "، وَفِيهِ " كُلُّ النَّاسِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا "، فَإِنْ كَانَ يَشْغَلُ عُمُرَهُ فِي الْخَيْرِ فَقَدْ رَبِحَ، وَأَعْتَقَ نَفْسَهُ وَإِلَّا فَقَدْ خَسِرَ وَأَهْلَكَهَا ". وَيُشِيرُ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [9 \ 111] . فَصَحَّ أَنَّ الدُّنْيَا سُوقٌ، وَالسِّلْعَةُ فِيهَا عَمَلُ الْإِنْسَانِ، وَالْمُعَامَلَةُ فِيهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَظَهَرَ الرَّبْطُ وَالْمُنَاسَبَةُ مَعَ الْمَقْسَمِ بِهِ، وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [81 \ 22] . فَصَاحِبُكُمْ هُنَا: هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي صَحِبَهُمْ مُنْذُ وِلَادَتِهِ وَذُو الْقُوَّةِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ: هُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِي إِسْنَادِ الْقَوْلِ إِلَيْهِ مَا قَدْ يُثِيرُ شُبْهَةً أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، بِإِيرَادِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ: وَإِنَّ فِي نَفْسِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ، وَيُثْبِتُ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَوْلُ رَسُولٍ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْتِي بِقَوْلٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، إِلَى مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِهِ. تَنْبِيهٌ فِي وَصْفِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ. نَصٌّ فِي تَمْكِينِهِ مِنْ حِفْظِ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، لِأَنَّهُ «مَكِينٌ» ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَا يُخِلُّ بِرِسَالَتِهِ، وَلِأَنَّهُ «مُطَاعٍ ثَمَّ» . وَالْمُطَاعُ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْأَمِينُ لَا يَخُونُ وَلَا يُبَدِّلُ، فَكَانَ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَصُونًا مِنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ أَحَدٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 عَلَيْهِ فَيُغَيِّرُهُ، وَمِنْ أَنْ يُغَيِّرَهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِمَثَابَةِ التَّرْجَمَةِ لِسَنَدِ تَلَقِّي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَقَوْلُهُ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ بَيَانٌ لِتَتِمَّةِ السَّنَدِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [81 \ 23 - 24] ، فَنَفَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْصَ التَّلَقِّي بِنَفْيِ آفَةِ الْجُنُونِ، فَهُوَ فِي كَمَالِ الْعَقْلِ وَقُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَمِنْ قَبْلُ أَثْبَتَ لَهُ كَمَالَ الْخُلُقِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] . وَأَثْبَتَ لَهُ اللُّقْيَا، فَلَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِغَيْرِهِ، وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ السَّنَدِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَمَالُ الْخُلُقِيُّ وَالْكَمَالُ الْخِلْقِيُّ - بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا - أَيِ: الْكَمَالُ حِسًّا وَمَعْنًى، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ التُّهْمَةَ بِأَنْ يَضِنَّ بِشَيْءٍ مِمَّا أُرْسِلَ بِهِ مَعَ نَفَاسَتِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ وَجَلِيلِ عُلُومِهِ، وَأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي الْخِتَامِ إِفْهَامُهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ: «بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ» [81 \ 25] ، حَيْثُ تَقَدَّمَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [26 \ 212] . وَأَنَّ: «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا» [72 \ 9] ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُوجِبٌ لِلِانْصِرَافِ عَنْهُ، وَأُلْزِمُوا بِالْأَخْذِ بِهِ حَيْثُ أَصْبَحَ مِنَ الثَّابِتِ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، جَاءَ بِهِ رَسُولٌ كَرِيمٌ، وَبَلَّغَهُ لِصَاحِبِكُمْ صَاحِبِ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، وَلَيْسَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. فَلَزِمَهُمُ الْأَخْذُ بِهِ، وَإِلَّا فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. أَيْنَ تَسِيرُونَ عَنْهُ، بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ لَكُمْ سَنَدُهُ وَمَصْدَرُهُ؟ وَنَظِيرُ هَذَا السَّنَدِ فِي تَمْجِيدِ الْقُرْآنِ وَإِثْبَاتِ إِتْيَانِهِ مِنَ اللَّهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّجْمِ» : مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى [53 \ 2، 3 - 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، بِمَثَابَةِ مَنْ يَسُدُّ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ إِلَّا لَهُ ; لِأَنَّهُ - أَيِ الْقُرْآنُ - لَيْسَ فِي نُزُولِهِ مِنَ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ شُبْهَةٍ وَلَا تُهْمَةٍ، فَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحِيدَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَهَابٍ إِلَى غَيْرِهِ فَطَرِيقٌ مَسْدُودٌ، وَضَلَالٌ وَهَلَاكٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَقُوَّةِ هَذَا السَّنَدِ، وَإِظْهَارِ ثُبُوتِ الرِّسَالَةِ، فَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ: «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ قَضِيَّةُ الْقَدَرِ وَالْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. وَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ. مِنْهَا فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [43 \ 20] ، وَفِيهَا مُنَاظَرَةُ الْمُعْتَزِلِيِّ مَعَ السُّنِّيِّ. وَمِنْهَا فِي سُورَةِ «الذارِيَاتِ» : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [51 \ 56 - 57] ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. تَنْبِيهٌ. إِذَا كَانَ الْكَثِيرُونَ يَسْتَدِلُّونَ فِي قَضِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا تُغْفَلَ أَهَمِّيَّتُهَا فِي جَانِبِ الضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ دَائِمًا، بِطَلَبِ التَّفَضُّلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا بِالْمَشِيئَةِ بِالِاسْتِقَامَةِ فَضْلًا مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا أَمَرَنَا فِي الصَّلَاةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا أَنْ نَطْلُبَهُ هَذَا الطَّلَبَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [1 \ 6] . تَنْبِيهٌ آخَرُ. لِقَدْ أُجْمِلَتِ الِاسْتِقَامَةُ هُنَا، وَهِيَ مُنَبَّهٌ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» : إِلَى صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الِانْفِطَارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ أَيِ: انْشَقَّتْ، كَمَا فِي سُورَةِ «الِانْشِقَاقِ» : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [84 \ 1] ، قِيلَ: هَيْبَةً لِلَّهِ. وَقِيلَ: لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [25 \ 25] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الشُّورَى» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [73 \ 17 - 18] . وَمِثْل ُ الِانْفِطَارِ وَالتَّشَقُّقِ: الِانْفِرَاجُ، كَقَوْلِهِ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ [77 \ 8 - 9] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أَيْ: بُعْثِرَ مَنْ فِيهَا. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [100 \ 9 - 10] . وَقَدْ دَلَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى سُرْعَةِ الِانْتِشَارِ، كَبَعْثَرَةِ الْحَبِّ مِنَ الْكَفِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [70 \ 43] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «ق» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا [50 \ 44] . قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 أَيْ كُلُّ نَفْسٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «التَّكْوِيرِ» . وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَلَى ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ فِي سُورَةِ «الِانْفِطَارِ» هَذِهِ، عِنْدَ نَفْسِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [18 \ 37] ، أَيْ: هَذِهِ أَطْوَارُ الْإِنْسَانِ فِي خِلْقَتِهِ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِحُسْنِ الْخِلْقَةِ وَكَمَالِ الصُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] . وَاخْتِلَافُ الصُّوَرِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَابْتِدَاءً مِنَ الرَّحِمِ، كَمَا قَالَ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [3 \ 6] . وَتَقَدَّمَ فِي صُورَةِ «الْحَشْرِ» : هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [59 \ 24] . وَفِي اخْتِلَافِ الصُّوَرِ عَلَى تَشَابُهِهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «ق» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 17 - 18] . وَأَحَالَ عِنْدَهَا عَلَى بَعْضِ مَا جَاءَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ [19 \ 79] . وَبَيَّنَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - أَنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [17 \ 13 - 14] . وَقِيلَ فِي «حَافِظِينَ» : يَحْفَظُونَ بَدَنَ الْإِنْسَانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [6 \ 61] مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [13 \ 11] . وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، أَنَّ فِي وَصْفِ الْحَفَظَةِ هُنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، مِنْ كَوْنِهِمْ حَافِظِينَ كِرَامًا يَعْلَمُونَ، فَاجْتَمَعَتْ لَهُمْ كُلُّ صِفَاتِ التَّأْهِيلِ، لَا عَلَى دَرَجَاتِ الْكِنَايَةِ مِنْ حِفْظٍ وَعُلُوِّ مَنْزِلَةٍ، وَعِلْمٍ بِمَا يَكْتُبُونَ. وَكَأَنَّهُ تَوْجِيهٌ لِمَا يَنْبَغِي لِوُلَاةِ الْأُمُورِ مُرَاعَاتُهُ فِي اسْتِكْتَابِ الْكُتَّابِ وَالْأُمَنَاءِ. وَلِذَا قَالُوا: عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَخَيَّرَ كَاتِبًا أَمِينًا حَسَنَ الْخَطِّ فَاهِمًا. وَمِنْ هَذَا الْوَصْفِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِطُ عَلَيْهِمْ عَمَلٌ يُعْمَلُ، وَكَوْنُهُمْ حَفَظَةً لَا يُضَيِّعُونَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ الْآيَةَ [99 \ 7] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ أَيْ: دَائِمٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [9 \ 21 - 22] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ دَلِيلٌ مِنْ أَدِلَّةِ خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ; لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [82 \ 14 - 16] . كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [2 \ 167] . وَهَكَذَا غَالِبًا أُسْلُوبُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَمَهْلِهِمَا. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ الدِّينِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ الْهَوْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [82 \ 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 وَتَقَدَّمَ فِي: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [101 \ 1 - 2] . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ [101 \ 1 - 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أَيْ: لِشِدَّةِ هَوْلِهِ وَضَعْفِ الْخَلَائِقِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [80 \ 34 - 35] ، وَقَوْلِهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 37] . وَلِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: " كُلُّ نَبِيٍّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: " أَنَا لَهَا ". وَحَدِيثِ فَاطِمَةَ: " اعْمَلِي. . . . ". وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [2 \ 255] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْيِيدُ الْأَمْرِ بِالظَّرْفِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [30 \ 4] . وَقَوْلِهِ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [7 \ 54] ، أَيْ: يَتَصَرَّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِهِ لَا يُشْرِكُهُ أَحَدٌ، كَمَا لَا يُشْرِكُهُ أَحَدٌ فِي خَلْقِهِ. وَلِذَا قَالَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [3 \ 154] . وَقَالَ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [3 \ 128] وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَكِنْ جَاءَ الظَّرْفُ هُنَا لِزِيَادَةِ تَأْكِيدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا لِبَعْضِ النَّاسِ بَعْضُ الْأَوَامِرِ، كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ [20 \ 132] . وَقَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [4 \ 59] . وَقَوْلِهِ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [11 \ 97] ، وَهِيَ كُلُّهَا فِي الْوَاقِعِ أَوَامِرُ نِسْبِيَّةٌ: " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ " [76 \ 30] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 وَلَكِنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَالْمُلْكُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] . فَلَا أَمْرَ مَعَ أَمْرِهِ، وَلَا مُتَقَدِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى وَلَا بِكَلِمَةٍ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [25 \ 26] ، مَعَ أَنَّ هُنَا فِي الدُّنْيَا مُلُوكًا، كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [12 \ 50] . وَفِي قِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [18 \ 79] . أَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [6 \ 94] . وَكَقَوْلِهِ: هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [69 \ 29] ، فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ سُلْطَانٍ وَكُلُّ مُلْكٍ، وَالْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الْمُطَفِّفِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. التَّطْفِيفُ: التَّنْقِيصُ مِنَ الطَّفِيفِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ. وَقَدْ فَسَّرَهُ مَا بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [83 \ 2 - 3] . قَالُوا: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ مِكْيَالَانِ: كَبِيرٌ وَصَغِيرٌ، إِذَا اكْتَالَ لِنَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ، اكْتَالَ بِالْمِكْيَلِ الْكَبِيرِ، وَإِذَا كَالَ مِنْ عِنْدِهِ لِغَيْرِهِ، اكْتَالَ بِالْمِكْيَلِ الصَّغِيرِ، فَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ تَطْفِيفٌ، أَيْ: تَنْقِيصٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ حُقُوقِهِمْ. وَالتَّقْدِيمُ فِي افْتِتَاحِيَّةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْوَيْلِ لِلْمُطَفِّفِينَ، يُشْعِرُ بِشِدَّةِ خَطَرِ هَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ فِعْلًا خَطِيرٌ ; لِأَنَّهُ مِقْيَاسُ اقْتِصَادِ الْعَالَمِ وَمِيزَانُ التَّعَامُلِ، فَإِذَا اخْتَلَّ أَحْدَثَ خَلَلًا فِي اقْتِصَادِهِ، وَبِالتَّالِي اخْتِلَالٌ فِي التَّعَامُلِ، وَهُوَ فَسَادٌ كَبِيرٌ. وَأَكْبَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وُجُودُ الرِّبَا إِذَا بِيعَ جِنْسٌ بِجِنْسِهِ، وَحَصَلَ تَفَاوُتٌ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ. وَفِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [2 \ 279] . وَلِذَا فَقَدَ وَرَدَ ذِكْرُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهِمَا فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ، بِعِدَّةِ أَسَالِيبَ مِنْهَا الْخَاصُّ وَمِنْهَا الْعَامُّ. فَقَدْ وَرَدَ فِي «الْأَنْعَامِ» وَ «الْأَعْرَافِ» وَ «هُودٍ» وَ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَ «الرَّحْمَنِ» وَ «الْحَدِيدِ» ، أَيْ: فِي سِتِّ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. أَوَّلًا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي سِيَاقِ مَا يُعْرَفُ بِالْوَصَايَا الْعَشْرِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 [6 \ 151] . وَذَكَرَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَالنَّهْيَ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [6 \ 152] . وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَهَا كَلَامًا مُوجَزًا مُفِيدًا، بِأَنَّ الْأَمْرَ هُنَا بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَمَنْ أَخَلَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّعَدِّي لَا حَرَجَ عَلَيْهِ. وَقَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا عُقُوبَةً لِمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَوَعَّدَهُ بِالْوَيْلِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَسَاقَ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. كَمَا بَيَّنَ عَاقِبَةَ الْوَفَاءِ بِالْكَيْلِ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [4 \ 59] ، أَيْ: مَآلًا. وَهُنَا يَلْفِتُ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّظَرَ إِلَى نُقْطَةٍ هَامَّةٍ، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [6 \ 152] ، حَيْثُ إِنَّ التَّطْفِيفَ: الزِّيَادَةُ الطَّفِيفَةُ، وَالشَّيْءُ الطَّفِيفُ: الْقَلِيلُ. فَكَأَنَّ الْآيَةَ هُنَا تَقُولُ: تَحَرَّوْا بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ التَّطْفِيفِ وَلَوْ يَسِيرًا. وَبَعْدَ بَذْلِ الْجُهْدِ «لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحَرِّي مَعَ شِدَّةِ التَّحْذِيرِ وَالتَّوَعُّدِ بِالْوَيْلِ، وَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ بِالْوَيْلِ عَلَى الشَّيْءِ الطَّفِيفِ، فَمَا فَوْقَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. الْمَوْضِعُ الثَّانِي فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [7 \ 85] . فَاقْتَرَنَ الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِالْكَيْلِ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ فِي الْأَمْرَيْنِ إِعْطَاءَ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ مَا نَقْصٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 وَبَيِّنَ أَنَّ فِي عَدَمِ الْإِيفَاءِ الْمَطْلُوبِ بَخْسَ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، وَمَعَ شُعَيْبٍ أَيْضًا: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الْآيَةَ \ 84 - 86] . وَبِنَفْسِ الْأُسْلُوبِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، رَبَطَهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَتَكْرَارِ الْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ: «وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ» ، ثُمَّ: «أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ» نَهْيٌ عَنْ نَقْصِهِ، وَأَمْرٌ بِإِيفَائِهِ، نَصَّ عَلَى الْمَفْهُومِ بِالتَّأْكِيدِ: «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» مَعَ التَّوْجِيهِ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُمْ. الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» : وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [17 \ 29] ، أَيِ: اعْتِدَالٌ فِي الْإِنْفَاقِ مَعَ نَفْسِهِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، ثُمَّ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [17 \ 32] ، وَكُلُّهَا فِي مَجَالِ الِاقْتِصَادِ وَبَعْدَهَا: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [17 \ 32] ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [17 \ 33] . وَقَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِمَا أَيْضًا غَرَضٌ مَالِيٌّ: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [17 \ 34] ، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ أَبْوَابِ الْمَالِ. ثُمَّ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، ثُمَّ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [17 \ 35] ، فَمَعَ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ حِفْظُ النَّفْسِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ يَأْتِي الْحِفَاظُ عَلَى الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [42 \ 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا أَشَرْنَا إِلَى أَنَّهُ عَامٌّ، فَقَالَ: الْمِيزَانُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَضَمِّنٌ آلَةَ الْوَزْنِ وَزِيَادَةً. وَأَوْرَدَ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ هُنَا فِي مَبْحَثٍ مُفَصَّلٍ، فَذَكَرَ آيَةَ «الرَّحْمَنِ» ، وَآيَةَ «الْحَدِيدِ» ، وَتَكَلَّمَ عَلَى الْجَمِيعِ بِالتَّفْصِيلِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» : وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [55 \ 7] ، مُقَابَلَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ رَفْعِ السَّمَاءِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ وَعَدْلٌ وَقُدْرَةٌ، وَالْمِيزَانُ وَضَعَهُ فِي الْأَرْضِ، لِتَقُومُوا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَبِهَذَا الْعَدْلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَفِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» اقْتِرَانُ الْمِيزَانِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [57 \ 25] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمِيزَانَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَ الْكِتَابِ هُوَ مِيزَانُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍ، وَعَدَمُ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ آيَاتِ الْوَفَاءِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [4 \ 58] . وَقَدْ جَمَعَ لَفْظَ الْأَمَانَةِ ; لِيَعُمَّ بِهِ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَمَنَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ هُنَا الْمِيزَانُ مَعَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَبِهِ يَسْتَوْفِي كُلُّ إِنْسَانٍ حَقَّهُ فِي أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَامُلِ، فَكُلُّ مَنْ غَشَّ فِي سِلْعَةٍ أَوْ دَلَّسَ أَوْ زَادَ فِي عَدَدٍ، أَوْ نَقَصَ أَوْ زَادَ فِي ذَرْعٍ، أَوْ نَقَصَ فَهُوَ مُطَفِّفٌ لِلْكَيْلِ، دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعِيدِ بِالْوَيْلِ. فَمَنْ بَاعَ ذَهَبًا مَثَلًا عَلَى أَنَّهُ صَافٍ مِنَ الْغِشِّ وَزْنَ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ مِنَ النُّحَاسِ عُشْرُ الدِّرْهَمِ، فَقَدْ نَقَصَ وَطَفَّفَ لِنَفْسِهِ، فَأَخَذَ حَقَّ دِرْهَمٍ كَامِلٍ ذَهَبًا، وَنَقَصَ حَيْثُ أَعْطَى دِرْهَمًا إِلَّا عَشْرًا. وَمَنْ بَاعَ رِطْلًا سَمْنًا وَفِيهِ عُشْرُ الرِّطْلِ شَحْمًا، فَقَدْ طَفَّفَ بِمِقْدَارِ هَذَا الْعُشْرِ لِنَفْسِهِ، وَنَقَصَ وَبَخَسَ الْمُشْتَرِي بِمِقْدَارِ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 وَهَكَذَا مَنْ بَاعَ ثَوْبًا عَشْرَ أَمْتَارٍ وَهُوَ يَنْقُصُ رُبُعَ الْمِتْرِ، فَقَدْ طَفَّفَ وَبَخَسَ بِمِقْدَارِ هَذَا الرُّبُعِ. وَهَكَذَا فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَبَيْنَ الْأَهْلِ، وَكُلَّ مَا فِيهِ عَطَاءٌ وَأُخِذَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْ بَابِ مَا يَذْكُرُهُ الْعُلَمَاءُ فِي مُنَاسَبَاتِ السُّوَرِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. فَقَدْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ لَمَّا ذَكَرَ السُّورَةَ الَّتِي قَبْلَهَا مَصِيرَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ هُنَا مِنْ مُوجِبَاتِ ذَلِكَ وَأَهَمِّهَا: تَطْفِيفُ الْكَيْلِ، وَبِخْسِ الْوَزْنِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مُتَوَجِّهٌ، وَلَكِنَّ صَرِيحَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي السُّورَةِ السَّابِقَةِ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [82 \ 4 - 5] ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ مَا قَدَّمَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَمَا أَخَّرَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا خُصُوصَ مَا قَدَّمَ مِنْ وَفَاءٍ فِي الْكَيْلِ وَرُجْحَانٍ فِي الْوَزْنِ، وَمَا أَخَّرَ فِي تَطْفِيفٍ فِي الْكَيْلِ وَبَخْسٍ طَمَعًا فِي الْمَالِ وَجَمْعًا لِلتُّرَاثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [89 \ 19 - 24] . وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ لِلْعَاقِلِ أَنَّ مَا طَفَّفَ مِنْ كَيْلٍ أَوْ بَخَسَ مِنْ وَزْنٍ مَهْمَا جَمَعَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُهُ وَرَاءَهُ وَمَسْئُولٌ عَنْهُ، وَنَادِمٌ عَلَيْهِ، وَقَائِلٌ: «يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي» ، وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ هُوَ عَدَمُ الْيَقِينِ بِالْبَعْثِ، أَوِ الْيَقِينُ مَوْجُودٌ لَكِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ عَلَى غَيْرِ الْمُوقِنِينَ - أَيْ غَيْرِ مُبَالِينَ - كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْبَلَاغَةِ بِلَازِمِ الْفَائِدَةِ: جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضًا رُمْحَهُ ... إِنَّ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحُ فَالْمُتَكَلِّمُ يَعْلَمُ أَنَّ شَقِيقًا عَالِمٌ بِوُجُودِ الرِّمَاحِ فِي بَنِي عَمِّهِ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِلْحَرْبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 مَعَهُ، وَلَكِنَّهُ رَأَى مِنْهُ عَدَمَ الْمُبَالَاةِ وَعَدَمَ الِاسْتِعْدَادِ، بِأَنْ وَضَعَ رُمْحَهُ أَمَامَهُ مُعْتَرِضًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُؤَمِنُ بِوُجُودِ الرِّمَاحِ فِي بَنِي عَمِّهِ، وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِكَلَامِهِ مَعَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِأَمْرٍ يَجْهَلُهُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلَهُ مِنَ التَّأَهُّبِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَهَكَذَا هُنَا، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُسَوِّفٍ وَمُتَسَاهِلٍ كَمَا جَاءَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» إِلَخْ. أَيْ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [83 \ 6] يُفْهَمُ أَنَّ مُطَفِّفَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ هَذَا حَقِيقَةً غَالِبًا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الطَّرَفُ الْآخَرُ، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى فِعْلِهِ، فَهُوَ الَّذِي سَيُحَاسِبُهُ وَيُنَاقِشُهُ، لِأَنَّهُ خَانَ اللَّهَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ سُبْحَانَهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَقُلْ: يَوْمَ يُقْتَصُّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ غَرِيمِهِ، وَيَسْتَوْفِي كُلُّ ذِي حَقٍ حَقَّهُ. تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لَهُ: قَدْ سَمِعْتَ مَا قَالَ اللَّهُ فِي الْمُطَفِّفِينَ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْسِكَ وَأَنْتَ تَأْخُذُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ؟ ! . اهـ. إِنَّهَا مَقَالَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تُقَالَ لِكُلِّ آكِلٍ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَيًّا كَانَ هُوَ، وَبِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ. مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مُتَبَايِعَيْنِ يَطْلُبُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْأَحَظُّ لِنَفْسِهِ، فَالْمُطَفِّفُ لَا بُدَّ أَنْ يُخْفِيَ طَرِيقَهُ عَلَى غَرِيمِهِ. وَذَكَرَ عُلَمَاءُ الْحِسْبَةِ طُرُقًا عَدِيدَةً مِمَّا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْأَمْرِ خَاصَّةً، وَلِلْمُتَعَامِلِ مَعَ غَيْرِهِ عَامَّةً أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهَا. مِنْ ذَلِكَ قَالُوا: أَوَّلًا مِنْ نَاحِيَةِ الْمِكْيَالِ قَدْ يَكُونُ جِرْمُ الْمِكْيَالِ لَيِّنًا فَيَضْغَطُهُ بَيْنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 يَدَيْهِ، فَتَتَقَارَبُ جَوَانِبُهُ فَيَنْقُصُ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَلِذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِنَاءُ الْكَيْلِ صَلْبًا، وَالْغَالِبُ جَعْلُهُ مِنَ الْخَشَبِ أَوْ مَا يُعَادِلُهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ خَشَبًا مَنْقُورًا مِنْ جَوْفِهِ، وَلَكِنْ لَا يَبْلُغُ بِالتَّجْوِيفِ إِلَى نِهَايَةِ الْمِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ، فَيُرَى مِنْ خَارِجِهِ كَبِيرًا، وَلَكِنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ صَغِيرٌ لِقُرْبِ قَعْرِهِ. وَمِنْهَا: قَدْ يَكُونُ مَنْقُورًا إِلَى نِهَايَةِ الْحَدِّ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُ يُدْخِلُ فِيهِ شَيْئًا يَشْغَلُ فَرَاغَهُ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَيُثَبِّتُهُ فِي قَعْرِهِ. فَيَنْقُصُ مَا يُكَالُ بِقَدْرِ مَا يَشْغَلُ الْفَرَاغَ الْمَذْكُورَ، فَقَدْ يَضَعُ وَرَقًا أَوْ خِرَقًا أَوْ جِبْسًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. ثَانِيًا: مِنْ نَاحِيَةِ الْمِيزَانِ قَدْ يَبْرُدُ السَّنْجَ، أَيْ مَعَايِيرَ الْوَزْنِ حَتَّى يَنْقُصَ وَزْنُهَا، وَقَدْ يُجَوِّفُ مِنْهَا شَيْئًا وَيَمْلَأُ التَّجْوِيفَ بِمَادَّةٍ أَخَفَّ مِنْهَا. وَلِذَا يَجِبُ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَجْزَاءَ الْمَعَايِيرِ، وَقَدْ يَتَّخِذُ مُعَايَرًا مِنَ الْحَجَرِ فَتَتَنَاقَصُ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ بِسَبَبِ مَا يَتَحَتَّتُ مِنْهَا عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَضَعَ تَحْتَ الْكِفَّةِ الَّتِي يَزِنُ فِيهَا السِّلْعَةَ شَيْئًا مُثْقِلًا لَاصِقًا فِيهَا، لِيَنْتَقِصَ مِنَ الْمَوْزُونِ بِقَدْرِ هَذَا الشَّيْءِ. وَلِكَيْلَا يَظْهَرَ هَذَا، فَتَرَاهُ دَائِمًا يَضَعُ الْمِعْيَارَ فِي الْكِفَّةِ الثَّانِيَةِ لِتَكُونَ رَاجِحَةً بِهَا. وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، كَأَنْ يَطْرَحَ السِّلْعَةَ فِي الْكِفَّةِ بِقُوَّةٍ، فَتُرَجَّحُ بِسَبَبِ قُوَّةِ الدَّفْعِ، فَيَأْخُذَ السِّلْعَةَ حَالًا قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَعْلَى، مُوهِمًا النَّاظِرَ أَنَّهَا رَاجِحَةٌ بِالْمِيزَانِ. أَمَّا آلَةُ الذَّرْعِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمِقْيَاسُ كَامِلًا وَافِيًا، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَقِيسَ الْمِتْرَ الْأَوَّلَ يَدْفَعُ بِالْآلَةِ إِلَى الْخَلْفِ، وَيَسْحَبُ بِالْمَذْرُوعِ إِلَى الْأَمَامِ بِمِقْدَارِ الْكَفِّ مَثَلًا، فَيَكُونُ النَّقْصُ مِنَ الْمَذْرُوعِ بِقَدْرِ مَا سَحَبَ مِنَ الْقُمَاشِ. وَكُلُّهَا أُمُورٌ قَدْ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ وَقَعَ لِي مَعَ بَائِعٍ أَنْ لَاحَظْتُ عَلَيْهِ فِي مِيزَانٍ مِمَّا يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ حَتَّى أَعَادَ الْوَزْنَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَأْتِي بِطَرِيقَةٍ تُغَايِرُ الْأُخْرَى، حَتَّى قَضَى مَا عِنْدَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ لِي: لَا أَبِيعُ بِهَذَا السِّعْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تُرِيدُ وَزِنْ كَمَا أُرِيدُ، فَطَلَبَ ضِعْفَ الثَّمَنِ، فَأَعْطَيْتُهُ فَأَعْطَانِي الْمِيزَانَ لِأَزِنَ بِنَفْسِي. وَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى حَالَاتِ الْبَاعَةِ، حِينَمَا يَكُونُ السِّعْرُ مُرْتَفِعًا وَتَجِدُ بَائِعًا يَبِيعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 بِرُخْصٍ، فَقَدْ يَكُونُ لِعِلَّةٍ فِي الْوَزْنِ أَوْ فِي السِّلْعَةِ، أَوْ مَضَرَّةِ الْآخَرِ. تَنْبِيهٌ آخَرُ. بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَحَقَائِقِهَا وَشَدَّةِ خَطَرِهَا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَتَجَوَّلُ فِي السُّوقِ بِنَفْسِهِ، وَيَتَفَقَّدُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ. يُخْرِجُ مِنَ السُّوقِ مَنْ يَجِدُ فِي مِكْيَالِهِ أَوْ مِيزَانِهِ نُقْصَانًا، وَيَقُولُ: لَا تَمْنَعْ عَنَّا الْمَطَرَ. وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ تَفَقُّدُ ذَلِكَ بِاسْتِمْرَارٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الْوَازِعُ الدِّينِيُّ، وَتَشْتَدُّ فِيهَا الْأَسْعَارُ، بِمَا يُلْجِئُ الْبَاعَةَ إِلَى التَّحَايُلِ أَوِ الْعِنَادِ. وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ بَائِعَ زَبِيبٍ أَرْخَصَ السِّعْرَ، لِعِلْمِهِ أَنَّ تَاجِرًا قَدِمَ وَمَعَهُ زَبِيبٌ بِكَثْرَةٍ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: لِمَاذَا مَنَعْتَ الْبَيْعَ بِرُخْصٍ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ يُفْسِدُ السُّوقَ، فَيَخْسَرُ الْقَادِمُ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الْجَلْبِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا قَدْ رَبِحَ مِنْ قَبْلُ. تَنْبِيهٌ آخَرُ. مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ نَوْعَ الْمِكْيَالِ وَمِقْدَارَهُ وَنَوْعَ الْمِيزَانِ وَمِقْدَارَهُ مَرْجِعُهُ إِلَى السُّلْطَانِ، كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الْحِسْبَةِ: إِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُطِيعَ السُّلْطَانَ فِي أَرْبَعٍ: فِي نَوْعِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَنَوْعِ الْعُمْلَةِ الَّتِي يَطْرَحُهَا لِلتَّعَامُلِ بِهَا، وَإِعْلَانِ الْحَرْبِ أَوْ قَبُولِ الصُّلْحِ. فَإِذَا اتَّخَذَ الصَّاعَ أَوِ الْمُدَّ أَوِ الْكَيْلَةَ أَوِ الْوَيْبَةَ أَوِ الْقَدَحَ، أَوْ أَيَّ نَوْعٍ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا، فَيَجِبُ التَّقَيُّدُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ. وَكَذَلِكَ الْوَزْنُ؛ اتَّخَذَ الدِّرْهَمَ وَالْأُوقِيَّةَ وَالرِّطْلَ أَوِ الْأُقَّةَ، أَوِ اتَّخَذَ الْجِرَامَ وَالْكِيلُو، فَكُلُّ ذَلِكَ لَهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي قِسْمَةٍ مَثَلًا: كَقِسْمَةِ صَبْرَةٍ مِنْ حَبٍّ، فَتَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَقْتَسِمُوهَا بِإِنَاءٍ كَبِيرٍ لِلسُّرْعَةِ وَكَانَ مَضْبُوطًا، لَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْمَرَّاتُ بِأَنْ يَكُونَ صَلْبًا وَيُمْكِنُ الْكَيْلُ بِهِ. أَوْ كَذَلِكَ الْوَزْنُ، اتَّفَقُوا عَلَى قِطْعَةِ حَدِيدٍ مُعَيَّنَةٍ، لِكُلٍّ وَاحِدٍ وَزْنُهَا عِدَّةَ مَرَّاتٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ قِسْمَةُ الْمَجْمُوعِ لَا مُثَامَنَةٌ عَلَى الْأَجْزَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 أَمَّا الْمَكَايِيلُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْأَسَاسِيَّةُ وَالْمُوَازِينُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي زَكَاةِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، وَزَكَاةِ النَّقْدَيْنِ، وَقَدَّمْنَا بَيَانَ مُقَابِلِهَا بِالْوَزْنِ الْحَدِيثِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [70 \ 24 - 25] . وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. غَرِيبَةٌ. فِي لَيْلَةِ الْفَرَاغِ مِنْ كِتَابَةِ هَذَا الْمَبْحَثِ رَأَيْتُ الشَّيْخَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَبَعْدَ أَنْ ذَهَبَ عَنِّي، رَأَيْتُ مَنْ يَقُولُ لِي: إِنَّ لِتَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ دَخْلًا فِي الرِّبَا، فَأَلْحَقْتُهُ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ، بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلْتُهُ فَوَجَدْتُهُ صَحِيحًا بِسَبَبِ الْمُفَاضَلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ «رَانَ» : بِمَعْنَى غَطَّى كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُغَطِّيَهُ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرِ ... فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ فَانْجَلَى وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَأَصْلُ الرَّيْنِ: الْغَلَبَةُ، يُقَالُ: رَانَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَقْلِ شَارِبِهَا وَاشْتَدَّتْ: ثُمَّ لَمَّا رَآهُ رَانَتْ بِهِ الْخَـ ... ـمْرُ وَأَلَّا يُرِيَهُ بِانْتِفَاءِ بَيَانُ الْقِرَاءَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ أَبُو حَيَّانَ: قُرِئَ «بَلْ رَانَ» بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَقَفَ حَفْصٌ عَلَى «بَلْ» وَقْفًا خَفِيفًا يَسِيرًا لِيَتَبَيَّنَ الْإِظْهَارُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ الْبَاذِشِ: وَأَجْمَعُوا - يَعْنِي الْقُرَّاءَ - عَلَى إِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سَكْتِ حَفْصٍ عَلَى «بَلْ» ، ثُمَّ يَقُولُ: «رَانَ» . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ. فَفِي كِتَابِ «اللَّوَامِعِ» عَنْ قَالُونَ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ: إِظْهَارُ اللَّامِ عِنْدَ الرَّاءِ نَحْوَ قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» [4 \ 158] «بَلْ رَبُّكُمْ» [21 \ 56] . وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: «بَلْ رَانَ» مِنْ غَيْرِ مُدْغَمٍ. وَفِيهِ أَيْضًا: وَقَرَأَ نَافِعٌ أَيْضًا بِالْإِدْغَامِ وَالْإِمَالَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْبَيَانُ وَالْإِدْغَامُ حَسَنَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ أَجْوَدُ، وَأُمِيلَتِ الْأَلِفُ وَفُخِّمَتْ. اهـ. أَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ وَافِيًا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ الْآيَةَ [18 \ 57] . قَوْلُهُ تَعَالَى: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ تَوْجِيهٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِيهِ الْمُنَافَسَةُ، وَهِيَ بِمَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: نَافَسَ فِي الشَّيْءِ: رَغِبَ فِيهِ، وَنَفَّسْتُ عَلَيْهِ بِالشَّيْءِ أَنْفُسُ نَفَاسَةً، إِذَا بَخِلْتَ بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ تُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُكَاثَرَةِ بِالشَّيْءِ النَّفِيسِ، فَكُلٌّ يُسَابِقُ إِلَيْهِ لِيَحُوزَهُ لِنَفْسِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَفْتٌ لِأَوَّلِ السُّورَةِ، إِذَا كَانَ أُولَئِكَ يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْمَالِ بِالتَّطْفِيفِ، فَلَهُمُ الْوَيْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِذَا كَانَ الْأَبْرَارُ لَفِي نَعِيمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا شَرَابُهُمْ، فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْمُنَافِسَةِ، لَا فِي التَّطْفِيفِ مِنَ الْحَبِّ أَوْ أَيِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَصْفُهُمْ بِالْإِجْرَامِ هُنَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَغَامُزِهِمْ بِهِمْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بَيَانُ مُوجَبٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [2 \ 212] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَ هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هُنَاكَ، وَأَحَالَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَيَانِ لِنَوْعِ السُّخْرِيَةِ، وَزَادَ الْبَيَانَ فِي سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [46 \ 11] . وَمِنَ الدَّافِعِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَنَتِيجَةُ قَوْلِهِمْ، وَسَاقَ آيَةَ «الْمُطَفِّفِينَ» عِنْدَهَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [56 \ 3] . وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا فِي غَيْرِهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ. فَفِي قَوْمِ نُوحٍ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [11 \ 38] . وَكَانَ نَفْسُ الْجَوَابِ عَلَيْهِمْ: قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [11 \ 38 - 39] . وَجَاءَ بِمَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى بِالرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [6 \ 10] . وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» بِنَصِّ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. تَنْبِيهٌ. إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ بَعْضِ الَّذِينَ أَجْرَمُوا مَعَ بَعْضِ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ حَالُ بَعْضِ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهَا، فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يَتَأَثَّرَ بِسُخْرِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ عَلَى سُنَنِ غَيْرِهِ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَنْتَصِرُ لَهُ إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، كَمَا فِي نِهَايَةِ كُلِّ سِيَاقٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى سُخْرِيَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [2 \ 212] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانَهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنُونَ» عَلَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [23 \ 111] . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الِانْشِقَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الِانْفِطَارِ» ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] ، وَالْإِحَالَةُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَتَيِ «الشُّورَى» وَ «ق» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَادَّةِ «أَذِنَ» فِي سُورَةِ «الْجُمُعَةِ» ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَذَانِ، «وَأَذِنَتْ» هُنَا بِمَعْنَى اسْتَمَعَتْ وَأَطَاعَتْ، «وَحُقَّتْ» أَيْ: حُقَّ لَهَا أَوْ هِيَ مَحْقُوقَةٌ بِذَلِكَ، أَيْ: لَا يُوجَدُ مُمَانِعٌ لِهَذَا الْأَمْرِ. وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي «أَذِنَتْ» ، أَيْ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُمَانَعَةً مِنْ تَشَقُّقِهَا، كَانَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ الِامْتِثَالِ وَالِاسْتِمَاعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لِلْجَمَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَالَةً لَا كَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ فِي مَبْحَثِ أَوَّلِ «الْحَشْرِ» فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ مِنَ الْجَمَادَاتِ. وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي حَقِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [33 \ 72] ، وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [41 \ 11] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أَيْ: سُوِّيَتْ وَأُزِيلَتْ جِبَالُهَا، وَسُوِّيَتْ وِهَادُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [20 \ 105 - 107] . وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَلِيٍّ. وَسَاقَ هَذَا الثَّانِي ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى» . الْحَدِيثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ كَمَا يُمَدُّ الْأَدِيمُ الْعُكَاظِيُّ. وَعِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «يُزَادُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» . وَقَالَ الرَّازِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى تَبَدُّلِ الْأَرْضِ غَيْرَ الْأَرْضِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ اسْتِبْدَالَ الْأَرْضِ غَيْرَ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الذَّهَابِ بِهَذِهِ الْمَوْجُودَةِ وَالْإِتْيَانِ بِأَرْضٍ جَدِيدَةٍ، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْأَذَانِ: «مَا مِنْ حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ وَلَا شَجَرٍ، يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ إِلَّا سَيَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالَّذِي يُؤْتَى لَهُ مِنْ جَدِيدٍ لَا يَتَأَتَّى لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَشْهَدْهُ، وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ تَسْيِيرَ الْجِبَالِ وَتَسْوِيَةَ الْأَرْضِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُوجَدُ زِيَادَةً فِي وَجْهِ الْأَرْضِ وَمِسَاحَتِهَا، فَسَوَاءٌ مُدَّتْ بِكَذَا وَكَذَا - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - أَوْ مُدَّتْ بِتَوْسِعَةِ أَدِيمِهَا وَزِيدَ فِي بَسْطِهَا، بَعْدَ أَنْ تُلْقِي مَا فِي جَوْفِهَا كَالشَّيْءِ السَّمِيكِ إِذَا مَا ضُغِطَ، فَخَفَّتْ سِمَاكَتُهُ وَزَادَتْ مِسَاحَتُهُ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [89 \ 21] . وَقَوْلُهُ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [69 \ 13 - 16] . فَيَكُونُ مَدُّ الْأَرْضِ بِسَبَبِ دَكِّهَا، فَيُزَادُ فِي بَسْطِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ هُوَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ لِجَمْعِ الْأَمْرَيْنِ هُنَا، «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ» ، فَهُوَ وِفْقُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَبَعْدَهَا: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 قِيلَ: " أَلْقَتْ كُنُوزَهَا وَتَخَلَّتْ عَنْهَا، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: " أَلْقَتِ " الْمَوْتَى " وَتَخَلَّتْ " عَنْهُمْ بَعْدَ قِيَامِهِمْ وَبَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ ; فَلَمْ يَبْقَ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ أَحَدٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَتَخَلَّتْ ": أَيْ: بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَهُمْ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَهُمْ مِهَادًا، لَفَظَتْهُمْ وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ، وَهَذَا مَا يَزِيدُ فِي رَهْبَةِ الْمَوْقِفِ وَشِدَّتِهِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْعِبَادِ، وَأَلَّا مَلْجَأَ لَهُمْ وَلَا مَنْجَى إِلَّا إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [75 \ 11 - 12] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ أَيْ: كَمَا أَذِنَتِ السَّمَاءُ، فَالْكَوْنُ كُلُّهُ أُذُنٌ مُطِيعٌ مُنْقَادٌ لِأَوَامِرِ اللَّهِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ قِيلَ: الْإِنْسَانُ لِلْجِنْسِ وَقِيلَ لِفَرْدٍ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ لِلتَّقْسِيمِ الْآتِي، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِفَرْدٍ، وَإِنَّمَا لِلْجِنْسِ وَعَلَى أَنَّهُ لِلْجِنْسِ فَالْكَدْحُ الْعَمَلُ جُهْدَ النَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ وَقَالَ غَيْرُهُ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الْكَدْحَ فِيهِ مَعْنَى النَّصَبِ: وَمَضَتْ بِشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صَالِحٍ ... وَبَقِيتُ أَكْدَحُ لِلْحَيَاةِ وَأَنْصَبُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [90 \ 4] كَمَا قَدَّمْنَا فِي مَحَلِّهِ. تَنْبِيهٌ. مِنْ هَذَا الْعَرْضِ الْقُرْآنِيِّ الْكَرِيمِ مِنْ مُقَدِّمَةِ تَغْيِيرِ أَوْضَاعِ الْكَوْنِ سَمَاءً وَأَرْضًا، وَوَضْعِ الْإِنْسَانِ فِيهِ يَكْدَحُ إِلَى رَبِّهِ «كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ» ، أَيْ: بِعِلْمِهِ الَّذِي يَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 خِلَالِ كَدْحِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَبَصِّرَ لَا يَجْعَلُ كَدْحَهُ إِلَّا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَرْضَى هُوَ بِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ مَا دَامَ أَنَّهُ كَادِحٌ، لَا مَحَالَةَ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ. تَنْبِيهٌ آخَرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَامٌّ فِي الشُّمُولِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَهْمَا كَانَ حَالُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَمِنْ بَرِّ وَفَاجِرٍ، وَالْكُلُّ يَكْدَحُ وَيَعْمَلُ جَاهِدًا لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «اعْمَلُوا كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» أَيْ: وَمُجِدٌّ فِيهِ وَرَاضٍ بِهِ، وَهَذَا مُنْتَهَى حِكْمَةِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ. وَمِمَّا هُوَ جَدِيرٌ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مَعَ عِظَمِ جِرْمِهَا، وَالْأَرْضُ مَعَ مِسَاحَةِ أَصْلِهَا «وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ» ، مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَتَحَمَّلْ أَمَانَةً، وَلَنْ تُسْأَلَ عَنْ وَاجِبٍ، فَكَيْفَ بِالْإِنْسَانِ عَلَى ضَعْفِهِ؟ ! أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [79 \ 27] ، وَقَدْ تَحْمِلُ أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ فَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ، فَكَانَ أَحَقُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي كَدْحِهِ، إِلَى أَنْ يَلْقَى رَبَّهُ لِمَا يُرْضِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ بَيَانٌ لِمَصِيرِ الْإِنْسَانِ نَتِيجَةَ كَدْحِهِ، وَمَا سُجِّلَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ فِي «الِانْفِطَارِ» قَوْلَهُ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [82 \ 18] . وَجَاءَ فِي «الْمُطَفِّفِينَ» : كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [83 \ 7] ، ثُمَّ بَعْدَهُ: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [83 \ 18] . جَاءَ هُنَا بَيَانُ إِتْيَانِهِمْ هَذِهِ الْكُتُبَ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى ارْتِبَاطِ هَذِهِ السُّوَرِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فِي بَيَانِ مَآلِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَمَصِيرِ الْإِنْسَانِ نَتِيجَةَ عَمَلِهِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ مَبَاحِثُ إِتْيَانِ الْكُتُبِ بِالْيَمِينِ وَبِالشِّمَالِ وَمِنْ وَرَاءِ الظَّهْرِ، عِنْدَ كُلٍّ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [17 \ 71] ، وَبَيْنَ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلُ الْيَمِينِ وَأَهْلُ الشِّمَالِ، وَأَحَالَ عَلَى أَوَّلِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [18 \ 49] ، فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَهُنَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَالَةً مِنْ حَالَاتِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ. فَالْأُولَى: «يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا» وَهُوَ الْعَرْضُ فَقَطْ دُونَ مُنَاقَشَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» . وَالثَّانِيَةُ: يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِالثُّبُورِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَمِنْهُ: الْمُوَاطَأَةُ عَلَى الشَّيْءِ، سُمِّيَتْ مُثَابَرَةً، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَهُ فِي طَلَبِهِ. وَهُنَا مُقَابَلَةٌ عَجِيبَةٌ بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ، وَذَلِكَ بَيْنَ سُرُورَيْنِ أَحَدُهُمَا آجِلٌ، وَالْآخِرُ عَاجِلٌ. فَالْأَوَّلُ فِي حَقِّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا يُنَادِي فَرَحًا: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [69 \ 19] ، وَأَهْلُهُ آنَذَاكَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ، وَمِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [13 \ 23] . وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [52 \ 21] ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُلْحَقِينَ بِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِمْ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ أَنْ يُعْلِمَ بِهَا مَنْ يَعْرِفُهُ مِنْ أَهْلِهُ، وَهَذَا مِمَّا يَزِيدُ سُرُورَ الْعَبْدِ، وَهُوَ السُّرُورُ الدَّائِمُ. وَالْآخَرُ سُرُورٌ عَاجِلٌ، وَهُوَ لِمَنْ أُعْطُوا كُتُبَهُمْ بِشِمَالِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَلِهِمْ مَسْرُورِينَ فِي الدُّنْيَا، وَشَتَّانَ بَيْنَ سُرُورٍ وَسُرُورٍ. وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا نَتِيجَةَ سُرُورِ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا، بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ سَعِيرًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ سُرُورِ الْآخَرِينَ، وَلَكِنْ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ خَوْفُهُمْ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [52 \ 26 - 28] . وَهُنَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْمَعْ عَلَى عَبْدِهِ خَوْفَانِ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْأَمْنَانِ مَعًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 فَمَنْ خَافَهُ فِي الدُّنْيَا أَمَّنَهُ فِي الْآخِرَةِ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [55 \ 46] . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [79 \ 40 - 41] . وَمِنْ أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ، وَقَضَى كُلَّ شَهَوَاتِهِ، وَكَانَ لَا يُبَالِي فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَيَصْلَى سَعِيرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [56 \ 41 - 47] ، تَكْذِيبًا لِلْبَعْثِ. وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، هَذَا الظَّنُّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْمُطَفِّفِينَ: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [83 \ 4 - 5] ، مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ أَوِ الشَّكَّ فِيهِ هُوَ الدَّافِعُ لِكُلِّ سُوءٍ وَالْمُضَيِّعُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ الْمُنْطَلَقُ لِكُلِّ خَيْرٍ وَالْمَانِعُ لِكُلِّ شَرٍّ، وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ هُوَ مُنْطَلَقُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا فِي مُسْتَهَلِّ الْمُصْحَفِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 2] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ الشَّفَقُ لُغَةً: رِقَّةُ الشَّيْءِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ شَيْءٌ شَفِيقٌ، أَيْ: لَا تَمَاسُكَ لَهُ لِرِقَّتِهِ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ أَيْ: رَقَّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، وَالشَّفَقَةُ الِاسْمُ مِنَ الْإِشْفَاقِ وَهُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ الشَّفَقُ. قَالَ الشَّاعِرُ: تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقَا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحَرَمِ فَالشَّفَقُ بَقِيَّةُ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَحُمْرَتُهَا، فَكَأَنَّ تِلْكَ الرِّقَّةَ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَنُقِلَ عَنِ الْخَلِيلِ: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِذَا ذَهَبَ، قِيلَ: غَابَ الشَّفَقُ. اهـ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فِي تَوْقِيتِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى غِيَابِ الشَّفَقِ، وَهُوَ الْحُمْرَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي بَعْدَهُ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي بَيَانِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [30 \ 17 - 18] ، وَرَجَّحَ أَنَّ الشَّفَقَ: الْحُمْرَةُ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ قَوْلًا، قَالَ: وَزَعَمَ الْحُكَمَاءُ أَنَّ الْبَيَاضَ لَا يَغِيبُ أَصْلًا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: صَعِدْتُ مَنَارَةَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَرَمَقْتُ الْبَيَاضَ، فَرَأَيْتُهُ يَتَرَدَّدُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، وَلَمْ أَرَهُ يَغِيبُ. وَقَالَ ابْنُ أُوَيْسٍ: رَأَيْتُهُ يَتَمَادَى إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَلَمَّا لَمْ يَتَجَدَّدْ وَقْتُهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ. اه. فَهُوَ بِهَذَا يُرَجِّحُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ فِي مَعْنَى الشَّفَقِ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فِيهَا مَقَالٌ. فَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ حَدِيثًا مَرْفُوعًا: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ» . وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الشَّوْكَانِيُّ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمُ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعُبَادَةُ. وَمِنَ الْأَئِمَّةِ: الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَافَقَا الْجُمْهُورَ. وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فَفِيهِ نَظَرٌ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ عَدَمِ غِيَابِ الْبَيَاضِ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ أَنَّ بَيْنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ مِقْدَارُ دَرَجَتَيْنِ، وَالدَّرَجَةُ تُعَادِلُ أَرْبَعَ دَقَائِقَ، وَعَلَيْهِ فَالْفَرْقُ بَسِيطٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، هُوَ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 الْوَسَقُ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَكِيلِ الْحَبِّ، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا. وَقِيلَ: فِيهِ مَعَانٍ أُخْرَى، وَلَكِنَّ هَذَا أَرْجَحُهَا. وَالْمَعْنَى هُنَا: وَاللَّيْلُ وَمَا جَمَعَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. قِيلَ: كَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِكُلِّ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [69 \ 38 - 39] . وَقَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، أَيْ: اتَّسَعَ أَيْ تَكَامَلَ نُورُهُ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ وَسَقَ، وَالْقَاعِدَةُ الصَّرْفِيَّةُ أَنَّ فَاءَ الْفِعْلِ الْمِثَالِيِّ - أَيِ الَّذِي فَاؤُهُ وَاوٌ - إِذَا بُنِيَ عَلَى افْتَعَلَ تُقْلَبُ الْوَاوُ تَاءً وَتُدْغَمُ التَّاءُ فِي التَّاءِ، كَمَا فِي: وَصَلْتُهُ فَاتَّصَلَ وَوَزَنْتُهُ فَاتَّزَنَ، اوْتَصَلَ اوْتَزَنَ، وَهَكَذَا هُنَا اوْتَسَقَ. وَقَوْلُهُ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَامَّةُ قُرَّاءِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ: «لَتَرْكَبَنَّ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ، وَاخْتَلَفَ قَارِئُو ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ، وَيَعْنِي حَالَاتِ التَّرَقِّي وَالْعُلُوِّ وَالشَّدَائِدِ مَعَ الْقَوْمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: «طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ» : يَعْنِي سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ، أَيْ طِبَاقِ السَّمَاءِ، وَهُوَ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمَسْرُوقٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا السَّمَاءُ تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهَا، تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ، ثُمَّ تَحْمَرُّ كَالْمُهْلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَجَّحَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى وَالْمَعْنَى الْأَوَّلَ. وَقَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: «لَتَرْكَبُنَّ» بِالتَّاءِ وَبِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلنَّاسِ كَافَّةً. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لِمَعْنَاهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مَعَانٍ عَدِيدَةً: طُفُولَةً، وَشَبَابًا، وَشُيُوخَةً، فَقْرًا وَغِنًى، وَقُوَّةً وَضَعْفًا، حَيَاةً وَمَوْتًا وَبَعْثًا، رَخَاءً وَشِدَّةً، إِلَى كُلِّ مَا تَحْتَمِلُهُ الْكَلِمَةُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَكُلُّهُ مُرَادٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِعَامَّةِ النَّاسِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذِ السِّيَاقُ فِي أُصُولِ الْبَعْثِ: «إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» ، «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» ، «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ» وَذَكَرَ الْحِسَابَ الْمُنْقَلِبَ، ثُمَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُسْتَقْبَلِ «لَتَرْكَبُنَّ» ، وَلَوْ كَانَ لِأَمْرِ الدُّنْيَا مِنْ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ لَكَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 أَوْلَى بِهِ الْحَاضِرُ أَوِ الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ مَا سَيَأْتِي مِنَ الزَّمَنِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِجَدِيدٍ، إِذْ تَقَلُّبُ الْأَحْوَالِ فِي شَأْنِ الْحَيَاةِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْأَذْهَانِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ. أَمَّا أُمُورُ الْآخِرَةِ مِنْ بَعْثٍ، وَحَشْرٍ، وَعَرْضٍ، وَمِيزَانٍ، وَصِرَاطٍ، وَتَطَايُرِ كُتُبٍ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاقِفِ، فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ الْحَرِيَّةُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا، وَالْعَمَلِ لِأَجْلِهَا فِي كَدْحِهِ إِلَى رَبِّهِ، فَلِذَا جَاءَ بِذَلِكَ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِاسْتِمْرَارِ حَالَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْكَدْحِ إِلَى حَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ. وَلَوِ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْمُقْسَمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَطَوُّرِ الْحَالِ مِنْ شَفَقٍ، أَوْ آخَرِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، ثُمَّ لَيْلٍ، وَمَا جَمَعَ وَغَطَّى بِظَلَامِهِ، ثُمَّ قَمَرٌ يَبْدَأُ هِلَالًا إِلَى اتِّسَاقِ نُورِهِ - لَكَانَ انْتِقَالًا مِنْ تَغَيُّرِ حَرَكَاتِ الزَّمَنِ إِلَى تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ قَطْعًا، وَأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قِيلَ: الْمَنُّ: الْقَطْعُ وَالنَّقْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَاثَرَ شِلْوَهُ ... غَبْسٌ كَوَاسِبٌ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا وَالْقَهْدُ: ضَرْبٌ مِنَ الضَّأْنِ تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ صَغِيرَةٌ آذَانُهُ، وَالْكَوَاسِبُ: الْوُحُوشُ، أَيْ: ذِئَابٌ أَوْ سِبَاعٌ لَا يَنْقَطِعُ طَعَامُهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنَنْتُ الْحَبْلَ إِذَا قَطَعْتَهُ. وَسَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهَا، فَقَالَ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ عَرَفَهُ أَخُو يَشْكُرَ، حَيْثُ يَقُولُ: فَتَرَى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْـ ... ـعِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَنِينُ: الْغُبَارُ ; لِأَنَّهَا تَقْطَعُهُ وَرَاءَهَا. وَقِيلَ: «غَيْرُ مَمْنُونٍ» أَيْ: غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِتَكْمُلَ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: «غَيْرُ مَمْنُونٍ» : أَيْ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ وَلَا مَنْقُوصٍ. وَذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَمْتَنَ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ مَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ إِلَّا بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَمَنِّهِ عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِقَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ «غَيْرُ مَحْسُوبٍ» عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [3 \ 37] ، وَخُصُوصُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [40 \ 40] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [78 \ 36] ، فَهُوَ بِمَعْنَى كَافِيًا مِنْ قَوْلِكَ: حَسْبِي: بِمَعْنَى كَافِينِي. وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مَقْصُودٌ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ قَوْلِ الْآخَرِينَ ; لِأَنَّ الْمَنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ مَا فِيهِ أَذًى وَتَنْقِيصٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى [2 \ 262] ، أَمَّا الْمَنُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، فَهُوَ عَيْنُ الْإِكْرَامِ وَالزُّلْفَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْبُرُوجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ الْبُرُوجُ: جَمْعُ بُرْجٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ هُنَا: هَلْ هِيَ الْمَنَازِلُ أَوِ الْكَوَاكِبُ، أَوْ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ عَلَيْهَا حُرَّاسُهَا؟ وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [15 \ 16] ، وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [25 \ 61] . وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَادَّةِ مِنَ الظُّهُورِ، وَمِنْهُ تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ، وَسَاقَ بَيَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ بُرُوجِ السَّمَاءِ وَعَدَدِ الْمَنَازِلِ الْمَذْكُورَةِ. وَبِمُنَاسَبَةِ ارْتِبَاطِ السُّوَرِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ مَآلَ الْفَرِيقَيْنِ وَتَطَايُرَ الصُّحُفِ فِي السُّورَةِ الْأُولَى، ذَكَرَ هُنَا عَمَلًا مِنْ أَشَدِّ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ الْأُخْدُودِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَقْوَى مِنْ هَذَا، هُوَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ سَابِقًا انْفِطَارَ السَّمَاءِ، وَتَنَاثُرَ النُّجُومِ، وَانْشِقَاقَ السَّمَاءِ، وَإِذْنَهَا لِرَبِّهَا وَحُقَّ لَهَا ذَلِكَ - جَاءَ هُنَا بَيَانُ كُنْهِ هَذِهِ السَّمَاءِ أَنَّهَا عَظِيمَةُ الْبِنْيَةِ بِأَبْرَاجِهَا الضَّخْمَةِ أَوْ بُرُوجِهَا الْكَبِيرَةِ، فَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَأْذَنُ لِرَبِّهَا وَتُطِيعُ، وَتَنْشَقُّ لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَنْفَطِرُ، فَأَوْلَى بِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ كَانُوا يُوعَدُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقٍّ الْمُؤْمِنِينَ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [21 \ 103] ، وَفِي حَقِّ الْكُفَّارِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [43 \ 83] ، وَسَيَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْثِ، حِينَمَا يَقُولُونَ: قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [36 \ 52] . فَالْيَوْمُ الْمَوْعُودُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْمَوْعُودُ بِهِ لِمُجَازَاتِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَمَلِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا مَنِ الشَّاهِدُ وَمَا الْمَشْهُودُ، وَقَدْ ذُكِرَ الشَّاهِدُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْحَاضِرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [2 \ 185] ، وَقَوْلِهِ: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [6 \ 73] . وَذُكِرَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى الْمُشَاهَدِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [11 \ 103] . فَالشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ قَدْ يَكُونَانِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، وَذُكِرَ الشَّاهِدُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَالْمَشْهُودُ مِنَ الْمَشْهُودِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [4 \ 41] . فَشَهِيدُ الْأُولَى: أَيُ شَهِيدٌ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي بُعِثَتْ فِيهَا، وَشَهِيدُ الثَّانِيَةِ: أَيْ شَاهِدٌ عَلَى الرُّسُلِ فِي أُمَمِهِمْ. وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا مُلَخَّصُهُ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَوِ النَّحْرِ، وَعَزَاهُ لِعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّاهِدُ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَزَاهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَالشَّاهِدُ: الْإِنْسَانُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَعَزَاهُ لِمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ. وَالشَّاهِدُ: هُوَ اللَّهُ، وَالْمَشْهُودُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَعَزَاهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ صَالِحٌ لِكُلِّ مَا يُقَالُ لَهُ مُشَاهَدٌ، وَيُقَالُ لَهُ مَشْهُودٌ، فَلَمْ يَفْصِلْ مَا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، أَوِ الشَّهَادَةِ، وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 وَقَدْ فَصَّلَ أَبُو حَيَّانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، فَالشَّاهِدُ الْإِنْسَانُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ كُلَّ مَنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا. وَقَالَ: كُلٌّ لَهُ مُتَمَسِّكٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ يَكْفِي عَنِ الْيَوْمِ الْمَشْهُودِ، بَلْ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَشْهَدُ فِيهِ، وَتُقَامُ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا سَيُعْرَضُ فِيهِ ; لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَلْقِ لَا لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَعْدَادُ الشُّهُودِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، مِمَّا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ. وَمُجْمَلُ ذَلِكَ أَنَّهَا تَكُونُ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَأَعَمَّ مِنَ الْعَامَّةِ، فَمِنَ الْخَاصَّةِ: شَهَادَةُ الْجَوَارِحِ عَلَى الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [41 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [36 \ 65] ، وَهَذِهِ شَهَادَةُ فِعْلٍ وَمَقَالٍ لَا شَهَادَةُ حَالٍ، كَمَا بَيَّنَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [41 \ 21 - 22] ، وَرَدَّ اللَّهُ زَعْمَهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [41 \ 23] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُ شَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ فِي سُورَةِ «يس» وَفِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [4 \ 42] ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْحَفَظَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [50 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [50 \ 21] ، ثُمَّ شَهَادَةُ الرُّسُلِ كُلُّ رَسُولٍ عَلَى أُمَّتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ -: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [5 \ 117] ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْحَيَاةِ فَسَيُؤَدِّيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَقَوْلِهِ فِي عُمُومِ الْأُمَمِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [16 \ 89] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 وَمِنْهَا: شَهَادَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [4 \ 41] . وَمِنْهَا: شَهَادَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [2 \ 143] . وَمِنْهَا: شَهَادَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [2 \ 143] . وَمِنْهَا: شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْجَمِيعِ. وَهَذَا مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ ذِكْرِ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَمُجَازَاةِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا: وَسَيَأْتِي فِي نَفْسِ السِّيَاقِ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [85 \ 9] ، وَهُوَ كَمَا تَرَى لَا يَتَقَيَّدُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَأَيْضًا لَا يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ وَتَعَدُّدِهِمْ بِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَتَعَدُّدِهِ، مِنْ فَرْدٍ إِلَى أُمَّةٍ إِلَى رُسُلٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمَعْنَى وَوَاقِعَةٌ بِالْفِعْلِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ أَقْوَالٌ أُخْرَى، وَلَكِنْ لَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْهَا: الشَّاهِدُ الْمَخْلُوقَاتُ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِيرَادًا فِي ذَلِكَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ ; حَيْثُ سَاقَهَا كُلَّهَا بِأَدِلَّتِهَا إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ فَلَمْ يُورِدْهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ تَعْيِينُ الشَّهَادَاتِ لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ. مِنْهَا الشَّهَادَةُ لِلْمُؤَذِّنِ: «مَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ وَلَا مَدَرٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 وَمِنْهَا: شَهَادَةُ الْأَرْضِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَا عَمِلَ عَلَيْهَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [99 \ 4] . وَمِنْهَا: شَهَادَةُ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَ أَنْفَقَهُ. وَمِنْهَا: شَهَادَةُ الصِّيَامِ وَالْقُرْآنِ وَشَفَاعَتُهُمَا لِصَاحِبِهِمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. تَنْبِيهٌ فِي هَذَا الْعَرْضِ إِشْعَارٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ وَكَمَالِ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ إِذَا كَانَ رَبُّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَمُوَكِّلٌ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ وَلَا بِمَا سَجَّلَتْهُ مَلَائِكَتُهُ، وَيَسْتَنْطِقُ أَعْضَاءَهُمْ، وَيَسْتَشْهِدُ الرُّسُلَ عَلَى الْأُمَمِ وَالرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الرُّسُلِ، أَيْ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوا أُمَمَهُمْ رِسَالَاتِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَلِأَنْ لَا يَقْضِيَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ: «إِنَّكُمْ تَحْتَكِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَقْضِي لَكُمْ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنِ اقْتَطَعْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» . الْحَدِيثَ. أَيْ: كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَلَا سِيَّمَا فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِعَيْنِهَا، إِذْ قَالُوا فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ مَعَالِمُهَا وَلَا بَيِّنَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا فَمَنْ بِالْوَحْيِ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ فِي الْقَضَاءِ؟ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فَعِيلَةٌ مِنَ الْبَيَانِ، فَتَشْمَلُ كُلَّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنْ شَهَادَةٍ وَقَرِينَةٍ، كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مِنَ الْقَرَائِنِ مَعَ إِخْوَتِهِ وَمَعَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ. إِلَخْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَجَوَابُ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، قِيلَ: مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوُهُ، وَقِيلَ: مَذْكُورٌ، فَقِيلَ: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ» [85 \ 10] وَنَحْوُهُ، وَقِيلَ: «قُتِلَ» ، وَهَذَا نَخْتَارُهُ، وَحُذِفَتِ اللَّامُ - أَيْ لَقُتِلَ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 وَحَسُنَ حَذْفُهَا كَمَا حَسُنَ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [91 \ 1] ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [91 \ 9] ، أَيْ: لَقَدْ أَفْلَحَ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ دَلِيلًا عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَتَنْبِيهًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ ; لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. وَإِذَا كَانَ «قُتِلَ» هِيَ الْجَوَابَ فَهِيَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ غَيْرَهَا فَهِيَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ، دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَقُرِئَ: «قُتِّلَ» بِالتَّشْدِيدِ، قَرَأَهَا الْحَسَنُ وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ. اهـ. وَالْأُخْدُودُ: جَمْعُ خَدٍّ، وَهُوَ الشَّقُّ فِي الْأَرْضِ طَوِيلًا. وَقَوْلُهُ: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، الْوَقُودُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ، وَالْقِرَاءَةُ بِالْفَتْحِ كَالسَّحُورِ، وَالْوَضُوءِ. فَبِالْفَتْحِ: مَا تُوقِدُ بِهِ كَصَبُورٍ وَالْمَاءُ الْمُتَوَضَّأُ بِهِ، وَالطَّعَامُ الْمُتَسَحَّرُ بِهِ. وَبِالضَّمِّ: الْمَصْدَرُ وَالْفِعْلُ، وَالْوُقُودُ بِالضَّمِّ: مَا تُوقِدُ بِهِ. ذَكَرَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، وَ «النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ» : بَدَلٌ مِنَ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ فِي مَعْنَاهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَيَّانَ: كَسَلْتُ عَنْ نَقْلِهَا. وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ ثَلَاثَةً مِنْهَا. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ ابْنِ كَثِيرٍ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مَلِكٌ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ السَّاحِرُ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرَ سِنِّي، وَحَضَرَ أَجَلِي، فَادْفَعْ إِلَيَّ غُلَامًا لِأُعَلِّمَهُ السِّحْرَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا كَانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَكَانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَالْمَلِكِ رَاهِبٌ، فَأَتَى الْغُلَامُ الرَّاهِبَ، فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، وَقَالَ مَا حَبَسَكَ؟ وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ ضَرَبُوهُ وَقَالُوا: مَا حَبَسَكَ؟ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ ضَرْبَكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِيَ السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ فَظِيعَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرَ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرَ السَّاحِرِ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ، وَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ فَأَخْبَرَ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 تَدُلَّ عَلَيَّ، فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَسَائِرَ الْأَدْوَاءِ وَيَشْفِيهِمْ، وَكَانَ لِلْمَلِكِ جَلِيسٌ أَعْمَى فَسَمِعَ بِهِ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: اشْفِنِي. فَقَالَ: مَا أَنَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ، فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ، ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا فُلَانُ، مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ فَقَالَ: رَبِّي، فَقَالَ: أَنَا. قَالَ: لَا، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الْغُلَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - قَالَ: أَنَا. قَالَ: لَا، قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَأُوتِيَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ لِلْأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِهِ أَيْضًا، وَقَالَ لِلْغُلَامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَدَهْدِهُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَلَمَّا عَلَوْا بِهِ الْجَبَلَ، قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَبَعَثَ بِهِ نَفَرًا إِلَى الْبَحْرِ فِي قُرْقُورٍ، فَقَالَ: إِذَا لَجَجْتُمْ بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَأَغْرِقُوهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَغَرِقُوا هُمْ، وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، وَتَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَفَعَلَ، وَوَضَعَ السَّهْمَ فِي قَوْسِهِ وَرَمَاهُ بِهِ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِ الْغُلَامِ، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، فَقَدْ وَاللَّهِ وَقَعَ بِكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ فِيهَا الْأَخَادِيدُ، وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعُوهُ وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، قَالَ: فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ وَيَتَدَافَعُونَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اصْبِرِي يَا أُمَّاهُ ; فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْغُلَامَ دُفِنَ فَوُجِدَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَيَدُهُ عَلَى صُدْغِهِ، كُلَّمَا رُفِعَتْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ جُرْحِهِ، وَإِذَا تُرِكَتْ أُعِيدَتْ عَلَى الْجُرْحِ» . وَقَدْ سُقْنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَمْثَلِ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِمَا فِيهَا مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 الْعِبَرِ، وَالَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهَا بَعْضُ الْأَحْكَامِ، حَيْثُ إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ، عَزَاهَا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمُسْلِمٍ، أَيْ لِصِحَّةِ سَنَدِهَا مَرْفُوعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ الْآتِي: الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّحْرَ بِالتَّعَلُّمِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ. الثَّانِي: إِمْكَانُ اجْتِمَاعِ الْخَيْرِ مَعَ الشَّرِّ، إِذَا كَانَ الشَّخْصُ جَاهِلًا بِحَالِ الشَّرِّ، كَاجْتِمَاعِ الْإِيمَانِ مَعَ الرَّاهِبِ مَعَ تَعَلُّمِ السِّحْرِ مِنَ السَّاحِرِ. ثَالِثًا: إِجْرَاءُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى أَيْدِي دُعَاةِ الْخَيْرِ، لِبَيَانِ الْحَقِّ، وَالتَّثْبِيتِ فِي الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ الْغُلَامُ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرَ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرَ السَّاحِرِ؟ الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ أَمْيَلَ بِقَلْبِهِ إِلَى أَمْرِ الرَّاهِبِ، إِذْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ، فَسَأَلَ عَنْ أَمْرِ الرَّاهِبِ وَلَمْ يَسَلْ عَنْ أَمْرِ السَّاحِرِ؟ الْخَامِسُ: اعْتِرَافُ الْعَالِمِ بِالْفَضْلِ لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَاعْتِرَافِ الرَّاهِبِ لِلْغُلَامِ. السَّادِسُ: ابْتِلَاءُ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ وَوُجُوبُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَفَاوُتُ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ. السَّابِعُ: إِسْنَادُ الْفِعْلِ كُلِّهِ لِلَّهِ، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ. الثَّامِنُ: رَفْضُ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ الْأَجْرَ عَلَى عَمَلِهِ وَهِدَايَتِهِ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ [6 \ 90] . التَّاسِعُ: بَيَانُ رُكْنٍ أَصِيلٍ فِي قَضِيَّةِ التَّوَسُّلِ، وَهُوَ أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ الدُّعَاءِ وَسُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى. الْعَاشِرُ: غَبَاوَةُ الْمَلِكِ الْمُشْرِكِ الْمُغْلَقِ قَلْبُهُ بِظَلَامِ الشِّرْكِ، حَيْثُ ظَنَّ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ الَّذِي شَفَى جَلِيسَهُ. وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ لَهُ شَيْئًا، وَكَيْفَ يَكُونُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ؟ الْحَادِيَ عَشَرَ: اللُّجُوءُ إِلَى الْعُنْفِ وَالْبَطْشِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِقْنَاعِ وَالْإِفْهَامِ أُسْلُوبُ الْجَهَلَةِ وَالْجَبَابِرَةِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: مُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ فِي نَشْرِ الْإِنْسَانِ، بِدُونِ هَوَادَةٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 الثَّالِثَ عَشَرَ: مُنْتَهَى الصَّبْرِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنِ الدِّينِ، وَهَكَذَا كَانَ فِي الْأُمَمِ الْأُولَى، وَبَيَانُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِذْ جَازَ لَهَا التَّلَفُّظُ بِمَا يُخَالِفُ عَقِيدَتَهَا وَقَلْبُهَا مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْكُفْرِ بِالْإِهْلَاكِ الْعَظِيمِ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا خُوِّفَ مِنْهُ، وَأَنَّ إِظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ كَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَتَرَكَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَا، بَلْ أَنْتَ كَذَّابٌ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا الَّذِي تَرَكَ فَأَخَذَ بِالرُّخْصَةِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِي قُتِلَ فَأَخَذَ بِالْأَفْضَلِ فَهَنِيئًا لَهُ» . وَتَقَدَّمَ بَحْثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -. الرَّابِعَ عَشَرَ: إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْغُلَامِ وَنُصْرَةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: التَّضْحِيَةُ بِالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ نَشْرِ الدَّعْوَةِ، حَيْثُ دَلَّ الْغُلَامُ الْمَلِكَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْغُلَامُ بِهَا مِنْ إِقْنَاعِ النَّاسِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَلَوْ كَانَ الْوُصُولُ لِذَلِكَ عَلَى حَيَاتِهِ هُوَ. السَّادِسَ عَشَرَ: إِبْقَاءُ جِسْمِهِ حَتَّى زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِكْرَامًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالدُّعَاةِ مِنْ أَنْ تَأْكُلَ الْأَرْضُ أَجْسَامَهُمْ. السَّابِعَ عَشَرَ: إِثْبَاتُ دَلَالَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ لِوُجُودِ الدَّمِ وَعَوْدَةِ الْيَدِ مَكَانَهَا بِحَرَكَةٍ مَقْصُودَةٍ. التَّاسِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ تِلْكَ الْقِصَّةِ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ حُدِّثُوا بِهَا تَخْوِيفًا مِنْ عَوَاقِبِ أَفْعَالِهِمْ بِضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا هُوَ مُوَضَّحٌ فِي تَمَامِ الْقِصَّةِ. الْعِشْرُونَ: نُطْقُ الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ بِالْحَقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ. الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: هُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قُعُودٌ، ذُكِرَ فِيهِمَا خِلَافٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 فَقِيلَ: رَاجِعَانِ إِلَى مَنْ أُحْرِقُوا وَأُقْعِدُوا عَلَيْهَا. وَقِيلَ: رَاجِعَانِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَعَلَيْهِ فَفِي قَوْلِهِ: «عَلَيْهَا قُعُودٌ» إِشْكَالٌ، وَهُوَ: كَيْفَ يَتَمَكَّنُ لَهُمُ الْقُعُودُ عَلَى النَّارِ. فَقِيلَ: إِنَّهَا رَجَعَتْ عَلَيْهِمْ فَأَحْرَقَتْهُمْ، فَقُعُودُهُمْ عَلَيْهَا حَقِيقَةٌ. وَقِيلَ: قُعُودٌ عَلَى حَافَّتِهَا، كَمَا تَقُولُ: قُعُودٌ عَلَى النَّهْرِ، أَوْ عَلَى الْبِئْرِ، أَوْ عَلَى حَافَّتِهِ وَحَوْلِهِ، كَمَا يُقَالُ: نَزَلَ فُلَانٌ عَلَى مَاءِ كَذَا، أَيْ: عِنْدَهُ. وَأَنْشَدَ أَبُو حَيَّانَ بَيْتَ الْأَعْشَى: تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا ... وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي: فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [85 \ 10] فَقَالَ: الْحَرِيقُ فِي الدُّنْيَا، وَجَهَنَّمُ فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الضَّمَائِرَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْرَقُوهُمْ، وَهِيَ قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [85 \ 10] حَيْثُ رَتَّبَ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ عَلَى عَدَمِ التَّوْبَةِ، وَجَاءَ بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلتَّرَاخِي، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ تَحْرِقْهُمْ نَارُهُمُ انْتِقَامًا مِنْهُمْ حَالًا، بَلْ أُمْهِلُوا لِيَتُوبُوا مِنْ فِعْلَتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَإِلَّا فَلَهُمُ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآخِرَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ بِمَعْنَى حُضُورٌ، يَتَّفِقُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [85 \ 6] ، أَيْ: حُضُورٌ يُشَاهِدُونَ إِحْرَاقَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي التَّبْكِيتِ بِهِمْ، إِذْ يَرَوْنَ هَذَا الْمَظْهَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَلَمْ يُشْفِقُوا بِهِمْ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِثَبَاتِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هَذَا مَا يُسَمَّى أُسْلُوبُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَنَظِيرُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ قَوْلَ الشَّاعِرِ - وَهُوَ قَيْسُ الرُّقَيَّاتِ -: مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا وَقَوْلَ الْآخَرِ: وَلَا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شُكْلَةِ عَيْنِهَا ... كَذَاكَ عِنَاقُ الطَّيْرِ شُكْلًا عُيُونُهَا يُقَالُ عَيْنٌ شَكْلَاءُ: إِذَا كَانَ فِي بَيَاضِهَا حُمْرَةٌ قَلِيلَةٌ يَسِيرَةٌ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ نِقْمَتَهُمْ عَلَيْهِمْ لِلْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، لَا عَلَى الْمَاضِي إِلَّا أَنْ آمَنُوا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تَرْجِعُوا عَنْ دِينِكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُلْقَوْا فِي النَّارِ، وَلَمْ يَحْرِقُوهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمُ السَّابِقِ، بَلْ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَالْإِتْيَانُ هُنَا بِصِفَتَيِ اللَّهِ تَعَالَى: «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى نُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالِانْتِقَامِ مِنَ الْكَافِرِينَ، إِذِ الْعَزِيزُ هُوَ الْغَالِبُ، كَمَا يَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَلَكِنْ جَاءَ وَصْفُهُ بِالْحَمِيدِ ; لِيُشْعِرَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ آمَنُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً، رَغْبَةً فِي الْحَمِيدِ عَلَى مَا يَأْتِي: «الْغَفُورُ الْوَدُودُ» [85 \ 14] ، وَرَهْبَةً مِنَ الْعَزِيزِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، [85 \ 12] وَهَذَا كَمَالُ الْإِيمَانِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَأَحْسَنُ حَالَاتِ الْمُؤْمِنِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: حَتَّى لَا يَيْأَسَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [85 \ 10] ; إِذْ أَعْطَاهُمُ الْمُهْلَةَ مِنْ آثَارِ صِفَتِهِ الْحَمِيدِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، إِذْ لَا يَخْرُجُ عَنْ سُلْطَانِهِ أَحَدٌ، فَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ رَبْطٌ بِأَوَّلِ السُّورَةِ: «وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» [85 \ 3] ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ فِعْلُ أُولَئِكَ، وَفِيهِ شِدَّةُ تَخْوِيفِ أُولَئِكَ وَتَحْذِيرُهُمْ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، بِأَنَّ اللَّهَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ فَلَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَقَدْ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي شَهِيدٍ ; لِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ هَذَا الْمَقَامِ، كَمَا فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْفِعْلِ، كَمَا كَانُوا قُعُودًا عَلَى النَّارِ وَشُهُودًا عَلَى إِحْرَاقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سَيُعَامِلُهُمْ بِالْمِثْلِ، إِذْ يَحْرِقُهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَ «فَتَنُوا» بِمَعْنَى أَحْرَقُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ عَنْهُ بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ وَالتَّعْذِيبِ. وَقَدْ رَجَّحَ الْأَخِيرَ أَبُو حَيَّانَ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى ; لِيَشْمَلَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَتَوْجِيهِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا أَوْقَعُوهُ بِضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: كَعَمَّارٍ، وَبِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْعُمُومَ الْعُمُومُ الْآخَرُ الَّذِي يُقَابِلُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [85 \ 11] فَهَذَا عَامٌّ بِلَا خِلَافٍ فِي كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فِي مَقَامِ الْمَنْطُوقِ بِالْمَفْهُومِ مِنَ «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» ، كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ قِيلَ: يُبْدِئُ الْخَلْقَ وَيُعِيدُهُ، كَالزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ وَالْإِنْسَانِ، بِالْمَوْلِدِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ بِالْبَعْثِ. وَقِيلَ: يَبْدَأُ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ وَيُعِيدُهُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [4 \ 56] . وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهَا أَوْفَرَ مَا تَكُونُ سِمَنًا، فَتَطَؤُهُ بِخِفَافِهَا، فَتَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا أُعِيدَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ فَيَرَى مَصِيرَهُ إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فِي صَاحِبِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالذَّهَبِ. وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - هُوَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [10 \ 4] . وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [10 \ 34] . وَجَعَلَهُ آيَةً عَلَى قُدْرَتِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى عَجْزِ وَنَقْصِ الشُّرَكَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَعْدَ عَرْضِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ ; تَسْلِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَثْبِيتًا لَهُمْ، وَزَجْرًا لِلْمُشْرِكِينَ وَرَدْعًا لَهُمْ، جَاءَ بِأَخْبَارٍ لِبَعْضِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْأُمَمِ وَفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ، وَهُمْ جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُمُ الْكَثْرَةُ وَأَصْحَابُ الْقُوَّةِ، وَحَدِيثُهُ مَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفِي اخْتِيَارِ فِرْعَوْنَ هُنَا بَعْدَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ ; لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ، إِذْ فِرْعَوْنُ طَغَى وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، كَمَلِكِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الَّذِي قَالَ لِجَلِيسِهِ: أَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ وَلِتَعْذِيبِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَقْتِيلِ الْأَوْلَادِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، وَلِتَقْدِيمِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِ الدَّاعِيَةِ، إِذْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدَّمَ لِفِرْعَوْنَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فَكَذَّبَ وَعَصَى، وَالْغُلَامُ قَدَّمَ لِهَذَا الْمَلِكِ الْآيَاتِ الْكُبْرَى: إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَجَزَ فِرْعَوْنُ عَنْ مُوسَى وَإِدْرَاكِهِ، وَعَجَزَ الْمَلِكُ عَنْ قَتْلِ الْغُلَامِ ; إِذْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ الْإِغْرَاقِ وَالدَّهْدَهَةِ مِنْ قِمَّةِ الْجَبَلِ، فَكَانَ لِهَذَا أَنْ يَرْعَوِيَ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَفَطَّنَ لِلْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّ سُلْطَانَهُ أَعْمَاهُ كَمَا أَعْمَى فِرْعَوْنَ. وَكَذَلِكَ آمَنَ السَّحَرَةُ ; لَمَّا رَأَوْا آيَةَ مُوسَى، وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا. وَهَكَذَا هُنَا آمَنَ النَّاسُ بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَوَقَعَ الْمَلِكُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ فِرْعَوْنُ، إِذْ جَمَعَ فِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ ; لِيَشْهَدَ النَّاسُ عَجْزَ مُوسَى وَقُدْرَتَهُ، فَانْقَلَبَ الْمَوْقِفُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 النَّاسِ إِيمَانًا هُمْ أَعْوَانُ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى، وَهَكَذَا هُنَا كَانَ أَسْرَعُ النَّاسِ إِيمَانًا الَّذِي جَمَعَهُمُ الْمَلِكُ لِيَشْهَدُوا قَتْلَهُ لِلْغُلَامِ. فَظَهَرَ تَنَاسُبُ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَمِ الطَّاغِيَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكُلِّ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا مُنْتَهَى الْإِعْجَازِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ ثَمُودُ، لِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ مَظَاهِرِ الْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَدْ جَمَعَهَا اللَّهُ أَيْضًا مَعًا فِي سُورَةِ «الْفَجْرِ» فِي قَوْلِهِ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [89 \ 9 - 10] ، وَهَكَذَا جَمَعَهَا هُنَا «فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أَيْ: مُسْتَمِرٍّ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الِانْشِقَاقِ» قَبْلَهَا: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [84 \ 22] . فَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَحْمُودُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ نَصْرٍ تَاجُ الْقُرَّاءِ، فِي كِتَابِهِ «أَسْرَارُ التَّكْرَارِ فِي الْقُرْآنِ» : إِنَّ الْمُغَايِرَةَ لِمُرَاعَاةِ رُءُوسِ الْآيِ وَالْفَوَاصِلِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ السِّيَاقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُرَاعَاةُ السِّيَاقِ لَا فَوَاصِلُ الْآيِ ; لِأَنَّ فِي سُورَةِ «الِانْشِقَاقِ» الْحَدِيثَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [84 \ 19 - 22] . وَفِي سُورَةِ «الْبُرُوجِ» هُنَا ذَكَرَ الْأُمَمَ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَثَمُودَ، وَأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [85 \ 19] فَنَاسِبَ هَذَا هُنَا، وَنَاسَبَ ذَاكَ هُنَاكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الطَّارِقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ أَصْلُ الطَّرْقِ فِي اللُّغَةِ: الدَّقُّ، وَمِنْهُ الْمِطْرَقَةُ ; وَلِذَا قَالُوا لِلْآتِي لَيْلًا: طَارِقٌ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى طَرْقِ الْبَابِ. وَعَلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٌ ... فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ أَيْ جِئْتُهَا لَيْلًا، وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ وَقَوْلُ جَرِيرٍ: طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا ... وَقْتِ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحِمَنُ» ، فَهُوَ لَفْظٌ عَمَّ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي شَيْئُهُ الْمُفَاجِئِ، وَلَكَأَنَّهُ يَأْتِي فِي حَالَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ، وَلَكِنَّهُ هُنَا خُصَّ بِمَا فُسِّرَ بِهِ بَعْدَهُ فِي: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ فَقِيلَ: مَا يَثْقُبُ الشَّيَاطِينَ عِنْدَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [72 \ 9] فَيَكُونُ عَامًّا فِي كُلِّ نَجْمٍ. وَقِيلَ: خَاصٌّ، فَقِيلَ: زُحَلُ، وَقِيلَ: الْمَرِّيخُ، وَقِيلَ: الثُّرَيَّا ; لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ النَّجْمُ عِنْدَ الْعَرَبِ كَانَ مُرَادًا بِهِ الثُّرَيَّا. وَتَقَدَّمَ هَذَا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّجْمِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 وَقِيلَ: «الثَّاقِبُ» : الْمُضِيءُ، يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ لِلْجِنْسِ عَامَّةً ; لِأَنَّ النُّجُومَ كُلَّهَا مُضِيئَةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ سُفْيَانُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ، «وَمَا أَدْرَاكَ» فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَالَ فِيهِ: «وَمَا يُدْرِيكَ» ، لَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ الْغَالِبُ، فَقَدْ جَاءَتْ: «وَمَا أَدْرَاكَ» ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، كُلُّهَا أَخْبَرَهُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ فِي الْحَاقَّةِ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [69 \ 3] ، وَمَا عَدَاهَا، فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهَا، وَهِيَ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ [74 \ 27 - 28] . وَفِي «الْمُرْسَلَاتِ» : وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ [77 \ 14] . وَفِي «الِانْفِطَارِ» : وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [82 \ 17 - 19] . وَفِي «الْمُطَفِّفِينَ» : وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ [83 \ 8 - 9] . وَفِي «الْبَلَدِ» : وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ [90 \ 12 - 13] . وَفِي «الْقَدْرِ» : وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [97 \ 2 - 3] . وَفِي «الْقَارِعَةِ» : وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [101 \ 3] . وَأَيْضًا: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [101 \ 9 - 11] ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ، فَكُلُّهَا أَخْبَرَهُ عَنْهَا إِلَّا فِي «الْحَاقَّةِ» . تَنْبِيهٌ. يُلَاحَظُ أَنَّهَا كُلُّهَا فِي قِصَارِ السُّوَرِ مِنَ «الْحَاقَّةِ» وَمَا بَعْدَهَا، أَمَّا «مَا يُدْرِيكَ» ، فَقَدْ جَاءَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَطْ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [33 \ 63] ، فِي «الْأَحْزَابِ» : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [42 \ 17] ، فِي «الشُّورَى» ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [80 \ 3] فِي «عَبَسَ وَتَوَلَّى» ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ فِيهَا صَرَاحَةً، إِلَّا أَنَّهُ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 الثَّالِثَةِ قَدْ يَكُونُ أَخْبَرَهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ: هَلْ هُوَ تَزَكَّى أَمْ لَا؟ إِلَّا أَنَّ لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّحْقِيقِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. تَنْبِيهٌ آخَرُ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالسَّمَاءِ، وَبِالنَّجْمِ الطَّارِقِ ; لِعَظَمِ أَمَرِهِمَا، وَكِبَرِ خَلْقِهِمَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [56 \ 75 - 76] ; وَلِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. وَفِيمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - تَرْجِيحُ كَوْنِ مَوَاقِعِ النُّجُومِ: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [53 \ 1] : إِنَّمَا هُوَ نُجُومُ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِيلُهُ مُنَجَّمًا وَهُوَ بِهِ نُزُولُ الْمَلِكِ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ قِيلَ: «حَافِظٌ» لِأَعْمَالِهِ يُحْصِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18] . وَقِيلَ: «حَافِظٌ» أَيْ: حَارِسٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [13 \ 11] ، وَالسِّيَاقُ يَشْهَدُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَعًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [86 \ 5 - 7] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْمَرَاحِلِ فِي حِفْظٍ، فَهُوَ أَوَّلًا: «فِي قَرَارٍ مَكِينٍ» [23 \ 13] . وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا» . الْحَدِيثَ. وَبَعْدَ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّكْلِيفِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ لَهُ مُتَعَلِّقٌ يَخْتَصُّ بِزَمَنٍ خِلَافِ الْآخَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ «الْإِنْسَانُ» هُنَا خَاصٌّ بِبَنِي آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ عَامَّةً، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ آدَمُ وَلَا حَوَّاءُ وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّهُ بَيَّنَ مَا خُلِقَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [16 \ 4] ، فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، وَفِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 58 - 59] ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [76 \ 2] ، فِي سُورَةِ «الدَّهْرِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، «إِنَّهُ» هُنَا أَيْ: إِنَّ اللَّهَ «عَلَى رَجْعِهِ» ، الضَّمِيرُ فِيهِ قِيلَ: رَاجِعٌ لِلْمَاءِ الدَّافِقِ، أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى رَجْعِ هَذَا الْمَاءِ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ، كَرَدِّ اللَّبَنِ إِلَى الضَّرْعِ مَثَلًا، وَرَدِّ الطِّفْلِ إِلَى الرَّحِمِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: عَلَى رَجْعِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَّلِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الثَّانِي ; لِعِدَّةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَدَ الْمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ وَلَا أَمْرٌ آخَرُ سِوَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ، بِخِلَافِ رَجْعِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ قَضِيَّةُ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ. وَيَتَعَلَّقُ بِهِ كُلُّ أَحْكَامِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الثَّانِي: مَجِيءُ الْقُرْآنِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «يس» : وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 78 - 79] ، أَيْ: «مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ» . الثَّالِثُ: أَنِ الْأَوَّلَ يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ لِـ «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ» ، نَحْوُ اذْكُرْ مَثَلًا، بِخِلَافِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ: هُوَ «لَقَادِرٌ» ، أَيْ: لَقَادِرٌ عَلَى رَجْعِهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ. وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ: وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِنَّمَا فَرَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ: «لَقَادِرٌ» هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ ; لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى رَجْعِهِ مُقَيَّدَةٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ بِتَأَمُّلِ أُسْلُوبِ الْعَرَبِ يُعْلَمُ جَوَازُهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَخَصَّصَ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْوَقْتَ الْأَهَمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 عَلَى الْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ الْجَزَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْعَذَابِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ. اهـ. فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي «رَجْعِهِ» عَائِدٌ لِلْإِنْسَانِ، أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْبَعْثِ، وَأَنَّ الْعَامِلَ هُوَ: «لَقَادِرٌ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [10 \ 30] ، وَسَاقَ عِنْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي سُورَةِ «الْعَادِيَاتِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [100 \ 9 - 10] . وَقَدْ أَجْمَلَ ابْتِلَاءَ السَّرَائِرِ. وَكَذَلِكَ أَجْمَلَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بِإِيرَادِ الْآيَاتِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَمَانَةُ التَّكْلِيفِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ: بِالْحِفَاظِ عَلَى الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَحِفْظِ الصَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ الْعَقَائِدُ وَصِدْقُ الْإِيمَانِ أَوِ النِّفَاقُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ. وَالسَّرَائِرُ: هِيَ كُلُّ مَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ حَتَّى فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَ النَّاسِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ: «الْكَيِّسُ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَبِيئَةُ سِرٍّ» ، وَقَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [67 \ 13] ، فَالسِّرُّ ضِدُّ الْجَهْرِ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ: سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا ... سَرِيرَةُ وُدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: سَمِعَهُ الْحَسَنُ، فَقَالَ: مَا أَغْفَلَهُ عَمَّا فِي السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ قَالُوا: لَيْسَ مِنْ قُوَّةٍ فِي نَفْسِهِ لِضَعْفِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [18 \ 48] . وَقَوْلُهُ: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [68 \ 43] ، أَيْ: مِنَ الضَّعْفِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا نَاصِرَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا [18 \ 43] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 وَقَوْلُهُ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [82 \ 19] . . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ قِيلَ: رَجْعُ السَّمَاءِ: إِعَادَةُ ضَوْءِ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقِيلَ: " الرَّجْعُ ": الْمَلَائِكَةُ تَرْجِعُ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَقِيلَ: " الرَّجْعُ ": الْمَطَرُ وَأَرْزَاقُ الْعِبَادِ. " وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ " قِيلَ: تَنْشَقُّ عَنِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: تَنْشَقُّ بِالنَّبَاتِ. وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ الرَّجْعَ وَالصَّدْعَ مُتَقَابِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا " [80 \ 24 - 28] . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: حُكْمٌ عَدْلٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ أَيِ الْقُرْآنُ، يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [86 \ 8 - 9] . وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ بِمَا قَالَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ أَوَّلًا، ثُمَّ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الثَّانِي، أَيْ: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ رَجْعِ الْإِنْسَانِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، قَوْلٌ فَصْلٌ، وَهَذَا مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَعَزَاهُ النَّيْسَابُورِيُّ إِلَى الْقَفَّالِ. وَسِيَاقُ السُّورَةِ يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي ; لِأَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَإِعَادَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، حَيْثُ تَضَمَّنَتْ ثَلَاثَةَ أَدِلَّةٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ: الْأَوَّلُ: السَّمَاءُ ذَاتُ الطَّارِقِ ; لِعِظَمِ خِلْقَتِهَا، وَعِظَمِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْقُدْرَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 الثَّانِي: خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] . الثَّالِثُ: مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ، أَيْ: إِنْزَالُ الْمَطَرِ، وَإِنْبَاتُ النَّبَاتِ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْسَامُ عَلَى تَحَقُّقِ الْبَعْثِ. وَأَكَّدَ هَذَا مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِالْإِمْهَالِ رُوَيْدًا، وَقَدْ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِيَوْمِ الْفَصْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 12 - 15] . وَذِكْرُ الْوَيْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ، يُعَادِلُ الْإِمْهَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِلْكَافِرِينَ، وَإِذَا رَبَطْنَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، لَكَانَ أَظْهَرَ وَأَوْضَحَ ; لِأَنَّ رَجْعَ الْمَاءِ بَعْدَ فَنَائِهِ بِتَلْقِيحِ السَّحَابِ مِنْ جَدِيدٍ، يُعَادِلُ رَجْعَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ فِي الْأَرْضِ، وَتَشَقُّقُ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ يُنَاسِبُ تَشَقُّقَهَا يَوْمَ الْبَعْثِ عَنِ الْخَلَائِقِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا نِسْبَةُ هَذَا الْفِعْلِ لَهُ تَعَالَى، قَالُوا إِنَّهُ: مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [3 \ 54] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [2 \ 14 - 15] ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَيِّ الطَّعَامِ يُرِيدُ، وَهُوَ عَارٍ يُرِيدُ كُسْوَةً: قَالُوا اخْتَرْ طَعَامًا نَجِدْ لَكَ طَبْخَةً ... قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا وَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ، أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ فِعْلِ الْعِبَادِ ; لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُقَابَلَةِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَفِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْكَيْدُ أَصْلُهُ الْمُعَاجَلَةُ لِلشَّيْءِ بِقُوَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ: وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ الْكَيْدَ عَلَى الْمَكْرِ، وَالْعَرَبُ قَدْ يُسَمُّونَ الْمَكْرَ كَيْدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا [52 \ 42] ، وَعَلَيْهِ فَالْكَيْدُ هُنَا لَمْ يُبَيَّنْ، فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَكْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 بَيَانُ شَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [3 \ 54] ; بِأَنَّ مَكْرَهُمْ مُحَاوَلَتُهُمْ قَتْلَ عِيسَى، وَمَكْرُ اللَّهِ إِلْقَاءُ الشَّبَهِ، أَيْ: شَبَّهَ عِيسَى عَلَى غَيْرِ عِيسَى. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [16 \ 26] ، وَهَذَا فِي قِصَّةِ النُّمْرُودِ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ بُنْيَانَ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَكَانَ مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ تَرَكَهُمْ حَتَّى تَصَاعَدُوا بِالْبِنَاءِ، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَهَدَمَهُ عَلَيْهِمْ. وَهَكَذَا الْكَيْدُ هُنَا، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَاللَّهِ يَكِيدُ لَهُمْ بِالِاسْتِدْرَاجِ حَتَّى يَأْتِيَ مَوْعِدُ إِهْلَاكِهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ تَحْقِيقُهُ فِي بَدْرٍ ; إِذْ خَرَجُوا مُحَادَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَفِي خُيَلَائِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ، وَكَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ: أَنْ قَلَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى طَمِعُوا فِي الْقِتَالِ، وَأَمْطَرَ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ، وَهُمْ فِي أَرْضٍ سَبْخَةٍ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَرْضٍ رَمْلِيَّةٍ فَكَانَ زَلَقًا عَلَيْهِمْ وَثَبَاتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ مَلَائِكَتَهُ لِقِتَالِهِمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ مَا نَصُّهُ: هَذَا الْإِمْهَالُ الْمَذْكُورُ هُنَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الْآيَةَ [9 \ 5] . وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِمْهَالَ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ. اهـ. وَهَذَا مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الطَّبَرِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْقُرْطُبِيِّ. وَلَعَلَّ فِي نَفْسِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ; لِأَنَّ «رُوَيْدًا» : بِمَعْنَى قَلِيلًا، فَقَدْ قَيَّدَ الْإِمْهَالَ بِالْقِلَّةِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِمَجِيءِ النَّسْخِ وَأَنَّهُ لَيْسَ نِهَائِيًّا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الْأَعْلَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ، وَهُوَ التَّنْزِيهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ، وَالْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا مُنْصَبٌّ عَلَى اسْمِ رَبِّكَ، وَفِي آيَاتٍ أُخَرَ جَاءَ الْأَمْرُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [76 \ 26] . وَمِثْلِ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [30 \ 17] . وَتَسْبِيحُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [37 \ 180] ، فَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلِ الْمُرَادُ تَسْبِيحُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوِ الْمُرَادُ تَسْبِيحُ اسْمِهِ تَعَالَى، كَمَا هُوَ هُنَا؟ ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِتَسْبِيحِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاءَتْ مَسْأَلَةُ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [56 \ 96] ، قَوْلُهُ: إِنَّ الْبَاءَ هُنَاكَ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ كَدُخُولِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [19 \ 25] ، وَأَحَالَ عَلَى مُتَقَدِّمٍ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى كَلَامَ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ الِاسْمَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ بِقَوْلِ لَبِيدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ فِي نَظَرِي أَنَّ الِاسْمَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى هُنَا ; لِإِمْكَانِ كَوْنِ الْمُرَادِ نَفْسُ الِاسْمِ ; لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَلْحَدَ فِيهَا قَوْمٌ وَنَزَّهَهَا آخَرُونَ، وَوَصَفَهَا اللَّهُ بِأَنَّهَا بَالِغَةُ غَايَةِ الْحُسْنِ ; لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [7 \ 180] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [17 \ 110] . ثُمَّ قَالَ: وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى: هَلِ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ لَا؟ لِأَنَّ مُرَادَنَا هُنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ. اهـ. فَتَضَمَّنَ كَلَامُهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - احْتِمَالَ كَوْنِ الْمُرَادِ: تَنْزِيهُ اسْمِ اللَّهِ عَمَّا أَلْحَدَ فِيهِ الْمُلْحِدُونَ، كَاحْتِمَالِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، كَمَا تَضَمَّنَ عَدَمَ لُزُومِ كَوْنِ الِاسْمِ هُنَا بِمَعْنَى الْمُسَمَّى، وَلَعَلَّنَا نُورِدُ مُجْمَلَ بَيَانِ تِلْكَ النِّقَاطِ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا تَنْزِيهُ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَهُوَ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْأَصْنَامِ: كَاللَّاتَ، وَالْعُزَّى، وَاسْمِ الْآلِهَةِ. وَمِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنِ اللَّهْوِ بِهَا وَاللَّعِبِ، كَالتَّلَفُّظِ بِهَا فِي حَالَةٍ تُنَافِي الْخُشُوعَ وَالْإِجْلَالَ: كَمَنْ يَعْبَثُ بِهَا وَيَلْهُو، وَنَظِيرُهُ مَنْ يَلْهُو وَيَسْهُو عَنْ صَلَاتِهِ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [107 \ 4 - 5] ، أَوْ وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: كَنَقْشِ الثَّوْبِ، أَوِ الْفِرَاشِ الْمُمْتَهَنِ. وَمِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنِ الْمَوَاطِنِ غَيْرِ الطَّاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْشِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهُ: صِيَانَةُ الْأَوْرَاقِ الْمَكْتُوبَةِ مِنَ الِابْتِذَالِ صَوْنًا لِاسْمِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُوَضِّحَةً لِآيَةِ «الْوَاقِعَةِ» ، وَأَنَّ اسْمَ رَبِّكَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ، وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَسْبِيحُ اللَّهِ تَعَالَى،، فَقَالُوا: إِنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: الِاسْمُ صِلَةٌ، كَمَا فِي بَيْتِ لَبِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ. أَمَّا مَسْأَلَةُ الِاسْمِ: هَلْ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَمْ لَا؟ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ وَصْفٌ رَكِيكٌ. أَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: وَلَا يَلْزَمُ فِي نَظَرِي كَوْنُ الِاسْمِ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى هُنَا، فَإِنَّهُ بِلَازِمٍ إِلَى بَسْطٍ قَلِيلٍ ; لِيُظْهِرَ صِحَّةَ مَا قَالَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 وَقَدْ نَاقَشَهَا الرَّازِيُّ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ، قَالَ فِيهَا: مِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فِي أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى. فَأَقُولُ: إِنَّ الْخَوْضَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا بُدَّ هَا هُنَا مِنْ بَيَانِ أَنَّ الِاسْمَ مَا هُوَ؟ وَالْمُسَمَّى مَا هُوَ؟ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هُوَ هَذَا اللَّفْظُ، وَبِالْمُسَمَّى تِلْكَ الذَّاتُ، فَالْعَاقِلُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هُوَ تِلْكَ الذَّاتُ، وَبِالْمُسَمَّى أَيْضًا تِلْكَ الذَّاتُ. كَانَ قَوْلُنَا: الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى ; هُوَ أَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ هِيَ تِلْكَ الذَّاتُ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ عَاقِلٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي وَصْفِهَا رَكِيكَةٌ، وَذَكَرَ الِاشْتِبَاهَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ ; بِسَبَبِ لَفْظِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، إِذْ هُوَ مُرَادُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إِطْلَاقِهِ وَإِرَادَةِ مُسَمَّاهُ. وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ لِمَاذَا أَعْرَضَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَنْ بَيَانِهَا؟ وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذَا الْبَيَانَ الْمُجْمَلَ ; لِنُطْلِعَ الْقَارِئَ إِلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ ; فَإِنَّهُ إِنْ وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي الذَّوَاتِ الْأُخْرَى، فَلَا يَقَعُ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ ; لِأَنَّ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ أَحْكَامًا لَا لِأَسْمَاءِ الْآخَرِينَ، وَلِأَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ حَقُّ التَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ، وَالدُّعَاءِ بِهَا. كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُنَا وُجْهَةُ نَظَرٍ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهَا، وَلَكِنْ قَدْ تُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَتُشِيرُ إِلَيْهَا السُّنَّةُ. وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ هُنَا بِمَعْنَى الذِّكْرِ وَالتَّعَبُّدِ: كَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ، وَنَحْوُهُ فِي بَعْضِ نُقُولِ الطَّبَرِيِّ. أَمَّا إِشَارَةُ السُّنَّةِ إِلَى ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» . وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَتْ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [56 \ 74] ، قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ، قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 وَسَاقَ الْقُرْطُبِيُّ أَثَرًا طَوِيلًا فِي فَضْلِهَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَجَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُونَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَخْتِمُونَ الْمِائَةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً، بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [110 \ 1] ، إِلَّا يَقُولُ:» سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي «، وَقَالَتْ: يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:» إِنَّهُ كَانَ يَقُولُهَا فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَمَجِيئِهِ وَذَهَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ» : أَيِ: اذْكُرْ رَبَّكَ. وَهَذَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [87 \ 14 - 15] ، فَصَرَّحَ بِذِكْرِ اسْمِ رَبِّكَ، كَمَا جَاءَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، فَوَضَعَ الذِّكْرَ مَوْضِعَ التَّسْبِيحِ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أَطْلَقَ الْخَلْقَ ; لِيَعُمَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي «السَّجْدَةِ» ، «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» [32 \ 7] ، وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ وَالتَّعْدِيلُ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ مَخْلُوقٍ مُسْتَوٍ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَتَنَاسَبُ لِخِلْقَتِهِ وَمَا خُلِقَ لَهُ، فَخَلَقَ السَّمَوَاتِ فَسَوَّاهَا فِي أَقْوَى بِنَاءٍ، وَأَعْلَى سُمْكٍ، وَأَشَدِّ تَمَاسُكٍ، لَا تَرَى فِيهَا مِنْ تَشَقُّقٍ وَلَا فُطُورٍ، وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَدَحَاهَا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا وَجَعَلَهَا فِرَاشًا وَمِهَادًا، وَخَلَقَ الْأَشْجَارَ فَسَوَّاهَا عَلَى مَا تَصْلُحُ لَهُ مِنْ ذَوَاتِ الثِّمَارِ، وَوَقُودِ النَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ فِي خِلْقَتِهَا وَتَسْوِيَتِهَا آيَةٌ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [88 \ 17 - 20] . أَمَّا الْإِنْسَانُ فَهُوَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ حَقًّا لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَبَّحَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 اسْمُهُ فِي ذَاتِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالتَّسْوِيَةِ، فَلِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أَطْلَقَ هُنَا التَّقْدِيرَ ; لِيَعُمَّ كُلَّ مَقْدُورٍ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ ; لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْخَلْقَ التَّقْدِيرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 \ 49] ، وَقَوْلُهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [65 \ 3] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَثِيلَاتُهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ جَمَعَهَا تَعَالَى عِنْدَ التَّعْرِيفِ التَّامِّ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمَّا سَأَلَ فِرْعَوْنُ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [20 \ 49 - 50] . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [87 \ 2] ، وَهُنَا قَدَّرَ كُلَّ مَا خَلَقَ، وَهَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلَى مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَفِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْأُمُورِ، وَهَدَى الْمَلَائِكَةَ لِتَنْفِيذِهَا، وَقَدَّرَ مَسِيرَ الْأَفْلَاكِ، وَهَدَاهَا إِلَى مَا قُدِّرَ لَهَا: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» [21 \ 33] . وَفِي الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتَاتِ ; قَدَّرَ لَهَا أَزْمِنَةً مُعَيَّنَةً فِي إِيتَائِهَا وَهِدَايَتِهَا إِلَى مَا قُدِّرَ لَهَا، فَالْجِذْرُ يَنْزِلُ إِلَى أَسْفَلَ وَالنَّبْتَةُ تَنْمُو إِلَى أَعْلَى، وَهَكَذَا الْحَيَوَانَاتُ فِي تَلْقِيحِهَا، وَنِتَاجِهَا، وَإِرْضَاعِهَا. كُلٌّ قَدْ هَدَاهُ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ، وَهَكَذَا الْإِنْسَانُ. وَقَدْ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ مَنْطُوقِ هَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ، فَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «طه» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [20 \ 50] . قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى: نُقْرِئُكَ فِي سُورَةِ «طه» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [20 \ 114] ، وَبَيَّنَهُ بِآيَةِ «الْقِيَامَةِ» : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [75 \ 16] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 وَقَوْلُهُ: «فَلَا تَنْسَى» : بَحَثَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ مَعَ مَا يُنْسَخُ مِنَ الْآيَاتِ فَيَنْسَاهُ. وَسَيُطْبَعُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ هَذِهِ التَّتِمَّةِ، تَتِمَّةً لِلْفَائِدَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى هَلْ: إِنْ هُنَا بِمَعْنَى إِذْ أَوْ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ؟ وَهَلْ لِلشَّرْطِ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ أَمْ لَا؟ كُلُّ ذَلِكَ بَحَثَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بِتَوَسُّعٍ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَرَجَّحَ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَقَسَّمَ الْمَدْعُوَّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَقْطُوعٌ بِنَفْعِهِ، وَمَقْطُوعٌ بِعَدَمِ نَفْعِهِ، وَمُحْتَمَلٌ، وَقَالَ: مَحَلُّ التَّذْكِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِعَدَمِ نَفْعِهِ، كَمَنْ بَيَّنَ لَهُ مِرَارًا فَأَعْرَضَ، كَأَبِي لَهَبٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَآلِهِ فَلَا نَفْعَ فِي تَذْكِيرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْحِكْمَةِ مِنَ الذِّكْرَى. وَمِنْهَا تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [51 \ 55] ، فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى أَيْ: بِسَبَبِ شَقَائِهِمُ السَّابِقِ أَزَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [11 \ 106] . قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا نَفَى عَنْهُ الضِّدَّيْنِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِالذَّاتِ إِمَّا حَيٌّ وَإِمَّا مَيِّتٌ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَتَغَيَّرُ الْمَوَازِينُ وَالْمَعَايِيرُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّعْذِيبِ، إِذْ لَوْ مَاتَ لَاسْتَرَاحَ، وَمَعَ أَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنَ الْعَذَابِ مَا لَا حَيَاةَ مَعَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَقَوْلُهُ (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) [35 \ 36] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَعْنَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «طَهَ» عِنْدَ الْكَلَامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [20 \ 74] . قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أَسْنَدَ الْفَلَاحَ هُنَا إِلَى: «مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَسْنَدَ التَّزْكِيَةَ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [24 \ 21] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى، نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النُّورِ» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَنْ «زَكَا» بِمَعْنَى تَطَهَّرَ مِنَ الشُّكْرِ وَالْمَعَاصِي، لَا عَلَى أَنَّهُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ آيَةَ «النَّجْمِ» إِنَّمَا نَهَى فِيهَا عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ; لِمَا فِيهِ مِنِ امْتِدَاحِهَا، وَقَدْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا كَمَا فِي سُورَةِ «الْحُجُرَاتِ» : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [49 \ 14] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى قُرِئَ: «تُؤْثِرُونَ» بِالتَّاءِ وَبِالْيَاءِ رَاجِعًا إِلَى الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [87 \ 11 - 12] ، وَعَلَى أَنَّهَا بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ أَعَمُّ، وَحَيْثُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَامٌّ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَيُذْكَرُ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى كُلِّهَا عَامَّةً، وَفِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خُطُورَتِهِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَسْبَابِ ذَلِكَ مِنْهَا: الْجَهْلُ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [29 \ 64] ، أَيِ: الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ. وَقَدْ رَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَوْلَهُ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْثَرَ خَزَفٌ يَبْقَى عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى، فَكَيْفَ وَالْآخِرَةُ مَنْ ذَهَبٍ يَبْقَى وَالدُّنْيَا مِنْ خَزَفٍ يَفْنَى؟ وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا زُيِّنَتْ لِلنَّاسِ، وَعُجِّلَتْ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [3 \ 14] . ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [3 \ 14] . وَبَيِّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَآبَ الْحَسَنَ وَهُوَ فِي وَصْفِهِ يُقَابِلُ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَقَالَ: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [3 \ 15] . تَأَمَّلْ هَذَا الْبَدِيلَ، فَفِي الدُّنْيَا: ذَهَبٌ، وَخَيْلٌ، وَنِسَاءٌ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْحَرْثُ، وَقَدْ قَابَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْجَنَّةِ ; فَعَمَّتْ وَشَمِلَتْ. وَلَكِنْ نَصَّ عَلَى أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ ; لِيَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَنِسَاءِ الْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَخَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 19] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَنُصُّ عَلَى الْخَيْرِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ آثَرَ الْآخِرَةَ غَالِبٌ عَلَى مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا، وَظَاهَرٌ عَلَيْهِ، كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [2 \ 212] . فَمِنْ هَذَا ; يَظْهَرُ أَنَّ أَسْبَابَ إِيثَارِ النَّاسِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا، هُوَ تَزْيِينُهَا وَزَخْرَفَتُهَا فِي أَعْيُنِهِمْ: بِالْمَالِ، وَالْبَنِينَ، وَالْخَيْلِ، وَالْأَنْعَامِ: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [18 \ 46] . وَقَدْ سِيقَ هَذَا، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ بِالْوَاقِعِ فَحَسْبُ، بَلْ إِنَّ مِنْ وَرَائِهِ مَا يُسَمَّى لَازِمَ الْفَائِدَةَ، وَهُوَ ذَمُّ مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ، فَوَجَبَ الْبَحْثُ عَنِ الْعِلَاجِ لِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَإِذَا ذَهَبْنَا نَتَطَلَّبُ الْعِلَاجَ، فَإِنَّنَا فِي الْوَاقِعِ نُوَاجِهُ أَخْطَرَ مَوْضُوعٍ عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ حَيَاتَهُ الدُّنْيَا وَمَآلَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَتَحَكَّمُ فِي سَعَادَتِهِ وَفَوْزِهِ، أَوْ شَقَاوَتِهِ وَحِرْمَانِهِ، وَإِنَّ أَقْرَبَ مَأْخَذٍ لَنَا لَهُوَ هَذَا الْمَوْطِنُ بِالذَّاتِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ بِضَمِيمَةِ مَا قَبْلَهَا إِلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [87 \ 10 - 12] ، وَبَعْدَهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [87 \ 14 14 - 6] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 فَقَدْ قَسَّمَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا أُمَّةَ الدَّعْوَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ. أَمَّا التَّذْكِيرُ وَالْإِنْذَارُ، إِذْ قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [87 \ 9] ، فَهَذَا مَوْقِفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ تَقْسِيمُ الْأُمَّةِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى: فَيَنْتَفِعُ بِالذِّكْرَى وَتَنْفَعُهُ: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، فَلَا تَنْفَعُهُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ الْحُكْمُ بِالْفَلَاحِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، أَيْ: مَنْ يَخْشَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، وَلَمْ يَغْفُلْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَوْقِفُ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُفَصَّلُ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» ، وَفِي مَعْرِضِ التَّوْجِيهِ لَنَا وَالتَّوْبِيخِ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَيْضًا: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [57 \ 16] . فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الْأَمَدِ وَالتَّسْوِيفُ: هِيَ الْعَوَامِلُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْغَفْلَةِ وَإِيثَارِ الدُّنْيَا. وَالْخَشْيَةُ وَالذِّكْرُ: هِيَ الْعَوَامِلُ الْأَسَاسِيَّةُ لِإِيثَارِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ عَرَضَ الدُّنْيَا فِي حَقِيقَتِهَا بِقَوْلِهِ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [57 \ 20 - 21] . فَوَصَفَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ مَعًا فِي هَذَا السِّيَاقِ. فَالدَّاءُ: هُوَ الْغُرُورُ، وَالدَّوَاءُ: هُوَ الْمُسَابَقَةُ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، قِيلَ: اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى السُّورَةِ كُلِّهَا ; لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، وَالذِّكْرِ، وَالْعِبَادَاتِ. وَالصُّحُفُ الْأُولَى: هِيَ «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» ، عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى. وَجَاءَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ: أَنَّ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ أَمْثَالًا، وَصُحُفَ مُوسَى كَانَتْ مَوَاعِظَ، وَذَكَرَ نَمَاذِجَ لَهَا. وَعِنْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ؟ فَقَالَ: مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ: عَلَى آدَمَ عَشْرَ صُحُفٍ، وَعَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَالتَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 وَفِي هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ أَنْ مَعَانٍ أُخْرَى كَذَلِكَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى كَمَا فِي سُورَةِ «النَّجْمِ» فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [53 \ 36 - 40] . وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّهَا أَكْثَرُهَا أَمْثَالًا وَمَوَاعِظَ، كَمَا يُؤَكِّدُ تَرَابُطَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْغَاشِيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيث ُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ الْكَلَامُ فِي هَلْ هُنَا، كَالْكَلَامِ فِي هَلْ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْإِنْسَانِ» ، أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَوْ أَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ؟ وَرَجَّحَ أَبُو السُّعُودِ وَغَيْرُهُ: أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ ; لِلَفْتِ النَّظَرِ، وَشِدَّةِ التَّعَجُّبِ، وَالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَمْ يَكُنْ أَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ بِهِ» وَحَدِيثُ الْغَاشِيَةِ هُوَ خَبَرُهَا الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنْهَا. وَالْغَاشِيَةُ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الدَّاهِيَةُ تَغْشَى النَّاسَ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَا هُنَا، فَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: النَّارُ. وَاسْتَدَلَّ كُلُّ قَائِلٍ بِنُصُوصٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ [29 \ 55] . قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِهَذَا الِاسْمِ ; لِأَنَّ مَا أَحَاطَ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ فَهُوَ غَاشٌّ لَهُ، وَالْقِيَامَةُ كَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَرِدُ عَلَى الْخَلْقِ بَغْتَةً، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [12 \ 107] . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ جَمِيعًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ بِالْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 وَمِنِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى أَنَّهَا النَّارُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [14 \ 50] . وَقِيلَ: الْغَاشِيَةُ أَهْلُ النَّارِ يَغْشَوْنَهَا، أَيْ: يَدْخُلُونَهَا، فَالْغَاشِيَةُ كَالدَّافَّةِ فِي حَدِيثِ الْأَضَاحِيِّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالرَّاجِحُ عِنْدِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ لِيَعُمَّ، فَيَجِبُ أَنْ تُطْلَقَ ; لِيَعُمَّ أَيْضًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّهَا فِي عُمُومِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ فِي خُصُوصِ النَّارِ ; فَالنَّارُ مِنْ أَهْوَالِ وَدَوَاهِي الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَاءَ بَعْدَهَا قَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ [88 \ 2] ، وَيَوْمَ أَنْسَبُ لِلْقِيَامَةِ مِنْهُ لِلنَّارِ. وَمِنْهَا: التَّصْرِيحُ بَعْدَ ذَلِكَ ; بِأَنَّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ صِفَاتُهُمْ: «تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً» ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَاشِيَةَ شَيْءٌ آخَرَ سِوَى النَّارِ الْحَامِيَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ التَّعْمِيمَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَوْقِفِ، ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى قَسِيمَ هَذَا الصِّنْفِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُرَادَ إِلْغَاؤُهُ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ حَالَةِ عُمُومِ الْمَوْقِفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً الْآيَاتِ. اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ «يَوْمَئِذٍ» يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالتَّنْوِينُ فِيهِ تَنْوِينُ عِوَضٍ. وَهُوَ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنْ جُمْلَةٍ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ عِوَضًا عَنْهَا، وَلَكِنْ لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْغَاشِيَةِ. وَأَلْ مَوْصُولَةٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَتَنْحَلُّ لِلَّتِي غَشِيَتْ، أَيْ: لِلدَّاهِيَةِ الَّتِي غَشِيَتْ، فَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي انْحَلَّ لَفْظُ الْغَاشِيَةِ إِلَيْهَا، وَإِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ الَّتِي، وَهَذَا مِمَّا يُرَجِّحُ وَيُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ، مِنْ أَنَّ الْغَاشِيَةَ هِيَ الْقِيَامَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ» ، بِمَعْنَى: ذَلِيلَةٌ. قَالَ أَبُو السُّعُودِ: هَذَا وَمَا بَعْدَهُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ، نَشَأَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ التَّشْوِيقِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ جَانِبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَتَانِي حَدِيثُهَا» ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: «وُجُوهٌ» إِلَخْ. قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِتَنْكِيرِهَا ; لِأَنَّهَا فِي مَوْقِعِ التَّنْوِيعِ، أَيْ: سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ كَوْنُهَا فِي مَوْقِعِ التَّنْوِيعِ: وُجُوهٌ كَذَا، وَوُجُوهٌ كَذَا. وَخَاشِعَةٌ: خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: وَمَا بَعْدَهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ الْعَمَلُ مَعْرُوفٌ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي زَمَنِ الْعَمَلِ وَالنَّصَبِ هَذَيْنِ: هَلْ هُوَ كَانَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا أَمْ هُوَ وَاقِعٌ مِنْهُمْ فِعْلًا فِي الْآخِرَةِ؟ وَمَا هُوَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ: فَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ كَانَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَمَلٌ وَنَصَبٌ فِي الْعِبَادَاتِ الْفَاسِدَةِ: كَعَمَلِ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالْمُبْتَدَعَةِ الضَّالِّينَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ: كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَمِلَ وَنَصَبَ وَالْتَذَّ، فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، فَعَامَلَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ ضَعْفُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ مَنْ هَذِهِ حَالُهُمْ لَا يُعَدُّونَ فِي عَمَلٍ وَنَصَبٍ، بَلْ فِي مُتْعَةٍ وَلَذَّةٍ. وَالَّذِينَ قَالُوا: سَيَقَعُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ وَنَصَبٌ فِي النَّارِ مِنْ جَرِّ السَّلَاسِلِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ، وَصُعُودِهِمْ وَهُبُوطِهِمُ الْوِهَادَ وَالْوِدْيَانَ، أَيْ: كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [74 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [72 \ 17] . وَقَدْ ذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ تَقْسِيمًا ثُلَاثِيًّا، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ كُلُّهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ بَعْضُهُ فِي الدُّنْيَا وَبَعْضُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ قِسْمًا مِنْهَا إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الْقَوْلِ: بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا وَهِيَ فِي الْقِسِّيسِينَ وَنَحْوِهِمْ. فَقَالَ: لَمَّا نَصَبُوا فِي عِبَادَةِ إِلَهٍ وَصَفُوهُ بِمَا لَيْسَ مُتَّصِفًا بِهِ، وَإِنَّمَا تَخَيَّلُوهُ تَخَيُّلًا، أَيْ بِقَوْلِهِمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [5 \ 73] ، وَقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [9 \ 30] ، فَكَانَتْ عِبَادَتُهُمْ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّ مَنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَعْمَلُ عَلَى جَهَالَةٍ فِيمَا لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ أَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَى عِلْمٍ، وَلَكِنْ فِي بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ. وَلِأَثَرِ حُذَيْفَةَ: «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فَطَفِقَ، فَقَالَ لَهُ: مُنْذُ كَمْ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ لَهُ: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَوْ مُتَّ عَلَى ذَلِكَ، مُتَّ عَلَى غَيْرِ فِطْرَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومَاتِ، مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرِي فَهُوَ رَدٌّ» أَيْ: مَرْدُودٌ. وَحَدِيثُ الْحَوْضِ: «فَيُذَادُ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ; إِنَّهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا» . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الِانْتِبَاهَ إِلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ، وَمُوَافَقَتِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ الْقِسْمُ الثَّانِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ الْآيَةَ [18 \ 103 - 104] . أَمَّا الرَّاجِحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي زَمَنِ: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ فِي صَبَّةٍ أَهُوَ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ فَإِنَّهُ الْقَوْلُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ السِّيَاقِ. وَلِابْنِ تَيْمِيَّةَ كَلَامٌ جَيِّدٌ جِدًّا فِي هَذَا التَّرْجِيحِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى قَوْلٍ لِغَيْرِهِ أَقْوَى مِنْهُ، نَسُوقُ مُجْمَلَهُ لِلْفَائِدَةِ: قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ: الْحَقُّ هُوَ الثَّانِي لِوُجُوهٍ، وَسَاقَ سَبْعَةَ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَتَعَلَّقُ الظَّرْفُ بِمَا يَلِيهِ، أَيْ: وُجُوهٌ يَوْمَ الْغَاشِيَةِ، خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ صَالِيَةٌ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِقَوْلِهِ: «تَصْلَى» . وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «خَاشِعَةٌ» صِفَةً لِلْوُجُوهِ، قَدْ فَصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَوْصُوفِ بِأَجْنَبِيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِصِفَةٍ أُخْرَى. وَالتَّقْدِيرُ: وُجُوهٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يَوْمَئِذٍ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَالْأَصْلُ إِقْرَارُ الْكَلَامِ عَلَى نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ، لَا تَغْيِيرُ تَرْتِيبِهِ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ قَرِينَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ وُجُوهَ الْأَشْقِيَاءِ وَوُجُوهَ السُّعَدَاءِ فِي السُّورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [88 \ 8 - 10] ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ يَوْمُ الْآخِرَةِ: فَالْوَاجِبُ تَنَاظُرُ الْقِسْمَيْنِ، أَيْ: فِي الظَّرْفِ. الثَّالِثُ: أَنَّ نَظِيرَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [75 \ 22 - 25] ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [80 \ 38 - 42] ، وَهَذَا كُلُّهُ وَصْفٌ لِلْوُجُوهِ فِي الْآخِرَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ أَصْحَابُهَا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْوُجُوهِ بِالْعَلَامَةِ كَقَوْلِهِ: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [48 \ 29] ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [47 \ 30] ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَقْصُودِ. الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: «خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ» ، لَوْ جُعِلَ صِفَةً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ ذَمٌّ ; فَإِنَّ هَذَا إِلَى الْمَدْحِ أَقْرَبُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِهِ الْكَافِرِينَ، وَالذَّمُّ لَا يَكُونُ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَوْ أُرِيدَ الْمُخْتَصُّ لَقِيلَ: خَاشِعَةٌ لِلْأَوْثَانِ مَثَلًا، عَامِلَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، نَاصِبَةٌ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَمٌّ لِهَذَا الْوَصْفِ مُطْلَقًا وَلَا وَعِيدٌ عَلَيْهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خُرُوجٌ عَنِ الْخِطَابِ الْمَعْرُوفِ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ أَقْوَاهَا فِي الْمَعْنَى، وَأَوْضَحِهَا دَلَالَةً. وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الْعَوَامُّ الْمَغْرُورُونَ بِغَيْرِهِمْ، وَيَنْدَمُونَ غَايَةَ النَّدَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [41 \ 29] . السَّادِسُ: - وَهُوَ مُهِمٌّ أَيْضًا - أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; لَكَانَ خَاصًّا بِبَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 بَعْضٍ، وَكَانَ مُخْتَصًّا بِالْعِبَادِ مِنْهُمْ، مَعَ أَنَّ غَيْرَ الْعِبَادِ مِنْهُمْ يَكُونُونَ أَسْوَأَ عَمَلًا، وَيَسْتَوْجِبُونَ أَشَدَّ عُقُوبَةٍ. السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَوْ جُعِلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; لَكَانَ مِثْلُهُ يَنْفِرُ مِنْ أَصْلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّنَسُّكِ ابْتِدَاءً، أَيْ: وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَرْكِ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالْمُتَنَسِّكِينَ، دُونَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِقَتْلٍ وَلَا قِتَالٍ، كَمَا أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَصْحَابَ الدِّيَانَاتِ عَلَى دِيَانَاتِهِمْ، مِمَّا يُشْعِرُ بِاحْتِرَامِ أَصْلِ التَّعَبُّدِ لِعُمُومِ الْجِنْسِ، كَمَا أَشَارَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا مُجْمَلَ كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ; لِئَلَّا تُتَّخَذَ الْآيَةُ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ الرَّاجِحُ فِيهَا، أَوْ يُحْمَلُ السِّيَاقُ عَلَى غَيْرِ مَا سِيقَ لَهُ، وَقَدْ خَتَمَ كَلَامَهُ بِتَوْجِيهٍ لَطِيفٍ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذَا قُيِّدَ ذَلِكَ بِعِبَادَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُبْتَدَعَةِ، وَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ تَقْيِيدٌ، كَانَ هَذَا سَعْيًا فِي إِصْلَاحِ الْخَطَّابِ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ. اهـ. وَمَنِ الَّذِي يُعْطِي نَفْسَهُ حَقَّ إِصْلَاحِ الْخِطَابِ فِي كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِنَّهَا لَفْتَةٌ إِلَى ضَرُورَةِ وَمَدَى أَهَمِّيَّةِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، الَّذِي نَهَجَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ بَدَا لِي وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ لَوْ جَعَلَ هَذَا الْعَمَلَ الْكُفَّارَ وَالْمُبْتَدِعَةَ ; لَكَانَ مَنْطُوقُهُ: أَنَّ الْعَذَابَ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى عَمَلِهِمْ وَنَصَبِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ تِلْكَ، وَالْحَالُ أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ عُمُومًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَعِقَابُ الْمُبْتَدِعَةِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ ضَلَالٍ، فَإِذَا كَانَ مَا ابْتَدَعُوهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَلَا بِالْعَقِيدَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي فُرُوعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ ابْتَدَعُوهَا لَمْ تَكُنْ فِي السُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا وَنَصَبُوا فَلَا أَجْرَ لَهُمْ فِيهَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَيْهَا بَطَلَ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مَعَ سَلَامَةِ الْعَقِيدَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، إِذِ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ مُقَابَلًا بِالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قِيلَ: حَاضِرَةٌ، وَقِيلَ: شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَمِيمَ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ، كَمَا أَنَّ حَمْلَهَا عَلَى مَعْنَى حَاضِرَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانُ مَعْنَى مَا فِي تِلْكَ الْعَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرَابِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 الْمُعَدِّ وَالْمُحَضَّرِ لَهُمْ، وَفِي الْمُعْجَمِ: «حَمِيمٌ آنٍ» : قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، وَالْفِعْلُ: أَنَى الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ يَأْنِي بِكَسْرِ النُّونِ. قَالَ عَبَّاسٌ: عَلَانِيَةٌ وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٌ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [69 \ 35 - 36] ، وَبَيَّنَ الصَّحِيحَ مِنْ مَعْنَى الضَّرِيعِ مَا هُوَ، وَأَنَّهُ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ سُؤَالًا وَالْجَوَابَ عَلَيْهِ، وَهُوَ: كَيْفَ يَنْبُتُ الضَّرِيعُ فِي النَّارِ؟ فَأَجَابَ بِالْإِحَالَةِ عَلَى تَصَوُّرِ: كَيْفَ يَبْقَى جِسْمُ الْكُفَّارِ حَيَّا فِي النَّارِ؟ وَكَذَلِكَ الْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ فِي النَّارِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجِيهًا مِنْ حَيْثُ مَنْطِقِ الْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّارَ فِيهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، وَأَنَّهَا فِتْنَةٌ لِلظَّالِمِينَ فِي قَوْلِهِ: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [37 \ 62 - 66] ، فَأَثْبَتَ شَجَرَةً تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، وَأَثْبَتَ لَهَا لَازِمَهَا وَهُوَ: طَلْعُهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْبَشِعَةِ، وَأَثْبَتَ لَازِمَ اللَّازِمِ وَهُوَ: أَكْلُهُمْ مِنْهَا حَتَّى مِلْءِ الْبُطُونِ. وَالْحُقُّ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَجَوَابَهُ قَدْ أَثَارَهُ الْمُبْطِلُونَ، وَلَكِنْ غَايَةُ مَا فِي الْأَمْرِ سَلْبُ خَاصِّيَّةِ الْإِحْرَاقِ فِي النَّارِ عَنِ النَّبَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ عَلَى قُدْرَةِ مَنْ خَلَقَ النَّارَ وَجَعَلَ لَهَا الْخَاصِّيَّةَ. وَقَدْ وُجِدَ نَظِيرُهُ فِي الدُّنْيَا فَتِلْكَ نَارُ النُّمْرُوذِ، كَانَتْ تُحْرِقُ الطَّيْرَ فِي الْجَوِّ إِذَا اقْتَرَبَ مِنْهَا، وَعَجَزُوا عَنِ الدُّنُوِّ إِلَيْهَا ; لِيُلْقُوا فِيهَا إِبْرَاهِيمَ وَوَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ وَرَمَوْهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهَا: كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [21 \ 69] ، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 وَهَذَا هُوَ قَسِيمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي بَيَانِ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ ; إِيذَانًا بِكَمَالِ تَبَايُنِ مَضْمُونَيْهِمَا. وَ «يَوْمَئِذٍ» : هُوَ يَوْمُ الْغَاشِيَةِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْغَاشِيَةَ عَامَّةٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهَا مَعَ مُخْتَلَفِ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ تَغْشَاهُ بِهَوْلِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَغْشَاهُ بِنَعِيمِهَا. وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُتَنَاهِيَةٌ فِيمَا تَغْشَاهُمْ بِهِ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغَاشِيَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْخَيْرِ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، بِمَعْنَى الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ. وَمِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْخَيْرِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ فِي حَقِّ كِلَا الْقِسْمَيْنِ كَالْآتِي: أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: - وَهُوَ الْغَاشِيَةُ فِي حَقِّ أَهْلِ النَّارِ - فَقَدْ غَشِيَهُمُ الْعَذَابُ حِسًّا وَمَعْنًى، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ لَا خُشُوعَ فِي ذِلَّةٍ، وَهِيَ نَاحِيَةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهِيَ أَثْقَلُ أَحْيَانًا مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَادِّيَّةِ، فَقَدْ يَخْتَارُ بَعْضُ النَّاسِ الْمَوْتَ عَنْهَا، ثُمَّ مَعَ الذِّلَّةِ الْعَمَلُ وَالنَّصَبُ حِسًّا وَبَدَنًا، وَمَعَ النَّصَبِ الشَّدِيدِ «تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً» وَكَانَ يَكْفِي تَصْلَى نَارًا. وَلَكِنْ إِتْبَاعُهَا بِوَصْفِهَا حَامِيَةً ; فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي إِبْرَازِ عَذَابِهِمْ، وَزِيَادَةٌ فِي غَشَيَانِ الْعَذَابِ لَهُمْ، ثُمَّ يُسْقَوْنَ «مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» : مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْحَرَارَةِ ; فَيَكُونُونَ بَيْنَ نَارٍ حَامِيَةٍ مِنَ الْخَارِجِ وَحَمِيمٍ مِنَ الدَّاخِلِ تَصْهَرُ مِنْهُ الْبُطُونُ، فَهُوَ أَتَمُّ فِي الشُّمُولِ لِلْغَاشِيَةِ لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَفِي حَقِّ الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ تَعْمِيمٌ كَامِلٌ وَسُرُورٌ شَامِلٌ كَالْآتِي، وُجُوهٌ نَاعِمَةٌ مُكْتَمِلَةُ النِّعْمَةِ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. وَهَذَا فِي شُمُولِهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَمُقَابِلَةٍ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَدَلًا مِنْ خَاشِعَةٍ فِي ذِلَّةٍ نَاعِمَةٍ فِي نَضْرَةٍ «لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ» الَّذِي سِعَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَالَّذِي تَسْعَى لِتَحْصِيلِهِ أَوْ ثَوَابِهِ «فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ» بَدَلًا مِنْ عَمَلٍ وَنَصَبٍ. «لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً» : مَنْزِلَةٌ أَدَبِيَّةٌ رَفِيعَةٌ ; حَيْثُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ وَلَا يَلِيقُ بِهَا، فَهُوَ إِكْرَامٌ لَهُمْ حَتَّى فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي يَسْمَعُونَهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [56 \ 25 - 26] . فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا عُيُونٌ وَأَنْهَارٌ تَجْرِي، كَقَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [15 \ 45] ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ، هُوَ كَمَالُ النَّعِيمِ، فَأَشْجَارٌ وَرَيَاحِينُ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَهَذَا فِي التَّعْمِيمِ يُقَابِلُ الْعَيْنَ الْآنِيَةَ فِي الْحَمِيمِ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ. «فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» وَهُمْ عَلَيْهَا مُتَّكِئُونَ، بَدَلٌ مِنْ عَمَلِ الْآخَرِينَ فِي نَصَبٍ وَشَقَاءٍ. «وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ» لِإِتْمَامِ التَّمَتُّعِ وَكَمَالِ الْخِدْمَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ. «وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ» مُتَّكَأً «وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ» مَفْرُوشَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَاكْتَمَلَ النَّعِيمُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَيْثُ اشْتَمَلَ مَا تَرَاهُ الْعَيْنُ وَمَا تَسْمَعُهُ الْأُذُنُ، وَمَا يَتَذَوَّقُونَ طَعْمَهُ مِنْ شَرَابٍ وَغَيْرِهِ. فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ غَشِيَتْهُمُ النِّعْمَةُ، كَمَا غَشِيَتْ أُولَئِكَ النِّقْمَةُ، وَتَكُونُ الْغَاشِيَةُ بِمَعْنَى الشَّامِلَةُ، وَعَلَى عُمُومِهَا لِلْفَرِيقَيْنِ، وَهِيَ صَالِحَةٌ لُغَةً وَشَرْعًا لِلْمُعَذَّبِينَ بِالْعَذَابِ، وَلِلْمُنَعَّمِينَ بِالنَّعِيمِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَنْبِيهٌ. مَجِيءُ فِيهَا مَرَّتَيْنِ: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ; لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِسْمَيْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. الْأَوَّلُ: عُيُونٌ وَنُزْهَةٌ. وَالثَّانِي: سُرُرٌ وَسَكَنٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ تَوْجِيهُ الْأَنْظَارِ إِلَى تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ الْأَرْبَعَةِ ; لِمَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَعَلَى الْبَعْثِ، وَثُمَّ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، نَتِيجَةً لِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. أَمَّا الْإِبِلُ: فَلَعَلَّهَا أَقْرَبُ الْمَعْلُومَاتِ لِلْعَرَبِ، وَأَلْصَقُهَا بِحَيَاتِهِمْ فِي مَطْعَمِهِمْ مِنْ لَحْمِهَا وَمَشْرَبِهِمْ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَمَلْبَسِهِمْ مِنْ أَوْبَارِهَا وَجُلُودِهَا، وَفِي حِلِّهِمْ وَتِرْحَالِهِمْ بِالْحَمْلِ عَلَيْهَا، مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ لَا فِي الْخَيْلِ وَلَا فِي الْفِيَلَةِ، وَلَا فِي أَيِّ حَيَوَانٍ آخَرَ، وَقَدْ وَجَّهَ الْأَنْظَارَ إِلَيْهَا مَعَ غَيْرِهَا فِي مَعْرِضِ امْتِنَانِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [36 \ 71 - 73] . وَكَذَلِكَ فِي خُصُوصِهَا فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [16 \ 5 - 7] . إِنَّهَا نِعَمٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمَنَافِعٌ بَالِغَةٌ لَمْ تُوجَدْ فِي سِوَاهَا الْبَتَّةَ، وَكُلٌّ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ بِذَاتِهِ. أَمَّا الْجِبَالُ: فَهِيَ مِمَّا يَمْلَأُ عُيُونَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيَشْغَلُ تَفْكِيرَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ ; لِقُرْبِهَا مِنْ حَيَاتِهِمْ فِي الْأَمْطَارِ وَالْمَرْعَى فِي سُهُولِهَا، وَالْمَقِيلِ فِي كُهُوفِهَا وَظِلِّهَا، وَالرَّهْبَةِ وَالْعَظَمَةِ فِي تَطَاوُلِهَا وَثَبَاتِهَا فِي مَكَانِهَا. وَقَدْ وَجَّهَ الْأَنْظَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا فِي مَوْطِنٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [78 \ 6 - 7] ، ثَوَابِتٌ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا رَوَاسِي لِلْأَرْضِ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِحَيَاتِهِمْ وَحَيَاةِ أَنْعَامِهِمْ كَمَا أَسْلَفْنَا. أَمَّا السَّمَاءُ وَرَفْعُهَا: أَيْ: وَرَفْعَتُهَا فِي خَلْقِهَا، وَبِدُونِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، وَبِدُونِ فُطُورٍ أَوْ تَشَقُّقٍ عَلَى تَطَاوُلِ زَمَنِهَا، فَهِيَ أَيْضًا مَحَطُّ أَنْظَارِهِمْ، وَمُلْتَقَى طَلَبَاتِهِمْ فِي سُقْيَا أَنْعَامِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْبَعْثِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [2 \ 164] . بَيَانُ كَوْنِهَا آيَةً. أَمَّا الْأَرْضُ وَكَيْفَ سُطِحَتْ، فَإِنَّ الْآيَةَ فِيهَا مَعَ عُمُومِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] . وَقَوْلُهُ: كَيْفَ سُطِحَتْ [88 \ 20] آيَةٌ ثَابِتَةٌ ; لِأَنَّ جِرْمَهَا مَعَ إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَكْوِيرِهَا، فَإِنَّهَا تُرَى مُسَطَّحَةً، أَيْ: مِنَ النُّقْطَةِ الَّتِي هِيَ فِي امْتِدَادِ الْبَصَرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى سِعَتِهَا وَكِبَرِ حَجْمِهَا ; لِأَنَّ الْجِرْمَ الْمُتَكَوِّرَ إِذَا بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ وَالضَّخَامَةِ حَدًّا بَعِيدًا يَكَادُ سَطْحُهُ يُرَى مُسَطَّحًا مِنْ نُقْطَةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ آيَاتٌ مُتَعَدِّدَاتٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ الْخَلَائِقِ، وَعَلَى إِيقَاعِ مَا يَغْشَاهُمْ عَلَى مُخْتَلَفِ أَحْوَالِهِمْ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [10 \ 101] . الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ «يُونُسَ» . تَنْبِيهٌ. التَّوْجِيهُ هُنَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ فِي خَلْقِ الْإِبِلِ، وَنَصْبِ الْجِبَالِ، وَرَفْعِ السَّمَاءِ، وَتَسْطِيحِ الْأَرْضِ، مَعَ أَنَّ الْكَيْفَ لِلْحَالَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُشْهِدْ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [18 \ 51] . فَكَيْفَ يُوَجِّهُ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ لِلنَّظَرِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ وَهِيَ شَيْءٌ لَمْ يَشْهَدُوهُ؟ ! ! . وَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: هُوَ أَنَّهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي نَتَائِجَ خَلْقِ الْإِبِلِ، وَنَصْبِ الْجِبَالِ إِلَخْ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا الْكَيْفَ، بَلْ وَيَعْجِزُونَ عَنْ كُنْهِهِ وَتَحْقِيقِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ، كَمَنْ يَقِفُ أَمَامَ صَنْعَةٍ بَدِيعَةٍ يَجْهَلُ سِرَّ صَنْعَتِهَا، فَيَتَسَاءَلُ كَيْفَ تَمَّ صُنْعُهَا؟ وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ: وَهُوَ الْإِحَالَةُ عَلَى الْأَثَرِ بَدَلًا مِنْ كَشْفِ الْكُنْهِ وَالْكَيْفِ، وَذَلِكَ فِي سُؤَالِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَبَّهُ: أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى. فَكَانَ الْجَوَابُ: أَنْ أَرَاهُ الطُّيُورَ تَطِيرُ، بَعْدَ أَنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ وَقَطَّعَهَا، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهَا جُزْءًا. فَلَمْ يُشَاهِدْ كَيْفِيَّةَ وَكُنْهَ، وَحَقِيقَةَ الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ دَبِيبُ الرُّوحِ فِيهَا وَعَوْدَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَكِنْ شَاهَدَ الْآثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ تُحَرِّكُهَا وَطَيَرَانِهَا، وَعَوْدَتِهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَبْحِهَا. مَعَ أَنَّهُ كَانَ لِلْعُزَيْرِ مَوْقِفٌ مُمَاثِلٌ وَإِنْ كَانَ أَوْضَحَ فِي الْبَيَانِ ; حَيْثُ شَاهَدَ الْعِظَامَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَنْشُرُهَا، ثُمَّ يَكْسُوهَا لَحْمًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، فَإِنَّ مَجِيءَ هَذَا الْأَمْرِ بِالْفَاءِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ النَّظَرَ الدَّقِيقَ وَالْفِكْرَ الدَّارِسَ، مِمَّا قَدْ يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ، كَمَا نَطَقَ مُؤْمِنُ الْجَاهِلِيَّةِ: قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: لَيْلٌ دَاجٍ، وَنَهَارٌ سَاجٍ، وَسَمَاءُ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَنُجُومٌ تُزْهِرُ، وَبِحَارٍ تَزْخَرُ، وَجِبَالٌ مُرْسَاةٌ، وَأَرْضٌ مُدْحَاةٌ، وَأَنْهَارٌ مُجْرَاةٌ. فَقَدْ ذَكَرَ السَّمَاءَ، وَالْجِبَالَ، وَالْأَرْضَ. وَكَقَوْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، مُؤْمِنُ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَعْرُوفُ: وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... سَوَاءً وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالَا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالًا فَحَالَا فَكَانَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا بِدِقَّةٍ وَتَأَمُلٍ، فِيمَا يُحِيطُ بِهِمْ عَامَّةً. وَفِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْكِبَارِ خَاصَّةً، فَيَجِدُونَ فِيهَا مَا يَكْفِيهِمْ. كَمَا قِيلَ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ فَإِذَا لَمْ يَهْدِهِمْ تَفْكِيرُهُمْ، وَلَمْ تَتَّجِهْ أَنْظَارُهُمْ. فَذَكِّرْهُمْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. وَهَذَا عَامٌّ، أَيْ: سَوَاءٌ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ تِلْكَ الْمَصْنُوعَاتِ، أَوْ بِالتِّلَاوَةِ مِنْ آيَاتِ الْوَحْيِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيَابَ هُوَ الْمَرْجِعُ. قَالَ عُبَيْدٌ: وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَئُوبُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [5 \ 48] ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي صَرِيحِ مَنْطُوقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ الْآيَةَ [3 \ 55] . وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [6 \ 164] . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [88 \ 26] ، الْإِتْيَانُ بِثُمَّ ; لِلْإِشْعَارِ مَا بَيْنَ إِيَابِهِمْ وَبَدْءِ حِسَابِهِمْ: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنَا، بِتَقَدُّمِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ، وَإِسْنَادِ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِحَرْفِ «عَلَى» مِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ بِأَدَقِّ مَا يَكُونُ، وَعَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [2 \ 284] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 وَمِنَ الْوَاضِحِ مَجِيءُ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ; تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَخْوِيفًا لِأُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا، ثُمَّ إِنَّ الْحِسَابَ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ لَيْسَ خَاصًّا بِهَؤُلَاءِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ بِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ. وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالسَّلَامَةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْفَجْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْفَجْرِ، فَقِيلَ: انْفِجَارُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ الْفَجْرِ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَهُ شَاهَدٌ مِنَ الْقُرْآنِ. أَمَّا انْفِجَارُ النَّهَارِ، فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [81 \ 18] . وَأَمَّا صَلَاة ُ الْفَجْرِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [17 \ 78] ، وَلَكِنْ فِي السِّيَاقِ مَا يُقَرِّبُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، إِذْ هُوَ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي: " الْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ "، " اللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي "، وَكُلُّهَا آيَاتٌ زَمَنِيَّةٌ أُنْسِبَ لَهَا انْفِجَارُ النَّهَارِ. بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَيِّ الْفَجْرِ عَنَى هُنَا؟ فَقِيلَ بِالْعُمُومِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَقِيلَ: بِالْخُصُوصِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَعَلَى الثَّانِي، فَقِيلَ: خُصُوصُ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ يَوْمِ الْمُحَرَّمِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ نَصٌّ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّ فَجْرَ يَوْمِ النَّحْرِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيَالِي الْعَشْرِ، إِنْ قُلْنَا: هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي. إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا اللَّيَالِي الْعَشْرُ: فَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مَحْصُورَةٌ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَشْرِ الْمُحَرَّمِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَالْأَوَّلُ: جَاءَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهَا الْعَشْرُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ " [7 \ 142] ، وَكُلُّهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ بِعَيْنِهَا. وَفِي السُّنَّةِ بَيَانُ فَضِيلَةِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَشْرِ رَمَضَانَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَإِنَّ جَعْلَ الْفَجْرِ خَاصًّا بِيَوْمِ النَّحْرِ، كَانَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَقْرَبَ لِلسِّيَاقِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 " وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ": ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَمَجْمُوعُهَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا. أَمَّا جُمْلَةً، فَقَالُوا: إِنَّمَا الْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ ; لِلْحَدِيثِ: " إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ "، وَمَا سِوَاهُ شَفْعٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [51 \ 49] ، فَهَذَا شَمِلَ كُلَّ الْوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا فِي عُمُومِ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [69 \ 38 - 39] . أَمَّا التَّفْصِيلُ، فَقَالُوا: الْمَخْلُوقَاتُ إِمَّا شَفْعٌ كَالْحَيَوَانَاتِ أَزْوَاجًا، وَالسَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ، وَالْجَبَلِ، وَالْبَحْرِ، وَالنَّارِ، وَالْمَاءِ. وَهَكَذَا ذَكَرُوا لِكُلِّ شَيْءٍ مُقَابِلَهُ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْفَرْدُ كَالْهَوَاءِ. وَكُلُّهَا مِنْ بَابِ الْأَمْثِلَةِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ عِنْدِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِلْمِيًّا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَائِنٌ مَوْجُودٌ بِمَعْنَى الْوَتْرِ قَطُّ حَتَّى الْحَصَاةُ الصَّغِيرَةُ. فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ جَمَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مُكَوَّنٌ مِنْ ذَرَّاتٍ، وَالذَّرَّةُ لَهَا نَوَاةٌ وَمُحِيطٌ، وَبَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ وَعَنْ طَرِيقِهِمَا التَّفْجِيرُ الَّذِي اكْتُشِفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى فِي أَدَقِّ عَالَمِ الصِّنَاعَةِ: كَالْكَهْرُبَاءِ ; فَإِنَّهَا مِنْ سَالِبٍ وَمُوجَبٍ، وَهَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ دَوْرَةٍ كَهْرُبَائِيَّةٍ لِلْحُصُولِ عَلَى النَّتِيجَةِ مِنْ أَيِّ جِهَازٍ كَانَ، حَتَّى الْمَاءُ الَّذِي كَانَ يُظَنُّ بِهِ الْبَسَاطَةُ ; فَهُوَ زَوْجٌ وَشَفْعٌ مِنْ عُنْصُرَيْنِ: أُوكْسِجِينْ وَهِدْرُوجِينْ، يَنْفَصِلَانِ إِذَا وَصَلَتْ دَرَجَةُ حَرَارَةِ الْمَاءِ إِلَى مِائَةٍ - أَيْ: الْغَلَيَانُ - وَيَتَآلَفَانِ إِذَا نَزَلَتِ الدَّرَجَةُ إِلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ فَيَتَاقَطَرَانِ مَاءً. وَهَكَذَا. وَنَفْسُ الْهَوَاءِ عِدَّةُ غَازَاتٍ وَتَرَاكِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْكَوْنِ شَيْءٌ قَطُّ فَرْدًا وَتْرًا بِذَاتِهِ، إِلَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: " إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرُ "، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الْوَتْرِ فِيهِ مُسْتَغْنٍ بِذَاتِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْوَاحِدُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَصِفَاتُهُ كُلُّهَا وَتْرٌ: كَالْعِلْمِ بِلَا جَهْلٍ وَالْحَيَاةِ بِلَا مَوْتٍ. إِلَخْ. بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ، وَقُلْنَا: الْمُسْتَغْنِي بِذَاتِهِ عَنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ شَفْعًا، فَإِنَّ كُلَّ عُنْصُرٍ مِنْهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْعُنْصُرِ الثَّانِي ; لِيَكُونَ مَعَهُ ذَاكَ الشَّيْءُ وَاللَّهِ سُبْحَانَهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَتْرَ هُوَ اللَّهُ، وَالشَّفْعَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ جَمِيعُهَا، هُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ، وَهُوَ الْأَعَمُّ فِي الْمَعْنَى. قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي، اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ سَرَيَانُ اللَّيْلِ، وَلَكِنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 الْخِلَافَ فِي التَّعْيِينِ: هَلِ الْمُرَادُ بِهِ عُمُومُ اللَّيَالِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَمْ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ؟ وَمَا هِيَ؟ فَقِيلَ: بِالْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [81 \ 17] . وَقِيلَ: بِالْخُصُوصِ فِي لَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ أَوْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَأَيْضًا يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْفَجْرُ فَجْرُ النَّحْرِ، وَالْعَشْرُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ فَيَكُونُ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي، لَيْلَةَ الْجَمْعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عُمُومَ اللَّيْلِ، وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذَا الْقِسْمِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَشَمَلَتِ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَالشَّفْعَ وَالْوَتْرَ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، فِي انْفِجَارِ الْفَجْرِ، وَانْتِشَارِ الْخَلْقِ، وَسَرَيَانِ اللَّيْلِ، وَسُكُونِ الْكَوْنِ، وَالْعِبَادَاتِ فِي اللَّيَالِي الْعَشْرِ. فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [89 \ 5] ، أَيْ: عَقْلٌ، وَالْحِجْرُ كُلُّ مَادَّتِهِ تَدُورُ عَلَى الْإِحْكَامِ وَالْقُوَّةِ، فَالْحَجَرُ ; لِقُوَّتِهِ. وَالْحُجْرَةُ ; لِإِحْكَامٍ مَا فِيهَا. وَالْعَقْلُ سُمِّيَ حِجْرًا - بِكَسْرِ الْحَاءِ - ; لِأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ. وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ; لِمَنْعِهِ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَإِحْكَامِ أَمْرِهِ، وَحَجْرُ الْمَرْأَةِ لِطِفْلِهَا، فَهَذِهِ الْمُقْسَمُ بِهَا الْخَمْسَةُ هَلْ فِيهَا قَسَمٌ كَافٍ لِذِي عَقْلٍ؟ وَالْجَوَابُ: بَلَى، وَهَذَا مَا يُقَوِّي هَذَا الْقَسَمَ بِلَا شَكٍّ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي جَوَابِ هَذَا الْقَسَمِ: حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ تَعَالَى بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَظِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [56 \ 75 - 76] . ثُمَّ صَرَّحَ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ الْآيَةَ [56 \ 77] . وَهُنَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ مَعَ عِظَمِ الْقَسَمِ ; فَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِهِ. فَقِيلَ: هُوَ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ لَيُعَذِّبَنَّ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [89 \ 6 - 14] . وَقِيلَ: مَوْجُودٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [89 \ 14] ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ فِي اللُّغَةِ وَأَسَالِيبِ التَّفْسِيرِ وَجِيهٌ، وَلَكِنْ يُوجَدُ فِي نَظَرِي - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: ارْتِبَاطٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ، وَبَيْنَ مَا يَجِيءُ فِي آخِرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [89 \ 21] ، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. كَمًّا أَنَّهُ يَظْهَرُ ارْتِبَاطٌ كَبِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِذْ جَاءَ فِيهَا: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ [88 \ 21 - 24] ، وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ إِلَى قَوْلِهِ: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [89 \ 1 - 5] ; لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ الْأَكْبَرِ وَالْقَصْرِ فِي إِيَابِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَحِسَابِهِمْ عَلَيْهِ فَحَسْبُ يَتَنَاسَبُ مَعَهُ هَذَا الْقَسَمُ الْعَظِيمُ. أَمَّا ارْتِبَاطُهُ بِمَا فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ هُنَا خَمْسُ مُسَمَّيَاتٌ: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [89 \ 1 - 4] ، وَالَّذِي فِي آخِرِ السُّورَةِ أَيْضًا خَمْسُ مُسَمَّيَاتٍ: دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [89 \ 21 - 23] . صُوَرٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ كُلِّهِ مِنْ أَوَّلِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ، وَدَكِّ الْأَرْضِ إِلَى نِهَايَةِ الْحِسَابِ، وَتَذَكُّرِ كُلِّ إِنْسَانٍ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، تُقَابِلُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقَسَمُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَاذَا وَلَا كَيْفَ فَعَلَ، بِمَنْ ذَكَرُوا، وَهُمْ: عَادٌ، وَثَمُودُ، وَفِرْعَوْنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَلَاثَتِهِمْ فِي سُورَةِ " الْحَاقَّةِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [69 \ 105 - 10] . وَالْجَدِيدُ هُنَا: هُوَ وَصْفُ كُلٍّ مِنْ عَادٍ مِنْ أَنَّهَا ذَاتُ الْعِمَادِ، وَلَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ أَنَّهُمْ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ أَنَّهُ ذُو أَوْتَادٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا: أَمَّا عَادٌ، فَقِيلَ: الْعِمَادُ عِمَادُ بُيُوتِ الشَّعَرِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْقَبِيلَةُ. وَطُولُ عِمَادِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 بُيُوتِهَا: كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ أَجْسَامِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي صَخْرٍ: رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ وَطُولُ الْأَجْسَامِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ أَصْحَابِهَا. وَقِيلَ: إِرَمُ كَانَتْ مَدِينَةً رَفِيعَةَ الْبُنْيَانِ، وَذَكَرُوا فِي أَخْبَارِهَا قِصَصًا تَفُوقُ الْخَيَالَ، وَأَنَّهَا فِي الرَّبْعِ الْخَالِي، وَلَكِنْ حَيْثُ لَمْ تَثْبُتْ أَخْبَارُهَا بِسَنَدٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْوَاقِعُ، فَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ خُسِفَ بِهَا وَلَمْ تَعُدْ مَوْجُودَةً. أَمَّا ثَمُودُ: فَقَدْ جَابُوا، أَيْ: نَحَتُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، بِوَادِ الْقُرَى فِي مَدَائِنِ صَالِحٍ، وَهِيَ بُيُوتُهُمْ مَوْجُودَةٌ حَتَّى الْآنَ. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ، فَقِيلَ: هِيَ أَوْتَادُ الْخِيَامِ، كَانَ يَتِدُهَا لِمَنْ يُعَذِّبُهُمْ. وَقِيلَ: هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجُنُودِ يُثَبِّتُ بِهَا مُلْكَهُ. وَقِيلَ: هِيَ أَكَمَاتٌ وَأَسْوَارٌ مُرْتَفِعَاتٌ، يُلْعَبُ لَهُ فِي مَرَابِعِهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا نَصُّهُ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ "، ذَكَرَ لَنَا أَنَّهَا كَانَتْ مَطَالٌّ، وَمَلَاعِبُ يُلْعَبُ لَهُ تَحْتَهَا مِنْ أَوْتَادٍ وَجِبَالٍ ". وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَنَّهَا مُرْتَفِعَةٌ، وَأَنَّهَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ بِالْأَهْرَامِ بِمِصْرَ، وَيُرَجِّحُ ذَلِكَ عِدَّةُ أُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّهَا تُشْبِهُ الْأَوْتَادَ فِي مَنْظَرِهَا طَرَفُهُ إِلَى أَعْلَى، إِذِ الْقِمَّةُ شِبْهُ الْوَتَدِ، مُدَبَّبَةٌ بِالنِّسْبَةِ لَضَخَامَتِهَا، فَهِيَ بِشَكْلٍ مُثَلَّثٍ، قَاعِدَتُهُ إِلَى أَسْفَلَ وَطَرَفُهُ إِلَى أَعْلَى. وَمِنْهَا: ذِكْرُهُ مَعَ ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، بِجَامِعِ مَظَاهِرِ الْقُوَّةِ، فَأُولَئِكَ نَحَتُوا الصَّخْرَ بُيُوتًا فَارِهِينَ، وَهَؤُلَاءِ قَطَعُوا الصَّخْرَ الْكَبِيرَ مِنْ مَوْطِنٍ لَا جِبَالَ حَوْلَهُ، مِمَّا يَدُلُّ أَنَّهَا نُقِلَتْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَالْحَالُ أَنَّهَا قِطَعٌ كِبَارٌ صَخِرَاتٌ عِظَامٌ فَفِي اقْتِطَاعِهَا وَفِي نَقْلِهَا إِلَى مَحَلِّ بِنَائِهَا، وَفِي نَفْسِ الْبِنَاءِ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَتَسْخِيرِ الْعِبَادِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْأَهْرَامِ الْقَائِمَةِ بِالذَّاتِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلِكُلِّ جِيلٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 أَوْقَعَ فِي الْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ ; بِأَنَّ مَنْ أَهْلَكَ تِلْكَ الْأُمَمَ، قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [89 \ 14] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِي وَيُمْسِكُ ابْتِلَاءً لِلْعَبْدِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا، وَهِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ وَرَدْعٍ، وَبَيَانٌ أَنَّ الْمَعْنَى لَا كَمَا قُلْتُمْ، فِيهِ تَعْدِيلٌ لِمَفَاهِيمِ الْكُفَّارِ ; بِأَنَّ الْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ لَا عَنْ إِكْرَامٍ وَلَا لِإِهَانَةٍ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [21 \ 35] . وَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [8 \ 28] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا بَعْدَ مَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ صِحَّةَ الْمَفَاهِيمِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَيَّنَ حَقِيقَةَ فِتْنَةِ الْمَالِ إِيجَابًا وَسَلْبًا جَمْعًا وَبَذْلًا، فَبَدَأَ بِأَقْبَحِ الْوُجُوهِ مِنَ: الْإِمْسَاكِ مِنْ عَدَمِ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ، مَهِيضِ الْجَنَاحِ، مَكْسُورِ الْخَاطِرِ، وَالتَّقَاعُسِ عَنْ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، خَالِي الْيَدِ، جَائِعِ الْبَطْنِ، سَاكِنِ الْحَرَكَةِ، وَهَذَانِ الْجَانِبَانِ أَهَمُّ مُهِمَّاتِ بَذْلِ الْمَالِ وَهُمْ يُمْسِكُونَ عَنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْجَانِبَ هُوَ اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [90 \ 11 - 16] . وَمِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا أَيِ: الْمِيرَاثَ، فَلَا يُعْطُونَ النِّسْوَةَ وَهُنَّ ضَعِيفَاتُ الشَّخْصِيَّةِ، أَحْوَجُ إِلَى مَالِ مُوَرِّثِهِنَّ، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا حَتَّى اسْتَعْبَدَكُمْ وَأَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فِيهِ. وَهُنَا لَفْتُ نَظَرٍ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَمَنْ أُعْطِيَ مِنْهُمْ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغْفِلَ طُرُقَ الْبَذْلِ الْهَامَّةَ، وَمَنْ مُنِعَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَشْرِفَ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْحَاقَّةِ» أَيْضًا هَذَا السِّيَاقُ نَفْسُهُ، بَعْدَ ذِكْرِ ثَمُودَ، وَعَادٍ، وَفِرْعَوْنَ، فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً إِلَى قَوْلِهِ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [69 \ 13 - 17] . مِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى «صَفًّا صَفًّا» ، أَيْ: عَلَى أَرْجَائِهَا صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْإِحَالَةُ عَلَى مَا يُفَسِّرُهَا فِي سُورَةِ «الرَّحْمَنِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [55 \ 33] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [89 \ 22] ، «وَجَاءَ رَبُّكَ» : مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ. مَوَاضِعُ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مِرَارًا فِي الْأَضْوَاءِ فِي عِدَّةِ مَحَلَّاتٍ ; وَلْيُعْلَمْ أَنَّهَا وَالِاسْتِوَاءُ وَحَدِيثُ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [2 \ 210] . وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَبْحَثَ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَامِلَةً فِي مُحَاضَرَةٍ أَسْمَاهَا: «آيَاتُ الصِّفَاتِ» ، وَطُبِعَتْ مُسْتَقِلَّةً. كَمَا تَقَدَّمَ لَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ [7 \ 54] ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِصِفَةِ الْمَجِيءِ بِذَاتِهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، أَيْ: أَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَبْدَأِ: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» [42 \ 11] ، عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ لِلْمَخْلُوقِ، فَثَبَتَ اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ لِلْمَخْلُوقِ. وَكَذَلِكَ هُنَا كَمَا ثَبَتَ اسْتِوَاءٌ ثَبَتَ مَجِيءٌ، وَكَمَا ثَبَتَ مَجِيءٌ ثَبَتَ نُزُولٌ. وَالْكُلُّ مِنْ بَابِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أَيْ: عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَحْنُ كُلِّفْنَا بِالْإِيمَانِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِصِفَاتِ اللَّهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُكَيِّفَ، إِذِ الْكَيْفُ مَمْنُوعٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَوْضُوعَ تَذَكُّرِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [89 \ 24] . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [25 \ 27] الْآيَاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْبَلَدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّامِ، وَهَلْ هِيَ لِنَفْيِ الْقَسَمِ أَوْ لِتَأْكِيدِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [75 \ 1] ، إِلَّا أَنَّهَا هُنَا لَيْسَتْ لِلنَّفْيِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَقْسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [95 \ 1 - 3] ; لِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مُرَادٌ بِهِ مَكَّةُ إِجْمَاعًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَأَنْتَ أَيِ: الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِلٌّ، أَيْ: حَالٌّ أَوْ حَلَالٌ بِهَذَا الْبَلَدِ [90 \ 2] ، أَيْ مَكَّةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ نَظَائِرُهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ، مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ أَيْ: وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ يَتَقَطَّعُ. وَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثًا مُطَوَّلًا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، «حِلٌّ» : بِمَعْنَى حَالٌّ، وَالْفِعْلُ الْمُضَعَّفُ يَأْتِي مُضَارِعُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَضَرَبَ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ مِنْ بَابِ نَصَرَ. تَقُولُ: حَلَّ الْعُقْدَةَ يَحُلُّهَا - بِالضَّمِّ -، وَتَقُولُ: حَلَّ بِالْمَكَانِ يَحِلُّ - بِالْكَسْرِ -: إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَالْإِحْلَالُ دُونَ الْإِحْرَامِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِحِلٌّ: هَلْ هُوَ مِنَ الْإِحْلَالِ بِالْمَكَانِ؟ أَوْ هُوَ مِنَ التَّحَلُّلِ ضِدَّ الْإِحْرَامِ؟ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ مِنَ الْإِحْلَالِ ضِدَّ الْإِحْرَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْلَالِ هَذَا. فَقِيلَ: هُوَ إِحْلَالُ مَكَّةَ لَهُ فِي عَامِ الْفَتْحِ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: «حِلٌّ» : أَيْ: حَلَالٌ لَهُ مَا يَفْعَلُ بِمَكَّةَ غَيْرُ آثِمٍ، بَيْنَمَا هُمْ آثِمُونَ بِفِعْلِهِمْ. وَقِيلَ: «حِلٌّ» : أَيْ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُعَظِّمُونَ هَذَا الْبَلَدَ وَحُرْمَتَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مُسْتَحِلُّونَ إِيذَاءَكَ وَإِخْرَاجَكَ. وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ: أَنَّهُ مِنَ الْحُلُولِ وَالْبَقَاءِ وَالسَّكَنِ، أَيْ: وَأَنْتَ حَالٌّ بِهَا. اهـ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَوَعْدًا بِالْفَتْحِ، وَأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَرَامًا، فَيُقَاتِلُ أَهْلَهَا وَيَنْتَصِرُ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَنَّهُ تَسْلِيَةٌ لَهُ وَأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ بِهِ، وَسَيَنْصُرُهُ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ تَأْكِيدًا لِشَرَفِ مَكَّةَ ; إِذْ هِيَ أَوَّلَا فِيهَا بَيْتُ اللَّهِ وَهُوَ شَرَفٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالٌّ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ هُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قَائِلًا ; وَذَلِكَ لِقَرَائِنَ مِنْ نَفْسِ السُّورَةِ وَمِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. مِنْهَا: أَنَّ حُلُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْبَلَدِ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِعْلًا، وَأَهَمَّهُ أَنَّ اللَّهَ رَافِعٌ عَنْهُمُ الْعَذَابَ ; لِوُجُودِهِ فِيهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [8 \ 33] ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَهَذَا الْبَلَدُ الْأَمِينُ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَؤُلَاءِ الْآمِنُونَ مِنَ الْعَذَابِ بِفَضْلِ وُجُودِكَ فِيهِمْ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُلُولِهِ فِيهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، يُلَاقِي مِنَ الْمَشَاقِّ، وَيَصْبِرُ عَلَيْهَا. وَفِيهِ أَرْوَعُ الْمَثَلِ لِلصَّبْرِ عَلَى الْمَشَاقِّ فِي الدَّعْوَةِ، فَقَدْ آذَوْهُ كُلَّ الْإِيذَاءِ، حَتَّى وَضَعُوا سَلَا الْجَزُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَصْبِرُ عَلَيْهِمْ، وَآذَوْهُ فِي عَوْدَتِهِ مِنَ الطَّائِفِ، وَجَاءَهُ مَلِكُ الْجِبَالِ نُصْرَةً لَهُ، فَأَبَى وَصَبَرَ وَدَعَا لَهُمْ، وَمَنَعُوهُ الدُّخُولَ إِلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 بَلَدِهِ مَسْقَطَ رَأْسِهِ فَصَبَرَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ، وَرَضِيَ الدُّخُولَ فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ ; لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [90 \ 4] ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِهِ. فَإِذَا كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُكَابِدُ فِي حَيَاتِهِ، أَيًّا كَانَ هُوَ، وَلِأَيِّ غَرَضٍ كَانَ، فَمُكَابَدَتُكَ تِلْكَ جَدِيرَةٌ بِالتَّقْدِيرِ وَالْإِعْظَامِ، حَتَّى يُقْسَمَ بِهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ قِيلَ: الْوَالِدُ: هُوَ آدَمُ، وَمَا وَلَدَ، قِيلَ: «مَا» نَافِيَةٌ. وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ. فَعَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ: أَيْ: وَكُلُّ عَظِيمٍ لَمْ يُولَدْ لَهُ. وَعَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ: أَيْ: بِمَعْنَى الْوِلَادَةِ مِنْ تَخْلِيصِ نَفْسٍ مِنْ نَفْسٍ، وَمَا يَسْبِقُ ذَلِكَ مِنْ تَلْقِيحٍ وَحَمْلٍ، وَنُمُوِّ الْجَنِينِ، وَتَفْصِيلِهِ وَتَخْلِيقِهِ، وَتَسْهِيلِ وِلَادَتِهِ. وَقِيلَ: «وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» : كُلُّ وَالِدٍ مَوْلُودٌ مِنْ حَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ. وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَالِدَ هُوَ آدَمُ، وَمَا وَلَدَ ذُرِّيَّتَهُ، بِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ مَعَ هَذَا الْبَلَدِ ; لِأَنَّهَا أُمُّ الْقُرَى، وَهُوَ أَبُو الْبَشَرِ، فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِأُصُولِ الْمَوْجُودَاتِ وَفُرُوعِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ تَقَدَّمُ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [84 \ 6] . قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ لَمْ يُبَيِّنْ أَيَرَاهُ أَحَدٌ؟ وَمَنِ الَّذِي يَرَاهُ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرَاهُ، وَلَكِنْ جَاءَ الْجَوَابُ مَقْرُونًا بِالدَّلِيلِ وَالْإِحْصَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [90 \ 8 - 10] ; لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَيَعْلَمُ مِنْهُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَلِسَانًا يَنْطِقُ بِهِ وَيُحْصِي عَلَيْهِ: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» [50 \ 18] ، وَهَدَاهُ الطَّرِيقَ، طَرِيقَ الْبَذْلِ وَطَرِيقَ الْإِمْسَاكِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; فَلَنْ يُنْفِقَ دِرْهَمًا إِلَّا وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهُ وَيَرَاهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ النَّجْدُ: الطَّرِيقُ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْإِنْسَانِ» بَعْدَ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [76 \ 2 - 3] ، أَيِ: الطَّرِيقَ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِدَلِيلِ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [76 \ 3] . وَتَقَدَّمَ الْمَعْنَى هُنَاكَ، وَيَأْتِي فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [91 \ 8] . زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لَهُ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَقَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْعَقَبَةِ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [90 \ 12] ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِصِيغَةِ «وَمَا أَدْرَاكَ» ، فَقَدْ جَاءَ تَفْصِيلُهُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [101 \ 1 - 4] ، وَمَا بَعْدَهَا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [69 \ 1 - 2] . وَفِي تَفْسِيرِ الْعَقَبَةِ بِالْمَذْكُورَاتِ، فَكُّ الرَّقَبَةِ، وَإِطْعَامُ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، تَوْجِيهٌ إِلَى ضَرُورَةِ الْإِنْفَاقِ حَقًّا لَا مَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ بِدُونِ حَقِيقَةٍ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [90 \ 6] . أَمَّا فَكُّ الرَّقَبَةِ: فَإِنَّهُ الْإِسْهَامُ فِي عِتْقِ الرَّقِيقِ، وَالِاسْتِقْلَالُ فِي عِتْقِهَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِفَكِّ النَّسَمَةِ. وَهَذَا الْعُنْصُرُ مِنَ الْعَمَلِ بَالِغُ الْأَهَمِّيَّةِ، حَيْثُ قُدِّمَ فِي سُلَّمِ الِاقْتِحَامِ لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ فَضْلِ هَذَا الْعَمَلِ حَتَّى أَصْبَحَ عِتْقُ الرَّقِيقِ أَوْ فَكُّ النَّسَمَةِ، يُعَادَلُ بِهِ عِتْقُ الْمُعْتَقِ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ بِعُضْوٍ، وَفِيهِ نُصُوصٌ عَدِيدَةٌ سَاقَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِحَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّقِّ، وَمَدَى حِرْصِهِ وَتَطَلُّعِهِ إِلَى تَحْرِيرِ الرِّقَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 فَهَا هُوَ هُنَا يَجْعَلُ عَتَقَ الرَّقَبَةِ، سُلَّمَ اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، وَجَعَلَهُ عِتْقًا لِلْمُعَتَقِ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ بِعُضْوٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَسْعَى لِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ كَفَّارَةً لِكُلِّ يَمِينٍ وَلِلظِّهَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَفَّارَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، كُلُّ ذَلِكَ نَوَافِذُ إِطْلَاقِ الْأُسَارَى، وَفَكُّ الرِّقَابِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُفْتَحْ لِلِاسْتِرْقَاقِ إِلَّا بَابٌ وَاحِدٌ، هُوَ الْأَسْرُ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَا غَيْرَ، وَهُمَا مِمَّا سَبَقَ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ رَدًّا عَلَى الْمُسْتَشْرِقِينَ وَمَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْ ; فِي ادِّعَائِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ: أَنَّهُ مُتَعَطِّشٌ لِاسْتِرْقَاقِ الْأَحْرَارِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [90 \ 14] . أَيْ: شِدَّةٍ وَجُوعٍ. وَالسَّاغِبُ: الْجَائِعُ ; قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَلَوْ كُنْتَ جَارًا يَا بْنَ قَيْسٍ لِعَاصِمٍ ... لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُكَ سَاغِبًا أَيْ: لَوْ كُنْتَ جَارًا بِحَقٍّ تَعْنِي بِحَقِّ الْجَارِ، لَمَا حَدَثَ لِجَارِكَ هَذَا. وَهَذَا الْقَيْدُ لِحَالِ الْإِطْعَامِ ; دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ، وَتَقْدِيمِ مَا عِنْدَ اللَّهِ ; عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76 \ 8] ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُبِّهِ أَنَّهُ لِلطَّعَامِ، وَهَذَا غَالِبٌ فِي حَالَاتِ الشِّدَّةِ وَالْمَسْغَبَةِ. وَقَوْلُهُ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [59 \ 9] ، فَهِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْفَضِيلَةِ فِي الْإِطْعَامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، فَالْيَتِيمُ مَنْ حُرِمَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَقَدْ خَصُّوا فِي اللُّغَةِ يَتِيمَ الْحَيَوَانِ، مَنْ فَقَدَ الْأُمَّ، وَفِي الطُّيُورِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْإِنْسَانِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَ. وَ «ذَا مَقْرَبَةٍ» : أَيْ: قَرَابَةٍ، وَخُصَّ بِهِ ; لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وَعَلَى الْبَعِيدِ صَدَقَةٌ فَقَطْ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 وَالْأَحَادِيثُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتِيمِ مُتَضَافِرَةٌ، وَيَكْفِي قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَذَيْنِ» أَيِ: السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ قِيلَ: الْمِسْكِينُ مِنَ السُّكُونِ وَقِلَّةِ الْحَرَكَةِ، وَالْمَتْرَبَةُ: اللُّصُوقُ بِالتُّرَابِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ: أَيُّهُمَا أَشَدُّ احْتِيَاجًا وَمَا حَدُّ كُلٍّ مِنْهُمَا؟ فَاتَّفَقُوا أَوَّلًا: عَلَى أَنَّهُ إِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، وَإِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وَإِذَا ذُكِرَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، فَيَشْمَلُ الثَّانِيَ مَعَهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ جَامِعًا لَهُمَا كَمَا هُوَ هُنَا، فَالْإِطْعَامُ يَشْمَلُ الِاثْنَيْنِ مَعًا، وَإِذَا اجْتَمَعَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالتَّعْرِيفِ. فَالْمِسْكِينُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْفَقِيرُ، قَالُوا: مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَقْرَةِ وَهِيَ: الْحُفْرَةُ تُحْفَرُ لِلنَّخْلَةِ وَنَحْوِهَا لِلْغَرْسِ، فَكَأَنَّهُ نَزَلَ إِلَى حُفْرَةٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا. وَقِيلَ: مِنْ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَإِذَا أُخِذَتْ فَقَارٌ مِنْهَا عَجَزَ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْفَقِيرُ أَشَدُّ حَاجَةً، وَيُرَجِّحُهُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [18 \ 79] ، فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ وُجُودِ سَفِينَةٍ لَهُمْ يَتَسَبَّبُونَ عَلَيْهَا لِلْمَعِيشَةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ. مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ» ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ. وَقَدْ قَالُوا فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنْهُمَا: الْمِسْكِينُ مَنْ يَجِدُ أَقَلَّ مَا يَكْفِيهِ، وَالْفَقِيرُ: مَنْ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا هَذَا قَيْدٌ فِي اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ عِتْقٍ، أَوْ إِطْعَامٍ ; لِأَنَّ عَمَلَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ لَا يَجْعَلُهُ يَقْتَحِمُ الْعَقَبَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; لِإِحْبَاطِ عَمَلِهِ وَلِاسْتِيفَائِهِ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا، وَ " ثُمَّ " هُنَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ لَا الزَّمَنِيِّ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَشْرُوطٌ وُجُودُهُ عِنْدَ الْعَمَلِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ شُرُوطِ قَبُولِ الْعَمَلِ وَصِحَّتِهِ فِي سُورَةِ " الْإِسْرَاءِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [20 \ 112] ، وَكَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [17 \ 19] ، وَقَوْلِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [16 \ 97] ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ الْأَسَاسِيُّ فِي حَمْلِ الْعَبْدِ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ يَبْتَغِي بِهِ الثَّوَابَ، وَخَاصَّةً الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ بَذْلٌ بِدُونِ عِوَضٍ عَاجِلٍ. وَقَدْ بَحَثَ الْعُلَمَاءُ مَوْضُوعَ عَمَلِ الْكَافِرِ الَّذِي عَمِلَهُ حَالَةَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ، هَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَمْ لَا؟ وَالرَّاجِحُ: أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَنَّثُ بِأَعْمَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; فَهَلْ لَنَا مِنْهَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنَ الْخَيْرِ "، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُعْتِقُ الرِّقَابَ، وَيَحْمِلُ عَلَى إِبِلِهِ لِلَّهِ - فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: " لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ". وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَهَا، أَيْ: لَوْ أَسْلَمَ فَقَالَهَا كَانَ يَنْفَعُهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ تَتِمَّةٌ لِصِفَاتِهِمْ، وَالصَّبْرُ عَامٌّ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمَرْحَمَةُ زِيَادَةٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَالْحَدِيثُ: " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ". وَذِكْرُ الْمَرْحَمَةِ هُنَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْعَطْفِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الشَّمْسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَشْرِ: يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى سَبْعَ مَرَّاتٍ بِسَبْعِ آيَاتٍ كَوْنِيَّةٍ، هِي َ: الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَاللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ، وَالسَّمَاءُ، وَالْأَرْضُ، وَالنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ، مَعَ حَالَةٍ لِكُلِّ مُقْسَمٍ بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ فَلَاحُ مَنْ زَكَّى تِلْكَ النَّفْسَ وَخَيْبَةِ مَنْ دَسَّاهَا، وَمَعَ كُلِّ آيَةٍ جَاءَ الْقَسَمُ بِهَا تَوْجِيهًا إِلَى أَثَرِهَا الْعَظِيمِ الْمُشَاهَدِ الْمَلْمُوسِ، الدَّالِّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ. وَذَلِكَ كَالْآتِي أَوَّلًا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، فَالشَّمْسُ وَحْدَهَا آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ طَاقَةٍ حَرَارِيَّةٍ فِي ذَاتِهَا تَفُوقُ كُلَّ تَقْدِيرٍ، وَهِيَ عَلَى الزَّمَانِ بِدُونِ انْتِقَاصٍ، فَهِيَ فِي ذَاتِهَا آيَةٌ. ثُمَّ جَاءَ وَصْفُ أَثَرِهَا وَهُوَ: «ضُحَاهَا» ، وَهُوَ انْتِشَارُ ضَوْئِهَا ضَحْوَةَ النَّهَارِ، وَهَذَا وَحْدَهُ آيَةٌ، لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ لِحَرَكَتِهَا، وَحَرَكَتُهَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [36 \ 37 - 38] ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي حَاجَّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نُمْرُوذَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [2 \ 258] . فَفِي هَذَا السَّيْرِ قُدْرَةٌ بَاهِرَةٌ وَدِقَّةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، «وَضُحَاهَا» : نَتِيجَةٌ لِهَذَا السَّيْرِ، ثُمَّ «ضُحَاهَا» نِعَمٌ جَزِيلَةٌ عَلَى الْكَوْنِ كُلِّهِ، مِنِ انْتِشَارٍ فِي الْأَرْضِ، وَانْتِفَاعٍ بِضَوْئِهَا وَأَشِعَّتِهَا. وَقَدْ قَالُوا: لَوِ اقْتَرَبَتْ دَرَجَةً أَوِ ارْتَفَعَتْ دَرَجَةً، لَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهَا بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهَا تُحْرِقُ بِاقْتِرَابِهَا، وَيَتَجَمَّدُ الْعَالَمُ مِنْ بُعْدِهَا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 فَالضُّحَى وَحْدَهُ آيَةٌ وَهُوَ حَرُّهَا كَقَوْلِهِ: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [20 \ 119] ، أَيْ: بِحَرِّ الشَّمْسِ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالضُّحَى وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [93 \ 1 - 2] . وَقَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، فَهُوَ كَذَلِكَ الْقَمَرُ وَحْدَهُ آيَةٌ، وَكَذَلِكَ تُلُوُّهُ لِلشَّمْسِ وَنِظَامُ مَسِيرِهِ بِهَذِهِ الدِّقَّةِ، وَهَذَا النِّظَامُ فَلَا يَسْبِقُهَا وَلَا تَفُوتُهُ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [36 \ 40] . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا تَلَاهَا، أَيْ: تَلَا الشَّمْسَ، دَلَالَةٌ عَلَى سَيْرِ الْجَمِيعِ، وَأَنَّهَا سَابِقَتُهُ وَهُوَ تَالِيهَا. فَقِيلَ: تَالِيهَا عِنْدَ أَوَّلِ الشَّهْرِ تَغْرُبُ، وَيَظْهَرُ مِنْ مَكَانِ غُرُوبِهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْهَيْئَةِ: تَالِيهَا فِي مَنْزِلَةِ الْحَجْمِ، أَيْ: كُبْرَى وَهُوَ كَبِيرٌ بَعْدَهَا فِي الْحَجْمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْقَمَرِ مِنْ فَوَائِدَ لِلْخَلِيقَةِ، مِنْ تَخْفِيفِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْخَصَائِصِ عَلَى الزَّرْعِ، وَأَهَمُّ خَصَائِصِهِ بَيَانُ الشُّهُورِ بِتَقْسِيمِ السَّنَةِ، وَمَعْرِفَةِ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَوْمٍ، وَحَجٍّ، وَزَكَاةٍ، وَعِدَّةِ النِّسَاءِ، وَكَفَّارَاتٍ بِصَوْمٍ، وَحُلُولِ الدُّيُونِ، وَشُرُوطِ الْمُعَامَلَاتِ، وَكُلِّ مَا لَهُ صِلَةٌ بِالْحِسَابِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ. وَقَدْ جَاءَ الْقَسَمُ بِالْقَمَرِ فِي «الْمُدَّثِّرِ» فِي قَوْلِهِ: كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [74 \ 32 - 33] ، وَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [84 \ 18] ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ آيَتِهِ وَدِقَّةِ دَلَالَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، «وَالنَّهَارِ» هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَ «جَلَّاهَا» قِيلَ: الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ لِلشَّمْسِ كَمَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَكِنِ اخْتَارَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا لِلْأَرْضِ، أَيْ: كَشَفَهَا وَأَوْضَحَ كُلَّ مَا فِيهَا ; لِيَتَيَسَّرَ طَلَبُ الْمَعَاشِ وَالسَّعْيِ، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [10 \ 67] ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [25 \ 47] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى: أَيْ: ظَهَرَ وَوَضَحَ بِدُونِ ضَمِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [92 \ 1 - 2] ، أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ غِشَاوَةِ اللَّيْلِ يَكُونُ بِتَجَلِّي النَّهَارِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى عِظَمَ آيَةِ النَّهَارِ، وَعِظَمَ آيَةِ اللَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِمَا إِلَّا اللَّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [28 \ 71 - 72] . وَقَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، قَالُوا: يَغْشَى الشَّمْسَ فَيُحْجَبُ ضِيَاؤُهَا، وَالْكَلَامُ عَلَى اللَّيْلِ، كَالْكَلَامِ عَلَى النَّهَارِ، مِنْ حَيْثُ الْآيَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَتِ النُّصُوصُ الْكَافِيَةُ، وَسَيَأْتِي الْإِقْسَامُ بِاللَّيْلِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [92 \ 1] ، أَيْ: يَغْشَى الْكَوْنَ كُلَّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [84 \ 17] ، أَيْ: جَمَعَ وَاشْتَمَلَ بِظَلَامِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي «يَغْشَاهَا» : رَاجِعٌ إِلَى الشَّمْسِ، وَعَلَيْهِ قِيلَ: إِنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ رَاجِعٌ كُلُّهُ إِلَى الشَّمْسِ فِي حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فِي ضُحَاهَا ثُمَّ تَجَلِّيهَا، ثُمَّ تُلُوُّ الْقَمَرِ لَهَا، ثُمَّ بِغَشَيَانِ اللَّيْلِ إِيَّاهَا، وَهُنَا سُؤَالٌ: كَيْفَ يَغْشَى اللَّيْلُ الشَّمْسَ مَعَ أَنَّ اللَّيْلَ وَهُوَ الظُّلْمَةُ نَتِيجَةٌ لِغُرُوبِ الشَّمْسِ عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا اللَّيْلُ؟ فَقِيلَ: إِنَّ اللَّيْلَ يُغَطِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ، فَتَتَكَوَّنُ الظُّلْمَةُ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ. وَهُوَ أَنَّ الشَّمْسَ ظَاهِرَةٌ وَضَوْءُهَا مُنْتَشِرٌ، وَلَكِنْ فِي قِسْمِ الْأَرْضِ الْمُقَابِلِ لِلظُّلْمَةِ الْمَوْجُودَةِ، كَمَا أَنَّ الظُّلْمَةَ تَكُونُ فِي الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ لِلنَّهَارِ، وَهَكَذَا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «يَغْشَاهَا» وَ «جَلَّاهَا» رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُغَايِرَةً فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، قِيلَ: «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي، وَجِيءَ بِهَا بَدَلًا عَنْ «مَنْ» الَّتِي لِأُولِي الْعِلْمِ ; لِإِشْعَارِهَا مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ، أَيْ: «وَالسَّمَاءِ» وَالْقَادِرِ الَّذِي «بَنَاهَا» ، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهَا فِي «الْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ» ، وَالْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 «الَّذِي سِوَّاهَا» ، وَ «مَا» مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [109 \ 3] ، وَمِثْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [4 \ 3] . وَتَقَدَّمَ مِرَارًا أَحْوَالُ السَّمَاءِ فِي بِنَائِهَا وَرَفْعِهَا، وَجَعْلِهَا سَبْعًا طِبَاقًا، وَقَدْ بَيَّنَ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَنَاهَا بِقُوَّةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [51 \ 47] ، أَيْ: بِقُوَّةٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [91 \ 6] ، مِثْلُ «دَحَاهَا» [79 \ 30] . وَقَالُوا: إِبْدَالُ الدَّالِّ طَاءً مَشْهُورٌ، وَطَحَا تَأْتِي بِمَعْنَى خَلَقَ، وَبِمَعْنَى ذَهَبَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَمِنَ الْأَوَّلِ: وَمَا تَدْرِي جَذِيمَةُ مَنْ طَحَاهَا ... وَلَا مَنْ سَاكِنُ الْعَرْشِ الرَّفِيعِ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ عَلْقَمَةَ: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ ... يُعِيدُ الشَّبَابَ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا وَمَدَّهَا، وَذَهَبَ بِأَطْرَافِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ، أَيْ: فِي مَدِّهَا. تَنْبِيهٌ. قَالُوا: ذِكْرُ السَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ; لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِهَا، وَبِالتَّالِي عَلَى حُدُوثِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَأَنَّ تَدْبِيرَهُمَا لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [91 \ 7 - 8] ، قَالُوا: النَّفْسُ تَحْمِلُ كَامِلَ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ وَقُوَاهُ الْإِنْسَانِيَّةِ، مِنْ تَفْكِيرٍ وَسُلُوكٍ. . . إِلَخْ. وَقِيلَ: النَّفْسُ هُنَا بِمَعْنَى الْقُوَى الْمُفَكِّرَةِ، الْمُدْرِكَةِ مَنَاطَ الرَّغْبَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَعَلَيْهِ ; فَذِكْرُ النَّفْسِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، تَكُونُ تَسْوِيَتُهَا فِي اسْتِوَاءٍ خِلْقَتِهَا وَتَرْكِيبِ أَعْضَائِهَا، وَهِيَ غَايَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْكَمَالِ وَالْعِلْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] ، وَقَالَ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [51 \ 21] ، أَيْ: مِنْ أَعْضَاءٍ وَأَجْزَاءٍ وَتَرَاكِيبَ، وَعِدَّةِ أَجْهِزَةٍ تُبْهِرُ الْعُقُولَ فِي السَّمْعِ، وَفِي الْبَصَرِ، وَفِي الشَّمِّ، وَفِي الذَّوْقِ، وَفِي الْحِسِّ، وَمِنْ دَاخِلِ الْجِسْمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ، فَحَقَّ أَنْ يُقْسِمَ بِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 «وَمَا سَوَّاهَا» : أَيْ: بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْعِلْمِ الشَّامِلِ. وَذِكْرُهَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي، فَإِنَّهُ فِي نَظَرِي أَعْظَمُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْمُفَكِّرَةَ وَالْمُقَدِّرَةَ لِلْأُمُورِ الَّتِي لَهَا الِاخْتِيَارُ، وَمِنْهَا الْقَبُولُ وَالرَّفْضُ وَالرِّضَى وَالسُّخْطُ وَالْأَخْذُ وَالْمَنْعُ، فَإِنَّهَا عَالَمٌ مُسْتَقِلٌّ. وَإِنَّهَا كَمَا قُلْنَا أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ الْجَانِبَ الْخِلْقِيَّ قَالَ تَعَالَى فِيهِ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْجَانِبِ، قَالَ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [33 \ 72] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ حَمَلَهَا بِصِدْقٍ وَأَدَّاهَا بِوَفَاءٍ، وَنَالَ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. فَهَذِهِ النَّفْسُ فِي تَسْوِيَتِهَا لِتَلَقِّي مَعَانِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَاسْتِقْبَالِ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ لِلْفُجُورِ، وَالتَّقْوَى أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ تِلْكَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تُبْدِي وَلَا تُعِيدُ، وَالَّتِي لَا تَمْلِكُ سَلْبًا وَلَا إِيجَابًا. وَهُنَا مِثَالٌ بَسِيطٌ فِيمَا اسْتُحْدِثَ مِنْ آلَاتِ حِفْظٍ وَحِسَابٍ، كَالْآلَةِ الْحَاسِبَةِ وَالْعَقْلِ الْأَلِكْتِرُونِيِّ، فَإِنَّهَا لَا تُخْطِئُ كَمَا يَقُولُونَ، وَقَدْ بَهَرَتِ الْعُقُولَ فِي صِفَتِهَا، وَلَكِنْ بِنَظْرَةٍ بَسِيطَةٍ نَجِدُهَا أَمَامَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ. فَنَقُولُ: إِنَّهَا أَوَّلًا مِنْ صُنْعِ هَذِهِ النَّفْسِ ذَاتِ الْإِدْرَاكِ النَّامِي وَالِاسْتِنْتَاجِ الْبَاهِرِ. ثَانِيًا: هِيَ لَا تَخْطِئُ ; لِأَنَّهَا لَا تُقَدِّرُ أَنْ تَخْطِئَ ; لِأَنَّ الْخَطَأَ نَاشِئٌ عَنِ اجْتِهَادٍ فِكْرِيٍّ، وَهِيَ لَا اجْتِهَادَ لَهَا، إِنَّمَا تُشِيرُ وُفْقَ مَا رُسِمَ لَهَا: كَالْمَادَّةِ الْمُسَجَّلَةِ فِي شَرِيطٍ، فَإِنَّ الْمُسَجِّلَ مَعَ دِقَّةِ حِفْظِهِ لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ حَرْفًا وَاحِدًا. أَمَّا الْإِنْسَانُ: فَإِنَّهُ يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ، وَعِنْدَمَا يُبَدِّلُ كَلِمَةً مَكَانَ كَلِمَةٍ، فَلِقُدْرَتِهِ عَلَى إِيجَادِ الْكَلِمَةِ الْأُخْرَى، أَوْ لِاخْتِيَارِهِ تَرْكَ الْكَلِمَةِ الْأُولَى. وَهَكَذَا هُنَا، فَاللَّهُ تَعَالَى هُنَا خَلَقَ تِلْكَ النَّفْسِ أَوَّلًا، ثُمَّ سِوَّاهَا عَلَى حَالَةٍ تَقْبَلُ تَلَقِّي الْإِلْهَامِ بِقَسِيمِهِ: الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ تَسْلُكُ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ، فَكَأَنَّ مَجِيءَ الْقَسَمِ بِهَا بَعْدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ ذَاتِهَا وَقُوَّةِ دَلَالَتِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، وَمَا سِوَاهَا مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ لِتَلَقِّي إِلْهَامِ اللَّهِ إِيَّاهَا. تَنْبِيهٌ. وَفِي مَجِيئِهَا بَعْدَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ ; مِنْ شَمْسٍ، وَقَمَرٍ، وَلَيْلٍ، وَنَهَارٍ، وَسَمَاءٍ، وَأَرْضٍ، لَفْتٌ إِلَى وُجُوبِ التَّأَمُّلِ فِي تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، يَسْتَلْهِمُ مِنْهَا الدَّلَالَةَ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى تَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ، وَحَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ، وَإِحْدَاثِ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ ; أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذَا الْعَالَمِ مِنْ صَانِعٍ، وَلَا بُدَّ لِلْمُحْدَثِ الْمُتَجَدِّدِ مِنْ فِنَاءٍ وَعَدَمٍ. كَمَا عَرَضَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى النُّمْرُوذِ نَمَاذِجَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَأَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى الْقَمَرِ، ثُمَّ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَوْلُهُ: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، إِنْ كَانَ «أَلْهَمَهَا» بِمَعْنَى هَدَاهَا وَبَيَّنَ لَهَا، فَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [90 \ 10] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [76 \ 3] ، وَهَذَا عَلَى الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ، الَّتِي بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ. وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى التَّيْسِيرِ وَالْإِلْزَامِ، فَفِيهِ إِشْكَالُ الْقَدَرِ فِي الْخَيْرِ الِاخْتِيَارِ. وَقَدْ بَحَثَ هَذَا الْمَعْنَى الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ بَحْثًا وَافِيًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا هَذَا هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَالْوَاوُ قَدْ حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ ; لِطُولِ مَا بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَوَّهَ عَنْهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [38 \ 64] ، مِنْ سُورَةِ «ص» ، وَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَالْأَصْلُ: لَقَدْ أَفْلَحَ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ لِطُولِ الْفَصْلِ، وَ «زَكَّاهَا» بِمَعْنَى طَهَّرَهَا، وَأَوَّلُ مَا يُطَهِّرُهَا مِنْهُ دَنَسُ الشِّرْكِ وَرِجْسُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [9 \ 28] ، وَتَطْهِيرُهَا مِنْهُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ مِنَ الْمَعَاصِي بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [53 \ 32] ، ثُمَّ بِعَمَلِ الطَّاعَاتِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [87 \ 14 - 15] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 وَاخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي «زَكَّاهَا» وَ «دَسَّاهَا» ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، فَهَلْ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، أَمْ يَعُودُ عَلَى الْعَبْدِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِكُلِّ قَوْلٍ بِبَعْضِ النُّصُوصِ. فَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [4 \ 49] ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [24 \ 21] ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا ; أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، وَأَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» . وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ لِلْقَوْلِ الثَّانِي فَكَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [87 \ 14 - 15] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [35 \ 18] ، وَقَوْلِهِ: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [79 \ 18 - 19] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [80 \ 3] ، وَكُلُّهَا كَمَا تَرَى مُحْتَمَلَةٌ، وَالْإِشْكَالُ فِيهَا كَالْإِشْكَالِ فِيمَا قَبْلَهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ تِلْكَ النُّصُوصِ كَالْجَمْعِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَنَّ مَا يَتَزَكَّى بِهِ الْعَبْدُ مِنْ إِيمَانٍ وَعَمَلٍ فِي طَاعَةٍ وَتَرْكٍ لِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّهُ بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْمُصَرِّحِ بِذَلِكَ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [24 \ 21] . وَكُلُّ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا عَوْدُ الضَّمِيرِ، أَوْ إِسْنَادُ التَّزْكِيَةِ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِنَّهَا بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَالتَّوْفِيقِ لِلْإِيمَانِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، كَمَا فِي قَوْلِكَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [53 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [4 \ 49] ، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [49 \ 14] ، بَلْ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [4 \ 49] ، الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 بِفَضْلِهِ، وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا بِعَدْلِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا «ثَمُودُ» : اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ أُسْنِدَ إِلَيْهَا التَّكْذِيبُ، أَيْ: بِنَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ، وَ «أَشْقَاهَا» هُوَ عَاقِرُ النَّاقَةِ أُسْنِدَ الِانْبِعَاثُ لَهُ وَحْدَهُ بَيْنَ مَا جَاءَ بَعْدَهُ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا، فَأَسْنَدَ الْعَقْرَ لَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْجَمْعُ بَيْنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» ، وَمَضْمُونُهُ أَنَّهُمْ مُتَوَاطِئُونَ مَعَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [54 \ 29] ، فَكَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فِي عَقْرِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَالسَّامِعُ الذَّمَّ شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ ... وَمُطْعِمُ الْمَأْكُولِ شَرِيكٌ لِلْآكِلِ وَفِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ فِي صَيْدِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مُحْرِمُونَ لِلْعُمْرَةِ: «هَلْ دَلَّهُ عَلَيْهِ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَلْ عَاوَنَهُ عَلَيْهِ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا إِذًا:» لِأَنَّ مَفْهُومَهُ: لَوْ عَاوَنُوا أَوْ دَلُّوا لَكَانُوا شُرَكَاءَ فِي صَيْدِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [5 \ 95] ، وَبِعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمْ حَلَّ لَهُمْ، فَلَوْ عَاوَنُوا أَوْ شَارَكُوا لَحَرُمَ عَلَيْهِمْ، وَهُنَا لَمَّا كَانُوا رَاضِينَ، وَنَادَوْهُ وَتَعَاطَى، سَوَاءٌ عُهُودُهُمْ أَوْ عَطَاؤُهُمْ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَعَقَرَهَا وَحْدَهُ، كَانَ هَذَا بَاسِمِ الْجَمِيعِ، فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِاسْمِ الْجَمِيعِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَعُقُوبَةُ الرَّبِيئَةِ مَعَ الْجَانِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ اللَّيْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَثَرِهِمَا عَلَى الْكَوْنِ، عَلَى أَنَّهُمَا آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [91 \ 3 - 4] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ [17 \ 12] ، فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، وَذِكْرُ كُلِّ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَثَرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، وَمَعْرِفَةِ الْحِسَابِ وَنَحْوِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِيرَادُ كُلِّ النُّصُوصِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، أَشَارَ إِلَيْهَا كُلِّهَا فِي سُورَةِ «النَّجْمِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [53 \ 45 - 46] ، وَقَدْ قُرِئَتْ بِعِدَّةِ قِرَاءَاتٍ مِنْهَا: خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَمِنْهَا «وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى» . وَذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ مَرْفُوعَةً إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، اخْتُلِفَ فِي لَفْظَةِ: «مَا» فَقِيلَ: إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: وَخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَنْ، أَيْ: وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْقَسَمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - وَهِيَ صِفَةُ الْخَلْقِ، وَيَكُونُ خَصَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ; لِمَا فِيهِمَا مِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَقُوَّةِ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا يَأْتِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ: «وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى» . يَكُونُ الْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقِ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لِمَا فِي الْخُلُقِ مِنْ قُدْرَةِ الْخَالِقِ أَيْضًا، وَعَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي يَكُونُ الْقَسَمُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَتَكُونُ مَا هُنَا مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [91 \ 5] ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ اسْتِعْمَالُهَا وَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ، إِلَّا أَنَّهَا لُوحِظَ فِيهَا مَعْنَى الصِّفَةِ، وَهِيَ صِفَةُ الْخَلْقِ أَوْ عَلَى مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ عِنْدَ الْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [4 \ 22] ، وَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [4 \ 3] ، لِمَا لُوحِظَ فِيهِ مَعْنَى الصِّفَةِ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ ; سَاغَ اسْتِعْمَالُ مَا بَدَلًا عَنْ مَنْ. وَفِي اخْتِصَاصِ خَلْقِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي هَذَا الْمَقَامِ لَفْتُ نَظَرٍ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْبَشَرِ عَنْهَا، كَمَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْإِعْجَازِ لِلْبَشَرِ: مِنْ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى شَيْءٍ فِي خُصُوصِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا. وَذَلِكَ: أَنَّ أَصْلَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ أَمْرٌ فَوْقَ إِدْرَاكِ وَقُوَى الْبَشَرِ، وَهِيَ كَالْآتِي: أَوَّلًا: فِي الْحَيَوَانَاتِ الثَّدْيِيَّةِ، وَهِيَ ذَوَاتُ الرَّحِمِ تَحْمِلُ وَتَلِدُ، فَإِنَّهَا تُنْتِجُ عَنْ طَرِيقِ اتِّصَالِ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ. وَتَذْكِيرُ الْجَنِينِ أَوْ تَأْنِيثُهُ لَيْسَ لِأَبَوَيْهِ دَخْلٌ فِيهِ، إِنَّهُ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، أَيْ: أَخْلَاطٍ مِنْ مَاءِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَجَعَلَ هَذَا ذَكَرًا وَذَاكَ أُنْثَى، فَهُوَ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [42 \ 49 - 50] . وَقَدْ ثَبَتَ عِلْمِيًّا أَنَّ سَبَبَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ، أَيْ: أَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ صَالِحٌ لِهَذَا وَذَاكَ، وَمَاءُ الرَّجُلِ هُوَ الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّمْيِيزُ ; لِانْقِسَامٍ يَقَعُ فِيهِ. فَالْمَرْأَةُ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ حَرْثًا، وَالرَّجُلُ هُوَ الزَّارِعُ، وَنَوْعُ الزَّرْعِ يَكُونُ عَنْ طَرِيقِهِ، كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [2 \ 223] ، وَالْحَرْثُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الزَّرْعِ، وَإِنَّمَا التَّصَرُّفُ عَنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ. وَيَتِمُّ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ مَبْدَأٍ مَعْلُومٍ عِلْمِيًّا، وَهُوَ أَنَّ خَلِيَّةَ التَّلْقِيحِ فِي الْأُنْثَى دَائِمًا وَأَبَدًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 مُكَوَّنَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَهِيَ دَائِمًا وَأَبَدًا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ: أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَيَلْتَحِمُ قِسْمٌ مِنْهَا مَعَ قِسْمِ خَلِيَّةِ الذَّكَرِ، وَخَلِيَّةُ الذَّكَرِ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَإِنَّمَا أَبَدًا تَنْقَسِمُ أَيْضًا عِنْدَ التَّلْقِيحِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَلَكِنْ أَحَدُهُمَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْآخِرُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَذْكِيرَ الْحَمْلِ سَبَقَ الْقِسْمُ الَّذِي مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ. فَيَنْدَمِجُ مَعَ قَسِيمِ خَلِيَّةِ الْأُنْثَى، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُهُمَا سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ، فَيَكُونُ الذَّكَرُ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَأْنِيثَ الْحَمْلِ سَبَقَ الْقِسْمُ الَّذِي هُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنَ الرَّجُلِ، فَيَنْدَمِجُ مَعَ قَسِيمِ خَلِيَّةِ الْمَرْأَةِ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَيَكُونُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، فَتَكُونُ الْأُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. أَمَّا النَّبَاتَاتُ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَشْجَارِ تَتَمَيَّزُ فِيهِ الذُّكُورُ مِنَ الْإِنَاثِ، كَالنَّخْلِ، وَالتُّوتِ مَثَلًا، وَبَقِيَّةُ الْأَشْجَارِ تَكُونُ الشَّجَرَةُ الْوَاحِدَةُ تَحْمِلُ زَهْرَةَ الذُّكُورَةِ وَزَهْرَةَ الْأُنُوثَةِ، فَتُلَقِّحُ الرِّيَاحُ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقَدْ حَدَّثَنِي عِدَّةُ أَشْخَاصٍ عَنْ غَرِيبَتَيْنِ فِي ذَلِكَ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ نَخْلَةً مَوْجُودَةً حَتَّى الْآنَ، فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَحْلًا يُؤْخَذُ مِنْهُ لِيُؤَبِّرَ النَّخِيلَ، وَفِي بَعْضِ السِّنِينَ نَخْلَةً تَطَّلِعُ وَتُثْمِرُ. وَحَدَّثَنِي آخَرُ فِي نَفْسِ الْمَجْلِسِ: مِنْ أَنَّهُ تُوجَدُ عِنْدَهُمْ شَجَرَةُ نَخْلٍ يَكُونُ أَحَدُ شِقَّيْهَا فَحْلًا ; يُؤْخَذُ مِنْهُ الطَّلْعُ يُلَقَّحُ بِهِ النَّخْلُ، وَشِقُّهَا الْآخَرُ نَخْلَةً يَتَلَقَّحُ مِنَ الشَّقِّ الْآخَرِ لِمُجَاوَرَتِهِ. كَمَّا حَدَّثَنِي ثَالِثٌ: أَنَّ وَالِدَهُ قَطَعَ بَعْضَ فَحْلِ النَّخْلِ ; لِكَثْرَتِهِ فِي النَّخِيلِ، وَبَعْدَ قَطْعِهِ نَبَتَ فِي أَصْلِهِ وَمِنْ جِذْعِهِ وَجُذُورِهِ نَخْلَةٌ تُثْمِرُ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَلَكِنَّهُ دَالٌّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ خَالِقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. أَمَّا عَمَلُ هَذَا الْجِهَازِ فِي الْحَيَوَانَاتِ، بَلْ وَفِي الْحَشَرَاتِ الدَّقِيقَةِ وَتَكَاثُرِهَا، فَهُوَ فَوْقَ الْحَصْرِ وَالْحَدِّ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي عَالَمِ الْحَشَرَاتِ، مَا يُلَقِّحُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، بِاحْتِكَاكِ بَعْضِ فَخِذَيْةِ بِبَعْضٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِمَّا لَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 تَأَمَّلَهُ الْعَاقِلُ لَوَجَدَ فِيهِ كَمَا أَسْلَفْنَا الْقُدْرَةَ الْبَاهِرَةَ، أَعْظَمُ مِمَّا فِي اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَمَا فِي النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَلَا سِيَّمَا إِذَا صَغُرَ الْكَائِنُ: كَالْبَعُوضَةِ فَمَا دُونَهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُرَى بِالْعَيْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ. سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ مَا أَعْظَمَ شَأْنُكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [91 \ 9 - 10] ، وَكِلَاهُمَا بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ وَالْعَمَلِ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُنَا يَقُولُ: «إِنَّ سَعْيَكُمْ» مَهْمَا كَانَ «لِشَتَّى» ، أَيْ: مُتَبَاعِدٌ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ. وَالشَّتَاتُ: التَّبَاعُدُ وَالِافْتِرَاقُ، وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ، كَمَرْضَى وَمَرِيضٍ، وَقَتْلَى وَقَتِيلٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدْ يَجْمَعُ اللَّهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَ مَا ... يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَلَّا تَلَاقِيَا وَهَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَفِي الْقَسَمِ مَا يُشْعِرُ بِالِارْتِبَاطِ بِهِ، كَبُعْدِ مَا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ تَمَامًا، وَهَكَذَا هُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي النَّتَائِجِ وَالْوَسَائِلِ، كَبُعْدِ مَا بَيْنَ فَلَاحِ مَنْ زَكَّاهَا، وَخَيْبَةِ مَنْ دَسَّاهَا الْمُتَقَدِّمِ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا. ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الشَّتَاتَ فِي التَّفْصِيلِ الْآتِي: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْعَطَاءِ، وَالْبُخْلِ، وَالتَّصْدِيقِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالْيُسْرَى، وَالْعُسْرَى، وَقَدْ أَطْلَقَ: «أَعْطَى» ; لِيَعُمَّ كُلَّ عَطَاءٍ مِنْ مَالِهِ وَجَاهِهِ وَجُهْدِهِ حَتَّى الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ، بَلْ حَتَّى طَلَاقَةَ الْوَجْهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» . وَالْحُسْنَى: قِيلَ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: لِلْخَلَفِ عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الْجَنَّةُ. وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ هُوَ الْأَخِيرُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [10 \ 26] ، فَقَالُوا: الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَهَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 الْمَعْنَى يَشْمَلُ كُلَّ الْمَعَانِي ; لِأَنَّهَا أَحْسَنُ خَلَفٍ لِكُلِّ مَا يُنْفِقُ الْعَبْدُ، وَخَيْرُ وَأَحْسَنُ مُجَازَاةٍ عَلَى أَيِّ عَمَلٍ مَهْمَا كَانَ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى بَعْدَ ذِكْرِ «أَعْطَى وَاتَّقَى» فِي الْأُولَى، وَ «بَخِلَ وَاسْتَغْنَى» فِي الثَّانِيَةِ. قِيلَ: هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الطَّاعَةِ يُيَسِّرُ إِلَى طَاعَةٍ أُخْرَى، وَفِعْلَ الْمَعْصِيَةِ يَدْفَعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [6 \ 110] . ثُمَّ قَالَ: وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُجَازِي مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ بِالتَّوْفِيقِ لَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الشَّرَّ بِالْخِذْلَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرٍ مُقَدَّرٍ. وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَدَدٍ كَثِيرٍ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَشْمَلُهَا وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ عَلِيٌّ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ:» مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ «، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى إِلَى قَوْلِهِ لِلْعُسْرَى «فَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَهَا تَعَلُّقٌ بِبَحْثِ الْقَدَرِ. وَتَقَدَّمَ مِرَارًا بِحَثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: جَاءَ قَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ ; لِأَنَّ الْعُسْرَى لَا تَيْسِيرَ فِيهَا. اهـ. وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْأُسْلُوبِ مُمْكِنٌ، وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّيْسِيرِ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ، إِذِ الْمُشَاهِدُ أَنَّ مَنْ خَذَلَهُمُ اللَّهُ - عِيَاذًا بِاللَّهِ - يُوجَدُ مِنْهُمْ إِقْبَالٌ وَقَبُولٌ وَارْتِيَاحٌ، لِمَا يَكُونُ أَثْقَلَ وَأَشَقَّ مَا يَكُونُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيَرَوْنَ مَا هُمْ فِيهِ سَهْلًا مُيَسَّرًا لَا غَضَاضَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 عَلَيْهِمْ فِيهِ، بَلْ وَقَدْ يَسْتَمْرِئُونَ الْحَرَامَ وَيَسْتَطْعِمُونَهُ. كَمَا ذَكَرَ لِي شَخْصٌ: أَنَّ لِصًّا قَدْ كَفَّ عَنِ السَّرِقَةِ ; حَيَاءً مِنَ النَّاسِ، وَبَعْدَ أَنْ كَثُرَ مَالُهُ وَكَبُرَ سِنُّهُ أَعْطَى رَجُلًا دَرَاهِمَ ; لِيَسْرِقَ لَهُ مَنْ زَرْعِ جَارِهِ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ وَدَارَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَأَتَاهُ بِثَمَرَةٍ مِنْ زَرْعِهِ هُوَ، أَيْ: زَرْعِ اللِّصِّ نَفْسِهِ، فَلَمَّا أَكَلَهَا تَفِلَهَا، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ طُعْمَةُ الْمَسْرُوقِ، فَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ بِهِ؟ قَالَ: أَتَيْتُ بِهِ مِنْ زَرْعِكَ، أَلَا تَسْتَحِي مِنْ نَفْسِكَ، تَسْرِقُ وَعِنْدَكَ مَا يُغْنِيكَ. فَخَجِلَ وَكَفَّ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ نَقِيضُ ذَلِكَ تَمَامًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ مِنْ غُلَامِهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِمَّا فِي شَكْوَتِهِ مِنْ لَبَنِهِ، فَلَمَّا طَعِمَهُ اسْتَنْكَرَ طَعْمَهُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ: مَرَرْتُ عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَحَلَبُوا لِي مِنْهَا، وَهَا هُوَ ذَا، فَوَضَعَ عُمَرَ إِصْبَعَهُ فِي فِيهِ، وَاسْتَقَاءَ مَا شَرِبَ. إِنَّهَا حَسَاسِيَةُ الْحَرَامِ اسْتَنْكَرَهَا عُمَرُ، وَأَحَسَّ بِالْحَرَامِ فَاسْتَقَاءَهُ، وَهَذَا وَذَاكَ بِتَيْسِيرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَصَدَقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ «. وَنَحْنُ نُشَاهِدُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ أَصْحَابَ الْمِهَنِ وَالْحِرَفِ كُلُّ وَاحِدٍ رَاضٍ بِعَمَلِهِ وَمُيَسَّرٌ لَهُ، وَهَكَذَا نِظَامُ الْكَوْنِ كُلُّهُ، وَالَّذِي يَهُمُّ هُنَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ لَهُ أَثَرُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ. تَنْبِيهٌ. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَ: مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى» ، وَ «مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى» ، وَاقِعَةٌ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ «أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ» ، أَوْ «بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ» . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى رَدٌّ عَلَى «مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى» ، وَ «مَا» هُنَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، أَيْ: لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [69 \ 28] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [26 \ 88] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، وَقَوْلُهُ: إِذَا تَرَدَّى، أَيْ: فِي النَّارِ - عِيَاذًا بِاللَّهِ - أَوْ تَرَدَّى فِي أَعْمَالِهِ، فَمَآلُهُ إِلَى النَّارِ ; بِسَبَبِ بُخْلِهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [3 \ 180] . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ، مِنْهَا: إِنَّ طَرِيقَ الْهُدَى دَالٌّ وَمُوَصِّلٌ عَلَيْنَا بِخِلَافِ الضَّلَالِ. وَمِنْهَا: الْتِزَامُ اللَّهِ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ لَهُمُ الْهُدَى، وَهَذَا الْوَجْهُ مَحَلُّ إِشْكَالٍ ; إِذْ إِنَّ بَعْضَ الْخَلْقِ لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ. وَقَدْ بَحَثَ هَذَا الْأَمْرَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ: مِنْ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْهُدَى عَامٌّ وَخَاصٌّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى أَيْ: بِكَمَالِ التَّصَرُّفِ وَالْأَمْرِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [1 \ 2] ، أَيْ: الْمُتَصَرِّفُ فِي الدُّنْيَا مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] ، أَيِ: الْمُتَصَرِّفُ فِي الْآخِرَةِ وَحْدَهُ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] . وَهَذَا كَدَلِيلٍ عَلَى تَيْسِيرِهِ لِعِبَادِهِ إِلَى مَا يَشَاءُ فِي الدُّنْيَا، وَمُجَازَاتِهِمْ بِمَا شَاءَ فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى أَيْ: تَتَلَظَّى، وَاللَّظَى: اللَّهَبُ الْخَالِصُ، وَفِي وَصْفِ النَّارِ هُنَا بِتَلَظَّى مَعَ أَنَّ لَهَا صِفَاتٍ عَدِيدَةً مِنْهَا: السَّعِيرُ، وَسَقَرُ، وَالْجَحِيمُ، وَالْهَاوِيَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ هُنَا صِنْفًا خَاصًّا، وَهُوَ مَنْ «كَذَّبَ وَتَوَلَّى» [92 \ 16] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي وَصْفِهَا أَيْضًا بِلَظَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [70 \ 15 - 16] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَهْلَهَا بِقَوْلِهِ: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى [70 \ 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 وَهُوَ كَمَا هُوَ هُنَا: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [92 \ 14 - 16] ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [92 \ 8 - 9] ، مِمَّا يَدُلُّ أَنَّ لِلنَّارِ عِدَّةَ حَالَاتٍ أَوْ مَنَاطِقَ أَوْ مَنَازِلَ، كُلُّ مَنْزِلَةٍ تَخْتَصُّ بِصِنْفٍ مِنَ النَّاسِ، فَاخْتَصَّتْ لَظَى بِهَذَا الصِّنْفِ، وَاخْتَصَّتْ سَقَرُ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَكَانُوا يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [4 \ 145] ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ مَنَازِلٌ وَدَرَجَاتٌ، حَسَبَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِيهَامِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَهُوَ أَنَّهَا تَنُصُّ وَعَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، أَنَّهُ لَا يَصْلَى النَّارَ إِلَّا الْأَشْقَى مَعَ مَجِيءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [19 \ 71] ; مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُرُودِ الْجَمِيعِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ بَيْنَ حَالِيْ عَظِيمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَظِيمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُرِيدَ أَنْ يُبَالَغَ فِي صِفَتَيْهِمَا الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ. فَقِيلَ: الْأَشْقَى وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالصَّلَى، كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ، وَقَالَ الْأَتْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالْجَنَّةِ، وَكَأَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ، وَقِيلَ عَنْهُمَا: هُمَا أَبُو جَهْلٍ، أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْمُشْرِكَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الصَّلَى الدُّخُولُ وَالشَّيْءَ، وَأَنْ يَكُونَ وَقُودُ النَّارِ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ، وَالْوُرُودُ وَالدُّخُولُ الْمُؤَقَّتُ بِزَمَنٍ غَيْرِ الصَّلَى ; لِقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْوُرُودِ، الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [19 \ 71] ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [19 \ 72] ، وَيَبْقَى الْإِشْكَالُ، بَيْنَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَبَيْنَ الْأَتْقَى، وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ التَّقِيَّ يَرِدُ، وَالْأَتْقَى لَا يَشْعُرُ بِوُرُودِهَا، كَمَنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْلَا التَّأْكِيدُ فِي آيَةِ الْوُرُودِ بِالْمَجِيءِ بِحَرْفِ " مِنْ " وَ " إِلَّا "، وَقَوْلِهِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، لَوْلَا هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ لَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِهَذِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 الْآيَةِ، وَأَنَّ الْأَتْقَى لَا يَرِدُهَا، إِلَّا أَنَّ وُجُودَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِيهِ تَقْرِيرُ مَصِيرِ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، " مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ "، وَ " مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ "، وَأَنْ صَلْيَهَا بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ وَهُوَ عَيْنُ الشَّقَاءِ، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي صَدَّقَ، وَكَانَ نَتِيجَةُ تَصْدِيقِهِ أَنَّهُ أَعْطَى مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَجَعَلَ إِتْيَانَ الْمَالِ نَتِيجَةَ التَّصْدِيقِ أَمْرًا بَالِغَ الْأَهَمِّيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا إِلَّا بِعِوَضٍ ; لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مُعَاوَضَةٌ، حَتَّى الْحَيَوَانُ تُعْطِيهِ عَلَفًا يُعْطِيكَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ حَلِيبٍ. إِلَخْ. فَالْمُؤْمِنُ الْمُصَدِّقُ بِالْحُسْنَى يُعْطِي، وَيَنْتَظِرُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ; لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ أَنَّهُ مُتَعَامِلٌ مَعَ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [2 \ 245] . أَمَّا الْمُكَذِّبُ: فَلَمْ يُؤْمِنْ بِالْجَزَاءِ آجِلًا، فَلَا يُخْرِجُ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِوَضًا مُعَجَّلًا، وَلَا يَنْتَظِرُ ثَوَابًا مُؤَجَّلًا، وَلِذَا كَانَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَيُوَاسُونَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، إِيمَانًا بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، بَيْنَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا كُرْهًا وَلَا يُخْرِجُونَ إِلَّا الرَّدِيءَ، الَّذِي لَمْ يَكُونُوا لِيَأْخُذُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا لِيُغْمِضُوا فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ التَّصْدِيقُ بِالْحُسْنَى أَوِ التَّكْذِيبُ بِهَا. وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ " أَيْ: عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُتَّقِينَ، مِنَ الْخَلَفِ الْمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَةِ. وَقَوْلُهُ: يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، أَيْ: يَتَطَهَّرُ وَيَسْتَزِيدُ، إِذِ التَّزْكِيَةُ تَأْتِي بِمَعْنَى النَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [9 \ 103] ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [87 \ 14] ، وَعَلَى عُمُومِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى [92 \ 5] ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهَا زَكَاةُ الْمَالِ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَمْ تُشْرَعْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. تَنْبِيهٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 قَدْ قِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. نَازِلٌ فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَا كَانَ يُعْتِقُ ضَعَفَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ يُعَذَّبُونَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ فِي مَكَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ الْأَقْوِيَاءَ يُسَاعِدُونَكَ وَيُدَافِعُونَ عَنْكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [92 \ 19 - 20] ، وَابْتِغَاءُ وَجْهِ رَبٍّ هُوَ بِعَيْنِهِ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، أَيْ: لِوَجْهِ اللَّهِ يَرْجُو الثَّوَابَ مِنَ اللَّهِ. وَكَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَإِنَّ صُورَةَ السَّبَبِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ. فَهَذِهِ بُشْرَى عَظِيمَةٌ لِلصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وَلَسَوْفَ يَرْضَى " فِي غَايَةٍ مِنَ التَّأْكِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى وَعْدِهِ إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرْضَاهُ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْهَا ضَرُورَةٌ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ " نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ". اهـ. وَإِنَّا لَنَرْجُو اللَّهَ كَذَلِكَ فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [92 \ 21] ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ إِجْمَاعَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْلَى مَنَازِلِ الْبُشْرَى ; لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِعَيْنِهِ، قِيلَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعًا فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا، سُورَةِ " الضُّحَى ": وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 4 - 5] ، فَهُوَ وَعْدٌ مُشْتَرَكٌ لِلصِّدِّيقِ وَلِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْنِدَ الْعَطَاءُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ، كَمَا ذَكَرَ فِيهِ الْعَطَاءَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عَطَاءَاتٌ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الضُّحَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى تَقَدَّمَ مَعْنَى الضُّحَى فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّهَارُ كُلُّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [7 \ 97 - 98] ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى قِيلَ: أَقْبَلَ، وَقِيلَ: شِدَّةُ ظَلَامِهِ، وَقِيلَ: غَطَّى، وَقِيلَ: سَكَنَ. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ مَعْنَى: سَكَنَ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ سَكَنَ بِأَهْلِهِ، وَثَبَتَ بِظَلَامِهِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ: بَحْرٌ سَاجٍ، إِذَا كَانَ سَاكِنًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فَمَا ذَنْبُنَا إِنْ جَاشَ بَحْرُ ابْنِ عَمِّكُمْ ... وَبَحْرُكَ سَاجٍ مَا يُوَارِي الدَّعَامِصَا وَقَوْلُ الرَّاجِزِ: يَا حَبَّذَا الْقَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجُ ... وَطَرْقٌ مِثْلُ مُلَاءِ النَّسَّاجِ وَأَنْشَدَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَ قَوْلَ جَرِيرٍ: وَلَقَدْ رَمَيْتُكِ يَوْمَ رُحْنَ بِأَعْيُنٍ ... يَنْظُرْنَ مِنْ خَلَلِ السُّتُورِ سَوَاجِ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالضُّحَى وَاللَّيْلِ هُنَا فَقَطْ ; لِمُنَاسَبَتِهَا لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمَا طَرَفَا الزَّمَنِ وَظَرْفَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ مُؤَانِسًا: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى» ، لَا فِي لَيْلٍ وَلَا فِي نَهَارٍ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ تَوْدِيعِ الْمُفَارِقِ. وَقُرِئَ: «مَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 وَدَعَكَ» ، بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْوَدْعِ، أَيْ: مِنَ التَّرْكِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأُسُودِ: لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلٍ مَا الَّذِي ... نَمَا لَهُ فِي الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهُ أَيْ تَرَكَهُ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَثَمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وَعَامِرِ ... فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ أَيْ تَرَكُوهُمْ فَرَائِسَ السُّيُوفِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدْعِ ; لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا، فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ. اهـ. وَالْقِرَاءَةُ الْأَوْلَى أَشْهَرُ وَأَوْلَى ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ قَلِيلٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: وَدَعَ وَلَا وَذَرَ ; لِضَعْفِ الْوَاوِ إِذَا قُدِّمَتْ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِتَرَكَ، وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ سُقُوطُ الْوَاوِ فِي الْمُضَارِعِ، فَتَقُولُ فِي مُضَارِعِ وَدَعَ يَدَعُ كَيَزِنُ وَيَهَبُ وَيَرِثُ، مِنْ وَزَنَ وَوَهَبَ وَوَرِثَ، وَتَقُولُ فِي الْأَمْرِ: دَعْ وَزِنْ، وَهَبْ، أَمَّا ذَرْ بِمَعْنَى اتْرُكْ، فَلَمْ يَأْتِ مِنْهُ الْمَاضِي، وَجَاءَ الْمُضَارِعُ: يَذَرْهُمْ، وَالْأَمْرُ: ذَرْهُمْ. فَتَرَجَّحَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ: «وَدَّعَكَ» مِنَ التَّوْدِيعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا التَّرْجِيحَ ; لِأَنَّ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ فِيهَا شِدَّةٌ وَشِبْهُ جَفْوَةٍ وَقَطِيعَةٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ رَبِّهِ. أَمَّا الْمُوَادَعَةُ وَالْوَدَاعُ، فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمَوَدَّةِ وَالصِّلَةِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ عِنْدَ الِافْتِرَاقِ، فَهُوَ وَإِنْ وَادَعَهُ بِجِسْمِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَادِعْهُ بِحُبِّهِ وَعَطْفِهِ، وَالسُّؤَالِ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَلَى. تَنْبِيهٌ. هُنَا: «مَا وَدَّعَكَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَهُوَ كَذَلِكَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ وَبِدَلِيلِ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [93 \ 4] ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُوَاصَلَةِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْآخِرَةِ فَيَجِدُهَا خَيْرًا لَهُ مِنَ الْأُولَى، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِنَايَةِ وَرِعَايَةِ رَبِّهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ لِعُمَرَ: «أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ، أَيْ: تَحْتَ رَحْمَتِهِ وَفِي رِعَايَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 555 وَقَوْلُهُ: «وَمَا قَلَى» ، حَذَفَ كَافَ الْخِطَابِ لِثُبُوتِهَا فِيمَا مَعَهَا، فَدَلَّتْ عَلَيْهَا، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُرِكَتْ لِرَأْسِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَطِيفِ الْخِطَابِ وَرَقِيقِ الْإِينَاسِ وَمَدَاخِلِ اللُّطْفِ، أَنَّ الْمُوَادَعَةَ تُشْعِرُ بِالْوَفَاءِ وَالْوُدِّ، فَأُبْرِزَتْ فِيهَا كَافُ الْخِطَابِ، أَيْ: لَمْ تَتَأَتَّ مُوَادَعَتُكَ وَأَنْتَ الْحَبِيبُ، وَالْمُصْطَفَى الْمُقَرَّبُ. أَمَّا: «قَلَى» : فَفِيهَا مَعْنَى الْبُغْضِ، فَلَمْ يُنَاسِبْ إِبْرَازُهَا إِمْعَانًا فِي إِبْعَادِ قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ لِعَزِيزٍ عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمْتُكَ، وَمَا أَهَنْتُ، لَقَدْ قَرَّبْتُكَ، وَمَا أَبْعَدْتُ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْطِقَ بِإِهَانَتِهِ وَكَرَاهِيَتِهِ، أَوْ تُصَرِّحَ بِهَا فِي حَقِّهِ، وَالْقَلَى: يُمَدُّ وَيُقْصَرُ هُوَ الْبُغْضُ، يُمَدُّ إِذَا فَتَحْتَ الْقَافَ، وَيُقْصَرُ إِذَا كَسَرْتَهَا، وَهُوَ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: أَيَّامُ أُمِّ الْغَمْرِ لَا نَقْلَاهَا ... وَلَوْ تَشَاءُ قَبَّلْتُ عَيْنَاهَا وَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةٌ ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ فَالْأَوَّلُ قَالَ: فَقَلَاهَا مِنَ الْوَاوِيِّ، وَالثَّانِي قَالَ: مَقْلِيَّةٌ مِنَ الْيَاءِ، وَهُمَا فِي اللِّسَانِ شَوَاهِدُ. وَقَدْ جَاءَ فِي السِّيرَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُثْبِتُ دَوَامَ مُوَالَاتِهِ سُبْحَانَهُ لِحَبِيبِهِ، وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَحِفْظِهِ لَهُ بِمَا كَانَ بُكَاؤُهُ بِهِ عَمَّهُ، وَقَدْ قَالَ عَمُّهُ فِي ذَلِكَ: وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوسَدَ فِي التُّرَابِ دَفِينًا وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي رِعَايَةِ عَمِّهِ لَهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ وَأَرَادُوا أَنْ يَنَامُوا، تَرَكَهُ مَعَ أَوْلَادِهِ يَنَامُونَ، حَتَّى إِذَا أَخَذَ كُلٌّ مَضْجَعَهُ، عَمَدَ عَمُّهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَبْنَائِهِ، فَأَقَامَهُ وَأَتَى بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ مَوْضِعَهُ، وَذَهَبَ بِوَلَدِهِ يَنَامُ مَكَانَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُرِيدُ بِهِ سُوءًا فَرَأَى مَكَانَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ وَقَعَ السُّوءُ بِابْنِهِ، وَسَلِمَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِجْرَةِ فِي طَرِيقِهِمَا إِلَى الْغَارِ، فَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَارَةً يَمْشِي أَمَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَارَةً يَمْشِي وَرَاءَهُ، فَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 556 ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَذْكُرُ الرَّصِيدَ فَأَكُونُ أَمَامَكَ، وَأَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَكُونُ وَرَاءَكَ، فَقَالَ:» أَتُرِيدُ لَوْ كَانَ سُوءٌ يَكُونُ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ «قَالَ: بَلَى، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَهْلَكْ أَهْلَكْ وَحْدِي، وَإِنْ تَهْلَكْ تَهْلَكْ مَعَكَ الدَّعْوَةُ» ، فَذَاكَ عَمُّهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَيْسَ عَلَى دِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى «خَيْرٌ» تَأْتِي مَصْدَرًا كَقَوْلِهِ: «إِنْ تَرَكَ خَيْرًا» [2 \ 180] أَيْ: مَالًا كَثِيرًا، وَتَأْتِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مَحْذُوفَةَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الْمُقَابِلِ، وَذِكْرِ حَرْفِ «مِنْ» ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَكِنْ مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُوهِمُ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ مِنَ الْأُولَى، وَلَكِنْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [3 \ 198] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْخَيْرِيَّةِ لِلْأَبْرَارِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [82 \ 13] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 5] . أَمَّا بَيَانُ الْخَيْرِيَّةِ هُنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَانُ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا أَوَّلًا، ثُمَّ بَيَانُ الْأَفْضَلِ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، أَيْ: لِدَلَالَتِهِ عَلَى اشْتِرَاكِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَصْفِ، وَزِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [93 \ 6] ، أَيْ: مُنْذُ وِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ، وَلَقَدْ تَعَهَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ صِغَرِهِ فَصَانَهُ عَنْ دَنَسِ الشِّرْكِ، وَطَهَّرَهُ وَشَقَّ صَدْرَهُ وَنَقَّاهُ، وَكَانَ رَغْمَ يُتْمِهِ سَيِّدَ شَبَابِ قُرَيْشٍ، حَيْثُ قَالَ عَمُّهُ عِنْدَ خِطْبَتِهِ خَدِيجَةَ لِزَوَاجِهِ بِهَا، فَقَالَ: «فَتًى لَا يُعَادِلُهُ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، حِلْمًا وَعَقْلًا وَخُلُقًا، إِلَّا رَجَحَ عَلَيْهِ» . وَقَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [93 \ 7 - 8] . عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ كُلُّهُ، فَهِيَ نِعَمٌ يُعَدِّدُهَا تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 557 مِنْ صِغَرِهِ إِلَى شَبَابِهِ وَكِبَرِهِ، ثُمَّ اصْطِفَائِهِ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ حِفْظِهِ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ نَصْرِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ. وَمِنَ النَّاحِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَا جَاءَ فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [94 \ 1 - 4] . أَمَّا خَيْرِيَّةُ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، فَعَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 5] ، وَلَيْسَ بَعْدَ الرِّضَى مَطْلَبٌ، وَفِي الْجُمْلَةِ: فَإِنَّ الْأُولَى دَارُ عَمَلٍ وَتَكْلِيفٍ وَجِهَادٍ، وَالْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَإِكْرَامٍ، فَهِيَ لَا شَكَّ أَفْضَلُ مِنَ الْأُولَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى جَاءَ مُؤَكَّدًا بِاللَّامِ وَسَوْفَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِتْمَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، إِلَّا أَنَّهُ فُصِّلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَأَعْظَمُهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [17 \ 79] . وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ بَيَانُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى حِينَ يَتَخَلَّى كُلُّ نَبِيٍّ، وَيَقُولُ: «نَفْسِي نَفْسِي، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا» إِلَخْ. وَمِنْهَا: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَمَا خُصَّتْ بِهِ أُمَّتُهُ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، يَرِدُونَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ. وَمِنْهَا: الْوَسِيلَةُ، وَهِيَ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ وَسَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» . وَإِذَا كَانَتْ لِعَبْدٍ وَاحِدٍ فَمَنْ يَسْتَقْدِمُ عَلَيْهَا، وَإِذَا رَجَا رَبَّهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ طَلَبَ مِنَ الْأُمَّةِ طَلَبَهَا لَهُ، فَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهَا لَهُ، وَإِلَّا لَمَا طَلَبَهَا وَلَا تَرَجَّاهَا، وَلَا أَمَرَ بِطَلَبِهَا لَهُ. وَهُوَ بِلَا شَكٍّ أَحَقُّ بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، إِذِ الْخَلْقُ أَفْضَلُهُمُ الرُّسُلُ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا فِي الْإِسْرَاءِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 558 وَمِنْهَا: الشَّفَاعَةُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ، وَأَنَّ رِضْوَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ يَقُولُ لَهُ: أُمِرْتُ أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» . وَمِنْهَا: الشَّفَاعَةُ الْمُتَعَدِّدَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا أَرْضَى وَأَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ» أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا شَفَاعَتَهُ، وَيُورِدَنَا حَوْضَهُ. آمِينَ. وَشَفَاعَتُهُ الْخَاصَّةُ فِي الْخَاصِّ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِهَا مَا كَانَ فِيهِ. وَمِنْهَا: شَهَادَتُةُ عَلَى الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ أُمَّتِهِ عَلَى الْأُمَمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ بِلَا شَكٍّ عَطَايَا مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِحَبِيبِهِ وَصَفِيِّهِ الْكَرِيمِ، - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. تَنْبِيهٌ. اللَّامُ فِي وَلَلْآخِرَةُ وَفِي وَلَسَوْفَ لِلتَّأْكِيدِ وَلَيْسَتْ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ فِي الْأَوَّلِ دَخَلَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَأَبُو السُّعُودِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْيَتِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76 \ 8] . وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ أَبُوهُ، وَهُوَ حَمْلٌ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَمَاتَتْ أُمُّهُ وَهِيَ عَائِدَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ بِالْأَبْوَاءِ وَعُمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ يُتْمَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ حَقٌّ عَلَيْهِ، نَقَلَهُ أَبُو حَيَّانَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ يُتْمَهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، أَيْ: لِيَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ مِنْ صِغَرِهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِيوَاءِ اللَّهِ لَهُ، فَكَانَ يُتْمُهُ لِإِبْرَازِ فَضْلِهِ ; لِأَنَّ يَتِيمَ الْأَمْسِ أَصْبَحَ سَيِّدَ الْغَدِ، وَكَافِلَ الْيَتَامَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 559 الضَّلَالُ: يَكُونُ حِسًّا وَمَعْنًى، فَالْأَوَّلُ: كَمَنْ تَاهَ فِي طَرِيقٍ يَسْلُكُهُ، وَالثَّانِي: كَمَنْ تَرَكَ الْحَقَّ فَلَمْ يَتَّبِعْهُ. فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ، كَأَنْ قَدْ ضَلَّ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ، أَوْ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الشَّامِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّعْلِيمِ أَوَّلًا، ثُمَّ مَنْحِهِ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [42 \ 52] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ: أَوَّلًا: فِي سُورَةِ «يُوسُفَ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [12 \ 8] ، وَسَاقَ شَوَاهِدَ الضَّلَالِ لُغَةً هُنَاكَ. وَثَانِيًا: فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [18 \ 104] . وَثَالِثًا: فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [26 \ 20] . وَفِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ يُغْنِي عَنْ أَيِّ بَحْثٍ آخَرَ. وَمِنَ الطَّرِيفِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ، أَنِّي أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَقُولُ عَلَى الْفَوْرِ: «وَوَجَدَكَ» : أَيْ: وَجَدَ رَهْطَكَ «ضَالًّا» فَهَدَاهُ بِكَ، ثُمَّ أَقُولُ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، نَحْوُ: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ» [12 \ 82] . اهـ. وَقَدْ أَوْرَدَ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا وَجْهًا فِي الْآيَةِ. وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَذْكُرُ مَنَامَيْنِ كُنْتُ رَأَيْتُهُمَا وَلَمْ أُرِدْ ذِكْرَهُمَا حَتَّى رَأَيْتُ هَذَا لِأَبِي حَيَّانَ، فَاسْتَأْنَسْتُ بِهِ لِذِكْرِهِمَا، وَهُمَا: الْأَوَّلُ: عِنْدَمَا وَصَلْتُ إِلَى سُورَةِ «ن» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] ، وَمِنْ مَنْهَجِ الْأَضْوَاءِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا وَصْفٌ مُجْمَلٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» فَأَخَذْتُ فِي التَّفْكِيرِ، كَيْفَ أُفَصِّلُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ، وَأُبَيِّنُ حُكْمَهُ وَصَفْحَهُ وَصَبْرَهُ وَكَرَمَهُ وَعَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 560 وَرَأْفَتَهُ وَجِهَادَهُ وَعِبَادَتَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَنِي أَقِفُ حَائِرًا وَأَمْكُثُ عَنِ الْكِتَابَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي النَّوْمِ، كَأَنَّنَا فِي الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَشَاطِهِ الْعَادِيِّ، فَسَأَلْتُهُ مَاذَا عِنْدَكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: عِنْدِي تَفْسِيرٌ. فَقُلْتُ: أَتُدَرِّسُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا الَّذِي بِيَدِكَ؟ - لِدَفْتَرٍ فِي يَدِهِ -، فَقَالَ: مُذَكِّرَةُ تَفْسِيرٍ، أَيْ: الَّتِي كَانَ سَيُفَسِّرُهَا - وَهِيَ مَخْطُوطَةٌ -، فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَوَّلِ «ن» إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، فَحَرَصْتُ عَلَى أَخْذِهَا لِأَكْتُبَ مِنْهَا، وَلَمْ أَتَجَرَّأْ عَلَى طَلَبِهَا صَرَاحَةً، وَلَكِنْ قُلْتُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ لَمْ تُدَرِّسِ الْيَوْمَ فَأَعْطِنِيهَا أُبَيِّضُهَا وَأُجَلِّدُهَا لَكَ، وَآتِيكَ بِهَا غَدًا، فَأَعْطَانِيهَا فَانْتَبَهْتُ فَرَحًا بِذَلِكَ وَبَدَأْتُ فِي الْكِتَابَةِ. وَالْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ «الْمُطَفِّفِينَ» ، لَمَّا كَتَبْتُ عَلَى مَعْنَى التَّطْفِيفِ، ثُمَّ فَكَّرْتُ فِي التَّوَعُّدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ مَعَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ شَيْءٍ طَفِيفٍ، حَتَّى فَكَّرْتُ فِي أَنَّ لَهُ صِلَةً بِالرِّبَا، إِذَا مَا بِيعَ جِنْسٌ بِجِنْسِهِ، فَحَصَلَتْ مُغَايِرَةٌ فِي الْكَيْلِ وَوَقَعَ تَفَاضُلٌ، وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ مَنْ قَالَ بِهِ، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، أَنِّي مَعَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَدَّثْ مَعِي فِي شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ. وَبَعْدَ أَنْ رَاحَ عَنِّي، فَإِذَا بِشَخْصٍ لَا أَعْرِفُهُ يَقُولُ وَأَنَا أَسْمَعُ دُونَ أَنْ يُوَجِّهَ الْحَدِيثَ إِلَيَّ: إِنَّ فِي التَّطْفِيفِ رِبًا، إِذَا بِيعَ الْحَدِيدُ بِحَدِيدٍ، وَكَلِمَةً أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا نَسِيتُهَا بَعْدَ أَنِ انْتَبَهْتُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِأَبِي حَيَّانَ، لِمَا أَجِدُ فِيهِ مِنْ إِينَاسٍ، وَاللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَعَلَى مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا مِنْ مُبَشِّرَاتٍ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوَفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى الْعَائِلُ: صَاحِبُ الْعِيَالِ، وَقِيلَ: الْعَائِلُ الْفَقِيرُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْعِيَالِ الْحَاجَةُ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمُقَابَلَةُ «عَائِلًا» بِأَغْنَى، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «عَائِلًا» أَيْ: فَقِيرًا، وَلِذَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَمَا تَدْرِي وَإِنْ ذَمَّرْتَ سَقْبًا ... لِغَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 وَهَذَا مِمَّا يَذْكُرُهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُوَدِّعْهُ وَمَا قَلَاهُ، لَقَدْ كَانَ فَقِيرًا مِنَ الْمَالِ فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَالِ عَمِّهِ. وَقَدْ قَالَ عَمُّهُ فِي خُطْبَةِ نِكَاحِهِ بِخَدِيجَةَ: وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ قَلَّ فَمَا أَحْبَبْتُمْ مِنَ الصَّدَاقِ فَعَلَيَّ، ثُمَّ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَالِ خَدِيجَةَ، حَيْثُ جَعَلَتْ مَالَهَا تَحْتَ يَدِهِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ مَا نَصُّهُ: يُرْوَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهُوَ مَغْمُومٌ، فَقَالَتْ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: «الزَّمَانُ زَمَانُ قَحْطٍ، فَإِنْ أَنَا بَذَلْتُ الْمَالَ يَنْفَدُ مَالُكِ، فَأَسْتَحْيِي مِنْكِ، وَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْذُلْ أَخَافُ اللَّهَ» ، فَدَعَتْ قُرَيْشًا وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُ، قَالَ الصِّدِّيقُ: فَأَخْرَجَتْ دَنَانِيرَ حَتَّى وَضَعَتْهَا، بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَمْ يَقَعْ بَصَرِي عَلَى مَنْ كَانَ جَالِسًا قُدَّامِي، ثُمَّ قَالَتِ: اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ، إِنْ شَاءَ فَرَقَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ سَنَدُهَا، فَلَيْسَ بِغَرِيبٍ عَلَى خَدِيجَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ فَعَلَتْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، حِينَ دَخَلَتْ مَعَهُ الشِّعْبَ فَتَرَكَتْ مَالَهَا، وَاخْتَارَتْ مُشَارَكَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، حَتَّى أَكَلُوا وَرَقَ الشَّجَرِ، وَأَمْوَالُهَا طَائِلَةٌ فِي بَيْتِهَا. ثُمَّ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَكَانَتْ مُوَاسَاةُ الْأَنْصَارِ، لَقَدْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ تَارِكًا مَالَهُ وَمَالَ خَدِيجَةَ، حَتَّى إِنَّ الصِّدِّيقَ لَيَدْفَعُ ثَمَنَ الْمِرْبَدِ لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيْءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ يَقْضِي الْهِلَالَ، ثُمَّ الْهِلَالَ، ثُمَّ الْهِلَالَ، لَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَارٌ، إِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ. ثُمَّ جَاءَتْ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ، فَأَعْطَى عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ، وَرَجَعَ بِدُونِ شَيْءٍ، وَجَاءَ مَالُ الْبَحْرِينِ فَأَخَذَ الْعَبَّاسُ مَا يُطِيقُ حَمْلَهُ، وَأَخِيرًا تُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي آصُعٍ مِنْ شَعِيرٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ; لِأَنَّ «أَغْنَى» تَعْبِيرٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، فَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ الْمَالِ حَالًا فَحَالًا، وَالْوَاقِعُ أَنَّ غِنَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، هُوَ غِنَى النَّفْسِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنِ النَّاسِ، وَيَكْفِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدُ النَّاسِ. وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ وَدَارَسَهُ الْقُرْآنَ كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُدْوَةَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 562 الْحَالَتَيْنِ، فِي حَالَيِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، إِنْ قَلَّ مَالُهُ صَبَرَ، وَإِنْ كَثُرَ بَذَلَ وَشَكَرَ. اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ عَطَاءِ اللَّهِ لَهُ مِمَّا فَاقَ كُلَّ عَطَاءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [15 \ 87] ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] . وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَمَعَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِلَا الْأَمْرَيْنِ ; لِيَرْسُمَ الْقُدْوَةَ الْمُثْلَى فِي الْحَالَتَيْنِ. تَنْبِيهٌ. فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيوَاءَ وَالْهُدَى وَالْغِنَى مِنَ اللَّهِ ; لِإِسْنَادِهَا هُنَا لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ فِي السِّيَاقِ لَطِيفَةً دَقِيقَةً، وَهِيَ مَعْرَضُ التَّقْرِيرِ، يَأْتِي بِكَافٍ الْخِطَابِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا، أَلَمْ يَجِدْكَ ضَالًّا، أَلَمْ يَجِدْكَ عَائِلًا، لِتَأْكِيدِ التَّقْرِيرِ، لَمْ يُسْنَدِ الْيُتْمُ وَلَا الْإِضْلَالُ وَلَا الْفَقْرُ لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهِ الْيُتْمُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي مِنْهُ كُلَّمَا وَجَدَهُ عَلَيْهِ، ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيلَامٍ لَهُ، فَمَا يُسْنِدُهُ لِلَّهِ ظَاهِرًا، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ أَبْرَزَ ضَمِيرَ الْخِطَابِ. وَفِي تَعْدَادِ النِّعَمِ: فَآوَى، فَهَدَى، فَأَغْنَى. أُسْنِدَ كُلُّهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُنْعِمِ، وَلَمْ يُبْرِزْ ضَمِيرَ الْخِطَابِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لِمُرَاعَاةِ رُءُوسِ الْآيِ وَالْفَوَاصِلِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ امْتِنَانٌ، وَأَنَّهَا نِعَمٌ مَادِّيَّةٌ لَمْ يُبْرِزِ الضَّمِيرَ لِئَلَّا يُثْقِلَ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ، بَيْنَمَا أَبْرَزَهُ فِي: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [94 \ 1 - 2] ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [94 \ 4] ; لِأَنَّهَا نِعَمٌ مَعْنَوِيَّةٌ، انْفَرَدَ بِهَا. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ مَجِيءُ الْفَاءِ هُنَا مُشْعِرٌ، إِمَّا بِتَفْرِيعٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِمَّا بِإِفْصَاحٍ عَنْ تَعَدُّدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْجُمَلَ بِتَقْدِيرِ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ.ُُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 563 وَقَدْ سَاقَ تَعَالَى هُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: مُعَامَلَةُ الْأَيْتَامِ، فَقَالَ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، أَيْ: كَمَا آوَاكَ اللَّهُ فَآوِهِ، وَكَمَا أَكْرَمَكَ فَأَكْرِمْهُ. وَقَالُوا: قَهْرُ الْيَتِيمِ أَخْذُ مَالِهِ وَظُلْمِهِ. وَقِيلَ: قُرِئَ بِالْكَافِ: «تَكْهَرْ» ، فَقَالُوا: هُوَ بِمَعْنَى الْقَهْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَشَدَّ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى عَبُوسَةِ الْوَجْهِ، وَالْمَعْنَى أَعَمُّ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَمِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَمِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَمِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ» فَالْقَهْرُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَبِالنَّظَرِ فِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَدِيدَةِ فِي شَأْنِ الْيَتِيمِ، وَالَّتِي زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ مَوْضِعًا، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْنِيفُهَا إِلَى خَمْسَةِ أَبْوَابٍ كُلُّهَا تَدُورُ حَوْلَ دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُ، وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ لَهُ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الْحَالَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهِيَ الْخَامِسَةُ. أَمَّا دَفْعُ الْمَضَارِّ عَنْهُ فِي مَالِهِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، جَاءَتْ مَرَّتَيْنِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» وَالْأُخْرَى فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» [17 \ 34] ، وَفِي كُلٍّ مِنَ السُّورَتَيْنِ ضِمْنَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الْمَعْرُوفَةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، بَدَأَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [6 \ 151] . وَذَكَرَ قَتْلَ الْوَلَدِ، وَقُرْبَانَ الْفَوَاحِشِ، وَقَتْلَ النَّفْسِ، ثُمَّ مَالَ الْيَتِيمِ: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» . وَيُلَاحَظُ أَنَّ النَّهْيَ مُنْصَبٌّ عَلَى مُجَرَّدِ الِاقْتِرَابِ مِنْ مَالِهِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [4 \ 6] . وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَلِيَ مَالَ الْيَتِيمِ وَاسْتَحَقَّ أَجْرًا، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا نَفَقَتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَإِمَّا أُجْرَتُهُ عَلَى عَمَلِهِ، أَيْ: إِنْ كَانَ الْعَمَلُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ أَلْفِ رِيَالٍ، وَنَفَقَتُهُ يَكْفِي لَهَا خَمْسُمِائَةٍ أَخَذَ نَفَقَتَهُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ يَكْفِيهِ أُجْرَةُ مِائَةِ رِيَالٍ، وَنَفَقَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ أَخَذَ أُجْرَتَهُ مِائَةً فَقَطْ ; حِفْظًا لِمَالِهِ. ثُمَّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اقْتِرَابِ مَالِ الْيَتِيمِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَتَطَلَّعُ بَعْضُ النُّفُوسِ إِلَى فَوَارِقَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 564 بَسِيطَةٍ مِنْ بَابِ التَّحَيُّلِ أَوْ نَحْوِهِ، مِنِ اسْتِبْدَالِ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ، فَيَكُونُ طَرِيقًا لِاسْتِبْدَالِ طَيِّبٍ بِخَبِيثٍ، فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [4 \ 2] . وَالْحُوبُ: أَعْظَمُ الذَّنْبِ، فَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ اسْتِبْدَالِ طَيِّبِ مَالِهِ بِخَبِيثِ مَالِ الْوَلِيِّ أَوْ غَيْرِهِ حَسَدًا لَهُ عَلَى مَالِهِ، كَمَا نَهَى عَنْ خَلْطِ مَالِهِ مَعَ مَالِ غَيْرِهِ كَوَسِيلَةٍ لِأَكْلِهِ مَعَ مَالِ الْغَيْرِ، وَهَذَا مَنْعٌ لِلتَّحَيُّلِ، وَسَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ ; حِفْظًا لِمَالِهِ. ثُمَّ يَأْتِي الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي صُورَةٍ مُفْزِعَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [4 \ 10] . وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ الْآيَةَ شَمِلَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى كُلَّ مَا فِيهِ إِتْلَافٌ أَوْ تَفْوِيتٌ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَكْلٍ حَقِيقَةً، أَوْ بِاخْتِلَاسٍ، أَوْ بِإِحْرَاقٍ، أَوْ إِغْرَاقٍ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالْإِلْحَاقِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي ضَيَاعِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ، بَيْنَ كَوْنِهِ بِأَكْلٍ أَوْ إِحْرَاقٍ بِنَارٍ أَوْ إِغْرَاقٍ فِي مَاءٍ حَتَّى الْإِهْمَالُ فِيهِ، فَهُوَ تَفْوِيتُ عَلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ حِفْظًا لِمَالِهِ. وَأَخِيرًا، فَإِذَا تَمَّ الْحِفَاظُ عَلَى مَالِهِ لَمْ يَقْرَبْهُ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَمْ يُبَدِّلْهُ بِغَيْرِهِ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَمْ يَخْلِطْهُ بِمَالِهِ لِيَأْكُلَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَدِ عَلَيْهِ بِأَيِّ إِتْلَافٍ كَانَ مَحْفُوظًا لَهُ، إِلَى أَنْ يَذْهَبَ يُتْمُهُ وَيَثْبُتَ رُشْدُهُ، فَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [4 \ 6] . ثُمَّ أَحَاطَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ بِمُوجِبَاتِ الْحِفْظِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [4 \ 6] أَيْ: حَتَّى لَا تَكُونَ مُنَاكَرَةً فِيمَا بَعْدُ. وَفِي الْخِتَامِ يُنَبِّهُ اللَّهُ فِيهِمْ وَازِعَ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [4 \ 6] وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَمْوَالَهُ تُدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ مُحَاسِبَةٍ دَقِيقَةٍ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ. وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ دِقَّةِ الْحِسَابِ، فَاللَّهُ سَيُحَاسِبُ عَنْهُ، وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حِفْظِ مَالِهِ. أَمَّا جَلْبُ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّنَا نَجِدُ فِيهَا أَوَّلًا جَعْلَهُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي عِدَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 565 مُوَاطِنَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى [2 \ 215] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ إِيرَادُهُ فِي أَنْوَاعِ الْبِرِّ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ [2 \ 177] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَمِنْهَا: مَا هُوَ أُدْخِلَ فِي الْمَوْضُوعِ حَيْثُ جُعِلَ لَهُ نَصِيبًا فِي التَّرِكَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [4 \ 8] ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَبَاحِثِ الْآيَةِ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، وَمَرَّةً أُخْرَى يَجْعَلُ لَهُمْ نَصِيبًا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مَنْزِلَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [8 \ 41] . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [59 \ 7] . فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عُمُومِ وَصْفِ الْأَبْرَارِ، وَسَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ النَّعِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 5] . وَذَكَرَ أَفْعَالَهُمُ الَّتِي مِنْهَا: " أَنَّهُمْ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ " [76 \ 7] ثُمَّ بَعْدَهَا أَنَّهُمْ: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا " [76 \ 8] . وَجَعَلَ هَذَا الْإِطْعَامَ اجْتِيَازُ الْعَقَبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ الْآيَةَ [90 \ 11 - 15] . وَلَقَدْ وَجَدْنَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَسُوقَ اللَّهُ الْخَضِرَ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لِيُقِيمَا جِدَارًا لِيَتِيمَيْنِ عَلَى كَنْزٍ لَهُمَا حَتَّى يَبْلُغَا أَشَدَّهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [18 \ 82] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 566 هَذَا هُوَ الْجَانِبُ الْمَالِيُّ مِنْ دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ فِي حِفْظِ مَالِهِ، وَمِنْ جَانِبِ جَلْبِ النَّفْعِ إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَالِ. أَمَّا الْجَانِبُ النَّفْسِيُّ فَكَالْآتِي: أَوَّلًا: عَدَمُ مَسَاءَتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [107 \ 1 - 3] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [89 \ 17 - 18] ، فَقَدَّمَ إِكْرَامَهُ إِشَارَةً لَهُ. ثَانِيًا: فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [2 \ 83] فَيُحْسِنُ إِلَيْهِ كَمَا يُحْسِنُ لِوَالِدَيْهِ وَلِذِي الْقُرْبَى. وَمِنْهَا سُؤَالُ وَجَوَابُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [2 \ 220] ، أَيْ: تُعَامِلُونَهُمْ كَمَا تُعَامِلُونَ الْإِخْوَانَ، وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. وَفِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمُفْسِدِ عَلَى الْمُصْلِحِ: إِشْعَارٌ لِشِدَّةِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي مُعَامَلَتِهِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّحْذِيرِ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [4 \ 9] . أَيْ: حَتَّى فِي مُخَاطَبَتِهِمْ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِهِمْ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ فِيمَا بَعْدُ أَيْتَامًا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَكَمَا يَخْشَوْنَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ إِذَا صَارُوا أَيْتَامًا مِنْ بَعْدِهُمْ، فَلْيُحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الْأَيْتَامِ فِي أَيْدِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةُ دَرَجَاتِ الْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ. تِلْكَ هِيَ نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي حُسْنِ مُعَامَلَةِ الْيَتِيمِ وَعَدَمِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، مِمَّا يُفَصِّلُ مُجْمَلَ قَوْلِهِ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [93 \ 9] . لَا بِكَلِمَةٍ غَيْرِ سَدِيدَةٍ، وَلَا بِحِرْمَانِهِ مِنْ شَيْءٍ يَحْتَاجُهُ، وَلَا بِإِتْلَافِ مَالِهِ، وَلَا بِالتَّحَيُّلِ عَلَى أَكْلِهِ وَإِضَاعَتِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي مَالِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 567 وَالْأَحَادِيثُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ عَدِيدَةٌ بَالِغَةٌ مَبْلَغَهَا فِي حَقِّهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْحَمَ النَّاسِ بِهِ وَأَشْفَقَهُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ: " أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ "، يُشِيرُ إِلَى السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَمَالِكٍ: " كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ " أَيْ: قَرِيبٌ لَهُ، أَوْ بَعِيدٌ عَنْهُ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مَرْفُوعًا: " مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةَ " قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رُوَاةُ أَحْمَدَ مُحْتَجٌّ بِهِمْ إِلَّا عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ، يُحْسَنُ إِلَيْهِ. وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ ". وَجَاءَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا وَذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْأُمَّ لَتُعَطِّلُ مَصَالِحَهَا مِنْ أَجْلِ أَيْتَامِهَا، فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ - بِفَتْحِ الزَّايِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ - بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ " امْرَأَةٌ آمَتْ زَوْجَهَا " - بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ وَمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَاءٍ - أَصْبَحَتْ أَيِّمًا بِوَفَاةِ زَوْجِهَا، ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا ". وَجَعَلَهُ اللَّهُ دَوَاءً لِقَسَاوَةِ الْقَلْبِ، كَمَا رَوَى أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: " امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ، وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ ". وَهُنَا يَتَجَلَّى سِرٌّ لَطِيفٌ فِي مِثَالِيَّةِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، حَيْثُ يُخَاطِبُ اللَّهُ تَعَالَى أَفْضَلَ الْخَلْقِ وَأَرْحَمَهُمْ، وَأَرْأَفَهُمْ بِعِبَادِ اللَّهِ، الْمَوْصُوفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] وَبِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] ، لِيَكُونَ مِثَالًا مِثَالِيًّا فِي أُمَّةٍ قَسَتْ قُلُوبُهَا وَغَلُظَتْ طِبَاعُهَا، فَلَا يَرْحَمُونَ ضَعِيفًا، وَلَا يُؤَدُّونَ حَقًّا إِلَّا مِنْ قُوَّةٍ يَدِينُونَ لِمَبْدَأِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَمَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، يُفَاخِرُونَ بِالظُّلْمِ وَيَتَهَاجَوْنَ بِالْأَمَانَةِ، كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ: قَبِيلَةٌ لَا يَخْفِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلٍ وَيَقُولُ حَكِيمُهُمْ:ُُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 568 وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ ... يُهْدَمْ وَمَنْ لَمْ يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ قَوْمٌ يَئِدُونَ بَنَاتَهُمْ، وَيَحْرِمُونَ مِنَ الْمِيرَاثِ نِسَاءَهُمْ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا، فَقَلَبَ مَقَايِيسَهُمْ، وَعَدَلَ مَفَاهِيمَهُمْ، فَأَلَانَ قُلُوبَهُمْ وَرَقَّقَ طِبَاعَهُمْ، فَلَانُوا مَعَ هَذَا الضَّعِيفِ وَحَفِظُوا حَقَّهُ. وَحَقِيقَةُ هَذَا التَّشْرِيعِ الْإِلَهِيِّ الْحَكِيمِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، تَأْتِي فَوْقَ كُلِّ مَا تَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ آمَالُ الْحَضَارَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، مِمَّا يُحَقِّقُ كَمَالَ التَّكَامُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ بِأَبْهَى مَعَانِيهِ، الْمُنَوِّهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [4 \ 9] ، فَجَعَلَ كَافِلَ الْيَتِيمِ الْيَوْمَ، إِنَّمَا يَعْمَلُ حَتَّى فِيمَا بَعْدُ لَوْ تَرَكَ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا، وَعَبَّرَ هُنَا عَنِ الْأَيْتَامِ بِلَازِمِهِمْ، وَهُوَ الضَّعْفُ إِبْرَازًا لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ إِلَى الْإِحْسَانِ، بِسَبَبِ ضَعْفِهِ فَيَكُونُونَ مَوْضِعَ خَوْفِهِمْ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِمْ، فَلْيُعَامِلُوا الْأَيْتَامَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُعَامِلَ غَيْرُهُمْ أَيْتَامَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَهَكَذَا تَضَعُ الْآيَةُ أَمَامَنَا تَكَافُلًا اجْتِمَاعِيًّا فِي كَفَالَةِ الْيَتِيمِ، بَلْ إِنَّ الْيَتِيمَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَتِيمُ الْيَوْمِ وَرَجُلُ الْغَدِ، فَكَمَا تُحْسِنُ إِلَيْهِ يُحْسِنُ هُوَ إِلَى أَيْتَامِكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا كَانَ الْخَيْرُ بِالْخَيْرِ وَالْبَادِئُ أَكْرَمُ، وَإِنْ شَرًّا كَانَ بِمِثْلِهِ وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ. وَمَعَ هَذَا الْحَقِّ الْمُتَبَادَلِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَحُثُّ عَلَيْهِ وَيَعْنِي بِهِ، وَرَغَّبَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَأَجْزَلَ الْمَثُوبَةَ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَ مِنَ الْإِسَاءَةِ عَلَيْهِ، وَشَدَّدَ الْعُقُوبَةَ فِيهِ. وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ إِطَالَةٌ، وَلَكِنَّهُ وَفَاءٌ بِحَقِّ الْيَتِيمِ أَوَّلًا، وَتَأَثُّرٌ بِكَثْرَةِ مَا يُلَاقِيهِ الْيَتِيمُ ثَانِيًا. تَنْبِيهٌ. لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْيَتِيمِ تَأْدِيبُهُ وَالْحَزْمُ مَعَهُ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ كَمَا قِيلَ: قَسَا لِيَزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِمًا ... فَلْيَقْسُ أَحْيَانًا عَلَى مَنْ يَرْحَمُ وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، قَالُوا: السَّائِلُ: الْفَقِيرُ وَالْمُحْتَاجُ، يَسْأَلُ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُ وَهُوَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى أَيْ: فَكَمَا أَغْنَاكَ اللَّهُ وَبِدُونِ سُؤَالٍُُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 569 فَإِذَا أَتَاكَ سَائِلٌ فَلَا تَنْهَرْهُ، وَلَوْ فِي رَدِّ الْجَوَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ الْجَوَابَ بِلُطْفٍ، قَدْ يَقُومُ مَقَامَ الْعَطَاءِ فِي إِجَابَةِ السَّائِلِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُعْطِيهِ لِلسَّائِلِ يَعِدُهُ وَعْدًا حَسَنًا لِحِينِ مَيْسَرَةٍ ; أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [17 \ 28] . وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيْتَيْنِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، هُمَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنْ لَمْ تَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا ... لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي ... إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِ فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الْمَالُ. وَقِيلَ: السَّائِلُ الْمُسْتَفْسِرُ عَنْ مَسَائِلِ الدِّينِ وَالْمُسْتَرْشِدُ، وَقَالُوا هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى أَيْ: لَا تَنْهَرْ مُسْتَغْنِيًا وَلَا مُسْتَرْشِدًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [80 \ 1 - 2] . وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحِيمًا شَفِيقًا عَلَى الْجَاهِلِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ صَاحَ بِهِ الصَّحَابَةُ، فَقَالَ لَهُمْ: " لَا تُزْرِمُوهُ " إِلَى أَنْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا أَبَدًا " وَكَالْآخَرِ الَّذِي جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ، وَيَقُولُ: " هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَعْطَاهُ فَرَقًا مِنْ طَعَامِهِ يُكَفِّرُ بِهِ عَنْ ذَنْبِهِ، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: قُمْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ ". وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ لِلْمَرْأَةِ فِي الطَّرِيقِ يُصْغِي إِلَيْهَا حَتَّى يَضِيقَ مَنْ مَعَهُ، وَهُوَ يَصْبِرُ لَهَا وَلَمْ يَنْهَرْهَا، بَلْ يُجِيبُهَا عَلَى أَسْئِلَتِهَا. وَقَدْ حَثَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِكْرَامِ طَالِبِ الْعِلْمِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْحِيتَانَ فِي الْبَحْرِ لَتَسْتَغْفِرُ لَهُ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ. وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ: النِّعْمَةُ كُلُّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَنْعَمُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ: مَالٍ، وَعَافِيَةٍ، وَهِدَايَةٍ، وَنُصْرَةٍ مِنَ النُّعُومَةِ وَاللِّينِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَاُُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 570 الْمَذْكُورَاتُ وَالتَّحَدُّثُ بِهَا شُكْرُهَا عَمَلِيًّا مِنْ إِيوَاءِ الْيَتِيمِ كَمَا آوَاهُ اللَّهُ، وَإِعْطَاءِ السَّائِلِ كَمَا أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَتَعْلِيمِ الْمُسْتَرْشِدِ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ، أَيْ: كَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَتَنَعَّمْ أَنْتَ عَلَى غَيْرِكَ ; تَأَسِّيًا بِفِعْلِ اللَّهِ مَعَكَ. وَقِيلَ: التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ هُوَ التَّبْلِيغُ عَنِ اللَّهِ مِنْ آيَةٍ وَحَدِيثٍ، وَالنِّعْمَةُ هُنَا عَامَّةٌ ; لِتَنْكِيرِهَا وَإِضَافَتِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [16 \ 53] ، أَيْ: كُلُّ نِعْمَةٍ، وَلَكِنِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا فِي الْوَحْيِ أَظْهَرُ أَوْ هُوَ أَوْلَى بِهَا، أَوْ هُوَ أَعْظَمُهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] فَقَالَ: «نِعْمَتِي» ، وَهُنَا «نِعْمَةُ رَبِّكَ» . وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا نَحَرَ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، فَفَعَلَ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى إِتْمَامِ النِّعْمَةِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ. وَقَدْ قَالُوا فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا: إِنَّ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الصِّدِّيقِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [92 \ 17 - 21] ، وَهُنَا فِي الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 3 - 5] مَعَ الْفَارِقِ الْكَبِيرِ فِي الْعَطَاءِ وَالْخِطَابِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ مُنَاسَبَاتِ السُّوَرِ الْقِصَارِ أَظْهَرُ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الْآيِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ: «وَاللَّيْلِ» مَعَ «وَالضُّحَى» ، ثُمَّ مَا بَيْنَ: «وَالضُّحَى» وَ «أَلَمْ نَشْرَحْ» إِنَّهَا تَتِمَّةُ النِّعَمِ الَّتِي يُعَدِّدُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ. وَهَكَذَا عَلَى مَا سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَعْلَمُ عِلْمًا ; بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَعْتَبِرْ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ. وَلَكِنْ مَا كَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ فِيهِ وَاضِحَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي إِغْفَالُهُ، وَمَا كَانَتْ خَفِيَّةً لَا يَنْبَغِي التَّكَلُّفُ لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 571 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَة ُ الشَّرْحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: شَرْحُ الصَّدْرِ، وَوَضْعُ الْوِزْرِ، وَرَفْعُ الذِّكْرِ. وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُصَدَّرَةٌ بِالِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ لِتَقْرِيرِ الْإِثْبَاتِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَعْنَى شَرَحْنَا عَلَى الْمَبْدَأِ الْمَعْرُوفِ، مِنْ أَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ. وَذَلِكَ ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ دَخَلَتْ عَلَى لَمْ وَهِيَ لِلنَّفْيِ، فَتَرَافَعَا فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُثْبَتًا. قَالُوا: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [39 \ 36] . وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [26 \ 18] . وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ فَتَقَرَّرَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَدِّدُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ الْعُظْمَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَابِقًا ارْتِبَاطَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا فِي تَتِمَّةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: هَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ «الضُّحَى» سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَانَا يَقْرَآنِهِمَا فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَا كَانَا يَفْصِلَانِ بَيْنَهُمَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالَّذِي دَعَاهُمَا إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ كَالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا [93 \ 6] ، وَرَدَ هَذَا الِادِّعَاءُ - أَيْ مِنْ كَوْنِهِمَا سُورَةً وَاحِدَةً - وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُمَا مُرْتَبِطَتَيْنِ مَعًا فِي الْمَعْنَى، كَمَا فِي «الْأَنْفَالِ» وَ «التَّوْبَةِ» .ُُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 572 وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى شَرْحِ الصَّدْرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِيمَا قَالُوا، وَكُلُّهَا يُكْمِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَقِيلَ: هُوَ شَقُّ الصَّدْرِ سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَغَسْلُهُ وَمَلْؤُهُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، كَمَا فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَيْرِهَا. وَفِيهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ شُقَّ صَدْرُهُ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ الْغِلُّ وَالْحَسَدُ، فِي شَيْءٍ كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ، وَأُدْخِلَتِ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ. وَقِيلَ: شَرْحُ الصَّدْرِ إِنَّمَا هُوَ تَوْسِيعُهُ لِلْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَجَعْلُ قَلْبِهِ وِعَاءً لِلْحِكْمَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ» . وَعِنْدَ أَبِي كَثِيرٍ: نَوَّرْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ فَسِيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [6 \ 125] . وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ الشَّرْحَ هُوَ الِانْشِرَاحُ وَالِارْتِيَاحُ. وَهَذِهِ حَالَةُ نَتِيجَةِ اسْتِقْرَارِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالنُّورِ وَالْحِكْمَةِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [39 \ 22] فَقَوْلُهُ: «فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» : بَيَانٌ لَشَرْحِ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ. كَمَا أَنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ، دَلِيلٌ عَلَى الضَّلَالِ، كَمَا فِي نَفْسِ الْآيَةِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا الْآيَةَ [6 \ 125] . وَفِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ زَادَةَ عَلِيٍّ الْبَيْضَاوِيِّ، قَالَ: لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، كَمَا شَرَحَ صَدْرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى وَسِعَ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَقَالَ: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» اهـ. وَمُرَادُهُ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَأَخْبَارِ الْمَعَادِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ الْمُمْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَعُ وَأَعَمُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 573 مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَشْمَلُ صَبْرَهُ وَصَفْحَهُ وَعَفْوَهُ عَنْ أَعْدَائِهِ، وَمُقَابَلَتَهُ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسَعُ الْعَدُوَّ، كَمَا يَسَعُ الصَّدِيقَ. كَقِصَّةِ عَوْدَتِهِ مِنْ ثَقِيفٍ: إِذْ آذَوْهُ سُفَهَاؤُهُمْ، حَتَّى ضَاقَ مَلَكُ الْجِبَالِ بِفِعْلِهِمْ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنُّ مَلَكَ الْجِبَالِ مَعِي، إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَعَلَ، فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسِيئُوا إِلَيْهِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي ; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» . وَتِلْكَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ وَأَقْوَى عِدَّةٍ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَتَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلِذَا تَوَجَّهَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ يَطْلُبُهُ إِيَّاهَا، لَمَّا كُلِّفَ الذَّهَابَ إِلَى الطَّاغِيَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [20 \ 24 - 31] . فَذَكَرَ هُنَا مِنْ دَوَاعِي الْعَوْنِ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ أَرْبَعَةَ عَوَامِلَ: بَدَأَهَا بِشَرْحِ الصَّدْرِ، ثُمَّ تَيْسِيرِ الْأَمْرِ، وَهَذَانِ عَامِلَانِ ذَاتِيَّانِ، ثُمَّ الْوَسِيلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرْعَوْنُ، وَهُوَ اللِّسَانُ فِي الْإِقْنَاعِ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، ثُمَّ الْعَامِلِ الْمَادِّيِّ أَخِيرًا فِي الْمُؤَازَرَةِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، فَقَدَّمَ شَرْحَ الصَّدْرِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ بِهِ يُقَابِلُ كُلَّ الصِّعَابِ، وَلِذَا قَابَلَ بِهِ مَا جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ مِنْ سِحْرٍ عَظِيمٍ، وَمَا قَابَلَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ مِنْ عَنَتٍ أَعْظَمَ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مِنْ دَوَاعِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَإِنَارَتِهِ، مَا يَكُونُ مِنْ رِفْعَةٍ وَحِكْمَةٍ وَتَيْسِيرٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ تَلَقِّي تِلْكَ التَّعَالِيمِ مِنَ الْوَحْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [7 \ 199] ، وَكَقَوْلِهِ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [3 \ 134] مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِمَّنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ. وَمِمَّا يُعِينُ الْمُلَازِمَةَ عَلَيْهِ عَلَى انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، وَفِعْلًا قَدْ صَبَرَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَمُخَادِعَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَتَلَقَّى كُلَّ ذَلِكَ بِصَدْرٍ رَحْبٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 574 وَفِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَا تَوْجِيهٌ لِكُلِّ دَاعِيَةٍ إِلَى اللَّهِ، أَنْ يَكُونَ رَحْبَ الصَّدْرِ، هَادِئَ النَّفْسِ، مُتَجَمِّلًا بِالصَّبْرِ. وَقَوْلُهُ: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [24 \ 2] ، وَالْوَضْعُ يَكُونُ لِلْحَطِّ وَالتَّخْفِيفِ، وَيَكُونُ لِلْحَمْلِ وَالتَّثْقِيلِ، فَإِنْ عُدِّيَ بِعَنْ كَانَ لِلْحَطِّ، وَإِنْ عُدِّيَ بِعَلَى كَانَ لِلْحَمْلِ، فِي قَوْلِهِمْ: وَضَعْتُ عَنْكَ، وَوَضَعْتُ عَلَيْكَ، وَالْوِزْرُ لُغَةً الثِّقْلُ. وَمِنْهُ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ: ثِقْلَهَا مِنْ سِلَاحٍ وَنَحْوِهِ. وَمِنْهُ: الْوَزِيرُ الْمُتَحَمِّلُ ثِقْلَ أَمِيرِهِ وَشُغْلَهُ، وَشَرْعًا الذَّنْبُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَقَدْ يَتَعَاوَرَانِ فِي التَّعْبِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً [16 \ 25] ، وَقَوْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [29 \ 13] . وَقَدْ أُفْرِدَ لَفْظُ الْوِزْرِ هُنَا وَأُطْلِقَ، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَا هُوَ وَمَا نَوْعُهُ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. فَقِيلَ: مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: ثِقْلُ تَأَلُّمِهِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ، وَشَفَقَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ، أَيْ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [18 \ 6] ، أَيْ: أَسَفًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الْأَرْجَاسِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَغَفَرْنَا لَكَ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكَ، وَحَطَطْنَا عَنْكَ ثِقْلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كُنْتَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ بِمَعْنَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَكَلَامُ أَبِي حَيَّانَ: يَدُلُّ عَلَى الْعِصْمَةِ، وَكَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ مُجْمَلٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 575 وَفِي هَذَا الْمَجَالِ مَبْحَثُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عُمُومًا، وَهُوَ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ يُحَقِّقُهُ كُتُبُ الْأُصُولِ لِسَلَامَةِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثُهُ فِي سُورَةِ «طه» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [20 \ 121] ، وَأَوْرَدَ كَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْحَشْوِيَّةِ، وَمِقْيَاسَ ذَلِكَ، عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي سُورَةِ «ص» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [38 \ 24] ، وَنَبَّهَ عِنْدَهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُقَالُ فِي دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَوْلَ هَذَا الْمَعْنَى، كُلُّهُ إِسْرَائِيلِيَّاتٌ لَا تَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوَّةِ. اهـ. أَمَّا فِي خُصُوصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّا نُورِدُ الْآتِي: إِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ عِصْمَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِهَا ; لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] ; لِوُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ، وَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَطْعًا. أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَالْعِصْمَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْضًا، يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَقَامِ التَّهَيُّؤِ لِلنُّبُوَّةِ مِنْ صِغَرِهِ، وَقَدْ شُقَّ صَدْرُهُ فِي سِنِّ الرَّضَاعِ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ حَظُّ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَأَخَذُوهُ عَلَيْهِ حِينَ عَارَضُوهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ فِي الصَّغَائِرِ، فَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، فَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً وَوَقَعَتْ، فَلَا تَمُسَّ مَقَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَالتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهَا قَدْ غُفِرَتْ وَحُطَّ عَنْهُ ثِقْلُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تَكُنْ جَائِزَةً فِي حَقِّهِ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ. وَقَدْ سَاقَ الْأَلُوسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، قَالَ لِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ يَوْمًا: «لَقَدْ ضَمَمْتُهُ إِلَيَّ وَمَا فَارَقْتُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَلَا ائْتَمَنْتُ عَلَيْهِ أَحَدَّا» ، وَذَكَرَ قِصَّةَ بَنِيهِ وَمَنَامِهِ فِي وَسَطِ أَوْلَادِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَقْلِهِ إِيَّاهُ مَحَلَّ أَحَدِ أَبْنَائِهِ حِفَاظًا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَلَمْ أَرَ مِنْهُ كِذْبَةً، وَلَا ضَحِكًا، وَلَا جَاهِلِيَّةً، وَلَا وَقَفَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» . وَذَكَرَتْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ مَرَّةً فِي صِغَرِهِ أَنْ يَذْهَبَ لِمَحَلِّ عُرْسٍ لِيَرَى مَا فِيهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَهُ النَّوْمُ وَلَمْ يَصْحُ إِلَّا عَلَى حَرِّ الشَّمْسِ، فَصَانَهُ اللَّهُ مِنْ رُؤْيَهِ أَوْ سَمَاعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قِصَّةُ مُشَارَكَتِهِ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ حِينَ تَعَرَّى وَمُنِعَ مِنْهُ حَالًا، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقِيَ الْجَوَابُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ، فَيُقَالُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: إِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 576 جَاءَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ ; فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» مَعَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا مُحَرَّمًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُمْ وَرَفْعٌ لِمَنْزِلَتِهِمْ. وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتُوبُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ جَاءَ: «نَعِمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» ، وَهُوَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَدُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّقْصِيرِ، وَيَعْتَبِرُ ذَنْبًا يَسْتَثْقِلُهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، كَمَا كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، إِلَّا مَا قِيلَ شُعُورُهُ بِتَرْكِ الذِّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، اسْتَوْجَبَ مِنْهُ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ الْجُنَيْدِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْضِ اجْتِهَادَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ، فَيُرَدُّ اجْتِهَادُهُ فَيَعْظُمُ عَلَيْهِ: كَقِصَّةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعُوتِبَ فِيهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى الْآيَةَ [80 \ 1 - 2] ، وَنَظِيرِهَا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [9 \ 43] ، وَقِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [3 \ 128] ، وَاجْتِهَادِهِ فِي إِيمَانِ عَمِّهِ، حَتَّى قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28 \ 56] وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ الْوِزْرَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ يُثْقِلُهُ مِنْ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِي أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» نَعَمْ «، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْإِسْرَاءَ» . فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظِعَ، وَالْفَظَاعَةُ: ثِقَلٌ وَحُزْنُ، وَالْحُزْنُ: ثِقَلٌ. وَتَوَقُّعُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 577 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، أَيْ: ثِقَلَهُ، مُشْعِرٌ بِأَنَّ لِلذَّنْبِ ثِقَلًا عَلَى الْمُؤْمِنِ يَنُوءُ بِهِ، وَلَا يُخَفِّفُهُ إِلَّا التَّوْبَةُ وَحَطَّهُ عِنْدَهُ. وَقَوْلُهُ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا بِمَ وَلَا كَيْفَ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَالرَّفْعُ يَكُونُ حِسِّيًّا وَيَكُونُ مَعْنَوِيًّا، فَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ أَيْضًا. فَقِيلَ: هُوَ حِسِّيٌّ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَفِي الْخُطَبِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَافْتِتَاحِيَّاتِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الْهَامَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْوَاقِعِ فِعْلًا، وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهِيَ أَبْيَاتٌ فِي دِيوَانِهِ مِنْ قَصِيدَةٍ دَالِيَّةٍ: أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ ... مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذَّنِ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ وَمِنْ رَفْعِ الذِّكْرِ مَعْنًى، أَيْ: مِنَ الرِّفْعَةِ، ذِكْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، حَتَّى عُرِفَ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ مَجِيئِهِ. وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْوَحْيَ ذِكْرًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [43 \ 43 - 44] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَهُ قَوْمَهُ ذِكْرٌ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ ذُرَى رُتَبِ ... كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَفْعَ ذِكْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنَّمَا هُوَ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، سَوَاءٌ كَانَ بِنُصُوصٍ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ بِمِثْلِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [5 \ 41] ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [8 \ 64] ، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [74 \ 1] ، وَالتَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ فِي مَقَامِ الرِّسَالَةِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [48 \ 29] ، أَوْ كَانَ فِي فُرُوعِ التَّشْرِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، وَتَشَهُّدٍ، وَخُطَبٍ، وَصَلَاةٍ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ النَّصَبُ: التَّعَبُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [88 \ 2 - 3] .ُُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 578 وَقَدْ يَكُونُ النَّصَبُ لِلدُّنْيَا أَوْ لِلْآخِرَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنَّصَبِ فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. فَقِيلَ: فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: فِي النَّافِلَةِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، أَنَّهُ تَوْجِيهٌ عَامُّ لِلْأَخْذِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَقَوْلِهِ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [73 \ 6] ، أَيْ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَفِي سُكُونِ اللَّيْلِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [110 \ 1 - 3] ، فَيَكُونُ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَشْغُولًا، إِمَّا لِلدُّنْيَا وَإِمَّا لِلدِّينِ. وَفِي قَوْلِهِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، حَلٌّ لِمُشْكِلَةِ الْفَرَاغِ الَّتِي شَغَلَتِ الْعَالَمَ حَيْثُ لَمْ تَتْرُكْ لِلْمُسْلِمِ فَرَاغًا فِي وَقْتِهِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا فِي عَمَلٍ لِلدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي عَمَلٍ لِلْآخِرَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلَيْنِ يَتَصَارَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا بِهَذَا أُمِرْنَا بَعْدَ فَرَاغِنَا ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَكْرَهُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا سَبَهْلَلًا، لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا دِينٍ " وَلِهَذَا لَمْ يَشْكُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَرَاغًا فِي الْوَقْتِ. وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى وَضْعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: " أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [2 \ 158] ، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا ; لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّايَ، فِيمَ يُفَكِّرُ حَدِيثُ السِّنِّ، وَكَيْفَ يَسْتَشْكِلُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، فَمِثْلُهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَرَاغٌ. تَنْبِيهٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 579 ذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْصَبْ قِرَاءَةً شَاذَّةً بِكَسْرِ الصَّادِ، وَأَخَذَهَا الشِّيعَةُ عَلَى الْفَرَاغِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَنَصْبِ عَلِيٍّ إِمَامًا، وَقَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ مُتَعَيِّنًا بِعَلِيٍّ ; فَالسُّنِّيُّ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: فَانْصَبْ أَبَا بَكْرٍ، فَإِنِ احْتَجَّ الشِّيعِيُّ بِمَا كَانَ فِي غَدِيرِ خُمٍّ، احْتَجَّ السُّنِّيُّ ; بِأَنَّ وَقْتَهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْفَرَاغِ مِنَ النُّبُوَّةِ. بَلَى إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " كَانَ بَعْدَهُ، وَفِي قُرْبِ فَرَاغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النُّبُوَّةِ، إِذْ كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. فَإِنِ احْتَجَّ الشِّيعِيُّ بِالْفَرَاغِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، رَدَّهُ السُّنِّيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَعَلَى كُلٍّ إِذَا كَانَ الشِّيعَةُ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَيَكْفِي لِرَدِّ احْتِجَاجِهِمْ أَنَّهَا شَاذَّةٌ، وَتَتَبُّعُ الشَّوَاذِّ قَرِيبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ الْمُسَمَّى بِاللَّعِبِ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، لَا لِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ وَلَا عَلَاقَةٍ رَابِطَةٍ. وَمِنَ اللَّعِبِ فِي التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ: رَأَيْتُ رَجُلًا عَامِّيًّا عَادِيًّا، قَدْ لَبِسَ حُلَّةً كَامِلَةً مِنْ: عِمَامَةٍ، وَثَوْبٍ صَقِيلٍ، وَحِزَامٍ جَمِيلٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ نَصْبَةً، أَيْ: بَدْلَةً كَامِلَةً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا هَذِهِ النَّصْبَةُ يَا فُلَانُ؟ فَقَالَ لَهُ: لَمَّا فَرَغْتُ مِنْ عَمَلِي نَصَبْتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. كَمَا سَمِعْتُ آخَرَ يَتَوَجَّعُ لِقِلَّةِ مَا فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ لِزَمِيلِهِ: أَلَا تَعْرِفُ لِي شَخْصًا أَنْصُبُ عَلَيْهِ، أَيْ: آخُذُ قَرْضَةً مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ تَنْصُبُ عَلَيْهِ؟ وَالنَّصْبُ كَذِبٌ وَحَرَامٌ. فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ، وَيَدُهُ خَالِيَةٌ فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ لِجَهْلِهِمْ، أَوْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ لِنِحَلِهِمْ. التقديم هنا مشعر بالتخصيص وهو كقوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [1/5] ، أي لا نعبد غيرك، وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه، كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم، هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 580 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ التِّين قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. التِّينُ هُوَ الثَّمَرَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي لَا عَجَمَ لَهَا وَلَا قِشْرَةَ، وَالزَّيْتُونُ هُوَ كَذَلِكَ الثَّمَرَةُ الَّتِي مِنْهَا الزَّيْتُ، وَطُورِ سِينِينَ هُوَ جَبَلُ الطُّورِ الَّذِي نَاجَى مُوسَى عِنْدَهُ رَبَّهُ، وَالْبَلَدُ الْأَمِينُ هُوَ مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ، وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُقْسَمِ بِهِ فِي الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. أَمَّا التِّينُ وَالزَّيْتُونُ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا الثَّمَرَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ " وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. كُلُّهُمْ يَقُولُ: التِّينُ: تِينُكُمُ الَّذِي تَأْكُلُونَ، وَالزَّيْتُونُ: زَيْتُونُكُمُ الَّذِي تَعْصِرُونَ. وَعَنْ كَعْبٍ: التِّينُ: مَسْجِدُ دِمَشْقَ، وَالزَّيْتُونُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَكَذَا عَنْ قَتَادَةَ. وَأَرَادُوا مَنَابِتَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ بِقَرِينَةِ الطُّورِ وَالْبَلَدِ الْأَمِينِ، عَلَى أَنَّ مَنْبَتَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ لِعِيسَى، وَطُورَ سِينِينَ لِمُوسَى، وَالْبَلَدَ الْأَمِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنَّ حَمْلَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ عَلَى مَنَابِتِهِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى إِبْقَاؤُهُمَا عَلَى أَصْلِهِمَا، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الْآتِي: أَوَّلًا التِّينُ: قَالُوا: إِنَّهُ أَشْبَهُ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّمَارِ بِثَمَرِ الْجَنَّةِ، إِذْ لَا عَجَمَ لَهُ وَلَا قِشْرَ، وَجَاءَ عَنْهُ فِي السُّنَّةِ: " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَ لَهُ طَبَقٌ فِيهِ تِينٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: فَلَوْ قُلْتُ: إِنَّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ لَقُلْتُ هَذِهِ ; لِأَنَّ فَاكِهَةَ الْجَنَّةِ بِلَا عَجَمٍ فَكُلُوهُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ وَيَنْفَعُ مِنَ النِّقْرِسِ " ذَكَرَهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ خَرَّجَهُ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي زَادِ الْمَعَادِ، قَائِلًا: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " أُهْدِيَ إِلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَبَقٌ مِنْ تِينٍ " وَسَاقَ النَّصَّ الْمُتَقَدِّمَ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي ثُبُوتِ هَذَا نَظَرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَصَاحِبُ الْقَامُوسِ: لِلتِّينِ خَوَاصٌّ، وَقَالُوا: إِنَّهَا مِمَّا تَجْعَلُهُ مَحِلًّا لِلْقَسَمِ بِهِ، وَجَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ: أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي السُّورَةِ. وَمِمَّا ذَكَرُوا مِنْ خَوَاصِّهِ، قَالُوا: إِنَّهُ يَجْلُو رَمْلَ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَيُؤَمِّنُ مِنَ السُّمُومِ، وَيَنْفَعُ خُشُونَةَ الْحَلْقِ وَالصَّدْرِ وَقَصَبَةِ الرِّئَةِ، وَيَغْسِلُ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ، وَيُنَقِّي الْخَلْطَ الْبَلْغَمِيَّ مِنَ الْمَعِدَةِ، وَيُغَذِّي الْبَدَنَ غِذَاءً جَيِّدًا، وَيَابِسُهُ يُغَذِّي وَيَنْفَعُ الْعَصَبَ. وَقَالَ جَالِينُوسُ: وَإِذَا أُكِلَ مَعَ الْجَوْزِ وَالسَّذَابِ، قَبْلَ أَخْذِ السُّمِّ الْقَاتِلِ نَفَعَ، وَحَفِظَ مِنَ الضُّرِّ، وَيَنْفَعُ السُّعَالَ الْمُزْمِنَ وَيَدِرُّ الْبَوْلَ وَيُسَكِّنُ الْعَطَشَ الْكَائِنَ عَنِ الْبَلْغَمِ الْمَالِحِ، وَلِأَكْلِهِ عَلَى الرِّيقِ مَنْفَعَةٌ عَجِيبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ، لَمْ يَأْتِ لَهُ ذِكْرٌ فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ التِّينُ الْمَعْرُوفُ. اهـ. وَكَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَمْ يُذْكَرْ فِي السُّنَّةِ لِعَدَمِ وُجُودِهِ بِالْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَأْتِ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَطُّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَنَابِتِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ لِمُنَافَاةِ جَوِّهِ لِجَوِّهَا، وَهُوَ وَإِنْ وُجِدَ أَخِيرًا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُودُ فِيهَا جَوْدَتَهُ فِي غَيْرِهَا. فَتَرَجَّحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّينِ هُوَ هَذَا الْمَأْكُولُ، كَمَا جَاءَ عَمَّنْ سَمَّيْنَا: ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ. أَمَّا الزَّيْتُونُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ، أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ إِذَا اخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَكَانَ مَجِيءُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ أَوِ الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ أَكْثَرَ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوْلَى بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الزَّيْتُونِ فِي الْقُرْآنِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ مَقْصُودًا بِهِ تِلْكَ الشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ، فَذُكِرَ فِي ضِمْنِ الْأَشْجَارِ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [6 \ 99] ، وَسَمَّاهَا بِذَاتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ [23 \ 20] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 وَذَكَرَهَا مَعَ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ فِي عَبَسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا [80 \ 27 - 29] ، وَذَكَرَ مِنْ أَخَصِّ خَصَائِصِ الْأَشْجَارِ، فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ فِي الْمَثَلِ الْعَظِيمِ الْمَضْرُوبِ: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [24 \ 35] . فَوَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ وَوَصَفَ زَيْتَهَا بِأَنَّهُ يَكَادُ يُضِيءُ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، وَاخْتِيَارُهَا لِهَذَا الْمَثَلِ الْعَظِيمِ يَجْعَلُهَا أَهْلًا لِهَذَا الْقَسَمِ الْعَظِيمِ هُنَا. أَمَّا طُورُ سِينِينَ: فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ جَبَلُ الطُّورِ، الَّذِي نَاجَى اللَّهَ مُوسَى عِنْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ، وَذِكْرُ الطُّورِ فِيهَا لِلتَّكْرِيمِ وَلِلْقَسَمِ، فَمِنْ ذِكْرِهِ لِلتَّكْرِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [19 \ 52] ، وَمِنْ ذِكْرِهِ لِلْقَسَمِ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [52 \ 1 - 2] . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ قَوْلُهُ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِالطُّورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ [95 \ 2] . اهـ. أَمَّا الْبَلَدُ الْأَمِينُ فَهُوَ مَكَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَالْأَمِينُ بِمَعْنَى الْآمِنِ، أَيْ: مِنَ الْأَعْدَاءِ، أَنْ يُحَارِبُوا أَهْلَهُ أَوْ يَغْزُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [29 \ 67] ، وَالْأَمِينُ بِمَعْنَى آمِنٍ، جَاءَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا اسْمَ وَيْحَكِ أَنَّنِي ... حَلَفْتُ يَمِينًا لَا أَخُونُ أَمِينِي يُرِيدُ: آمِنِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. وَهَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْوِيمُ التَّعْدِيلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا [18 \ 1 - 2] ، وَأَحْسَنُ تَقْوِيمٍ شَامِلٌ لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ حِسًّا وَمَعْنًى أَيْ شَكْلًا وَصُورَةً وَإِنْسَانِيَّةً، وَكُلُّهَا مِنْ آيَاتِ الْقُدْرَةِ وَدَلَالَةِ الْبَعْثِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَوَاؤُكَ مِنْكَ وَلَا تَشْعُرُ ... وَدَاؤُكَ مِنْكَ وَلَا تُبْصِرُُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرُ ... وَفِيكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الْكَبِيرُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى خَلْقَهُ ابْتِدَاءً مِنْ نُطْفَةٍ فَعَلَقَةٍ إِلَى آخِرِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 34 - 40] . وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [95 \ 7] . أَمَّا الْجَانِبُ الْمَعْنَوِيُّ فَهُوَ الْجَانِبُ الْإِنْسَانِيُّ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَا هُنَاكَ، مِنْ أَنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْجَانِبُ الَّذِي بِهِ كَانَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا، وَبِهِمَا كَانَ خَلْقُهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَنَالَ بِذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِ التَّكْرِيمِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [17 \ 70] . وَالْإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ لَفْظًا مُفْرَدًا إِلَّا أَنَّهُ لِلْجِنْسِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [95 \ 5 - 6] ، وَهَذَا مِثْلُ مَا فِي سُورَةِ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [103 \ 1 - 6] ، فَبِاسْتِثْنَاءِ الْجَمْعِ مِنْهُ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ. وَالتَّأْكِيدُ بِالْقَسَمِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يُشْعِرُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَلْمُوسٌ مَحْسُوسٌ، لَا يُنْكِرُهُ إِنْسَانٌ. وَقَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّ غَيْرَ الْمُنْكِرِ إِذَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْإِنْكَارِ، عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمُنْكِرِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضًا رُمْحَهُ ... وَإِنَّ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحُ وَأَمَارَاتُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ، إِنَّمَا هِيَ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ ; لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَوْ تَأَمَّلَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ، لَعَرَفَ مِنْهُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَفْرَدَهَا الشَّيْخُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ بِتَنْبِيهٍ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [45 \ 4] ، وَتَكَرَّرَ هَذَا الْبَحْثُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَأَصْرَحُ دَلَالَةٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي آخِرِ يس: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 78 - 79] .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . قِيلَ: رُدَّ إِلَى الْكِبَرِ وَالْهَرَمِ وَضَعْفِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ. إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتُهَا قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تُرْجُمَان كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [36 \ 68] . وَذَكَرَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ، وَسَاقَ مَعَهُ قَوْلَهُ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [30 \ 54] ، وَسَاقَ آيَةَ التِّينِ هَذِهِ: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، وَقَالَ: عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَوْلَهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [22 \ 5] ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: رُدَّ إِلَى النَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَهُوَ كَمَا تَرَى، مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ فِي النُّصُوصِ الَّتِي قَدَّمْنَا، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ نَفْسِ السُّورَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِهَا: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [95 \ 7] ، أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ، وَهِيَ بَدْءُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَتَطَوُّرُهُ إِلَى أَحْسَنِ أَمْرِهِ، ثُمَّ رَدُّهُ إِلَى أَحَطِّ دَرَجَاتِ الْعَجْزِ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمُشَاهَدُ لَهُمْ، يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ. أَمَّا رَدُّهُ إِلَى النَّارِ فَأَمْرٌ لَمْ يَشْهَدْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا يُقِيمُهُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الدَّلِيلِ أَنْ يُنْقَلَ مِنَ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمَجْهُولِ، وَالْبَعْثُ هُوَ مَوْضِعُ إِنْكَارِهِمْ، فَلَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ لِإِثْبَاتِ مَا يُنْكِرُونَهُ بِمَا يُنْكِرُونَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ وَاضِحٌ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ حَالَةَ الْإِنْسَانِ هَذِهِ فِي نَشْأَتِهِ مِنْ نُطْفَةٍ، فَعَلَقَةٍ، فَطِفْلٍ، فَغُلَامٍ، فَشَيْخٍ، فَهَرَمٍ، وَعَجْزٍ. جَاءَ مَثَلُهَا فِي النَّبَاتِ وَكِلَاهُمَا مِنْ دَلَائِلِ الْبَعْثِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ إِلَى قَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ [57 \ 20] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [39 \ 21] . فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ ; لِأَنَّهُ كَالنَّبَاتِ سَوَاءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [71 \ 17 - 18] . وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى حَالَةِ الْخَوْفِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَهْمَا طَالَ عُمُرُهُ، فَهُوَ فِي طَاعَةٍ، وَفِي ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ حَافِظَ كِتَابِ اللَّهِ الْمُدَاوِمَ عَلَى تِلَاوَتِهِ، لَا يُصَابُ بِالْخَرَفِ وَلَا الْهَذَيَانِ. وَقَدْ شَاهَدْنَا شَيْخَ الْقُرَّاءِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ الشَّيْخَ حَسَنَ الشَّاعِرَ، لَا زَالَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ عِنْدَ كِتَابَةِ هَذِهِ الْأَسْطُرِ تَجَاوَزَ الْمِائَةَ بِكَثِيرٍ، وَهُوَ لَا يَزَالُ يُقْرِئُ تَلَامِيذَهُ الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرَ، وَقَدْ يَسْمَعُ لِأَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ يَقْرَءُونَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ وَهُوَ يَضْبُطُ عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَدْ رَوَى الشَّوْكَانِيُّ مِثْلَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ أَوْ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: فَالْأَجْرُ هُوَ الثَّوَابُ، إِمَّا بِدَوَامِ أَعْمَالِهِمْ لِكَمَالِ عُقُولِهِمْ، وَإِمَّا بِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَكْتُبَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي حَالِ قُوَّتِهِمْ مِنْ صِيَامٍ وَقِيَامٍ، وَتَصَدُّقٍ مِنْ كَسْبِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِلْأَحَادِيثِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَيَظَلُّ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ. وَعَلَى الثَّانِي: فَيَكُونُ الْأَجْرُ هُوَ النَّعِيمُ فِي الْجَنَّةِ يُعْطُونَهُ وَلَا يُمَنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُقْطَعُ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا [13 \ 35] . تَنْبِيهٌ وَهُنَا وِجْهَةُ نَظَرٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: وَجْهٌ خَاصٌّ وَآخَرُ عَامٌّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 أَمَّا الْخَاصُّ: فَإِنَّ كَلِمَةَ رَدَدْنَاهُ، فَالرَّدُّ يُشْعِرُ إِلَى رَدٍّ لِأَمْرٍ سَابِقٍ، وَالْأَمْرُ السَّابِقُ هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَحْسَنُ تَقْوِيمٍ شَامِلٌ لِشَكْلِهِ وَمَعْنَاهُ، أَيْ جِسْمِهِ وَإِنْسَانِيَّتِهِ، فَرَدُّهُ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، يَكُونُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ كَالْحَيَوَانِ بَلْ هُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَسْفَلُ دَرْكًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَشْرَسُ نَفْسًا مِنَ الْوَحْشِ، فَلَا إِيمَانَ يَحْكُمُهُ وَلَا إِنْسَانِيَّةَ تُهَذِّبُهُ، فَيَكُونُ طَاغِيَةً جَبَّارًا يَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَبِإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحَاتِ يَتَرَفَّعُونَ عَنِ السَّفَالَةِ، وَيَرْتَفِعُونَ إِلَى الْأَعْلَى فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. وَالْوِجْهَةُ الْعَامَّةُ وَهِيَ الشَّامِلَةُ لِمَوْضُوعِ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا ابْتِدَاءً مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَمَا مَعَهُ فِي الْقَسَمِ إِلَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [95 \ 4 - 6] . فَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [20 \ 121] . رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا بَدَتْ لَهُ سَوْأَتُهُ ذَهَبَ إِلَى أَشْجَارِ الْجَنَّةِ لِيَأْخُذَ مِنَ الْوَرَقِ لِيَسْتُرَ نَفْسَهُ، وَكُلَّمَا جَاءَ شَجَرَةً زَجَرَتْهُ وَلَمْ تُعْطِهِ، حَتَّى مَرَّ بِشَجَرَةِ التِّينِ فَأَعْطَتْهُ، فَأَخْلَفَهَا اللَّهُ الثَّمَرَةَ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ، وَكَافَأَهَا بِجَعْلِ ثَمَرَتِهَا بَاطِنِهَا كَظَاهِرِهَا لَا قِشْرَ لَهَا وَلَا عَجَمَ. وَقَدْ رَوَى الشَّوْكَانِيُّ فِي أَنَّهَا شَجَرَةُ التِّينِ الَّتِي أَخَذَ مِنْهَا الْوَرَقَ. فَقَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا أَسْكَنَ اللَّهُ آدَمَ الْجَنَّةَ كَسَاهُ سِرْبَالًا مِنَ الظُّفْرِ، فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ سَلَبَهُ السِّرْبَالَ فَبَقِيَ فِي أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ» . قَالَ: وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَ كَالظُّفْرِ - وَذَكَرَ الْأَثَرَ - وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» قَالَ: يَنْزِعَانِ وَرَقَ التِّينِ، فَيَجْعَلَانِهِ عَلَى سَوْآتِهِمَا. وَبِهَذَا النَّقْلِ يَكُونُ ذِكْرُ التِّينِ هُنَا مَعَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدُّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا سِرٌّ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ إِشْعَارُ الْإِنْسَانِ الْآنَ، أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ كُلَّهُ بِالْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ أَبِي الْبَشَرِ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي أَحْسَنِ حَالَةٍ حِسًّا وَمَعْنًى، حَتَّى رَفَعَهُ إِلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 مَنْزِلَةِ إِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَسُكْنَاهُ الْجَنَّةَ، فَهِيَ أَعْلَى مَنْزِلَةِ التَّكْرِيمِ، وَلَهُ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَجُوعُ وَلَا يَعْرَى وَلَا يَظْمَأُ فِيهَا وَلَا يَضْحَى، وَظَلَّ كَذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَغْوَاهُ الشَّيْطَانُ وَنَسِيَ عَهْدَ رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ وَكَانَ لَهُ مَا كَانَ، فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ وَانْتَقَلَا مِنْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، فَنَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ يَحْرُثُ وَيَزْرَعُ وَيَحْصُدُ وَيَطْحَنُ وَيَعْجِنُ وَيَخْبِزُ، حَتَّى يَجِدَ لُقْمَةَ الْعَيْشِ، فَهَذَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَرَدُّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَرْضِ جَمِيعًا، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا آدَمُ بِالتَّوْبَةِ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [2 \ 37] ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [20 \ 122] . وَإِنَّ فِي ذِكْرِ الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَتَرْشِيحٌ لِهَذَا الْمَعْنَى ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَرَمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَمْنًا كَصُورَةِ الْآمِنِ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنِ امْتَثَلُوا وَأَطَاعُوا نَعِمُوا بِهَذَا الْأَمْنِ، وَإِنْ تَمَرَّدُوا وَعَصَوْا، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَيُحْرَمُونَ أَمْنَهَا. وَهَكَذَا تَكُونُ السُّورَةُ رَبْطًا بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَانْطِلَاقًا مِنَ الْحَاضِرِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [95 \ 7 - 8] . فِيمَا فَعَلَ بِآدَمَ وَفِيمَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ، حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ وَالْعَيْشِ الرَّغَدِ، وَإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ وَفِيمَا يَفْعَلُ لِمَنْ آمَنَ أَوْ بِمَنْ يَكْفُرُ، اللَّهُمَّ بَلَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ. فَالدِّينُ هُوَ الْجَزَاءُ كَمَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] وَالْخِطَابُ قِيلَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّ «مَا» فِي قَوْلِهِ: «فَمَا» هِيَ بِمَعْنَى «مَنْ» أَيْ، فَمَنِ الَّذِي يُكَذِّبُكَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، بِمَجِيءِ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لِيَلْقَى كُلٌّ جَزَاءَ عَمَلِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. السُّؤَالُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي: أَلَمْ نَشْرَحْ [94 \ 1] ، أَيْ: لِلْإِثْبَاتِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلَا شَكٍّ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: «اللَّهُمَّ بَلَى» كَمَا سَيَأْتِي. وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قِيلَ: أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْحُكْمِ أَيْ: أَعْدَلُ الْحَاكِمِينَ، كَمَا فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18 \ 49] . وَقِيلَ: مِنَ الْحِكْمَةِ، أَيْ: فِي الصُّنْعِ وَالْإِتْقَانِ وَالْخَلْقِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْحُكْمِ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْحَكِيمَ مِنَ الْحِكْمَةِ يُجْمَعُ عَلَى الْحُكَمَاءِ. فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْأَمْرَيْنِ: يَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ مَعًا، وَهُوَ هُنَا لَا تَعَارُضَ بَلْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ ; لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْدِلَ، وَالْعَادِلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [38 \ 28] ، الْجَوَابُ: لَا، وَكَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [45 \ 21] ، وَفِي قَوْلِهِ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ بَيَانٌ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِمْ فِي الْحُكْمِ، وَبُعْدِهِ عَنِ الْحِكْمَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَدَمَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي مَمَاتِهِمْ أَنَّهُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فِي صُنْعِهِ وَخَلْقِهِ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَعْدَلُ الْحُكَّامِ فِي حُكْمِهِ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَقَرَأَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» . وَمِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَبَلَى» . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْعَلَق قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ تِسْعُ مَسَائِلَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ارْتِبَاطَ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ، وَالْعَامِّ بِالْخَاصِّ، وَالدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَكُلُّهَا مِنْ مَنْهَجِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. وَفِي الْوَاقِعِ أَنَّهَا كُلَّهَا مَسَائِلُ أَسَاسِيَّةٌ بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ عَظِيمَةُ الدَّلَالَةِ. وَقَدْ قَالَ عَنْهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهَا وَأَمْثَالَهَا مِنَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْعَجَائِبُ، وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ التَّأْسِيسِ لِافْتِتَاحِيَّةِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَا تَسْتَطِيعُ إِيفَاءَهَا حَقَّهَا عَجْزًا وَقُصُورًا. وَقَدْ كَتَبَ فِيهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأُسْلُوبِهِ مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ صَفْحَةً مُتَتَالِيَةً، وَفَصْلًا آخَرَ فِي مَبَاحِثَ تَتَّصِلُ بِهَا، وَلَوْ أَوْرَدْنَا كُلَّ مَا يَسَعُنَا مِمَّا تَحْتَمِلُهُ، لَكَانَ خُرُوجًا عَنْ مَوْضُوعِ الْكِتَابِ، وَلِذَا فَإِنَّا نَقْصُرُ الْقَوْلَ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِمَوْضُوعِهِ، إِلَّا مَا جَرَى الْقَلَمُ بِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. أَمَّا الْمَسَائِلُ التِّسْعُ الَّتِي ذُكِرَتْ هُنَا، فَإِنَّا نُورِدُهَا لِنَتَقَيَّدَ بِهَا وَهِيَ: أَوَّلًا: الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ، يُوَجَّهُ لِنَبِيٍّ أُمِّيٍّ. وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقِرَاءَةِ هَذِهِ بِاسْمِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مُضَافًا لِلْمُخَاطَبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ رَبِّكَ. الثَّالِثَةُ: وَصْفٌ لِلرَّبِّ الَّذِي خَلَقَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَاسْمِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. الرَّابِعَةُ: خَلْقُ الْإِنْسَانِ بِخُصُوصِهِ، بَعْدَ عُمُومِ خَلْقٍ وَإِطْلَاقِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 الْخَامِسَةُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَ الْعَلَقَةِ مِنْ نُطْفَةٍ أَوْ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ. السَّادِسَةُ: إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ مَعَ «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» بَدَلًا مِنْ أَيِّ صِفَةٍ أُخْرَى، وَبَدَلًا مِنَ الَّذِي خَلَقَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. الثَّامِنَةُ: التَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ. التَّاسِعَةُ: تَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ. لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْخَمْسُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، فَهِيَ بِحَقٍّ افْتِتَاحِيَّةُ الْوَحْيِ، فَكَانَتْ مَوْضِعَ عِنَايَةِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَفِيضٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ، فَلَا مُوجِبَ لِإِيرَادِهِ هُنَا. وَلَكِنْ نُورِدُ الْكَلَامَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَوْضُوعِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ، فَالْقِرَاءَةُ لُغَةً الْإِظْهَارُ، وَالْإِبْرَازُ، كَمَا قِيلَ فِي وَصْفِ النَّاقَةِ: لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا، أَيْ لَمْ تُنْتِجْ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى لُغَةً، وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ إِلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ لَا تَعَارُضَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَكُونُ مِنْ مَكْتُوبٍ وَتَكُونُ مِنْ مَتْلُوٍّ، وَهُنَا مِنْ مَتْلُوٍّ يَتْلُوهُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا إِبْرَازٌ لِلْمُعْجِزَةِ أَكْثَرُ ; لِأَنَّ الْأُمِّيَّ بِالْأَمْسِ صَارَ مُعَلِّمًا الْيَوْمَ. وَقَدْ أَشَارَ السِّيَاقُ إِلَى نَوْعَيِ الْقِرَاءَةِ هَذَيْنِ، حَيْثُ جَمَعَ الْقِرَاءَةَ مَعَ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْرَأْ بَدْءٌ لِلنُّبُوَّةِ وَإِشْعَارٌ بِالرِّسَالَةِ ; لِأَنَّهُ يَقْرَأُ كَلَامَ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِاسْمِ رَبِّكَ، تُؤَكِّدُ لِهَذَا الْإِشْعَارِ، أَيْ: لَيْسَ مِنْ عِنْدِكَ وَلَا مِنْ عِنْدِ جِبْرِيلَ الَّذِي يُقْرِئُكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الرَّدَّ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ وَلَا يَقْرَأُ مَكْتُوبًا، مِنْ أَنَّهُ صِيَانَةٌ لِلرِّسَالَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ الْآيَةَ [29 \ 48] . وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [62 \ 2] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 وَهُنَا لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَقْرَؤُهُ وَلَكِنَّ مَجِيءَ سُورَةِ الْقَدْرِ بَعْدَهَا بِمَثَابَةِ الْبَيَانِ لِمَا يَقْرَؤُهُ وَهِيَ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] ، وَجَاءَ بَيَانُ مَا أُنْزِلَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [4 \ 1 - 3] . وَلِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانٌ لِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [4 \ 113] ، فَكَأَنَّهُ فِي قُوَّةٍ اقْرَأْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ الْقُرْآنُ بِالْإِجْمَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ، أَيِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ مُنْشِئًا وَمُبْتَدِئًا الْقِرَاءَةَ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْبَاءِ أَهِيَ صِلَةٌ، وَيَكُونُ اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، أَيْ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ، كَمَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ عَلَى اسْمِ رَبِّكَ، وَعَلَيْهِ: فَالْمَقْرُوءُ مَحْذُوفٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ أَيْ أَنَّ مَا تَقْرَؤُهُ هُوَ مِنْ رَبِّكَ، وَتُبَلِّغُهُ لِلنَّاسِ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَأَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنْ رَبِّكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] . وَقَوْلِهِ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [5 \ 99] ، أَيْ: عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [4 \ 64] . وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ الْحَاضِرَةِ خِطَابُ الْحُكْمِ، أَوْ مَا يُسَمَّى خِطَابَ الْعَرْشِ، حِينَمَا يَقُولُ مُلْقِيهِ بِاسْمِ الْمَلِكِ، أَوْ بِاسْمِ الْأُمَّةِ، أَوْ بِاسْمِ الشَّعْبِ، عَلَى حَسَبِ نِظَامِ الدَّوْلَةِ، أَيْ بَاسِمِ السُّلْطَةِ الَّتِي مِنْهَا مَصْدَرُ التَّشْرِيعِ وَالتَّوْجِيهِ السِّيَاسِيِّ. وَهُنَا بَاسِمِ اللَّهِ، بِاسْمِ رَبِّكَ، وَصِفَةُ رَبِّكَ هُنَا لَهَا مَدْلُولُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يُنَبِّهُ الْعَبْدَ إِلَى مَا أَوْلَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، إِذِ الرَّبُّ يَفْعَلُ لِعَبْدِهِ مَا يُصْلِحُهُ، وَمِنْ كَمَالِ إِصْلَاحِهِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ وَحْيَهُ بِخَبَرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُخَاطَبِ إِينَاسٌ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَصْفُ الرَّبِّ بِـ الَّذِي خَلَقَ مَعَ إِطْلَاقِ الْوَصْفِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ صِفَةَ الْخَلْقِ هِيَ أَقْرَبُ الصِّفَاتِ إِلَى مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا أَجْمَعُ الصِّفَاتِ لِلتَّعْرِيفِ بِاللَّهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 تَعَالَى لِخَلْقِهِ، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي يُسَلِّمُونَ بِهَا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [31 \ 25] . وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [43 \ 87] . وَلِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [52 \ 35] ، وَقَدْ أَطْلَقَ صِفَةَ الْخَلْقِ عَنْ ذِكْرِ مَخْلُوقٍ لِيَعُمَّ وَيَشْمَلَ الْوُجُودَ كُلَّهُ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [6 \ 102] . اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [39 \ 62] . هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [59 \ 24] . وَتِلْكَ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ: هِيَ الْأُصُولُ فِي الرِّسَالَةِ وَمَا بَعْدَهَا دَلَالَةٌ عَلَيْهَا، فَالْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ تَكْلِيفٌ لِتَحَمُّلِ الْوَحْيِ، وَبِاسْمِ رَبِّكَ بَيَانٌ لِجِهَةِ التَّكْلِيفِ، «وَالَّذِي خَلَقَ» تَدْلِيلٌ لِتِلْكَ الْجِهَةِ، أَيِ الرِّسَالَةِ وَالرَّسُولِ وَالْمُرْسَلِ مَعَ الدَّلِيلِ الْمُجْمَلِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا بِالتَّفْصِيلِ. وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الْمُرْسَلِ هِيَ الْأَسَاسُ وَهِيَ الْمَصْدَرُ، كَانَ التَّدْلِيلُ عَلَيْهَا أَوَّلًا، فَجَاءَ التَّفْصِيلُ فِي شَأْنِهَا بِمَا يُسَلِّمُونَ بِهِ وَيُسَلِّمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ. وَالْخَامِسَةُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ بِبَيَانٍ لِلْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَالْإِنْسَانُ بَعْضٌ مِمَّا خَلَقَ، وَذِكْرُهُ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصَّ أَوَّلًا، وَمِنْ إِلْزَامِهِمْ بِمَا يُسَلِّمُونَ بِهِ ثُمَّ لِانْتِقَالِهِمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ وَيُقِرُّونَ بِهِ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ وَيُنْكِرُونَ. وَفِي ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ عُمُومِ الْخَلْقِ تَكْرِيمٌ لَهُ، كَذِكْرِ الرُّوحِ بَعْدَ عُمُومِ الْمَلَائِكَةِ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا وَنَحْوِهِ، وَالْإِنْسَانُ هُنَا الْجِنْسُ بِدَلِيلِ الْجَمْعِ فِي عَلَقٍ جَمْعُ عَلَقَةٍ، وَلِأَنَّهُ أَوْضَحُ دَلَالَةً عِنْدَهُ، لِيَسْتَدِلَّ بِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ: مِنْ عَلَقٍ، وَهُوَ جَمْعُ عَلَقَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الدَّمِ، كَالْعَرَقِ أَوِ الْخَيْطِ بَيَانٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ أَحْيَانًا فِيمَا تُلْقِي بِهِ الرَّحِمُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَبْدَأُ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 فَالْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِ إِنْسَانٍ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مِنْ هَذِهِ الْعَلَقَةِ، قَادِرٌ عَلَى جَعْلِكَ قَارِئًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الْقِرَاءَةَ مِنْ قَبْلُ، كَمَا أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ الْعَلَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَتَعَهَّدُ تِلْكَ الْعَلَقَةَ حَتَّى تَكْتَمِلَ إِنْسَانًا يَتَعَهَّدُهَا بِالرِّسَالَةِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ بِالذَّاتِ وَبِخُصُوصِهِ لِتَفْصِيلِ مَرْحَلَةِ وَجُودِهِ، أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَعْلَمْ مَبَادِئَ خِلْقَتِهَا كَعِلْمِهِمْ بِالْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْعَلَقَةِ كَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَمِنْ حُسْنِ تَقْوِيمٍ إِنْزَالُ الْكِتَابِ الْقَيِّمِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ دَلَالَةٍ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ، فَبَدَأَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ وَيُسَلِّمُونَ بِهِ لِلَّهِ، وَلَمْ يَبْدَأْ مِنَ النُّطْفَةِ أَوِ التُّرَابِ ; لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ لَمْ يُشَاهِدُوهُ، وَلِأَنَّ النُّطْفَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمٍ لَهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ، فَقَدْ تُقْذَفُ فِي غَيْرِ رَحِمٍ كَالْمُحْتَلِمِ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ، وَلَا تَكُونُ مُخَلَّقَةً. اهـ. وَهَذَا فِي ذَاتِهِ وَجِيهٌ، وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السُّورَةَ فِي مُسْتَهَلِّ الْوَحْيِ وَبِدَايَتِهِ، فَهِيَ كَالَّذِي يَقُولُ: إِذَا كُنْتُ بَدَأْتُ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكَ، فَلَيْسَ هُوَ بِأَكْثَرَ مِنْ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَعَلَيْهِ يُقَالُ: لَقَدْ تُرِكَتْ مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ مُقَابِلَ مَرْحَلَةٍ مِنَ الْوَحْيِ، قَدْ تُرِكَتْ أَيْضًا وَهِيَ فَتْرَةُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ الْوَحْيُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا فَتَأْتِي كَفَلَقِ الصُّبْحِ» فَكَانَ ذَلِكَ إِرْهَاصًا لِلنُّبُوَّةِ وَتَمْهِيدًا لَهَا لِمُدَّةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وَهِيَ نِسْبَةُ نِصْفِ السَّنَةِ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مُدَّةِ الْوَحْيِ، وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ قَدْ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ تَمَامًا فَتْرَةُ النُّطْفَةِ، فَقَدْ تَكُونُ النُّطْفَةُ وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ، كَمَا تَكُونُ الرُّؤْيَا وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ، أَمَّا الْعَلَقَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي رَحِمٍ وَقَرَارٍ مَكِينٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَأْتِي الْإِنْسَانُ مُخَلَّقًا كَامِلًا، أَوْ غَيْرَ مُخَلَّقٍ عَلَى مَا يُقَدَّرُ لَهُ. فَلَمَّا كَانَتْ فَتْرَةُ النُّطْفَةِ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ مِثْلُهَا فَتْرَةَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِلنُّبُوَّةِ تُرِكَ كُلٌّ مِنْهَا مُقَابِلَ الْآخَرِ، وَيَبْدَأُ الدَّلِيلُ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُسَلَّمُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ، وَالْخَالِقُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، فَكَانَ فِيهِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَاتِيَّةِ الْمُسْتَدِلِّ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 فَالدَّلِيلُ هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، وَالْمُسْتَدَلُّ بِهِ هُوَ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [51 \ 21] ، فَيَسْتَدِلُّ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ. وَإِذَا تَمَّ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ، كَانَ بَعْدَهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَرِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَهِيَ إِعَادَةُ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، إِذْ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تُبَلِّغُ عَنْهُ وَتَقْرَأُ بِاسْمِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ وَهَذَا الْوَحْيَ مِنْ رَبِّكَ الْأَكْرَمِ، وَالْأَكْرَمُ قَالُوا: هُوَ الَّذِي يُعْطِي بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَلَا انْتِظَارِ مُقَابِلٍ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ مَجِيءَ الْوَصْفِ هُنَا بِالْأَكْرَمِ بَدَلًا مِنْ أَيِّ صِفَةٍ أُخْرَى، لِمَا فِي هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ تَلَاؤُمٍ لِلسِّيَاقِ، مَا لَا يُنَاسِبُ مَكَانَهَا غَيْرُهَا لِعِظَمِ الْعَطَاءِ وَجَزِيلِ الْمِنَّةِ. فَأَوَّلًا: رَحْمَةُ الْخَلِيقَةِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي رَبَطَتِ الْعِبَادَ بِرَبِّهِمْ. وَكَفَى. وَثَانِيًا: نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَهُمَا نِعْمَتَانِ مُتَكَامِلَتَانِ: الْإِيجَادُ مِنَ الْعَدَمِ بِالْخَلْقِ، وَالْإِيجَادُ الثَّانِي مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ إِلَّا مِنَ الرَّبِّ الْأَكْرَمِ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ تَأْتِي الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَهِيَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى: اقْرَأْ، وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. أَوِ الْوَقْفُ عَلَى الْأَكْرَمِ وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ; لِأَنَّ مَنْ يُعَلِّمُ الْجَاهِلَ بِالْقَلَمِ، يُعَلِّمُ غَيْرَهُ بِدُونِ الْقَلَمِ بِجَامِعِ التَّعْلِيمِ بَعْدَ الْجَهْلِ. فَالْقَادِرُ عَلَى هَذَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. وَالتَّاسِعَةُ: بَيَانٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ مَا الَّذِي عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ. فَقَالَ: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَلْمُوسٌ فِي أَشْخَاصِهِمْ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [16 \ 78] . فَاللَّهُ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَكُلُّ مَا تَعَلَّمَهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [5 \ 4] ، وَهَلِ الرِّسَالَةُ وَالنُّبُوَّةُ إِلَّا تَعْلِيمُ الرَّسُولِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ؟ وَبِهَذَا تَمَّ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، أَيِ الرِّسَالَةِ وَالرَّسُولِ وَالْمُرْسَلِ، وَهِيَ أُسُسُ الدَّعْوَةِ وَالْبَعْثَةِ الْجَدِيدَةِ. وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ نُبِّئَ بِـ «اقْرَأْ» وَأُرْسِلَ بِـ «الْمُدَّثِّرِ» وَلَكِنْ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 نَفْسِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِاسْمِ رَبِّكَ، إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إِلَى مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ، فَفِيهَا إِثْبَاتُ الرِّسَالَةِ مِنْ أَوَّلِ بَدْءِ الْوَحْيِ. تَنْبِيهٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، مَبْحَثُ التَّعْلِيمِ وَمَوْرِدُ سُؤَالٍ، وَهُوَ إِذَا كَانَ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وَأَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَكَانَ فِيهِ الْإِشَادَةُ بِشَأْنِ الْقَلَمِ، حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَ بِهِ، وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الشَّرَفِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى التَّعْلِيمِ بِدُونِ الْقَلَمِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي مَعْرِضِ التَّكْرِيمِ فِي قَوْلِهِ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [68 \ 1 - 2] ، وَعِظَمُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ الْقَلَمُ وَمَا يَسْطُرُونَ بِهِ مِنْ كِتَابَةِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ الْقَلَمُ فِي السُّنَّةِ أَنْوَاعًا مُتَفَاوِتَةً، وَكُلُّهَا بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ. مِنْهَا: أَوَّلُهَا وَأَعْلَاهَا: الْقَلَمُ الَّذِي كَتَبَ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ» الْحَدِيثَ. فَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ، يَكُونُ هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ جَرَى بِالْقَدَرِ كُلِّهِ، وَبِمَا قُدِّرَ وُجُودُهُ كُلِّهِ. ثَانِيهَا: الْقَلَمُ الَّذِي يَكْتُبُ مَقَادِيرَ الْعَامِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [44 \ 4] . ثَالِثُهَا: الْقَلَمُ الَّذِي يَكْتُبُ بِهِ الْمَلِكُ فِي الرَّحِمِ مَا يَخُصُّ الْعَبْدَ مِنْ رِزْقٍ وَعَمَلٍ. رَابِعُهَا: الْقَلَمُ الَّذِي بِأَيْدِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ الْمُنَوَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [50 \ 18] ، أَيْ بِالْكِتَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [82 \ 11 - 12] ، إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْكِتَابَةَ فِي ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ قَلَمًا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ. خَامِسُهَا: الْقَلَمُ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ يَكْتُبُونَ بِهِ مَا يُعَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَقْلَامُ كُتَّابِ الْوَحْيِ، الَّذِينَ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِتَابَةُ سُلَيْمَانَ لِبِلْقِيسَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، شَامِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ، إِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ شَأْنَ الْقَلَمِ وَعِظَمَ أَمْرِهِ، وَعَظِيمَ الْمِنَّةِ بِهِ عَلَى الْأُمَّةِ، بَلَى وَعَلَى الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. وَقَدِ افْتُتِحَتِ الرِّسَالَةُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَلِمَاذَا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَعْلَنَ عَنْ هَذَا الْفَضْلِ كُلِّهِ لِلْقَلَمِ! لَمْ يَكُنْ هُوَ كَاتِبًا بِهِ، وَلَا مِنْ أَهْلِهِ بَلْ هُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [62 \ 2] . وَالْجَوَابُ: أَنَّا أَشَرْنَا أَوَّلًا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ أَنَّهُ أَكْمَلُ لِلْمُعْجِزَةِ، حَيْثُ أَصْبَحَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مُعَلِّمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [3 \ 164] . وَثَانِيًا: لَمْ يَكُنْ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مُغْفِلًا شَأْنَ الْقَلَمِ، بَلْ عَنَى بِهِ كُلَّ الْعِنَايَةِ، وَأَوَّلُهَا وَأَعَظُهُمَا أَنَّهُ اتَّخَذَ كُتَّابًا لِلْوَحْيِ يَكْتُبُونَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ يَحْفَظُهُ وَيَضْبُطُهُ، وَتَعَهَّدَ اللَّهُ لَهُ بِحِفْظِهِ وَبِضَبْطِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [87 \ 6 - 7] ، حَتَّى الَّذِي يَنْسَاهُ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106] ، وَوَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] . وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْمَحْفُوظِ وَكَانَ لَهُ عِدَّةُ كُتَّابٍ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعِنَايَةِ بِالْقَلَمِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنَ الْكُتَّابِ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَعَهُمْ تَتِمَّةُ سَبْعَةَ عَشَرَ شَخْصًا، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِنَايَتِهِ بِالْقَلَمِ وَالتَّعْلِيمِ بِهِ عِنْدَ كِتَابَةِ الْوَحْيِ، بَلْ جَعَلَ التَّعْلِيمَ بِهِ أَعَمَّ، كَمَا جَاءَ خَبَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ الْكِتَابَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ كَاتِبًا مُحْسِنًا» ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّرْتِيبَاتِ الْإِدَارِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «عَلَّمَتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَةَ وَالْقُرْآنَ» . وَقَدْ كَانَتْ دَعْوَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلُوكَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْكِتَابَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، حَيْثُ كَانَ يُفَادِي بِالْمَالِ مَنْ يَقْدِرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 عَلَى الْفِدَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ كَانَتْ مُفَادَاتُهُ أَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنَ الْغِلْمَانِ الْكِتَابَةَ، فَكَثُرَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ مِمَّنْ تَعَلَّمَ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ. فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ فِي بَادِئِ أَمْرِهِمْ وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى الْمَالِ وَالسِّلَاحِ، بَلْ وَاسْتِرْقَاقِ الْأُسَارَى، فَيُقَدِّمُونَ تَعْلِيمَ الْغِلْمَانِ الْكِتَابَةَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، لَيَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: شِدَّةُ وَزِيَادَةُ الْعِنَايَةِ بِالتَّعْلِيمِ. وَثَانِيهِمَا: جَوَازُ تَعْلِيمِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ مَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّينِ، كَمَا يُوجَدُ الْآنَ مِنَ الْأُمُورِ الصِّنَاعِيَّةِ، فِي الْهَنْدَسَةِ، وَالطِّبِّ، وَالزِّرَاعَةِ، وَالْقِتَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَثُرَ الْمُتَعَلِّمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ عَدَدُ كُتَّابِ الْوَحْيِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ كَانَ انْتِشَارُ الْكِتَابَةِ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَجَاءَ النَّصُّ عَلَى الْكِتَابَةِ فِي تَوْثِيقِ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ الْآيَةَ [2 \ 282] ، وَهِيَ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى رُسِمَتْ فِيهَا كِتَابَةُ الْعَدْلِ الْحَدِيثَةُ كُلُّهَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُ الْقَلَمِ وَتَعَلُّمُهُ، فَقَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي تَعْلِيمِهِ لِلنِّسَاءِ عَلَى أَنَّهُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْعِلْمِ، فَهَلْ كُنَّ كَذَلِكَ فِي تَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ أَمْ لَا؟ مَبْحَثُ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ وَقَعَ الْخِلَافُ بِسَبَبِ نَصَّيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ، فَقَالَ لِي: أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ؟» رَوَاهُ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَقَالَ بَعْدَهُ: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا: «لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ يَعْنِي النِّسَاءَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ» قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، عَلَى حَدِيثِ الْمُنْتَقَى وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ حَدِيثَ الشِّفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِهِنَّ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُخْشَى مِنْ تَعْلِيمِهَا الْفَسَادُ، أَعْنِي تَعْلِيمَ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 أَمَّا تَعْلِيمُ الْعِلْمِ فَلَيْسَ مَحَلَّ خِلَافٍ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاضِحَةُ الْمَعَالِمِ، إِذَا نَظَرْتَ كَالْآتِي: أَوَّلًا: لَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْجَهْلِ، وَالْعِلْمُ قِسْمَانِ: عِلْمُ سَمَاعٍ وَتَلَقٍّ، وَهَذِهِ سِيرَةُ زَوْجَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَائِشَةُ كَانَتِ الْقُدْوَةَ الْحَسَنَةَ فِي ذَلِكَ فِي فِقْهِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَمِ اسْتَدْرَكَتْ عَلَى الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَشْهُورٌ وَمَعْلُومٌ. وَالثَّانِي: عِلْمُ تَحْصِيلٍ بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَهَذَا يَدُورُ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ عَدَمِهَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّ تَعْلِيمَهُنَّ مَفْسَدَةٌ مَنَعَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ يُعَلِّمُ امْرَأَةً الْكِتَابَةَ فَقَالَ: لَا تَزِدِ الشَّرَّ شَرًّا. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ الْكِتَابَةَ، فَقَالَ: أَفْعَى تُسْقَى سُمًّا، وَأَنْشَدُوا الْآتِيَ: مَا لِلنِّسَاءِ وَلِلْكِتَا ... بِةِ وَالْعِمَالَةِ وَالْخَطَابَهْ هَذَا لَنَا وَلَهُنَّ مِنَّا ... أَنْ يَبِتْنَ عَلَى جَنَابَهْ وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْمَنْفَلُوطِيُّ: يَا قَوْمُ لَمْ تُخْلَقْ بَنَاتُ الْوَرَى ... لِلدَّرْسِ وَالطَّرْسِ وَقَالَ وَقِيلَ لَنَا عُلُومٌ وَلَهَا غَيْرُهَا ... فَعَلِّمُوهَا كَيْفَ نَشْرُ الْغَسِيل وَالثَّوْبُ وَالْإِبْرَةُ فِي كَفِّهَا ... طَرْسٌ عَلَيْهِ كُلُّ خَطٍّ جَمِيل وَهَذَا نَظَرَ إِلَى تَعْلِيمِهِنَّ وَمَوْقِفِهِنَّ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْآخَرُ: كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُول مَعَ أَنَّنَا وَجَدْنَا فِي تَارِيخِ الْمَرْأَةِ نِسْوَةٌ شَارَكْنَ فِي الْقِتَالِ، حَتَّى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُسْقِي الْمَاءَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ تُدَاوِي الْجَرْحَى، إِذْ لَا يُؤْخَذُ قَوْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى عُمُومِهِ. قَالَ صَاحِبُ التَّرَاتِيبِ الْإِدَارِيَّةِ: أَوْرَدَ الْقَلْقَشَنْدِيُّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النِّسَاءِ كُنَّ يَكْتُبْنَ، وَلَمْ يَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ أَنْكَرَ عَلَيْهِنَّ. اهـ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ رِوَايَةُ كَرِيمَةَ لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَدْ رَأَيْتُ بِنَفْسِي وَأَنَا مُدَرِّسٌ بِالْأَحْسَاءِ نُسْخَةً لِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عِنْدَ آلِ الْمُبَارَكُُِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 وَعَلَيْهَا تَعْلِيقٌ لِأُخْتِ صَلَاحِ الدِّينِ الْأَيُّوبِيِّ، وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّرَاتِيبِ الْإِدَارِيَّةِ قَوْلَهُ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الصَّحْرَاءِ الْإِفْرِيقِيَّةِ خُصُوصًا شِنْقِيطَ: شِنْجِطَ، أَيْ شِنْقِيطَ، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ بِمُورِيتَانْيَا، وَتِيتْبِكْتُو، وَقَبِيلَةَ كِنْتِ الْعَجَبِ، حَتَّى جَاءَ أَنَّ الشَّيْخَ الْمُخْتَارَ الْكُنْتِيَّ الشَّهِيرَ، خَتَمَ مُخْتَصَرَ خَلِيلٍ لِلرِّجَالِ، وَخَتَمَتْهُ زَوْجَتُهُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى لِلنِّسَاءِ. اهـ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّنَا وَنَحْنُ فِي بَعْثَةِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِإِفْرِيقِيَا، سَمِعْنَا وَنَحْنُ فِي مَدِينَةِ أَطَارَ وَهِيَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مَدِينَةِ شِنْجِيطَ الْمَذْكُورَةِ، سَمِعْنَا مِنْ كِبَارِ أَهْلِهَا أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِهَا سَابِقًا مِائَتَا فَتَاةٍ يَحْفَظْنَ الْمُدَوَّنَةَ كَامِلَةً. وَقَدْ سَمِعْتُ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، أَنَّهُ كَانَتْ تُوجَدُ امْرَأَةٌ تُدَرِّسُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، الْحَدِيثَ، وَالسِّيرَةَ، وَاللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَهِيَ شِنْقِيطِيَّةٌ. وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ النَّظْرَةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ضَوْءِ وَاقِعِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ، وَقَدْ أَصْبَحَ تَعْلِيمُ الْمَرْأَةِ مِنْ مُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، وَلَكِنَّ الْمُشْكِلَةَ تَكْمُنُ فِي مَنْهَجِ تَعْلِيمِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّيهَا الْعِلْمَ. فَكَانَ مِنَ اللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ مَنْهَجُ تَعْلِيمِهَا قَاصِرًا عَلَى النَّوَاحِي الَّتِي يَحْسُنُ أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا كَالتَّعْلِيمِ وَالطِّبِّ وَكَفَى. أَمَّا كَيْفِيَّةُ تَعْلِيمِهَا، فَإِنَّ مُشْكِلَتَهَا إِنَّمَا جَاءَتْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ فِي مُدَرَّجَاتِ الْجَامِعَاتِ، وَفُصُولِ الدِّرَاسَةِ فِي الثَّانَوِيَّاتِ فِي فَتْرَةِ الْمُرَاهَقَةِ، وَقِلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ، وَفِي هَذَا يَكْمُنُ الْخَطَرُ مِنْهَا وَعَلَيْهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيمِهَا، فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنَ الْمَنْهَجِ الَّذِي يُحَقِّقُ الْغَايَةَ مِنْهُ، وَيَضْمَنُ السَّلَامَةَ فِيهِ، وَالتَّوْفِيقُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. أَمَّا مَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِنَ الِاتِّصَالِ عَنْ طَرِيقِ الْكِتَابَةِ، فَقَدْ وُجِدَ مَا هُوَ أَقْرَبُ وَأَسْرَعُ مِنْهَا لِمَنْ شَاءَتْ وَهُوَ الْهَاتِفُ فِي الْبُيُوتِ، فَإِنَّهُ فِي مُتَنَاوَلِ الْمُتَعَلِّمَةِ وَالْجَاهِلَةِ. وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَصَانَةِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالْمَتَانَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. وَقَدْ أَوْرَدْتُ هَذَا الْمَبْحَثَ اسْتِطْرَادًا لِبَيَانِ وِجْهَةِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، اقْتِبَاسًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 مَسْأَلَةٌ بَيَانُ أَوَّلِيَّةِ الْكِتَابَةِ عَامَّةً وَالْعَرَبِيَّةِ خَاصَّةً، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ عَلَى الْأَرْضِ: جَاءَ فِي الْمَطَالِعِ النَّصْرِيَّةِ لِلْمَطَابِعِ الْمِصْرِيَّةِ فِي الْأُصُولِ الْخَطِّيَّةِ الْمَطْبُوعِ سَنَةَ 1304 هـ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا أُصُولُ الْكِتَابَةِ اثْنَيْ عَشَرَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ خِلِّكَانَ، وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، كَالدِّمِيرِيِّ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَالْحَلَبِيِّ فِي السِّيرَةِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ كِتَابَاتِ الْأُمَمِ مِنْ سُكَّانِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ كِتَابَةً، خَمْسٌ مِنْهَا ذَهَبَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَبَطَلَ اسْتِعْمَالُهَا وَهِيَ: الْحِمْيَرِيَّةُ، وَالْقِبْطِيَّةُ، وَالْبَرْبَرِيَّةُ، وَالْأَنْدَلُسِيَّةُ، وَالْيُونَانِيَّةُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا فُقِدَ مَنْ يَعْرِفُهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَمُسْتَعْمَلَةٌ فِي بِلَادِهَا، وَهِيَ السُّرْيَانِيَّةُ وَالْفَارِسِيَّةُ وَالْعِبْرَانِيَّةُ وَالْعَرَبِيَّةُ. اهـ. كَلَامُهُ بِاخْتِصَارٍ وَفِيهِ مَا فِيهِ. قَالَ: وَالْحِمْيَرِيَّةُ: هِيَ خَطُّ أَهْلِ الْيَمَنِ قَوْمِ هُودٍ وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى، وَهِيَ عَادُ إِرَمَ، وَكَانَتْ كِتَابَتُهُمْ تُسَمَّى الْمُسْنَدَ الْحِمْيَرِيَّ، وَكَانَتْ حُرُوفُهَا كُلُّهَا مُنْفَصِلَةً، وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَامَّةَ مِنْ تَعَلُّمِهَا فَلَا يَتَعَاطَاهَا أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، حَتَّى جَاءَتْ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ بِجَمِيعِ الْيَمَنِ مَنْ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ. وَقَالَ الْمَقْرِيزِيُّ فِي الْخُطَطِ: الْقَلَمُ الْمُسْنَدُ، هُوَ الْقَلَمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْلَامِ حِمْيَرَ وَمُلُوكِ عَادٍ. اهـ. وَالْمَعْرُوفُ الْآنَ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْكِتَابَةِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ اللُّغَاتِ الْمَنْطُوقِ بِهَا هِيَ ثَلَاثَةٌ فَقَطْ، الْخَطُّ الْعَرَبِيُّ بِحُرُوفِ أَلِفٍ بَاءٍ وَبِهَا لُغَاتُ الشَّرْقِ. وَالْحُرُوفُ اللَّاتِينِيَّةُ وَبِهَا لُغَاتُ أُورُوبَّا وَالْحُرُوفُ الصِّينِيَّةُ. أَمَّا اللُّغَاتُ، وَهِيَ فَوْقَ أَلْفَيْ لُغَةٍ «وَالْأَمْهَرِيَّةُ بِحَرْفٍ قَرِيبٍ مِنَ اللَّاتِينِيِّ» . أَمَّا أَوَّلِيَّةُ الْكِتَابَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ النَّصْرِيَّةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهَا، كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَوَائِلِ. وَكَذَا فِي الْمُزْهِرِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ، قَالَ: إِنَّهُ يَرَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ، وَأَنَّ الْكِتَابَاتِ كُلَّهَا مِنْ وَضْعِهِ، كَانَ قَدْ كَتَبَهَا فِي طِينٍ وَطَبَخَهُ، يَعْنِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 أَحْرَقَهُ وَدَفَنَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَعْدَ الطُّوفَانِ وَجَدَ كُلُّ قَوْمٍ كِتَابًا فَتَعَلَّمُوهُ، وَكَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ كِتَابًا، فَتَعَلَّمُوهُ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ. وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ بِالْعَرَبِيِّ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. اهـ. وَقَدْ أَطَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْمُزْهِرِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، نَقْلًا عَنِ ابْنِ فَارِسٍ الشِّدْيَاقِيِّ. وَعَنِ الْعَسْكَرِيِّ عَنِ الْأَوَائِلِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ، فَقِيلَ إِسْمَاعِيلُ، وَقِيلَ مِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ: كَتَبْتُ أَبَا جَادٍ وَخَطِّي مُرَامِرُ ... وَسَوَّرْتُ سِرْبَالِي وَلَسْتُ بِكَاتِب وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ أَبْجَدْ، وَهَوَّزْ، وَحُطِّي، وَكَلَمُنْ، وَصَعْفَصْ، وَقَرَشَتْ، وَكَانُوا مُلُوكًا فَسُمِّيَ الْهِجَاءُ بِأَسْمَائِهِمْ. وَذُكِرَ عَنِ الْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، تَعَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَتَعَلَّمَ أَهْلُ الْحِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَأَلْنَا الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَةَ؟ قَالُوا: تَعَلَّمْنَا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَسَأَلْنَا أَهْلَ الْحِيرَةِ: مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَةَ؟ قَالُوا: مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْخَطَّ تَوْقِيفِيٌّ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَقَوْلِهِ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [68 \ 1] . وَإِذَا كَانَ هَذَا فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، أَنْ يُوقِفَ اللَّهُ آدَمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مُخْتَرَعًا اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَهَذَا شَيْءٌ لَا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ إِلَّا مِنْ خَبَرٍ صَحِيحٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: قُلْتُ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ مِنَ التَّوْقِيفِ، مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ شُقَّةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَوَّلُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ أَبَا جَادٍ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» . اهـ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 وَقَدْ أَطَالَ النُّقُولَ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ يُقْطَعُ بِهِ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذِهِ النُّبْذَةَ بِخُصُوصِ كَلَامِ ابْنِ فَارِسٍ، مِنْ أَنَّ تَعْلِيمَ الْكِتَابَةِ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَوَّلِ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يَشْهَدُ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الصُّحُفَ لِمُوسَى مَكْتُوبَةً. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْأَلْوَاحَ لِمُوسَى بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ» . وَإِذَا كَانَ مُوسَى تَلَقَّى أَلْوَاحًا مَكْتُوبَةً، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ مَعْلُومَةً لَهُ قَبْلَ إِنْزَالِهَا، وَإِلَّا لَمَا عَرَفَهَا. أَمَّا الْمَشْهُورُ فِي الْأَحْرُفِ الَّتِي نَكْتُبُ بِهَا الْآنَ، فَكَمَا قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْمُزْهِرِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ الْمِصْرِيَّةِ مَا نَصُّهُ: الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ عَوَانَةَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِخَطِّنَا هَذَا. وَهُوَ الْجَزْمُ مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ، وَأَسْلَمُ بْنُ سِدْرَةَ، وَعَامِرُ بْنُ حَدْرَةَ. كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَهُمْ مِنْ عَرَبِ طَيِّئٍ تَعَلَّمُوهُ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ لِسَيِّدِنَا هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ عَلَّمُوهُ أَهْلَ الْأَنْبَارِ، وَمِنْهُمُ انْتَشَرَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْعِرَاقِ وَالْحِيرَةِ وَغَيْرِهَا، فَتَعَلَّمَهَا بِشْرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخُو أُكَيْدِرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ صَاحِبِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ بِحَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ فَتَعَلَّمَ حَرْبٌ مِنْهُ، ثُمَّ سَافَرَ مَعَهُ بِشْرٌ إِلَى مَكَّةَ فَتَزَوَّجَ الصَّهْبَاءَ بَنْتَ حَرْبٍ أُخْتَ أَبِي سُفْيَانَ. فَتَعَلَّمَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. فَبِهَذَا كَثُرَ مَنْ يَكْتُبُ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ. وَلِذَا قَالَ رَجُلٌ كِنْدِيٌّ مِنْ أَهْلِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، يَمُنُّ عَلَى قُرَيْشٍ بِذَلِكَ: لَا تَجْحَدُوا نَعْمَاءَ بِشْرٍ عَلَيْكُمُ ... فَقَدْ كَانَ مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ أَزْهَرَا أَتَاكُمْ بِخَطِّ الْجَزْمِ حَتَّى حَفِظْتُمُو ... مِنَ الْمَالِ مَا قَدْ كَانَ شَتَّى مُبَعْثَرًا وَأَتْقَنْتُمُو مَا كَانَ بِالْمَالِ مُهْمَلًا ... وَطَمْأَنْتُمُو مَا كَانَ مِنْهُ مُبَقَّرًا فَأَجْرَيْتُمُ الْأَقْلَامَ عَوْدًا وَبَدْأَةً ... وَضَاهَيْتُمْ كُتَّابَ كِسْرَى وَقَيْصَرًا وَأَغْنَيْتُمُ عَنْ مُسْنَدٍ إِلَى حِمْيَرَا ... وَمَا زَبَرَتْ فِي الصُّحْفِ أَقْلَامُ حِمْيَرَا قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ نَقَلَ عَنِ الْفَرَّاءِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَتَبُوا الرِّبَا فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَلُغَتُهُمُ الرِّبَوا، فَعَلَّمُوهُمْ صُورَةَ الْخَطِّ عَلَى لُغَتِهِمْ. اهـ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 تَنْبِيهٌ آخَرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، لَا يَمْنَعُ تَعْلِيمَهُ تَعَالَى بِغَيْرِ الْقَلَمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [18 \ 65] . وَكَمَا فِي حَدِيثِ: «نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا» الْحَدِيثَ. وَكَمَا فِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ بِالْفَاتِحَةِ لِمَنْ لَدْغَتْهُ الْعَقْرَبُ فِي قِصَّةِ السَّرِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ قَالَ: شَيْءٌ نَفَثَ فِي رُوعِي» . وَحَدِيثِ عَلِيٍّ لَمَّا سُئِلَ «هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلْمٍ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِهِ. وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ» . وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [2 \ 282] . نَسْأَلُ اللَّهَ عِلْمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، وَالْعَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ مُوجِبٌ لِلطُّغْيَانِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَلَفْظُ الْإِنْسَانِ هُنَا عَامٌّ، وَلَكِنْ وَجَدْنَا بَعْضَ الْإِنْسَانِ يَسْتَغْنَى وَلَا يَطْغَى، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَمُخَصِّصُهُ إِمَّا مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ أَوْ مِنْ خَارِجٍ عَنْهَا، فَفِي نَفْسِ الْآيَةِ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ رَآهُ، أَيْ: إِنْ رَأَى الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَقَدْ يَكُونُ رَأْيًا وَاهِمًا وَيَكُونُ الْحَقِيقَةُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ يَطْغَى، فَلَا يَكُونُ الِاسْتِغْنَاءُ هُوَ سَبَبُ الطُّغْيَانِ. وَلِذَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ ذَمُّ الْعَائِلِ الْمُتَكَبِّرِ ; لِأَنَّهُ مَعَ فَقْرِهِ يَرَى نَفْسَهُ اسْتَغْنَى، فَهُوَ مَعْنِيٌّ فِي نَفْسِهِ لَا بِسَبَبِ غِنَاهُ. أَمَّا مِنْ خَارِجِ الْآيَةِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [79 \ 37 - 39] ، فَإِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ مُوجِبُ الطُّغْيَانِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا الْآيَةَ [104 \ 2 - 4] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 وَمَفْهُومُهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْثِرِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَحْسَبْ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، فَلَنْ يُطْغِيَهُ مَالُهُ وَلَا غِنَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَوْسَعِ غِنًى فِي الدُّنْيَا فِي نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ، آتَاهُ اللَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَعَ هَذَا قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ الْآيَةَ [38 \ 32] . وَقِصَّةُ الصَّحَابِيِّ الْمَوْجُودَةُ فِي الْمُوَطَّأِ: لَمَّا شُغِلَ بِبُسْتَانِهِ فِي الصَّلَاةِ، حِينَ رَأَى الطَّائِرَ لَا يَجِدُ فُرْجَةً مِنَ الْأَغْصَانِ، يَنْفُذُ مِنْهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فُتِنْتُ بِبُسْتَانِي فِي صَلَاتِي، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَعَرَفْنَا أَنَّ الْغِنَى وَحْدَهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلطُّغْيَانِ، وَلَكِنْ إِذَا صَحِبَهُ إِيثَارُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ طُغْيَانُ النَّفْسِ مِنْ لَوَازِمِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ غِنًى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [12 \ 53] . وَأَنَّهُ لَا يَقِي مِنْهُ إِلَّا التَّهْذِيبُ بِالدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ الْآيَةَ [42 \ 27] . وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ فِرْعَوْنَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ حِينَ قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [43 \ 51] ، وَكَذَلِكَ قَالَ قَارُونُ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [28 \ 78] ، وَقَالَ ثَالِثُ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: «إِنَّمَا وَرِثْتُهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ» بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ، إِلَى آخِرِهِ. فَلَا يَزِيدُهُ غِنَاهُ إِلَّا تَوَاضُعًا وَشُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ: قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [27 \ 78] ، وَقَدْ نَصَّ فِي نَفْسِ السُّورَةِ أَنَّهُ شَكَرَ اللَّهَ: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [27 \ 19] . وَفِي الْعُمُومِ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [46 \ 15] . وَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَالِ الْوَفِيرِ فَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا قُرْبًا لِلَّهِ، كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 رَبْطٌ لَطِيفٌ بِأَوَّلِ السُّورَةِ، إِذَا كَانَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، وَهِيَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي رَحِمِ أُمِّهِ، فَإِذَا بِهَا مُضْغَةٌ ثُمَّ عِظَامٌ، ثُمَّ تُكْسَى لَحْمًا، ثُمَّ تُنْشَأُ خَلْقًا آخَرَ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الدُّنْيَا طِفْلًا رَضِيعًا لَا يَمْلِكُ إِلَّا الْبُكَاءَ، فَيُجْرِي اللَّهُ لَهُ نَهْرَيْنِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ، ثُمَّ يُنْبِتُ لَهُ الْأَسْنَانَ، وَيَفْتِقُ لَهُ الْأَمْعَاءَ، ثُمَّ يَشِبُّ وَيَصِيرُ غُلَامًا يَافِعًا، فَإِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ أَوِ الْعَافِيَةِ، فَإِذَا هُوَ يَنْسَى كُلَّ مَا تَقَدَّمَ، وَيَنْسَى حَتَّى رَبَّهُ وَيَطْغَى وَيَتَجَاوَزُ حَدَّهُ حَتَّى مَعَ اللَّهِ خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ، كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [36 \ 77 - 79] . وَمِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ لُطْفِ التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، أَيْ أَنَّ الطُّغْيَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ عَنْ وَهْمٍ، تَرَاءَى لَهُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى سَوَاءٌ بِمَالِهِ أَوْ بِقُوَّتِهِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ جِبَالًا، لَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَكَلَ وَلَبِسَ وَأَنْفَقَ. وَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً وَاحِدَةً إِلَّا بِنِعْمَةِ الْعَافِيَةِ، فَإِذَا مَرِضَ فَمَاذَا يَنْفَعُهُ مَالُهُ، وَإِذَا أَكَلَهَا وَهَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا إِلَّا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ، أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ ; لِأَنَّ الْغِنَى مُوجِبٌ لِلطُّغْيَانِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الصَّبْرُ عَلَى الْعَافِيَةِ، أَشَدُّ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْحَاجَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ . قَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ: أَسْنَدَ الْكَذِبَ إِلَى النَّاصِيَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَسْنَدَهُ إِلَى غَيْرِ النَّاصِيَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [16 \ 105] . وَذَكَرَ الْجَوَابَ بِأَنَّهُ أَطْلَقَ النَّاصِيَةَ وَأَرَادَ صَاحِبَهَا عَلَى أُسْلُوبٍ لِإِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِيرَادِ الْكُلِّ، وَذَكَرَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [111 \ 1] . وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكُلُّ، لَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 بُدَّ فِي هَذَا الْبَعْضِ مِنْ مَزِيدِ مَزِيَّةٍ لِلْمَعْنَى الْمُسَاقِ فِيهِ الْكَلَامُ. فَمَثَلًا هُنَا ذَمَّ الْكَذِبَ وَأَخَذَ الْكَاذِبَ بِكَذِبِهِ، فَجَاءَ ذِكْرُ النَّاصِيَةِ وَهِيَ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرَّأْسِ ; لِأَنَّهَا أَشَدُّ نَكَارَةً عَلَى صَاحِبِهَا وَنَكَالًا بِهِ، إِذِ الصِّدْقُ يَرْفَعُ الرَّأْسَ وَالْكَذِبُ يُنَكِّسُهُ ذِلَّةً وَخِزْيًا. فَكَانَتْ هِيَ هُنَا أَنْسَبُ مِنَ الْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا، بَيْنَمَا فِي أَبِي لَهَبٍ تَطَاوُلَ بِمَالِهِ، وَالْغَرَضُ مَذَمَّةُ مَالِهِ وَكَسْبِهِ الَّذِي تَطَاوَلَ بِهِ، وَالْيَدُ هِيَ جَارِحَةُ الْكَسْبِ وَآلَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، فَكَانَتِ الْيَدُ أَوْلَى فِيهِ مِنَ النَّاصِيَةِ. وَهَكَذَا كَمَا يَقُولُونَ: بَثَّ الْأَمِيرُ عُيُونَهُ: يُرِيدُونَ جَوَاسِيسَ لَهُ ; لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَهَمُّ مَا فِيهِ لِمُهِمَّتِهِ تِلْكَ. وَلَمْ يَقُولُوا: بَثَّ أَرْجُلَهُ وَلَا رُءُوسًا وَلَا أَيْدٍ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَيْنِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [79 \ 8] ، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [89 \ 27] . لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَصْدَرُ الْخَوْفِ وَالنَّفْسَ هِيَ مَحَطُّ الطُّمَأْنِينَةِ، عَلَى أَنَّ النَّفْسَ جُزْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهَكَذَا، وَمِنْهُ الْآتِي: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [96 \ 19] ، أَطْلَقَ السُّجُودَ وَأَرَادَ الصَّلَاةَ ; لِأَنَّ السُّجُودَ أَخَصُّ صِفَاتِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [96 \ 19] . رَبَطَ بَيْنَ السُّجُودِ وَالِاقْتِرَابِ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [76 \ 26] وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [48 \ 29] ، فَقَوْلُهُ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، فِي مَعْنَى يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ يُبَيِّنُ قَوْلَهُ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ قُرْبَةٍ إِلَى اللَّهِ، حَيْثُ وَجَّهَ إِلَيْهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [2 \ 45] . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْقَدْر قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَاهُ لِلْقُرْآنِ قَطْعًا. وَحَكَى الْأَلُوسِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ: مَا يُفِيدُ أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا ضَعِيفًا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَنَّهُ لِجِبْرِيلَ. وَمَا قَالَهُ عَنِ الضَّعْفِ لِهَذَا الْقَوْلِ، يَشْهَدُ لَهُ السِّيَاقُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [97 \ 4] . وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ الرُّوحُ هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي أَنْزَلْنَا لِغَيْرِهِ، وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَإِشْعَارًا بِعُلُوِّ قَدْرِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: ذِكْرُ سُورَة ِ الْقَدْرِ قَبْلَهَا مُشْعِرَةٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثُمَّ جَاءَتْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، أَيِ الْقُرْآنَ الْمَقْرُوءَ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ فِي إِنَّا، وَنَا فِي إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْجَمْعِ وَلِلتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهَا نَحْنُ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [15 \ 9] ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا التَّعْظِيمُ قَطْعًا لِاسْتِحَالَةِ التَّعَدُّدِ أَوْ إِرَادَةِ مَعْنَى الْجَمْعِ. فَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [39 \ 23] ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَطْعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الضَّمَائِرِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَبِالِاخْتِصَاصِ تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِنَّا، وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ تَعْظِيمٍ وَاخْتِصَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُهُ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [108 \ 1] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا [71 \ 1] ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ [50 \ 43] ، وَإِنْزَالُ الْقُرْآنِ مِنَّةٌ عُظْمَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْمِنَّةِ وَتَعْظِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [38 \ 29] ، فَقَالَ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ بِضَمِيرِ التَّعْظِيمِ، ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِ الْكِتَابِ: مُبَارَكٌ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ ص هَذِهِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ. وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ جَاءَتِ الضَّمَائِرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِيَغِ الْجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ وَبِصِيَغِ الْإِفْرَادِ، فَمِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ صِيَغِ الْإِفْرَادِ قَوْلُهُ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [2 \ 30] ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [38 \ 71] ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [2 \ 30] . وَيُلَاحَظُ فِي صِيَغِ الْإِفْرَادِ: أَنَّهَا فِي مَوَاضِعِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، كَالْأَوَّلِ فِي مَقَامِ خَلْقِ الْبَشَرِ مِنْ طِينٍ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ. وَالثَّانِي: فِي مَقَامِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَسَوَاءٌ جِيءَ بِضَمِيرٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ، فَفِيهَا كُلِّهَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَوَاءٌ بِنَصِّهَا وَأَصْلِ الْوَضْعِ أَوْ بِالْقَرِينَةِ فِي السِّيَاقِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْمُنْزَلِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، هَلْ هُوَ الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ؟ فَقِيلَ: وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ أَوَائِلُ تِلْكَ السُّورَةِ فَقَطْ أَيْ: بِدَايَةُ الْوَحْيِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «ثُمَّ تَتَالَى نُزُولُ الْوَحْيِ، بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً» . وَقِيلَ: الْمُنْزَلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، هُوَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ صَارَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا حَسَبَ الْوَقَائِعِ. وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ عِنْدُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [2 \ 185] ، وَحَكَّاهُ الْأَلُوسِيُّ وَحَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ. وَعَنِ ابْنِ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَكُونَ نَزَلَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبَدْءِ نُزُولِ أَوَّلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [96 \ 1] ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَدْ أُثِيرَ حَوْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جِدَالٌ وَنِقَاشٌ كَلَامِيٌّ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَأَدْخَلُوا فِيهَا الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَقَلَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ سُئِلَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكُتِبَ جَوَابُهُ وَطُبِعَ، فَكَانَ كَافِيًا. وَقَدْ نَقَلَ فِيهِ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ وَحْيِهِ، وَرَدَّ عَلَى كُلِّ شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ. وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ كَمَا تَقَدَّمَ، بَيْنَ كَوْنِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَنُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا ; لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَإِنَّ اللَّوْحَ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنُزُولُهُ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَهُوَ بِمَثَابَةِ نَقْلِ جُزْءٍ مِمَّا فِي اللَّوْحِ وَهُوَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ، فَأَصْبَحَ الْقُرْآنُ مَوْجُودًا فِي كُلٍّ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَمَوْجُودًا فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَنْزِلُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ الْآنَ هُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَمْ يَخْلُ مِنْهُ اللَّوْحُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِإِنْزَالِهِ جُمْلَةً ثُمَّ تَنْزِيلِهِ مُنَجَّمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ; لِأَنَّ نَزَّلَ بِالتَّضْعِيفِ تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ كَقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ [97 \ 4] ، أَيْ: فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ. وَقَدْ جَاءَ أَنْزَلْنَاهُ، فَتَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ تَفْصِيلَ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 وَفِي أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ» . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقُرْآنُ مَوْجُودًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ حِينَمَا جَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ، ثُمَّ جَرَى نَقْلُهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَكُلَّمَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْزَالَ شَيْءٍ مِنْهُ تَكَلَّمَ سُبْحَانَهُ بِمَا أَرَادَ أَنْ يُنْزِلَهُ، فَيَسْمَعُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تِلْكَ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى صُوَرِ كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَتَلَقِّي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَحْيِ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ: أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ فِي شَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَمْ تَكُنْ ظَرْفًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَالْوَاقِعُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْأُسْلُوبِ مُمْكِنًا إِلَّا أَنَّ مَا بَعْدَهُ يُغْنِي عَنْهُ ; لِأَنَّ إِعْظَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيَانَ مَنْزِلَتِهَا قَدْ نَزَلَ فِيهَا قُرْآنٌ فِعْلًا، وَهُوَ مَا بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [97 \ 2 - 3] ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. وَعَلَيْهِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ السُّورَةِ فِي شَأْنِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِ ظَرْفِ إِنْزَالِهِ، وَآخِرُ السُّورَةِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيَانِ مَنْزِلَتِهَا. وَقَدْ ذُكِرَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مُبْهَمَةً، وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا بَيْنَ الشَّهْرِ الَّتِي هِيَ فِيهِ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [2 \ 185] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ بَيَانُ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي فِيهَا يُبْرَمُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وَلَيْسَتْ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، بَيَانُ الْحِكْمَةِ مِنْ إِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. الْقَدْرُ: الرِّفْعَةُ، وَالْقَدْرُ: بِمَعْنَى الْمِقْدَارِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 قَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ وَوَجْهِ تَسْمِيَتِهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى الْقَدْرِ الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ ذُو قَدْرٍ، أَيْ: رِفْعَةٍ وَشَرَفٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَدِّرُ فِيهَا وَقَائِعَ السَّنَةِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا التَّفْسِيرِ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [44 \ 3 - 5] . وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْأَضْوَاءِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ فِي السُّورَةِ مَا يَدُلُّ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَدْرُ وَالرِّفْعَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. فَالتَّسَاؤُلُ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [101 \ 1 - 3] ، وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فِيهِ النَّصُّ صَرَاحَةً عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهَا وَرِفْعَتِهَا، إِذْ أَنَّهَا تَعْدِلُ فِي الزَّمَنِ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، أَيْ فَوْقَ مُتَوَسِّطِ أَعْمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَيْضًا كَوْنُهَا اخْتَصَّتْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَبِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ فِيهَا، وَبِكَوْنِهَا سَلَامًا هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، لَفِيهِ الْكِفَايَةُ بِمَا لَمْ تَخْتَصَّ وَتُشَارِكْهَا فِيهِ لَيْلَةٌ مِنْ لَيَالِي السَّنَةِ. وَعَلَيْهِ: فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، لِكَوْنِهَا مَحَلًّا لِتَقْدِيرِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَنَّهَا بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ عَلَا قَدْرُهَا وَعَظُمَ شَأْنُهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ كُبْرَى: إِذَا كَانَتْ أَعْمَالُ الْعَبْدِ تَتَضَاعَفُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، حَتَّى تَكُونَ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، كَمَا فِي هَذَا النَّصِّ الْكَرِيمِ. فَإِذَا صَادَفَهَا الْعَبْدُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ يُصَلِّي، وَصَلَاةٌ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، فَكَمْ تَكُونُ النِّعْمَةُ وَعِظَمُ الْمِنَّةِ، مِنَ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ سُبْحَانَهُ، إِنَّهُ لَمِمَّا يُعْلِي الْهِمَّةَ وَيُعَظِّمُ الرَّغْبَةَ. وَقَدِ اقْتَصَرْتُ عَلَى ذِكْرِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دُونَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَعَ زِيَادَةِ الْمُضَاعَفَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 فِيهِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِمُضَاعَفَةِ السَّيِّئَةِ فِيهِ. كَذَلِكَ أَيْ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ يُحَاسَبُ فِيهِ الْعَبْدُ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ، فَيَكُونُ الْخَطَرُ أَعْظَمَ، وَفِي الْمَدِينَةِ أَسْلَمَ. وَلَعَلَّ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ لَيَالِيَ الْقَدْرِ كُلَّهَا، كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ كَافَّةً، وَادَّعَتِ الشِّيعَةُ نَسْخَهَا وَرَفْعَهَا كُلِّيَّةً، وَهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ شِبْهِ الْمُتَوَاتِرَةِ. تَنْبِيهٌ لَمْ يَأْتِ تَحْدِيدٌ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ أَيِّ رَمَضَانَ تَكُونُ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِيرَادِ النُّصُوصِ. فَالْأَقْوَالُ مِنْهَا عَلَى أَعَمِّ مَا يَكُونُ، مِنْ أَنَّهَا مِنْ عُمُومِ السَّنَةِ، وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِجَدِيدٍ، وَهُوَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاجْتِهَادَ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا فِي عُمُومِ رَمَضَانَ، وَهَذَا حَسَبُ عُمُومِ نَصِّ الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا فِي آحَادِ الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. فَقِيلَ: فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ نُصُوصٌ. وَلَكِنَّ أَشْهَرَهَا وَأَكْثَرَهَا وَأَصَحَّهَا، مَا جَاءَ أَنَّهَا فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَإِحْدَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 وَعِشْرِينَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى سَرْدِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إِلَّا ذَكَرَهَا، وَلَا سِيَّمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ. تَنْبِيهٌ إِذَا كَانَتْ كُلُّ النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ صَحِيحَةً، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ دَائِرَةً بَيْنَهَا، وَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فِي لَيْلَةٍ مِنْهَا وَلَا تَخْرُجُ عَنْهَا، فَقَدْ تَكُونُ فِي سَنَةٍ هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، بَيْنَمَا فِي سَنَةٍ أُخْرَى لَيْلَةُ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي أُخْرَى لَيْلَةُ ثَلَاثٍ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْسِيَهَا، لِتَجْتَهِدَ الْأُمَّةُ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ أَوْ فِي الْعَشْرِ كُلِّهَا، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ اعْتِكَافُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْتِمَاسًا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِهَا مَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ كُتُبُ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ، وَيَكْفِي فِيهَا نَصُّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مَبَاحِثُ عَدِيدَةٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا، مِنْهَا مَا يَذْكُرُ مِنْ أَمَارَاتِهَا. وَمِنْهَا: مُحَاوَلَةُ الْبَعْضِ اسْتِخْرَاجَهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا: عَلَاقَتُهَا بِحُكْمِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، لِذَا لَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَمَارَاتِ نَهَارِهَا صَبِيحَتَهَا، حَيْثُ جَاءَ التَّنْوِيهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ: «وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ» . فَذَكَرُوا مِنْ عَلَامَاتِ يَوْمِهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ، وَقَالُوا: لِأَنَّ أَنْوَارَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ صُعُودِهَا، تَتَلَاقَى مَعَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فَتُحْدِثُ فِيهَا بَيَاضَ الضَّوْءِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيٍّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَمِنْهَا: اعْتِدَالُ هَوَائِهَا وَجَوِّهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِلَةٌ بِالسُّورَةِ ذَاتِهَا، مَا حَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ، أَرَادَ اسْتِخْرَاجَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي نَفْسِ السُّورَةِ، فَقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ «هِيَ» فِي قَوْلِهِ: سَلَامٌ هِيَ [97 \ 5] ، تَقَعُ السَّابِعَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 وَالْعِشْرِينَ مِنْ عَدِّ كَلِمَاتِهَا، فَتَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ حُرُوفَ كَلِمَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا، فَتَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَلَعَلَّ أَصْوَبَ مَا يُقَالُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا تَتَّصِلُ فِي لَيَالِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَلَا تَخْرُجُ عَنْهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا. قِيلَ: الرُّوحُ هُوَ جِبْرِيلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [21 \ 91] ، وَيَكُونُ فِيهَا أَيْ فِي جَمَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الرُّوحَ نَوْعٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسْتَقِلٌّ، وَيَكُونُ فِيهَا ظَرْفٌ لِلنُّزُولِ أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. الْأَمْرُ يَكُونُ وَاحِدُ الْأُمُورِ وَوَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ شَامِلٌ لَهُمَا مَعًا ; لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ الْأُمُورِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ الْأَوَامِرِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 \ 82] . وَيَشْهَدُ لَهُ مَا جَاءَ فِي شَأْنِهَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [44 \ 4 - 5] . وَالَّذِي يُفْرَقُ مِنَ الْأَمْرِ، هُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ. حَيْثُ يُفْصَلُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السِّيَاقُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [44 \ 8] ، فَكُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَقْتَضِي أَمْرًا مِنَ الْأَوَامِرِ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي مَعْنَيَيْهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. قِيلَ: سَلَامٌ هِيَ أَيْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ لَقِيَتْهُ. وَقِيلَ: سَلَامٌ هِيَ أَيْ كُلُّ أَمْرٍ فِيهَا فَهُوَ سَلَامٌ، وَلَا يُصَابُ أَحَدٌ فِيهَا بِسُوءٍ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَالْأَوَّلُ جُزْءٌ مِنَ الثَّانِي ; لِأَنَّ الثَّانِيَ يَجْعَلُهَا ظَرْفًا لِكُلِّ خَيْرٍ، وَيَنْفِي عَنْهَا كُلَّ شَرٍّ، وَمِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، سَلَامُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. لَطِيفَةٌ كَوْنُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ هُنَا فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، مُشْعِرٌ بِفَضْلِ اخْتِصَاصِ اللَّيْلِ. وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إِلَى نَظَائِرِهِ، فَمِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [17 \ 1] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [17 \ 79] ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [50 \ 40] ، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [73 \ 6] . وَقَوْلُهُ: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [51 \ 17] . وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرِ يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» الْحَدِيثَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ أَخَصُّ بِالنَّفَحَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبِتَجَلِّيَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ، وَذَلِكَ لِخُلُوِّ الْقَلْبِ وَانْقِطَاعِ الشَّوَاغِلِ وَسُكُونِ اللَّيْلِ، وَرَهْبَتُهُ أَقْوَى عَلَى اسْتِحْضَارِ الْقَلْبِ وَصَفَائِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْبَيِّنَة قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْقِيَامَةِ، وَسُورَةَ الْبَلَدِ، وَسُورَةَ الْمُنْفَكِّينَ، وَسُورَةَ الْبَرِيَّةِ، وَسُورَةَ لَمْ يَكُنْ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُم ُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. ذَكَرَ هُنَا الَّذِينَ كَفَرُوا، ثُمَّ جَاءَتْ مِنْ، وَجَاءَ بَعْدَهَا أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ يَشْمَلُ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، كَمَا يُشْعِرُ مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِوُجُودِ الْعَطْفِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا الْمَبْحَثُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْكُفْرَ يَجْمَعُ الْقِسْمَيْنِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ هَلِ الشِّرْكُ يَجْمَعُهُمَا أَيْضًا أَمْ لَا؟ فَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، عُمُومٌ فِي الْكُفْرِ وَخُصُوصٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَخُصُوصٌ فِي الْمُشْرِكِينَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَلَكِنْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الشِّرْكِ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [9 \ 30 - 31] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 فَجَعَلَ مَقَالَةَ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِشْرَاكًا. وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَنْعُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَقَالَ: " وَهَلْ أَكْبَرُ إِشْرَاكًا مِنْ قَوْلِهَا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [2 \ 116] ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ فِي مَنْعِ الزَّوَاجِ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ، إِلَّا أَنَّهُ اعْتَبَرَهُنَّ مُشْرِكَاتٍ. وَلِهَذَا الْخِلَافِ وَالِاحْتِمَالِ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مُسَمَّى الشِّرْكِ، هَلْ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّنَا وَجَدْنَا فَرْقًا فِي الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَحَلَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحِلَّهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَحَلَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ وَلَمْ يُحِلَّهُ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [2 \ 221] . وَقَوْلُهُ: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [60 \ 10] . وَقَالَ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [60 \ 10] ، بَيَّنَ مَا فِي حَقِّ الْكِتَابِيَّاتِ قَالَ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [5 \ 5] ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ جَمَعَ وَالِدُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيْنَ تِلْكَ النُّصُوصِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا جَمْعًا مُفَصَّلًا مَفَادُهُ أَنَّ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ أَنْوَاعٌ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُتَّصِفُونَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ. وَلَعَلَّ فِي نَفْسِ آيَةِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ يُشَابِهُونَهُمْ فِي مَقَالَتِهِمْ، وَهَذَا الْقَدْرُ اتَّصَفَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ. الثَّانِي: تَذْيِيلُ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عَمَّا يُشْرِكُونَ بَيْنَمَا وَصَفَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ بِالِاسْمِ " وَالْمُشْرِكِينَ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وَمَعْلُومٌ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَصِيغَةَ الِاسْمِ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ، فَمُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ دَائِمُونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقَعُ مِنْهُمْ حِينًا وَحِينًا. وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَوَرَّثَ الْجَمِيعَ مِنْ بَعْضٍ، وَمَنَعَ الْآخَرُونَ عَلَى أَسَاسِ الْمُغَايَرَةِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ بَقِيَ الْمَجُوسُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، اخْتُلِفَ فِي «مُنْفَكِّينَ» اخْتِلَافًا كَثِيرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، حَتَّى قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عِنْدَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ الْبَسِيطِ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا. وَأَنَا أَقُولُ وَجْهَ الْإِشْكَالِ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مُنْفَكُّونَ عَنْ مَاذَا، لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ، إِذِ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ. فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ تَنَاقُضٌ فِي الظَّاهِرِ، هَذَا مُنْتَهَى الْإِشْكَالِ فِيمَا أَظُنُّ. اهـ. حَرْفِيًا. وَقَدْ سُقْتُ كَلَامَهُ لِبَيَانِ مَدَى الْإِشْكَالِ فِي الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى تَارِكِينَ: وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ. وَالَّذِي جَاءَ عَنِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ: أَنَّ مُنْفَكِّينَ أَيْ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 مُرْتَدِعِينَ عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، أَيْ: أَتَتْهُمْ. وَلَكِنْ فِي مُنْفَكِّينَ، وَجْهٌ يَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى مَتْرُوكِينَ لَا بِمَعْنَى تَارِكِينَ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا جَمِيعًا مَتْرُوكِينَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [75 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [29 \ 1 - 2] ، أَيْ: لَنْ يُتْرَكُوا وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [11 \ 53] . وَقَدْ حَكَى أَبُو حَيَّانَ قَوْلًا عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ قَوْلُهُ: وَيَتَّجِهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ، حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا، تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيُتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانُوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُزِيلُ الْإِشْكَالَ الْكَبِيرَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، كَمَا أَسْلَفْنَا. وَلِابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ نَسُوقُهُ لِشُمُولِهِ، وَهُوَ ضِمْنُ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجْمُوعِ مُجَلَّدِ 61 ص 594 قَالَ: وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. هَلِ الْمُرَادُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنِ الْكُفْرِ؟ أَوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى بُعِثَ، فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَالتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتَّى بُعِثَ. أَوِ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتَّى يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ. وَنَاقَشَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ وَرَدَّهَا كُلَّهَا ثُمَّ قَالَ: فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ مَفْكُوكِينَ، بَلْ قَالَ: مُنْفَكِّينَ، وَهَذَا أَحْسَنُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ، فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، لَا يُؤْمَرُ، وَلَا يُنْهَى، أَيْ: أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [43 \ 3 - 5] . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إِنْزَالَ الذِّكْرِ، وَنُعْرِضُ عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. تَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي «مُنْفَكِّينَ» مَعْنَى «مَتْرُوكِينَ» وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَيَسْتَقِيمُ السِّيَاقُ، وَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً. أَجْمَلَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ فَصَّلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا. وَفِي هَذَا قِيلَ: إِنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ نَفْسُ الرَّسُولِ فِي شَخْصِهِ، لِمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ مَجِيئِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [61 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [2 \ 146] . فَكَأَنَّ وُجُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ. وَلِذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا يَوْمَ مَوْلِدِهِ بِظُهُورِ نَجْمِ نَبِيِّ الْخِتَانِ إِلَى آخَرِ أَخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِمَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ كَمَا قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ لَهُ وَفَزَعِهِ مِنْهُ: «كَلَّا وَاللَّهِ لَنْ يُخْزِيَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ» إِلَى آخِرِهِ. وَقَوْلِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: «وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ لَعِبَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَلَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ كِذْبَةً» إِلَخْ. وَقَدْ لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 وَحَادِثَةُ شَقِّ الصَّدْرِ فِي رِضَاعِهِ، بَلْ وَقِيلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، لَمَّا تَعَرَّضَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرِيدُهُ لِنَفْسِهَا، فَأَبَى. وَلَمَّا تَزَوَّجَ وَدَخَلَ بِآمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: لَا حَاجَةَ لِي بِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ كُنْتِ تَتَعَرَّضِينَ لِي؟ فَقَالَتْ: رَأَيْتُ نُورًا فِي وَجْهِكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي، فَلَمَّا تَزَوَّجْتَ وَضَعْتَهُ فِي آمِنَةَ وَلَمْ أَرَهُ فِيكَ الْآنَ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيكَ. فَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي شَخْصِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالرِّسَالَةِ، فَكَانَ رَسُولًا يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالزَّيْغِ وَمَا لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ. وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [33 \ 49] فَعَلَيْهِ يَكُونُ «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ» بَدَلٌ مِنَ «الْبَيِّنَةِ» مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، أَوْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ. فَالتَّشْرِيعُ الَّذِي فِيهَا وَالْإِخْبَارُ الَّذِي أَعْلَنَهُ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ. وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تَصْدُقُ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا تَصْدُقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَلَا رَسُولَ إِلَّا بِرِسَالَةٍ تُتْلَى، وَلَا رِسَالَةَ تُتْلَى إِلَّا بِرَسُولٍ يَتْلُوهَا. وَقَدْ عُرِّفَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُجُودِ عِلْمٍ عَنْهَا مُسْبَقٍ عَلَيْهَا. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الْمَوْصُوفَةُ لَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا مَا قَدَّمْنَا فِي أَخْبَارِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ، وَآخَرِ سُورَةِ الْفَتْحِ: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ الْآيَةَ [48 \ 29] . قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهَا كُتُبٌ. جَمْعُ كِتَابٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ: كُتُبٌ: بِمَعْنَى مَكْتُوبَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قَيِّمَةٌ. يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ. وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الْكُتُبَ بِمَعْنَى الْأَحْكَامِ، مُسْتَدِلًّا بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [2 \ 183] وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [58 \ 21] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْقَيِّمَةُ: هِيَ الْقُرْآنُ، فَجَعَلَهُ كُتُبًا ; لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَبْوَابٍ مِنَ الْبَيَانِ. وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِي كُتُبٍ أَيِ: الْآيَاتُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: الْمُرَادُ: الْآيَاتُ وَالْأَحْكَامُ الْمَكْتُوبَةُ فِيهَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَدَلُّ عَلَى تَضَمُّنِ مَعْنَى كُتُبٍ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى كِتَابَةِ أَحْكَامٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَدْلُولَ «كُتُبٌ» عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُوَ تَضَمُّنُ تِلْكَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ لِكُتُبٍ سَابِقَةٍ قَيِّمَةٍ، كَمَا يَنُصُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [87 \ 16 - 17] ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [87 \ 19] ، وَكَقَوْلِهِ فِي عُمُومِ الْكُتُبِ الْأُولَى: قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [46 \ 30] ، وَقَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ [3 \ 3 - 4] . وَلِذَا قَالَ: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [6 \ 114] ، أَيْ: بِمَا فِيهِ مِنْ كُتُبِهِمُ الْقَيِّمَةِ الْمُتَقَدِّمِ إِنْزَالُهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [24 \ 34] . وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [27 \ 76] . وَقَالَ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [6 \ 92] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَ الْقُرْآنِ مُتَضَمِّنَةٌ كُتُبًا قَيِّمَةً مِمَّا أُنْزِلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ جَاءَ عَمَلِيًّا فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ، وَقَوْلُهُ: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَيْ: فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، فَهَذِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، كَمَا قَالَ: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [2 \ 179] . وَلَعَلَّ هَذَا بَيَّنَ وَجْهَ الْمَعْنَى فِيمَا رَوَاهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ الْبَيِّنَةِ، فَقَالَ: أَوَذُكِرْتُ ثَمَّ؟» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 وَبَكَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةٍ لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ بِأَنَّهُ آمَنَ بِكِتَابٍ تَضَمَّنَ الْكُتُبَ الْقَيِّمَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَالَّتِي يَعْرِفُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَنَّ الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ لَمَّا غَطَّاهَا الْآتِي بِهَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْقِصَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. يُلَاحَظُ أَنَّ السُّورَةَ فِي أَوَّلِهَا عَنِ الْكُفَّارِ عُمُومًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مَعًا، وَهُنَا الْحَدِيثُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ، وَذَلِكَ مِمَّا يَخُصُّهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كُتَّابٍ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا سَيَأْتِي بِهِ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [2 \ 89] . وَكَقَوْلِهِ صَرَاحَةً: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [42 \ 14] ، فَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ بَعْدَ مَجِيئِهِ، وَخَصَّهُمْ هُنَا بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. تَنْبِيهٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى «كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» ، أَمْرَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: اخْتِصَاصُ أَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا بِعَدَمِ عُمُومِ الْحَدِيثِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ نُصُوصٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ذَكَرَ الرَّسُولَ يَتْلُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [62 \ 2] ، فَهَذَا نَفْسُ الْأُسْلُوبِ، وَلَكِنْ قَالَ: «آيَاتِهِ» ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْكُتُبِ الْأُخْرَى، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ. وَهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ التَّفَرُّقَ فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنَّ هُنَا لَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، هَلْ هُوَ فِي كُتُبِهِمُ السَّابِقَةِ، أَمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ؟ وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 فَمِمَّا فِي كُتُبِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ [16 \ 36] . وَقَوْلُهُ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [42 \ 13] . فَإِقَامَةُ الدِّينِ وَعَدَمُ التَّفْرِقَةِ فِيهِ، هُوَ عَيْنُ عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَمِمَّا فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [2 \ 40 - 43] . فَقَدْ نَصَّ عَلَى كَامِلِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا، أَنَّ الْكُتُبَ الْقَيِّمَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ هِيَ كُتُبُ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، وَأَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي هَذَا الْقُرْآنِ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ التَّعْلِيمَاتِ الْمَذْكُورَةِ نَفْسِهَا، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِبَادَةَ اللَّهِ بِإِخْلَاصٍ. وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي كُتُبِهِمْ أَوْ فِي الْقُرْآنِ لَا تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ، بَلْ تَسْتَوْجِبُ الِاجْتِمَاعَ وَالْوَحْدَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. الْقَيِّمَةُ: فَيْعِلَةٌ مِنَ الْقَوَامَةِ، وَهِيَ غَايَةُ الِاسْتِقَامَةِ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [98 \ 3] ، أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ بِتَعَالِيمِهَا. وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَقْوَمُهَا وَأَعْدَلُهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] ، وَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا [18 \ 1 - 2] ، فَنَفَى عَنْهُ الْعِوَجَ، وَأَثْبَتَ لَهُ الِاسْتِقَامَةَ. وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْقَوَامَةِ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَبْلُ، مِنْ أَنَّ الْمُسْتَقِيمَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ انْحِنَاءٌ كَالطَّرِيقِ الْمُعَبَّدِ الْمُسْتَقِيمِ عَنِ الْمُرْتَفَعَاتِ وَالْمُنْخَفَضَاتِ، لَكِنَّهُ يَنْحَرِفُ تَارَةً يَمِينًا وَشِمَالًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 مَعَ اسْتِقَامَتِهِ، فَهُوَ مَعَ الِاسْتِقَامَةِ لَمْ يَخْلُ مِنَ الْعِوَجِ. وَلَكِنْ مَا يَنْتَفِي عَنْهُ الْعِوَجُ وَتَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِقَامَةُ، هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يَمْتَدُّ فِي اتِّجَاهٍ وَاحِدٍ بِدُونِ أَيِّ اعْوِجَاجٍ إِلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ، مَعَ اسْتِقَامَتِهِ فِي سَطْحِهِ. وَهَكَذَا هُوَ الْقُرْآنُ، فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [98 \ 5] الْمِلَّةُ الْقَيِّمَةُ، قَيِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا، وَقَيِّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا: وَمُهَيْمِنَةٌ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [12 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [6 \ 161 - 163] . تَنْبِيهٌ إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدًّا صَرِيحًا عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِدُونِ عِلْمٍ إِلَى دَعْوَةٍ لَا تَخْلُو مِنْ تَشْكِيكٍ، حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ لَبْسٍ، وَهِيَ دَعْوَةُ وَحْدَةِ الْأَدْيَانِ، وَمَحَلُّ اللَّبْسِ فِيهَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ حَقٌّ، وَمِنْهُ بَاطِلٌ. أَمَّا الْحَقُّ فَهُوَ وَحْدَةُ الْأُصُولِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [98 \ 5] ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ الْإِبْهَامُ، بِأَنَّ هَذَا يَنْجَرُّ عَلَى الْفُرُوعِ مَعَ الْجَزْمِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، بِأَنَّ فُرُوعَ كُلِّ دِينٍ قَدْ لَا تَتَّفِقُ كُلُّهَا مَعَ فُرُوعِ الدِّينِ الْآخَرِ، فَلَمْ تَتَّحِدِ الصَّلَاةُ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَلَا الصِّيَامُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَفْصِيلٍ لِلْفُرُوعِ، وَالسُّنَّةُ تُكْمِلُ تَفْصِيلَ مَا أَجْمَلَ. وَهُنَا النَّصُّ الصَّرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَهِيَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَادِلَ وَيُسَاوِيَ مَعَ غَيْرِهِ أَبَدًا مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، بِأَنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لَئِنْ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَلَيَتَّبِعُنَّهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَ الرُّسُلُ أُمَمَهُمْ بِذَلِكَ. فَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا غَيْرِهِ لِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ بِعُنْوَانٍ مُجَوَّفٍ وَحْدَةِ الْأَدْيَانِ، بَلِ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ وَحْدَهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [3 \ 19] ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [3 \ 85] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. قُرِئَتِ الْبَرِيَّةُ بِالْهَمْزَةِ وَبِالْيَاءِ، فَقَرَأَ بِالْهَمْزِ: نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، فَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ أُخِذَتِ الْبَرِيَّةُ مِنَ الْبَرَاءَةِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالرَّاءِ: أَيِ التُّرَابِ. فَأَصْلُهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ بِقَوْلِهِ مِنْهُ: بَرَاهُ اللَّهُ يَبْرُوهُ بَرْوًا، أَيْ: خَلَقَهُ، وَقِيلَ: الْبَرِيَّةُ مَنْ بَرَيْتُ الْقَلَمَ أَيْ قَدَرْتُهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسْأَلَتَيْنِ: الْأُولَى مِنْهُمَا: أَنَّ أُولَئِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا، وَمَبْحَثُ خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ وَافِيًا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةُ أَصْلُهَا الْبَرِيئَةُ، قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً تَسْهِيلًا، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْبَاءِ، وَالْبَرِيئَةُ الْخَلِيقَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَارِئُ النَّسَمِ، هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ سُبْحَانَهُ. وَمِنَ الْبَرِيَّةِ الدَّوَابُّ وَالطُّيُورُ، وَهُنَا النَّصُّ عَلَى عُمُومِهِ، فَأَفْهَمَ أَنَّ أُولَئِكَ شَرٌّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالدَّوَابِّ. وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ صَرِيحًا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [8 \ 22] ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْكُفَّارُ فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [47 \ 23] ، وَقَالَ عَنْهُمْ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [43 \ 40] ، فَهُمْ لِصَمَمِهِمْ وَعَمَاهُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّوَابَّ لَيْسَتْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ; لِأَنَّهَا تَعْلَمُ وَتُؤْمِنُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي هُدْهُدِ سُلَيْمَانَ، أَنْكَرَ عَلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا سُجُودَهُمْ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَنَصُّ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ: «أَنَّهُ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا تُصِيخُ بِأُذُنِهَا مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ خَشْيَةَ السَّاعَةِ» ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ عِنْدَ الْكَافِرِ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ لَمَّا يَجْمَعُ اللَّهُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ وَيَقْتَصُّ لِلْعَجْمَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، فَيَقُولُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ لَوْ كَانَ مِثْلَهَا فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ، كَمَا قَالَ: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [78 \ 40] . وَذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الدَّوَابَّ لَمْ تَعْمَلْ خَيْرًا فَتَبْقَى لِتُجَازَى عَلَيْهِ، وَلَمْ تَعْمَلْ شَرًّا لِتُعَاقَبَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لَا لَهَا وَلَا عَلَيْهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَعْضِهَا، فَلَمَّا اقْتُصَّ لَهَا مِنْ بَعْضِهَا انْتَهَى أَمْرُهَا، فَكَانَتْ نِهَايَتُهَا عَوْدَتَهَا إِلَى مَنْبَتِهَا وَهُوَ التُّرَابُ. بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ حِسَابَ التَّكَالِيفِ وَعِقَابَ الْمُخَالَفَةِ فَيُعَاقَبُ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، فَكَانَ شَرَّ الْبَرِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. الْحُكْمُ هُنَا بِالْعُمُومِ، كَالْحُكْمِ هُنَاكَ، وَلَكِنَّهُ هُنَا بِالْخَيْرِيَّةِ وَالتَّفْضِيلِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ الْأَجْنَاسِ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [17 \ 70] . وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَلَعَلَّ مِمَّا يُقَوِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ، هُوَ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ أَفْضَلُ مِنْ عُمُومِ أَفْرَادِ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فُضِّلَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْجِنْسِ لَا يُمْنَعُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَلَكِنْ هَلْ بَعْضُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمُومِ أَوْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ؟ هَذَا هُوَ مَحَلَّ الْخِلَافِ. وَلِلْقُرْطُبِيِّ مَبْحَثٌ فِي ذَلِكَ: مَبْنَاهُ عَلَى أَصْلِ الْمَادَّةِ وَوُرُودِ النُّصُوصِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الْمَادَّةِ إِنْ كَانَتِ الْبَرِيَّةُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْبَرْيِ وَهُوَ التُّرَابُ، فَلَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ تَحْتَ هَذَا التَّفْضِيلِ وَإِلَّا فَتَدْخُلُ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [2 \ 33] ، قَالَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، الْمَلَائِكَةُ أَوْ بَنُو آدَمَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ قَوْلٌ إِلَى أَنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى أَفْضَلُ، وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. وَقَوْلِهِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66 \ 6] . وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [6 \ 50] . وَبِمَا فِي الْبُخَارِيِّ يَقُولُ اللَّهُ: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى خَيْرٌ مِنْ مَلَأِ الْأَرْضِ. وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [98 \ 7] ، بِالْهَمْزِ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَبِأَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ الْمَلَائِكَةَ، وَلَا يُبَاهِي إِلَّا بِالْأَفْضَلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ خَبَرُ اللَّهِ، وَخَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالشِّيعَةِ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ رَدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ. وَقَدْ سُقْنَا هَذَا الْبَحْثَ لِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبَرِيَّةِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ جِنْسَ الْبَشَرِ خِلَافُ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ فِيهِمُ النَّصُّ بِأَنَّهُمْ: عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [21 \ 26] ، وَالْبَشَرُ فِيهِمُ النَّصُّ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [17 \ 70] ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ فِي الدَّلَالَةِ. فَفِي الْمَلَائِكَةِ بِالِاسْمِ: مُكْرَمُونَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ، وَفِي بَنِي آدَمَ كَرَّمْنَا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ. وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، فَالتَّكْرِيمُ ثَابِتٌ وَلَازِمٌ وَدَائِمٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِخِلَافِهِ فِي بَنِي آدَمَ إِذْ فِيهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 وَفِيهِمْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ صُدُورِهَا مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذِ الْمَلَائِكَةُ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ جِبِلَّةً أَوْ بِدُونِ نَوَازِعِ شَرٍّ، بِخِلَافِ بَنِي آدَمَ، وَإِنَّ أَعْمَالَ الْخَيْرِ تَصْدُرُ عَنْهَا بِمَجْهُودٍ مُزْدَوَجٍ، حَيْثُ رُكِّبَتْ فِيهِمُ النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ وَالْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْجَانِبِ الْحَيَوَانِيِّ. وَازْدِوَاجِيَّةُ الْمَجْهُودِ، هُوَ أَنَّهُ يُنَازِعُ عَوَامِلَ الشَّرِّ حَتَّى يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَيَبْذُلَ الْجُهْدَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، فَهُوَ يُجَاهِدُ لِلتَّخْلِيصِ مِنْ نَوَازِعِ الشَّرِّ، ثُمَّ هُوَ يُجَاهِدُ لِلْقِيَامِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ، وَهَذَا مَجْهُودٌ يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ عَلَى الْمَجْهُودِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، لَمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الْعَامِلَ مِنْهُمْ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ، فَقَالُوا: خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «بَلْ خَمْسِينَ مِنْكُمْ، لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ أَعْوَانًا عَلَى الْخَيْرِ وَهُمْ لَا يَجِدُونَ» . وَحَدِيثُ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الدِّرْهَمَ سَبَقَ الْأَضْعَافَ الْمُضَاعَفَةَ ; لِأَنَّهُ ثَانِي اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَالْمِائَةَ أَلْفٍ جُزْءٌ مِنْ مَجْمُوعٍ كَثِيرٍ. فَالنَّفْسُ الَّتِي تَجُودُ بِنِصْفِ مَا تَمْلِكُ، وَلَا يَتَبَقَّى لَهَا إِلَّا دِرْهَمٌ، خَيْرٌ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ تُنْفِقُ جُزْءًا ضَئِيلًا مِمَّا تَمْلِكُ وَيَتَبَقَّى لَهَا الْمَالُ الْكَثِيرُ، فَكَانَتْ عَوَامِلُ التَّصَدُّقِ وَدَوَافِعُهُ مُخْتَلِفَةً مُنَزَّلَةً فِي النَّفْسِ مُتَضَادَّةً ; فَالدِّرْهَمُ فِي ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ الْأُخْرَى، لَمْ تَتَفَاوَتِ الْمَاهِيَّةُ وَلَا الْجِنْسُ، وَلَكِنْ تَفَاوَتَتِ الدَّوَافِعُ وَالْعَوَامِلُ لِإِنْفَاقِهِ، وَلَعَلَّ الْمُفَاضَلَةَ الْمَقْصُودَةَ تَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَوْلَى. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ ; ثَلَاثَةٌ مُجْمَلَةٌ جَاءَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآنِ. وَالرَّابِعَةُ مُفَصَّلَةٌ وَلَهَا شَوَاهِدُ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُجْمَلَةُ فَأَوَّلُهَا قَوْلُهُ: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، إِذِ الْجَزَاءُ فِي مُقَابِلِ شَيْءٍ يَسْتَوْجِبُهُ، وَعِنْدَ رَبِّهِمْ تُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، وَإِلَّا لَقَالَ: جَزَاؤُهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [78 \ 31 - 36] ، فَنَصَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ كُلَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ عَطَاءٌ لَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، فَأَجْمَلَ مَا فِي الْجَنَّاتِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، مَعَ إِجْمَالِ تِلْكَ الْأَنْهَارِ، وَقَدْ فَصَّلَتْ آيَةُ: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [78 \ 1] مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ حَدَائِقَ وَأَعْنَابٍ وَكَوَاعِبَ وَشَرَابٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، وَعَدَمِ سَمَاعِ اللَّغْوِ إِلَى آخِرِهِ. كَمَا جَاءَ تَفْصِيلُ الْأَنْهَارِ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [47 \ 15] ، وَالْخُلُودُ فِي هَذَا النَّعِيمِ هُوَ تَمَامُ النَّعِيمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. يُعْتَبَرُ هَذَا الْإِخْبَارُ مِنْ حَيْثُ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِي الْجَنَّةِ، مِنْ بَابِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى إِلَى قَوْلِهِ وَلَسَوْفَ يَرْضَى [92 \ 17 - 21] ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الصِّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَاءَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا سُورَةِ وَالضُّحَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 5] ، أَيْ: لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُنَا فِي عُمُومٍ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَاتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مَا يُبَيِّنُ سَبَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَهُوَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [48 \ 1] فَكَانَتِ الْمُبَايَعَةُ سَبَبًا لِلرِّضْوَانِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ زَمَنَ هَذَا الرِّضْوَانِ أَهْوَ سَابِقٌ فِي الدُّنْيَا أَمْ حَاصِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّهُ سَابِقٌ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9 \ 100] ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهَا: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 فَهُوَ فِي قُوَّةِ الْوَعْدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِالرِّضَى مُسْبَقًا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ آيَةُ سُورَةِ الْفَتْحِ فِي الْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إِذْ فِيهَا: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [48 \ 18] ، وَهُوَ إِخْبَارٌ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَقَدْ سُمِّيَتْ «بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ» . تَنْبِيهٌ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الْكَرِيمِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ حَقًّا فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ غَايَةُ أَمَانِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. أَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ رِضَى الْعَبْدِ عَنِ اللَّهِ، فَهَلْ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ يُسْأَلَ عَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ رَاضِيًا عَنِ اللَّهِ أَمْ لَا؟ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ ذَلِكَ قَطْعًا، فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَلِكَ بِلَازِمِ الْفَائِدَةِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ السَّعَادَةِ وَالرِّضَى فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي رَضُوا وَتَجَاوَزَ رِضَاهُمْ حَدَّ النَّعِيمِ إِلَى الرِّضَى عَنِ الْمُنْعِمِ. كَمَا يُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ آخِرَ آيَةِ النَّبَأِ: عَطَاءً حِسَابًا [78 \ 36] ، قَالُوا: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَقُولُوا: حَسْبُنَا حَسْبُنَا، أَيْ: كَافِينَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ. اسْمُ الْإِشَارَةِ مُنْصَبٌّ عَلَى مَجْمُوعِ الْجَزَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَهُنَا يَقُولُ: إِنَّهُ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ تَصْدُرُ مِنْهُمْ عَنْ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ. رَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَرَهْبَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [55 \ 46] ، وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. [79 \ 40 - 41] وَالْوَاقِعُ أَنَّ صِفَةَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ أَجْمَعُ صِفَاتِ الْخَيْرِ فِي الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [16 \ 50] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 وَقَدْ عَمَّ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [67 \ 12] . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ السِّرُّ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ كَوْنُ الْخَشْيَةِ فِي الْغَيْبَةِ عَنِ النَّاسِ، وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ، وَالْخَشْيَةُ أَشَدُّ الْخَوْفِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الزَّلْزَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ الزَّلْزَلَةُ: الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ بِسُرْعَةٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ فِقْهُ اللُّغَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: تَكْرَارُ الْحُرُوفِ، أَوْ مَا يُقَالُ تَكْرَارُ الْمَقْطَعِ الْوَاحِدِ، مِثْلُ صَلْصَلَ وَقَلْقَلَ وَزَقْزَقَ، فَهَذَا التَّكْرَارُ يَدُلُّ عَلَى الْحَرَكَةِ. وَالثَّانِي: وَزْنُ فَعَّلَ بِالتَّضْعِيفِ كَغَلَّقَ وَكَسَّرَ وَفَتَّحَ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ تَكْرَارُ الْمَقْطَعِ وَتَضْعِيفُ الْوَزْنِ. وَلِذَا، فَإِنَّ الزِّلْزَالَ أَشَدُّ مَا شَهِدَ الْعَالَمُ مِنْ حَرَكَةٍ، وَقَدْ شُوهِدَتْ حَرَكَاتُ زِلْزَالٍ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ الثَّانِيَةِ، فَدَمَّرَ مُدُنًا وَحَطَّمَ قُصُورًا. وَلِذَا فَقَدَ جَاءَ وَصْفُ هَذَا الزِّلْزَالِ بِكَوْنِهِ شَيْئًا عَظِيمًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [22 \ 1] ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الشِّدَّةِ تَكْرَارُ الْكَلِمَةِ فِي «زُلْزِلَتْ» وَفِي «زِلْزَالَهَا» ، كَمَا تُشْعِرُ بِهِ هَذِهِ الْإِضَافَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، إِيرَادُ النُّصُوصِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [69 \ 14] ، وَقَوْلِهِ: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [56 \ 4 - 5] ، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [79 \ 6 - 7] ، وَسَاقَ قَوْلَهُ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [99 \ 2] . وَاخْتُلِفَ فِي الْأَثْقَالِ مَا هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 فَقِيلَ: مَوْتَاهَا. وَقِيلَ: كُنُوزُهَا، وَقِيلَ: التَّحَدُّثُ بِمَا عَمِلَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ. وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّ إِخْرَاجَ كُنُوزِهَا سَيَكُونُ قَبْلَ النَّفْخَةِ، وَالتَّحَدُّثُ بِالْأَعْمَالِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِذَاتِهِ، فَلَيْسَ هُوَ الْأَثْقَالُ. وَرَجَّحُوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [77 \ 25 - 26] . وَقَالُوا: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ثِقَلَانِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَهُمَا ثِقَلٌ عَلَيْهَا، وَفِي بَطْنِهَا فَهُمْ ثِقَلٌ فِيهَا، وَلِذَا سُمِّيَا بِالثَّقَلَيْنِ. قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَوْتَاهَا. وَشَبِيهٌ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [48 \ 3 - 4] ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ إِذَا رَاعَيْنَا صِيغَةَ الْجَمْعِ أَثْقَالَهَا، وَلَمْ يَقُلْ ثِقَلَهَا، وَإِرَادَةُ الْجَمْعِ مَرْوِيَّةٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ. وَحَكَى الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ الْقَوْلَيْنِ فِي إِمْلَائِهِ: أَيْ مَوْتَاهَا، وَقِيلَ: كُنُوزُهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، لَفْظُ الْإِنْسَانِ هُنَا عَامٌّ وَظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَقُولُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقُولُ ذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ. أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [36 \ 51 - 52] . فَالْكَافِرُ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالْمُؤْمِنُ يَطْمَئِنُّ لِلْوَعْدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ، مَا جَاءَ فِي آخِرِ السِّيَاقِ قَوْلُهُ: فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ أَيْ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ. وَقَوْلُهُ: مَا لَهَا سُؤَالُ اسْتِيضَاحٍ وَذُهُولٍ مِنْ هَوْلِ مَا يُشَاهِدُ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، التَّحْدِيثُ هُنَا صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَتَغَيَّرُ أَوْضَاعُ كُلِّ شَيْءٍ وَتَظْهَرُ حَقَائِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَمَا أَنْطَقَ اللَّهُ الْجُلُودَ يُنْطِقُ الْأَرْضَ، فَتُحَدِّثُ بِأَخْبَارِهَا، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [41 \ 21] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ الْحَشْرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي الْجَمَادَاتِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالنُّطْقِ، وَالْمُرَادُ بِإِخْبَارِهَا أَنَّهَا تُخْبِرُ عَنْ أَعْمَالِ كُلِّ إِنْسَانٍ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ الْمُؤَذِّنِ «لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ حَجَرٌ وَلَا مَدَرٌ إِلَّا وَشَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ إِخْبَارَهَا هُوَ مَا أَخْرَجَتْهُ مِنْ أَثْقَالِهَا بِوَحْيِ اللَّهِ لَهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ مَعْنًى جَدِيدًا. وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَبْحَثَانِ أَحَدُهُمَا فِي مَعْنَى مَنْ لِعُمُومِهِ، وَالْآخَرُ فِي صِيغَةِ «يَعْمَلْ» . أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَطْرُوقٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: مَنْ لِلْعُمُومِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرَى مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ شَيْئًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] ، وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، قَدْ لَا يَرَى كُلَّ مَا عَمِلَ مِنْ شَرٍّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4 \ 48] . وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِتَوَسُّعٍ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِيرَادِهِ. أَمَّا الْمَبْحَثُ الثَّانِي فَلَمْ أَرَ مَنْ تَنَاوَلَهُ بِالْبَحْثِ، وَهُوَ فِي صِيغَةِ «يَعْمَلْ» ; لِأَنَّهَا صِيغَةُ مُضَارِعٍ، وَهِيَ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَقَامُ فِي هَذَا السِّيَاقِ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا، وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلْعَمَلِ، وَكَانَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يُقَالَ: فَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَلَكِنَّ الصِّيغَةَ هُنَا صِيغَةُ مُضَارِعٍ، وَالْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ عَمَلٍ، وَلَكِنْ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ «يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ» أَيْ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَهُمْ إِنَّمَا يُرَوْا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا مِنْ قَبْلُ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ هُنَا مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، حَيْثُ كَانَ السِّيَاقُ أَوَّلًا مِنْ أَوَّلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 السُّورَةِ فِي مَعْرِضِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَإِذَا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْآتِي تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا مِنْ قَبْلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [78 \ 40] ، وَقَوْلِهِ: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [18 \ 49] . ثُمَّ جَاءَ الِالْتِفَاتُ بِمُخَاطَبَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَالتَّحْذِيرِ، فَمَنْ يَعْمَلِ الْآنَ فِي الدُّنْيَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلِ الْآنَ فِي الدُّنْيَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمِثْقَالُ الذَّرَّةِ، قِيلَ: هِيَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، لِقَوْلِ الشَّاعِرِ: مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفَ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَالْإِتْبُ: قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْإِتْبُ بِالْكَسْرِ، وَالْمِئْتَبَةُ كَمِكْنَسَةٍ بُرْدٌ يُشَقُّ، فَتَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ جَيْبٍ وَلَا كُمَّيْنِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهَبَاءُ الَّتِي تُرَى فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَكِلَاهُمَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِكَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ فِي سُورَةِ الْقَارِعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَعَلَّ ذِكْرَ الذَّرَّةِ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لِمَعْرِفَتِهِمْ لِصِغَرِهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى عَمَّمَ الْعَمَلَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [78 \ 40] ، أَيًّا كَانَ هُوَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ مَثَاقِيلَ الْقَنَاطِيرِ، وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ صَرِيحًا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61] . وَهُنَا تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأُصُولِ، وَهُوَ أَنَّ النَّصَّ عَلَى مِثْقَالِ الذَّرَّةِ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، فَلَا يَمْنَعُ رُؤْيَةَ مَثَاقِيلِ الْجِبَالِ، بَلْ هِيَ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذَا عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مَا يُسَمَّى الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ، فَمِنَ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا [17 \ 23] ، وَمِنَ الْمُسَاوِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [4 \ 10] ، فَإِنَّ إِحْرَاقَ مَالِهِ وَإِغْرَاقَهُُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 مُلْحَقٌ بِأَكْلِهِ، بِنَفْيِ الْفَارِقِ وَهُوَ مُسَاوٍ لِأَكْلِهِ فِي عُمُومِ الْإِتْلَافِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا يُسَمَّى الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، أَيِ النَّصِّ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ. رَدٌّ عَلَى بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ، وَالْمُسَمَّى بِعَصْرِ الذَّرَّةِ، إِذْ قَالُوا: لَقَدِ اعْتَبَرَ الْقُرْآنُ الذَّرَّةَ أَصْغَرَ شَيْءٍ، وَأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّقْسِيمَ، كَمَا يَقُولُ الْمَنَاطِقَةُ: إِنَّهَا الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ، الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ. وَجَاءَ الْعِلْمُ الْحَدِيثُ فَفَتَّتَ الذَّرَّةَ وَجَعَلَ لَهَا أَجْزَاءً. وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْجَدِيدَةِ، عَلَى آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ هُوَ النَّصُّ الصَّرِيحُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا فِي كِتَابٍ. فَمَعْلُومٌ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَمُثْبَتٌ فِي كِتَابٍ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنَ الذَّرَّةِ، وَلَا حَدَّ لِهَذَا الْأَصْغَرِ بِأَيِّ نِسْبَةٍ كَانَتْ، فَهُوَ شَامِلٌ لِتَفْجِيرِ الذَّرَّةِ وَلِأَجْزَائِهَا مَهْمَا صَغُرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ. سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنُكَ، وَأَعْظَمَ كِتَابُكَ، وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [6 \ 38] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْعَادِيَات قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا. قَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ: الْعَادِيَاتُ: جُمَعُ عَادِيَةٍ، وَالْعَادِيَاتُ: الْمُسْرِعَاتُ فِي مَسِيرِهَا. فَمَعْنَى الْعَادِيَاتِ: أَقْسَمَ بِالْمُسْرِعَاتِ فِي سَيْرِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخَيْلُ، تَعْدُو فِي الْغَزْوِ، وَالْقَصْدُ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْعَادِيَاتِ: الْإِبِلُ تَعْدُو بِالْحَجِيجِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ضَبْحًا: أَنَّهَا تَضْبَحُ ضَبْحًا، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَالضَّبْحُ: صَوْتُ أَجْوَافِ الْخَيْلِ عِنْدَ جَرْيِهَا. وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي يَقُولُ هِيَ الْإِبِلُ، وَلَا يَخْتَصُّ الضَّبْحُ بِالْخَيْلِ. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا: أَيِ الْخَيْلُ تُورِي النَّارَ بِحَوَافِرِهَا مِنَ الْحِجَارَةِ، إِذَا سَارَتْ لَيْلًا. وَكَذَلِكَ الَّذِي قَالَ: الْعَادِيَاتُ: الْإِبِلُ. قَالَ: بِرَفْعِهَا الْحِجَارَةَ فَيَضْرِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَنْفِي يَدَاهَا الْحَصَا فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفُُِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا الْخَيْلُ تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ وَقْتَ الصُّبْحِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَالْإِبِلُ تُغِيرُ بِالْحُجَّاجِ صُبْحًا مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا: أَيْ غُبَارًا. قَالَ بِهِ. أَيْ: بِالصُّبْحِ أَوْ بِهِ. أَيْ بِالْعَدُوِّ. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْعَادِيَاتِ: تَوَسَّطْنَ بِهِ جَمْعًا، أَيْ دَخَلْنَ فِي وَسَطِ جَمْعٍ أَيْ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ: فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمْ وَأَفْلَتَ حَاجِبٌ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ فِي الْغُبَارِ الْأَقْتَم وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي يَقُولُ: الْعَادِيَاتُ الْإِبِلُ تَحْمِلُ الْحَجِيجَ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، أَيْ: صِرْنَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَدُوِّ وَسْطَ جَمْعٍ. وَهِيَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَجَمْعٌ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُزْدَلِفَةِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ، عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَلَا وَالْعَادِيَاتُ مُغْبِرَاتُ جَمْعٍ ... بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ وَهَذَا الَّذِي سَاقَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، قَدْ جَمَعَ أَقْوَالَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَدْ سُقْتُهُ بِحُرُوفِهِ لِبَيَانِهِ لِلْمَعْنَى كَامِلًا. وَلَكِنْ مِمَّا قَدَّمَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي الْأَضْوَاءِ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي مَعْنًى وَفِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَرُدُّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَوْ تُؤَيِّدُ أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ وَجَدْتُ اخْتِلَافَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي نُقْطَةٍ أَسَاسِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ، وَمَعَانِيهَا وَالْأُسْلُوبِ وَتَرَاكِيبِهِ. وَنُقْطَةُ الْخِلَافِ هِيَ مَعْنَى الْجَمْعِ الَّذِي تَوَسَّطْنَ بِهِ، أَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ لِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهَا جَمْعًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي نِقَاشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. سَاقَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 أَمْ بِالْجَمْعِ جَمْعِ الْجَيْشِ فِي الْقِتَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ وَجَدْنَا قَرَائِنَ عَدِيدَةً فِي الْآيَةِ تَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ الْمُزْدَلِفَةِ بِمَعْنَى جَمْعٍ، وَهِيَ كَالْآتِي: أَوَّلًا وَصْفُ الْخَيْلِ أَوِ الْإِبِلِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بِالْعَادِيَاتِ، حَتَّى حَدِّ الضَّبْحِ وَوَرْيِ النَّارِ بِالْحَوَافِرِ وَبِالْحَصَا، لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ تَدُلُّ عَلَى الْجَرْيِ السَّرِيعِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ لَا تَحْتَمِلُ هَذَا الْعَدْوَ، وَلَيْسَ هُوَ فِيهَا بِمَحْمُودٍ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَادِي: «السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» فَلَوْ وُجِدَ لَمَا كَانَ مَوْضِعَ تَعْظِيمٍ وَتَفْخِيمٍ. ثَانِيًا: أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ إِثَارَةَ النَّقْعِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَرْبِ، كَمَا قَالَهُ بَشَّارٌ: كَأَنَّ مَثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهُ أَيْ: لِشِدَّةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ. ثَالِثًا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، جَاءَ مُرَتَّبًا بِالْفَاءِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، وَبَعْدَهَا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا. وَجَمْعٌ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى إِلَيْهَا لَيْلًا. فَكَيْفَ يَقْرِنُ صُبْحًا، وَيَتَوَسَّطْنَ الْمُزْدَلِفَةَ لَيْلًا. وَعَلَى مَا حَكَاهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، أَنَّهُمْ يُغِيرُونَ صُبْحًا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، تَكُونُ تِلْكَ الْإِغَارَةُ صُبْحًا بَعْدَ التَّوَسُّطِ بِجَمْعٍ، وَالسِّيَاقُ يُؤَخِّرُهَا عَنِ الْإِغَارَةِ وَلَمْ يُقَدِّمْهَا عَلَيْهَا. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ إِرَادَةَ الْمُزْدَلِفَةِ غَيْرُ مُتَأَتِّيَةٍ فِي هَذَا السِّيَاقِ. وَيَبْقَى الْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ رَجَعْنَا إِلَى نَظَرِيَّةِ تَرَابُطِ السُّورِ لَكَانَ فِيهَا تَرْجِيحًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ فِي السُّورَةِ السَّابِقَةِ، ذُكِرَتِ الزَّلْزَلَةُ وَصُدُورُ النَّاسِ أَشْتَاتًا لِيُرُوا أَعْمَالَهُمْ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 وَهُنَا حَثَّ عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُورِثُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَالسَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ فِي صُورَةٍ مُمَاثِلَةٍ، وَهِيَ عَدْوُهُمْ أَشْتَاتًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَحْصِيلِ ذَاكَ الْعَمَلِ الَّذِي يُحِبُّونَ رُؤْيَتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ نُصْرَةُ دِينِ اللَّهِ أَوِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. هَذَا الْجَوَابُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْكَنُودُ: الْكَفُورُ الْجُحُودُ لِنِعَمِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَذْكُرُ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ، أَخَذَهُ الشَّاعِرُ فَنَظَمَهُ: أَيَا أَيُّهَا الظَّالِمُ فِي فِعْلِهِ ... وَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ ظَلَمْ إِلَى مَتَى أَنْتَ وَحَتَّى مَتَى ... تَشْكُو الْمُصِيبَاتِ وَتَنْسَى النِّعَمْ وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَنُودُ هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُبَشِّرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ نَزَلَ وَحْدَهُ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ، وَجَلَدَ عَبْدَهُ» خَرَّجَهُمَا التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «الْكَنُودُ بِلِسَانِ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ: الْعَاصِي، وَبِلِسَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ: الْكَفُورُ، وَبِلِسَانِ كِنَانَةَ: الْبَخِيلُ السَّيِّئُ الْمَلَكَةِ» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَقَالَ الشَّاعِرُ: كَنُودٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ ... كَنُودًا لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ يُبْعَدُ أَيْ: كَفُورٌ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ الَّذِي يَكْفُرُ الْيَسِيرَ، وَلَا يَشْكُرُ الْكَثِيرَ. وَقِيلَ: الْجَاحِدُ لِلْحَقِّ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كِنْدَةُ كِنْدَةً ; لِأَنَّهَا جَحَدَتْ أَبَاهَا.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ الشَّاعِرُ: دَعِ الْبُخَلَاءَ إِنْ شَمَخُوا وَصَدُّوا ... وَذِكْرَى بُخْلِ ثَمَانِيَةٍ كَنُود فِي نُقُولٍ كَثِيرَةٍ وَشَوَاهِدَ. وَمِنْهَا: الْكَنُودُ الَّذِي يُنْفِقُ نِعَمَ اللَّهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَعَنْ ذِي النُّونِ: الْهَلُوعُ وَالْكَنُودُ: هُوَ الَّذِي إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. وَقِيلَ: الْحَسُودُ الْحَقُودُ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ الْبَحْثِ: قُلْتُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْكُفْرَانِ وَالْجُحُودِ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْكَنُودِ بِخِصَالٍ مَذْمُومَةٍ، وَأَحْوَالٍ غَيْرِ مَحْمُودَةٍ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ أَعْلَى مَا يُقَالُ، وَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ مَعَهُ مَقَالٌ. اهـ. وَهَكَذَا كَمَا قَالَ: إِنْ صَحَّ الْأَثَرُ فَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ، وَلَكِنْ كُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ بَابِ اخْتِلَافِ التَّنَوُّعِ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ ضِمْنَ مَعْنَى الْجُحُودِ لِلْحَقِّ أَوْ لِلنِّعَمِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْكَنُودِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهُ هُوَ الْهَلُوعُ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي [89 \ 15 - 16] . وَقَدْ عَقَّبَ عَلَيْهِ هُنَاكَ بِمِثْلِ مَا عَقَّبَ عَلَيْهِ هُنَا. فَهُنَاكَ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [89 \ 17 - 20] . وَهُنَا عَقَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ عَامٌّ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ الْإِنْسَانِ لَيْسَ كَذَلِكَ،ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [92 \ 5، 6] ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَا هَذَّبَهُ الشَّرْعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [4 \ 128] . وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [59 \ 9] . وَنَصَّ الشَّيْخُ فِي إِمْلَائِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَافِرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي: وَإِنَّهُ، فَقِيلَ: رَاجِعٌ لِلْإِنْسَانِ، وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى رَبِّ الْإِنْسَانِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ وَقَدَّمَهُ. وَجَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ يَذْكُرُونَ الْخِلَافَ، وَقَدْ عَرَفْتَ الرَّاجِحَ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ، فَعَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ لِرَبِّ الْإِنْسَانِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ لِلْإِنْسَانِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ وَأَجَابَ عَلَيْهِ. وَهُوَ أَنَّهُ جَاءَتْ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنَ الْجَوَابِ عَلَيْهِ: أَنَّ شَهَادَتَهُ بِلِسَانِ الْحَالِ. وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ شَهَادَتَهُمْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [9 \ 17] إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ بِالْكُفْرِ هِيَ الشِّرْكُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. الْخَيْرُ عَامٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَلَكِنَّهُ هُنَا خَاصٌّ بِالْمَالِ، فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ مِنْ قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 بَعْضِ أَفْرَادِهِ ; لِأَنَّ الْمَالَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [2 \ 180] ، أَيْ: مَالًا ; لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ يَصْحَبُهُ مَعَهُ وَلَا يَتْرُكُهُ. وَفِي مَعْنَى هَذَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ أَيْ بِسَبَبِ حُبِّهِ الْخَيْرَ لِشَدِيدٌ بَخِيلٌ، شَدِيدُ الْبُخْلِ. كَمَا قِيلَ: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّد أَيْ: شَدِيدِ الْبُخْلِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ حُبِّ الْمَالِ. قَالَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ: كِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الثَّانِيَ يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ. وَيَشْهَدُ لِلْوَجْهِ الثَّانِي، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا. وَقُلْنَا: إِنَّ الثَّانِيَ يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ ; لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا سَيَحْمِلُهُ حُبُّهُ عَلَى الْبُخْلِ. وَفِي هَذَا النَّصِّ مَذَمَّةُ حُبِّ الْمَالِ وَهُوَ جِبِلَّةٌ فِي الْإِنْسَانِ، إِلَّا مَنْ هَذَّبَهُ الْإِسْلَامُ، إِلَّا أَنَّ الذَّمَّ يَنْصَبُّ عَلَى شِدَّةِ الْحُبِّ الَّتِي تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ أَوْ تَعَدِّي الْحُدُودِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا قَبْلَهَا نَازِلَةٌ فِي الْكُفَّارِ كَمَا قَدَّمْنَا كَلَامَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ. الْبَعْثَرَةُ: الِانْتِثَارُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ: الْبَعْثُ وَالنَّثْرُ. فَالْبَعْثُ: خُرُوجُهُمْ أَحْيَاءً. وَالنَّثْرُ: الِانْتِشَارُ كَنَثْرِ الْحَبِّ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى بَعْثِهِمْ مُنْتَشِرِينَ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [82 \ 4] ، أَيْ بُعْثِرَ مِنْ فِيهَا. وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [70 \ 43] . وَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ [54 \ 7] . وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [101 \ 4] . . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ. قِيلَ: حُصِّلَ أَيْ أُبْرِزَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَيَّزَ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. وَالْحَاصِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا بَقِيَ. قَالَ لَبِيَدٌ: وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَعْلَمُ سَعْيَهُ ... إِذَا حَصَلَتْ عِنْدَ الْإِلَهِ الْحَصَائِلُ وَالْمُرَادُ بِمَا فِي الصُّدُورِ الْأَعْمَالُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [86 \ 9] . وَنَصَّ عَلَى الصُّدُورِ هُنَا، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْقُلُوبُ ; لِأَنَّهَا هِيَ مُنَاطُ الْعَمَلِ وَمَعْقِدُ النِّيَّةِ. وَالْعَقِيدَةُ وَصِحَّةُ الْأَعْمَالِ كُلُّهَا مَدَارُهَا عَلَى النِّيَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَحَدِيثِ: «أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: خَصَّصَ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِأُصُولِ الْأَعْمَالِ. وَلِذَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [2 \ 283] ، وَفِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [8 \ 2] . وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [26 \ 89] . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [2 \ 74] .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 وَقَالَ: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ [39 \ 23] . وَقَوْلُهُ: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [13 \ 28] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّدُورِ مَا فِيهَا هُوَ الْقَلْبُ. قَوْلُهُ: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [22 \ 46] . وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: نَصَّ عَلَى الصُّدُورِ لِيَشْمَلَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ ; لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْإِيمَانِ. وَالصَّدْرُ مَحَلُّ الْوَسْوَسَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [114 \ 5] . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجِيهًا، إِلَّا أَنَّ مَحَلَّ الْوَسْوَسَةِ أَيْضًا هُوَ الْقَلْبُ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. ذِكْرُ الظَّرْفِ هُنَا يُشْعِرُ بِقَصْرِ الْوَصْفِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَكِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُظْهِرُ مَا كَانَ خَفِيًّا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَلَكِنَّ ذِكْرَ الظَّرْفِ هُنَا لِلتَّحْذِيرِ مَعَ الْوَصْفِ بِخَبِيرٍ، أَخَصُّ مِنْ عَلِيمٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [66 \ 3] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْقَارِعَة قَوْلُهُ تَعَالَى : الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ، وَقَالَ: كَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ، وَالْآزِفَةِ، وَالْقَارِعَةِ. اهـ. أَيْ وَكَذَلِكَ الصَّاخَّةُ وَالسَّاعَةُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا عَظُمَ خَطَرُهُ كَثُرَتْ أَسْمَاؤُهُ. أَوْ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ: كَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْمُسَمَّى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُتَرَادِفَاتِ، فَإِنَّ لِكُلِّ اسْمٍ دَلَالَةً عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ بِهِ. فَالْوَاقِعَةُ لِصِدْقِ وُقُوعِهَا، وَالْحَاقَّةُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا، وَالطَّامَّةُ لِأَنَّهَا تَطِمُ وَتَعُمُّ بِأَحْوَالِهَا، وَالْآزِفَةُ مِنْ قُرْبِ وُقُوعِهَا «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ» مِثْلُ «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» ، وَهَكَذَا هُنَا. قَالُوا: الْقَارِعَةُ: مِنْ قَرْعِ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ لِشِدَّةِ أَهْوَالِهَا. وَقِيلَ: الْقَارِعَةُ اسْمٌ لِلشِّدَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَرَّعَتْهُمُ الْقَارِعَةُ وَفَقَّرَتْهُمُ الْفَاقِرَةُ، إِذَا وَقَعَ بِهِمْ أَمْرٌ فَظِيعٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَارِعَةٌ مِنَ الْأَيَّامِ لَوْلَا ... سَبِيلُهُمْ لَزَاحَتْ عَنْكَ حِينًا وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [13 \ 31] ، وَهِيَ الشَّدِيدَةُ مِنْ شَدَائِدِ الدَّهْرِ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 وَقَوْلُهُ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا جَاءَ «وَمَا أَدْرَاكَ» أَنَّهُ يُدْرِيهِ، وَمَا جَاءَ «وَمَا يُدْرِيكَ» لَا يُدْرِيهِ. وَقَدْ أَدْرَاهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [101 \ 4 - 5] ، وَهَذَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَى فِي الْوَاقِعَةِ بِأَنَّهَا خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [56 \ 3] ، وَفِي الطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ: يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [78 \ 40] . وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [80 \ 34 - 35] . وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ حَالَةٍ يَذْكُرُ مَعَهَا الْحَالَ الَّذِي يُنَاسِبُهَا، فَالْقَارِعَةُ مِنَ الْقَرْعِ وَهُوَ الضَّرْبُ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ مَعَهَا مَا يُوهِنُ قُوَى الْإِنْسَانِ إِلَى ضِعْفِ الْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَيُفَكِّكُ تَرَابُطَ الْجِبَالِ إِلَى هَبَاءِ الْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. الْفَرَاشُ: جَمْعُ فَرَاشَةٍ. وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تَطِيرُ وَتَتَهَافَتُ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: طَيْرٌ رَقِيقٌ يَقْصِدُ النَّارَ وَلَا يَزَالُ يَتَقَحَّمُ عَلَى الْمِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ حَتَّى يَحْتَرِقَ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي إِمْلَائِهِ قَوْلَ جَرِيرٍ: إِنَّ الْفَرَزْدَقَ مَا عَلِمْتُ وَقَوْمَهُ ... مِثْلَ الْفَرَاشِ غَشَيْنَ نَارَ الْمُصْطَلَى وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ غَوْغَاءُ الْجَرَادِ الَّذِي يَنْتَشِرُ فِي الْأَرْضِ وَيَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنَ الْهَوْلِ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّهُ الْهَمَجُ الطَّائِرُ مِنْ بَعُوضٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُ الْجَرَادُ. وَيُقَالُ: هُوَ أَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ قَالَ: طُوَيْشٌ مِنْ نَفَرِ أَطْيَاشِ ... أَطْيَشُ مِنْ طَائِرَةِ الْفَرَاش وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 أَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا. وَأَنَا آخِذٌ بِحُجُزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي» . وَالْمَبْثُوثُ: الْمُنْتَشِرُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ [54 \ 7] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» ، وَسُورَةِ «ق وَالْقُرْآنِ» ، وَسُورَةِ «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» . بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ وَصْفَهَا بِالْفَرَاشِ فِي أَوَّلِ حَالِهَا فِي الِاضْطِرَابِ وَالْحَيْرَةِ. وَوَصْفَهُمْ كَالْجَرَادِ فِي الْكَثْرَةِ وَوَحْدَةِ الِاتِّجَاهِ: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي [54 \ 8] . قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ بَيَانُ أَحْوَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بَدْئِهَا بِكَثِيبٍ مَهِيلٍ، ثُمَّ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، ثُمَّ تَسِيرُ كَالسَّرَابِ. وَأَحَالَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [27 \ 88] . وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «سَأَلَ سَائِلٌ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي قَوْلِهِ: ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ دَلَالَةٌ عَلَى وَقْعِ الْوَزْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ. وَالْمَوَازِينُ: يُرَادُ بِهَا الْمَوْزُونُ، وَيُرَادُ بِهَا آلَةُ الْوَزْنِ، كَالْمَعَايِيرِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعَايِيرَ بِالذَّرَّةِ وَأَقَلَّ مِنْهَا. وَقَدْ جَاءَ نُصُوصٌ عَلَى وَضْعِ الْمَوَازِينِ وَإِقَامَتِهَا بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21 \ 47] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 وَقَوْلُهُ: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، قَالُوا: بِمَعْنَى مُرْضِيَّةٍ، وَرَاضِيَةٌ أَصْلُهَا مُرْضِيَّةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [88 \ 8 - 9] ، إِسْنَادُ الرِّضَى لِلْعِيشَةِ، عَلَى أَنَّهَا هِيَ فَاعِلَةُ الرِّضَى ; لِأَنَّ كَلِمَةَ الْعِيشَةِ جَامِعَةٌ لِنَعِيمِ الْجَنَّةِ وَأَسْبَابِ النَّعِيمِ، رَاضِيَةٌ طَائِعَةٌ لَيِّنَةٌ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَتُفَجَّرُ لَهُمُ الْأَنْهَارُ طَوَاعِيَةً، وَتَدْنُو الثِّمَارُ طَوَاعِيَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [69 \ 23] . فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْبَلَاغَةِ بِإِطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ [96 \ 17] . وَالنَّادِي: مَكَانُ مُنْتَدَى الْقَوْمِ، أَيْ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ. وَالْمُرَادُ: مَنْ يَحُلُّ فِي هَذَا النَّادِي، وَيَكُونُ هُنَا أَطْلَقَ الْمَحَلَّ وَهُوَ مَحَلُّ الْعِيشَةِ، وَأَرَادَ الْحَالَّ فِيهَا. وَعَلَى الثَّانِي: فَهُوَ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ إِسْنَادِ الرِّضَى لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ قَامَ بِهِ. وَمِمَّا هُوَ جَدِيرٌ بِالذِّكْرِ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْبَيَانِيِّ لَيْسَ مُتَّجَهًا كَالْآيَةِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ الْعِيشَةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِغَيْرِهَا بَلْ هِيَ حَالَّةٌ، وَالْمَحَلُّ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْجَنَّةُ وَالْعِيشَةُ حَالَّةٌ فِيهَا، وَهِيَ اسْمٌ لِمَعَانِي النَّعِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ حَمْلُ الْإِسْنَادِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصَحُّ. وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ: أَنَّ الْجَنَّةَ تُحِسُّ بِأَهْلِهَا وَتَفْرَحُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ، كَمَا أَنَّهَا تَتَزَيَّنُ وَتَبْتَهِجُ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا تَنَاظَرَتْ مَعَ النَّارِ. وَكُلٌّ يُدْلِي بِأَهْلِهِ وَفَرَحِهِ بِهِمْ، حَتَّى وَعَدَ اللَّهُ كُلًّا بِمِلْئِهَا. وَنُصُوصُ تَلَقِّي الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَالْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِالرِّضَى وَالتَّحِيَّةِ مَعْلُومَةٌ. وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [36 \ 57] ، أَيْ: لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [39 \ 73] . وَقَوْلُهُ: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [55 \ 56] . وَقَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عَنْ رِضًى بِأَهْلِهِنَّ. وَمِنْهُ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [55 \ 72] ، أَيْ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 وَقَوْلُهُ: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [76 \ 14] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِنَفْسِهِ رَاضٍ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، هَلِ الْمُرَادُ بِأُمِّهِ مَأْوَاهُ وَهِيَ النَّارُ، وَأَنَّ هَاوِيَةً مِنْ أَسْمَائِهَا، أَمِ الْمُرَادُ بِأُمِّهِ رَأْسُهُ وَأَنَّ هَاوِيَةً مِنَ الْهُوِيِّ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ يَهْوِي فِي النَّارِ. وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَلَا يَبْعُدُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. فَتَكُونُ «أُمُّهُ هَاوِيَةٌ» ، وَهِيَ النَّارُ وَيُلْقَى فِيهَا مُنَكَّسًا تَهْوِي رَأْسُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ بِمَعْنَى قَوْلِ لَبِيَدٍ: فَالْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا ... فِيهَا مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نُوَلَدُ وَعَلَى مَعْنَى الْهَاوِيَةِ الْبَعِيدَةِ وَالدَّاهِيَةِ، قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا عَمْرُو لَوْ نَالَتْكَ رِمَاحُنَا ... كُنْتَ كَمَنْ تَهْوِي بِهِ الْهَاوِيَهْ وَالْهَاوِيَةُ: مَكَانُ الْهَوِيِّ. كَمَا قِيلَ: أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرْعَكِ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ مَيَّاسَةَ الْقَدّ أَوْ طَيِّبَةَ النَّشْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» . نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَ. وَقَدْ فَسَّرَ الْهَاوِيَةَ بِمَا بَعْدَهَا: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [101 \ 10 - 11] .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 وَقَدْ فَسَّرَ الْهَاوِيَةَ بِأَنَّهَا أَسْفَلُ دَرَكَاتِ النَّارِ. عِيَاذًا بِاللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [104 \ 4 - 6] . وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ، مِمَّا يُرَجِّحُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ إِمْكَانِ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ كَوْنُ أُمِّهِ هِيَ الْهَاوِيَةُ أَيِ النَّارُ، يَهْوِي فِيهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، وَذَلِكَ بِالنَّبْذِ فِي الْهَاوِيَةِ بَعِيدَةِ الْمَهْوَى، وَعَادَةُ الْجِسْمِ إِذَا أُلْقِيَ مِنْ شَاهِقٍ بَعِيدًا يُسْبِقُهُ إِلَى أَسْفَلَ أَثْقَلُهُ، وَأَثْقَلُ جِسْمِ الْإِنْسَانِ رَأْسُهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ التَّكَاثُر قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلْهَاكُم ُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. أَلْهَاكُمْ: أَيْ: شَغَلَكُمْ، وَلَهَاهُ: تُلْهِيهِ، أَيْ عَلَّلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٌ ... فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوَلِ أَيْ: شَغَلْتُهَا. وَالتَّكَاثُرُ: الْمُكَاثَرَةُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَتِ الْمُكَاثَرَةُ الَّتِي أَلْهَتْهُمْ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: تَرَكَ ذِكْرَهُ، إِمَّا لِأَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ نَفْسُ التَّكَاثُرِ بِالشَّيْءِ لَا الْمُتَكَاثَرُ بِهِ، وَإِمَّا إِرَادَةَ الْإِطْلَاقِ. اهـ. وَيَعْنِي رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْأَوَّلِ: ذَمَّ الْهَلَعِ، وَالنَّهَمِ. وَبِالثَّانِي: لِيَعُمَّ كُلَّ مَا هُوَ صَالِحٌ لِلتَّكَاثُرِ بِهِ، مَالٌ وَوَلَدٌ وَجَاهٌ، وَبِنَاءٌ وَغِرَاسٌ. وَلَمْ أَجِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذِكْرَ نَظِيرٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَلَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِهَا فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ أَنَّ حَيَّيْنِ تَفَاخَرَا بِالْآبَاءِ وَأَمْجَادِ الْأَجْدَادِ، فَعَدَّدُوا الْأَحْيَاءَ، ثُمَّ ذَهَبُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، وَعَدَّدَ كُلُّ مِنْهُمَا مَا لَهُمْ مِنَ الْمَوْتَى يَفْخَرُونَ بِهِمْ، وَيَتَكَاثَرُونَ بِتَعْدَادِهِمْ. وَقِيلَ: فِي قُرَيْشٍ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ. وَقِيلَ: فِي الْأَنْصَارِ. وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّكَاثُرَ كَانَ فِي مَفَاخِرِ الْآبَاءِ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْآيَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ وَغَيْرَهُ. وَسِيَاقُ حَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . قَالَ ثَابِتٌ: عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. وَكَأَنَّ الْقُرْطُبِيَّ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ التَّكَاثُرَ بِالْمَالِ أَيْضًا. وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكَاثُرَ الَّذِي أَلْهَاهُمْ، وَالَّذِي ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِسَبَبِهِ أَوْ حَذَّرَهُمْ مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَمِيعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا إِلَى قَوْلِهِ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [57 \ 20] . فَفِيهِ التَّصْرِيحُ: بِأَنَّ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَاثُرَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. ثُمَّ جَاءَتْ نُصُوصٌ أُخْرَى فِي هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [6 \ 32] . وَقَوْلِهِ: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [29 \ 64] . وَلِكَوْنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، جَاءَ التَّحْذِيرُ مِنْهَا وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ تُلْهِهِمْ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [63 \ 9] . وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [62 \ 9] . وَمِمَّا يُرَجِّحُ أَنَّ التَّكَاثُرَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي نَفْسِ السُّورَةِ، مَا جَاءَ فِي آخِرِهَا مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 قَوْلِهِ: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [102 \ 8] ، لِمُنَاسَبَتِهَا لِأَوَّلِ السُّورَةِ. كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِشُمُولِ النَّعِيمِ لِلْمَالِ شُمُولًا أَوَّلِيًّا. وَقَوْلُهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. أَخَذَ مِنْهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَفَاخُرَهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْمَقَابِرِ لِيَتَكَاثَرُوا بِأَمْوَاتِهِمْ، كَمَا جَاءَتْ فِي أَخْبَارِ أَسْبَابِ النُّزُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالصَّحِيحُ فِي «زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ» : يَعْنِي مُتُّمْ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ يَأْتِي إِلَى الْقَبْرِ كَالزَّائِرِ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِيهِ مُؤَقَّتًا. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: بُعِثُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لِأَنَّ الزَّائِرَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْتَحِلَ. تَنْبِيهٌ قَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَسْأَلَةَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ هُنَا لِحَدِيثِ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» . وَقَالُوا: إِنَّ الْمَنْعَ كَانَ عَامًّا مِنْ أَجْلِ ذِكْرِ مَآثِرِ الْآبَاءِ وَالْمَوْتَى، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَخَّصَ فِي الزِّيَارَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رُخِّصَ لَهُ. فَقِيلَ: لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ لِعَدَمِ دُخُولِهِنَّ فِي وَاوِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: «فَزُورُوهَا» . وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ، وَاسْتَدَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَدِلَّةٍ يَطُولُ إِيرَادُهَا. وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ لِبَيَانِ الْأَرْجَحِ، نُورِدُ نُبْذَةً مِنَ الْبَحْثِ. فَقَالَ الْمَانِعُونَ لِلنِّسَاءِ: إِنَّهُنَّ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ، وَلَمْ تَشْمَلْهُنَّ الرُّخْصَةُ، وَمَجِيءُ اللَّعْنِ بِالزِّيَارَةِ فِيهِنَّ. وَقَالَ الْمُجِيزُونَ: إِنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ ضِمْنًا فِي خِطَابِ الرِّجَالِ، كَدُخُولِهِنَّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [2 \ 43] ، فَإِنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ قَطْعًا. وَقَالُوا: إِنَّ اللَّعْنَ الْمُنَوَّهَ عَنْهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتَيْنِ رِوَايَةِ: «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» . وَجَاءَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهِنَّ السُّرُجَ» إِلَى آخِرِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 فَعَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ: زَوَّارَاتٌ لَا تَشْمَلُ مُطْلَقَ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ لِلْمُكْثِرَاتِ ; لِأَنَّهُنَّ بِالْإِكْثَارِ لَا يَسْلَمْنَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَعْدَادِ مَآثِرِ الْمَوْتَى الْمَحْظُورِ فِي أَصْلِ الْآيَةِ. أَمَّا مُجَرَّدُ زِيَارَةٍ بِدُونِ إِكْثَارٍ وَلَا مُكْثٍ، فَلَا. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا ذَكَرَ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، السَّلَامَ عَلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ، فَقَالَتْ: «وَمَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَنَا زُرْتُ الْقُبُورَ؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ آلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» الْحَدِيثَ. فَأَقَرَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهَا تَزُورُ الْقُبُورَ وَعَلَّمَهَا مَاذَا تَقُولُ إِنْ هِيَ زَارَتْ. وَكَذَلِكَ بِقِصَّةِ مُرُورِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تَبْكِي عِنْدَ الْقَبْرِ فَكَلَّمَهَا، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مَنْ هُوَ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهَا قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَتْ تَعْتَذِرُ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» . وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْمَنْعَ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، مَعَ أَنَّهُ رَآهَا تَبْكِي. وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي السَّمَاحِ بِالزِّيَارَةِ. وَمِنْ نَاحِيَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ النَّتِيجَةَ مِنَ الزِّيَارَةِ لِلرِّجَالِ مَنْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا كَذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِخَاصَّةٍ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، بَلْ قَدْ يَكُنُّ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ. وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، هُوَ الْجَوَازُ لِمَنْ لَمْ يُكْثِرْنَ وَلَا يَتَكَلَّمْنَ بِمَا لَا يَلِيقُ، مِمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ آخَرُ مِنْ لَطَائِفِ الْقَوْلِ فِي التَّفْسِيرِ، مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ عَنِ التَّكَاثُرِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، مَا نَصُّهُ: وَقِيلَ هَذَا تَأْنِيبٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ زِيَارَةٍ، تَكْثِيرًا بِمَنْ سَلَفَ وَإِشَادَةً بِذِكْرِهِ، وَكَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ثُمَّ قَالَ: " فَزُورُوهَا " أَمْرُ إِبَاحَةٍ لِلِاتِّعَاظِ بِهَا، لَا لِمَعْنَى الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَا يَصْنَعُ النَّاسُ فِي مُلَازَمَتِهَا وَتَسْنِيمِهَا بِالْحِجَارَةِ وَالرُّخَامِ وَتَلْوِينِهَا شَرَفًا، وَبَيَانِ النَّوَاوِيسِ عَلَيْهَا، أَيِ الْفَوَانِيسِ، وَهِيَ السُّرُجُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو حَيَّانَ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَرَ إِلَّا قُبُورَ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَا يَتَبَاهَى بِهِ أَهْلُ مِصْرَ فِي مَدَافِنِهِمْ بِالْقَرَافَةِ الْكُبْرَى وَالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى، وَبَابِ النَّصْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمَا يَضِيعُ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، لَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ وَلَرَأَى مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالٍ. وَأَمَّا التَّبَاهِي بِالزِّيَارَةِ: فَفِي هَؤُلَاءِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الصُّوفِيَّةِ أَقْوَامٌ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ إِلَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ: زُرْتُ قَبْرَ سَيِّدِي فُلَانٍ بِكَذَا، وَقَبَرَ فُلَانٍ بِكَذَا، وَالشَّيْخَ فُلَانٍ بِكَذَا، وَالشَّيْخَ فُلَانٍ بِكَذَا، فَيَذْكُرُونَ أَقَالِيمَ طَافُوهَا عَلَى قَدَمِ التَّجْرِيدِ. وَقَدْ حَفِظُوا حِكَايَاتٍ عَنْ أَصْحَابِ تِلْكَ الْقُبُورِ وَأُولَئِكَ الْمَشَايِخِ، بِحَيْثُ لَوْ كُتِبَتْ لَجَاءَتْ أَسْفَارًا. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُونَ فُرُوضَ الْوُضُوءِ وَلَا سُنَنَهُ. وَقَدْ سَخَّرَ لَهُمُ الْمُلُوكُ وَعَوَامُّ النَّاسِ فِي تَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ وَبَذْلِ الْمَالِ لَهُمْ، وَأَمَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ لِلْعَامَّةِ فَيَأْتِي بِعَجَائِبَ، يَقُولُونَ: هَذَا فَتْحٌ مِنَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ عَلَى الْخَضِرِ. حَتَّى إِنَّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ، لَمَّا رَأَى رَوَاجَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ، وَنَقَلَ كَثِيرًا مِنْ حِكَايَاتِهِمْ، وَمَزَجَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ طَلَبًا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ وَتَقْبِيلِ الْيَدِ. وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِطَاعَتِهِ. اهـ. بِحُرُوفِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا افْتَتَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ مَعًا. أَمَّا فِي دِينِهِمْ: فَهُوَ الْغُلُوُّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صِيَانَةً لِلتَّوْحِيدِ مِنْ سُؤَالِ غَيْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَ مَصَالِحَ دُنْيَاهُمْ مِنْ زِرَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ، وَيَطُوفُ بِتِلْكَ الْأَمَاكِنِ تَارِكًا وَمُضَيِّعًا مَنْ يَكُونُ السَّعْيُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ. مِمَّا يَلْزَمُ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، أَنْ يُرْشِدُوا الْجَهَلَةَ مِنْهُمْ، وَأَنْ يُبَيِّنُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 لِلنَّاسِ عَامَّةً خَطَأَ وَجَهْلَ أُولَئِكَ، وَأَنَّ الرَّحِيلَ لِتِلْكَ الْقُبُورِ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ "، وَلَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَلَا مِنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا مَنْ عَمَلِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَإِنَّمَا كَانَ عَمَلُ الْجَمِيعِ زِيَارَةَ مَا جَاوَرَهُمْ مِنَ الْمَقَابِرِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَالِاتِّعَاظِ بِحَالِهِمْ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا صَارُوا إِلَيْهِ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاقْتِفَاءِ بِآثَارِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، آمِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا: زَجْرٌ عَنِ التَّلَهِّي وَالتَّكَاثُرِ الْمَذْكُورِ، وَ «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» : أَيْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَمَغَبَّةَ هَذَا التَّلَهِّي، «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» تَكْرَارٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا تَكْرَارَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْأُولَى فِي الْقَبْرِ، وَالثَّانِيَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ مَعْقُولٌ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ. وَمَعْلُومٌ صِحَّةُ حَدِيثِ الْقَبْرِ: «إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» . وَالسُّؤَالُ فِيهِ مَعْلُومٌ، وَلَكِنْ أَرَادُوا مَأْخَذَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ غَافِرٍ، عِنْدَ: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [40 \ 45] ، إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ بَيَانُ مَعْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [43 \ 89] . وَهَذَا الزَّجْرُ هُنَا وَالتَّحْذِيرُ لَهُمْ رَدًّا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي التَّكَاثُرِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرُُِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 وَأَصْرَحُ دَلِيلٍ لِإِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْقُرْآنِ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّانِيَ فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. لَوْ: هُنَا شَرْطِيَّةٌ، جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ بِاتِّفَاقٍ قَدَّرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْ لَوْ عَلِمْتُمْ حَقَّ الْعِلْمِ، لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ، وَعِلْمُ الْيَقِينِ: أَجَازَ أَبُو حَيَّانَ إِضَافَةَ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ، أَيْ: لِمُغَايِرَةِ الْوَصْفِ، إِذِ الْعِلْمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَلَكِنَّهُ آكَدُ مِنْهُ. وَعَنْ حَسَّانَ قَوْلُهُ: سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحَتْفِهِمُ ... لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْعِلْمِ مَا سَارُوا وَ «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» : جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَالَ: الْمُرَادُ بِرُؤْيَتِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْبَعْثِ، أَوْ عِنْدَ الْوُرُودِ، أَوْ عِنْدَ مَا يَتَكَشَّفُ الْحَالُ فِي الْقَبْرِ. «ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ» : قِيلَ: هَذَا لِلْكَافِرِ عِنْدَ دُخُولِهَا، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِرُؤْيَتِهَا، وَلَكِنْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَتَخْوِيفٌ بِهَا ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ مَعْلُومٌ: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا» [19 \ 71] ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ أَخَصُّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [18 \ 53] ، أَيْ: أَيْقَنُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [18 \ 53] . وَقَدْ يَبْدُو وَجْهٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا لِلنَّارِ نَوْعَانِ: الرُّؤْيَةُ الْأُولَى: رُؤْيَةُ عِلْمٍ وَتَيَقُّنٍ، فِي قَوْلِهِ: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، عِلْمًا تَسْتَيْقِنُونَ بِهِ حَقِيقَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَصْبَحْتُمْ بِمَثَابَةِ مَنْ يُشَاهِدُ أَهْوَالَهُ وَيَشْهَدُ بِأَحْوَالِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِحْسَانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ الصِّدِيقِ لَمَّا أُخْبِرَ نَبَأَ الْإِسْرَاءِ، فَقَالَ: «صَدَقَ مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا: تُصَدِّقُهُ وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ؟ قَالَ: إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» . فَلِعِلْمِهِ عِلْمَ الْيَقِينِ بِصِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُخْبِرُ، صَدَّقَ بِالْإِسْرَاءِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ الثَّانِيَةُ رُؤْيَةَ عَيْنٍ وَمُشَاهَدَةٍ، فَهُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَرَاتِبَ الْعِلْمِ الثَّلَاثَ: عِلْمُ الْيَقِينِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ. فَالْعِلْمُ: مَا كَانَ عَنْ دَلَائِلَ. وَعَيْنُ الْيَقِينِ: مَا كَانَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ. وَحَقُّ الْيَقِينِ: مَا كَانَ عَنْ مُلَابَسَةٍ وَمُخَالَطَةٍ، كَمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْكَعْبَةِ، وَجِهَتِهَا فَهُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ، فَإِذَا رَآهَا فَهُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ بِوُجُودِهَا. فَإِذَا دَخَلَهَا وَكَانَ فِي جَوْفِهَا فَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ بِوُجُودِهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ. أَصْلُ النَّعِيمِ كُلُّ حَالٍ نَاعِمَةٍ مِنَ النُّعُومَةِ وَاللُّيُونَةُ، ضِدُّ الْخُشُونَةِ وَالْيُبُوسَةِ، وَالشَّدَائِدِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [16 \ 53] . ثُمَّ قَالَ: إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [16 \ 53] ، فَقَابَلَ النِّعْمَةَ بِالضُّرِّ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي [11 \ 10] . وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَدِيدَةٌ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [16 \ 18] . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تُحْصُوهَا. وَأُصُولُ هَذِهِ النِّعَمُ أَوُّلُهَا الْإِسْلَامُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] . وَيَدْخُلُ فِيهَا نِعَمُ التَّشْرِيعِ وَالتَّخْفِيفِ، عَمَّا كَانَ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا نِعْمَةُ الْإِخَاءِ فِي اللَّهِ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [3 \ 103] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَثَانِيهَا: الصِّحَّةُ، وَكَمَالُ الْخِلْقَةِ وَالْعَافِيَةِ، فَمِنْ كَمَالِ الْخِلْقَةِ الْحَوَاسُّ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [90 \ 8 - 9] . ثُمَّ قَالَ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [17 \ 36] . وَثَالِثُهَا: الْمَالُ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ سَوَاءٌ، فَفِي كَسْبِهِ مِنْ حِلِّهِ نِعْمَةٌ، وَفِي إِنْفَاقِهِ فِي أَوْجُهِهِ نِعْمَةٌ. هَذِهِ أُصُولُ النِّعَمِ، فَمَاذَا يُسْأَلُ عَنْهُ، مِنْهَا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ سَيُسْأَلُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا. أَمَّا عَنِ الدِّينِ وَالْمَالِ وَالصِّحَّةِ، فَفِي مُجْمَلِ الْحَدِيثِ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لَا تَزُولُ قَدَمُ عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ عَمَلٌ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ". وَلِعِظَمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَشُمُولِهِا، فَإِنَّهَا أَصْبَحَتْ مِنْ قَبِيلِ النُّصُوصِ مَضْرِبَ الْمَثَلِ، فَقَدْ فَصَّلَتِ السُّنَّةُ جُزْئِيَّاتِ مَا كَانَتْ تَخْطُرُ بِبَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقُرْطُبِيُّ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: " مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ " قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهَا لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا " فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا! وَأَهْلًا! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ فُلَانٌ؟ " قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ أَيْ يَطْلُبُ مَاءً عَذْبًا. إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ أَضْيَافًا مِنِّي. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعَذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُّوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ، فَذَبَحَ لَهُمْ. فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ " وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ فِيهِ: " هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظِلٌّ بَارِدٌ وَرَطْبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ " وَكَنَّى الرَّجُلُ الَّذِي مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قُلْتُ: اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ مَالِكُ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَيُكَنَّى أَبَا الْهَيْثَمِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ. وَمِنْهَا: عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ بِالْفَرَقِ وَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، وَقَالَ: " إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: خِرْقَةٍ لَفَّ الرَّجُلُ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ جُحْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ ". وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ مَا سَدَّ الْجُوعَ، وَسَتَرَ الْعَوْرَةَ مِنْ خَشِنِ الطَّعَامِ، لَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْمَرْءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَ آدَمَ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [20 \ 119] . فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَا يُسَدُّ بِهِ الْجُوعُ، وَمَا يُدْفَعُ بِهِ الْعَطَشُ، وَمَا يُسْكَنُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَيُسْتَرُ بِهِ عَوْرَتُهُ، لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِطْلَاقِ، لَا حِسَابَ عَلَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا. وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا بِسَنَدِهِ " أَنَّهُمْ كَانُوا جُلُوسًا فَطَلَعَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَاكَ طَيِّبَ النَّفْسِ؟ قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: خَاضَ النَّاسُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النِّعَمِ ". قَالَ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَبِهَذَا، فَقَدْ ثَبَتَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَنَّ النَّعِيمَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ السُّؤَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَتَنَعَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا، حِسًّا كَانَ أَوْ مَعْنًى. حَتَّى قَالُوا: النَّوْمُ مَعَ الْعَافِيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ السُّؤَالَ عَامٌّ لِلْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، فَهُوَ لِلْكَافِرِ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ وَحِسَابٌ، وَلِلْمُؤْمِنِ تَقْرِيرٌ بِحَسَبِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَجُحُودِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَصْرِيفِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكُلُّ ذَلِكَ يُرَادُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلْمُنْعِمِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [46 \ 15] . اللَّهُمَّ أَوْزِعْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا عَوْنًا لَنَا عَلَى طَاعَتِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْعَصْر قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. الْعَصْرُ: اسْمٌ لِلزَّمَنِ كُلِّهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ. وَلِذَا اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، حَيْثُ لَمْ يُبَيَّنْ هُنَا. فَقِيلَ: هُوَ الدَّهْرُ كُلُّهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ، أُمَّةٌ تَذْهَبُ وَأُمَّةٌ تَأْتِي، وَقَدَرٌ يَنْفُذُ، وَآيَةٌ تَظْهَرُ، وَهُوَ هُوَ لَا يَتَغَيَّرُ، لَيْلٌ يَعْقُبُهُ نَهَارٌ، وَنَهَارٌ يَطْرُدُهُ لَيْلٌ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَجَبٌ. كَمَا قِيلَ: مَوْجُودٌ شَبِيهُ الْمَعْدُومِ، وَمُتَحَرِّكٌ يُضَاهِي السَّاكِنَ. كَمَا قِيلَ: وَأَرَى الزَّمَانَ سَفِينَةً تَجْرِي بِنَا ... نَحْوَ الْمَنُونِ وَلَا نَرَى حَرَكَاتِه فَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ، سَوَاءٌ فِي مَاضِيهِ لَا يَعْلَمُ مَتَى كَانَ، أَوْ فِي حَاضِرِهِ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ يَنْقَضِي، أَوْ فِي مُسْتَقْبَلِهِ. وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا جَاءَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَرْفُوعًا مِنْ قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ: «وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ» . وَحُمِلَ عَلَى التَّفْسِيرِ إِنْ لَمْ يَصِحَّ قُرْآنًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَبِيلُ الْهَوَى وَعْرٌ، وَبَحْرُ الْهَوَى غَمْرٌ ... وَيَوْمُ الْهَوَى شَهْرٌ، وَشَهْرُ الْهَوَى دَهْرٌ وَقِيلَ الْعَصْرُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: وَلَمْ يَلْبَثِ الْعَصْرَانِ يَوْمَ لَيْلَةٍ ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا يُتَمِّمَا وَالْعَصْرَانِ أَيْضًا: الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ. كَمَا قِيلَ: وَأَمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِي ... وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَالْأَنْفُ رَاغِمُ وَالْمَطْلُ: التَّسْوِيفُ وَتَأْخِيرُ الدَّيْنِ. كَمَا قِيلَ: قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ فَوَفَّى غَرِيمَهُ ... وَعَزَّهُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غَرِيمُهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْعَشِيَّ مَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرُوحُ بِنَا يَا عَمْرُو قَدْ قَصُرَ الْعَصْرُ ... وَفِي الرَّوْحَةِ الْأُولَى الْغَنِيمَةُ وَالْأَجْرُ وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: هُوَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، لِتَعْظِيمِ الْيَمِينِ فِيهِ، وَلِلْقَسَمِ بِالْفَجْرِ وَالضُّحَى. وَقِيلَ: هُوَ صَلَاةُ الْعَصْرِ لِكَوْنِهَا الْوُسْطَى. وَقِيلَ: عَصْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ زَمَنُ أُمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عَصْرَ عُمُرِ الدُّنْيَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ أَقْرَبَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا قَوْلَانِ: إِمَّا الْعُمُومُ بِمَعْنَى الدَّهْرِ لِلْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، إِذْ أَقَلُّ دَرَجَاتِهَا التَّفْسِيرُ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ بَقِيَّةَ الْأَقْوَالِ. وَإِمَّا عَصْرُ الْإِنْسَانِ أَيْ عُمُرُهُ وَمُدَّةُ حَيَاتِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكَسْبِ وَالْخُسْرَانِ لِإِشْعَارِ السِّيَاقِ، وَلِأَنَّهُ يَخُصُّ الْعَبْدَ فِي نَفْسِهِ مَوْعِظَةً وَانْتِفَاعًا. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَكْتَنِفُ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ سُورِ التَّكَاثُرِ قَبْلَهَا، وَالْهُمَزَةِ بَعْدَهَا، إِذِ الْأُولَى تَذُمُّ هَذَا التَّلَهِّيَ وَالتَّكَاثُرَ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، حَتَّى زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ بِالْمَوْتِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ هُوَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 وَسُورَةُ الْهُمَزَةِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى تَقْرِيبًا، فِي «الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ» . [104 \ 2 - 3] فَجَمْعُ الْمَالِ وَتَعْدَادُهُ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَحَيَاتُهُ مَحْدُودَةٌ، وَلَيْسَ مُخَلَّدًا فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ وَعَمَلَ الصَّالِحَاتِ مُرْتَبِطٌ بِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ. وَعَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَصْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْعُمُومُ لِشُمُولِهِ الْجَمِيعَ وَلِلْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وَهَذَا أَقْوَاهَا. وَإِمَّا حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ أَلْزَمُ لَهُ فِي عَمَلِهِ، وَتَكُونُ كُلُّ الْإِطْلَاقَاتِ الْأُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ، وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. لَفْظُ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا، فَإِنَّ أَلْ فِيهِ جَعَلَتْهُ لِلْجِنْسِ. وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِرَارًا، فَهُوَ شَامِلٌ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْكَافِرِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِلْعُمُومِ. وَ «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ» جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْخُسْرُ: قِيلَ: هُوَ الْغَبْنُ، وَقِيلَ: النَّقْصُ، وَقِيلَ: الْعُقُوبَةُ، وَقِيلَ: الْهَلَكَةُ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ. وَأَصْلُ الْخُسْرِ وَالْخُسْرَانِ كَالْكُفْرِ وَالْكُفْرَانِ، النَّقْصُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الْخُسْرَانِ فِي أَيِّ شَيْءٍ، بَلْ أَطْلَقَ لِيَعُمَّ، وَجَاءَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، لِيُشْعِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُسْتَغْرِقٌ فِي الْخُسْرَانِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَلَوْ نَظَرْنَا إِلَى أَمْرَيْنِ وَهُمَا الْمُسْتَثْنَى وَالسُّورَةُ الَّتِي قَبْلَهَا، لَاتَّضَحَ هَذَا الْعُمُومُ ; لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُسْتَثْنَى يَشْمَلُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: عَدَمُ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَعَدَمُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْفَاسِدُ، وَعَدَمُ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَهُوَ انْعِدَامُ التَّوَاصِي كُلِّيَّةً أَوِ التَّوَاصِي بِالْبَاطِلِ، وَعَدَمُ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَهُوَ إِمَّا انْعِدَامُ التَّوَاصِي كُلِّيَّةً أَوِ الْهَلَعُ وَالْجَزَعُ. وَالسُّورَةُ الَّتِي قَبْلَهَا تَلَهِّي الْإِنْسَانِ بِالتَّكَاثُرِ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ، بُغْيَةَ الْغِنَى وَالتَّكَثُّرِ فِيهِ، وَضِدُّهُ ضَيَاعُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَهُوَ الْخُسْرَانُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 فِعْلَيْهِ يَكُونُ الْخُسْرَانُ فِي الدِّينِ مِنْ حَيْثُ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، وَفِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَشْمَلُهُ الْإِيمَانُ فِي الِاصْطِلَاحِ وَالتَّلَهِّي فِي الْبَاطِلِ وَتَرْكُ الْحَقَّ، وَفِي الْهَلَعِ وَالْفَزَعِ. وَمِنْ ثَمَّ تَرْكُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ وَفَلَاحُهُ وَصَلَاحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نُجْمِلُهُ فِي الْآتِي: أَمَّا الْخُسْرَانُ بِالْكُفْرِ. فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [39 \ 65] . وَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ، أَيْ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِهَذَا اللِّقَاءِ، وَقَصَرُوا أَمْرَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَضَيَّعُوا أَنْفُسَهُمْ، وَحَظَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْخُسْرَانُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [7 \ 9] ، لِأَنَّ الْمَوَازِينَ هِيَ مَعَايِيرُ الْأَعْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [99 \ 7] . وَمِثْلُهُ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [4 \ 119] ، لِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [58 \ 19] ، أَيْ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْخُسْرَانُ بِتَرْكِ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ فَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَالْحَقُّ هُوَ الْإِسْلَامُ بِكَامِلِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [3 \ 85] . وَأَمَّا الْخُسْرَانُ بِتَرْكِ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَالْوُقُوعِ فِي الْهَلَعِ وَالْفَزَعِ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [22 \ 11] . تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فِي حَقِيقَةِ خُسْرَانِ الْإِنْسَان اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ هُوَ عُمُرُهُ ; كُلِّفَ بِإِعْمَالِهِ فِي فَتْرَةِ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ لَهُ كَالسُّوقِ. فَإِنْ أَعْمَلَهُ فِي خَيْرٍ رَبِحَ، وَإِنْ أَعْمَلَهُ فِي شَرٍّ خَسِرَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الْآيَةَ [9 \ 111] . وَقَوْلُهُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ [61 \ 10 - 11] . وَفِي الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» . وَفِي آخِرِهِ «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ رَأْسَ مَالِ الْإِنْسَانِ عُمُرُهُ. وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْعُمُرِ جَاءَ قَسِيمَ الرِّسَالَةِ وَالنَّذَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [35 \ 37] . وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى. وَهَدَى كُلَّ إِنْسَانٍ النَّجْدَيْنِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَةً فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلَةً فِي النَّارِ. فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا كَانَ مَآلُهُ إِلَى مَنْزِلَةِ الْجَنَّةِ، وَسَلِمَ مِنْ مَنْزِلَةِ النَّارِ، وَمَنْ كَفَرَ كَانَ مَآلُهُ إِلَى مَنْزِلَةِ النَّارِ، وَتَرْكِ مَنْزِلَتِهِ فِي الْجَنَّةِ. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْقَبْرِ: «أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ فِي قَبْرِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، وَيُقَالُ لَهُ: ذَاكَ مَقْعَدُكُ مِنَ النَّارِ لَوْ لَمْ تُؤْمِنْ ثُمَّ يُقْفَلُ عَنْهُ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَنْزِلُكَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَيَقُولُ: رَبِّ، أَقِمِ السَّاعَةَ» . وَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَانَ عَلَى الْعَكْسِ تَمَامًا، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مَنْزِلَتَهُ فِيهَا، وَتَبْقَى مَنَازِلُ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ خَالِيَةً فَيَتَوَارَثُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَتَبْقَى مَنَازِلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ خَالِيَةً، فَتُوَزَّعُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، وَهُنَا يَظْهَرُ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ; لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ مَنْزِلَةً فِي الْجَنَّةِ وَذَهَبَ إِلَى مَنْزِلَةٍ فِي النَّارِ، فَهُوَ بِلَا شَكٍّ خَاسِرٌ، وَإِذَا تَرَكَ مَنْزِلَتَهُ فِي الْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ وَأَخَذَ هُوَ بَدَلًا عَنْهَا مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ فِي النَّارِ، كَانَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ. أَمَّا فِي غَيْرِ الْكَافِرِ وَفِي عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْخُسْرَانَ فِي التَّفْرِيطِ بِحَيْثُ لَوْ دَخَلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 الْجَنَّةَ وَلَمْ يَنَلْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ يُحِسُّ بِالْخُسْرَانِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ، وَلَمْ يُنَافِسْ فِعْلَ الْخَيْرِ، لِيَنَالَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ. فَهَذِهِ السُّورَةُ فِعْلًا دَافِعٌ لِكُلِّ فَرْدٍ إِلَى الْجِدِّ وَالْعَمَلِ الْمُرْبِحِ، وَدَرَجَاتُ الْجَنَّةِ رَفِيعَةٌ، وَمَنَازِلُهَا عَالِيَةٌ مَهْمَا بَذَلَ الْعَبْدُ مِنْ جُهْدٍ، فَإِنَّ أَمَامَهُ مَجَالٌ لِلْكَسْبِ وَالرِّبْحِ، نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ وَالْفَلَاحَ. وَقَدْ قَالُوا: لَا يَخْرُجُ إِنْسَانٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا حَزِينًا، فَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَعَلَى إِسَاءَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَلِتَقْصِيرِهِ، وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [41] . فَالْخَوْفُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ أَمَامَهُمْ، وَالْحُزْنُ عَلَى الْمَاضِي خَلْفَهُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُبَيِّنُ خَطَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَشَعُرَ بِأَيَّامِهِ الْمَعْدُودَةِ وَسَاعَاتِهِ الْمَحْدُودَةِ، وَأَرَادَ زِيَادَةَ يَوْمٍ فِيهَا، يَتَزَوَّدُ مِنْهَا أَوْ سَاعَةٍ وَجِيزَةٍ يَسْتَدْرِكُ بَعْضًا مِمَّا فَاتَهُ، لَمْ يَسْتَطِعْ لِذَلِكَ سَبِيلًا، فَيَشْعُرُ بِالْأَسَى وَالْحُزْنِ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا كَسْبٍ وَلَا فَائِدَةٍ، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ مُرْبِحَةً لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا الْإِنْسَانُ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» . أَيْ: أَنَّهُمَا يَمْضِيَانِ لَا يَسْتَغِلُّهُمَا فِي أَوْجِهِ الْكَسْبِ الْمُكْتَمِلَةِ، فَيُفَوَّتَانِ عَلَيْهِ بِدُونِ عِوَضٍ يُذْكَرُ، ثُمَّ يَنْدَمُ وَلَاتَ حِينَ مَنْدَمٍ. كَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: بَدَّلَتْ بِالْجُمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرَا ... وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدُّرِّ دُرَرَا كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا تَنْبِيهٌ فِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ تَقْبِيحُ التَّلَهِّي بِالتَّكَاثُرِ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ سَبَبَهُ الْجَهْلُ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَمَا أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى بَاغَتَهُمُ الْمَوْتُ. وَهُنَا إِشْعَارٌ أَيْضًا بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْخُسْرَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْإِنْسَانُ، هُوَ الْجَهْلُ الَّذِيُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 يَجُرُّ إِلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَيُسَاعِدُ عَلَى هَذَا قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الْأَمَلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [57 \ 16] . تَنْبِيهٌ آخَرُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، نَصَّ عَلَى الْإِنْسَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ كَالْإِنْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [46 \ 18] . وَتَقَدَّمَ بَيَانُ تَكْلِيفِ الْجِنِّ بِالدَّعْوَةِ وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ. هَذَا هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْسَانِ الْمُتَقَدِّمِ، مِمَّا دَلَّ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْإِيمَانُ لُغَةً التَّصْدِيقُ وَشَرْعًا الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِأَرْكَانِ الْإِيمَانِ السِّتَّةِ، فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ": الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ، وَمَقَالَاتُهُمْ مَعْرُوفَةٌ. وَالْجُمْهُورُ: أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ. فَالْعَمَلُ دَاخِلٌ فِيهِ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ الْعَمَلَ شَرْطٌ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا، أَيْ أَنَّ الْإِيمَانَ يَصْدُقُ بِالِاعْتِقَادِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ شَرْطٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْإِيمَانِ، إِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ مِنَ الْعَمَلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِكَوْنِ الْإِيمَانِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَدُّ الِاعْتِقَادِ وَالنُّطْقِ، وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْعَبْدُ مِنَ الْعَمَلِ، قِصَّةُ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ عِنْدَ بَدْءِ الْمَعْرَكَةِ، وَقَاتَلَ، وَاسْتَشْهَدَ وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ رَكْعَةً، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِقَادِ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، كَمَا كَانَ يَعْتَقِدُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَلِمَةً يُحَاجُّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَقَدَ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُفَصَّلَةً. وَالصَّالِحَاتُ: جَمْعُ صَالِحَةٍ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهُ وَشُرُوطُ كَوْنِ الْعَمَلِ صَالِحًا بِأَدِلَّتِهِ مِنْ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَعَمَلَهُ صَاحِبُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَكَوْنِهِ صَادِرًا مِنْ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ، إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ. يُعْتَبَرُ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّ التَّوَاصِيَ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: الْحَقُّ كُلُّ مَا كَانَ ضِدَّ الْبَاطِلِ، فَيَشْمَلُ عَمَلَ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكَ الْمَعَاصِي. وَاعْتَبَرَ هَذَا أَسَاسًا مِنْ أُسُسِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، بِقَرِينَةِ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، أَيْ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ: الْحَقُّ هُوَ الْقُرْآنُ ; لِشُمُولِهِ كُلَّ أَمْرٍ وَكُلَّ نَهْيٍ، وَكُلَّ خَيْرٍ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْقُرْآنِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [17 \ 105] . وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [39 \ 2] . وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَقِّ تَشْمَلُ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا، أُصُولَهَا وَفُرُوعَهَا، مَاضِيَهَا وَحَاضِرَهَا، مِنْ ذَلِكَ مَا وَصَّى اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَعُمُومًا، مِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [42 \ 13] . وَإِقَامَةُ الدِّينِ الْقِيَامُ بِكُلِّيَّتِهِ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ عَمَلَ الرُّسُلِ لِأُمَمِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَنَفَّذَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [2 \ 132] . وَمِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ يَعْقُوبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [2 \ 133] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 فَهَذَا تَوَاصِي الْأُمَمِ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ بِالْعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي [19 \ 31 - 32] . وَكَذَلِكَ الْحَالَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مَاثِلَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، لِتَرَابُطِ الْأُسْرَةِ، فَفِي الْوَالِدَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [31 \ 14 - 15] . وَفِي الْأَبْنَاءِ قَالَ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4 \ 11] . وَفِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ أَوَامِرٌ وَنَوَاهِي، عِبَادَاتٌ وَمُعَامَلَاتٌ، جَاءَتْ آيَاتُ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمَهُ فَلْيَقْرَأْ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [6 \ 151 - 153] . تِلْكَ الْوَصَايَا الْجَامِعَةُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ الْمُوَصِّدَةُ أَبْوَابَ الشَّرِّ وَالْمُذَيَّلَةُ بِهَذَا التَّبْيِينِ وَالتَّعْرِيفِ " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ". وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَرْبِطَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لَكَانَتِ النَّتِيجَةُ كَالْآتِي فِي قَوْلِهِ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، إِحَالَةً عَلَى تِلْكَ الْوَصَايَا، وَهِيَ شَامِلَةٌ جَامِعَةٌ وَمُعَنْوَنٌ لَهَا بِأَنَّهَا صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 فَكَأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ: وَتَوَاصَوْا بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَاسْتَقِيمُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [1 \ 6] ، وَهَذَا صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ فَاتَّبِعُوهُ. فَكَانَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوَاصِي بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَاتِّبَاعِهِ، وَيَأْتِي عَقِبَهَا قَوْلُهُ: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [103 \ 3] ، بِمَثَابَةِ التَّثْبِيتِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِذِ الصَّبْرُ لَازِمٌ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَاتِ، كَمَا هُوَ لَازِمٌ لِتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ. وَتِلْكَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ جَمَعَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فِعْلًا وَتَرْكًا، وَكَذَلِكَ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَقُولُهُ دُعَاةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالدَّعْوَةَ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِهِ، فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَالِبًا مَنْ يَقُومُ بِهِ يَتَعَرَّضُ لِأَذَى النَّاسِ، فَلَزِمَهُمُ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يُوصِيهِ وَجَامِعًا فِي وَصِيَّتِهِ وَصِيَّةَ سُورَةِ الْعَصْرِ إِذْ قَالَ: يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [31 \ 17] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ قَوَاعِدِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالتَّفْصِيلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ [5 \ 105] ، فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. فَصَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِحَقٍّ جَامِعَةً لِأُصُولِ الرِّسَالَةِ. كَمَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَأَمَّلَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ. قَوْلُهُ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، جَاءَ الْحَثُّ عَلَى التَّوَاصِي بِالرَّحْمَةِ أَيْضًا مَعَ الصَّبْرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [90 \ 17] . وَبِهَذِهِ الْوَصَايَا الثَّلَاثِ: بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَالتَّوَاصِي بِالْمَرْحَمَةِ، تَكْتَمِلُ مُقَوِّمَاتُ الْمُجْتَمَعِ الْمُتَكَامِلِ قِوَامُهُ الْفَضَائِلُ الْمُثْلَى، وَالْقِيَمُ الْفُضْلَى. لِأَنَّ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ إِقَامَةَ الْحَقِّ، وَالِاسْتِقَامَةَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 وَبِالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، يَسْتَطِيعُونَ مُوَاصَلَةَ سَيْرِهِمْ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ، وَيَتَخَطَّوْنَ كُلَّ عَقَبَاتٍ تُوَاجِهُهُمْ. وَبِالتَّوَاصِي بِالْمَرْحَمَةِ: يَكُونُونَ مُرْتَبِطِينَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَتِلْكَ أُعْطِيَاتٌ لَمْ يُعْطِهَا إِلَّا الْقُرْآنُ وَأَعْطَاهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُوجَزَةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. تَنْبِيهٌ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْخُسْرَانِ، وَفَوْزِهِمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِيمَانِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ أَنْفُسِهِمْ بَلْ تَعَدَّوْا إِلَى غَيْرِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى مَا فَازُوا بِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» اهـ. مُلَخَّصًا. وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [41 - 35] . فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ إِزَاءَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ. قَوْمٌ آمَنُوا وَقَالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَوْمٌ ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُمْ إِلَى دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ وَهُمْ أَحْسَنُ قَوْلًا بِلَا شَكٍّ. وَقَوْمٌ عَادُوا الدُّعَاةَ وَأَسَاءُوا إِلَيْهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ مَوْقِفَ الدُّعَاةِ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسِيئِينَ فِي غُضُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ، أَيْ: إِسَاءَةُ الْمُسِيئِينَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَيُصْبِحُوا أَوْلِيَاءَ لَكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنِ ارْتَفَعَ إِلَيْهَا وَسَلَكَ مَسْلَكَهَا إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 تَنْبِيهٌ كُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ قَوْلَهُ لِلدُّعَاةِ عَدُوَّانِ: أَحَدُهُمَا مِنَ الْإِنْسِ. وَالْآخَرُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ لِكَيْفِيَّةِ التَّغَلُّبِ عَلَيْهِمَا وَاكْتِفَاءِ شَرِّهِمَا. أَمَّا عَدَاوَةُ الْإِنْسِ فَبِمُقَابَلَةِ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ، فَيُصْبِحُ وَلِيًّا حَمِيمًا. وَأَمَّا عَدُوُّ الْجِنِّ فَبِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [41 \ 36] . نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ قَدَّمَ مَبْحَثَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [5 \ 105] . وَذَكَرَ سُورَةَ الْعَصْرِ عِنْدَهَا، وَعَقَدَ مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةً فِي مَنْهَجِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، بِمَا لَا غِنَى عَنْهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَة ُ الْهُمَزَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ «وَيْلٌ» . فَقِيلَ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [45 \ 7] ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مَصْدَرٌ لَا لَفْظَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا مَعَ أَنَّهَا نَكِرَةٌ كَوْنُهَا فِي مَعْرِضِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ. وَقَدِ اسْتَظْهَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا اسْتَظْهَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، مَا جَاءَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، أَنَّهُمْ قَالُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهَا: قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [21 \ 14] ، فَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ، وَعِنْدَ التَّقْبِيحِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَصْلُ الْوَيْلِ لَفْظَةُ السُّخْطِ وَالذَّمِ، وَأَصْلُهَا وَيٌّ لِفُلَانٍ، ثُمَّ كَثُرَتْ فِي كَلَامِهِمْ فَوُصِلَتْ بِاللَّامِ، وَيُقَالُ: وَيْحٌ بِالْحَاءِ لِلتَّرَحُّمِ اهـ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِقَوْلِ الرَّازِيِّ أَيْضًا قَوْلُ قَارُونَ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [28 \ 82] . وَمِثْلُهُ لِلتَّعَجُّبِ فِي قَوْلِهِ: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [11 \ 72] . وَقَوْلِهِ: قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [5 \ 31] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 فَالظَّاهِرُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْهَلَكَةِ، أَوْ شِدَّةِ التَّعَجُّبِ مِمَّا يُشْبِهُ الْمُسْتَبْعَدَ. وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: هُوَ هَذَا الْمَعْنَى، وَسَبَبُ الْخِلَافِ قَدْ يَرْجِعُ لِمَجِيئِهَا تَارَةً مُطْلَقَةً كَقَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 15] ، وَهُنَا وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. وَيَجِيءُ مَعَ ذِكْرِ مَا يَتَوَعَّدُ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] ، وَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [43 \ 65] ، فَذَكَرَ النَّارَ وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [19 \ 37] ، فَهِيَ فِي هَذَا كُلِّهِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، مِمَّا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ النَّارِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا دُونَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، قِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْغِيبَةُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ: تُدْلِي بِوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الْهَامِزُ الْهُمَزَهْ وَعَزَا هَذَا لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الَّذِي يُصِيبُ النَّاسَ وَيَطْعَنُ فِيهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ كُلٍّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ مُفْرَدَةً عَنِ الْأُخْرَى، بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ. فَفِي الْهُمَزَةِ قَوْلُهُ: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [68 \ 11] ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ. وَفِي الْهُمَزَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [49 \ 11] . وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [9 \ 58] ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَقْرَبُ لِلتَّنَقُّصِ وَالْعَيْبِ فِي الْحُضُورِ لَا فِي الْغِيبَةِ، فَتَغَايُرُ الْهَمْزِ فِي الْمَعْنَى، وَفِي الصِّفَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْقَبِيحَيْنِ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِكَلِمَةِ «وَيْلٌ» . وَقَدْ قِيلَ: الْهَمْزُ بِالْيَدِ: وَقِيلَ: بِاللِّسَانِ فِي الْحَضْرَةِ، وَالْهَمْزُ فِي الْغَيْبَةِ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 وَقِيلَ: الْهَمْزُ بِالْيَدِ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ، وَالْغَمْزُ بِالْعَيْنِ، وَكُلُّهَا مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ تَشْتَرِكُ فِي تَنَقُّصِ الْآخَرِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ . هَذَا الْوَصْفُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ فِيمَا قَبْلَهُ، إِذِ الْمَوْصُولُ هُنَا يَدُلُّ مِنْ كُلٍّ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَيْسَ الْعَيْبُ فِي جَمَعَ مَالًا بَلْ فِي «عَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ» . وَفِي «عَدَّدَهُ» عِدَّةُ مَعَانٍ: قِيلَ: عَدَّهُ كُلَّ وَقْتٍ وَآخَرَ، تَحَفُّظًا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَدَّدَهُ كَنَزَهُ. وَقِيلَ: عَدَّدَهُ أَعَدَّهُ لِلْحَاجَةِ. وَقُرِئَ: «جَمَّعَ وَعَدَّدَ» بِالتَّشْدِيدِ وَبِالتَّخْفِيفِ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ شُحًّا وَبُخْلًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . هَذَا الْحُسْبَانُ هُوَ الْمَذْمُومُ عَلَيْهِ، وَالْمُنْصَبُّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ ; لِأَنَّهُ كَفَرَ بِالْبَعْثِ. كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ فِي الْكَهْفِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [18 \ 35 - 36] . قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. كَلَّا: رَدْعٌ وَزَجْرٌ لَهُ عَلَى حُسْبَانِهِ الْبَاطِلِ، وَلَيُنْبَذَنَّ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَلَّا. وَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [101 \ 9] ، أَيْ: يُنْبَذُ نَبْذًا، فَيَهْوِي عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ. عِيَاذًا بِاللَّهِ. وَالْحُطَمَةُ: فُعَلَةٌ مِنَ الْحَطْمِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، ثُمَّ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ. وَقَدْ فُسِّرَتْ بِمَا بَعْدَهَا نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [104 \ 6] ، وَسُمِّيَتْ حُطَمَةً لِأَنَّهَا تُحَطِّمُ كُلَّ مَا أُلْقِيَ فِيهَا، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ. قِيلَ: مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ. بِأَنَّ الْعَمَدَ صَارَتْ وَصْدًا لِلْبَابِ كَالْقُفْلِ، وَالْغَلْقِ لَهُ. وَقِيلَ: فِي عَمَدٍ: أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عَمَدٍ كَالْقَصَبَةِ، مُجَوَّفَةِ الدَّاخِلِ. وَقِيلَ: فِي عَمَدٍ: أَيْ تُوضَعُ أَرْجُلُهُمْ فِي الْعَمَدِ عَلَى صُورَةِ الْقَيْدِ فِي الْخَشَبَةِ الْمُمْتَدَّةِ، يُشَدُّ فِيهَا عَدَدٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ فِي أَرْجُلِهِمْ. وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَمَدَ بِمَعْنَى الْقَصَبَةِ الْمُجَوَّفَةِ تُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [25 \ 13] . فَيَكُونُ أَرْجَحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَة ُ الْفِيل قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السِّجِّيلِ هُنَا. فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ السِّجِّينُ، أَبُدِلَتِ النُّونُ لَامًا، وَالسِّجِّينُ النَّارُ. وَقِيلَ: إِنَّ السِّجِّيلَ مِنَ السِّجِّلِّ، كَأَنَّهُ عَلَمٌ لِلدِّيوَانِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ عَذَابُ الْكُفَّارِ، كَمَا أَنَّ سِجِّينًا لِدِيوَانِ أَعْمَالِهِمْ وَاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْإِسْجَالِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، وَمِنْهُ السِّجِّلُّ الدَّلْوُ الْمَمْلُوءُ مَاءً، وَهِيَ حِجَارَةٌ مُرْسَلَةٌ لِقَوْلِهِ: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ سِجِّينًا، عَنِ الدِّيوَانِ أَعْمَالُهُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [83 \ 7] . وَقِيلَ: مَعْنَى سِجِّيلٍ سِتْكٌ وَطِينٌ، يَعْنِي بَعْضَ حَجَرٍ وَبَعْضَ طِينٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الشَّدِيدُ. وَقِيلَ: السِّجِّيلُ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا. وَتَقَدَّمَ لِلشِّيخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، تَرْجِيحُ أَنَّهَا مِنْ طِينٍ شَدِيدِ الْقُوَّةِ. وَهَذَا مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ لِمَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [51 \ 32 - 34] فَنَصَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ طِينٍ. وَالْحِجَارَةُ مِنَ الطِّينِ: هِيَ الْآجُرُّ وَهُوَ الطِّينُ الْمَطْبُوخُ حَتَّى يَتَحَجَّرَ. وَجَاءَ النَّصُّ الْآخَرُ أَنَّهَا مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُوضٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [11 \ 82] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 وَقِيلَ فِيهَا: كَالْحِمِّصَةِ وَالْعَدَسَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ لِأَصْحَابِ الْفِيلِ، وَقِصَّتُهُمْ طَوِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ. تَنْبِيهٌ قَدْ أَوْرَدْنَا نُصُوصَ مَعْنَى سِجِّيلٍ، وَتَرْجِيحَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ: أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ شَدِيدِ الْقُوَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا قِيلَ مِنِ اسْتِبْعَادِ ذَلِكَ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ صَرَفَ مَعْنَاهَا إِلَى غَيْرِ الْحِجَارَةِ الْمَحْسُوسَةِ. أَمَّا مَنِ اسْتَبْعَدَهَا، فَقَدْ حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَقَالُوا: لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فِي الْحِجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ مِثْلَ الْعَدَسَةِ مِنَ الثِّقْلِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ مِنْ رَأْسِ الْإِنْسَانِ وَيَخْرُجَ مِنْ أَسْفَلِهِ، لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ الْجَبَلُ الْعَظِيمُ خَالِيًا عَنِ الثِّقَلِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي وَزْنِ التَّبِنَةِ، وَذَلِكَ يَرْفَعُ الْأَمَانَ عَنِ الْمُشَاهَدَاتِ. فَإِنَّهُ مَتَى جَازَ ذَلِكَ فَلْيَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا شُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ، وَلَا نَرَاهَا، وَأَنْ يَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ فِي عَيْنِ الضَّرِيرِ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ بِالْمَشْرِقِ، وَيَرَى قِطْعَةً مِنَ الْأَرْضِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي مَذْهَبِنَا، إِلَّا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهَا لَا تَقَعُ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْكِيهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 606 سِتِّمِائَةٍ وَسِتٍّ، فَنَرَى اسْتِبْعَادَهُمْ إِيَّاهَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَحْكِيمِ الْعَقْلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ دَائِمًا فَوْقَ قَانُونِ الْعَقْلِ، بَلْ إِنَّ تَصَوُّرَاتِ الْعَقْلِ نَفْسِهِ مَنْشَؤُهَا مِنْ تَصَوُّرَاتِنَا لِمَا نُشَاهِدُهُ. وَإِذَا حُدِّثَ الْعَقْلُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْهُ أَوْ يَعْلَمْ كُنْهَ وُجُودِهِ لَاسْتَبْعَدَهُ كَمَا هُوَ فِي وَاقِعِنَا الْيَوْمَ، لَوْ حُدِّثَتْ بِهِ الْعُقُولُ سَابِقًا مِنْ نَقْلِ الْحَدِيثِ، وَالصُّورَةِ عَلَى الْأَثِيرِ، وَتَوْجِيهِ الطَّائِرَاتِ وَأَمْثَالِهَا، لَمَا قَوِيَ عَلَى تَصَوُّرِهَا لِأَنَّهَا فَوْقَ نِطَاقِ مَحْسُوسَاتِهِ وَمُشَاهَدَاتِهِ. وَحَتَّى نَحْنُ لَوْ لَمْ يُسَايِرْهَا مَنْ عَلِمَ بِمَا يَحْمِلُهُ الْأَثِيرُ مِنْ تَيَّارٍ كَهْرَبَائِيٍّ، وَمَا لَهُ مَنْ دَوْرٍ فَعَّالٍ فِي ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَنَا تَصَوُّرُهُ. ثُمَّ مَنْ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ تِلْكَ الْجِبَالَ سَيَأْتِي يَوْمٌ تَكُونُ فِيهِ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أَخَفَّ مِنَ التَّبِنَةِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 الَّتِي مَثَّلُوا بِهَا، بَلْ سَتَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] ، فَظَهَرَ بُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اسْتَبْعَدَهَا لِعَدَمِ إِدْرَاكِ الْعَقْلِ لَهَا. أَمَّا مَنْ يُؤَوِّلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى مَعْنًى آخَرَ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْمَبْدَأِ، إِلَّا أَنَّهُ أَثْبَتَ الْأَصْلَ وَفَسَّرَهُ بِمَا يَتَنَاسَبُ وَالْعَقْلَ. وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ وَتِلْمِيذِهِ السَّيِّدِ رَشِيدْ رِضَا، إِذْ فَسَّرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سِجِّيلٍ، بِأَنَّهُ وَبَاءُ الْجَدَرِيِّ. وَبِالتَّالِي: فَالطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ: هِيَ الْبَعُوضُ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَدِ اعْتَذَرَ لَهُ السَّيِّدْ قُطْبْ: بِأَنَّ الدَّافِعَ لِذَلِكَ هُوَ مَا كَانَ شَائِعًا فِي عَصْرِهِ مِنْ مَوْجَاتٍ مُتَضَارِبَةٍ، مَوْجَةِ انْحِرَافٍ فِي التَّفْكِيرِ نَحْوَ الْإِسْلَامِ وَاسْتِغْلَالِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، كَمِثَالٍ عَلَى مَا يُشْبِهُ الْأَبَاطِيلَ فِي تَشْوِيهِ حَقَائِقِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى طُوفَانٌ عِلْمِيٌّ حَدِيثٌ، مِنْ إِنْتَاجِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فَبَدَلًا مِنْ أَنْ تُثْبِتَ حَادِثَةً كَهَذِهِ صُرِفَتْ إِلَى مَا يَأْلَفُهُ الْعَقْلُ مِنْ إِيقَاعِ مَيْكُرُوبِ الْجَدَرِيِّ بِجَيْشِ أَبْرَهَةَ حَتَّى أَهْلَكَهُ، لِكَيْ لَا يَتَصَادَمَ فِي إِثْبَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِوَاقِعِ الْعَقْلِيَّةِ الْعَلْمَانِيَّةِ الْحَدِيثَةِ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ السَّيِّدْ قُطْبْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَلَكِنْ مِنَ النَّاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالنُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ: أَنَّ الْحِجَارَةَ الَّتِي مِنْ سِجِّيلٍ، جَاءَ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ خَاصَّةً بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، بَلْ أُلْقِيَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، بَعْدَ أَنْ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، فَمَا مَوْقِعُ الْجَدَرِيِّ مِنْهُمْ بَعْدَ إِهْلَاكِهِمْ بِإِفْكِهَا الْمَذْكُورَةِ؟ ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا: أَنَّهَا مَنْ طِينٍ، فَأَيْنَ الطِّينُ مِنَ الْجَرَاثِيمِ الْجَدَرِيَّةِ؟ وَمِنَ النَّاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ: مِنْ أَيْنَ جِيءَ بِمَكْرُوبِ الْجَدَرِيِّ؟ وَأَيْنَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ؟ وَمَتَى كَانَ مَيْكُرُوبُ الْجَدَرِيِّ أَوْ غَيْرُهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ قُرَشِيٍّ وَحَبَشِيٍّ؟ وَمَتَى كَانَ أَيُّ مَيْكُرُوبٍ يَفْتِكُ بِقَوْمٍ وَبِسُرْعَةٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، مَعَ أَنَّ: فَجَعَلَهُمْ، تُشْعِرُ بِالسُّرْعَةِ فِي إِهْلَاكِهِمْ، وَالْعَصْفِ الْيَابِسِ الَّذِي تَعْصِفُ بِهِ الرِّيحُ لِخِفَّتِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 وَمَتَى كَانَ وُجُودُ الْجَدَرِيِّ طَفْرَةً وَفُجَاءَةً، إِنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَالَاتٍ فَرْدِيَّةٍ، ثُمَّ يَنْتَشِرُ هَذَا مِنَ النَّاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِدْرَاكِ الْعَقْلِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ مَيْكُرُوبِ الْجَدَرِيِّ. وَلَكِنَّ مُلَابَسَاتِ الْحَادِثَةِ تَمْنَعُ مِنْ تَصَوُّرِ ذَلِكَ عَقْلًا لِعَدَمِ انْتِشَارِهِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الْمِنْطَقَةِ، وَلِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِعْلًا بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَلِعَدَمِ أَيْضًا تَصَوُّرِ مَجِيئِهِ فُجَاءَةً، فَدَلَّ الْعَقْلُ نَفْسُهُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى إِذَا رَدَدْنَا خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْعَقْلِ لَهَا، فَكَيْفَ نُثْبِتُ مَثَلَ حَنِينِ الْجِذْعِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَى فِي كَفِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ شَاهَدَ الْعَقْلُ الصُّورَةَ، وَهِيَ خُرُوجُ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ لِقَوْمِ صَالِحٍ، بَلْ إِنَّنَا الْآنَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ نُشَاهِدُ مَا لَا نُدْرِكُ كُنْهَهُ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَنَسْمَعُ الصَّوْتَ مِنَ الْجَمَادِ مُسَجَّلًا عَلَى شَرِيطٍ بَسِيطٍ جِدًّا. فَهَلْ يَنْفِي الْبَاقِي؟ بَلْ كَيْفَ أَثْبَتَ النَّصَارَى لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ. وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَعَمَلَ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَكَيْفَ أَثْبَتَ الْيَهُودُ لِمُوسَى أَمْرَ الْعَصَا وَشَقَّ الْبَحْرِ؟ وَأَيْنَ الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ الْوَاقِعُ أَنَّنَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَعَ كُلِّ قَضِيَّةٍ، يَجِبُ أَنْ نَلْتَزِمَ جَانِبَ الِاعْتِدَالِ، لَا هُوَ جَرْيٌ وَرَاءَ كُلِّ خَبَرٍ، وَلَوْ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَلَا هُوَ رَدٌّ لِكُلِّ نَصٍّ وَلَوْ كَانَ صَرِيحًا قُرْآنِيًّا، بَلْ كَمَا قَالَ السَّيِّدْ قُطْبْ فِي ذَلِكَ: يَجِبُ أَنْ نَسْتَمِدَّ فِكْرَنَا مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَا يُقَرِّرُهُ نَعْتَقِدُهُ وَنَقُولُ بِهِ. وَقَدْ نَاقَشْنَا هَاتَيْنِ الْفِكْرَتَيْنِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اسْتَبْعَدَتْ ذَلِكَ كُلِّيَّةً، وَالْحَدِيثَةَ الَّتِي أَوَّلَتْهَا. وَنُضِيفُ شَيْئًا آخَرَ فِي جَانِبِ الْفِكْرَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ لَعَلَّ مِمَّا حَدَا بِأَصْحَابِهَا إِلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَمْ يُرَ الْجَدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مِثْلَ تِلْكَ السَّنَةِ. وَقِيلَ أَيْضًا: لَمْ يُرَ شَجَرُ الْحَنْظَلِ، إِلَّا فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ. فَيُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَبْعِدُ هُنَا أَنْ يَكُونَ إِهْلَاكُ هَذَا الْجَيْشِ الْكَبِيرِ بِتِلْكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 الْحِجَارَةِ فِي مَكَانِ مُعَسْكَرِهِ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَوُقُوعَ الْجُثَثِ مُصَابَةً بِهَا، لَا يُمْنَعُ أَنْ تَتَعَفَّنَ ثُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَكْرُوبَ الْجَدَرِيِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ آخَرُ قَالُوا: إِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْجَيْشِ نَصَارَى وَهُمْ أَهْلُ دِينٍ وَكِتَابٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَثَنِيُّونَ لَا دِينَ لَهُمْ، وَالْكَعْبَةُ مُمْتَلِئَةٌ بِالْأَصْنَامِ، فَكَيْفَ أَهْلَكَ اللَّهُ النَّصَارَى أَصْحَابَ الدِّينِ وَلَمْ يُسَلِّطْهُمْ عَلَى الْوَثَنِيِّينَ؟ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَجْوِبَةٍ. مِنْهَا: أَنَّ الْجَيْشَ ظَالِمٌ بَاغٍ، وَالْبَغْيُ مَرْتَعُهُ وَخِيَمٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَظْلُومُ أَقَلَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الْحَدِيثُ «فِي نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا» . وَمِنْهَا: أَنَّ الْوَثَنِيَّةَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَغَزْوَ هَذَا الْجَيْشِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِرْهَاصٌ لِمَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ وُلِدَ فِي هَذَا الْعَامِ نَفْسِهِ. وَكُلُّهَا وَإِنْ كَانَتْ لَهَا وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْدُو لِي وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي نَشْأَةِ الْبَيْتِ وَإِقَامَتِهِ، إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ رَفَعَ قَوَاعِدَهُ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ فِي رِحَابِهِ، وَكَانَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا لِلْعَاكِفِينَ فِيهِ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِنَّمَا الْوَثَنِيَّةُ طَارِئَةٌ عَلَيْهِ وَإِلَى أَمَدٍ قَصِيرٍ مَدَاهُ وَدَنَا مُنْتَهَاهُ لِدِينٍ جَدِيدٍ. وَالْمَسِيحِيَّةُ بِنَفْسِهَا تَعْلَمُ ذَلِكَ وَتَنُصُّ عَلَيْهِ وَتُبَشِّرُ بِهِ، فَكَانَتْ مُعْتَدِيَةً عَلَى الْحَقَّيْنِ مَعًا، حَقِّ اللَّهِ فِي بَيْتِهِ، وَالَّذِي تَعْلَمُ حُرْمَتَهُ وَمَا لَهُ، وَحَقِّ الْعِبَادِ الَّذِينَ حَوْلَهُ. وَكَانَتْ لَوْ سُلِّطَتْ عَلَيْهِ بِمَثَابَةِ الْمُنْتَصِرِ عَلَى مَبْدَأٍ صَحِيحٍ مَعَ فَسَادِهَا، مَبْدَأِ صِحَّةِ وَسَلَامَةِ بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَوَضْعِهِ، الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ خَصَائِصِهِ أَنْ يَكُونَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا. فَكَيْفَ لَا يَأْمَنُ هُوَ نَفْسُهُ مِنْ غَزْوِ الْغُزَاةِ وَطُغْيَانِ الطُّغَاةِ، فَصَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى صِيَانَةً لِمَبْدَأِ وُجُودِهِ، وَحِفَاظًا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ فِي الْأَرْضِ، وَيَكْفِي نِسْبَتُهُ لِلَّهِ «بَيْتُ اللَّهِ» . وَقَدْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ إِذْ قَالَ لِأَبْرَهَةَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ وَلِلْبَيْتِ رَبٌّ يَحْمِيهِ. وَأَتَى بَابَ الْكَعْبَةِ فَتَعَلَّقَ بِهَا وَقَالَ: لَاهُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْـ ... نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ عَدَدًا يُوَالِكْ إِنْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ الْحَرَا ... مَ فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكْ وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... إِنَّهُمْ لَنْ يَقْهَرُوا قُوَاكَاُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ قُرَيْشٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِإِيلَاف ِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. اخْتُلِفَ فِي اللَّامِ فِي «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ» ، هَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَى أَيِّ مَعْنًى. أَمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا، وَعَلَى أَيِّ مَعْنًى. فَمَنْ قَالَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، قَالَ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَعَلَ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [105 \ 5] . وَتَكُونُ بِمَعْنَى لِأَجْلِ إِيلَافِ قُرَيْشٍ يَدُومُ لَهُمْ وَيَبْقَى تَعْظِيمُ الْعَرَبِ إِيَّاهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ، أَوْ بِمَعْنَى إِلَى أَيْ جَعَلْنَا الْعَدُوَّ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، هَزِيمَةً لَهُ وَنُصْرَةً لِقُرَيْشٍ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ، إِلَى نِعْمَةِ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَمَنْ قَالَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا، قَالَ «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ» الَّذِي أَلِفُوهُ أَيْ بِمَثَابَةِ التَّقْرِيرِ لَهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ، «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ» . أَيْ أَثْبَتَهُ إِلَيْهِمْ وَحَفِظَهُ لَهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَدَ جَوَازَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فَصْلُ السُّورَتَيْنِ عَنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلتَّعَجُّبِ، أَيِ اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِغَيْرِهِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ مَعًا فِي الصَّلَاةِ فِي رَكْعَةٍ قَرَأَ بِهِمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَبِأَنَّ السُّورَتَيْنِ فِي أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مُتَّصِلَتَانِ، وَلَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْقَوْلَيْنِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ أَحَدَهُمَا، وَلَا يَبْعُدِ اعْتِبَارُ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 وَمَا اعْتَرَضَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ يُلْزِمُ عَلَيْهِ اتِّصَالَ السُّورَتَيْنِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ ; لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ اتِّصَالَهُمَا فِي الْمَعْنَى، فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُتَّصِلَةٌ سُوَرُهُ مَعْنًى. أَلَّا تَرَى إِلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَفِيهَا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [1 \ 6] ، فَجَاءَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [2 \ 2] ، وَبَعْدَهَا ذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ وَقَالَ: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [2 \ 5] ، فَأَيُّ ارْتِبَاطٍ أَقْوَى مِنْ هَذَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْهُدَى الَّذِي تَطْلُبُونَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَهُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنْ أَرَادَ اتِّصَالًا حَسًا بِعَدَمِ الْبَسْمَلَةِ، فَنَظِيرُهَا سُورَةُ بَرَاءَةٌ مَعَ الْأَنْفَالِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ بَيْنَهُمَا، اللَّهُمَّ إِلَّا مُصْحَفَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجْهٌ أَرْجَحَ مِنْ وَجْهٍ. وَلِذَا لَمْ يُرَجِّحْ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، سِوَى ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصِحَّةُ الْوَجْهَيْنِ أَقْوَى وَأَعَمُّ فِي الِامْتِنَانِ وَتَعْدَادِ النِّعَمِ. وَالْإِيلَافُ: قِيلَ مِنَ التَّأْلِيفِ، إِذْ كَانُوا فِي رِحْلَتَيْهِمْ يَأْلَفُونَ الْمُلُوكَ فِي الشَّامِ وَالْيَمَنِ، أَوْ كَانُوا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُؤَلَّفِينَ وَمُجَمَّعِينَ، وَهُوَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا التَّجَمُّعِ وَالتَّأَلُّفِ، وَلَوْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ لَفَرَّقَهُمْ وَشَتَّتَهُمْ، وَأَنْشَدُوا: أَبُونَا قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْر وَقِيلَ: مِنَ الْإِلْفِ وَالتَّعَوُّدِ، أَيْ: أَلِفُوا الرِّحْلَتَيْنِ. فَلِلْإِبْقَاءِ لَهُمْ عَلَى مَا أَلِفُوهُ. وَقُرَيْشٌ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: عَلَمٌ عَلَى الْقَبِيلَةِ. وَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنَ النَّقْرَشِ، وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ أَوِ التَّكَسُّبُ وَالْجَمْعُ. وَقِيلَ: مِنْ دَابَّةِ الْبَحْرِ الْمُسَمَّاةِ بِالْقِرْشِ وَهِيَ أَخْطَرُ حَيَوَانَاتِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَابِهِ لِمُعَاوِيَةَ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ ... ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَاُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 تَأْكُلُ الرَّثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا ... تَتْرُكُ فِيهَا لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشًا هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، هُوَ تَفْسِيرٌ «لِإِيلَافِ» سَوَاءٌ عَلَى مَا كَانُوا يُؤَالِفُونَ بَيْنَ الْمُلُوكِ فِي تِلْكَ الرَّحَلَاتِ، أَوْ مَا كَانُوا يَأْلَفُونَهُ فِيهِمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ: الْبَيْتُ الْحَرَامُ، كَمَا جَاءَ فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. بِمَثَابَةِ التَّعْلِيلِ لِمُوجِبِ أَمْرِهِمْ بِالْعِبَادَةِ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي هَيَّأَ لَهُمْ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا سَبَبًا فِي تِلْكَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ وَاجِبِهِمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ وَيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [29 \ 67] وَسَاقَ النُّصُوصَ بِهَذَا الْمَعْنَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. تَنْبِيهٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، رُبِطَ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَمُوجِبِهَا، كَالرَّبْطِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ. فَفِيهِ بَيَانٌ لِمُوجِبِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَحَقِّهِ فِي ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ خَاصًّا بِقُرَيْشٍ. وَهَذَا الْحَقُّ قَرَّرَهُ أَوَّلُ لَفْظٍ فِي الْقُرْآنِ، وَأَوَّلُ نِدَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [1 \ 2] ، كَأَنَّهُ يَقُولُ هُوَ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ، لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَيْ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَرَاحِمُهُمْ إِلَى آخِرِهِ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 وَالثَّانِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [2 \ 21] . ثُمَّ بَيَّنَ الْمُوجِبَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [2 \ 21] . ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 22] . فَهَذِهِ النِّعَمُ تُعَادِلُ الْإِطْعَامَ مِنْ جُوعٍ، وَالْأَمْنَ مِنْ خَوْفٍ، فِي حَقِّ قُرَيْشٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [108 \ 1 - 2] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الشُّكْرَ يَزِيدُ النِّعَمَ وَالْكُفْرَ يُذْهِبُهَا، إِلَّا مَا كَانَ اسْتِدْرَاجًا، فَقَالَ فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [14 \ 7] . وَقَالَ فِي الْكُفْرَانِ وَعَوَاقِبِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [16 \ 112] . وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، أَنْ يُقَابِلُوا نِعَمَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ، وَأَنْ يَشْكُرُوهَا بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَأَنْ يَحْذَرُوا كُفْرَانَ النِّعَمِ. تَنْبِيهٌ آخَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ إِطْعَامِهِمْ مِنْ جُوعٍ وَأَمْنِهِمْ مِنْ خَوْفٍ، نِعْمَةٌ عُظْمَى لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْعَمُ وَلَا يَسْعَدُ إِلَّا بِتَحْصِيلِ النِّعْمَتَيْنِ هَاتَيْنِ مَعًا، إِذْ لَا عَيْشَ مَعَ الْجُوعِ، وَلَا أَمْنَ مَعَ الْخَوْفِ، وَتَكْمُلُ النِّعْمَةُ بِاجْتِمَاعِهِمَا. وَلِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ: «مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَقَدِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» . تَنْبِيهٌ آخَرُ إِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَجَابَةٌ ; لِأَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا لِأَهْلِ الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ [14 \ 37] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 وَقَالَ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [2 \ 129] ، فَأَطْعَمَهُمُ اللَّهُ مِنْ جُوعٍ وَآمَنُهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَة ُ الْمَاعُون قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فِيهِ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُبْهَمٌ بَيَّنَهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى، أَنَّ الْإِيمَانَ بِيَوْمِ الدِّينِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى إِطْعَامِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76 \ 8] . ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا الدَّافِعَ عَلَى إِطْعَامِهِمْ إِيَّاهُمْ: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [76 \ 9 - 10] . وَهُنَا سُؤَالٌ: وَهُوَ لِمَ خَصَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ عَمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ دَعَّ الْيَتِيمَ، وَهُوَ دَفْعُهُ وَزَجْرُهُ، وَعَدَمَ الْحَضِّ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَبِالتَّالِي عَدَمَ إِطْعَامِهِ هُوَ مِنْ عِنْدِهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمَا نَمُوذَجَانِ، وَمِثَالَانِ فَقَطْ. وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: مِثَالٌ لِلْفِعْلِ الْقَبِيحِ. وَالثَّانِي: مِثَالٌ لِلتَّرْكِ الْمَذْمُومِ. وَلِأَنَّهُمَا عَمَلَانِ إِنْ لَمْ يَكُونَا إِسْلَامِيَّيْنِ فَهُمَا إِنْسَانِيَّانِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى تَوْجِيهٌ لِلْجَوَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَخَافُ مِنَ اللَّهِ يَوْمًا عَبُوسًا، وَعَبَّرَ بِالْعَبُوسِ فِي حَقِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِئَلَّا يَعْبَسَ هُوَ فِي وَجْهِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ لِضَعْفِهِمَا. وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ التَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الدِّينِ يَحْمِلُ عَلَى كُلِّ الْمُوبِقَاتِ، إِلَّا أَنَّهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 قَدْ تَجِدُ مَا يَمْنَعُ مِنْهَا، كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالْخَمْرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآخَرِينَ، وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ وَالنَّهْبُ. أَمَّا إِيذَاءُ الْيَتِيمِ وَضَيَاعُ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَلَا يَمْنَعُ إِيذَاءَ هَؤُلَاءِ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ لَدَيْهِمَا الْجَزَاءُ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أُولَئِكَ مِنْهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. وَجُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى أَلَّا تَبْذُلَ إِلَّا بِعِوَضٍ، وَلَا تَكُفَّ إِلَّا عَنْ خَوْفٍ، فَالْخَوْفُ مَأْمُونٌ مِنْ جَانِبَيِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، وَالْجَزَاءُ غَيْرُ مَأْمُولٍ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَبْقَ دَافِعٌ لِلْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَلَا رَادِعٌ عَنِ الْإِسَاءَةِ لَهُمَا إِلَّا الْإِيمَانُ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالْجَزَاءِ، فَيُحَاسَبُ الْإِنْسَانُ عَلَى مِثْقَالِ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: إِنَّ دَعَّ الْيَتِيمِ: هُوَ طَرْدُهُ عَنْ حَقِّهِ، وَعَدَمَ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ: عَدَمُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ. وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا يُطَالَبُ بِهَا الْمُؤْمِنُ، وَالسِّيَاقُ فِيمَنْ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ فَلَا زَكَاةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. اخْتُلِفَ فِي الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْوَعِيدُ بِالْوَيْلِ هُنَا. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْهَوْنَ عَنْ أَدَائِهَا، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي أَمْرِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَتَدَبُّرِ مَعَانِيَهَا. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ عَنْ صَلَاتِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ فِي صَلَاتِهِمْ، كَمَا أَنَّ السَّهْوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ أَحَدٌ، حَتَّى أَنَّهُ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَقَالَ: «إِنِّي لَا أَنْسَى، وَلَكِنِّي أُنَسَّى لِأَسُنَّ» فَكَيْفَ يُنْسِيهِ اللَّهُ لِيَسُنَّ لِلنَّاسِ أَحْكَامَ السَّهْوِ، وَيَقَعُ النَّاسُ فِي السَّهْوِ بِدُونِ عَمْدٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 وَقَدْ عَقَدَ الْفُقَهَاءُ بَابَ سُجُودِ السَّهْوِ تَصْحِيحًا لِذَلِكَ. لِذَلِكَ بَقِيَ مَنِ الْمُرَادُ بِـ «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ» . قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقِيلَ: فِي كُلِّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا، أَوْ عَنْ وَقْتِهَا كُلِّهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ عَنْ أَدَائِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَفِي الْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: فِي الْمُنَافِقِينَ. وَفِي السُّورَةِ تَفْسِيرٌ صَرِيحٌ لِهَؤُلَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [107 \ 6 - 7] . وَالْمُرَائِي فِي صِلَاتِهِ قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُنَافِقٍ. فَالرِّيَاءُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةٍ، وَالنِّفَاقُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَيْ قَدْ يُرَائِي فِي عَمَلٍ مَا، وَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَبِكُلِّ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَلَا يُرَائِي فِي عَمَلٍ آخَرَ، بَلْ يَكُونُ مُخْلِصًا فِيهِ كُلَّ الْإِخْلَاصِ. وَالْمُنَافِقُ دَائِمًا ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِبَاطِنِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ. وَلَكِنْ جَاءَ النَّصُّ: بِأَنَّ الْمُرَاءَاةَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ. وَجَاءَ النَّصُّ أَيْضًا. بِأَنَّ مَنْعَ الْمَاعُونِ مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ إِلَّا الْمُصَلِّينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ [70 \ 19 - 22] . وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، بَيَانُ السَّهْوِ عَنْهَا وَإِضَاعَتِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [19 \ 59 - 60] . وَبَيَّنَ فِي آخِرِ الْمَبْحَثِ تَحْتَ عُنْوَانِ: مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ تَارِكِي الصَّلَاةِ جَحْدًا أَوْ كَسَلًا. وَزَادَهُ بَيَانًا، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [70 \ 34] فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [74 \ 42] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 وَذَكَرَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: دَعِ الْمَسَاجِدَ لِلْعُبَّادِ تَسْكُنُهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ، ثُمَّ نَبَّهَ قَائِلًا: إِذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَمَّنْ يَسْهُو عَنْهَا فَكَيْفَ بِمَنْ يَتْرُكُهَا؟ ! اهـ. وَقَدْ تَسَاءَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ مُوجِبِ اقْتِرَانِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا. وَأَجَابُوا: بِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ دَوَافِعِ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ، فَهِيَ مَعَ مَا قَبْلَهَا فِي قُوَّةٍ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَعَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. فَجَمَعَهُمْ مَعَ الْأَوَّلِ، وَنَصَّ عَلَى وَعِيدِهِ الشَّدِيدِ، وَبَيَّنَ وَصْفًا لَهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ. تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي آيَةِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [23 \ 9] ، الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَادَلَةٌ كَبِيرَةٌ. إِحْدَاهُمَا: فِي الْمُنَافِقِينَ تَارِكِي الصَّلَاةِ أَوْ مُضَيِّعِيهَا. وَالْأُخْرَى فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَيْهَا، أَيْ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْمِقْيَاسُ وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» . أَمَّا أَثَرُ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَعَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ، فَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ. وَقَدْ وَجَدْنَا بَعْضَ آثَارِهَا وَهُوَ الْمُرَاءَاةُ فِي الْعَمَلِ، أَيِ ازْدِوَاجُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِانْعِزَالُ فِي مَنْعِ الْمَاعُونِ، أَيْ لَا يَمُدُّ يَدَ الْعَوْنِ وَلَوْ بِالْيَسِيرِ لِمُجْتَمَعِهِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي مُهِمَّةِ الصَّلَاةِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ. فَفِي الْعَاجِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [29 \ 45] ، وَمِنَ الْفَحْشَاءِ: دَعُّ الْيَتِيمَ وَعَدَمُ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 وَمِنْهَا: كُلُّ رَذِيلَةٍ مُنْكَرَةٍ، فَهِيَ إِذَنْ سِيَاجٌ لِلْإِنْسَانِ يَصُونُهُ عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ. وَهِيَ عَوْنٌ عَلَى كُلِّ شَدِيدَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [2 \ 45] فَجَعَلَهَا قَرِينَةَ الصَّبْرِ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى الصِّعَابِ، وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ نُورٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ الْآيَةَ [57 \ 12] ، مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ» . وَقَوْلُهُ: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، قِيلَ: فِي الْمَاعُونِ الزَّكَاةُ لِقِلَّتِهَا، وَالْمَاعُونُ: الْقَلِيلُ، وَالْمَاعُونُ: الْمَالُ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يُعِينُ عَلَى أَيِّ عَمَلٍ، وَمِنْهُ الدَّلْوُ وَالْفَأْسُ وَالْإِبْرَةُ وَالْقِدْرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ السَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ يَحْمِلُ عَلَى مَنْعِ الْمَاعُونِ، فَإِنَّ مَنْ يَمْنَعُ الْمَاعُونَ وَهُوَ الْآلَةُ أَوِ الْإِنَاءُ يَقْضِي بِهِ الْحَاجَةَ ثُمَّ يُرَدُّ، كَمَا هُوَ بِدُونِ نُقْصَانٍ، فَلِأَنْ يَمْنَعَ الصَّدَقَةَ أَوِ الزَّكَاةَ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. وَمِنْ هُنَا: لَمْ يَكُنِ الْمُنَافِقُ لِيُزَكِّيَ مَالَهُ وَلَا يَتَصَدَّقَ عَلَى مُحْتَاجٍ، بَلْ وَلَا يُقْرِضَ آخَرَ قَرْضًا حَسَنًا. وَلِذَا نَجِدُ تَفَشِّي الرِّبَا فِي الْمُنَافِقِينَ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ. وَهُنَا يَأْتِي مَبْحَثَانِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: حُكْمُ الرِّيَاءِ وَمَا حَدَّهُ؟ وَالثَّانِي: حُكْمُ الْعَارِيَةِ. أَمَّا الرِّيَاءُ: فَقِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِظْهَارُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا فَيُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَتُهُ الشِّرْكَ الْخَفِيَّ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْخَفِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، فَإِنَّهُ أَخْفَى فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» . وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [18 \ 110] . وَبَيَانُ الشِّرْكِ فِيهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِمَّا هُوَ أَصْلًا لِلَّهِ، كَالصَّلَاةِ أَوِ الصَّدَقَةِ أَوِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُهُ لِقَصْدِ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 فَكَأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنْهُ مُشَارَكَةٌ مَعَ اللَّهِ، حَيْثُ أَصْبَحَ مِنْ عَمَلِهِ جُزْءٌ لِطَلَبِ الثَّنَاءِ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» . أَمَّا حُكْمُ الرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ، فَفِي هَذَا النَّصِّ دَلَالَةٌ عَلَى رَدِّ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَرْكِهِ لَهُ. فَقِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ لَا لَهُ فِيهِ، وَلَا عَلَيْهِ مِنْهُ. فَقِيلَ: لَا يَخْلُو مِنْ ذَمٍّ، كَمَا حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ [8 \ 47] . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالتَّسْمِيعُ: هُوَ الْعَمَلُ لِيَسْمَعَ النَّاسُ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْوَلِيمَةِ «فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ سُمْعَةٌ. وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ بِهِ» . فَالرِّيَاءُ مَرْجِعُهُ إِلَى الرُّؤْيَةِ، وَالتَّسْمِيعُ مَرْجِعُهُ إِلَى السَّمَاعِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُمْ، وَرَدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ لِمُسَمَّى الشِّرْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [4 \ 48] . وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَقَطْ، فَإِنْ رَاءَى فِي الصَّلَاةِ أَحْبَطَهَا وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ رَاءَى فِي صَلَاةِ نَافِلَةٍ لَا يَتَعَدَّى إِحْبَاطَهَا إِلَى صَلَاةِ فَرِيضَةٍ، وَهَكَذَا، قَدْ يَبْدَأُ عَمَلًا خَالِصًا لِلَّهِ، ثُمَّ يَطْرَأُ عَلَيْهِ شَبَحُ الرِّيَاءِ، فَهَلْ يَسْلَمُ لَهُ عَمَلُهُ أَوْ يُحْبِطُهُ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيَاءِ؟ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ خَاطِرًا وَدَفَعَهُ عَنْهُ فَلَا يَضُرُّهُ، وَإِنِ اسْتَرْسَلَ مَعَهُ. فَقَدْ رَجَّحَ أَحْمَدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 وَابْنُ جَرِيرٍ عَدَمَ بُطْلَانِ الْعَمَلِ نَظَرًا لِسَلَامَةِ الْقَصْدِ ابْتِدَاءً. وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ كُلُّهُمْ يُقَاتِلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ لِلدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ نَجْدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: «كُلُّهُمْ إِذَا كَانَ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» . وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّ هَذَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَرْتَبِطُ آخِرُهُ بِأَوَّلِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. أَمَّا مَا كَانَ مِثْلَ الْقِرَاءَةِ وَالْعِلْمِ. فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ، أَيْ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ. وَهُنَاكَ مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ خَالِصًا، ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَيُحْسِنُونَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ. فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرِّيَاءِ فِي شَيْءٍ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ مِنَ الْخَيْرِ يَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَاجِلُ بُشْرَى الْمُسْلِمِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلًا خَفِيًّا، ثُمَّ حَضَرَ بَعْضُ النَّاسِ فَتَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِمْ خَشْيَةَ الرِّيَاءِ، أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الرِّيَاءِ ; لِأَنَّهُ يَضْعُفُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ يُخْلِصَ النِّيَّةَ لِلَّهِ، وَفِي هَذَا بُعْدٌ وَمَشَقَّةٌ. أَمَّا مَنْعُ الْمَاعُونِ وَإِعْطَاؤُهُ، وَهُوَ الْعَارِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنَّ مَبْحَثَ الْعَارِيَةِ فِي نَاحِيَتَيْنِ: مَا هِيَ الْعَارِيَةُ، وَالثَّانِي: حُكْمُهَا أَوَاجِبٌ أَمْ مُبَاحٌ، وَحُكْمُ ضَمَانِهَا مَضْمُونَةٌ أَمْ لَا؟ أَمَّا تَعْرِيفُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمَالِ، مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. وَقَوْلُهُمْ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ: كَالْقِدْرِ وَالْفَأْسِ وَالْإِبْرَةِ وَالْمُنْخِلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا يَكُونُ إِتْلَافُهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، كَالشَّمْعِ لِلْإِضَاءَةِ، وَالزَّيْتِ لِلدُّهْنِ، وَالْكُحْلِ لِلِاكْتِحَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا تَنْفَدُ عَيْنُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَلَا يَكُونُ عَارِيَةً، وَلَكِنْ يَكُونُ قَرْضًا، وَالْقَرْضُ يَكُونُ مُعَاوَضَتُهُ بِمِثْلِهِ. أَمَّا حُكْمُ الْعَارِيَةِ. فَقِيلَ: جَائِزٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 وَقِيلَ: بَلْ وَاجِبٌ. وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ. وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِنَصِّ الْآيَةِ: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّ الْإِبِلِ لَمَّا ذَكَرَ الزَّكَاةَ «وَأَنَّ حَقَّهَا إِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَمَنْحُهُ لَبَنَهَا يَوْمَ وُرُودِهَا» . وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ذُكِرَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِعَارِيَةٍ قَطْعًا، مِثْلَ طَرْقِ الْفَحْلِ وَمَنْحِ اللَّبَنِ، مِمَّا يُضْعِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ. وَقَدْ سَاقَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَلَهُمْ. أَمَّا الْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ فَقَالُوا: هُوَ مُنْصَبٌّ عَلَى الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ: السَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ، وَمَنْعِ الْمَاعُونِ جَمِيعًا، وَمَنِ اتَّصَفَ بِوَاحِدَةٍ فَلَهُ قَدْرُهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِحَسَبِهِ. وَأَقَلُّ مَا يُقَالُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [5 \ 2] ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ، لَمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْخَيْلَ، وَقَالَ: «وَلَا يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ فِي ظَهْرِهَا» . ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: «لَمْ أَجِدْ إِلَّا الْآيَةَ الشَّاذَّةَ الْفَاذَّةَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ» [99 \ 7] . وَإِعَارَةُ الْمَتَاعِ إِبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ خَيْرٌ كَثِيرٌ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ» . وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْكَشَّافِ قَوْلًا: أَنَّهَا تَكُونُ وَاجِبَةً عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَقَبِيحٌ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ مُرُوءَةٌ. اهـ. وَالضَّرُورَةُ: مِثْلَ الدَّلْوِ إِذَا وَرَدْتَ الْمَاءَ وَلَا دَلْوَ مَعَكَ، وَفِي اضْطِرَارٍ إِلَى الْمَاءِ. وَقِيَاسُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ شَيْءٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ لَضَمِنَ الْمَانِعُ. كَمَا قَالُوا فِي الِامْتِنَاعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ: هَلْ هُوَ فِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ؟ مِثْلَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 خَيْطٌ، وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ فِي خِيَاطَةِ جُرْحِ إِنْسَانٍ، أَوْ قُطْنَةٍ فَمَاتَ، فَهَلْ يُعَدُّ تَرْكُ إِعْطَاءِ الْخَيْطِ مُجَرَّدَ تَرْكٍ لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ، أَوْ يُعْتَبَرُ فِعْلًا لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ عَنْهُ مَوْتُ إِنْسَانٍ. وَمِثْلُهُ مَنْعُ الدَّلْوِ لِيَرْوِيَ أَوْ يَسْقِيَ إِبِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ هُوَ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ التَّرْكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةَ الْفِعْلِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ. وَالتَّرْكُ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَب وَهُنَا مَا يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ الصَّحِيحُ، كَمَا قِيلَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ: لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ فَسُمِّي الْقُعُودُ عَنِ الْعَمَلِ عَمَلًا مُضَلِّلًا، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَارِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ شَرْعًا وَمُرُوءَةً وَعُرْفًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَوَاجِبَةٌ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ حَالَاتِ الِاسْتِعَارَةِ أَغْلَبُهَا اضْطِرَارٌ، إِلَّا أَنَّ حَالَاتِ الِاضْطِرَارِ تَتَفَاوَتُ ظُرُوفُهَا. وَقَدِ امْتَدَحَ اللَّهُ الْأَنْصَارَ بِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [59 \ 9] ، فَالْعَارِيَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا وَتُرَدُّ لِصَاحِبِهَا. وَقَدِ امْتَدَحَ الشَّاعِرُ الْقَوْمَ بِعَدَمِ مَنْعِهِمُ الْمَاعُونَ، بِقَوْلِهِ: قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَمَّا يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُ التَّهْلِيلَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ حَمَلَ الْمَاعُونَ هُنَا عَلَى الزَّكَاةِ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الشَّاعِرِ: قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، يَتَضَمَّنُ إِخْرَاجَهُمُ الزَّكَاةَ ضِمْنَ إِسْلَامِهِمْ، فَيَكُونُ الْبَاقِي امْتِدَادَ حَالِهِمْ فِي خُصُوصِ الْمَاعُونِ. بَقِيَ مَبْحَثُ ضَمَانِهَا: تَخْتَلِفُ الْأَقْوَالُ فِي ضَمَانِ الْعَارِيَةِ، فَبَعْضُهُمْ يَعْتَبِرُهَا أَمَانَةً، وَعَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَعَدٍّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. كَمَا قَالُوا فِي السَّيْفِ: يَسْتَعِيرُهُ فَيَنْكَسِرُ فِي الْقِتَالِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِضَمَانِهَا بِالْحَدِيثِ الْعَامِّ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ، حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» رَوَاهُُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى، وَقَالَ: رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ. وَبِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَذْرُعًا قِيلَ ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ ثَمَانِينَ، وَقِيلَ مِائَةً. فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ، فَقَالَ: فَضَاعَ بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ أَنَّ ضَمَانَهَا بِقِيمَتِهَا يَوْمَ تَلِفَتْ أَوْ بِمِثْلِهَا، إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا جَاءَ فِي قَصْعَةِ حَفْصَةَ لَمَّا ضَرَبَتْهَا عَائِشَةُ فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَانْكَسَرَتْ، وَانْتَثَرَ الطَّعَامُ، فَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْعَةَ عَائِشَةَ وَرَدَّهَا إِلَى حَفْصَةَ، وَقَالَ: «قَصْعَةٌ بِقَصْعَةٍ، وَطَعَامٌ بِطَعَامٍ» أَيْ أَنَّ الضَّمَانَ إِمَّا بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ بِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا. وَإِذَا كَانَتِ الْعَارِيَةُ مَضْمُونَةً وَحُكْمُهَا الْجَوَازُ، فَلِلْمُسْتَعِيرِ طَلَبُ رَدِّهَا مَتَى شَاءَ، إِلَّا إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا مَصْلَحَةُ الْمُسْتَعِيرِ، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَّا بِمَضَرَّةٍ عَلَيْهِ. قَالُوا: كَمَنْ أَعَارَ سَفِينَةً وَتَوَسَّطَ بِهَا الْمُسْتَعِيرُ عُرْضَ الْبَحْرِ، فَلَا يَمْلِكُ الْمُعِيرُ رَدَّهَا لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ وَسْطَ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: لَهُ طَلَبُهَا، وَتَكُونُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَكَالَّذِي أَعَارَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ، وَقَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ يَطْلُبُهَا صَاحِبُهَا، وَهَكَذَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. حُكْمُ مَنْ جَحَدَ الْعَارِيَةَ إِنَّ حَدِيثَ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَاشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهَا سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ فِي السَّرِقَةِ، لَا فِي جَحْدِ الْمَتَاعِ الْمُسْتَعَارِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. لِأَنَّ السَّرِقَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّخَفِّي وَمِنْ حِرْزٍ. وَالِاسْتِعَارَةُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [4 \ 58] . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 وَحَدِيثِ «أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا مُجْمَلُ مَبَاحِثِ الْعَارِيَةِ، وَتَفْصِيلُ فُرُوعِهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَوْجَزْنَا مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْعِ الْمَاعُونِ وَعَدَمِ جَوَازِ مَنْعِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِبَذْلِهِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ يَلْزَمُ كُلَّ بَاحِثٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَطْرَافِ النُّصُوصِ، وَعَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [107 \ 4] ، وَهِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَوْ أُخِذَتْ وَحْدَهَا لَكَانَتْ وَعِيدًا لِلْمُصَلِّينَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ فِي قَوْلِهِ: دَعِ الْمَسَاجِدَ لِلْعُبَّادِ تَسْكُنُهَا ... وَسِرْ إِلَى خَانَةِ الْخَمَّارِ يَسْقِينَا مَا قَالَ رَبُّكَ وَيْلٌ لِلْأُلَى سَكِرُوا ... وَإِنَّمَا قَالَ وَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَا وَلِذَا لَا بُدَّ مِنْ ضَمِيمَةِ مَا بَعْدَهَا لِلتَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، ثُمَّ فُسِّرَ هَذَا التَّفْسِيرُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْحَدِيثِ، مَا جَاءَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مَا نَصُّهُ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ تَعَطَّلَتْ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَمَّرَ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ كُتِبَ لَهُ كِفْلَانِ مِنَ الْأَجْرِ» . هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِي الزَّوَائِدِ، قَالَ عَنْهُ: فِي إِسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ضَعِيفٌ، إِلَّا أَنَّهُ نَصٌّ فِيمَا تَمَثَّلَ لَهُ لِأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتُبِرَ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، وَمَنْ جَمَعَ طَرَفَيِ الْحَدِيثِ عَرَفَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مَا أَخَذَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ: أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلٍ سَمِعَهُ، إِلَّا إِذَا اسْتَشْهَدُوهُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: اشْهَدْ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَّا إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَوَّلِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِهِ مَا هُوَ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمُتَكَلِّمُ لِلْآخَرِ: لِي عِنْدَكَ فَرَسٌ، وَلَكَ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَيَسْمَعُ قَوْلَهُ: لَكَ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ،ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 وَلَمْ يَسْمَعْ مَا قَبْلَهَا، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى مَا سَمِعَ كَانَ إِضْرَارًا بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ تَدُلُّ لِهَذَا الْمَأْخَذِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْكَوْثَر قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. الْكَوْثَرُ فَوْعَلُ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَأَعْطَيْنَاكَ قُرِئَ: أَنْطَيْنَاكَ، بِإِبْدَالِ الْعَيْنِ نُونًا، وَلَيْسَتِ النُّونُ مُبْدَلَةً عَنِ الْعَيْنِ، كَإِبْدَالِ الْأَلِفِ مِنَ الْوَاوِ أَوِ الْعَيْنِ فِي الْأَجْوَفِ وَنَحْوِهِ، وَلَكِنَّ كُلَّا مِنْهُمَا أَصْلٌ بِذَاتِهِ، وَقِرَاءَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْكَوْثَرِ. فَقِيلَ: عَلَمٌ. وَقِيلَ: وَصْفٌ. وَعَلَى الْعَلَمِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى الْوَصْفِ قَالُوا: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ. وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْعَلَمِيَّةِ، مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: «أَتَيْتُ نَهْرًا حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا. فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ» . وَبِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، قَالَتْ: هُوَ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِمَا دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ» . وَبِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَغَيْرَهَا عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا بِسَنَدِ أَحْمَدَ إِلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ نَزَلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: نَهَرَ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ الْكَوَاكِبِ يَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» . وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: «عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ» يُشْعِرُ بِأَنَّ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ مَوْجُودٌ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْمَعْنَى، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ الْكُمَيْتِ: وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْفَصَائِل وَالَّذِي تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ أَنَّ الْكَوْثَرَ، هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَأَنَّ الْحَوْضَ أَوِ النَّهَرَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَتَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى إِعْطَاءِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [15 \ 87] . وَفِي الْقَرِيبِ سُورَةُ الضُّحَى وَفِيهَا: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 5] ، أَعْقَبَهَا بِنِعَمٍ جَلِيلَةٍ مِنْ شَرْحِ الصُّدُورِ، وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، وَالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ. وَبَعْدَهَا فِي سُورَةِ التِّينِ جَعَلَ بَلَدَهُ الْأَمِينَ، وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَبَعْدَهَا سُورَةُ «اقْرَأْ» امْتَنَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْقَدْرِ: أَعْطَاهُ لَيْلَةً خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْبَيِّنَةِ: جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، وَمَنَحَهُمْ رِضَاهُ عَنْهُمْ، وَأَرْضَاهُمْ عَنْهُ. وَبَعْدَهَا سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ: حَفِظَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَلَمْ يُضَيِّعْ عَلَيْهِمْ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ. وَفِي سُورَةِ الْعَادِيَاتِ: أَكْبَرُ عَمَلٍ الْجِهَادُ، فَأَقْسَمَ بِالْعَادِيَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. وَفِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ: تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى نِعَمِهِ لِيَشْكُرُوهَا، فَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَفِي سُورَةِ الْعَصْرِ: جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَتَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ، وَتَتَوَاصَى بِالْحَقِّ وَتَدْعُو إِلَيْهِ، وَتَتَوَاصَى بِالصَّبْرِ، وَتَصْبِرُ عَلَيْهِ. وَبَعْدَهَا فِي سُورَةِ قُرَيْشٍ: أَكْرَمَ اللَّهُ قَوْمَهُ، فَآمَنَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ رِحْلَتَيْهِمْ. وَفِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً، وَهِيَ سُورَةُ الْمَاعُونِ: يُمْكِنُ عَمَلُ مُقَارَنَةٍ تَامَّةٍ أَوَّلًا. وَفِي الْجُمْلَةِ، لَئِنْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، فَقَدْ أَعْطَيْنَاكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، ثَانِيًا. وَعَلَى التَّفْصِيلِ فَفِي الْأُولَى: وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ بِدَعِّ الْيَتِيمِ، وَفِي الضُّحَى قَدْ بَيَّنَ لَهُ حَقَّ الْيَتِيمِ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [93 \ 9] ، فَكَانَ هُوَ خَيْرُ مُوَكَّلٍ، وَخَيْرُ كَافِلٍ، وَوَصَفَهُمْ هُنَا بِأَنَّهُمْ لَا يَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَقَدْ أَوْضَحَ لَهُ فِي الضُّحَى، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، فَكَانَ يُؤْثِرُ السَّائِلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَؤُلَاءِ سَاهُونَ عَنْ صَلَاتِهِمْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ فَصَلِّ لِرَبِّكَ [108 \ 2] ، أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَخَالِصَةٌ لِرَبِّهِ، وَإِطْعَامُ الْمِسْكِينِ بِنَحْرِ الْهَدْيِ وَالضَّحِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، يُضَافُ إِلَيْهِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَحَلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَكُنْ تَحُلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي. وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ لِقَوْمِهِ خَاصَّةً، فَبُعِثْتُ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٌ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [2 \ 286] . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَدْ فَعَلْتُ» . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [17 \ 79] ، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، بِمَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ الْكَوْثَرَ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ. وَأَنَّ النَّهْرَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ هَذَا الْكَوْثَرِ الَّذِي أُعْطِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. فِي هَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ رَبْطٌ بَيْنَ النِّعَمِ وَشُكْرِهَا، وَبَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَمُوجِبِهَا، فَكَمَا أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ فَلْيُصَلِّ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَلْيَنْحَرْ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [106 \ 3 - 4] . وَهُنَاكَ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ رِحْلَتَيْهِمْ وَأَمْنِهِمْ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ مُقَابِلَ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا بَيَانُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي السَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ، جَاءَ هُنَا بِالْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ فَصَلِّ لِرَبِّكَ مُخْلِصًا لَهُ فِي عِبَادَتِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [18 \ 110] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ، فِي خِطَابِ شَخْصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] ، مَعَ عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ عَامَّةً وَالْفَرِيضَةُ أَخُصُّهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدِ، وَالنَّحْرُ: قِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ عَدِيدَةٌ: أَوَّلُهَا: فِي نَحْرِ الْهَدْيِ أَوْ نَحْرِ الضَّحِيَّةِ: وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ الصَّلَاةَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، وَأَنَّ النَّحْرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «لَمَّا ضَحَّى قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَسَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّ عَلَى الضَّحِيَّةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إِنِّي عَلِمْتُ الْيَوْمَ يَوْمَ لَحْمٍ فَعَجَّلْتُ بِضَحِيَّتِي، فَقَالَ لَهُ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ؟ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدَنَا لَعَنَاقًا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ شَاةٍ، أَفَتُجْزِئُ عَنِّي؟ قَالَ: اذْبَحْهَا، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ غَيْرَكَ» . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مَبْحَثُ الضَّحِيَّةِ وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [22 \ 28] ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي مَعَانِي: وَانْحَرْ: أَيْ ضَعْ يَدَكَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عَلَى نَحْرِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَقْوَالٌ أُخْرَى لَيْسَ عَلَيْهَا نَصٌّ. وَالنَّحْرُ: هُوَ طَعْنُ الْإِبِلِ فِي اللَّبَّةِ عِنْدَ الْمَنْحَرِ مُلْتَقَى الرَّقَبَةِ بِالصَّدْرِ. وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي النَّحْرِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الصَّلَاةِ وَعُمُومِ النَّحْرِ أَوِ الذَّبْحِ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [6 \ 162] . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ لِلْإِبِلِ، وَالذَّبْحَ لِلْغَنَمِ، وَالْبَقَرَ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ بَيْنَ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَلَوْ عَمَّمَ النَّحْرَ فِي الْجَمِيعِ، أَوْ عَمَّمَ الذَّبْحَ فِي الْجَمِيعِ لَكَانَ جَائِزًا، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَخْصِيصِ الْإِبِلِ بِالنَّحْرِ، هُوَ طُولُ الْعُنُقِ، إِذْ لَوْ ذُبِحَتْ لَكَانَ مَجْرَى الدَّمِ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى مَحَلِّ الذَّبْحِ بَعِيدًا فَلَا يُسَاعِدُ عَلَى إِخْرَاجِ جَمِيعِ الدَّمِ بِيُسْرٍ، بِخِلَافِ النَّحْرِ فِي الْمَنْحَرِ، فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ الْمَسَافَةَ وَيُسَاعِدُ الْقَلْبَ عَلَى دَفْعِ الدَّمِ كُلِّهِ، أَمَّا الْغَنَمُ فَالذَّبْحُ مُنَاسِبٌ لَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [3] . قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «شَانِئَكَ» : عَدُوَّكَ اهـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 وَالْأَبْتَرُ: هُوَ الْأَقْطَعُ الَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ. وَأَنْشَدَ أَبُو حَيَّانَ، قَوْلَ الشَّاعِرِ: لَئِيمٌ بَدَتْ فِي أَنْفِهِ خُنْزُوَانَةٌ ... عَلَى قَطْعِ ذِي الْقُرْبَى أَجُذُّ أَبَاتِرَ وَقَالَ: «شَانِئَكَ» : مُبْغِضَكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يُخْبِرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَنَّ مُبْغِضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَقْطَعُ. فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ. قَالَ لِقُرَيْشٍ: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، إِذَا مَاتَ اسْتَرَحْتُمْ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَاءَ مِصْدَاقُهَا بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [8 \ 7] فَقَتَلَ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، وَصَدَقَ الْوَعِيدَ فِيهِمْ. وَمِثْلُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [6 \ 45] . وَجَاءَ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [111 \ 1] . فَهِيَ فِي مَعْنَاهَا أَيْضًا. وَبَقِيَ ذِكْرُ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقِبِهِ مِنْ آلِ بَيْتِهِ، وَفِي أُمَّتِهِ كُلِّهَا. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [94 \ 4] .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْكَافِرُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [1] . نِدَاءٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ دَعْوَتَهُ وَيُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعْطُوهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُرْضِيهِ وَنَحْوِهِ فَرَفَضَ، فَقَالُوا: تَقْبَلُ مِنَّا مَا نَعْرِضُهُ عَلَيْكَ: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَسَكَتَ عَنْهُمْ فَنَزَلَتْ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ يَكُنِ الْخَيْرُ مَعَنَا أَصَبْتَهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَعَكَ أَصَبْنَاهُ. وَفِي مَجِيءِ: قُلْ، مَعَ أَنَّ مَقُولَ الْقَوْلِ كَانَ قَدْ يَكْفِي فِي الْبَلَاغِ، وَلَكِنَّ مَجِيئَهَا لِغَايَةٍ فَمَا هِيَ؟ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ عَابُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ أَبْتَرُ فَجَاءَ قَوْلُهُ: قُلْ، إِشْعَارًا بِأَنَّ اللَّهَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِهِ بِهَذَا الْخِطَابِ، الَّذِي يُنَادِي عَلَيْهِمْ فِي نَادِيهِمْ بِأَثْقَلِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. أَوْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْخِطَابُ فِيهِ مُغَايَرَةُ الْمَأْلُوفِ مِنْ تَخَاطُبِهِ مَعَهُمْ مِنْ أُسْلُوبِ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَكَانَ فِيهِ مِنَ التَّقْرِيعِ لَهُمْ وَمُجَابَهَتِهِمْ، قَالَ لَهُ: قُلْ: إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَجَاءَتْ يَا، وَهِيَ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ، لِبُعْدِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. قِيلَ: تَكْرَارٌ فِي الْعِبَارَاتِ لِلتَّوْكِيدِ، كَتَكْرَارِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 15] ، وَتَكْرَارِ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [55 \ 13] . وَنَظِيرُهُ فِي الشِّعْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، مِنْ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 هَلَّا سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْدَةَ ... يَوْمَ وَلَّوْ أَيْنَ أَيْنَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَةُ يَا عَلْقَمَهْ ... خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وَأَكْرَمَهْ وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا أَقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ ... إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا يَا سَلْمَى ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ... ثَلَاثُ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّم وَقَدْ جَاءَتْ فِي أَبْيَاتٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ضِمْنَ مُسَاجَلَةٍ لَهُ مَعَهُ قَالَ فِيهَا: تَاللَّهِ إِنَّكَ قَدْ مَلَأْتَ مَسَامِعِي ... دُرًّا عَلَيْهِ قَدِ انْطَوَتْ أَحْشَائِي زِدْنِي وَزِدْنِي ثُمَّ زِدْنِي وَلْتَكُنْ ... مِنْكَ الزِّيَادَةُ شَافِيًا لِلدَّاء فَكَرَّرَ قَوْلَهُ: زِدْنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ تَكْرَارٌ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى عَنِ الْمَاضِي وَالثَّانِيَةَ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ. وَقِيلَ: الْأُولَى عَنِ الْعِبَادَةِ، وَالثَّانِيَةُ عَنِ الْمَعْبُودِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالسُّورَةُ فِي الْجُمْلَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْبُدُ مَعْبُودَهُمْ، وَلَا هُمْ عَابِدُونَ مَعْبُودَهُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [10 \ 41] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، عِنْدَ آيَةِ يُونُسَ تِلْكَ، وَذَكَرَ هَذِهِ السُّورَةَ هُنَاكَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ جَوَابًا عَلَى إِشْكَالٍ فِي السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، نَفْيٌ لِعِبَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْبُودَُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 الْآخَرِ مُطْلَقًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ آمَنَ بَعْضُهُمْ فِيمَا بَعْدُ وَعَبَدَ مَا يَعْبُدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: مُوجَزُهُمَا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْكُفَّارِ، وَإِنْ أَسْلَمُوا فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا كُفَّارًا إِلَى آخِرِهِ، أَوْ أَنَّهَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، فَتَكُونُ فِي خُصُوصِ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ. اهـ. مُلَخَّصًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ وَجْهًا عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُفَّارِ خَاصٌّ بِالْحَاضِرِ ; لِأَنَّ مَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ تُعَيِّنُهُ لِلْحَاضِرِ. وَنَاقَشَهُ أَبُو حَيَّانَ، بِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُغَالِبٍ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ السُّورَةِ قَدْ يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ أَنَّ السُّورَةَ تَتَكَلَّمُ عَنِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ جِهَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِهَةُ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ عِبَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْبُودَ الْآخَرِ. وَلَكِنَّهَا لَمْ تُسَاوِ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَمِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ عَبَّرَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَا أَعْبُدُ الْآنَ مَا تَعْبُدُونَ الْآنَ بِالْفِعْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالِاسْمِيَّةِ وَعَنْهُ هُوَ بِالْفِعْلِيَّةِ، أَيْ: وَلَا أَنْتُمْ مُتَّصِفُونَ بِعِبَادَةِ مَا أَعْبُدُ الْآنَ. وَفِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِعِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ وَلَا هُمْ عَابِدُونَ مَا يَعْبُدُ، فَكَانَ وَصْفُهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ تَارَةً وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَارَةً أُخْرَى، فَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا لِنَفْيِ الْوَصْفِ الثَّابِتِ، وَالْأُخْرَى لِنَفْيِ حُدُوثِهِ فِيمَا بَعْدُ. أَمَّا هُمْ فَلَمْ يُوصَفُوا فِي الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْفِ الثَّابِتِ، أَيْ فِي الْمَاضِي إِلَى الْحَاضِرِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا وُصِفُوا بِهِ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مِنْ خَصَائِصِهَا التَّجَدُّدُ وَالْحُدُوثُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَتَعَرَّضُ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَلَمْ يَكُنْ إِشْكَالٌ، وَاللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْوَصْفَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، فَيَبْقَى الْإِشْكَالُ مُحْتَمَلًا. قِيلَ: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ دُخُولَ مَا عَلَيْهِ تُعَيِّنُهُ لِلْحَالِ، يَكْفِي فِي نَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَاقَشَهُ أَبُو حَيَّانَ. وَقَالَ: إِنَّهَا أَغْلَبِيَّةٌ وَلَيْسَتْ قَطْعِيَّةً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 قُلْنَا: يَكْفِي فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ، وَهُوَ مَا يُصَدِّقُهُ الْوَاقِعُ، إِذْ آمَنَ بَعْضُهُمْ وَعَبَدَ مَعْبُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَاقِعَةٌ فِي الْأُولَى عَلَى غَيْرِ ذِي عِلْمٍ، وَهِيَ أَصْنَامُهُمْ وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا الْأَسَاسِيُّ. وَفِي الثَّانِيَةِ: فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ اسْتِعْمَالِهَا الْأَسَاسِيِّ، فَقِيلَ: مِنْ أَجْلِ الْمُقَابَلَةِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِيمَنْ يَعْلَمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [4 \ 3] ; لِأَنَّهُنَّ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، فَلِلْقَرِينَةِ جَازَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى عِبَادَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ، وَلَا تَعْبُدُونَ عِبَادَاتِي الصَّحِيحَةَ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَوِيٌّ، وَإِنْ تَعَارَضَ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، إِلَّا أَنَّ لَهُ شَاهِدًا مِنْ نَفْسِ السُّورَةِ وَيَتَضَمَّنُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [109 \ 6] ، فَأَحَالَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِلْهُمْ عَلَى مَعْبُودِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. هُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [10 \ 41] . وَكَقَوْلِهِ: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [28 \ 55] . وَلَيْسَ فِي هَذَا تَقْرِيرُهُمْ عَلَى دِينِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مِنْ قَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَقَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [18 \ 29] . وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَصْفٌ يَكْفِي بِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ وَدِيَانَتَهُمْ كُفْرٌ. وَقَدْ قَالَ لَهُمُ الْحَقُّ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَاطِلَةٌ، عِبَادَةُ الْكُفَّارِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا هِيَ فَلَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَنْهَجٌ إِصْلَاحِيٌّ، وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ وَلَا صَلَاحِيَةِ أَنْصَافِ الْحُلُولِ ; لِأَنَّ مَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْعِبَادَةِ، يُعْتَبَرُ فِي مِقْيَاسِ الْمَنْطِقِ حَلًّا وَسَطًا لِاحْتِمَالِ إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَجَاءَ الرَّدُّ حَاسِمًا وَزَاجِرًا وَبِشِدَّةٍ ; لِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِيمَا عَرَضُوهُ مُسَاوَاةً لِلْبَاطِلِ بِالْحَقِّ، وَفِيهِ تَعْلِيقَ الْمُشْكِلَةِ، وَفِيهِ تَقْرِيرَ الْبَاطِلِ، إِنْ هُوَ وَافَقَهُمْ وَلَوْ لَحْظَةً. وَقَدْ تُعْتَبَرُ هَذِهِ السُّورَةُ مُمَيِّزَةً وَفَاصِلَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَنِهَايَةَ الْمُهَادَنَةِ، وَبِدَايَةَ الْمُجَابَهَةِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [108 \ 1] ، أَيْ وَإِنْ كُنْتَ وَصَحْبُكَ قِلَّةً، فَإِنَّ مَعَكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَلِمَجِيءِ «قُلْ» لِمَا فِيهَا مِنْ إِشْعَارٍ بِأَنَّكَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُكَ، وَلِذَا جَاءَ بَعْدَهَا حَالًا سُورَةُ النَّصْرِ وَبَعْدَ النَّصْرِ: تَبُّ الْعَدُوِّ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ النَّصْر قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. فِيهِ ذِكْر ُ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ: فَمَعَ كُلِّ نَصْرٍ فَتْحٌ، وَمَعَ كُلِّ فَتْحٍ نَصْرٌ. فَهَلْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ أَمْ لَا؟ كَمَا جَاءَ النَّصْرُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَتْحُ مُطْلَقًا. أَوْلًا: اتَّفَقُوا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُ سَبَقَ فَتْحَ مَكَّةَ عِدَّةُ فُتُوحَاتٍ. مِنْهَا فَتْحُ خَيْبَرَ، وَمِنْهَا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَتْحًا فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [48 \ 27] . وَالنَّصْرُ يَكُونُ فِي مَعَارِكِ الْقِتَالِ وَيَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ، وَيَكُونُ بِكَفِّ الْعَدُوِّ، كَمَا فِي الْأَحْزَابِ. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [33 \ 25] . وَكَمَا فِي الْيَهُودِ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [33 \ 26 - 27] . فَالنَّصْرُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [3 \ 126] . وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [2 \ 214] ، فَهُمْ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى النَّصْرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 وَيَأْتِيهِمُ الْجَوَابُ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [2 \ 214] . وَجَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَأَخِيهِ: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [20 \ 46] ، فَهُوَ نَصْرُ مَعِيَّةٍ وَتَأْيِيدٍ، فَالنَّصْرُ هُنَا عَامٌّ. وَكَذَلِكَ الْفَتْحُ فِي الدِّينِ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْظَمُ الْفَتْحِ فَتْحَانِ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ. إِذِ الْأَوَّلُ تَمْهِيدٌ لِلثَّانِي، وَالثَّانِي قَضَاءٌ عَلَى دَوْلَةِ الشِّرْكِ فِي الْجَزِيرَةِ، وَيَدُلُّ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ فِي النَّصْرِ وَالْفَتْحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَكَأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى مِنَ الْيَمَنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الدَّعْوَةِ وَنَجَاحِ الرِّسَالَةِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَجِيءُ آيَةِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] ، وَكَانَ نُزُولُهَا فِي حَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ. وَيُلَاحَظُ أَنَّ النَّصْرَ هُنَا جَاءَ بِلَفْظِ نَصْرِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ هَذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [8 \ 10] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ هُنَا لَهَا دَلَالَةُ تَمَامٍ وَكَمَالٍ، كَمَا فِي بَيْتِ اللَّهِ. مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بُيُوتٌ لِلَّهِ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالنَّصْرِ كُلَّ النَّصْرِ، أَوْ بِتَمَامِ النَّصْرِ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْفَتْحُ، هُنَا قِيلَ: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَقِيلَ فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا. وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى فُتُوحَاتٍ عَدِيدَةٍ قَبْلَ مَكَّةَ. وَهُنَاكَ فُتُوحَاتٌ مَوْعُودٌ بِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ نَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْهَا فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، لَمَّا اعْتَرَضَتْهُمْ كُدْيَةٌ وَأَعْجَزَتْهُمْ، وَدُعِيَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْذَ مَاءً وَتَمَضْمَضَ وَدَعَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ ثُمَّ ضَرَبَ، فَكَانَتْ كَالْكَثِيبِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 وَقَدْ جَاءَ فِيهَا ابْنُ كَثِيرٍ بِعِدَّةِ رِوَايَاتٍ وَطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّهَا تَذْكُرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ، فَأَبْرَقَتْ تَحْتَ كُلِّ ضَرْبَةٍ بَرْقَةً، وَكَبَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَسَأَلُوهُ فَقَالَ " فِي الْأُولَى: أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ " وَذَكَرَ الْيَمَنَ وَالشَّامَ، وَكُلُّهَا رِوَايَاتٌ لَا تَخْلُو مِنْ نِقَاشٍ، وَلَكِنْ لِكَثْرَتِهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَقْوَاهَا رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ بِسَنَدِهِ قَالَ: " لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [6 \ 115] ، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرْقَةٌ ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَرَأَ مَا قَرَأَهُ أَوَّلًا، وَبَرَقَتْ أَيْضًا. ثُمَّ الثَّالِثَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَكَسَّرَتْ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ، فَسَأَلَهُ سَلْمَانُ لَمَّا رَأَى مِنَ الْبِرْقَاتِ الثَّلَاثِ: فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رُفِعَتْ لَهُ فِي الْأُولَى مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ حَتَّى رَآهَا بِعَيْنِهِ، فَقَالُوا: ادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْنَا. فَدَعَا لَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ: رُفِعَتْ لَهُ مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، وَفِي الثَّالِثَةِ مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَكُلُّهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ فَتُفْتَحَ عَلَيْهِمْ، فَدَعَا لَهُمْ إِلَّا فِي الْحَبَشَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ " انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ رَوَاهُ كُلٌّ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَالنَّسَائِيِّ مُطَوَّلًا، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَقَالًا فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُوَطَّأِ مَا لَا يَحْتَمِلُ مَقَالًا، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي دَلَالَتِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ". فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بِفَتْحِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا فُتِحَتْ كُلُّهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْيَمَنُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، إِذْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ " رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتِ الْوُفُودُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عَامَ تِسْعٍ مِنْهَا، وَجَاءَ وَفْدُ الْيَمَنِ وَأَرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَّالَهُ إِلَى الْيَمَنِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقِدَمِ عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ فِي الْعَامِ الْعَاشِرِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، فَفُتِحَتِ الْيَمَنُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَيْهِ: تَكُونُ فُتُوحَاتٌ قَدْ وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَهَا هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفَتْحُ، وَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا قَالُوا. وَقَدْ يُؤْخَذُ بِدَلَالَةِ الْإِيمَاءِ: الْوَعْدُ بِفُتُوحَاتٍ شَامِلَةٍ، لِمَنَاطِقَ شَاسِعَةٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [22 \ 27] ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَدُلُّ عَلَى الْإِتْيَانِ إِلَى الْحَجِّ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْإِتْيَانَ إِلَى الْحَجِّ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبِالتَّالِي يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُوَ مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّسْبِيحِ وَمُتَعَلِّقِهِ وَتَصْرِيفِهِ. وَهُنَا قَرَنَ التَّسْبِيحَ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَفِيهِ ارْتِبَاطٌ لَطِيفٌ بِأَوَّلِ السُّورَةِ وَمَوْضُوعِهَا، إِذْ هِيَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ مُهِمَّةِ الرِّسَالَةِ بِمَجِيءِ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِدِينِهِ. وَمَجِيءِ الْفَتْحِ الْعَامِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ اللَّهِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ وَيَسْتَحِقُّ مُولِيهَا الْحَمْدَ. فَكَانَ التَّسْبِيحُ مُقْتَرِنًا بِالْحَمْدِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: بِحَمْدِ رَبِّكَ، لِيُشْعِرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُولِي لِلنِّعَمِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الضُّحَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [93 \ 3] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ اقْرَأْ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [96 \ 1] ، وَتَكْرَارُهَا اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [96 \ 3] ; لِأَنَّ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ مُشْعِرَةٌ بِالْإِنْعَامِ. وَقَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ عَنْ ذَنْبٍ فَمَا هُوَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [94 \ 2] . وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ التَّوْبَةَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ، وَلَوْ بَدَأْنَا مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قِصَّتِهِ فَفِيهَا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [2 \ 37] ، وَمَعْلُومٌ مُوجِبُ تِلْكَ التَّوْبَةِ. ثُمَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [71 \ 28] . وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [2 \ 128] . وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ نَفْسَهُ عِبَادَةٌ كَالتَّسْبِيحِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ ذَنْبٍ. وَقِيلَ: هُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ. وَقِيلَ: رَفْعٌ لِدَرَجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ، فَتَكُونُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ. تَنْبِيهٌ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ قَوْلَهُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» أَيْ: يُفَسِّرُهُ، وَيَعْمَلُ بِهِ. وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ التَّسْبِيحِ تَكْمِيلٌ لِلْأَمْرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 بِمَا هُوَ قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ، مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ لُطْفًا لِأُمَّتِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ فَهُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ. وَفِي هَذَا لَفْتُ نَظَرٍ لِأَصْحَابِ الْأَذْكَارِ وَالْأَوْرَادِ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى دَوَامِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ هَذَا كَانَ مَنْ أَكْثَرِ مَا يُدَاوِمُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ دُونَ الْمُلَازَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مُنْفَرِدًا مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ صَحِيحٌ وَلَا صَرِيحٌ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي الِاتِّبَاعِ لَا فِي الِابْتِدَاعِ، وَأَيُّ خَيْرٍ أَعْظَمُ مِمَّا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِهِ، وَيُلَازِمُ هُوَ عَلَيْهِ. وَقُلْنَا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ: لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةُ الْإِيمَاءِ، كَمَا قَالُوا: وَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، حِينَمَا كَانَ يَسْمَحُ لَهُ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ، وَيَرَى فِي وُجُوهِهِمْ، وَسَأَلُوهُ وَقَالُوا: إِنَّ لَنَا أَوْلَادًا فِي سِنِّهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ. وَفِي يَوْمٍ اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَدَعَاهُ عُمَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَا دَعَانِي إِلَّا لِأَمْرٍ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، السُّورَةَ. فَقَالُوا: إِنَّهَا بُشْرَى بِالْفَتْحِ وَبِالنَّصْرِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ، لَا وَاللَّهِ، إِنَّهَا نَعَتْ إِلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا لَا أَعْرِفُ فِيهَا إِلَّا كَمَا قُلْتَ، أَيْ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِمُهِمَّةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ بِمَجِيءِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا. وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ. فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِمُلَاقَاةِ رَبِّهِ لِيَلْقَى جَزَاءَ عَمَلِهِ، وَهُوَ مَأْخَذٌ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْ فَهْمٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْمَسَد قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. التَّبُّ: الْقَطْعُ. وَمِنَ الْمَادَّةِ: بَتَّ بِتَقْدِيمِ الْبَاءِ، فَهِيَ تَدُورُ عَلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، كَمَا يُفِيدُهُ فِقْهُ اللُّغَةِ فِي دَوَرَانِ الْمَادَّةِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ: التَّبُّ، وَالتَّبَبُ، وَالتِّبَابُ، وَالتَّبِيبُ، وَالتَّتْبِيبُ: النَّقْصُ وَالْخَسَارُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَتَبَّتْ يَدَاهُ: ضَلَّتَا وَخَسِرَتَا. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: التَّبَاتُ: الْهَلَاكُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [40 \ 37] ، أَيْ: فِي هَلَاكٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا لَهَبٍ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِفَسَادِ اعْتِقَادِهِ وَسُوءِ فِعَالِهِ، كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ: أَيْ بِوِقَاعِهِ أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ، وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [11 \ 101] . فَقَالُوا: غَيْرَ خُسْرَانٍ، وَالْخُسْرَانُ يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَالْقَطْعِ. كَمَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [11 \ 63] ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَعْنَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، دَائِرٌ بَيْنَ مَعْنَى الْقَطْعِ وَالْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ. أَمَّا قَطْعُهَا فَلَمْ يُقَدِّرْ عَلَيْهِ قَطْعَ يَدَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَأَمَّا الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ: فَقَدْ هَلَكَ بِالْغُدَّةِ. وَأَمَّا الْخُسْرَانُ: فَمَا أَشَدَّ خُسْرَانِهِ بَعْدَ هَذَا الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى قَدْ تَعَيَّنَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي الْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ، فَمَا مَعْنَى إِسْنَادِ التَّبِّ لِلْيَدَيْنِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ [96 \ 16] ، مَعَ أَنَّ الْكَاذِبَ هُوَ صَاحِبُهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأُسْلُوبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ اخْتِصَاصٍ لِلْجُزْءِ الْمَنْطُوقِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ. فَلَمَّا كَانَ الْكَذِبُ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ وَيُذِلُّ النَّاصِيَةَ، وَعَكْسُهُ الصِّدْقُ يُبَيِّضُ الْوَجْهَ وَيُعِزُّ النَّاصِيَةَ، أَسْنَدَ هُنَاكَ الْكَذِبَ إِلَى النَّاصِيَةِ لِزِيَادَةِ اخْتِصَاصِهَا بِالْكَذِبِ عَنِ الْيَدِ مَثَلًا. وَلَمَّا كَانَ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ غَالِبًا بِمَا تَكْسِبُهُ الْجَوَارِحُ، وَالْيَدُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا فِي ذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْبَتُّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرَدَّ صَاحِبُ الْيَدَيْنِ، مَا جَاءَ بَعْدَهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَبَّ، أَيْ: أَبُو لَهَبٍ نَفْسُهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ أَوِ الْإِنْشَاءِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَتَبَّ، فَهُوَ إِخْبَارٌ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ لِلْإِنْشَاءِ كَقَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [80 \ 17] . ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي تَصْدِيقًا لَهُ، وَجَاءَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ «وَقَدْ تَبَّ» . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. سَوَاءٌ كَانَتْ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَوْ كَانَتْ نَافِيَةً فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَالَهُ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا. وَقَوْلُهُ: وَمَا كَسَبَ. فَقِيلَ: أَيْ مِنَ الْمَالِ الْأَوَّلِ مَا وَرِثَهُ أَوْ مَا كَسَبَ مِنْ عَمَلٍ جَرَّ عَلَيْهِ هَذَا الْهَلَاكَ، وَهُوَ عَدَاؤُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 11] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَعْنَى مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [45 \ 10] . وَسَاقَ كُلَّ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِتَمَامِهَا. تَنْبِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالَانِ هُمَا: أَوَّلًا: لَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ فِي مَكَّةَ مُلَاطِفًا حَلِيمًا، فَكَيْفَ جَابَهَ عَمَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ كَانَ يُلَاطِفُهُمْ مَا دَامَ يَطْمَعُ فِي إِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ فِي مَحَلِّهِ، كَمَا وَقَعَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يُلَاطِفُ أَبَاهُ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [19 \ 44] . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [19 \ 43] ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [9 \ 114] . وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ مَجِيءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَبَّ، بَعْدَ قَوْلِهِ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، مَعَ أَنَّهَا كَافِيَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ إِنْشَاءً لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ أَوْ إِخْبَارًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ. وَالْجَوَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا الْخَبَرَ، وَقَدْ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، أَوْ إِنْشَاءً وَقَدْ لَا يُنَفَّذُ كَقَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [80 \ 17] ، أَوْ يَحْمِلُ عَلَى الذَّمِّ فَقَطْ، وَالتَّقْبِيحِ فَجَاءَ «وَتَبَّ» لِبَيَانِ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لِيَيْأَسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ إِسْلَامِهِ. وَتَنْقَطِعُ الْمُلَاطَفَةُ مَعَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ وَقْعَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [6 \ 115] ، وَقَوْلُهُ: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [10 \ 33] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَة ُ الْإِخْلَاص قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. الْأَحَدُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيِ: الْوَاحِدُ الْوِتْرُ، الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَلَا صَاحِبَةَ، وَلَا وَلَدَ، وَلَا شَرِيكَ. اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى. وَأَصْلُ أَحَدٍ: وَحَدٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِعَةِ: كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَد وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي أَحَدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. قَالَ الْخَلِيلُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْلَهَا وَحَدٌ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً لِلتَّخْفِيفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْأَحَدَ لَيْسَا اسْمَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِالْأَحَدِيَّةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَدٌ وَلَا دِرْهَمٌ أَحَدٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ وَاحِدٌ أَيْ فَرْدٌ بِهِ، بَلْ أَحَدٌ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِهَا فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ: ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ فِي الْأَحَدِ، وَالْأَحَدُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ وَاحِدٌ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ بِخِلَافِ الْأَحَدِ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ أَحَدٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَالْأَحَدَ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ. تَقُولُ فِي الْإِثْبَاتِ رَأَيْتُ رَجُلًا وَاحِدًا. وَتَقُولُ فِي النَّفْيِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. أَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْخَلِيلِ، وَقَدْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فَقَالَ: وَرَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَحَدٌ، أَيْ: خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ أَحَدًا تُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ فَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْإِثْبَاتِ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [4 \ 43] . فَتَكُونُ أَغْلَبِيَّةً فِي اسْتِعْمَالِهَا وَدَلَالَتِهَا فِي الْعُمُومِ وَاضِحَةً. وَقَالَ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي بَابِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ وَمَا بَعْدَهَا: أَحَدٌ، إِنَّهَا فَرْعٌ وَالْأَصْلُ الْوَاوُ وَحَدٌ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْوَاوِ وَفِي مَادَّةِ وَحَدَ. قَالَ: الْوَاوُ وَالْحَاءُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ مِنْ ذَلِكَ الْوَحْدَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ وَاحِدُ قَبِيلَتِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِثْلُهُ قَالَ: يَا وَاحِدَ الْعُرْبِ الَّذِي ... مَا فِي الْأَنَامِ لَهُ نَظِيرُ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ لَبَشَّارٍ يَمْدَحُ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ، أَوْ لِابْنِ الْمَوْلَى يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ، نَقْلًا عَنِ الْأَغَانِي. فَيَكُونُ بِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ بِالْوَاوِ وَالْهَمْزَةَ فَرْعٌ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْعُمُومِ أَوْضَحُ أَيْ أَحَدٌ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَدٌ، أَيْ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ وَلَا شَرِيكَ، وَلَا نَظِيرَ وَلَا نِدَّ لَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ فَسَّرَهُ ضِمْنًا قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [112 \ 4] .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 وَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أَمَّا الْمَعْنَى الْعَامُّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَالرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ كُلَّهَا، بَلْ وَجَمِيعَ الرِّسَالَاتِ: إِنَّمَا جَاءَتْ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ. بَلْ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ. كَمَا قِيلَ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ أَمَّا نُصُوصُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ; لِأَنَّهَا بِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ وَفِي غَيْرِهَا، وَفِي الْبَقَرَةِ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [2 \ 163] . وَفِي التَّوْبَةِ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [9 \ 31] ، فَجَاءَ مَقْرُونًا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي ص قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [38 \ 65] . وَكَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ كُلَّهَا جَاءَتْ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [14 \ 52] ، سُبْحَانَهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَنَزَّهَتْ صِفَاتُهُ، فَهُوَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي أَسْمَائِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ. وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى عَقْلًا كَمَا قَرَّرَهُ نَقْلًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [17 \ 42 - 43] . وَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] . فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ فَسَادِهِمَا بِعَدَمِ تَعَدُّدِهِمَا، وَجَمَعَ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ فِي قَوْلِهِ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [23 \ 91] .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الصَّمَدُ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [112 \ 3] . وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي السُّؤْدُدِ، وَفِي الْكَمَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: مَنْ يَصْمُدُ الْخَلَائِقُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُ هُوَ إِلَى أَحَدٍ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، مَعْنَى الصَّمَدِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [6 \ 14] فَذَكَرَ شَوَاهِدَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا. وَبِإِمْعَانِ النَّظَرِ فِي مَبْدَأٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، يَتَّضِحُ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا تَفْسِيرٌ لِأَوَّلِهَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لِأَنَّ الْأَحَدِيَّةَ هِيَ تَفَرُّدُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّ الْمَوْلُودَ لَيْسَ بِأَحَدٍ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَالِدِهِ. وَالْوَالِدُ لَيْسَ بِأَحَدٍ ; لِأَنَّ جُزْءًا مِنْهُ فِي وَلَدِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَكُونُ لَهُ كُفْءٌ، فَلَيْسَ بِأَحَدٍ لِوُجُودِ الْكُفْءِ، وَهَكَذَا السُّورَةُ كُلُّهَا لِتَقْرِيرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، بَيَانُ شَوَاهِدِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الْآيَةَ [25 \ 2] مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. تَنْبِيهٌ فَفِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوِلَادَةِ ; لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ وِلَادَةٍ كَالتَّبَنِّي أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عَزِيزِ مِصْرَ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [12 \ 21] . فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْيٌ أَخَصُّ، فَلَزِمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ سُورَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 الْإِخْلَاصِ. وَالَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِاخْتِصَاصِهَا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالصَّمَدِيَّةِ، وَنَفْيِ الْوِلَادَةِ وَالْوَلَدِ، وَنَفْيِ الْكُفْءِ، وَكُلُّهَا صِفَاتُ انْفِرَادٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِيهَا النَّصُّ الصَّرِيحُ بِعَدَمِ الْوِلَادَةِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، وَهَذَا مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِدُونِ شَكٍّ وَلَا نِزَاعٍ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا أَيُّ خِلَافٍ. وَلَكِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَلِّمُوا بِذَلِكَ، فَالْيَهُودُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. فَاتَّفَقُوا عَلَى ادِّعَاءِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْلُودٌ. وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِلَّا أَنَّ مُجَرَّدَ النَّصِّ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْخَصْمُ لَا يَكْفِي لِإِقْنَاعِهِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِصِفَاتِ اللَّهِ، لَمْ يَأْتِ التَّنْوِيهُ فِيهَا عَنِ الْمَانِعِ مِنِ اتِّخَاذِ اللَّهِ لِلْوَلَدِ، وَمِنْ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يُولَدْ. وَلَمَّا كَانَ بَيَانُ الْمَانِعِ أَوِ الْمُوجِبِ مِنْ مَنْهَجِ هَذَا الْكِتَابِ، إِذَا كَانَ يُوجَدُ لِلْحُكْمِ مُوجِبٌ أَوْ مَانِعٌ وَلَمْ تَتَقَدَّمِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، بِمَا يَكْفِي وَيَشْفِي. وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَجَاءَ الرَّدُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ بَيَانِ الْمَانِعِ مُفَصَّلًا مَعَ الْإِشْعَارِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَلِذَا لَزِمَ التَّنْوِيهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [2 \ 116 - 117] . فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِيمَا قَالُوهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 وَنَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَسْبِيحِهِ عَمَّا قَالُوا. ثُمَّ جَاءَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، فَفِيهِ بَيَانُ الْمَانِعِ عَقْلًا مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ بِمَا يَلْزَمُ الْخَصْمَ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ بَارًّا بِوَالِدِهِ، وَأَنْ يَنْتَفِعَ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [18 \ 46] ، أَوْ يَكُونُ الْوَلَدُ وَارِثًا لِأَبِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْآيَةَ [19 \ 5 - 6] . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيٌّ بَاقٍ يَرِثُ وَلَا يُورَثُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ الْآيَةَ [55 \ 26 - 27] . وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [3 \ 180] . فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي قُنُوتٍ وَامْتِثَالٍ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [19 \ 92 - 93] . فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْوَلَدِ لِغِنَاهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [2 \ 117] . وَهَذَا وَاضِحٌ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [17 \ 111] . أَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ. فَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، بِدَلِيلِ الْمُمَانَعَةِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ كَالْآتِي: لَوْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْ يُولَدَ لَكَانَ فِي وُجُودِهِ مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يُوجِدُهُ، ثُمَّ يَكُونُ مَنْ يَلِدُهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى وَالِدٍ، وَهَكَذَا يَأْتِي الدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ وَهَذَا بَاطِلٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْوَلَدِ بِنَفْيِهَا مَعْنَى الصَّمَدِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ لَكَانَ الْوَالِدُ أَسْبَقَ وَأَحَقَّ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يُقَالُ: مِنْ جَانِبِ الْمُمَانَعَةِ الْعَقْلِيَّةِ لَوِ افْتُرِضَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [43 \ 81] . فَنَقُولُ عَلَى هَذَا الِافْتِرَاضِ: لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَمَا مَبْدَأُ وُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ وَمَا مَصِيرُهُ؟ فَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَمَتَى حُدُوثُهُ؟ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا تَعَدَّدَ الْقِدَمُ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ بَاقِيًا تَعَدَّدَ الْبَقَاءُ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَهِيًا فَمَتَى انْتِهَاؤُهُ؟ وَإِذَا كَانَ مَآلُهُ إِلَى الِانْتِهَاءِ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى إِيجَادِهِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَانْتَفَى اتِّخَاذُ الْوَلَدِ عَقْلًا وَنَقْلًا، كَمَا انْتَفَتِ الْوِلَادَةُ كَذَلِكَ عَقْلًا وَنَقْلًا. وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سُؤَالًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ لِمَاذَا قَدَّمَ نَفْيَ الْوَلَدِ عَلَى نَفْيِ الْوِلَادَةِ؟ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَشَاهَدِ أَنْ يُولَدَ ثُمَّ يَلِدُ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ لِأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَعَلَى الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْلُودٌ لِأَحَدٍ، فَكَانَتْ دَعْوَاهُمُ الْوَلَدَ لِلَّهِ فِرْيَةٌ عُظْمَى. اهـ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [18 \ 5] . وَقَوْلُهُ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [19 \ 88 - 91] . فَلِشَنَاعَةِ هَذِهِ الْفِرْيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَهَا، ثُمَّ الرَّدُّ عَلَى عَدَمِ إِمْكَانِهَا بِقَوْلِهِ: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [19 \ 92 - 93] . وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلِيلَ الْمَنْعِ عَقْلًا وَنَقْلًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 وَهُنَا سُؤَالٌ أَيْضًا، وَهُوَ إِذَا كَانَ ادِّعَاءُ الْوَلَدِ قَدْ وَقَعَ، وَجَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِ: فَإِنَّ ادِّعَاءَ الْوِلَادَةِ لَمْ يَقَعْ، فَلِمَاذَا ذَكَرَ نَفْيَهُ مَعَ عَدَمِ ادِّعَائِهِ؟ وَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ الْوِلَادَةَ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَقَدْ يُجَوِّزُ الْوِلَادَةَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا فَجَاءَ نَفْيُهَا تَتِمَّةً لِلنَّفْيِ وَالتَّنْزِيهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَحْرِ، كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ مَائِهِ فَقَطْ، فَجَاءَ الْجَوَابُ عَنْ مَائِهِ وَمَيْتَتِهِ ; لِأَنَّ مَا احْتَمَلَ السُّؤَالَ فِي مَائِهِ يَحْتَمِلُ الِاشْتِبَاهَ فِي مَيْتَتِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. قَالُوا: كُفُؤًا وَكُفُوًا وَكَفَاءً، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمِثْلُ. وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكُلُّهَا تَدُورُ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ. فَعَنْ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ وَلَا عَدِيلٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ بِمَعْنَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَيْ لَا صَاحِبَةَ لَهُ. وَقَدْ جَاءَ نَفْيُ الْكُفْءِ وَالْمِثْلِ وَالنِّدِّ وَالْعَدْلِ، فَالْكُفْءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالْمِثْلُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [16 \ 74] . وَالنِّدُّ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [2 \ 22] . وَالْعِدْلُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [6 \ 1] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ عِنْدَ آيَةِ الْأَنْعَامِ بَيَانٌ لِذَلِكَ، أَيْ يُسَاوُونَهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعِدْلِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ أَحَدُ شِقَّيْ حَمْلِ الْبَعِيرِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مَبْحَثَانِ يُورِدُهُمَا الْمُفَسِّرُونَ. أَحَدُهُمَا: أَسْبَابُ نُزُولِهَا، وَالْآخَرُ: مَا جَاءَ فِي فَضْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ هَذَا الْكِتَابِ تَتَبُّعُ ذَلِكَ، إِلَّا مَا كَانَ لَهُ دَوَافِعُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 أَمَّا مَا جَاءَ فِي فَضْلِهَا، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ: لَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ إِيرَادَ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّهَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ فِي تَرْجَمَةِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ إِيرَادِهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ تِلَاوَتَهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِتَعَلُّقِ مَوْضُوعِهَا بِالتَّوْحِيدِ. أَمَّا الْمَبْحَثُ الْآخَرُ وَهُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا، فَقِيلَ فِيهِ. إِنَّ الْمُشْرِكِينَ طَلَبُوا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْسُبَ لَهُمْ رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ. وَقَوْلُهُ فِيهَا: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، رُدٌّ عَلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى حِينَمَا سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنْ رَبِّهِ، فَقَالَ لَهُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [26 \ 23] . فَجَاءَ جَوَابُهُ: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [26 \ 24 - 27] . وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، أَنَّ مُوجِبَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ عَنْ مُوسَى «لَمَجْنُونٌ» ; لِأَنَّهُ سَأَلَهُ بِمَا فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَا يَسْأَلُ بِهَا عَنْ شَرْحِ الْمَاهِيَّةِ فَكَانَ مُقْتَضَى السُّؤَالِ بِهَا أَنْ يُبَيِّنَ مَاهِيَّةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ، كَمَا يُقَالُ فِي جَوَابٍ: مَا الْإِنْسَانُ؟ إِنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ. وَلَكِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْرَضَ عَنْ سُؤَالِ فِرْعَوْنَ لِجَهْلِهِ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِتَجَاهُلِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [27 \ 14] ، وَأَجَابَهُ عَمَّا يَخُصُّهُ وَيَلْزَمُهُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، لَا رُبُوبِيَّةَ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، لَمَّا سَأَلُوا عَنِ الْأَهِلَّةِ، مَا بَالُهَا تَبْدُو صَغِيرَةً، ثُمَّ تَكْبُرُ؟ فَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ حَقِيقَةِ تَغَيُّرِهَا، فَتَرَكَ الْقُرْآنُ جَوَابَهُمْ عَلَى سُؤَالِهِمْ وَأَجَابَهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ. وَكَذَلِكَ جَوَابُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنُّمْرُوذِ حِينَمَا حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [2 \ 258] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 فَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّهِ وَنَسَبِهِ جَاءَ الْجَوَابُ بِصِفَاتِهِ ; لِأَنَّ مَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا فِي الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَفِي الْمُمْكِنِ لَا فِي الْوَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، سُبْحَانَ مَنْ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ غَيْرُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [42 \ 11] ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [20 \ 110] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 الْمُعَوِّذَتَانِ سُورَةُ الْفَلَقِ وَسُورَةُ النَّاس يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُمَا مُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [113 \ 1] فَقُلْتُهَا وَقَالَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [114 \ 1] فَقُلْتُهَا فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ قَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَثْبَتُوهُمَا فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ، وَنَفَّذُوهَا إِلَى سَائِرِ الْآفَاقِ. وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ وَسَاقَ عِدَّةَ طُرُقٍ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُمَا قُرْآنٌ، مِمَّا يَنْفِي أَيَّ خِلَافٍ بَعْدِ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِهِمَا. وَقَدِ اعْتَذَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُمَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهُمَا قُرْآنٌ وَسَمِعَهُمَا فَظَنَّهُمَا أَنَّهُمَا دُعَاءٌ مِنَ الْأَدْعِيَةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» . وَلَمَّا بَلَغَهُ إِثْبَاتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَمِنَ الْجَدِيرِ بِالذِّكْرِ التَّنْوِيهُ عَنِ ارْتِبَاطِهِمَا بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ قَبْلَهُمَا. وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، وَالصَّمَدُ مِنْ مَعَانِيهِ الَّذِي تَصْمُدُ الْخَلَائِقُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِمْ، جَاءَ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ تَوْجِيهُ الْعِبَادِ إِلَى مَنْ يَسْتَعِيذُونَ وَيَلُوذُونَ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ الصَّمَدُ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يُعِيذُهُمْ وَيَحْفَظُهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ: تُعَادِلُ الِاسْتِعَاذَةَ بِالْخَالِقِ مِمَّا خَلَقَ ; لِأَنَّ كُلَّ مُنْغَلِقٍ عَنْ غَيْرِهِ، إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الَّذِي لَمْ يَلِدُ وَلَمْ يُولَدْ. الثَّانِيَةُ بَعْدَهَا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُعْطِيهِ السِّيَاقُ مِنْ خَتْمِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ، وَالْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُمَا لِبَيَانِ عِظَمِ مَنْزِلَتِهِمَا. كَمَا أَنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، قَدْ أَحَالَ عَلَى سُورَةِ النَّاسِ لِإِتْمَامِ مَبْحَثِ إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ كُلَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَحَلِّهِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْفَلَق قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ تَعَالَى بِخَالِصِ التَّوْحِيدِ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَهِيَ مَعْرَكَةُ الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ، وَمَثَارُ الْخِلَافِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْدَائِهِ، أُمِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ شُرُورِ الْخَلْقِ فَلَا يَضُرُّوهُ. إِلَخْ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . قَالَ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُه ُ: الْفَلَقُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَفْلُوقٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ. فَقِيلَ: إِنَّهُ الصُّبْحُ يَتَفَلَّقُ عَنْهُ اللَّيْلُ. وَقِيلَ: الْحِسُّ وَالنَّوَى. وَقِيلَ: هُوَ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كُلُّ مَا فَلَقَهُ اللَّهُ عَنْ غَيْرِهِ، كَاللَّيْلِ عَنِ الصُّبْحِ، وَالْحَبِّ وَالنَّوَى عَنِ النَّبْتِ، وَالْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ، وَالْجِبَالِ عَنِ الْعَوْنِ، وَالْأَرْحَامِ عَنِ الْأَوْلَادِ، وَالسَّحَابِ عَنِ الْمَطَرِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ، فَتُطْلَقُ كَذَلِكَ كَمَا أَطْلَقَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ الْأَقْوَالِ مَا عَدَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ التَّنَوُّعِ، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مُحْتَمَلَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ. أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَصٌّ، وَلَيْسَتْ فِيهِ أَيَّةُ مُشَاهَدَةٍ يُحَالُ عَلَيْهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى الْمُشَاهَدَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ هُوَ الْأَوَّلُ، كَمَا جَاءَ النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي الصُّبْحِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [6 \ 95 - 96] . وَكُلُّهَا آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَرَى رُؤْيَا، إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ. وَالْفَلَقُ: بِمَعْنَى الصُّبْحِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا لَيْلَةً لَمْ أَنَمْهَا بِتُّ مُرِتَقِبًا ... أَرْعَى النُّجُومَ إِلَى أَنْ قَدَّرَ الْفَلَقُ وَقَوْلُ الْآخَرِ مِثْلُهُ وَفِيهِ: إِلَى أَنْ نَوَّرَ الْفَلَقُ بَدَلَ قَدَّرَ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ فِي قُوَّةِ الْإِقْسَامِ بِرَبِّ الْكَوْنِ كُلِّهِ يَتَفَلَّقُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَهَذَا عَامٌّ وَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ إِبْلِيسَ وَجَهَنَّمَ مِمَّا خَلَقَ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ حَوْلَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ؟ وَأُجِيبَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُعُوذُ بِكَ مِنْكَ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [13 \ 16] . وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، ئيمُنَاقَشَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُنَاظَرَةِ الْإِسْفَرَايِينيِّ مَعَ الْجِبَائِيِّ فِي الْقَدَرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا بِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 الْغَاسِقُ: قِيلَ اللَّيْلُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [17 \ 78] . وَوَقَبَ: أَيْ دَخَلَ. وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَا طَيْفُ هِنْدَ قَدْ أَبْقَيْتَ لِي أَرَقَا ... إِذْ جِئْتَنَا طَارِقًا وَاللَّيْلُ قَدْ غَسَقَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: الْقَمَرُ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: تَعَوَّذِي مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» . أَيِ الْقَمَرُ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: إِنَّهُ أَنْسَبُ لِمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنَ السِّحْرِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ فِي آخِرِ الشَّهْرِ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ ثَعْلَبٍ، عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، أَنَّ أَهْلَ الرَّيْبِ يَتَحَيَّنُونَ وَجْبَةَ الْقَمَرِ، أَيْ سُقُوطَهُ وَغُيُوبَتَهُ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَرَاحَنِي اللَّهُ مِنْ أَشْيَاءَ أَكْرَهُهَا ... مِنْهَا الْعَجُوزُ وَمِنْهَا الْكَلْبُ وَالْقَمَرُ هَذَا يَبُوحُ وَهَذَا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَهَذِهِ ضَمْرَزٌ قَوَّامَةُ السِّحْر وَالضَّمْرَزُ: النَّاقَةُ الْمُسِنَّةُ، وَالْمَرْأَةُ الْغَلِيظَةُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ: الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ بِشَهَادَةِ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: تَابِعٌ لَهُ ; لِأَنَّ الْقَمَرَ فِي ظُهُورِهِ وَاخْتِفَائِهِ مُرْتَبِطٌ بِاللَّيْلِ، فَهُوَ بَعْضُ مَا يَكُونُ فِي اللَّيْلِ، وَفِي اللَّيْلِ تَنْتَشِرُ الشَّيَاطِينُ وَأَهْلُ الْفَسَادِ، مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَيَقِلُّ فِيهِ الْمُغِيثُ إِلَّا اللَّهُ.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 وَفِي الْحَدِيثِ: «أَطْفِئُوا السُّرُجَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بُيُوتَهُمْ لَيْلَا» . أَيِ: الْفَأْرَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ . الْمُرَادُ بِهِ السَّحَرَةُ قَطْعًا، سَوَاءٌ كَانَ النَّفْثُ مِنَ النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، أَوْ مِنَ الرِّجَالِ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ، أَوِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ فَتَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ. وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، لَمَّا سَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مَبْحَثُ السِّحْرِ وَأَقْسَامُهُ وَأَحْكَامُهُ وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [20 \ 69] ، مِنْ سُورَةِ طه، مَا عَدَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ حُكْمُ مَا لَوْ قَتَلَ أَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا بِسِحْرِهِ، فَمَا يَكُونُ حُكْمُهُ، وَنُورِدُهَا مُوجَزَةً. مَسْأَلَةٌ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي رَحِمَهُ اللَّهُ النَّوْعَ السَّادِسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ: أَنْ يَقْتُلَهُ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَفِيهِ الدِّيَةُ اهـ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ شَرْحِ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ لِلشَّافِعِيَّةِ: التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ كَذَلِكَ. وَذَكَرَ مِثْلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ بِسِحْرِهِ. تَنْبِيهٌ يَقَعُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْإِنْسَانِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى فِي بَعْضِ الصَّحْرَاءِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ خَيْطًا أَحْمَرَ، قَدْ عُقِدَتْ فِيهِ عُقَدٌ عَلَى فُصْلَانٍ، أَيْ جَمْعُ فَصِيلَ، فَمُنِعَتْ مِنْ رَضَاعِ أُمَّهَاتِهَا بِذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا حَلَّ عُقْدَةً جَرَى ذَلِكَ الْفَصِيلُ إِلَى أُمِّهِ فِي الْحِينِ فَرَضَعَ. اهـ. كَمَا يَقَعُ الْحَسَدُ أَيْضًا عَلَى الْحَيَوَانِ، بَلْ وَعَلَى الْجَمَادِ أَيْ عَيْنُ الْعَائِنِ تُؤَثِّرُ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ، كَمَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِنْسَانِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ. اقْتِرَانُ الْحَسَدِ بِالسِّحْرِ هُنَا، يُشِيرُ إِلَى وُجُودِ عَلَاقَةٍ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ السِّحْرِ وَالْحَسَدِ، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ هُوَ التَّأْثِيرُ الْخَفِيُّ الَّذِي يَكُونُ مِنَ السَّاحِرِ بِالسِّحْرِ، وَمِنَ الْحَاسِدِ بِالْحَسَدِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي عُمُومِ الضَّرَرِ، فَكِلَاهُمَا إِيقَاعُ ضَرَرٍ فِي خَفَاءٍ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، أَنْوَاعَ السِّحْرِ وَأَحْكَامَهُ وَأَوْرَدَ فِيهِ كَلَامًا وَافِيًا. وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَدَّمْنَا: أَنَّ الْحَسَدَ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالسِّحْرِ نَوْعًا مَا، فَلَزِمَ إِيضَاحُهُ وَبَيَانُ أَمْرِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْلًا: تَعْرِيفُهُ: قَالُوا: إِنَّ الْحَسَدَ هُوَ تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ، أَوْ عَدَمِ حُصُولِ النِّعْمَةِ لِلْغَيْرِ شُحًّا عَلَيْهِ بِهَا. وَقَدْ قُيِّدَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الْحَاسِدِ إِذَا حَسَدَ، أَيْ عِنْدَ إِيقَاعِهِ الْحَسَدَ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا مِنْ شَرِّ السَّاحِرِ إِذَا سَحَرَ. وَذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ النَّفْثَ فِي الْعُقَدِ هُوَ عَيْنُ السِّحْرِ، فَتَكُونُ الِاسْتِعَاذَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَهَا عِنْدَ سِحْرِهِ الْوَاقِعِ مِنْهُ بِنَفْثِهِ الْحَاصِلِ مِنْهُ فِي الْعُقَدِ. أَمَّا الْحَاسِدُ فَلَمْ يَسْتَعِذْ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ إِيقَاعِهِ الْحَسَدَ بِالْفِعْلِ، أَيْ: عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إِلَى الْمَحْسُودِ ; لِأَنَّهُ قَبْلَ تَوَجُّهِهِ إِلَى الْمَحْسُودِ بِالْحَسَدِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ شَرٌّ، فَلَا مَحَلَّ لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ. أَمَّا حَقِيقَةُ الْحَسَدِ: فَيَتَعَذَّرُ تَعْرِيفُهُ مَنْطِقِيًّا. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي السِّحْرِ: لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ لِخَفَائِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَسَدَ أَشَدُّ خَفَاءً ; لِأَنَّهُ عَمَلٌ نَفْسِيٌّ وَأَثَرٌ قَلْبِيٌّ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ كَإِشْعَاعٍ غَيْرِ مَرْئِيٍّ، يَنْتَقِلُ مِنْ قَلْبِ الْحَاسِدِ إِلَى الْمَحْسُودِ، عِنْدَ تَحَرُّقِهِ بِقَلْبِهِ عَلَى الْمَحْسُودِ، وَقَدْ شُبِّهَ حَسَدُ الْحَاسِدِ بِالنَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الْحَسُودِ ... فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ كَالنَّارِ تَأْكُلُ بَعْضَهَا ... إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهُ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ وُقُوعَ الْحَسَدِ، حَيْثُ إِنَّهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ غَيْرِ مُشَاهَدٍ، كَالنَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْعَقْلِ. وَقَدْ شُوهِدَتِ الْيَوْمَ أَشِعَّةُ إِكْس وَهِيَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، وَلَكِنَّهَا تَنْفُذُ إِلَى دَاخِلِ الْجِسْمِ مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ، بَلْ وَخَشَبٍ وَنَحْوِهِ. وَلَا يَرُدُّهَا إِلَّا مَادَّةُ الرَّصَاصِ لِكَثَافَةِ مَعْدِنِهِ، فَتَصَوَّرْ دَاخِلَ جِسْمِ الْإِنْسَانِ مِنْ عِظَامٍ وَأَمْعَاءٍ وَغَيْرِهَا، فَلَا مَعْنَى لِرَدِّ شَيْءٍ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ. تَنْبِيهٌ قَدْ أَطْلَقَ الْحَسَدَ هُنَا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمَحْسُودَ عَلَيْهِ، مَا هُوَ مَعَ أَنَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْغَيْرِ. وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى أَعْظَمِ النِّعْمَةِ الَّتِي حُسِدَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عَامَّةً، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَهِيَ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ وَنِعْمَةُ الْوَحْيِ وَتَحْصِيلِ الْغَنَائِمِ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [2 \ 109] . وَالْمُشْرِكُونَ حَسَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِعْمَةِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [4 \ 54] . وَالنَّاسُ هُنَا عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [3 \ 173] . فَالنَّاسُ الْأُولَى عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خُصُوصُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ. وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْحَسَدُ عَنْ نِعْمَةٍ مُتَوَقَّعَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [48 \ 15] .ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 فَتَبَيَّنَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَسَدَ يَكُونُ فِي نِعْمَةٍ مَوْجُودَةٍ، وَيَكُونُ فِي نِعْمَةٍ مُتَوَقَّعٌ وُجُودُهَا. تَنْبِيهٌ آخَرُ تُوجَدُ الْعَيْنُ كَمَا يُوجَدُ الْحَسَدُ، وَلَمْ أَجِدْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَعَ وُجُودِ الْفَرْقِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْعَيْنَ لَحَقٌّ» . كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ: «لَوْ أَنَّ شَيْئًا يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» . وَيُقَالُ فِي الْحَسَدِ: حَاسِدٌ، وَفِي الْعَيْنِ: عَائِنٌ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْأَثَرِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْوَسِيلَةِ وَالْمُنْطَلَقِ. فَالْحَاسِدُ: قَدْ يَحْسُدُ مَا لَمْ يَرَهُ، وَيَحْسُدْ فِي الْأَمْرِ الْمُتَوَقَّعِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَمَصْدَرُهُ تَحَرُّقُ الْقَلْبِ وَاسْتِكْثَارُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمَحْسُودِ، وَبِتَمَنِّي زَوَالِهَا عَنْهُ أَوْ عَدَمِ حُصُولِهَا لَهُ وَهُوَ غَايَةٌ فِي حِطَّةِ النَّفْسِ. وَالْعَائِنُ: لَا يَعِينُ إِلَّا مَا يَرَاهُ وَالْمَوْجُودَ بِالْفِعْلِ، وَمَصْدَرُهُ انْقِدَاحُ نَظْرَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ يَعِينُ مَا يَكْرَهُ أَنْ يُصَابَ بِأَذًى مِنْهُ كَوَلَدِهِ وَمَالِهِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَسَدُ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْحَسَدُ وَيُرَادُ بِهِ الْغِبْطَةُ، وَهُوَ تَمَنِّي مَا يَرَاهُ عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهِ عَنْهُمْ. وَعَلَيْهِ الْحَدِيثُ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا بَيْنَ النَّاسِ» . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ مَرْفُوعًا «الْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ» . وَقَالَ: الْحَسَدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَحَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَحَسَدَ قَابِيلُ هَابِيلُ اهـ. تَحْذِيرٌ كُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّ أَوَّلَ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ هِيَ الْحَسَدُ، وَجَرَّ شُؤْمُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَذَلِكَ لَمَّا حَسَدَ إِبْلِيسُ أَبَانَا آدَمَ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 الْكَرَامَاتِ مِنْ خَلْقِهِ بِيَدَيْهِ، وَأَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لَهُ، فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى التَّكَبُّرِ، وَمَنَعَهُ التَّكَبُّرُ مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ طَرْدَهُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ. أَسْبَابُ الْحَسَد وَبِتَأَمُّلِ الْقِصَّةِ، يَظْهَرُ أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْحَسَدِ أَصْلُهُ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: ازْدِرَاءُ الْمَحْسُودِ. وَالثَّانِي: إِعْجَابُ الْحَاسِدِ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ إِبْلِيسُ مُعَلِّلًا لِامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [7 \ 12] . ثُمَّ فَصَّلَ مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الْمَزْعُومَةِ بِقَوْلِهِ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [7 \ 12] ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْهَا التَّعَزُّزُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَيْهِ، وَالتَّعَجُّبُ بِأَنْ يَعْجَبَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَرَى أَحَدًا أَوْلَى مِنْهُ، وَالْخَوْفُ مِنْ فَوَاتِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ شَخْصٍ إِذَا رَآهُ سَيَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ مِمَّنْ لَا يُرِيدُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ فَنٍّ أَوْ مَجَالٍ. وَذَكَرَهَا الرَّازِيُّ نَقْلًا عَنِ الْغَزَالِيِّ. وَمِنْ هُنَا لَا نَرَى مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ قَطُّ، إِلَّا وَيَزْدَرِي الْآخَرِينَ وَيَحْسُدُهُمْ عَلَى أَدْنَى نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ. عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ إِذَا كَانَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ هِيَ حَسَدُ إِبْلِيسَ لِأَبِينَا آدَمَ عَلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَجَاءَ حَسَدُ الْمُشْرِكِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِعْمَةِ الْوَحْيِ، وَحَسَدُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَجَاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوَاخِرِ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهَا جَاءَتْ فِي أَعْقَابِ الْقُرْآنِ لِتُذَكِّرَ الْمُسْلِمِينَ بِعِظَمِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَشَدَّةِ حَسَدِهِمْ عَلَيْهِ، لِيَحْذَرُوا أَعْدَاءَهُمُ الَّذِينَ يَكِيدُونَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، مِنْ كُلٍّ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا وَالْأَخِيرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ مَنْ قَتَلَ أَوْ كَسَرَ أَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا بِالْعَيْن تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَقِّ السِّحْرِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْعَيْنِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي كِتَابِ الطِّبِّ مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَرَيَانِ الْقَصَاصِ بِذَلِكَ، يَعْنِي بِالْعَيْنِ. فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا ضَمِنَهُ لَوْ قَتَلَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالسَّاحِرِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْتُلُهُ كُفْرًا. اهـ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ بَلْ مَنَعُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا وَلَا يُعَدُّ مُهْلِكًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: وَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُنْضَبِطٍ عَامٍّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، مِمَّا لَا انْضِبَاطَ لَهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَالِ نِعْمَةٍ. وَأَيْضًا، فَالَّذِي يَنْشَأُ عَنِ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُولُ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي زَوَالِ الْحَيَاةِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ. اهـ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْحُكْمُ بِقَتْلِ السَّاحِرِ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَسِيرٌ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُ الْعَائِنِ إِذَا عُرِفَ بِذَلِكَ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ يُلْزِمُهُ بَيْتَهُ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَقُومُ بِهِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَنْعِهِ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَأَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الثُّومِ الَّذِي مَنَعَ الشَّارِعُ آكِلَهُ مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ مُتَعَيِّنٌ، لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ. اهـ. مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَبِتَأَمُّلِ قَوْلِ الْقُرْطُبِيِّ وَالنَّوَوِيِّ بِدِقَّةٍ لَا يُوجَدُ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ فِي الْأَصْلِ، إِذِ الْقُرْطُبِيُّ يُقَيِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَتَكَرَّرُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً لَهُ. وَالنَّوَوِيُّ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَعَلَيْهِ فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 فَإِنَّهُ يَتَّفِقُ مَعَ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ تَمَامًا فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ بِعَيْنِهِ وَكَانَ مُعْتَادًا مِنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَهَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا نَصُّهُ: وَالْمِعْيَانُ الَّذِي يَقْتُلُ بِعَيْنِهِ. قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ: يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالسَّاحِرِ الَّذِي يَقْتُلُ بِسِحْرِهِ غَالِبًا، فَإِذَا كَانَتْ عَيْنُهُ يَسْتَطِيعُ الْقَتْلَ بِهَا وَيَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَجَبَ بِهِ الْقَصَاصُ اهـ. مَسْأَلَةٌ: بَيَانُ مَا تُعَالَجُ بِهِ الْعَيْنُ لَمَّا كَانَ الْحَسَدُ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهَا وَجَاءَ فِيهَا: «لَوْ أَنَّ شَيْئًا يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» . وَحَدِيثُ: «إِنَّ الْعَيْنَ لَحَقٌّ» فَقَدْ فَصَّلَتِ السُّنَّةُ كَيْفِيَّةَ اتِّقَائِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَالْعِلَاجَ مِنْهَا إِذَا وَقَعَتْ. وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصِّحَاحِ، فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابَ رُقْيَةِ الْعَيْنِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ» . وَعَقَدَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بَابًا بِعُنْوَانِ الْوُضُوءِ مِنَ الْعَيْنِ، وَبَابًا آخَرَ بَعْدَهُ بِعُنْوَانِ الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَسَاقَ حَدِيثَ سَهْلٍ بِتَمَامِهِ وَفِيهِ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اتِّقَائِهَا وَعِلَاجِهَا، وَلِذَا نَكْتَفِي بِإِيرَادِهِ لِشُمُولِهِ. قَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: اغْتَسَلَ أَبِي سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْحِرَارِ فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ، قَالَ: وَكَانَ سَهْلُ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ عَذْرَاءَ، قَالَ: فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عَامِرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، أَلَا بَرَّكْتَ؟ إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأْ لَهُ، فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 وَسَاقَ مَرَّةً أُخْرَى وَفِيهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ تَتَّهِمُونَ لَهُ أَحَدًا؟ قَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، أَلَا بَرَّكْتَ، اغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ، لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» . فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تُثْبِتُ قَطْعًا وُقُوعَ الْعَيْنِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ، كَمَا أَنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مَنْ بَرَّكَ، أَيْ قَالَ: تَبَارَكَ اللَّهُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِغَيْرِ مَالِكٍ: هَلَّا كَبَّرْتَ، أَيْ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ عَيْنَ الْعَائِنِ. كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ «أَنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْبَلَاءَ» فَإِذَا لَمْ تُدْفَعْ عِنْدَ صُدُورِهَا وَأَصَابَتْ، فَإِنَّ الْعِلَاجَ مِنْهَا كَمَا جَاءَ هُنَا «تَوَضَّأْ لَهُ» ، وَاللَّفْظُ الْآخَرُ: «اغْتَسِلْ لَهُ» . وَقَدْ فَصَّلَ الْمُرَادَ بِالْغَسْلِ لَهُ: أَنَّهُ غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَيِ: الْكَفَّيْنِ فَقَطْ، وَالْمِرْفَقَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَطَرَفِ الْإِزَارِ الدَّاخِلِيِّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي إِنَاءٍ لَا يُسْقِطُ الْمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُفْرَغُ هَذَا الْمَاءُ عَلَى الْمُصَابِ مِنَ الْخَلْفِ وَيُكْفَأُ الْإِنَاءُ خَلْفَهُ. وَقَدْ ذَكَرَهَا مُفَصَّلَةً الْقَاضِي الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ فَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنِ ابْنِ نَافِعٍ فِي مَعْنَى الْوُضُوءِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَغْسِلُ الَّذِي يُتَّهَمُ بِالرَّجُلِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ، وَقَالَ: وَلَا يَغْسِلُ مَا بَيْنَ الْيَدِ وَالْمِرْفَقِ، أَيْ: لَا يَغْسِلُ السَّاعِدَ مِنَ الْيَدِ. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْغَسْلُ الَّذِي أَدْرَكْنَا عُلَمَاءَنَا يَصِفُونَهُ: أَيْ يُؤْتَى الْعَائِنُ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَيُمْسِكُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ فَيُدْخِلُ فِيهِ كَفَّهُ فَيُمَضْمِضُ، ثُمَّ يَمُجُّهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ فِي الْقَدَحِ صَبَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى صَبَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى قَدَمِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، كُلُّ ذَلِكَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ يُدْخِلُ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي الْقَدَحِ وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 فِي الْأَرْضِ، فَيُصَبُّ عَلَى رَأْسِ الْمَعِينِ مِنْ خَلْفِهِ صَبَّةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: يُغْتَفَلُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ، أَيْ: فِي حَالَةِ غَفْلَتِهِ، ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَرَاءَهُ. وَأَمَّا دَاخِلَةُ إِزَارِهِ: فَهُوَ الطَّرَفُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يُفْضِي مِنْ مَأْزَرِهِ إِلَى جِلْدِهِ مَكَانَهُ، إِنَّمَا يَمُرُّ بِالطَّرَفِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ، حَتَّى يَشُدَّهُ بِذَلِكَ الطَّرَفِ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَكُونُ مِنْ دَاخِلٍ. اهـ. وَمِمَّا يُرْشِدُ إِلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ تَغَيُّظُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ» مِمَّا يُبَيِّنُ شَنَاعَةَ هَذَا الْعَمَلِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ. وَمِمَّا يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْعَيْنِ، فَلْيُبَارِكْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مَا يُعْجِبُهُ لِئَلَّا يُصِيبَ أَحَدًا بِعَيْنِهِ، وَلِئَلَّا تَسْبِقَهُ عَيْنُهُ. وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّهَمَ أَحَدًا بِالْعَيْنِ، فَلْيُكَبِّرْ ثَلَاثًا عِنْدَ تَخَوُّفِهِ مِنْهُ. فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ الْعَيْنَ بِذَلِكَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا لِلْحَسَدِ دَوَاءً كَذَلِكَ، أَيْ يُدَاوِي بِهِ الْحَاسِدُ نَفْسَهُ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ عَنَاءِ الْحَسَدِ الْمُتَوَقِّدِ فِي قَلْبِهِ الْمُنَغِّصِ عَلَيْهِ عَيْشَهُ الْجَالِبِ عَلَيْهِ حُزْنَهُ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِي أَمْرَيْنِ. الْعِلْمُ ثُمَّ الْعَمَلُ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُوَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي يَرَاهَا عَلَى الْمَحْسُودِ، إِنَّمَا هِيَ عَطَاءٌ مِنَ اللَّهِ بِقَدَرٍ سَابِقٍ وَقَضَاءٍ لَازِمٍ، وَأَنَّ حَسَدَهُ إِيَّاهُ عَلَيْهَا لَا يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَيَعْلَمَ أَنَّ ضَرَرَ الْحَسَدِ يَعُودُ عَلَى الْحَاسِدِ وَحْدَهُ فِي دِينِهِ لِعَدَمِ رِضَائِهِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقِسْمَتِهِ لِعِبَادِهِ ; لِأَنَّهُ فِي حَسَدِهِ كَالْمُعْتَرِضِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [43 \ 32] ، وَفِي دُنْيَاهُ لِأَنَّهُ يُورِثُ السِّقَامَ وَالْأَحْزَانَ وَالْكَآبَةَ وَنَفْرَةَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَقْتَهُمْ إِيَّاهُ، وَمِنْ وَرَاءِ هَذَا وَذَاكَ الْعِقَابَ فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ مُجَاهَدَةُ نَفْسِهِ ضِدَّ نَوَازِعِ الْحَسَدِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْأَسْبَابِ، فَإِذَا رَأَى ذَا نِعْمَةٍ فَازْدَرَتْهُ عَيْنُهُ، فَلْيُحَاوِلْ أَنْ يُقَدِّرَهُ وَيَخْدِمَهُ. وَإِنْ رَاوَدَتْهُ نَفْسُهُ بِالْإِعْجَابِ بِنَفْسِهِ، رَدَّهَا إِلَى التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ. وَإِنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ، صَرَفَ ذَلِكَ إِلَى تَمَنِّي مِثْلِهَا لِنَفْسِهِ. وَفَضْلُ اللَّهِ عَظِيمٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 وَإِنْ دَعَاهُ الْحَسَدُ إِلَى الْإِسَاءَةِ إِلَى الْمَحْسُودِ، سَعَى إِلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا فَيَسْلَمُ مِنْ شِدَّةِ الْحَسَدِ، وَيَسْلَمُ غَيْرُهُ مِنْ شَرِّهِ. وَكَمَا فِي الْأَثَرِ: «الْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ» . نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ النَّاس قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَب ِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ. تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، الْإِحَالَةُ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [11 \ 2] ، فِي سُورَةِ هُودٍ، فَقَالَ عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ: فِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ مِنْ أَجْلِهَا هِيَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ شَيْءٌ. وَسَاقَ الْآيَاتِ الْمُمَاثِلَةَ لَهَا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَسَنَتَقَصَّى الْكَلَامَ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّاسِ، لِتَكُونَ خَاتِمَةُ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ حُسْنَى اهـ. وَإِنَّ فِي هَذِهِ الْإِحَالَةِ مِنْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ لَتَنْبِيهًا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي اشْتَمَلَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ، وَتَوْجِيهًا لِمُرَاعَاةِ تِلْكَ الْخَاتِمَةِ. كَمَا أَنَّ فِي تِلْكَ الْإِحَالَةِ تَحْمِيلَ مَسْئُولِيَّةِ الِاسْتِقْصَاءِ حَيْثُ لَمْ يَكْتَفِ بِمَا قَدَّمَهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا فِيمَا قَدَّمَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَجَعَلَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَعْنَى الِاسْتِقْصَاءِ: الِاسْتِيعَابُ إِلَى أَقْصَى حَدٍّ. وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَسْتَطِيعُ اسْتِقْصَاءَ مَا يُرِيدُهُ غَيْرُهُ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ يُرِيدُهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ وَمَا يَسْتَطِيعُهُ هُوَ. وَلَكِنْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْبِدَايَةِ: أَنَّهُ جُهْدُ الْمُقِلِّ وَوُسْعُ الطَّاقَةِ. فَنَسْتَعِينُ اللَّهَ وَنَسْتَهْدِيهِ مُسْتَرْشِدِينَ بِمَا قَدَّمَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَتَيِ الْفَاتِحَةِ وَهُودٍ، ثُمَّ نُورِدُ وُجْهَةَ نَظَرٍ فِي السُّورَتَيْنِ مَعًا الْفَلَقِ وَالنَّاسِ، ثُمَّ مِنْهُمَا وَفِي نَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، آمِلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَاجٍ تَوْفِيقَهُ وَمَعُونَتَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 أَمَّا الْإِحَالَةُ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُوجِبَهَا هُوَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ صِفَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ: " رَبِّ النَّاسِ "، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ "، وَلَكَأَنَّهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ تُشِيرُ إِلَى الرَّبِّ الْمَلِكِ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ. وَلَعَلَّهُ مَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مَضْمُونُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ قَبْلَهَا: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، وَهَذَا هُوَ مَنْطِقُ الْعَقْلِ وَالْقَوْلُ الْحَقُّ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُلْكِ يَسْتَلْزِمُ الْعُبُودِيَّةَ، وَالْعُبُودِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ التَّأْلِيهَ وَالتَّوْحِيدَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ تَجِبُ عَلَيْهِ الطَّاعَةُ وَالسَّمْعُ لِمَالِكِهِ بِمُجَرَّدِ الْمُلْكِ، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ عَبْدًا مِثْلَهُ، فَكَيْفَ بِالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، وَكَيْفَ بِالْمَالِكِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ؟ وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ: الرَّبُّ الْمَلِكُ الْإِلَهُ، فِي أَوَّلِ افْتِتَاحِيَّةِ أَوَّلِ الْمُصْحَفِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 2 - 4] ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى: " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " [1 \ 4] . وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُ نِدَاءٍ يُوَجَّهُ لِلنَّاسِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ رَبُّهُمْ مَعَ بَيَانِ الْمُوجِبَاتِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [2 \ 21] . ثُمَّ بَيَّنَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [2 \ 21] . وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 22] . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ آثَارِ الرُّبُوبِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ الْعِبَادَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ مُوجِبَ إِفْرَادِهِ وَحْدَهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [2 \ 22] . أَيْ: كَمَا أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَلَا فِي الرِّزْقِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ، فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أَيْضًا فِي عِبَادَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ. وَعِبَادَتُهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَنَفْيُ الْأَنْدَادِ، هُوَ مَا قَالَ عَنْهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ: مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. فَالْإِثْبَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ [5 \ 72] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا. وَكَوْنُ الرُّبُوبِيَّةِ تَسْتَوْجِبُ الْعِبَادَةَ، جَاءَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [106 \ 3 - 4] . فَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِمُوجِبِ الْعِبَادَةِ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نِهَايَةِ السُّورَةِ. وَقَدْ جَاءَ هُنَا لَفْظُ: رَبِّ النَّاسِ، بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى النَّاسِ، بِمَا يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [6 \ 164] . فَالْإِضَافَةُ هُنَا إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ. وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادٍ أُخْرَى كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ بَعْضِ كُلِّ شَيْءٍ، كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [13 \ 16] . وَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [73 \ 9] . وَإِلَى الْبَيْتِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [106 \ 3] . وَإِلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ [27 \ 91] . وَإِلَى الْعَرْشِ: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 116] . وَإِلَى الرَّسُولِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [6 \ 106] . وَقَوْلِهِ: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [47 \ 3] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَكِنْ يُلَاحَظُ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ إِضَافَةٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَنَّهُ مَعَ إِضَافَتِهِ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، فَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، فَفِي إِضَافَتِهِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاءَ مَعَهَا قُلِ اللَّهُ. وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ جَاءَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [73 \ 9] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْبَيْتِ جَاءَ: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْبَلْدَةِ جَاءَ الَّذِي حَرَّمَهَا [27 \ 91] ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْعَرْشِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ [23 \ 116] . وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ قَوْلُهُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ [93 \ 3] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى أَيِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ يَأْتِي مَعَهَا مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَهُنَا رَبُّ النَّاسِ جَاءَ مَعَهَا: مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ، لِيُفِيدَ الْعُمُومَ أَيْضًا ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الرَّبِّ قَدْ يُشَارِكُ فِيهِ السَّيِّدُ الْمُطَاعُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [9 \ 31] . وَقَوْلِ يُوسُفَ لِصَاحِبِهِ فِي السِّجْنِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [12 \ 42] ، أَيِ: الْمَلِكِ عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَقَوْلِهِ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الْآيَةَ [12 \ 50] . فَجَاءَ بِالْمَلِكِ وَالْإِلَهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ، فِي مَعْنَى رَبِّ النَّاسِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ إِضَافَتَهُ هُنَا إِلَى خُصُوصِ النَّاسِ إِشْعَارٌ بِمَزِيدِ اخْتِصَاصٍ، وَرِعَايَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعَبْدِهِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، كَمَا أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةَ رَجَاءِ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ سَيَحْمِي عَبْدَهُ لِعُبُودِيَّتِهِ وَيُعِيذُهُ مِمَّا اسْتَعَاذَ بِهِ مِنْهُ. وَيُقَوِّي هَذَا الِاخْتِصَاصَ إِضَافَةُ الرَّبِّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ مُنْذُ الْبَدْأَيْنِ: بَدْءُ الْخِلْقَةِ وَبَدْءُ الْوَحْيِ، فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [96 \ 1 - 2] ، ثُمَّ فِي نَشْأَتِهِ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى إِلَى قَوْلِهِ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [93 \ 3 - 8] . وَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إِلَيْهِ فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [94 \ 8] ، تَعْدَادَ النِّعَمِ عَلَيْهِ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ، وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، ثُمَّ فِي الْمُنْتَهَى قَوْلُهُ: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [96 \ 8] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 قَوْلُهُ تَعَالَى: مَلِكِ النَّاسِ، فِي مَجِيءِ مَلِكِ النَّاسِ بَعْدَ رَبِّ النَّاسِ، تَدَرُّجٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي الْعِظَامِ، وَانْتِقَالٌ بِالْعِبَادِ مِنْ مَبْدَأِ الْإِيمَانِ بِالرَّبِّ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ آثَارِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَجَمِيعِ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ نِدَاءٍ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [2 \ 21 - 22] . كُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي لَمَسُوهَا وَأَقَرُّوا بِمُوجِبِهَا، بِأَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهَا هُوَ رَبُّهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنَّ رَبَّهُ الَّذِي هَذِهِ أَفْعَالُهُ هُوَ مَلِكُهُ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي تِلْكَ الْعَوَالِمِ، وَمَلِكٌ لِأَمْرِهِ وَجَمِيعِ شُئُونِهِ، وَمَلِكٌ لِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا. فَإِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ إِلَى هَذَا الْإِدْرَاكِ، أَقَرَّ لَهُ ضَرُورَةً بِالْأُلُوهِيَّةِ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ النِّهَايَةُ «إِلَهِ النَّاسِ» أَيْ: مَأْلُوهِهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ وَهُوَ مَا خَلَقَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] . وَفِي إِضَافَةِ الْمَلِكِ إِلَى النَّاسِ مِنْ إِشْعَارِ الِاخْتِصَاصِ، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلِكُ كُلِّ شَيْءٍ، فِيهِ مَا فِي إِضَافَةِ الرَّبِّ لِلنَّاسِ الْمُتَقَدِّمِ بَحْثُهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْمُلْكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ [3 \ 26] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [64 \ 1] . وَقَوْلِهِ: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [2 \ 107] ، وَقَوْلِهِ: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [59 \ 23] . فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْمُلْكِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [17 \ 111] فَبَدَأَ بِالْحَمْدِ أَوْلًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [36 \ 83] ، بَدَأَ بِتَسْبِيحِ نَفْسِهِ وَتَنْزِيهِهِ لِعُمُومِ الْمُلْكِ وَمُطْلَقِ التَّصَرُّفِ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ ; لِأَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُ تَصَرُّفٍ وَتَدْبِيرٍ مَعَ الْكَمَالِ فِي الْحَمْدِ وَالتَّقْدِيسِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 وَكَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [67 \ 1] . وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ يُعْلَمُ كَمَالُ مُلْكِهِ تَعَالَى، وَنَقْصُ مُلْكِ مَا سِوَاهُ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ مُلْكَهُمْ بِتَمْلِيكِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [3 \ 26] . وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [3 \ 26] . وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا مُلْكُهُمْ مُلْكُ سِيَاسَةٍ وَرِعَايَةٍ، لَا مُلْكُ تَمَلُّكٍ وَتَصَرُّفٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [2 \ 247] . وَالْجَدِيرُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ «بِرِيطَانْيَا» تَحْتَرِمُ نِظَامَ الْمِلْكِيَّةِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، بِدَافِعٍ مِنْ هَذَا الْمُعْتَقَدِ، وَأَنَّهُ لَا مَلِكَ إِلَّا بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا بِاصْطِفَاءٍ مِنَ اللَّهِ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ، مِنْ أَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا لَا يَمْلِكُونَ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ لِأَنَّ طَالُوتَ مَلِكًا، وَلَيْسَ مَالِكًا لِأَمْوَالِهِمْ. بَيْنَمَا مُلْكُ اللَّهِ تَعَالَى مُلْكُ خَلْقٍ وَإِيجَادٍ وَتَصَرُّفٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [42 \ 49 - 50] . وَعَلِيمٌ قَدِيرٌ هُنَا مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ بِعِلْمٍ وَعَنْ قُدْرَةٍ كَامِلَيْنِ سُبْحَانَهُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [57 \ 2] . وَتَظْهَرُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الْحَقُّ، فَيَتَلَاشَى كُلُّ مُلْكٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَيُذَلُّ كُلُّ مَلِكٍ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُهُ تَعَالَى يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 وَفِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [1 \ 4] . وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى: «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» [1 \ 4] . فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا إِشْعَارٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُلْكِ اللَّهِ وَمُلْكِ الْعِبَادِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَلِكِ الْمُطْلَقِ وَالْمَلِكِ النِّسْبِيِّ، إِذِ الْمَلِكُ النِّسْبِيُّ لَا يَمْلِكُ، وَالْمَلِكُ الْمُطْلَقُ، فَهُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، وَالَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ. وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَهَذَا هُوَ شِعَارُ الْعَبْدِ فِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، حِينَ يُهِلُّ بِالتَّلْبِيَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَهِ النَّاسِ . هَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فِي كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْإِحَالَةِ، الَّتِي عَنَاهَا الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِيمَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ، وَمُنْعِمٌ عَلَيْهِ أَوْجَدَهُ مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّاهُ بِالنِّعَمِ، لَا رَبَّ لَهُ سِوَاهُ، ثُمَّ تَدَرَّجَ بِعِلْمِهِ وَيَقِينِهِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ رَبَّهُ هُوَ مَلِيكُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ هُوَ نَفْسُهُ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ لَهُ أَحَدٌ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَأَنَّ كُلَّ تَصَرُّفَاتِ الْعَالَمِ كُلِّهِ بِأَمْرِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ خَيْرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ ضَرَرٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَعُرِفَ فِي يَقِينٍ: أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لِمَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَوَصَّلَ بِعِلْمِهِ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ، كَانَ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَبِالْأُلُوهِيَّةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَيَكُونُ فِي خَاتِمَةِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ انْتِزَاعُ الْإِقْرَارِ مِنَ الْعَبْدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ، بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ مِنْ أَجْلِهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ الشَّيْخُ بِهِ فِي الْإِحَالَةِ السَّابِقَةِ. وَإِذَا كَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ نَبَّهَ عَلَى مُرَاعَاةِ خَاتِمَةِ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّا لَوْ رَجَعْنَا إِلَى أَوَّلِ الْمُصْحَفِ وَآخِرِهِ لَوَجَدْنَا رَبْطًا بَدِيعًا، إِذْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ النَّاسِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 مَوْجُودَةٌ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَاتَّفَقَتِ الْخَاتِمَةُ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمِ، إِذْ فِي الْفَاتِحَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فَجَاءَتْ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُلْكِ وَالْأُلُوهِيَّةِ فِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ. وَتَكُونُ الْخَاتِمَةُ الشَّرِيفَةُ مِنْ بَابِ عَوْدٍ عَلَى بَدْءٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِيمَا بَيْنُ ذَلِكَ شَرْحٌ وَبَيَانٌ لِتَقْدِيرِ هَذَا الْمَعْنَى الْكَبِيرِ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي النِّهَايَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْخَنْسِ، بِسُكُونِ النُّونِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَعْنَى الْوَسْوَسَةِ وَالْوَسْوَاسِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَيِ الْمُرَادُ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ الْآيَةَ [20 \ 120] . وَبَيَّنَ مُشْتَقَّاتِهِمَا وَأَصْلَ اشْتِقَاقِهِمَا، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ: الْحَدِيثُ الْخَفِيُّ. وَالْخَنْسَ: التَّأَخُّرُ، كَمَا تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْمَعْنَيَانِ الْمُتَنَافِيَانِ. لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ: كَثِيرُ الْوَسْوَسَةِ، لِيُضِلَّ بِهَا النَّاسَ. وَالْخَنَّاسُ: كَثِيرُ التَّأَخُّرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ إِضْلَالِ النَّاسِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا، فَهُوَ يُوَسْوِسُ عِنْدَ غَفْلَةِ الْعَبْدِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، خَانِسٌ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَبْدِ رَبَّهُ تَعَالَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [43 \ 36] ، إِلَى آخِرِهِ. اهـ. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . اخْتُلِفَ فِي الظَّرْفِ هُنَا، هَلْ هُوَ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَاسِ حِينَمَا يُوَسْوِسُ، فَيَكُونُ مَوْجُودًا فِي الصُّدُورِ، وَيُوَسْوِسُ لِلْقَلْبِ، أَوْ هُوَ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَسَةِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالصُّدُورِ الْقُلُوبَ ; لِكَوْنِهَا حَالَةً فِي الصُّدُورِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ عَلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي الْأَسَالِيبِ الْبَلَاغِيَّةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 وَعَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ [96 \ 17] ، أَطْلَقَ النَّادِيَ، وَأَرَادَ مَنْ يَحِلُّ فِيهِ مِنَ الْقَوْمِ. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَحْثُ تَعْدِيَةِ الْوَسْوَسَةِ تَارَةً بِإِلَى وَتَارَةً بِاللَّامِ، فَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [7 \ 20] ، وَفِي طه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ [20 \ 120] . وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ شَوَاهِدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَسْوَسَ، أَيْ: لِأَجْلِهِ وَوَسْوَسَ إِلَيْهِ أَيْ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ، وَلَكِنْ هُنَا قَالَ: فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى صُدُورِ النَّاسِ، فَهَلْ هُوَ مِنْ بَابِ نِيَابَةِ حُرُوفِ الْجَرِّ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا؟ أَمْ هِيَ ظَرْفٌ مَحْضٌ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا ظَرْفٌ، وَلَكِنْ هَلْ مِنَ الظَّرْفِ لِلْوَسْوَاسِ، أَوْ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَسَةِ نَفْسِهَا؟ وَبِالنَّظَرِ إِلَى كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ يَحْتَمِلُ اعْتِبَارَ الْمَعْنَيَيْنِ بِدُونِ تَعْيِينٍ. وَأَمَّا الْقُرْطُبِيُّ، وَالْأَلُوسِيُّ، فَصَرَّحَا بِمَا ظَهَرَ لَهُمَا وَوَصَلَا إِلَيْهِ. فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الشَّيْطَانَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ يَجْرِي مِنْ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ» . وَقَالَ: إِنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُرِيَنِي الشَّيْطَانَ، وَمَكَانَهُ مِنِ ابْنِ آدَمَ، فَرَأَيْتُهُ يَدَاهُ فِي يَدَيْهِ، وَرِجْلَاهُ فِي رِجْلَيْهِ، وَمَشَاعِيهِ فِي جَسَدِهِ، غَيْرَ أَنْ لَهُ خَطْمًا كَخَطْمِ الْكَلْبِ؟ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَخَذَ بِقَلْبِهِ. أَمَّا الْأَلُوسِيُّ فَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّقْسِيمِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ، فَقَالَ: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. قِيلَ: أُرِيدَ قُلُوبُهُمْ مَجَازًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ الصَّدْرَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدِّهْلِيزِ، فَيُلْقِي مِنْهُ مَا يُرِيدُ إِلْقَاءَهُ إِلَى الْقَلْبِ وَيُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَلَا مَانِعَ عَقْلًا مِنْ دُخُولِهِ فِي جَوْفِ إِنْسَانٍ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ أَيْضًا: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي» إِلَى آخِرِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 وَمُرَادُهُ بِالْمَجَازِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ إِطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الشَّيْطَانَ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الصَّدْرَ ظَرْفٌ لِلْوَسْوَاسِ، وَأَنَّهُ يُوقِعُ الْوَسْوَسَةَ فِي الْقَلْبِ. عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَفِي لَفْظِ النَّاسِ هُنَا الْمُضَافِ إِلَيْهِ الصُّدُورُ: اخْتِلَافٌ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقِيلَ: الْإِنْسُ الظَّاهِرُ الِاسْتِعْمَالِ. وَقِيلَ: الثَّقَلَانِ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ. وَإِنَّ إِطْلَاقَ النَّاسِ عَلَى الْجِنْسِ مَسْمُوعٌ، كَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: إِنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ فَجَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ فَوَقَفُوا، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتُمْ: فَقَالُوا: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ. وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظَيْ رِجَالٍ وَنَفَرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [72 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْوَسْوَاسُ الْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذَا الْوَجْهَ: وَلَكِنَّهُ رَدَّهُ وَضَعَّفَهُ ; لِأَنَّ لَفْظَ النَّاسِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ فِي الْإِنْسِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ قَسَمَ الشَّيْءَ قِسْمًا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّاسَ قَسِيمَ الْجِنِّ، وَيَجْعَلُ الْجِنَّ نَوْعًا مِنَ النَّاسِ اهـ. مُلَخَّصًا. وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ مَنْهَجَ الْأَضْوَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مُحْتَمَلًا، وَكَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ اسْتِعْمَالِهِ إِيَّاهُ تَكُونُ مُرَجَّحًا، وَجَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِ الْقُرْآنِ لِلَفْظِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ فِي خُصُوصِ الْإِنْسِ فَقَطْ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي حَقِّ الْجِنِّ مَعَ مُرَاعَاةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَحْدَهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى سُمِّيَتْ سُورَةُ النَّاسِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 أَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى لَفْظَتَيْ رَجُلٍ وَنَفَرٍ، فَقَدْ رَدَّهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا بِأَنَّهُمَا وَرَدَا مُقَيَّدَيْنِ «رِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ» ، «نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ» . أَمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَرِدَا، وَهَكَذَا لَفْظُ النَّاسِ فَلَا مَانِعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ مُقَيَّدًا نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ. أَمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا. وَعَلَيْهِ فَحَيْثُ وَرَدَ لَفْظُ النَّاسِ هُنَا مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَعًا، بَلْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْإِنْسِ فَقَطْ، وَيَكُونُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أَيْ: فِي صُدُورِ الْإِنْسِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو السُّعُودِ مَعْنًى آخَرَ فِي لَفْظِ النَّاسِ: وَهُوَ أَنَّ النَّاسِيَ عَنِ النِّسْيَانِ، حُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ لَا يُوَسْوِسُ إِلَّا فِي حِينِ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ حَذْفُ الْيَاءِ كَحَذْفِهَا مِنَ «الدَّاعِ» فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي [54 \ 6] وَنَحْوِهِ. وَلَكِنْ يَبْقَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيَانُ مَنِ الْمُرَادُ بِالنَّاسِي، أَهُوَ مِنَ الْإِنْسِ أَمْ مِنَ الْجِنِّ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الِاحْتِمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. وَيَرِدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمْعُ الصُّدُورِ وَإِفْرَادُ النَّاسِ، وَالْجَمْعُ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى جَمْعٍ، أَيْ جَمْعُ الصُّدُورِ، لِأَنَّ الْفَرْدَ لَيْسَ لَهُ جَمْعٌ مِنَ الصُّدُورِ، فَيُقَابِلُ الْجَمْعَ بِجَمْعٍ، أَوْ يَكْتَفِي بِالْمُفْرَدِ بِمُفْرَدٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي إِضَافَةِ الْجَمْعِ إِلَى الْمُثَنَّى فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [66 \ 4] . قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَحُسْنُهُ أَنَّ الْمُثَنَّى جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْجَمْعُ فِي مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الْمُثَنَّى، وَالتَّثْنِيَةُ دُونَ الْجَمْعِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بِنَوَافِذَ ... كَنَوَافِذِ الْعُبُطِ الَّتِي لَا تُرْفَعُُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 وَهَذَا كَانَ الْقِيَاسَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعَبِّرَ عَنِ الْمُثَنَّى بِالْمُثَنَّى، لَكِنْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ تَثْنِيَتَيْنِ فَعَدَلُوا إِلَى الْجَمْعِ بِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى وَالْإِفْرَادِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ. كَقَوْلِهِ: حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي يُرِيدُ بَطْنَيِ، وَغَلِطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ إِذْ قَالَ: وَنَخْتَارُ الْإِفْرَادَ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ، فَتَرَاهُ غَلَّطَ ابْنَ مَالِكٍ فِي اخْتِيَارِهِ جَوَازَ إِضَافَةِ الْجَمْعِ إِلَى الْمُفْرَدِ، كَمَا أَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَأَنَّهُ مَعَ الْمُثَنَّى لِكَرَاهِيَةِ اجْتِمَاعِ التَّثْنِيَتَيْنِ، فَظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِ أَبِي السُّعُودِ. أَمَّا الرَّاجِحُ فِي الْوَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى النَّاسِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا. فَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُمُ الْإِنْسُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [114 \ 6] ، بَيَانٌ لِمَنْ يَقُومُ بِالْوَسْوَسَةِ، أَيْ: بَيَانٌ لِلْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَأَنَّهُ مِنْ كُلٍّ مِنْ وَسْوَاسِ الْجِنَّةِ وَوَسْوَاسِ النَّاسِ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْخِطَابَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ تَبَعًا لَهُ فَهُوَ فِي حَقِّ النَّاسِ أَظْهَرُ. وَمِنْهَا: أَنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا النَّاسَ الْأُولَى عَامَّةً لِمَنْ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ كَانَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسُ مَصْدَرُ الْوَسْوَسَةِ، فَيَكُونُ مِنْ وَسْوَاسِ النَّاسِ مَنْ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الْجِنِّ. وَهَذَا بَعِيدٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ النَّاسِ يَشْمَلُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّقْسِيمِ «الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» ، وَاكْتَفَى فِي الثَّانِيَةِ بِمَا اكْتَفَى بِهِ فِي الْأُولَى، وَكَانَ يَكُونُ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ جَاءَ بَيَانُ مَحَلِّ الْوَسْوَسَةِ «صُدُورِ النَّاسِ» ، ثُمَّ جَاءَ مَصْدَرُ الْوَسْوَسَةِ «الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. تَنْبِيهٌ ذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِهِ مُقَارَنَةً لَطِيفَةً بَيْنَ سُورَتَيِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَالَ: وَلَمَّا كَانَتْ مَضَرَّةُ الدِّينِ، وَهِيَ آفَةُ الْوَسْوَسَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَضَرَّةِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَظُمَتْ، جَاءَ الْبِنَاءُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: الرَّبِّ، وَالْمَلِكِ، وَالْإِلَهِ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَطْلُوبُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 وَفِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ثَلَاثٍ: الْغَاسِقِ، وَالنَّفَّاثَاتِ، وَالْحَاسِدِ، بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الرَّبُّ، وَإِنْ تَكَثَّرَ الَّذِي يُسْتَعَاذُ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْأُخْرَى لَفْتَةٌ كَرِيمَةٌ، طَالَمَا كُنْتُ تَطَلَّعْتُ إِلَيْهَا فِي وُجْهَتَيْ نَظَرٍ، إِحْدَاهُمَا: بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى بَيْنَ سُورَةِ النَّاسِ وَنَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، سَيَأْتِي إِيرَادُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. إِلَّا أَنَّهُ عَلَى وُجْهَةِ نَظَرِ أَبِي حَيَّانَ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَلَقِ جَاءَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ «بِرَبِّ الْفَلَقِ» . وَفِي سُورَةِ النَّاسِ جَاءَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي الْأُولَى ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، وَالْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ أَمْرٌ وَاحِدٌ، فَلِخَطَرِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ جَاءَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ. وَيُقَالُ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إِنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فِي السُّورَةِ الْأُولَى أُمُورٌ تَأْتِي مِنْ خَارِجِ الْإِنْسَانِ، وَتَأْتِيهِ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَكُونُ شُرُورًا ظَاهِرَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ أَوِ اتِّقَاؤُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَتَجَنُّبُهُ إِذَا عُلِمَ بِهِ. بَيْنَمَا الشَّرُّ الْوَاحِدُ فِي الثَّانِيَةِ يَأْتِيهِ مِنْ دَاخِلِيَّتِهِ وَقَدْ تَكُونُ هَوَاجِسُ النَّفْسِ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، إِذِ الشَّيْطَانُ يَرَانَا وَلَا نَرَاهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [7 \ 27] . وَقَدْ يُثِيرُ عَلَيْهِ خَلَجَاتِ نَفْسِهِ وَنَوَازِعَ فِكْرِهِ، فَلَا يَجِدُ لَهُ خَلَاصًا إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَةِ وَاللُّجُوءِ إِلَى رَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ. أَمَّا الْوُجْهَتَانِ اللَّتَانِ نَوَّهْنَا عَنْهُمَا، فَالْأُولَى بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَهِيَ مِمَّا أَوْرَدَهُ أَبُو حَيَّانَ: إِذْ فِي سُورَةِ الْفَلَقِ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [113 \ 1] ، وَرَبُّ الْفَلَقِ تُعَادِلُ قَوْلَهُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي هَذَا الْكَوْنِ إِلَّا وَهُوَ مَفْلُوقٌ عَنْ غَيْرِهِ. فَفِي الزَّرْعِ: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [6 \ 95] . وَفِي الزَّمَنِ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ [6 \ 96] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 وَفِي الْحَيَوَانَاتِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [4 \ 1] . وَفِي الْجَمَادَاتِ يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [21 \ 30 - 31] . فَرَبُّ الْفَلَقِ تُعَادِلُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَقَابَلَهَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِعُمُومِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ «مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ» ، وَ «النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ» ، «وَحَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» . فَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ عُمُومُ مَا خَلَقَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، بَيْنَمَا فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ جَاءَ بِالْمُسْتَعَاذِ بِهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ هِيَ صِفَاتُ الْعَظَمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى: الرَّبُّ وَالْمَلِكُ وَالْإِلَهُ. فَقَابَلَ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، وَهُوَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ خُطُورَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ. وَهُوَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّنَا لَوْ نَظَرْنَا فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ لَوَجَدْنَا مَبْعَثَ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمُنْطَلَقَ كُلِّ شَرٍّ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، لَوَجَدْنَاهُ بِسَبَبِ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِتَارِيخِ وُجُودِ الْإِنْسَانِ. وَأَوَّلُ جِنَايَةٍ وَقَعَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ هَذَا الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَرَّمَ آدَمَ، فَخَلَقَهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ الْمَلَائِكَةَ لَهُ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ هُوَ وَزَوْجَهُ لَا يَجُوعُ فِيهَا وَلَا يَعْرَى، وَلَا يَظْمَأُ فِيهَا وَلَا يَضْحَى، يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ مَا شَاءَا، إِلَّا مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَمْنُوعَةِ، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِمَا الشَّيْطَانُ حَتَّى أَكَلَا مِنْهَا وَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، حَتَّى أُهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. وَبَعْدَ سُكْنَاهُمَا الْأَرْضَ أَتَى ابْنَيْهِمَا قَابِيلَ وَهَابِيلَ فَلَاحَقَهُمَا أَيْضًا بِالْوَسْوَسَةِ، حَتَّى طَوَّعَتْ نَفْسُ أَحَدِهِمَا قَتْلَ أَخِيهِ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. وَهَكَذَا بِسَائِرِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ بِالْوَسْوَسَةِ حَتَّى يُرْبِكَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُهْلِكَهُ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 الْآخِرَةِ، وَلَقَدِ اتَّخَذَ مِنَ الْمَرْأَةِ جِسْرًا لِكُلِّ مَا يُرِيدُ. وَهَا هُوَ يُعِيدُ الْكَرَّةَ فِي نَزْعِ اللِّبَاسِ عَنْ أَبَوَيْنَا فِي الْجَنَّةِ، فَيَنْتَزِعُهُ عَنْهُمَا فِي ظِلِّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فِي طَوَافِهِمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَا يَزَالُ يُغْوِيهِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لِيُخْرِجَهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْهِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَلَا يَزَالُ يَجْلِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ بَارًّا بِقَسَمِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ بِعِزَّتِهِ لَيُغْوِينَّهُمْ أَجْمَعِينَ. وَإِنَّ أَخْطَرَ أَبْوَابِ الْفَسَادِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ لَهِيَ عَنِ الْمَالِ أَوِ الدَّمِ أَوِ الْعِرْضِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا» إِلَى آخِرِهِ. وَهَلْ وُجِدَتْ جِنَايَةٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَّا مِنْ تَأْثِيرِ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ؟ اللَّهُمَّ لَا. وَهَكَذَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمَوْقِفَ جَلِيًّا فِي مَقَالَةِ الشَّيْطَانِ الْبَلِيغَةِ الصَّرِيحَةِ: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [14 \ 22] . وَلِقَدْ عَلِمَ عَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَخْطَرَ سِلَاحٍ عَلَى الْإِنْسَانِ هُوَ الشَّكُّ وَلَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوَسْوَسَةِ، فَأَخَذَ عَنْ إِبْلِيسَ مُهِمَّتَهُ وَرَاحَ يُوَسْوِسُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَفِي دُنْيَاهُمْ، وَيُشَكِّكُهُمْ فِي قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ مُسْتَقِلِّينَ عَنْهُ، وَيُشَكِّكُهُمْ فِي قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالِاسْتِقْلَالِ الْحَقِيقِيِّ، بَلْ وَفِي اسْتِطَاعَتِهِمْ عَلَى الْإِبْدَاعِ وَالِاخْتِرَاعِ، لِيَظَلُّوا فِي فَلَكِهِ وَدَائِرَةِ نُفُوذِهِ، فَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ يَدُورُونَ فِي حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ، يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى. وَالْمُتَشَكِّكُ فِي نَتِيجَةِ عَمَلٍ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ أَبَدًا، بَلْ مَا يَبْنِيهِ الْيَوْمَ يَهْدِمُهُ غَدًا، وَقَدْ أَعْلَنَ عَنْ هَذِهِ النَّتِيجَةِ الْخَطِيرَةِ رَئِيسُ مُؤْتَمَرِ الْمُسْتَشْرِقِينَ فِي الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ، مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ عَامًا، حِينَمَا انْعَقَدَ الْمُؤْتَمَرُ فِي (بَيْرُوتَ) لِعَرْضِ نَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ وَدِرَاسَةِ أَسَالِيبِ تَبْشِيرِهِمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 فَتَشَكَّى الْمُؤْتَمِرُونَ مِنْ أَنَّ لَهُمْ زُهَاءَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عَمَلِهِمُ الْمُتَوَاصِلِ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُنَصِّرُوا مُسْلِمًا وَاحِدًا، فَقَالَ رَئِيسُ الْمُؤْتَمَرِ: إِذَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُنَصِّرَ مُسْلِمًا، وَلَكِنِ اسْتَطَعْنَا أَنْ نُوجِدَ ذَبْذَبَةً فِي الرَّأْيِ، فَقَدْ نَجَحْنَا فِي عَمَلِنَا. وَهَكَذَا مَنْهَجُ الْعَدُوِّ، تَشْكِيكٌ فِي قَضَايَا الْإِسْلَامِ لِيُوجِدَ ذَبْذَبَةً فِي عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَنْ طَرِيقِ الْمِيرَاثِ تَارَةً، وَعَنْ طَرِيقِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أُخْرَى، وَعَنْ دَوَافِعِ الْقِتَالِ، وَعَنِ اسْتِرْقَاقِ الرَّقِيقِ، وَعَنْ وَعَنْ. حَتَّى وُجِدَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَخَطَّى حُدُودَ الشَّكِّ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَأَخَذَ يَدْعُو إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْعَدُوُّ، وَمَا ذَاكَ كُلُّهُ إِلَّا حَصَادُ وَنَتَائِجُ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. فَلَا غَرْوَ إِذًا أَنْ تُجْمَعَ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ الثَّلَاثُ: بِرَبِّ النَّاسِ 30 مَلِكِ النَّاسِ 30 إِلَهِ النَّاسِ. هَذِهِ وُجْهَةُ النَّظَرِ الْأُولَى بَيْنَ سُورَتَيِ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ. أَمَّا الْوُجْهَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بَيْنَ سُورَةِ النَّاسِ وَنَسَقِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [1 \ 2 - 7] . وَفِي هَذِهِ الْبِدَايَةِ الْكَرِيمَةِ بَثُّ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَلْبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَمْدِ، عُنْوَانِ الرِّضَى وَالسَّعَادَةِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِمُلْكِ يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ الِالْتِزَامُ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ مُسْتَعِينًا بِهِ، مُسْتَهْدِيًا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، سَائِلًا صُحْبَةَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [2 \ 2] أَيْ: إِنَّ الْهُدَى الَّذِي تَنْشُدُهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [2 \ 3 - 4] . وَمَرَّةً أُخْرَى لِلتَّأْكِيدِ: أُولَئِكَ لَا سِوَاهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [2 \ 5] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 ثُمَّ تَتَرَسَّلُ السُّورَةُ فِي تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: مُؤْمِنِينَ، وَكَافِرِينَ، وَمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ بَيْنَ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. ثُمَّ يَأْتِي النِّدَاءُ الصَّرِيحُ وَهُوَ أَوَّلُ نِدَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ لِعُمُومِ النَّاسِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [2 \ 21] ، وَيُقِيمُ الْبَرَاهِينَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [2 \ 21 - 22] . وَبَعْدَ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ وَهِيَ الْعَقِيدَةُ، تَمْضِي السُّورَةُ فِي ذِكْرِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، فَتَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْجِهَادِ، وَقَلَّ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ إِلَّا وَلَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَأْتِي مَا بَعْدَهَا مُبَيِّنًا لِمَا أُجْمِلَ فِيهَا أَوْ لِمَا يُذْكَرُ ضِمْنَهَا. وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ الْقُرْآنُ بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَتَمَامِ الدِّينِ. وَلِمَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الْمُهْتَدِينَ فِي أَوَّلِ الْمُصْحَفِ، أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَمِنْهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنْ حِسَابٍ وَعِقَابٍ وَثَوَابٍ - أُمُورُ الْغَيْبِ تَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ - لِتُرَتِّبَ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا. وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ هُمَا نَتِيجَةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ: هُمَا مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَثِلُ الْأَمْرَ رَجَاءَ الثَّوَابِ، وَيَكُفُّ عَنْ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ مَخَافَةَ الْعِقَابِ. فَلَكَأَنَّ نَسَقَ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ يُشِيرُ إِلَى ضَرُورَةِ مَا يَجِبُ الِانْتِبَاهُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ بَدَأَ بِالْحَمْدِ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِإِنْزَالِهِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ صَاحِبِهِ بِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْأَعْظَمُ قَدْرًا وَخَطَرًا، ثُمَّ رَسَمَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّذِي سَلَكَهُ الْمُهْتَدُونَ أُهْلُ الْإِنْعَامِ وَالرِّضَى، ثُمَّ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ لِيَسْلُكَ سَبِيلَهُمْ. وَهَكَذَا إِلَى أَنْ جَاءَ بِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ، جَاءَ بِهِ إِلَى نِهَايَةِ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَاسْتَوْقَفَهُ لِيَقُولَ لَهُ إِذَا اطْمَأْنَنْتَ لِهَذَا الدِّينِ، وَآمَنْتَ بِاللَّهِ رَبِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 الْعَالَمِينَ، وَاعْتَقَدْتَ مَجِيءَ يَوْمِ الدِّينِ، وَعَرَفْتَ طَرِيقَ الْمُهْتَدِينَ وَرَأَيْتَ أَقْسَامَ النَّاسِ الثَّلَاثِ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ وَمُنَافِقِينَ، وَنِهَايَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ، فَالْزَمْ هَذَا الْكِتَابَ، وَسِرْ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ وَرَافِقْ أَهْلَ الْإِنْعَامِ، وَجَانِبِ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، وَاحْذَرْ مِنْ مَسْلَكِ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَشَكِّكِينَ، وَحَاذِرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ مُوجِبِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ، أَنْ يُشَكِّكَكَ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْإِيمَانِ، أَوْ فِي اسْتِوَاءِ طَرِيقِكَ وَاسْتِقَامَتِهِ أَوْ فِي عِصْمَةِ كِتَابِكَ وَكَمَالِهِ، وَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْسَ خَطَرَهُ عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ، إِذْ هُمَا فِي الْجَنَّةِ دَارِ السَّلَامِ وَلَمْ يَسْلَمَا مِنْهُ، وَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَحَاذِرْ مِنْهُ وَلُذْ بِي كُلَّمَا أَلَمَّ بِكَ أَوْ مَسَّكَ طَائِفٌ مِنْهُ، وَكُنْ كَسَلَفِكَ الصَّالِحِ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [8 \ 201] . وَقَدْ عَلِمْتَ عَدَاوَتَهُ لَكَ مِنْ بَعْدُ، وَعَدَاوَتُهُ نَاشِئَةٌ عَنِ الْحَسَدِ. وَلَكَأَنَّ ارْتِبَاطَ السُّورَتَيْنِ لَيُشِيرَ إِلَى مَنْشَأِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَارْتِبَاطِهَا بِهَذَا التَّحْذِيرِ، إِذْ فِي الْأُولَى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، فَحَسَدَ الشَّيْطَانُ آدَمَ عَلَى إِكْرَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَمَا أَسْلَفْنَا. وَالْعَدُوُّ الْحَاسِدُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ، وَلَئِنْ كَانَتْ تَوْبَةُ آدَمَ هِيَ سَبِيلُ نَجَاتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [2 \ 37] . فَنَجَاتُكَ أَيْضًا فِي كَلِمَاتٍ تَسْتَعِيذُ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ: بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ ; لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ عِبَادَهُ، وَمَلِكَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَحْمِيهِمْ وَيَحْفَظُهُمْ وَيَحْرُسُهُمْ. وَإِلَهَ النَّاسِ الَّذِي يَتَأَلَّهُونَ إِلَيْهِ وَيَتَضَرَّعُونَ وَيَلُوذُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ. تَنْبِيهٌ إِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ خَطَرَ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَهُمَا عَدُوٌّ مُشْتَرَكٌ وَمُتَرَبِّصٌ حَاقِدٌ حَاسِدٌ، فَمَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْهُ؟ الَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ طَرِيقَ النَّجَاةِ تَعْتَمِدُ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 وَالثَّانِي: سَمِعْتُهُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ: إِذَا كَانَتْ مُهِمَّةُ الْوَسْوَسَةِ التَّشْكِيكَ وَالذَّبْذَبَةَ وَالتَّرَدُّدَ، فَإِنَّ عُمُومَاتِ التَّكْلِيفِ تُلْزِمُ الْمُسْلِمَ بِالْعَزْمِ وَالْيَقِينِ وَالْمُضِيِّ دُونَ تَرَدُّدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [3 \ 159] ، وَامْتَدَحَ بَعْضَ الرُّسُلِ بِالْعَزْمِ وَأَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [46 \ 35] . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» . وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ «الْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ بِشَكٍّ» . وَالْحَدِيثُ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِأَحَدِكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَنْفُخُ فِي مَقْعَدَتِهِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ وَلَمْ يُحْدِثْ، فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . وَمِنْ هَنَا كَانَتِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا عَلَى الْيَقِينِ، فَالْعَقَائِدُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْيَقِينِ. وَالْفُرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَالشَّرْطُ فِي النِّيَّةِ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ، فَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَضَرَ فُلَانٌ تَرَكَهَا، لَا تَنْعَقِدُ نِيَّتُهُ، وَلَوْ نَوَى صَوْمًا أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَفْطَرَ، لَا يَنْعَقِدُ صَوْمُهُ. وَنَصَّ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى لِيَوْمِ الشَّكِّ فِي لَيْلَتِهِ الصَّوْمَ غَدًا، عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ لِرَمَضَانَ، وَإِلَّا فَهُوَ نَافِلَةٌ، لَا يَنْعَقِدُ صَوْمُهُ لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا حَتَّى لَوْ جَاءَ رَمَضَانُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ. وَالْحَجُّ: لَوْ نَوَاهُ لَزِمَهُ وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ. وَهَكَذَا الْمُعَامَلَاتُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ مَبْنَاهَا عَلَى الْجَزْمِ حَتَّى فِي الْمَزْحِ وَاللَّعِبِ، يُؤَاخَذُ فِي الْبَعْضِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. فَمِنْ هَذَا كُلِّهِ كَانَتْ دَوَافِعُ الْعَزِيمَةِ مُسْتَقَاةٌ مِنَ التَّكَالِيفِ، مِمَّا يَقْضِي عَلَى نَوَازِعِ الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مَجَالٌ لِشَكٍّ وَلَا مَحَلٌّ لِوَسْوَسَةٍ. وَقَدْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَفِرُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 أَمَّا الَّذِي كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: لَقَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ كَيْفِيَّةَ اتِّقَاءِ الْعَدُوِّ مِنَ الْإِنْسِ وَمِنَ الْجِنِّ. أَمَّا الْعَدُوُّ مِنَ الْإِنْسِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [41 \ 34] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقَابَلَةَ إِسَاءَةِ الْعَدُوِّ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ تُذْهِبُ عَدَاوَتَهُ، وَتُكْسِبُ صَدَاقَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ. وَأَمَّا عَدُوُّ الْجِنِّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [41 \ 36] . وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآثَارِ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْنَسُ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ. وَعَلَى قَوْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ يَنْدَفِعُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ بِاللَّهِ، وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا. أَمَّا شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى مُصَانَعَةٍ وَمُدَافَعَةٍ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [41 \ 35] . رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ حَظًّا عَظِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّهُ الْمَسْئُولُ، وَخَيْرُ مَأْمُولٍ. رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» : فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ. ثُمَّ قَالَ لِي: «قُلْ» . فَقُلْتُ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ لِي: قُلْ. قُلْتُ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ لِي قُلْ. قُلْتُ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا فَتَعَوَّذْ ; وَمَا تَعَوَّذَ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمَثَلِهِنَّ قَطُّ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، مَنِ اصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ وَشَرَّفَنَا بِبَعْثَتِهِ، وَخَتَمَ بِهِ رُسُلَهُ وَكَرَّمَنَا بِهِ وَهَدَانَا لِاتِّبَاعِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ أَجْمَعِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 بَيَانُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ آيِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ كَتَبَهَا فَضِيلَةُ الْوَالِدِ الشَّيْخِ الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَبْيَاتٍ لِلسُّيُوطِيِّ فِي الْإِتْقَانِ وَنَقَلْتُهَا عَنْ خَطِّهِ وَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ نَصُّ الْأَبْيَاتِ مِنَ الْإِتْقَانِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الْمَنْسُوخِ مِنْ عَدَدٍ ... وَأَدْخَلُوا فِيهِ أَبَالِيسَ تَنْحَصِرُ وَهَاكَ تَحْرِيرُ آيٍ لَا مَزِيدَ لَهَا ... عِشْرِينَ حَرَّرَهَا الْحُذَّاقُ وَالْكُبَرُ (آيُ التَّوَجُّهِ 1) حَيْثُ الْمَرْءُ كَانَ (وَأَنْ ... يُوصَى لِأَهْلِيهِ 2) عِنْدَ الْمَوْتِ مُخْتَصَرُ (وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مَعْ رَفَثٍ 3) ... (وَفِدْيَةٌ لِمُطِيقِ 4) الصَّوْمِ مُشْتَهِرُ (وَحَقُّ تَقْوَاهُ 5) فِيمَا صَحَّ مِنْ أَثَرٍ ... (وَفِي الْحَرَامِ قِتَالٌ 6) لِلْأُولَى كَفَرُوا (وَالِاعْتِدَادُ بِحَوْلٍ مَعَ وَصِيَّتِهَا 7) ... (وَأَنْ يُدَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْفِكَرُ 8) (وَالْحِلْفُ 9) (وَالْحَبْسُ لِلزَّانِي 10) (وَتَرْكُ أُولَى ... كُفْرٍ 11) (وَإِشْهَادُهُمْ 12) (وَالصَّبْرُ 13) (وَالنَّفَرُ 14) (وَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ 15) ... (وَمَا عَلَى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ 16) (وَدَفْعُ مَهْرٍ لِمَنْ جَاءَتْ 17) (وَآيَةُ نَجْـ ... ـوَاهُ 18) (كَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ 19) مُسْتَطَر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 (وَزَيْدُ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ مَنْ مَلَكَتْ 20) ... (وَآيةُ الْقِسْمَةِ 21) الْفُضْلَى لِمَنْ حَضَرُوا شَرَحَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: 1 - قَوْلُهُ: «آيُ التَّوَجُّهِ» ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مَنْسُوخَةٌ عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. 2 - وَقَوْلُهُ: «وَأَنْ يُوصَى لِأَهْلِيهِ» : أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّ آيَةَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ الْآيَةَ. مَنْسُوخَةٌ، قِيلَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقِيلَ بِحَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَقِيلَ: بِالْإِجْمَاعِ. حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. 3 - وَقَوْلُهُ: «وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مَعْ رَفَثٍ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ آيَةَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ الْمُتَضَمِّنَةَ حُرْمَةَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ كَمَا فِي صَوْمِ مَنْ قَبْلَنَا مَنْسُوخَةٌ بَآيَةِ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. 4 - وَقَوْلُهُ: «وَفِدْيَةٌ لِمُطِيقٍ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ آيَةَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَقِيلَ مُحْكَمَةٌ وَ «لَا» مُقَدَّرَةٌ، يَعْنِي: وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ. 5 - وَقَوْلُهُ: «وَحَقُّ تَقْوَاهُ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَقِيلَ مُحْكَمَةٌ. 6 - وَقَوْلُهُ: «وَفِي الْحَرَامِ قِتَالٌ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ وَقَوْلِهِ: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ مَنْسُوخَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ. 7 - وَقَوْلُهُ: «وَالِاعْتِدَادُ بِحَوْلٍ مَعَ وَصِيَّتِهَا» يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ الْآيَةَ، مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.ُُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 8 - قَوْلُهُ: «وَأَنْ يُدَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْفِكَرُ» ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. 9 - قَوْلُهُ: «وَالْحِلْفُ» أَيِ الْمُحَالَفَةُ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْآيَةَ. 10 - وَقَوْلُهُ: «وَالْحَبْسُ لِلزَّانِي» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. 11 - قَوْلُهُ: «وَتَرْكُ أُولَى كُفْرٍ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. 12 - وَقَوْلُهُ: «وَإِشْهَادُهُمْ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ. 13 - وَقَوْلُهُ: «وَالصَّبْرُ» يُشِيرُ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، الْآيَةَ. مَنْسُوخٌ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. 14 - قَوْلُهُ «وَالنَّفَرُ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى أَوْ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ الْآيَةَ، أَوْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الْآيَةَ. 15 - قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ الْآيَةَ، مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ. 16 - وَقَوْلُهُ: «وَمَا عَلَى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ. . . الْآيَةَ. مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الْآيَةَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 17 - قَوْلُهُ: «وَدَفْعُ مَهْرٍ لِمَنْ جَاءَتْ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا مَنْسُوخٌ، قِيلَ بِآيَاتِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: بِآيَاتِ الْغَنِيمَةِ. 18 - وَقَوْلُهُ «وَآيَةُ نَجْوَاهُ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَبِقَوْلِهِ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. 19 - وَقَوْلُهُ: «كَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. وَهَذَا النَّاسِخُ أَيْضًا مَنْسُوخٌ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. 20 - قَوْلُهُ: «وَزَيْدُ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ مَنْ مَلَكَتْ» . آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالْأَصَحُّ فِيهَا عَدَمُ النَّسْخِ، لَكِنْ تَسَاهَلَ النَّاسُ بِالْعَمَلِ بِهَا. 21 - «وَآيَةُ الْقِسْمَةِ» وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ فِيهَا أَيْضًا عَدَمُ النَّسْخِ. وَمِثَالُ نَسْخِ النَّاسِخِ آخِرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَوْلُهُ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِآيَةِ الْكَفِّ، مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْعُذْرِ. تَمَّتْ بِحَوْلِ اللَّهِ رِسَالَةُ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الْمُخْتَصَرَةُ فِي بَيَانِ أَبِيَّاتِ السُّيُوطِيِّ الرَّمْزِيَّةِ تَقْرِيبًا فِي هَذَا الْفَنِّ. وَهِيَ عَلَى إِيجَازِهَا وَاخْتِصَارِهَا كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ لِلطَّالِبِ الدَّارِسِ أَمَلَاهَا عَلَيَّ فَضِيلَتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1373 هـ. أَمَّا الْمُدَرِّسُ وَالْبَاحِثُ الْمُدَقِّقُ وَالْمُنَاقِشُ لِلْأَقْوَالِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُطَوَّلَاتِ لِتَتِمَّةِ الْبَحْثِ لِبَيَانِ إِثْبَاتِ النَّسْخِ عَلَى مُنْكِرِيهِ، وَبَيَانِ حِكْمَةِ النَّسْخِ وَبَيَانِ أَقْسَامِهِ، وَقُوَّةِ النَّاسِخِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَمَرَاتِبِهِ مِنْ شِدَّةٍ إِلَى ضَعْفِ وَالْعَكْسِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 ..   (*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: المحتوى من [صفحة 199 - 468] من هذا الجزء (التاسع) في تلك الطبعة (ط: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1415هـ - 1995م) ، هو كتاب "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، للمؤلف.. وقد تم حذفه من هذه النسخة الإلكترونية (منعا للتكرار) ، لأنه متوفر ككتاب مستقل ضمن كتب هذا البرنامج "المكتبة الشاملة" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 تَرْجَمَةٌ لِلشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُحَاضَرَةٍ أُلْقِيَتْ مَوْسِمَ ثَقَافَاتِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَلْقَاهَا وَأَعَدَّهَا تِلْمِيذُهُ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالِم عَنْ صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ وَالِدِنَا الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَلَمِ: الشَّيْخِ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالِم الْقَاضِي بِالْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُسْتَحِقِّ لِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَكَمَالِ الْأَسْمَاءِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالدَّوَامِ وَبِالْبَقَاءِ. خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ عَدَمٍ وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ. وَجَعَلَ الدُّنْيَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ، وَحَصَادَهَا الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ، وَاخْتَارَ مِنْ عِبَادِهِ رُسُلًا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ، فَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وُسَطَاءُ، وَاصْطَفَى - خَاتَمَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ صَفْوَةُ الْأَصْفِيَاءِ، بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَجَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ، أَطَلَّ فَجْرُهَا بِمَكَّةَ مِنْ قِمَّةِ حِرَاءٍ. وَأَشْرَقَتْ شَمْسُ نَهَارِهَا بِطَيِّبَةِ الْفَيْحَاءِ. ظَلَّتْ مُهَاجَرَ صَحْبِهِ فِي أُلْفَةٍ وَوَفَاءٍ، فَتَحَمَّلَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ تُرَاثَهُ - مَا وَرِثُوهُ مِنْهُ هِدَايَةً وَضِيَاءً - وَوَرَّثُوهُ مِنْ بَعْدِهِمْ تَوْرِيثَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ. وَغَدَتِ الْمَدِينَةُ مُشْرِقَةً أَنْوَارُهَا يُشِعُّ مِنْهَا لِلْعَالَمِ نُورٌ وَسَنَاءٌ. وَتَوَالَتِ الْأَجْيَالُ تِلْوَ أَجْيَالٍ إِنْتَاجُهَا لِلْعَالَمِ صَفْوَةُ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ قَامُوا لِلَّهِ حَقًّا، وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ صِدْقًا، وَنَشَرُوا الْعِلْمَ فِي عِفَّةٍ وَإِبَاءٍ، نَهَلُوا مِنَ الْمَنْهَلِ الصَّافِي مِنْ مَنْبَعِهِ، قَبْلَ أَنْ يُخَالِطَهُ التُّرْبُ أَوْ تُكَدِّرَهُ الدِّلَاءُ، فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ مَحَطُّ رِحَالِهِمْ، وَفِي الرَّوْضَةِ غُدُوُّهُمْ وَرَوَاحُهُمْ فِي غِبْطَةٍ وَهَنَاءٍ. دَرَسُوا كِتَابَ اللَّهِ حُكْمًا وَحِكْمَةً، حَتَّى غَدَتْ آيَاتُهُ لِمَرْضَى الصُّدُورِ شِفَاءً، وَتَكَشَّفَتْ حُجُبُ الْمَعَانِي فَانْجَلَتْ مِنْ تَحْتِهَا أَشْمُسٌ وَضِيَاءٌ. وَتَرَسَّمُوا سُنَنَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، وَكَذَاكَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ بِهِمْ أُسْوَةٌ وَاقْتِدَاءٌ، فَهُمُ النُّجُومُ فِي لَيْلِ السُّرَى، وَهُمُ الْهُدَاةُ لِطَالِبِ الْهُدَى وَأَدِلَّاءُ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَعَلَى الدِّينِ أُمَنَاءُ. وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ أَشَدُّ إِحْسَاسًا بِمَكَانَةِ الْعِلْمِ وَمَنْزِلَةِ الْعُلَمَاءِ، وَأَسْرَعُ فَرَحًا بِهِمْ وَأَشَدُّ حُزْنًا عَلَى مَوْتِهِمْ، وَأَلَمًا لِفِرَاقِهِمْ، إِنَّ فِي مَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَغُرْبَةٌ لِلْغُرَبَاءِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآلَامَ تَزْدَادُ، وَهَذَا الْحُزْنَ يَشْتَدُّ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ حِينَمَا نَكُونُ قَدْ عَرَفْنَا هَذَا الْعَالِمَ أَوْ عَاصَرْنَاهُ، وَلَمَسْنَا فَضْلَهُ وَاسْتَفَدْنَا عِلْمَهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ كُنَّا فِيهِ سَوَاءً نَحْوَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَشَيْخِنَا الْأَمِينِ خَاصَّةً. وَإِنِّي كَأَحَدِ أَبْنَائِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ أَقِفُ الْيَوْمَ مُعَزِّيًا مُتَعَزِّيًا، وَمُتَرْجِمًا مُتَرَحِّمًا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 وَقَدْ عَظُمَ الْمُصَابُ وَعَزَّ فِيهِ الْعَزَاءُ، وَأَقُولُ مَا قَدْ قُلْتُهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ، عِنْدَمَا سَأَلَنِي سَائِلٌ مِنْ هَذَا نُعَزِّيهِ فِي الشَّيْخِ، فَقُلْتُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ: أَقُولُ لِلسَّائِلِ لَمَّا سَأَلَ ... مَنْ ذَا نُعَزِّي فِيمَا نَزَلَ كُلُّ مَنْ لَاقَيْتَ فَعَزِّهِ ... وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فِي الْأُوَلِ عَزِّ الْجَمِيعَ بِمَوْتِهِ ... وَأَعْلِمْهُ أَنَّ الْخَطْبَ جَلَلٌ مَوْتُ الْعَالِمِ رُزْءُ الْعَالَمِ ... فِي مَوْتِهِ يَأْتِي الْخَلَلُ لَوْ نَزَلَ الرُّزْءُ بِقِمَّةٍ ... فَوْقَ الْجِبَالِ لَهَدَّ الْجَبَلَ خَيْرُ التَّعَازِي فِي أَنَّنَا ... نُرَدُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوِ اسْتَحَقَّ أَحَدٌ الْعِزِّيَّةَ لِشَخْصِهِ لَاسْتَحَقَّهَا ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ: الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَازٍ لِزَمَالَتِهِ 21 سَنَةً وَمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ مَنْزِلَةٍ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَهُ وَتَسَبَّبَ فِي جُلُوسِهِ، وَصَاحِبُ السُّمُوِّ الْمَلَكِيِّ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِمَحَبَّتِهِ وَتَقْدِيرِهِ. نَعَمْ أَقِفُ مُعَزِّيًا مُتَعَزِّيًا مُتَرْجِمًا مُتَرَحِّمًا كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ: " مَا لَكُمْ تَأْخُذُونَ الْعِلْمَ عَنَّا وَتَسْتَفِيدُونَ مِنَّا، ثُمَّ تَذْكُرُونَنَا فَلَا تَتَرَحَّمُونَ عَلَيْنَا "، إِنَّهُ رَبْطٌ أَصِيلٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَالِمِ، وَتَنْبِيهٌ أَكِيدٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِفَضْلِ الْعَالِمِ شُكْرٌ وَتَقْدِيرٌ لِنَفْسِ الْعِلْمِ. رَحِمَ اللَّهُ شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَرَحِمَ اللَّهُ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. وَقَدْ قَامَ الْخَلَفُ بِحَقِّ السَّلَفِ فِي حِفْظِ تَارِيخِهِمْ بِالتَّرْجَمَةِ لَهُمْ خِدْمَةً لِتُرَاثِهِمْ وَإِحْيَاءً لِذِكْرَاهُمْ وَمَا أُثِرَ عَنِ السَّخَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ وَرَّخَ مُؤْمِنًا فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهُ ". أَيْ مَنْ تَرْجَمَ لَهُ وَأَرَّخَهُ. وَهَا هُمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ يُعَايِشُونَ كُلَّ جِيلٍ بِسِيرَتِهِمْ وَتَارِيخِهِمْ فِي أُمَّهَاتِ الْكُتُبِ. وَإِنِّي لَأَعْتَقِدُ حَقًّا أَنَّ تَرَاجِمَ الرِّجَالِ مَدَارِسُ الْأَجْيَالِ، أَيْ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَالِمِ حَيَاتِهِمْ. وَإِنَّ مِثْلَ شَيْخِنَا الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَحَقِيقٌ بِتَرْجَمَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ مَنْهَجِ حَيَاتِهِ فِي تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 وَإِنِّي لَأَسْتَعِينُ اللَّهَ فِيمَا أُقَدِّمُ وَأَسْتَلْهِمُهُ فِيمَا أَقُولُ: إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ جِوَارِهِ فَقِيدَ الْعِلْمِ يَا عَلَمَ الرِّجَالِ ... نَعَاكَ الْعِلْمُ فِي حِلَقِ السُّؤَالِ نَعَمْ فَقَيْدَ الدَّرْسِ يَا عَلَمَ الرِّجَالِ ... ، نَعَاكَ الدَّرْسُ فِي فَصْلِ الْمَقَالِ انْتَقَلَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ جِوَارِهِ صَاحِبُ الْفَضِيلَةِ وَعَلَمُ الْأَعْلَامِ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ الْإِمَامُ الْهُمَامُ، زِكَيُّ النَّفْسِ، رَفِيعُ الْمَقَامِ، كَرِيمُ السَّجَايَا، ذُو الْخُلُقِ الرَّزِينِ، عَفُّ الْمَقَالِ، حَمِيدُ الْخِصَالِ، التَّقِيُّ الْأَمِينُ، وَالِدُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ الشِّنْقِيطِيُّ. تُوُفِّيَ ضُحَى يَوْمِ الْخَمِيسِ 17 \ 12 \ 93 هـ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمَعْلَاةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَمَاحَةُ رَئِيسِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَازٍ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، مَعَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ 20 \ 12 أُقِيمَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْغَائِبِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَصَلَّى عَلَيْهِ صَاحِبُ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ آلِ صَالِحٍ إِمَامُ وَخَطِيبُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَرَئِيسُ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ، وَمَحَاكِمِ مِنْطَقَةِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُبَاشَرَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْحُجَّاجِ مَا لًا يُحْصَى عَدَدًا. وَمِنْ غَرِيبِ الصُّدَفِ وَحُسْنِ التَّفَاؤُلِ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا. وَقَدْ سَأَلْتُ فَضِيلَتَهُ عَنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَهُوَ قَاصِدٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ وَمُخْتَارٌ لَهَا، أَمْ جَاءَتْ عَفْوًا؟ فَقَالَ حَفِظَهُ اللَّهُ: بَلْ عَفْوًا، لِمُلَاحَظَةٍ عَلَيْهَا؟ قُلْتُ: إِنَّهَا مِنْ أَغْرَبِ الصُّدَفِ، لِأَنَّكَ صَلَّيْتَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّكَ قَصَدْتَ إِلَيْهَا. وَلَكِنَّهُ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الْحَسَنَةِ، تَغَمَّدَ اللَّهُ الْفَقِيدَ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ إِنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، كَمَا صُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي مَسَاجِدِ الدَّوَادِمِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَحْيَا عُلُومًا دَرَسَتْ، وَخَلَّفَ تُرَاثًا بَاقِيًا، وَرَبَّى أَفَوْجًا مُتَلَاحِقَةً تُعَدُّ بِالْآلَافِ مِنْ خِرِّيجِي كُلِّيَّاتِ وَمَعَاهِدِ الْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ بِالرِّيَاضِ، وَالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ. مَا مَاتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ لَهُ فِي كُلِّ دَائِرَةٍ مِنْ دَوَائِرِ الْحُكُومَةِ فِي أَنْحَاءِ الْبِلَادِ ابْنًا مِنْ أَبْنَائِهِ، وَفِي قُطْرٍ إِسْلَامِيٍّ بَعْثَةٌ مِنَ الْبَعَثَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِمِنَحِ الْجَامِعَةِ التَّعْلِمِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ. مَا مَاتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَرَكَ فِي كُلِّ مَكْتَبَةٍ وَفِي كُلِّ مَنْزِلٍ (أَضْوَاءَ الْبَيَانِ) تُبَدِّدُ الظَّلَامَ وَتَهْدِي السَّبِيلَ. فَلَا يَبْعُدُ وَلَا يُعَالِي مَنْ يَقُولُ: مَا مَاتَ مَنْ خَلَّفَ هَذَا التُّرَاثِ، وَأَدَّى تِلْكَ الرِّسَالَةَ فِي حَيَاتِهِ، يُبْقِي أَثَرًا خَالِدًا عَلَى مَرِّ الْأَجْيَالِ وَالْقُرُونِ. لَقَدْ أَدَّى رِسَالَةً عُظْمَى، وَانْتَقَلَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى لِيَحْصُدَ مَا زَرَعَ وَيَجْنِيَ ثِمَارَ مَا غَرَسَ، وَيَنْعَمَ بِمَا قَدَّمَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً. لَقَدْ عَاشَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مُنْذُ سِنِينَ حِينَ قَدِمَ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، ثُمَّ اعْتَزَمَ الْمُقَامَ وَعَمِلَ فِي كُبْرَيَاتِ مَعَاهِدِ الْعِلْمِ وَجَامِعَاتِهِ، وَأَلَّفَ وَحَاضَرَ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَنْهُ كَلِمَةٌ وَلَمْ يَكُنْ يَرْضَى بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ. لَقَدْ كَانَتْ أَعْمَالُهُ تُتَرْجِمُ عَنْهُ وَمُؤَلَّفَاتُهُ تُعَرِّفُ بِهِ حَتَّى عَرَفَهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْقَاصِي وَالدَّانِي، وَالْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ، فَلَمْ تَكُنْ وَفَاتُهُ رُزْءًا عَلَى فَرْدٍ أَوْ أُسْرَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ قُطْرٍ، وَلَكِنْ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ. وَمَا كَتَبْتُ عَنْهُ سِوَى كَلِمَةٍ مُوجَزَةٍ اسْتَقَيْتُهَا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ طَبْعِ أَوَّلِ مُحَاضَرَةٍ لَهُ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَطُبِعَتْ فِي مُقَدِّمَتِهَا. وَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَنْهُ أَيْضًا إِلَّا تَعْرِيفٌ مُوجَزٌ بِالنَّشْأَةِ وَالْمَوْلِدِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ. وَالْآنَ وَقَدْ تَحَتَّمَتِ الْكِتَابَةُ عَنْهُ لَا تَعْرِيفًا بِهِ، فَهُوَ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ، فَهُوَ الْعَلَمُ الْخَفَّاقُ، وَالطَّوْدُ الْأَشَمُّ، وَالشَّمْسُ الْمُشْرِقَةُ فَلَيْسَتِ الْكِتَابَةُ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَكِنْ لِرَسْمِ خُطَاهُ وَبَيَانِ مَنْهَجِهِ، مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمَسْتُهُ مِنْ حَيَاتِي مَعَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ. وَإِنِّي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 لَأُسَجِّلُ هَذَا عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، لِكُلِّ مَنْ عَرَفَهُ عَالِمًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ طَالِبًا أَوْ عَرَفَهُ هُنَا وَلَمْ يَعْرِفْهُ هُنَاكَ فِي بِلَادِهِ، فَأَقُولُ أَوَّلًا: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ إِيفَاءَ الْمَقَامِ حَقَّهُ لِعِظَمِ مَقَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَبِيرِ مَنْزِلَتِهِ، وَإِنَّ كُلَّ كِتَابَةٍ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ تُعْتَبَرُ ذَاتَ جَانِبَيْنِ: جَانِبُ تَرْجَمَةٍ لَهُ وَبَيَانٍ لِحَقِيقَتِهِ وَتَعْرِيفٍ بِشَخْصِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَجَانِبُ سِيرَتِهِ وَمَنْهَجِهِ. بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَهْجًا يُسَارُ عَلَيْهِ وَمَنْهَجًا يُقْتَدَى بِهِ وَمُؤَثِّرًا يُؤَثِّرُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أَرَادَ السَّيْرَ فِي سَبِيلِهِ وَالنَّسْجَ عَلَى مِنْوَالِهِ، وَالِاسْتِفَادَةَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَالْكِتَابَةُ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ تُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ شَخْصِيَّتِهِ فِي إِبْرَازِ صُورَتِهِ وَبَيَانِ مَكَانَتِهِ وَفِيهَا تَقْيِيمُهُ فِي عَظَمَتِهِ أَوْ تَوَسُّطِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيُّ عَالِمٍ أَوْ طَالِبِ عِلْمٍ فَإِنَّ لَهُ شَخْصِيَّةً مُزْدَوِجَةً، فِي حَيَاتِهِ الْعَامَّةِ وَسُلُوكِهِ الْعَامِّ. وَحَيَاتِهِ الْخَاصَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَنْهَجِهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَنَشْرِهِ، وَالْكِتَابَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ عَنِ التَّرْجَمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالسِّيرَةِ الْعِلْمِيَّةِ. وَقَدْ مَثَّلَتِ الْمَكْتَبَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِتَرَاجِمِ وَسِيَرِ الْأَعْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى عُصُورِ التَّدْوِينِ وَامْتَدَّتْ إِلَى الْيَوْمِ، حِفْظًا لِلتُّرَاثِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَسْجِيلًا لِلرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْكِتَابَةُ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ وَافِيَةً إِلَّا بِتَعَدُّدِ الْكُتَّابِ عَنْهُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحَقِيقَةُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا كُتِبَ عَنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ كَاتِبٍ عَنْ أَيِّ شَخْصٍ لَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: 1 - إِمَّا مُوَالٍ مُتَأَثِّرٌ: فَقَدْ يَقَعُ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْعَاطِفَةِ، فَيَنْظُرُ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ. فَيُقَالُ فِيهِ وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ". 2 - وَإِمَّا زَاوِيَةُ مُعَادٍ مُنْفَعِلٍ: فَيَقَعُ تَحْتَ طَائِلَةِ الِانْفِعَالِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ تَتِمَّةُ الْبَيْتِ السَّابِقِ: " كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا ". 3 - وَإِمَّا بَعِيدٌ مُعْتَدِلٌ: يَرْغَبُ التَّقْيِيمَ بِمِيزَانِ الِاعْتِدَالِ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَفُوتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَرِيصًا عَلَيْهِ، بِدُونِ تَقْصِيرٍ. وَمِنْ هُنَا لَمْ تَكُنْ كِتَابَةُ كَاتِبٍ عَنْ إِنْسَانٍ مَا مُطَابِقَةً كُلَّ التَّطَابُقِ وَمُكْتَمِلَةً غَايَةَ الِاكْتِمَالِ. وَقَدْ يَتَحَرَّجُ الْأَصْدِقَاءُ مَخَافَةَ التُّهْمَةِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْأُلْفَةِ أَوْ يَتَوَقَّفُ الْأَعْدَاءُ مُكْتَفِينَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 بِالْإِغْضَاءِ، أَوْ يَتَرَدَّدُ الْآخَرُونَ خَشْيَةَ التَّقْصِيرِ. وَلِهَذَا فَقَدْ تَذْهَبُ الشَّخْصِيَّةُ الْفَذَّةُ دُونَ كِتَابَةٍ عَنْهَا فَيَفْتَقِدُهُ الْحَاضِرُونَ وَيَفْقِدُ سِيرَتَهُ الْقَادِمُونَ. عِلْمًا بِأَنَّ سِيرَةَ الرِّجَالِ مَدْرَسَةُ الْأَجْيَالِ. وَفَضِيلَةُ الْوَالِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ شَخْصِيَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ وَسِيرَةٌ وَاضِحَةٌ يَعْرِفُهَا كُلُّ مَنْ لَقِيَهُ أَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ أَوِ اسْتَمَعَ دَرْسَهُ أَوْ قَرَأَ كُتُبَهُ أَوْ حَتَّى سَمِعَ عَنْهُ. وَقَدْ طَبَّقَتْ شُهْرَتُهُ الْآفَاقَ. وَإِنَّ الْكِتَابَةَ عَنْ مِثْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمِنْ أَشَقِّ مَا يَكُونُ لِتَعَدُّدِ جَوَانِبِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَانْفِسَاحِ مَجَالَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ لِمَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ إِلَّا الْخُلْطَةَ وَطُولَ الْعِشْرَةِ وَتَصَيُّدَ الْأَخْبَارِ مِنْ ذَوِيِهِ الْأَخْيَارِ. وَحَيْثُ إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ هُمْ تَلَامِذَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِصُحْبَتِهِ وَطُولِ مُلَازَمَتِهِ لَيْلَ نَهَارٍ، وَكَثْرَةِ مُرَافَقَتِهِ فِي الظَّعْنِ وَالْأَسْفَارِ. دَاخِلَ وَخَارِجَ الْمَمْلَكَةِ. وَسَمِعْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ جِدًّا، فَإِنِّي لَأَجِدُنِي تَتَجَاذَبُنِي عَوَامِلُ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ. فَإِذَا اسْتَحْضَرْتُ كُلَّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، وَتَصَوَّرْتُ كُلَّ مَا لَمَسْتُهُ فِيهِ أَجِدُنِي أَحَقَّ النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ. وَإِذَا تَذَكَّرْتُ مَكَانَتَهُ وَتَرَاءَتْ لِي مُنْزِلَتُهُ وَأَحْسَسْتُ تَأْثِيرَهُ عَلَى نَفْسِي تَلَاشَتْ مِنْ ذِهْنِي كُلُّ مَعَانِي الْكِتَابَةِ أَمَامَ تِلْكَ الشَّخْصِيَّةِ الْمِثَالِيَّةِ وَتَرَاجَعَتْ بَعِيدًا عَنْ مَيَادِينِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ. وَلَكِنْ إِذَا كَانَ كُلُّ كَاتِبٍ لَا يَسْتَطِيعُ تَقْيِيمَ كُلِّ شَخْصِيَّةٍ تَقْيِيمًا حَقِيقِيًّا يَدُلُّ عَلَى الشَّخْصِ دَلَالَةً مُطَابِقَةً، وَفِي أُسْلُوبِ الْمُسَاوَاةِ. لَا مُوجِزًا وَلَا مُطْنِبًا. إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ كُلِّ كَاتِبٍ مَعَ كُلِّ شَخْصٍ. وَإِذَا كَانَ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَحَقَّ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ فَمَا لِي لَا أُدْلِي بِدَلْوِي بِالدِّلَاءِ، وَأُعْمِلُ قَلَمِي مَعَ الْأَقْلَامِ، وَأُبْدِي مَا عِنْدِي سَوَاءٌ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ مُبَاشَرَةً أَوْ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، أَوْ لَمَسْتُهُ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاتِهِ وَسِيرَتِهِ. دُونَ انْطِلَاقٍ مَعَ الْعَاطِفَةِ إِلَى حَدِّ الْإِطْنَابِ، وَدُونَ إِحْجَامٍ مَعَ الْوَجَلِ وَالتَّهَيُّبِ وَالْوَجَلِ إِلَى حَدِّ الْإِيجَازِ. إِنَّهُ لَشَيْخِي، وَأَعِزُّ عَلَيَّ مِنْ وَالِدِي. إِنَّهُ حَقًّا وَالِدِي حِسًّا وَمَعْنًى، لَقَدْ عِشْتُ فِي كَنَفِهِ سَنَوَاتٍ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ يُظِلُّنَا سَقْفٌ وَاحِدٌ فِي غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ أَمَدًا طَوِيلًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 وَقَدْ وَجَدْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعِنَايَةَ وَالرِّعَايَةَ كَأَحَدِ أَبْنَائِهِ كَأَشَدِّ مَا يَرْعَى الْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَقَدْ أَجِدُ مِنْهُ الْإِيثَارَ عَلَى نَفْسِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْيَانِهِ، مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَلَا يُنْسَى فَضْلُهُ. وَأَعَزُّ مِنَ الْإِيثَارِ مَا مَنَحَنِي مِنَ الْعُلُومِ وَالْآثَارِ، وَالتَّوْجِيهِ الْأَدَبِيِّ، وَالْفَضْلِ الْخُلُقِيِّ، وَالسُّمُوِّ النَّفْسِيِّ، فِي مَجَالِسِهِ وَأَحَادِيثِهِ، وَدُرُوسِهِ مِنْ غَيْرِ مَا حَدٍّ وَبِدُونِ تَقَيُّدٍ بِوَقْتٍ، إِذْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَجَالِسِهِ مَجَالِسُ عِلْمٍ، وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ أَحَادِيثُ أَدَبٍ وَتَوْجِيهٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْضِيرٍ لِدَرْسٍ، وَلَا مُرَاجَعَةٍ لِجَوَابٍ عَلَى سُؤَالٍ. وَلَمْ يَكُنْ لِي مَعَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ كَثْرَةِ الْإِخْوَانِ الدَّارِسِينَ عَلَيْهِ الْمُقِيمِينَ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِمُدَّةِ سَنَتَيْنِ دِرَاسِيَّتَيْنِ وَنَحْنُ بِالرِّيَاضِ. قَرَأْتُ فِي خِلَالِهِمَا تَفْسِيرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. كَانَتْ تِلْكَ الدِّرَاسَةُ عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ رَأْسُ مَالِي فِي جُلِّ تَحْصِيلِي، وَعَلَيْهَا أَسَاسُ دِرَاسَتِي الْحَقِيقِيَّةِ سَوَاءٌ فِي الْمُقَرَّرَاتِ أَوْ غَيْرِهَا. لِأَنَّ فِيهَا جَمِيعَ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. وَعَلَى مَبَاحِثِهَا تَنْطَبِقُ جُلُّ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. وَلَا يَبْعُدُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ السُّوَرِ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرًا لَهَا، أَوْ أَنَّ مَنْ أَتْقَنَ تَفْسِيرَهَا سَهُلَ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ مَا بَعْدَهَا. وَقَدْ كَانَتْ دِرَاسَتُهَا سَبَبًا فِي تَأْلِيفِ كِتَابِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَأَضْوَاءِ الْبَيَانِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِثْرَ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ. مَعَ مَا دَرَسْتُ مِنَ الْأُصُولِ وَمَبَادِئٍ فِي الْمَنْطِقِ وَدَقَائِقَ فِي الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَقَدْ وَجَدْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ أَجِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا وَأَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَا وَجَدْتُهُ أَنَا مِنْهُ. فَلَئِنْ شَرُفْتُ بِخِدْمَتِهِ فَلَقَدْ حَظِيتُ بِصُحْبَتِهِ. فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِّي أَحْسَنَ الْجَزَاءِ. وَإِنَّ صَاحِبَ مِثْلِ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ مَعَ مِثْلِ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ لَيُحِسُّ بِثِقَلِ دُيُونِهِ عَلَى كَاهِلِهِ، وَيَلْمِسُ عِظَمَ الْمِنَّةِ تُطَوِّقُ عُنُقَهُ. فَهَلْ أَسْتَطِيعُ تَوْفِيَةَ هَذَا الْجَانِبِ فَحَسْبُ، فَضْلًا عَنِ الْجَوَانِبِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّرْجَمَةِ وَالسِّيرَةِ، وَهَلْ يَتَأَتَّى مِنِّي الْإِحْجَامُ عَنِ الْكِتَابَةِ وَأَنَا مَدِينٌ بِمِثْلِ تِلْكَ الدُّيُونِ، مُكَبَّلٌ بِتِلْكَ الْمِنَنِ مِمَّا يَجْعَلُنِي أَحَقَّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: كَلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ ... وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ تَطَاوَلَ حَتَّى قُلْتُ لَيْسَ بِمُنْقَضٍ ... وَلَيْسَ الَّذِي يَرْعَى النُّجُومَ بِآيِبِ وَصَدْرٍ أَرَاحَ اللَّيْلُ عَازِبُ هَمِّهِ ... تَضَاعَفَ فِيهِ الْحُزْنَ مِنْ كُلِّ جَانِبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ وَلَئِنْ قِيلَ: وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهُمُو ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ فَإِنِّي لَأَقُولُ: وَتَجَلُّدِي لِلسَّامِعِينَ أُرِيهُمُو ... شَمْسَ الْحَقِيقَةِ مِنْ سَنَاءٍ تَطْلُعُ وَإِنِّي مُلْزَمٌ بِالْكِتَابَةِ لَوْ تَأَثَّرْتُ بِالْعَاطِفَةِ فَإِنِّي مَعْذُورٌ. وَإِنَّ قَصَّرْتُ عَنْ حَقِّهِ فَلَا عُذْرَ لِي فِي التَّقْصِيرِ. وَإِنِّي لَأَعْتَبِرُ مَا أُقَدِّمُهُ بِدَايَةً لَا نِهَايَةً وَتَذْكِرَةً لِلْآخَرِينَ مِنْ حَاضِرِينَ وَغَائِبِينَ، لَعَلَّهُمْ يُتِمُّونَ مَا بَقِيَ، وَيُكْمِلُونَ مَا نَقَصَ. وَإِذَا كَانَتِ التَّرَاجِمُ وَالسِّيَرُ تَنْقَسِمُ إِلَى ذَاتِيَّةٍ وَغَيْرِ ذَاتِيَّةٍ. وَالذَّاتِيَّةُ هِيَ مَا يَكْتُبُهَا الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ طُفُولَتِهِ إِلَى رُجُولَتِهِ. وَيُسَجِّلُ مَا جَرَى لَهُ وَعَلَيْهِ. وَهِيَ أَصْدَقُ مَا تَكُونُ إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُعْتَدِلًا أَمِينًا. وَقَدْ تَرْجَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْهُمُ: 1 - ابْنُ سِينَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 428 كَانَتْ تَرْجَمَتُهُ لِنَفْسِهِ مَرْجِعًا لِكُلِّ مَنْ كَتَبَ عَنْهُ مِنْ تَلَامِيذِهِ. 2 - وَالْعِمَادُ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 597 فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ " الْبَرْقِ الشَّامِيِّ ". 3 - وَابْنُ الْخَطِيبِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 776. 4 - وَابْنُ خَلْدُونَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 805، وَالسُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَالتَّرْجَمَةُ غَيْرُ الذَّاتِيَّةِ مَا يَكْتُبُ غَيْرُهُ عَنْهُ. وَإِنَّ مَا أُقَدِّمُهُ فِي هَذَا الْمَجَالِ لَيَجْمَعُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الذَّاتِيِّ، وَغَيْرِ الذَّاتِيِّ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا قَالَهُ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ وَسَمِعْتُهُ مِنْهُ مُبَاشَرَةً. كَمَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا عَرَفْتُهُ وَلَمَسْتُهُ مِنْ حَيَاتِهِ مُدَّةَ صُحْبَتِي لَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 وَاللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ سِيرَتِهِ خَيْرَ قُدْوَةٍ لِتَلَامِذَتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ فِي وَلَدَيْهِ خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ. وَأَنْ يَأْجُرَنَا فِي مُصِيبَتِنَا وَيَخْلُفَنَا خَيْرًا مِنْهَا، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَتَغَمَّدَهُ بِوَافِرِ رَحْمَتِهِ وَيُسْكِنَهُ فَسِيحَهُ جَنَّتَهُ، وَأَنْ يُجْزِلَ لَهُ الْعَطَاءَ وَيَجْزِيَهُ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ عَمَّا بَذَلَهُ مِنْ جَهْدٍ، وَخَلَّفَهُ مِنْ عِلْمٍ. إِنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُبْدَأُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لَهُوَ الِاسْمُ وَاللَّقَبُ وَالنَّسَبُ وَالنَّشْأَةُ وَالْمَوْطِنُ) . . إلخ. وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا سَمِعْتُهَا مِنْهُ مُبَاشَرَةً: الِاسْمُ: هُوَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَهُوَ عَلَمٌ مُرَكَّبٌ مِنِ اسْمَيْنِ، وَذِكْرُ مُحَمَّدٍ تَبَرُّكٌ. وَاللَّقَبُ: آبَّا بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِنَ الْإِبَاءِ. وَاسْمُ أَبِيهِ: مُحَمَّدٌ الْمُخْتَارُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ نُوحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَيِّدِي أَحْمَدَ بْنِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَوْلَادِ الطَّالِبِ أَوْ بِك وَهَذَا مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِ كَرَيْرِ بْنِ الْمُوَافِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ جَاكنَ الْأَبَرِّ، جَدِّ الْقَبِيلَةِ الْكَبِيرَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجِكْنِيِّينَ. وَيَعْرِفُونَ بِتجكَانْت. نَسَبُ الْقَبِيلَةِ: وَيَرْجِعُ نَسَبُ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ إِلَى حِمْيَرَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْمُورِيتَانِيُّ مُحَمَّد فَال وَلَدُ الْعَيْنَيْنِ مُسْتَدِلًّا بِفَصَاحَتِهِمْ عَلَى عُرُوبَتِهِمْ: إِنَّا بَنُو حَسَنٍ دَلَّتْ فَصَاحَتُنَا ... أَنَّا إِلَى الْعَرَبِ الْأَقْحَاحِ نَنْتَسِبُ إِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَاتٌ أَنَّنَا عَرَبٌ ... فَفِي «اللِّسَانِ» بَيَانٌ أَنَّنَا عَرَبُ انْظُرْ إِلَى مَا لَنَا مِنْ كُلِّ قَافِيَةٍ ... لَهَا تَنُمُّ شُذُورُ الزِّبْرِجِ الْقَشِبُ وَبَيَّنَ شَاعِرٌ آخَرُ مَرْجِعَ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ إِلَى حِمْيَرَ بِقَوْلِهِ: يَا قَائِلًا طَاعِنًا فِي أَنَّنَا عَرَبٌ ... قَدْ كَذَّبَتْكَ لَنَا لُسْنٌ وَأَلْوَانُ وَسْمُ الْعُرُوبَةِ بَادٍ فِي شَمَائِلِنَا ... وَفِي أَوَائِلِنَا عِزٌّ وَإِيمَانُ آسَادُ حِمْيَرَ وَالْأَبْطَالُ مِنْ مُضَرٍ ... حُمْرُ السُّيُوفِ فَمَا ذَلُّوا وَلَا هَانُوا لَقَدْ كَانَتْ خَصَائِصُ الْعُرُوبَةِ وَمُمَيِّزَاتُهَا مَوْفُورَةً لَدَى الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَدَى أَهْلِهِ وَذَوِيِهِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، كَمَا تَوَفَّرَتِ الْعُلُومُ وَالْفُنُونُ فِي بَيْتِهِ وَقَبِيلَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَحَدُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 شُعَرَائِهِمْ أَصَالَةَ الْعُرُوبَةِ فِيهِمْ وَارْتِضَاعَهُمْ إِيَّاهَا مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ يُخَاطِبُ مَنْ يُنْكِرُهَا عَلَيْهِمْ: لَنَا الْعُرُوبَةُ الْفُصْحَى وَإِنَّا ... أَحَقُّ الْعَالَمِينَ بِهَا اضْطِلَاعًا عَنِ الْكُتُبِ اقْتَبَسْتُمُوهَا انْتِفَاعًا ... بِمَا فِيهَا وَنَرْضَعُهَا ارْتِضَاعًا الْمَوْلِدُ: وُلِدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عَامِ 1305 هـ. الْمَوْطِنُ: كَانَ مَسْقَطُ رَأْسِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ مَاءٍ يُسَمَّى (تَنْبهَ) مِنْ أَعْمَالِ مُدِيرِيَّةِ (كِيفَا) مِنَ الْقُطْرِ الْمُسَمَّى بِشِنْقِيطَ وَهُوَ دَوْلَةُ مُورِيتَانْيَا الْإِسْلَامِيَّةُ الْآنَ. عِلْمًا بِأَنَّ كَلِمَةَ شِنْقِيطَ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ اسْمًا لِقَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ مُدِيرِيَّةٍ أصَارَ فِي أَقْصَى مُورِيتَانْيَا فِي الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ. نَشْأَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَبْلَ الْحَدِيثِ عَنْ نَشْأَتِهِ يَحْسُنُ إِيجَازُ نُبْذَةٍ عَنِ الْبِيئَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. تُعْتَبَرُ الْحَيَاةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ بِحَسَبِ الْمُوَاطِنِينَ قِسْمَيْنِ: عَرَبٌ وَعَجَمٌ وَالْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْجَمِيعِ. أَمَّا الْعَمَلُ: فَالْعَجَمُ أَكْثَرُ أَعْمَالِهِمُ الزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَسُلَالَتُهُمْ مِنَ الزُّنُوجِ. وَأَمَّا الْعَرَبُ فَقِسْمَانِ: طَلَبَةٌ وَغَيْرُ الطَّلَبَةِ. وَالطَّلَبَةُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالتِّجَارَةُ، وَغَيْرُهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التِّجَارَةُ وَالْإِغَارَةُ. وَهُمْ قَبَائِلُ عِدَّةٌ، وَمِنَ الْقَبَائِلِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الطَّلَبُ، وَمِنْهَا مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْإِغَارَةُ وَالْقِتَالُ. وَقَبِيلَةٌ الْجكنِيِّينَ خَاصَّةً قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَفُرُوسِيَّةِ الْقِتَالِ. مَعَ عِفَّةٍ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَفِي هَذَا الْجَوِّ كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ سَوَاءٌ فِي حَلِّهِمْ أَوْ تِرْحَالِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِهِمُ الْعَلَّامَةُ الْمُخْتَارُ بْنُ بُونَا: وَنَحْنُ رَكْبٌ مِنَ الْأَشْرَافِ مُنْتَظَمُ ... أَجَلُّ ذَا الْعَصْرِ قَدْرًا دُونَ أَدْنَانَا قَدِ اتَّخَذْنَا ظُهُورَ الْعِيسِ مَدْرَسَةً ... بِهَا نُبَيِّنُ دِينَ اللَّهِ تِبْيَانًا أَمَّا كَرَمُ الطَّبْعِ فَهَذَا سَجِيَّةٌ فِي جَمِيعِهِمْ وَأَمْرٌ يَشِبُّ فِيهِ الصَّغِيرُ، وَيَشِيبُ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ وَقَدْ أَلِفُوا الضَّيْفَ لِنُجْعَةِ مَنَازِلِهِمْ، وَمِنْ عَادَاتِهِمْ إِذَا نَزَلَ وَفْدٌ عَلَى بَيْتٍ، فَإِنَّ أَهْلَ هَذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 الْمَنْزِلِ يُرْسِلُونَ لِأَهْلِ بَيْتِ الْمُضِيفِ مِمَّا عِنْدَهُمْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مُشَارَكَةً فِي قِرَى الضَّيْفِ وَتَعَاوُنًا مَعَ الْمُضِيفِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْدَمًا غَدَا وَاجِدًا، وَيَرْحَلُ الْوَفْدُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الرِّضَا. وَهَكَذَا لِيَكُ. وَفِي هَذَا الْجَوِّ وَتِلْكَ الْبِيئَةِ نَشَأَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تُوُفِّيَ وَالِدِي وَأَنَا صَغِيرٌ أَقْرَأُ فِي جُزْءِ عَمَّ، وَتَرَكَ لِي ثَرْوَةً مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْمَالِ، وَكَانَتْ سُكْنَايَ فِي بَيْتِ أَخْوَالِي وَأُمِّي ابْنَةُ عَمِّ أَبِي، وَحَفِظْتُ الْقُرْءَانَ عَلَى خَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ نُوحٍ جَدِّ الْأَبِ الْمُتَقَدِّمِ. طَلَبُهُ لِلْعِلْمِ: حَفِظَ الْقُرْءَانِ فِي بَيْتِ أَخْوَالِهِ عَلَى خَالِهِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعُمُرُهُ عَشْرُ سَنَوَاتٍ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ تَعَلَّمْتُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ (الْمُصْحَفِ الْأُمِّ) عَنِ ابْنِ خَالِي سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ التَّجْوِيدَ فِي مَقْرَأِ نَافِعٍ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَزْرَقِ وَقَالُونَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نَشِيطٍ، وَأَخَذْتُ عَنْهُ سَنَدًا بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ وَعُمُرِي سِتَّةَ عَشَرَ سَنَةً. أَنْوَاعُ الدِّرَاسَةِ فِي الْقُرْءَانِ: تُعْتَبَرُ الدِّرَاسَةُ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ مَنْهَجًا مُتَكَامِلًا لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحِفْظِ وَالْأَدَاءِ، بَلْ تَتَنَاوَلُ مَعْرِفَةَ رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَيْ نَوْعَ كِتَابَتِهِ مَا كَانَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا، وَمَا رُسِمَ فِيهِ الْمَدُّ أَوْ كَانَ يُمَدُّ بِدُونِ وُجُودِ حَرْفِ الْمَدِّ، وَقَدْ يَكُونُ حَرْفًا صَغِيرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ ضَبْطُ مَا فِيهِ مِنْ مَنْشَأَيْهِ فِي الرَّسْمِ أَوِ التِّلَاوَةِ. وَمِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا رَجَزُ (مُحَمَّدِ بْنِ بُوجَهْ) الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَحْرِ، تَعَرَّضَ فِيهِ لِكُلِّ كَلِمَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْءَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَرَّةً أَيْ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ، وَأَفْرَدَ كُلَّ عَدَدٍ بِفَصْلٍ فَمَثَلًا: كَلِمَةُ (أَعْيُنُهُمْ) بِالرَّفْعِ جَاءَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ فِيهَا: أَعْيُنُهُمْ بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ حُضُورْ ... مِنْ بَعْدُ كَانَتْ وَتَوَلَّتْ وَتَدُورْ وَمِنَ الثُّنَائِيِّ: كَلِمَةُ (الْأَشْيَاعِ) بِالْعَيْنِ قَالَ فِيهِ: أَشْيَاعُ بِالْعَيْنِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ ... فِي سَبَإٍ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمْ ذُكِرْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 وَقَدْ دَرَسَ هَذَا كُلَّهُ فِي طُفُولَتِهِ، وَكَانَتْ لَهُ زِيَادَةُ نَظْمٍ عَلَى ذَلِكَ تَذْيِيلًا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، كَمَا قَالَ: عَلَى الْبَيْتِ الْأَخِيرِ مُبَيِّنًا حَرَكَاتِهِ وَإِعْرَابَهُ: فِي سُورَةِ الْقَمَرِ خَاطِبْ وَانْصِبَا ... وَجَلِّهِ وَغَيْبَتُهُ فِي سَبَأٍ أَيْ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ تَكُونُ تِلَاوَتُهَا الْخِطَابُ وَالنَّصْبُ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ تَكُونُ تِلَاوَتُهَا بِالْغَيْبَةِ وَالْجَرِّ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ وَهَذِهِ دِرَاسَةٌ لَا تَكَادُ تُوجَدُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهِيَ مِنَ الْمَهَامِّ الْعِلْمِيَّةِ لِحِفْظِهَا رَسْمَ الْقُرْءَانِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ تَعَهُّدِ اللَّهِ بِحِفْظِ هَذَا الْقُرْءَانِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ دَرَسْتُ بَعْضَ الْمُخْتَصَرَاتِ فِي فِقْهِ مَالِكٍ كَرَجَزِ الشَّيْخِ ابْنِ عَاشِرٍ، وَفِي أَثْنَائِهَا أَيْضًا دَرَسْتُ دِرَاسَةً وَاسِعَةً فِي الْأَدَبِ عَلَى زَوْجَةِ خَالِي أُمِّ وَلَدِ الْخَالِ أَيْ أَنَّ وَلَدَ خَالِهِ يُعَلِّمُهُ الْعُلُومَ الْخَاصَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَأُمُّهُ تُعَلِّمُهُ الْأَدَبَ، قَالَ: أَخَذْتُ عَنْهَا مَبَادِئَ النَّحْوِ كَالْأُجْرُومِيَّةِ وَتَمْرِينَاتٍ وَدُرُوسٍ وَاسِعَةٍ فِي أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهِمْ، وَالسِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَنَظْمَ الْغَزَوَاتِ لِأَحْمَدَ الْبَدَوِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى 500 بَيْتٍ وَشُرُوحَهُ لِابْنِ أُخْتِ الْمُؤَلِّفِ الْمَعْرُوفِ بِحَمَّادٍ، وَنَظَرَ عَمُودِ النَّسَبِ لِلْمُؤَلِّفِ وَهُوَ يُعَدُّ بِالْآلَافِ، وَشَرْحَهُ لِابْنِ أُخْتِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى خُصُوصِ الْعَدْنَانِيِّينَ، لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَحْطَانِيِّينَ. هَذِهِ دِرَاسَةٌ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ وَالْأَدَبِ وَالسِّيَرِ وَالتَّارِيخِ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَخْوَالِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ وَأَبْنَاءِ أَخْوَالِهِ وَزَوْجَاتِ أَخْوَالِهِ، أَيْ كَانَ بَيْتُ أَخْوَالِهِ الْمَدْرَسَةَ الْأُولَى إِلَيْهِ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُنُونِ فَقَالَ: أَوَّلًا: الْفِقْهُ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ السَّائِدُ فِي الْبِلَادِ دَرَسْتُ مُخْتَصَرَ خَلِيلٍ - بَدَأَ دِرَاسَتَهُ فِيهِ عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ إِلَى قِسْمِ الْعِبَادَاتِ - ثُمَّ دَرَسَ عَلَيْهِ النِّصْفَ مِنْ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مَالِكٍ. ثُمَّ أَخَذَ بَقِيَّةَ الْفُنُونِ عَلَى مَشَايِخَ مُتَعَدِّدَةٍ، فِي فُنُونٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْجكنِيِّينَ وَمِنْهُمْ مَشَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فِي الْبِلَادِ مِنْهُمُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 1 - الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْمَشْهُورُ بِابْنِ أَحْمَدَ الْأَفْرَمِ. 2 - وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْأَفْرَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ. 3 - وَالشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ. 4 - وَالْفَقِيهُ مُحَمَّدٌ النِّعْمَةُ بْنُ زَيْدَانَ. 5 - وَالْفَقِيهُ الْكَبِيرُ أَحْمَدُ بْنُ مُودْ. 6 - وَالْعَلَّامَةُ الْمُتَبَحِّرُ فِي الْفُنُونِ أَحْمَدُ فَال بْنُ آدُهْ. وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ الْجكنِيِّينَ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ كُلَّ الْفُنُونِ: النَّحْوَ، وَالصَّرْفَ، وَالْأُصُولَ، وَالْبَلَاغَةَ. وَبَعْضَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ. أَمَّا الْمَنْطِقُ وَآدَابُ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَقَدْ حَصَّلْنَاهُ بِالْمُطَالَعَةِ. هَذَا مَا أَمْلَاهُ عَلَيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَجَّلْتُهُ عَنْهُ. عِلْمًا بِأَنَّ الْفَنَّ الَّذِي دَرَسَهُ عَلَى الْمَشَايِخِ أَوْ مُطَالَعَةً مِنَ الْكُتُبِ، لَمْ يَقْتَصِرْ فِي تَحْصِيلِهِ عَلَى دِرَاسَتِهِ، بَلْ كَانَ دَائِمًا يُدِيمُ النَّظَرَ وَيُوَاصِلُ التَّحْصِيلَ حَتَّى غَدَا فِي كُلٍّ مِنْهُ كَأَنَّهُ مُتَخَصِّصٌ فِيهِ، بَلْ وَلَهُ فِي كُلٍّ مِنْهُ اجْتِهَادَاتٌ وَمَبَاحِثُ مُبْتَكَرَةٌ، سَنُلِمُّ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ إِيرَادِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ لِدِرَاسَتِهِ وَآثَارِهِ الْعِلْمِيَّةِ. مَنْهَجُهُ الْعِلْمِيُّ فِي الدِّرَاسَةِ: وَقَبْلَ إِيرَادِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ لَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي دِرَاسَتِهِ، نُلِمُّ بِالْمَنْهَجِ الْعَامِّ السَّائِدِ فِي بِلَادِهِ لِكَافَّةِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَطَرِيقَةِ تَحْصِيلِهِ. تُعْتَبَرُ طَرِيقَةُ الدِّرَاسَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ جُزْءًا مِنْ حَيَاةِ الْبَوَادِي حِلًّا وَارْتِحَالًا. وَإِذَا أَقَامَ أَحَدُ الْمَشَايِخِ فِي مَكَانٍ تَوَافَدَ عَلَيْهِ الطُّلَّابُ لِلدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ وَمَكَثَ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْهُ، وَقَدْ يُقِيمُ بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ لِدَوَامِ الدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ «الْمُرَابِطُ» نَظَرًا لِإِقَامَتِهِ الدَّائِمَةِ لِنَشْرِ الْعِلْمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 وَلَا يَأْخُذُ الْمُرَابِطُ مِنْ طُلَّابِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ ذَا يَسَارٍ سَاعَدَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ طُلَّابِهِ، وَقَدْ يُسَاعِدُ أَهْلَ ذَاكَ الْمَكَانِ الْغُرَبَاءَ مِنَ الطُّلَّابِ. فَيَنْزِلُونَ حَوْلَ بَيْتِهِ وَيَبْنُونَ لَهُمْ خِيَامًا أَوْ مَسَاكِنَ مُؤَقَّتَةً. وَيَكُونُ لَهُمْ مَجْلِسُ عِلْمٍ لِلدَّرْسِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالِاسْتِذْكَارِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَابِطُ مُخْتَصًّا بِفَنٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَدْرُسُ عِدَّةَ فُنُونٍ. فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِفَنٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ دُرُوسَهُ تَكُونُ فِي هَذَا الْفَنِّ مُوَزَّعَةً فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْهُ بِحَسَبِ مَجْمُوعَاتِ الطُّلَّابِ، فَقَدْ تَكُونُ مَجْمُوعَةٌ فِي الْبِدَايَةِ مِنْهُ، وَمَجْمُوعَةٌ فِي النِّهَايَةِ وَأُخْرَى فِي أَثْنَائِهِ وَهَكَذَا. فَتَتَقَدَّمُ كُلُّ مَجْمُوعَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَتَدْرُسُ عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ تَأْتِي الْمَجْمُوعَةُ الْأُخْرَى وَهَكَذَا. وَإِذَا كَانَ يَدْرُسُ عِدَّةَ فُنُونٍ، فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ طُلَّابَ كُلِّ فَنٍّ عَلَى النَّحْوِ الْمُتَقَدِّمِ. إِفْرَادُ الْفُنُونِ: وَلَا يَحِقُّ لِطَالِبٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ فَنَّيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَدْرُسُ فَنًّا حَتَّى يُكْمِلَهُ كَالنَّحْوِ مَثَلًا، ثُمَّ يَبْدَأُ فِي الْبَلَاغَةِ حَتَّى يُكْلِمَهَا. وَهَكَذَا يَبْدَأُ مَثَلًا فِي الْفِقْهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَبْدَأُ فِي الْأُصُولِ حَتَّى يُكْمِلَهُ. سَوَاءٌ دَرَسَهَا عَلَى عِدَّةِ مَشَايِخَ أَوْ عَلَى شَيْخٍ وَاحِدٍ. طَرِيقَةُ الدِّرَاسَةِ الْيَوْمِيَّةِ: يَبْدَأُ الطَّالِبُ بِكِتَابَةِ الْمَتْنِ فِي اللَّوْحِ الْخَشَبِيِّ فَيَكْتُبُ قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ، ثُمَّ يَمْحُوهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ قَدْرًا آخَرَ حَتَّى يَحْفَظَ مَقْرَأً مِنَ الْفَنِّ حَسَبَ التَّقْسِيمِ الْمَعْهُودِ. فَمَثَلًا النَّحْوُ، تُعْتَبَرُ الْأَلْفِيَّةُ أَرْبَعَةَ مَقَارِئٍ، وَيُعْتَبَرُ مَتْنُ خَلِيلٍ فِي الْفِقْهِ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا حَفِظَ الطَّالِبُ مَقْرَأً مِنَ الْفَنِّ تَقَدَّمَ لِلدِّرَاسَةِ فَيَشْرَحُهُ لَهُ الشَّيْخُ شَرْحًا وَافِيًا بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ مِنْ تَحْصِيلٍ، دُونَ أَنْ يَفْتَحَ كِتَابًا، أَوْ يَحْضُرَ فِي مَرْجِعٍ ثُمَّ يَقُومُ هَؤُلَاءِ لِلِاسْتِذْكَارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمُنَاقَشَةِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ الشُّرَّاحِ لِمُقَابَلَتِهِ عَلَى مَا سَمِعُوهُ أَوْ يَرْجِعُونَ إِلَى بَعْضِ الْحَوَاشِي، وَلَا يَجْتَازُونَ ذَاكَ الْمَكَانَ مِنَ الدَّرْسِ حَتَّى يَرَوْا أَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا كُلَّ مَا فِيهِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ سُرْعَةٍ أَوْ إِنْهَاءِ كِتَابٍ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَهْمِ وَتَحْصِيلِ مَا فِي الْبَابِ، وَقَدْ ذَكَرُوا عَنْ بَعْضِ الطُّلَّابِ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالذَّكَاءِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْصِيلِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ فِي مَتْنِ خَلِيلٍ عَلَى سَطْرَيْنِ فَقَطْ. فَقِيلَ لَهُ لِمَ لَا تَزِيدُ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 التَّحْصِيلِ فَقَالَ: لِأَنَّنِي عَجْلَانُ لِأَعُودَ إِلَى أَهْلِي، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْعَجْلَانَ يَزِيدُ فِي حِصَّتِهِ، فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ أُتْقِنَ مَا أَقْرَأُ حَتَّى لَا أَحْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ دِرَاسَتِهِ فَأَتَأَخَّرُ. الْحَيَاةُ الدِّرَاسِيَّةُ: دِرَاسَةُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ كَانَتْ دِرَاسَةُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَمَيَّزَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، قَلَّ أَنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ، نُوجِزُ مِنْهَا كَالْآتِي: 1 - فِي مَبْدَأِ دِرَاسَتِهِ: تَقَدَّمَ أَنَّهُ أُتِيحَ لَهُ فِي بَادِئِ دِرَاسَتِهِ مَا لَمْ يُتَحْ لِغَيْرِهِ حَيْثُ كَانَ بَيْتُ أَخْوَالِهِ مَدْرَسَتَهُ الْأُولَى، فَلَمْ يَرْحَلْ فِي بَادِئِ أَمْرِهِ لِلطَّلَبِ، وَكَانَ وَحِيدَ وَالِدَيْهِ، فَكَانَ فِي مَكَانِ التَّدَلُّلِ وَالْعِنَايَةِ. 2 - قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُنْتُ أَمِيلُ إِلَى اللَّعِبِ أَكْثَرَ مِنَ الدِّرَاسَةِ حَتَّى حَفِظْتُ الْحُرُوفَ الْهِجَائِيَّةَ وَبَدَأُوا يُقْرِئُونَنِي إِيَّاهَا بِالْحَرَكَاتِ، بَا فُتْحَةُ بَا، بِي كَسْرَةُ بِي، بُو ضَمَّةُ بُو، وَهَكَذَا ت د ث. فَقُلْتُ لَهُمْ أَوَ كُلُّ الْحُرُوفِ هَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقُلْتُ: كَفَى إِنِّي أَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهَا كُلَّهَا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ كَيْ يَتْرُكُونَنِي فَقَالُوا: اقْرَأْهَا، فَقَرَأْتُ بِثَلَاثَةِ حُرُوفٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَتَنَقَّلْتُ إِلَى آخِرِهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَعَرَفُوا أَنِّي فَهِمْتُ قَاعِدَتَهَا وَاكْتَفَوْا مِنِّي بِذَلِكَ وَتَرَكُونِي. وَمِنْ ثَمَّ حُبِّبَتْ إِلَيَّ الْقِرَاءَةُ. 3 - وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمَّا حَفِظْتُ الْقُرْءَانَ، وَأَخَذْتُ الرَّسْمَ الْعُثْمَانِيَّ، وَتَفَوَّقْتُ فِيهِ عَلَى الْأَقْرَانِ عُنِيَتْ بِي وَالِدَتِي وَأَخْوَالِي أَشَدَّ عِنَايَةٍ، وَعَزَمُوا عَلَى تَوْجِيهِي لِلدِّرَاسَةِ فِي بَقِيَّةِ الْفُنُونِ. فَجَهَّزَتْنِي وَالِدَتِي بِجَمَلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ مَرْكَبِي وَكُتُبِي، وَالْآخِرُ عَلَيْهِ نَفَقَتِي وَزَادِي، وَصَحِبَنِي خَادِمٌ وَمَعَهُ عِدَّةُ بَقَرَاتٍ، وَقَدْ هَيَّأَتْ لِي مَرْكَبِي كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنْ مَرْكَبٍ وَمَلَابِسَ كَأَحْسَنِ مَا تَكُونُ فَرَحًا بِي وَتَرْغِيبًا لِي فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهَكَذَا سَلَكْتُ سَبِيلَ الطَّلَبِ وَالتَّحْصِيلِ. تَقُومُ الْحَيَاةُ الدِّرَاسِيَّةُ عَلَى أَسَاسِ مَنْعِ الْكُلْفَةِ وَتَمَامِ الْأُلْفَةِ سَوَاءٌ بَيْنَ الطُّلَّابِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَيْخِهِمْ مَعَ كَمَالِ الْأَدَبِ وَوَقَارِ الْحِشْمَةِ. وَقَدْ تَتَخَلَّلُهَا الطُّرَفُ الْأَدَبِيَّةُ وَالْمُحَاوَرَاتُ الشِّعْرِيَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَدْرُسَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُنِي مِنْ قَبْلُ، فَسَأَلَ عَنِّي مَنْ أَكُونُ، وَكَانَ فِي مَلَأٍ مِنْ تَلَامِذَتِهِ فَقُلْتُ مُرْتَجِلًا: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 هَذَا فَتًى مِنْ بَنِي جَاكَانَ قَدْ نَزَلَا ... بِهِ الصِّبَا عَنْ لِسَانِ الْعُرْبِ قَدْ عَدَلَا رَمَتْ بِهِ هِمَّةٌ عَلْيَاءُ نَحْوَكُمْ ... إِذْ شَامَ بَرْقَ عُلُومٍ نُورُهُ اشْتَعَلَا فَجَاءَ يَرْجُو رُكَامًا مِنْ سَحَائِبِهِ ... تَكْسُو لِسَانَ الْفَتَى أَزْهَارُهُ حُلَلًا إِذْ ضَاقَ ذَرْعًا بِجَهْلِ النَّحْوِ ثُمَّ أَبَا ... أَلَّا يُمَيِّزَ شَكْلَ الْعَيْنِ مِنْ فَعَلَا قَدْ أَتَى الْيَوْمَ صَبًّا مُولَعًا كَلِفًا ... بِالْحَمْدِ لِلَّهِ لَا أَبْغِي لَهُ بَدَلًا يُرِيدُ دِرَاسَةَ لَامِيَّةِ الْأَفْعَالِ. وَقَدْ مَضَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ قُدُمًا وَقَدْ أَلْزَمَهُ بَعْضُ مَشَايِخِهِ بِالْقِرَانِ. أَيْ أَنَّ يَقْرِنَ بَيْنَ كُلِّ فَنَّيْنِ حِرْصًا عَلَى سُرْعَةِ تَحْصِيلِهِ وَتَفَرُّسًا لَهُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ بِهِمَّةٍ عَالِيَةٍ فِي دَرْسٍ وَتَحْصِيلٍ. وَقَدْ خَاطَبَهُ بَعْضُ أَقْرَانِهِ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ: دَعَانِي النَّاصِحُونَ إِلَى النِّكَاحِ ... غَدَاةَ تَزَوَّجَتْ بِيضُ الْمِلَاحِ فَقَالُوا لِي تَزَوَّجْ ذَاتَ دَلٍّ ... خَلُوبَ اللَّحْظِ جَائِلَةَ الْوِشَاحِ تَبَسَّمُ عَنْ نَوْشَرَةٍ رِقَاقِ ... يَمُجُّ الرَّاحَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ كَأَنَّ لِحَاظَهَا رَشَقَاتُ نَبْلٍ ... تُذِيقُ الْقَلْبَ آلَامَ الْجِرَاحِ وَلَا عَجَبَ إِذَا كَانَتْ لِحَاظٌ ... لِبَيْضَاءِ الْمَحَاجِرِ كَالرِّمَاحِ فَكَمْ قَتَلَا كَمِّيًّا ذَا وَلَاحِي ... ضَعِيفَاتُ الْجُفُونِ بِلَا سِلَاحِ فَقُلْتُ لَهُمْ دَعُونِي إِنَّ قَلْبِي ... مِنَ الْعِيِّ الصُّرَاحِ الْيَوْمَ صَاحِي وَلِي شَغْلٌ بِأَبْكَارٍ عَذَارَى ... كَأَنَّ وُجُوهَهَا ضَوْءُ الصَّبَاحِ أَرَاهَا فِي الْمَهَارِقِ لَابِسَاتٍ ... بِرَاقِعَ مِنْ مَعَانِيهَا الصِّحَاحِ أَبِيتُ مُفَكِّرًا فِيهَا فَتَضْحَى ... لِفَهْمِ الْفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ أَبَحْتُ حَرِيمَهَا جَبْرًا عَلَيْهَا ... وَمَا كَانَ الْحَرِيمُ بِمُسْتَبَاحِ نَعَمْ، إِنَّهُ كَانَ يَبِيتُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مُفَكِّرًا وَبَاحِثًا حَتَّى يُذَلِّلَ الصِّعَابَ، وَقَدْ طَابَقَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ. حَدَّثَنِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: جِئْتُ لِلشَّيْخِ فِي قِرَاءَتِي عَلَيْهِ فَشَرَحَ لِي كَمَا كَانَ يَشْرَحُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْفِ مَا فِي نَفْسِي عَلَى مَا تَعَوَّدْتُ، وَلَمْ يَرْوِ لِي ظَمَئِي. وَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَأَنَا أَجِدُنِي فِي حَاجَةٍ إِلَى إِزَالَةِ بَعْضِ اللَّبْسِ وَإِيضَاحِ بَعْضِ الْمُشْكِلِ وَكَانَ الْوَقْتُ ظُهْرًا فَأَخَذْتُ الْكُتُبَ وَالْمَرَاجِعَ فَطَالَعْتُ حَتَّى الْعَصْرِ، فَلَمْ أَفْرَغْ مِنْ حَاجَتِي فَعَاوَدْتُ حَتَّى الْمَغْرِبِ فَلَمْ أَنْتَهِ أَيْضًا، فَأَوْقَدَ لِي خَادِمِي أَعْوَادًا مِنَ الْحَطَبِ أَقْرَأُ عَلَى ضَوْئِهَا كَعَادَةِ الطُّلَّابِ، وَوَاصَلْتُ الْمُطَالَعَةَ وَأَتَنَاوَلُ الشَّاهِيَ الْأَخْضَرَ كُلَّمَا مَلِلْتُ أَوْ كَسِلْتُ وَالْخَادِمُ بِجِوَارِي يُوقِدُ الضَّوْءَ حَتَّى انْبَثَقَ الْفَجْرُ وَأَنَا فِي مَجْلِسِي لَمْ أَقُمْ إِلَّا لِصَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ تَنَاوُلِ طَعَامٍ وَإِلَى أَنِ ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَقَدْ فَرَغْتُ مِنْ دَرْسِي وَزَالَ عَنِّي لَبْسِي، وَوَجَدْتُ هَذَا الْمَحَلَّ مِنَ الدَّرْسِ كَغَيْرِهِ فِي الْوُضُوحِ وَالْفَهْمِ فَتَرَكْتُ الْمُطَالَعَةَ وَنِمْتُ، وَأَوْصَيْتُ خَادِمِي أَنْ لَا يُوقِظَنِي لِدَرْسِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اكْتِفَاءً بِمَا حَصَلْتُ عَلَيْهِ وَاسْتِرَاحَةً مِنْ عَنَاءِ سَهَرِ الْبَارِحَةِ. فَقَدْ بَاتَ مُفَكِّرًا فِيهَا فَأَضْحَتْ ... لِفَهْمِ الْفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ وَإِنَّ هَذَا لَدَرْسٌ لِأَبْنَائِهِ وَمَنْهَجٌ لِطُلَّابِ الْعِلْمِ فِي الصَّبْرِ وَالدَّأْبِ وَالْمُثَابَرَةِ. وَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي دِرَاسَتِي وَتَدْرِيسِي وَخَاصَّةً فِي صُورَةٍ مُشَابِهَةٍ فِي الْفَرَائِضِ لَمْ أَكُنْ دَرَسْتُهَا عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ الِاخْتِبَارُ فِي الْمَقْرُوءِ لَا فِي الْمُقَرَّرِ. وَتِلْكَ هِيَ آفَةُ الدِّرَاسَةِ النِّظَامِيَّةِ الْيَوْمَ وَكُنْتُ كُلَّمَا ضَجِرْتُ فِي تَحْقِيقِهَا، تَذَكَّرْتُ قِصَّتَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصَبَرْتُ حَتَّى حَصَّلْتُهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ إِلَى هَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَكِنْ كَمْ كَانَتْ لَذَّتِي وَارْتِيَاحِي. وَمَعَ هَذِهِ الشَّاعِرِيَّةِ الرَّقْرَاقَةِ وَالْمَعَانِي الْعِذَابِ الْفَيَّاضَةِ وَالْأُسْلُوبِ السَّهْلِ الْجَزْلِ، فَقَدْ كَانَ يَتَبَاعَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ مَعَ وَفْرَةِ حِفْظِهِ إِيَّاهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتٌ يَقُولُ فِيهَا: أُنْقِذْتُ مِنْ دَاءِ الْهَوَى بِعِلَاجٍ ... شَيْبٍ يَزِينُ مُفَارِقِي كَالتَّاجِ قَدْ صَدَّنِي حِلْمُ الْأَكَابِرِ عَنْ لَمِيِّ ... شَفَةِ الْفَتَاةِ الطَّفْلَةِ الْمِغْنَاجِ مَاءُ الشَّبِيبَةِ زَارِعٌ فِي صَدْرِهَا ... رُمَّانَتَيْ رَوْضٍ كَحُقِّ الْعَاجِ وَكَأَنَّهَا قَدْ أَدْرَجَتْ فِي بُرْقُعٍ ... يَا وَيْلَتَاهُ بِهَا شُعَاعَ سِرَاجِ وَكَأَنَّمَا شَمْسُ الْأَصِيلِ مُذَابَةٌ ... تَنْسَابُ فَوْقَ جَبِينِهَا الْوَهَّاجِ يُعْلَى لِمَوْقِعٍ فِي خِدْرِهَا ... فَوْقَ الْحَشِيَّةِ نَاعِمِ الدِّيبَاجِ لَمْ يَبْكِ عَيْنِي بَيْنَ حَيٍّ جِيرَةً ... شَدُّوا الْمَطِيَّ بِأَنْسَعِ الْأَحْدَاجِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 نَادَتْ بِأَنْغَامِ اللُّحُونِ حُدَاتُهُمْ ... فَتَزَيَّلُوا وَاللَّيْلُ أَلْيَلُ دَاجِي لَا تَصْطَبِينِي عَاتِقٌ فِي دَلِّهَا ... رَقَّتْ فَرَاقَتْ فِي رِقَاقِ زُجَاجِ مَخْضُوبَةٌ مِنْهَا بَنَانُ مُدِيرِهَا ... إِذْ لَمْ تَكُنْ مَقْتُولَةً بِمِزَاجِ طَابَتْ نُفُوسُ الشِّرْبِ حَيْثُ أَدَارَهَا ... رَشَأٌ رَمَى بِلِحَاظِ طَرْفٍ سَاجِي أَوْ ذَاتُ عُودٍ أَنْطَقَتْ أَوْتَارَهَا ... بِلُحُونِ قَوْلٍ لِلْقُلُوبِ شَوَاجِي فَتَخَالُ رَنَّاتِ الْمَثَانِي أَحْرُفًا ... قَدْ رُدِّدَتْ فِي الْحَلْقِ مِنْ مُهْتَاجِ وَقَدْ سَأَلْتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ تَرْكِهِ الشِّعْرَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَإِجَادَتِهِ فِيهِ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفَاضِلِ وَخَشِيتُ أَنْ أَشْتَهِرَ بِهِ، وَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ: وَلَوْلَا الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي ... لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيَدِ لِأَنَّ الشَّاعِرَ يَقُولُ فِي كُلِّ مَجَالٍ. وَالشِّعْرُ أَكْذَبُهُ أَعْذَبُهُ فَلَمْ أُكْثِرْ مِنْهُ لِذَلِكَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عِدَّةُ مُؤَلِّفَاتٍ نَظْمًا فِي عِدَّةِ فُنُونٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَعْمَالُهُ فِي الْبِلَادِ: كَانَتْ أَعْمَالُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَعَمَلِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الدَّرْسَ وَالْفُتْيَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ قَدِ اشْتُهِرَ بِالْقَضَاءِ وَبِالْفِرَاسَةِ فِيهِ، وَرَغْمَ وُجُودِ الْحَاكِمِ الْفَرَنْسِيِّ إِلَّا أَنَّ الْمُوَاطِنِينَ كَانُوا عَظِيمِي الثِّقَةِ فِيهِ فَيَأْتُونَهُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَيَفِدُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ نَازِلًا. طَرِيقَتُهُ فِي الْقَضَاءِ: كَانَ إِذَا أَتَى إِلَيْهِ الطَّرَفَانِ اسْتَكْتَبَهُمَا رَغْبَتَهُمَا فِي التَّقَاضِي إِلَيْهِ وَقَبُولَهُمَا مَا يَقْضِي بِهِ، ثُمَّ يَسْتَكْتِبُ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ وَيَكْتُبُ جَوَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَسْفَلَ كِتَابَةِ الدَّعْوَى وَيَكْتُبُ الْحُكْمَ مَعَ الدَّعْوَى وَالْإِجَابَةَ وَيَقُولُ لَهُمَا اذْهَبَا بِهَا إِلَى مَنْ شِئْتُمَا مِنَ الْمَشَايِخِ أَوِ الْحُكَّامِ. أَمَّا الْمَشَايِخُ فَلَا يَأْتِي أَحَدَهُمْ قَضِيَّةٌ قَضَاهَا إِلَّا صَدَّقُوا عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحُكَّامُ فَلَا تَصِلُهُمْ قَضِيَّةٌ حَكَمَ فِيهَا إِلَّا نَفَّذُوا حُكْمَهُ حَالًا. وَكَانَ يَقْضِي فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ وَكَانَ لِلدِّمَاءِ قَضَاءٌ خَاصٌّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 قَضَاءُ الدِّمَاءِ: كَانَ الْحَاكِمُ الْفَرَنْسِيُّ فِي الْبِلَادِ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بَعْدَ مُحَاكَمَةٍ وَمُرَافَعَةٍ وَاسِعَةِ النِّطَاقِ وَبَعْدَ تَمْحِيصِ الْقَضِيَّةِ وَإِنْهَاءِ الْمُرَافَعَةِ وَصُدُورِ الْحُكْمِ يُعْرَضُ عَلَى عَالِمَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْبِلَادِ لِيُصَادِقُوا عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى الْعَالِمَانِ لَجْنَةَ الدِّمَاءِ وَلَا يُنَفَّذُ حُكْمُ الْإِعْدَامِ فِي الْقِصَاصِ إِلَّا بَعْدَ مُصَادَقَتِهِمَا عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدَ أَعْضَاءِ هَذِهِ اللَّجْنَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ حَتَّى عَلَا قَدْرُهُ وَعَظُمَ تَقْدِيرُهُ، وَكَانَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِهَا وَمَوْضِعَ ثِقَةِ أَهْلِهَا وَحُكَّامِهَا وَمَحْكُومِهَا. خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَعَلَى نِيَّةِ الْعَوْدَةِ وَكَانَ سَفَرُهُ بَرًّا، كَتَبَ فِيهِ رِحْلَةً ضَمَّنَهَا مَبَاحِثَ جَلِيلَةً كَانَ آخِرُهَا مَبْحَثَ الْقَضَايَا الْمُوَجَّهَةِ فِي الْمَنْطِقِ مَعَ عُلَمَاءِ أُمِّ دُرْمَانَ بِالْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ بِالسُّودَانِ. وَبَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ تَجَدَّدَتْ نِيَّةُ بَقَائِهِ. وَلَعَلَّ مِنَ الْخَيْرِ وَبَيَانِ الْوِقَاعِ ذِكْرُ سَبَبِ بَقَائِهِ: لَقَدْ كَانَ فِي بِلَادِهِ كَغَيْرِهِ يَسْمَعُ الدِّعَايَةَ ضِدَّ هَذِهِ الْبِلَادِ بِاسْمِ الْوَهَّابِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الصِّدْقِ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ وِجْهَاتِ النَّظَرِ «وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ لَهُ الْأَسْبَابَ» وَمِنْ عَجِيبِ الصُّدَفِ أَنْ يَنْزِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ مَنَازِلِ الْحَجِّ بِجِوَارِ خَيْمَةِ الْأَمِيرِ خَالِدِ السّديرِيِّ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدٌ يَبْحَثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بَيْتًا فِي الْأَدَبِ وَهُوَ ذَوَّاقَةٌ أَدِيبٌ وَامْتَدَّ الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ سَأَلُوا الشَّيْخَ لَعَلَّهُ يُشَارِكُهُمْ فَوَجَدُوا بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِلْسَةِ وَذَاكَ الْمَنْزِلِ تَعَدَّلَتِ الْفِكْرَةُ بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْخَيْمَةُ بِدَايَةَ مُنْطَلَقٍ لِفِكْرَةٍ جَدِيدَةٍ، وَأَوْصَاهُ الْأَمِيرُ إِنْ هُوَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَنْ يَلْتَقِيَ بِالشَّيْخَيْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الزَّاحِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صَالِحٍ حَفِظَهُ اللَّهُ. وَفِي الْمَدِينَةِ الْتَقَى بِهِمَا رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ صَرِيحًا مَعَهُمَا فِيمَا يَسْمَعُ عَنِ الْبِلَادِ وَكَانَا حَكِيمَيْنِ فِيمَا يَعْرِضَانِ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ مَذْهَبٍ فِي الْفِقْهِ وَمَنْهَجٍ فِي الِعَقِيدَةِ. وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مُبَاحَثَةً مَعَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ. وَأَخِيرًا قَدَّمَ لِلشَّيْخِ كِتَابَ الْمُغْنِي كَأَصْلٍ لِلْمَذْهَبِ وَبَعْضَ كُتُبِ الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كَمَنْهَجٍ لِلْعَقِيدَةِ، فَقَرَأَهَا الشَّيْخُ وَتَعَدَّدَتِ اللِّقَاءَاتُ وَطَالَتِ الْجِلْسَاتُ فَوَجَدَ الشَّيْخُ مَذْهَبًا مَعْلُومًا لِإِمَامٍ جَلِيلٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 كَمَا وَجَدَ مَنْهَجًا سَلِيمًا لِعَقِيدَةِ السَّلَفِ تَعْتَمِدُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَذَهَبَ زَيْفُ الدِّعَايَاتِ الْبَاطِلَةِ وَظَهَرَ مَعْدِنُ الْحَقِيقَةِ الصَّحِيحَةِ، وَتَوَطَّدَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَجَدَّدَتْ رَغْبَةٌ مُتَبَادَلَةٌ فِي بَقَائِهِ لِإِفَادَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَرَغِبَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَعْظَمَ مِنْ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَمَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مِنْ جَلَالَةِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ الشَّيْخَانِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَدَرَسَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ الصَّرْفَ وَالْبَيَانَ عَلَيْهِ. رَحِمَ اللَّهُ الْمَوْتَى وَحَفِظَ اللَّهُ الْأَحْيَاءَ. وَهُنَا كَلِمَةٌ يَجِبُ أَنْ تُقَالَ لِلْحَقِيقَةِ وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ خَاصَّةً نَضَعُهَا فِي مِيزَانِ الْعَدَالَةِ وَقَانُونِ الْإِنْصَافِ: لَقَدْ كَانَ لِجُلُوسِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَائِدَةٌ مُزْدَوِجَةٌ اسْتَفَادَ وَأَفَادَ. أَمَّا اسْتِفَادَتُهُ فَأَمْرٌ حَتْمِيٌّ وَمَنْطِقُهُ عِلْمِيٌّ لِلْآتِي: وَهُوَ أَنَّ مَنْهَجَ الدِّرَاسَةِ فِي بِلَادِهِ كَانَ مُنْصَبًّا أَكْثَرَ مَا يَكُونُ عَلَى الْفِقْهِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فَقَطْ. وَعَلَى الْعَرَبِيَّةِ مَتْنًا وَأُسْلُوبًا، وَالْأُصُولِ وَالسِّيرَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ دَرَسَ الْمَنْطِقَ بِالْمُطَالَعَةِ وَلَمْ تَكُنْ دِرَاسَةُ الْحَدِيثِ تَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ غَيْرُهَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَكَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِمَامًا فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ فِي الْبِلَادِ. وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْبَقَاءِ وَبَدَأَ التَّدْرِيسَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ وَجَدَ مَنْ يُمَثِّلُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَنْ يُنَاقِشُ فِيهَا، وَوَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دِرَاسَةً لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. بَلْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، فَكَّانِ لَا بُدَّ مِنْ دِرَاسَةِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ بِجَانِبِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِمَا أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْهَبِيَّ لَا يُنْهِيهِ إِلَّا الْحَدِيثُ أَوِ الْقُرْءَانِ، فَكَانَ لِزَامًا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَاعَدَ الشَّيْخَ عَلَى هَذَا التَّوَسُّعِ وَالِاسْتِيعَابِ وَقُوَّةِ الِاسْتِدْلَالِ وَدِقَّةِ التَّرْجِيحِ مَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ فِيهِ مِنْ فَنِّ الْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ، مَعَ تَوَسُّعِهِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَبِالْأَخَصِّ الْمَجَامِيعُ كَنَيْلِ الْأَوْطَارِ وَفَتْحِ الْبَارِي وَغَيْرِهَا. وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي مَنْهَجِهِ فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ حِينَمَا يَعْرِضُ لِمَبْحَثٍ فِقْهِيٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَيَسْتَوْفِيَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَيُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ لَهُ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَقْلًا كَانَ أَوْ نَقْلًا. وَهَذَا الْمَنْهَجُ هُوَ سَبِيلُ أَهْلِ التَّحْصِيلِ، الدَّأْبُ عَلَى الدِّرَاسَةِ، وَمُوَاصَلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَالتَّنْقِيحِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 أَمَّا فِي الْعَقِيدَةِ فَقَدْ بَلْوَرَهَا مَنْطِقًا وَدَلِيلًا، ثُمَّ لَخَّصَهَا فِي مُحَاضَرَةِ آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي أَوَّلِ مُحَاضَرَاتِ الْجَامِعَةِ ثُمَّ بَسَطَهَا وَوَضَّحَهَا إِيضَاحًا شَافِيًا فِي أُخْرَيَاتِ حَيَاتِهِ، فِي كِتَابَيْ آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ دَلِيلًا وَاسْتِدْلَالًا وَعَرْضًا وَإِقْنَاعًا. وَمِنْ آثَارِ بَيَانِهِ لَهَا وَأُسْلُوبِهِ فِيهَا مَا قَالَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا سَمِعَ بَيَانَ الشَّيْخِ لِعَقِيدَةِ السَّلَفِ فِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: جَزَى اللَّهُ عَنَّا الشَّيْخَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ خَيْرًا عَلَى بَيَانِهِ هَذَا، فَالْجَاهِلُ عَرَفَ الْعَقِيدَةَ، وَالْعَالِمُ عَرَفَ الطَّرِيقَ وَالْأُسْلُوبَ. وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ تَضَعُ بَيْنَ يَدَيْ طَالِبِ الْعِلْمِ مَنْهَجَ الِاسْتِزَادَةِ فِي التَّحْصِيلِ وَطُمُوحَهُ فِيهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ أَبَدًا: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ مَالٍ هَذَا جَانِبُ اسْتِفَادَتِهِ، أَمَّا جَانِبُ إِفَادَتِهِ فَهُوَ مَا سَنَتَحَدَّثُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوَّلًا: فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: يُعْتَبَرُ التَّدْرِيسُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مِنْ أَهَمِّ التَّدْرِيسِ فِي كُبْرَيَاتِ جَامِعَاتِ الْعَالَمِ، فِي نَشْرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْجَامِعَةُ الْأُولَى لِلتَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مُنْذُ عَهْدِ النُّبُوَّةِ. وَحِينَ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي لِتَعْلِيمِ الْإِسْلَامِ فِي مَجَالِسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمُنْذُ كَانَتْ مَجَالِسُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. إِذْ كَانَتِ الْمَدِينَةُ الْعَاصِمَةَ الْعِلْمِيَّةَ وَظَلَّتْ مُحَافِظَةً عَلَى مَرْكَزِهَا الْعِلْمِيِّ، وَلَمْ تَخْلُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ مِنْ عَالِمٍ يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ فِيهَا. وَقَبْلَ مَجِيءِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ قَبْلَهُ الشَّيْخُ الطَّيِّبُ رَحِمَهُ اللَّهُ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ كَثِيرًا. وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 1363 هـ. فَكَانَ جُلُوسُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلتَّدْرِيسِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ امْتِدَادًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ، مَعَ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ آنَذَاكَ مِنْ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ دَرْسُ الشَّيْخِ فِي التَّفْسِيرِ، خَتَمَ الْقُرْءَانَ مَرَّتَيْنِ. مَنْهَجُهُ فِي دَرْسِهِ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّفْسِيرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَوْضُوعٍ فَهُوَ شَامِلٌ عَامٌّ بِشُمُولِ الْقُرْءَانِ وَعُمُومِهِ، فَكَانَ الْمَنْهَجُ أَوَّلًا بَيَانَ الْمُفْرَدَاتِ ثُمَّ الْإِعْرَابَ وَالتَّصْرِيفَ ثُمَّ الْبَلَاغَةَ مَعَ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا يُورَدُ. ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْأَحْكَامِ إِنْ كَانَ مَوْضُوعُ الْآيَةِ فِقْهًا، فَيَسْتَقْصِي بِاسْتِنْتَاجِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ الْأَقْوَالِ وَالتَّرْجِيحِ لِمَا يَظْهَرُ لَهُ. وَيَدْعَمُ ذَلِكَ بِالْأُصُولِ وَبَيَانِ الْقُرْءَانِ وَعُلُومِ الْقُرْءَانِ مِنْ عَامٍّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 وَخَاصٍّ وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ وَنَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَأَسْبَابِ نُزُولٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي قَصَصٍ أَظْهَرَ الْعِبَرَ مِنَ الْقِصَّةِ وَبَيَّنَ تَارِيخَهَا وَقَدْ يَرْبِطُ الْحَاضِرَ بِالْمَاضِي كَرَبْطِ تَكَشُّفِ النِّسَاءِ الْيَوْمَ بِفِتْنَةِ إِبْلِيسَ لِحَوَّاءَ فِي الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا، وَفِتْنَتِهِ لِلْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى طَافُوا بِالْبَيْتِ عَرَايَا رِجَالًا وَنِسَاءً وَهَا هُوَ يَسْتَدْرِجُهُنَّ فِي التَّكَشُّفِ شَيْئًا فَشَيْئًا. بَدَأَ بِكَشْفِ الْوَجْهِ ثُمَّ الرَّأْسِ ثُمَّ الذِّرَاعَيْنِ. . . إلخ. فَكَانَ أُسْلُوبًا عِلْمِيًّا وَتَرْبَوِيًّا فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَمَا كَانَ أَحْكَامًا وَحُكْمًا. وَكَانَ دَرْسُهُ أَشْبَهَ بِحَدِيقَةٍ غَنَّاءَ احْتَوَتْ أَشْهَرَ الثِّمَارِ وَأَجْمَلَ الْأَزْهَارِ، فِي تَنْسِيقِ الْغَرْسِ وَجَمَالِ الْجَدَاوِلِ تَشْرَحُ الصَّدْرَ وَتَشْفِي الْقَلْبَ وَتَرُوقُ لِلْعَيْنِ. فَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا طَابَ لَهُ وَمَا وَسِعَهُ. وَقَدْ يَسْتَطْرِدُ لِلْقَاعِدَةِ بِمَبْحَثٍ كَامِلٍ كَمَا اسْتَطْرَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ فِي رَدِّهِ الْقِيَاسَ بِإِتْيَانِهِ بِأَنْوَاعِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وَقَدْ طُبِعَ فِي نِهَايَةِ مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ تَعْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ. وَبِهَذَا الشُّمُولِ وَالِاسْتِقْصَاءِ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ مَجَالًا لِسُؤَالٍ وَلَمْ يَبْقَ لِذِي حَاجَةٍ تَسَاؤُلٌ. وَأَذْكُرُ كَلِمَةً لِقَاضِي قَرْيَةِ «قرو» فِي مُورِيتَانْيَا بَعْدَ أَنْ سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مَهَامَّ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَجَابَ إِجَابَةً مُسْتَفِيضَةً مُفَصَّلَةً كَافِيَةً. قَالَ قَاضِي قرو: لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ هُنَا كَلَامٌ فَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ. وَلَا سُؤَالَ فَقَدْ زَالَ اللَّبْسُ، وَإِنَّ الْحُضُورَ بَيْنَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ، عَالِمٌ فَقَدْ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ سُؤَالٌ، وَجَاهِلٌ فَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ. فَكَانَ نَفْعُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِلْمُقِيمِ وَالْقَادِمِ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي نَفْعًا عَظِيمًا. ثَانِيًا: فِي سَنَةِ 1371 هـ افْتُتِحَتِ الْإِدَارَةُ الْعَامَّةُ بِالرِّيَاضِ عَلَى مَعْهَدٍ عِلْمِيٍّ، تَلَاهُ عِدَّةُ مَعَاهِدَ وَكُلِّيَّتَا الشَّرِيعَةِ وَاللُّغَةِ. وَاخْتِيرَ لِلتَّدْرِيسِ فِي الْمَعْهَدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ نُخْبَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ دَاخِلِ وَخَارِجِ الْمَمْلَكَةِ. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنِ اخْتِيرَ لِذَلِكَ فَتَوَلَّى تَدْرِيسَ التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ إِلَى سَنَةِ 1381 هـ حِينَ افْتُتِحَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْمَدِينَةِ. آثَارُهُ فِي الرِّيَاضِ: كَانَتْ مُدَّةُ اخْتِيَارِهِ لِلتَّدْرِيسِ بِالرِّيَاضِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ دِرَاسِيَّةٍ، يَعُودُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 لِقَضَاءِ الْعُطْلَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ عَمَلُهُ فِي التَّدْرِيسِ بِالْمَعْهَدِ وَالْكُلْيَةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُدَرِّسِينَ. وَلَكِنْ لِبَيَانِ أَثَرِهِ حَقِيقَةً نُورِدُ نُبْذَةً عَنِ الْحَالَةِ الْعِلْمِيَّةِ آنَذَاكَ بِالرِّيَاضِ. كَانَتِ الرِّيَاضُ عَاصِمَةَ نَجْدٍ عِلْمِيًّا وَسِيَاسِيًّا وَكَانَ يَفِدُ إِلَيْهَا طُلَّابُ الْعِلْمِ مِنْ أَنْحَاءِ نَجْدٍ لِأَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ آلِ الشَّيْخِ. وَكَانَ مَرْكَزُ الدِّرَاسَةِ وَالتَّدْرِيسِ فِي الْمَسَاجِدِ إِلَّا خَوَاصَّ الطُّلَّابِ لَدَى سَمَاحَةِ الْمُفْتِي فَيَدْرُسُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الدُّرُوسِ فِي بَيْتِهِ ضُحًى، وَكَانَتِ الدِّرَاسَةُ عِمَادُهَا التَّوْحِيدُ وَالْفِقْهُ وَالتَّفْسِيرُ وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ وَالسِّيرَةُ وَالنَّحْوُ، وَكَانَتْ دِرَاسَةً مُبَارَكَةً تَخَرَّجَ عَلَيْهَا جَمِيعُ عُلَمَاءِ نَجْدٍ، حَتَّى جَاءَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْجَدِيدَةُ، أَوْ تَنْظِيمُ الدِّرَاسَةِ الْجَدِيدُ فِي عَامِ 1371 هـ. نَشْأَةُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ: كَانَتْ نَشْأَتُهَا كَمَا سُمِعْتُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِجَابَةً لِرَغْبَةِ الْمَرْحُومِ جَلَالَةِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ لِجَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ فِي مَجْلِسِهِ الْخَاصِّ: لَقَدْ كَانَتِ الرِّيَاضُ مَلِيئَةً بِالْعُلَمَاءِ عَامِرَةً بِالدُّرُوسِ. وَانْتَقَلَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَخْلُفْهُمْ مَنْ يُمَاثِلُهُمْ، وَأَرَدْتُ تَعَاوُنَكُمْ مَعَ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي فِي تَرْبِيَةِ جِيلٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ عَنِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ، فَنَحْنُ وَأَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْمَسْؤُولِيَّةِ. فَكَانَتْ هَذِهِ النَّهْضَةُ تَرْعَاهَا عِنَايَةٌ مَلَكِيَّةٌ وَتَقُومُ عَلَيْهَا كَفَاءَةٌ عِلْمِيَّةٌ، تَوَلَّى إِدَارَةَ الْمَعْهَدِ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَرِئَاسَتُهُ لِسَمَاحَةِ الْمُفْتِي، وَافْتُتِحَتِ الدِّرَاسَةُ عَلَى طُلَّابِ حِلَقِ الْمَسَاجِدِ الْأَكْفَاءِ وَفِيهِمْ خَوَاصُّ طُلَّابِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبْنَاؤُهُ. صُنِّفَتِ الدِّرَاسَةُ عَلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ ثَانَوِيَّةٍ وَمِنْهَا إِلَى الْكُلِّيَّةِ، يُغَذِّي هَذَا الْقِسْمَ قِسْمٌ تَمْهِيدِيٌّ يَأْخُذُ مِنْ رَابِعَةِ ابْتِدَائِيٍّ وَيَدْرُسُ خَامِسَةَ وَسَادِسَةَ وَمِنْ ثَمَّ لِلْمَعْهَدِ الثَّانَوِيِّ فَالْكُلِّيَّتَيْنِ. الْمَنْهَجُ الْعِلْمِيُّ: وُضِعَ الْمَنْهَجُ الْعِلْمِيَّ لِتِلْكَ الدِّرَاسَةِ عَلَى أَسَاسٍ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَتَكْمِيلٍ مِنَ الْمَوَادِّ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَعُلُومِ الْآلَةِ مِنْ مُصْطَلَحٍ وَأُصُولٍ حَتَّى الْحِسَابِ وَالتَّقْوِيمِ وَالْخَطِّ وَالْإِمْلَاءِ وَالتَّجْوِيدِ. فَكَانَ قَوِيًّا فِي مَوْضُوعِهِ شَامِلًا فِي مَنْهَجِهِ. وَكَانَ الطُّلَّابُ مِنَ الصَّفْوَةِ الَّذِينَ دَرَسُوا فِي الْمَسَاجِدِ الْمُتَعَطِّشِينَ لِلْعُلُومِ مُتَطَلِّعِينَ لِلتَّوَسُّعِ وَكَانَ الْقَائِمُونَ عَلَى التَّدْرِيسِ نُخْبَةً مُمْتَازَةً مِنَ الْأَجِلَةِ الْفُضَلَاءِ مِنْ وَطَنِيِّينَ وَأَزْهَرِيِّينَ. فَكَانَ الْجَوُّ حَقًّا جِدًّا عِلْمِيًّا الْتَقَتْ فِيهِ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مِنْ طُلَّابٍ جَيِّدِينَ مَعَ عَزِيمَةٍ مَاضِيَةٍ مِنْ مَشَايِخَ مُجْتَهِدِينَ. كَانَ يَسُودُهُمُ الشُّعُورُ بِأَنَّ هَذِهِ طَلِيعَةُ نَهْضَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاسِعَةٍ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوَالِدٍ لِلْجَمِيعِ وَكَانَ دَرْسُهُ التَّفْسِيرَ وَالْأُصُولَ. فَكَانَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَجَالُ الْوَاسِعُ لِجَمِيعِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 الْمَوَادِّ وَالْعُلُومِ. وَكَانَ مَعَ الْتِزَامِهِ بِالْمَنْهَجِ وَالْحِصَصِ إِذَا تَنَاوَلَ بَحْثًا فِي أَيِّ مَادَّةٍ يَخَالُهُ السَّامِعُ مُخْتَصًّا فِيهَا، فَعَرَفَ لَهُ الْجَمِيعُ قَدْرَهُ وَتَطَلَّعَ الْجَمِيعُ إِلَى مَا عِنْدَهُ حَتَّى الْمُدَرِّسُونَ: وَقَدْ رَغِبَ الْمُدَرِّسُونَ آنَذَاكَ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ كُتُبِ الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَاسْتِيعَابِ دَقَائِقِهِ فَلَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ فَضِيلَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. خُصِّصَ لِذَلِكَ مَجْلِسٌ خَاصٌّ فِي صَحْنِ الْمَعْهَدِ بِدُخْنِهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. فِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ: وَفِي مَسْجِدِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَدَأَ دَرْسُ الْأُصُولِ لِكِبَارِ الطَّلَبَةِ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، حَضَرَهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ وَكَانَ يَتَوَافَدُ إِلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ الرِّيَاضِ، وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْإِفْرِيقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدْرُسُ الْحَدِيثَ وَكَانَ دَرْسُ الْأُصُولِ بِمَثَابَةِ فَتْحٍ جَدِيدٍ فِي هَذَا الْفَنِّ فِي بَيْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمَّا كَانَ الدَّرْسُ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَسْجِدِ عَامًّا - وَفِي الطَّلَبَةِ مِنْ خَوَاصِّهِمْ رَغِبُوا فِي دَرْسٍ خَاصٍّ فِي بَيْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَكَانَ لَهُمْ دَرْسٌ خَاصٌّ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَكَانَ بَيْتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَدْرَسَةٍ سَوَاءٌ لِأَبْنَائِهِ الَّذِينَ رَافَقُوهُ لِلدِّرَاسَةِ عَلَيْهِ وَقَدْ أَمْلَى شَرْحًا عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ فِي بَيْتِهِ عَلَى أَخِينَا أَحْمَدَ الْأَحْمَدِ الشِّنْقِيطِيِّ. لَقَدْ كَانَ لِتَدْرِيسِهِ هَذَا سَوَاءٌ رَسْمِيَّا فِي الْمَعْهَدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي الْمَنْزِلِ - كَانَ لَهُ أَثَرٌ طَيِّبٌ وَنَتَائِجُ حَسَنَةٌ لَا يَسَعُ مُتَحَدِّثٌ التَّحَدُّثَ عَنْهَا بِقَدْرِ مَا تَحَدَّثَتْ هِيَ عَنْ نَفْسِهَا فِي أَعْمَالِ كَافَّةِ الْمُتَخَرِّجِينَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَاهِدِ وَالْكُلِّيَّتَيْنِ الْمُنْتَشِرَتَيْنِ فِي أَنْحَاءِ الْمَمْلَكَةِ الْمُبْرِزِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَفِي أَعْلَى مَنَاصِبَ فِي كَافَّةِ الْوِزَارَاتِ. وَلَا يُغَالِي مَنْ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ مَنْ تَخَرَّجَ أَوْ يَتَخَرَّجُ فَهُوَ إِمَّا تِلْمِيذٌ لَهُ أَوْ لِتَلَامِيذِهِ فَهُمْ بِمَثَابَةِ أَبْنَائِهِ وَأَحْفَادِهِ وَكَفَى. تَقْدِيرُ الْمَسْؤُولِينَ لَهُ: لَقَدْ كَانَ بِعِلْمِهِ وَنُصْحِهِ وَجُهْدِهِ وَعِفَّتِهِ مَوْضِعَ تَقْدِيرٍ مِنْ جَمِيعِ الْمَسْؤُولِينَ وَبِالْأَخَصِّ أَصْحَابُ الْفَضِيلَةِ آلُ الشَّيْخِ وَصَاحِبُ الْجَلَالَةِ الْمَلِكُ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَصَاحِبُ السُّمُوِّ الْمَلَكِيِّ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَقْدِيرًا لَهُ. وَقَدْ مَنَحَهُ جَلَالَةُ الْمَلِكِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمْرًا بِالْجِنْسِيَّةِ لِجَمِيعِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِ وَفِي كَفَالَتِهِ ثِقَةً بِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ. وَلَمَّا زَارَ الْمَلِكُ مُحَمَّدٌ الْخَامِسُ مَلِكُ الْمَغْرِبِ الرِّيَاضَ اسْتَأْذَنَ فِي صُحْبَةِ الشَّيْخِ إِلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 الْمَدِينَةِ فَرَافَقَهُ تَقْدِيرًا وَإِكْرَامًا وَأَلْقَى مُحَاضَرَتَهُ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِحُضُورِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ الْخَامِسِ بِعُنْوَانِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا وَقَدْ طُبِعَتْ مَرَّتَيْنِ. وَهَكَذَا قَدِمَ الرِّيَاضَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَرْحِيبٍ وَإِكْرَامٍ وَانْتَقَلَ مِنْهَا فِي إِعْزَازٍ وَإِكْبَارٍ بَعْدَ أَنْ تَرَكَ فِيهَا أَطْيَبَ الْآثَارِ، وَسَاهَمَ فِي أَكْبَرِ نَهْضَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي الْبِلَادِ. دَوْرُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: إِنَّ مَنْ يَعْرِفُ نَشْأَةَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفَ الْحَرَكَةَ الْعِلْمِيَّةَ الْحَدِيثَةَ بِالرِّيَاضِ لَيَقُولُ إِنَّ افْتِتَاحَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ امْتِدَادٌ لِلْحَرَكَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِالرِّيَاضِ. وَالْمُتَتَبِّعُ لِلْحَرَكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ لَيَقُولُ إِنَّ افْتِتَاحَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَتَدَارُكٌ لِلتَّعْلِيمِ الْإِسْلَامِيِّ حِينَمَا أُصِيبَتْ بَعْضُ دُورِ الْعِلْمِ الْكُبْرَى بِهِزَّاتٍ فِي بَرَامِجِهَا. فَكَانَ إِيجَادُهَا امْتِدَادًا لِلْحَرَكَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِالرِّيَاضِ وَمَجِيئُهَا آنَذَاكَ تَدَارُكًا لِبَعْضِ مَا فَاتَ، وَلَعَلَّهَا جُزْءٌ مِنْ تَحْقِيقِ الْحَدِيثِ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ عَقِيدَةٌ وَعَمَلٌ وَالْعِلْمُ قَبْلَهُ. وَمِنْ هُنَا نُجَدِّدُ أَوْ نَتَذَكَّرُ أَهَمِّيَّةَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَدَى وُجُودِهَا بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَبِالتَّالِي مَجِيءُ أَبْنَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ إِلَيْهَا لِلدِّرَاسَةِ وَلِلتَّرْبِيَةِ فِي هَذَا الْجَوِّ الرُّوحِيِّ لِتَبْرُزَ لَنَا قِيمَةُ الْعَمَلِ فِي الْجَامِعَةِ وَأَنَّ رِسَالَتَهَا تَرْبَوِيَّةٌ بِجَانِبِ أَنَّهَا عِلْمِيَّةٌ، وَأَنَّهَا مَنَعَتِ الِانْتِسَابَ دُونَ الْحُضُورِ لِهَذَا الْغَرَضِ نَفْسِهِ. وَقَدْ كَانَ لِوَالِدِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَجَالَاتِ الْيَدُ الطُّولَى وَالْمَجْهُودُ الْأَكْبَرُ فَلَمْ يَدَّخِرْ وِسْعًا فِي تَعْلِيمٍ وَلَمْ يَتَوَانَ فِي تَوْجِيهٍ، سَوَاءٌ فِي دُرُوسِهِ أَوْ أَحَادِيثِهِ أَوْ مُحَاضَرَاتِهِ مَعَ الطُّلَّابِ أَوِ الْمُدَرِّسِينَ فَكَانَ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ وَالدَّاعِيَةِ النَّاصِحِ الْأَمِينِ. تَحَمَّلَ عَنْهُ تَلَامِيذُهُ إِلَى أَنْحَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ حِينَمَا وَصَلَتْ مِنَحُ الدِّرَاسَةِ بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِبُلْدَانِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ وَلَوِ ادِّعَاءً أَوْ تَجَوُّزًا إِنَّهُ كَانَ بِحَقٍّ فِي مَنْزِلَةِ [الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ] ، فِي هَذَا الْوَقْتِ. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَقَدْ كَانَ بِجَانِبِ التَّعْلِيمِ عُضْوَ مَجْلِسِ الْجَامِعَةِ سَاهَمَ فِي سَيْرِهَا وَمَنَاهِجِهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 كَمَا سَاهَمَ فِي إِنْتَاجِهَا وَتَعْلِيمِهَا. وَفِي سَنَةِ 86 هـ افْتُتِحَ مَعْهَدُ الْقَضَاءِ الْعَالِي بِالرِّيَاضِ بِرِآسَةِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَفِيفِي وَكَانَتِ الدِّرَاسَةُ فِيهِ ابْتِدَاءً عَلَى نِظَامِ اسْتِقْدَامِ الْأَسَاتِذَةِ الزَّائِرِينَ فَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يَذْهَبُ لِإِلْقَاءِ الْمُحَاضَرَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ. قَدِ امْتَدَّ نَشَاطُهُ خَارِجَ الْمَمْلَكَةِ: إِذَا كَانَتِ الْجَامِعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَتَحَتْ لِلْبِلَادِ نَوَافِذَ تُطِلُّ مِنْهَا عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، وَجَعَلَتْ مِنْ حَقِّ أُولَئِكَ الْأَبْنَاءِ مَا يَجِبُ مِنْ رِعَايَتِهِمْ، وَحَقِّ تِلْكَ الْأَقْطَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْوِيَةِ أَوَاصِرِ الرَّوَابِطِ. فَكَانَتْ فِكْرَةُ إِرْسَالِ بَعَثَاتٍ إِلَى الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَخَاصَّةً إِفْرِيقْيَا، فَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ بَعْثَةِ الْجَامِعَةِ إِلَى عَشْرِ دُوَلٍ أَفْرِيقِيَّةٍ بَدَأَتْ بِالسُّودَانِ، وَانْتَهَتْ بِمُورِيتَانْيَا مَوْطِنِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ لِهَذِهِ الْبَعْثَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَعْظَمُ الْأَثَرِ، وَأَذْكُرُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ أَفَاضِلِ الْبِلَادِ بِمُورِيتَانْيَا وَفِي حَفْلِ تَكْرِيمٍ لِلْبَعْثَةِ وَكَلَ إِلَيَّ فَضِيلَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْجَوَابِ فَكَانَ مِنْهَا أَنَّ الذِّكْرَيَاتِ لَتَتَحَدَّثُ وَإِنَّهَا لَسَاعَةٌ عَجِيبَةٌ أَدَارَتْ عَجَلَةَ الزَّمَانِ حَيْثُ نَشَأَ الشَّيْخُ فِي بِلَادِكُمْ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْحِجَازِ ثُمَّ هَا هُوَ يَعُودُ إِلَيْكُمْ عَلَى رَأْسِ وَفْدٍ وَرِئَاسَةِ بَعْثَةٍ فَقَدْ نَبَتَتْ غَرْسَةُ عِلْمِهِ هُنَا عِنْدَكُمْ فَذَهَبَ إِلَى الْحِجَازِ فَنَمَتْ وَتَرَعْرَعَتْ فَامْتَدَّتْ أَغْصَانُهَا حَتَّى شَمَلَتْ بِوَارِفِ ظِلِّهَا بِلَادَ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا وَهَا نَحْنُ فِي مَوْطِنِهِ نَجْنِي ثِمَارَ غَرْسِهَا وَنَسْتَظِلُّ بِوَارِفِ ظِلِّهَا. فَكَانَتْ تِلْكَ الرِّحْلَةُ حَقًّا حَلْقَةَ اتِّصَالٍ وَتَجْدِيدَ عَهْدٍ وَإِحْيَاءَ مَعَالِمٍ لِلْإِسْلَامِ. وَكَانَ لَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَدِيدُ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ وَالْمُحَادَثَاتِ سُجِّلَتْ كُلُّهَا فِي أَشْرِطَةٍ لَا تَزَالُ مَحْفُوظَةً، آمُلُ أَنْ أُوَفَّقَ لِنَقْلِهَا وَطَبْعِهَا إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَضُمُّ إِلَيْهَا مَنْهَجَهُ وَسُلُوكَهُ مَعَ الْحُكَّامِ وَصِغَارِ الطُّلَّابِ وَالْعَوَامِّ مِمَّا يَرْسُمُ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَبِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. فِي هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ: وَكَمَا شُكِّلَتْ هَيْئَةُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهِيَ أَكْبَرُ هَيْئَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي الْبِلَادِ. كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدَ أَعْضَائِهَا. وَقَدْ تَرَأَّسَ إِحْدَى دَوْرَاتِهَا فَكَانَتْ لَهُ السِّيَاسَةُ الرَّشِيدَةُ وَالنَّتَائِجُ الْحَمِيدَةُ. سَمِعْتُ فَضِيلَةَ الشَّيْخِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صَالِحٍ حَفِظَهُ اللَّهُ وَهُوَ عُضْوٌ فِيهَا يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ قَبْلَهُ أَحْسَنَ إِدَارَةً مِنْهُ مَعَ بُعْدِ نَظَرٍ فِي الْأُمُورِ، وَحُسْنِ تَدَبُّرٍ لِلْعَوَاقِبِ. فِي الرَّابِطَةِ: وَفِي رَابِطَةِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كَانَ عُضْوَ الْمَجْلِسِ التَّأْسِيسِيِّ لَمْ تَقِلَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 خِدْمَاتُهُ فِيهِ عَنْ خِدْمَاتِهِ فِي غَيْرِهَا. أَذْكُرُ لَهُ مَوْقِفًا حَدَّثَنِي بِهِ، جَنَّبَ الرَّابِطَةَ مَأْزِقًا كَادَ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهَا شِقَاقًا أَوِ انْثِلَامًا. حِينَمَا قَدِمَ مَنْدُوبُ إِيرَانَ وَقَدَّمَ طَلَبًا بِاعْتِرَافِ الرَّابِطَةِ بِالْمَذْهَبِ الْجَعْفَرِيِّ وَمَعَهُ وَثِيقَةٌ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ذَاتِ الْوَزْنِ الْكَبِيرِ تُؤَيِّدُهُ عَلَى دَعْوَاهُ وَتُجِيبُهُ إِلَى طَلَبِهِ. فَإِنْ قَبِلُوا طَلَبَهُ دَخَلُوا مَأْزِقًا وَإِنْ رَفَضُوهُ وَاجَهُوا حَرَجًا فَاقْتَرَحُوا أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ فَضِيلَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جِلْسَةٍ خَاصَّةٍ. فَأَجَابَ فِي الْمَجْلِسِ قَائِلًا: لَقَدِ اجْتَمَعْنَا لِلْعَمَلِ عَلَى جَمْعِ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ وَتَرَابُطِهِمْ أَمَامَ خَطَرِ عَدُوِّهِمْ، وَنَحْنُ الْآنَ مُجْتَمِعُونَ مَعَ الشِّيعَةِ فِي أُصُولٍ هِيَ: الْإِسْلَامُ دِينُ الْجَمِيعِ وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ الْجَمِيعِ، وَالْقُرْآنُ كِتَابُ اللَّهِ، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْجَمِيعِ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَمُجْتَمِعُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَتْلٍ وَشُرْبٍ وَزِنًا وَسَرِقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّرَابُطِ. وَهُنَاكَ أُمُورٌ نَعْلَمُ جَمِيعًا أَنَّنَا نَخْتَلِفُ فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا مَثَارُ بَحْثِهَا، فَإِنْ رَغِبَ الْعُضْوُ الْإِيرَانِيُّ بَحْثَهَا وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ فِيهَا فَلْيَخْتَرْ مِنْ عُلَمَائِهِمْ جَمَاعَةً وَنَخْتَارُ لَهُمْ جَمَاعَةً وَيَبْحَثُونَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ وَيُعْلَنُ الْحَقُّ وَيُلْتَزَمُ بِهِ. أَوْ يَسْحَبُ طَلَبَهُ الْآنَ. فَأَقَرَّ الْجَمِيعُ قَوْلَهُ وَسَحَبَ الْعُضْوُ طَلَبَهُ. وَهَكَذَا كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَكِيمًا فِي تَعْلِيمِهِ حَكِيمًا فِي دَعْوَتِهِ حَكِيمًا فِي بَحْثِهِ وَإِقْنَاعِهِ. وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ كُلَّ الْوُضُوحِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ. مُؤَلَّفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُؤَلَّفٍ يَحْكِي شَخْصِيَّةَ مُؤَلِّفِهِ فِي عِلْمِهِ وَفِي عَقْلِهِ بَلْ وَفِي اتِّجَاهِهِ كَمَا قَالُوا: مَنْ أَلَّفَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ، أَيْ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ مَا عِنْدَهُ عَلَى أَنْظَارِ النَّاسِ. وَلِلشَّيْخِ تَآلِيفٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا فِي بِلَادِهِ وَمِنْهَا هُنَا. فَمَا كَانَ فِي بِلَادِهِ هُوَ: 1 - فِي أَنْسَابِ الْعَرَبِ نَظْمًا، أَلَّفَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: سَمَّيْتُهُ بِخَالِصِ الْجُمَانِ فِي ذِكْرِ أَنْسَابِ بَنِي عَدْنَانَ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ دَفَنَهُ قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى نِيَّةِ التَّفَوُّقِ عَلَى الْأَقْرَانِ، وَقَدْ لَامَهُ مَشَايِخُهُ عَلَى دَفْنِهِ وَقَالُوا: كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ تَحْوِيلُ النِّيَّةِ وَتَحْسِينُهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 2 - رَجَزٌ فِي فُرُوعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ يَخْتَصُّ بِالْعُقُودِ فِي الْبُيُوعِ وَالرُّهُونِ، وَهُوَ آلَافٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ نَدَبَا ... لِأَنْ نَمِيزَ الْبَيْعَ عَنْ لَبْسِ الرِّبَا وَمَنَّ بِالْمُؤَلِّفِينَ كُتُبًا ... تَتْرُكُ أَطْوَادَ الْجَهَالَةِ هَبًّا تَكْشِفُ عَنْ عَيْنِ الْفُؤَادِ الْحُجُبَا ... إِذَا حِجَابٌ دُونَ عِلْمٍ ضُرِبَا 3 - أَلْفِيَّةٌ فِي الْمَنْطِقِ - أَوَّلُهَا: حَمْدًا لِمَنْ أَظْهَرَ لِلْعُقُولِ ... حَقَائِقَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَكَشَفَ الرَّيْنَ عَنِ الْأَذْهَانِ ... بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ وَفَتَحَ الْأَبْوَابِ لِلْأَلْبَابِ ... حَتَّى اسْتَبَانَتْ مَا وَرَاءَ الْبَابِ 4 - نَظْمٌ فِي الْفَرَائِضِ: أَوَّلُهَا: تِرْكَةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْخَامِصِ ... مِنْ خَمْسَةٍ مَحْصُورَةٍ عَنْ سَادِسِ وَحَصْرُهَا فِي الْخَمْسَةِ اسْتِقْرَاءٌ ... وَانْبِذْ لِحَصْرِ الْعَقْلِ بِالْعَرَاءِ أَوَّلُهَا الْحُقُوقُ بِالْأَعْيَانِ ... تَعَلَّقَتْ كَالرَّهْنِ أَوْ كَالْجَانِي وَكَزَكَاةِ التَّمْرِ وَالْحُبُوبِ ... إِنْ مَاتَ بَعْدَ زَمَنِ الْوُجُوبِ وَكُلُّ هَذِهِ الْمُؤَلَّفَاتِ مَخْطُوطَةٌ. أَمَّا مُؤَلَّفَاتُهُ هُنَا فَهِيَ: 1 - مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ. وَمَوْضُوعُهَا إِبْطَالُ إِجْرَاءِ الْمَجَازِ فِي آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِيفَاؤُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا بَعْدُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ. 2 - دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيِ الْكِتَابِ، أَبَانَ فِيهِ مَوَاضِعَ مَا يُشْبِهُ التَّعَارُضَ فِي الْقُرْءَانِ كُلِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وَأَنَّ السُّؤَالَ مُتَنَوِّعٌ وَالْمَوَاقِفَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ طُبِعَ وَمَا قَبْلَهُ وَنَفِدَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 3 - مُذَكِّرَةُ الْأُصُولِ عَلَى رَوْضَةِ النَّاظِرِ: جَمَعَ فِي شَرْحِهَا أُصُولَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَالَتَالِي الشَّافِعِيَّةِ. مُقَرَّرَةٌ عَلَى كُلِّيَّتَيِ الشَّرِيعَةِ وَالدَّعْوَةِ. 4 - آدَابُ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ: أَوْضَحَ فِيهِ آدَابَ الْبَحْثِ مِنْ إِيرَادِ الْمَسَائِلِ وَبَيَانِ الدَّلِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهُوَ أَيْضًا مُقَرَّرٌ فِي الْجَامِعَةِ وَمِنْ جُزْأَيْنِ. 5 - أَضْوَاءُ الْبَيَانِ لِتَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ بِالْقُرْءَانِ: وَهُوَ مَدْرَسَةٌ كَامِلَةٌ يَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِهِ، طُبِعَ مِنْهُ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ كِبَارٍ وَالسَّابِعُ تَحْتَ الطَّبْعِ، وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى نِهَايَةِ «قَدْ سَمِعَ» . وَلَعَلَّ اللَّهَ يُسَيِّرُ وَيُوَفِّقُ مَنْ يَعْمَلُ إِلَى إِكْمَالِهِ وَلَوْ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ. وَمِنْ عَجِيبِ الصُّدَفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَهُنَا الْعَدِيدُ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ ذَاتِ الْمَوَاضِيعِ الْمُسْتَقِلَّةِ طُبِعَتْ كُلُّهَا وَنَفِدَتْ وَهِيَ: 1 - آيَاتُ الصِّفَاتِ: أَوْضَحَ فِيهَا تَحْقِيقَ إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ. 2 - حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ: عَالَجَ فِيهَا الْعَدِيدَ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهِ. 3 - الْمُثُلُ الْعُلْيَا: بَيَّنَ فِيهَا الْمِثَالِيَّةَ فِي الْعَقِيدَةِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْأَخْلَاقِ. 4 - الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ: بَيَّنَ فِيهَا ضَابِطَ اسْتِعْمَالِهَا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. 5 - حَوْلَ شُبْهَةِ الرَّقِيقِ: رَفَعَ اللَّبْسَ عَنِ ادِّعَاءِ اسْتِرْقَاقِ الْإِسْلَامِ لِلْأَحْرَارِ. 6 - عَلَى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، أَلْقَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ الْخَامِسِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ لِلْمَدِينَةِ، وَكُلُّهَا عَامَّةً نَافِعَةٌ جَدِيدَةٌ. وَبِالتَّالِي فَقَدْ كَانَ لِمَنْهَجِهِ الْعِلْمِيِّ فِي أَبْحَاثِهِ وَتَدْرِيسِهِ وَفِي مُؤَلَّفَاتِهِ إِحْيَاءٌ لِعُلُومٍ دَرَسَتْ وَتَصْحِيحٌ لِمَفَاهِيمَ اخْتَلَفَتْ. فَمِمَّا أَحْيَا مِنَ الْعُلُومِ عِلْمُ الْأُصُولِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَالِاجْتِهَادُ التَّرْجِيحُ وَعُمْدَةُ الْمُجْتَهِدِ وَعِمَادُهُ، وَبِجَهْلِهِ لَا يَحِقُّ الِاجْتِهَادُ وَيَجِبُ التَّقْلِيدُ الْمَحْضُ. كَمَا يَقُولُونَ: جَهَلَةُ الْأُصُولِ عَوَامُّ الْعُلَمَاءِ: فَفَتَحَ - أَبْوَابَهُ وَسَهَّلَ صِعَابَهُ وَأَوْضَحَ قَوَاعِدَهُ، وَقَرَّبَ تَنَاوُلِهِ تَسْهِيلًا لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَصَادِرِهَا وَرَدِّ الْفُرُوعِ إِلَى أُصُولِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 كَمَا أَحْيَا آدَابَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَوَضَعَ مَنْهَجُهُ وَأَلَّفَ مُقَرَّرَهُ فَكَانَ خِدْمَةً لِلْعَقِيدَةِ فِي أُسْلُوبِ بَيَانِهَا، وَكَيْفِيَّةِ إِثْبَاتِهَا وَالدِّفَاعِ عَنْهَا وَطُرُقِ الْإِقْنَاعِ بِمَا فِيهِ الْخِلَافُ. كَمَا فَتَحَ أَبْوَابًا جَدِيدَةً وَأَحْدَثَ فُنُونًا طَرِيفَةً فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ مِنْ مِنْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ، إِثْبَاتًا لِمَعَانِي آيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَسَدَّ بَابَ تَعْطِيلِهَا عَنْ دَلَالَتِهَا إِجْرَاءً لِلنَّصِّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِ فِي دَلَالَتِهِ. وَمِنْ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَصْدِيقِ آيِ الْكِتَابِ بَعْضَهُ بَعْضًا بِدُونِ تَعَارُضٍ وَلَا إِشْكَالٍ. وَمِنْ تَسْلِيطِ أَضْوَاءِ الْبَيَانِ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ بِالْقُرْءَانِ رَسَمَ فِيهِ الْمَنْهَجَ السَّلِيمَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَبَانَ أَحْكَامَهُ وَحُكْمَهُ وَفَتَحَ كُنُوزَهُ وَأَطْلَعَ نَفَائِيهِ وَنَشَرَ دُرَرَهُ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ. وَكُلُّ ذَلِكَ فَتْحٌ جَدِيدٌ فِي عُلُومِ الْقُرْءَانِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عَلَى هَذَا النَّسَقِ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُنْ تُدْرَسُ بِهَذَا الْمَثَلِ. كَمَا أَنَّهُ فِي غُضُونِهَا صَحَّحَ مَفَاهِيمَ مُخْتَلِفَةً مِنْهَا أَنَّ الْمَنْطِقَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ وَمُصَادَمَةُ النَّصِّ بِالرَّأْيِ، وَكَانَ فِعْلًا وَسِيلَةَ التَّشْكِيكِ فِي الْعَقِيدَةِ بِاسْتِخْدَامِ قَضَايَا عَقِيمَةٍ. فَهَذَّبَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَبْحَاثِهِ وَأَحْسَنَ بِاسْتِخْدَامِهِ فَنَظَّمَ قَضَايَاهُ الْمُنْتِجَةَ وَرَتَّبَ أَشْكَالَهُ السَّلِيمَةَ وَاسْتَخْدَامَ قِيَاسَهُ فِي الْإِلْزَامِ. سَوَاءٌ فِي الْعَقِيدَةِ أَوْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَبَعْدَ أَنْ كَانَ يُسْتَخْدَمُ ضِدَّهَا أَصْبَحَ يَعْمَلُ فِي خِدْمَتِهَا. كَمَا وَضَّحَ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ. مَوَاقِفُهُ مَعَ الْحَقِّ: كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوِيًّا صُلْبًا لَيِّنًا سَهْلًا. كَانَ قَوِيًّا صُلْبًا فِي بَيَانِهِ، لَيِّنًا سَهْلًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَا ظَهَرَ إِلَيْهِ مِنْهُ. فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ الَّتِي حَجَجْتُهَا مَعَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِمْنَا مَكَّةَ يَوْمَ سَبْعٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَكَانَ مُفَرِدًا الْحَجَّ، وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ صَحِبْتُهُ لِلسَّلَامِ عَلَى سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رَحِمَهُ اللَّهُ بِمِنًى، فَسَأَلَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ نُسُكِهِ فَقَالَ: جِئْتُ مُفْرِدًا الْحَجَّ وَقَصْدًا فَعَلْتُ، فَأَدْرَكَ الْمُفْتِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَكِنْ تَلَطَّفَ مَعَ الشَّيْخِ وَقَالَ: أَهْوَ أَفْضَلُ عِنْدَكَ حَفِظَكَ اللَّهُ؟ فَأَجَابَ أَيْضًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 حَفِظَكُمُ اللَّهُ لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ فَعَلْتُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ وَتَأَكَّدَ عِنْدِي أَنَّ أَشْخَاصًا يَنْتَمُونَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ لَا يَصِحُّ الْإِفْرَادُ بِالْحَجِّ وَيُلْزِمُونَ الْمُفْرِدِينَ بِالتَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ. وَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْعَدِيدِ مِنْ وُفُودِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، كُلٌّ بِمَا اخْتَارَ مَنْ نُسُكٍ وَكُلٌّ يَعْمَلُ بِمَذْهَبٍ صَحِيحٍ، وَجَرَتْ مُحَادَثَةٌ مِنْ أَنْفَسِ مَا سَمِعْتُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْبَحْثِ مِنْ مُنَاقَشَةِ الْأَدِلَّةِ وَبَيَانِ الرَّاجِحِ. وَأَخِيرًا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ لَا يَعْنِينِي بَيَانُ الْأَفْضَلِ فَهَذَا أَمْرٌ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَكُلٌّ يَخْتَارُ مَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ. وَلَكِنْ يَعْنِينِي إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ إِفْرَادِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى صِحَّتِهِ. فَمَا كَانَ مِنْ سَمَاحَةِ الْمُفْتِي رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنِ اسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَدَعَا لَهُ. وَلَكَأَنِيٍّ بِهَذَا الْعَمَلِ مِنَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْبَيَانَ عَمَلِيًّا صُورَةً مِمَّا وَقَعَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَمَا بَلَغَهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَنْهَى عَنِ التَّمَتُّعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: كَيْفَ تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ فَعَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا وَعُمْرَةً. أَمَّا لِينُهُ مَعَ الْحَقِّ وَرُجُوعُهُ إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ، فَفِي آخِرِ دُرُوسِهِ فِي الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ فِي رَمَضَانَ الْمَاضِي فِي سُورَةِ «بَرَاءَةٌ» أَعْلَنَ عَنْ رُجُوعِهِ عَنِ الْقَوْلِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَقَالَ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ مَنْسُوخَةً. وَكُنَّا نَقُولُ بِنَسْخِهَا فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ لَنَا بِالتَّأَمُّلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهِ. وَمِمَّا وَقَعَ لِي مَعَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْبَرْتُهُ فِيهِ تَوَاضُعُهُ وَإِنْصَافُهُ سَمِعْتُ مِنْهُ فِي مَبْحَثِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ عِنْدَ سَرْدِ الْأَدِلَّةِ وَمُنَاقَشَتِهَا، أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُوجِبِينَ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الْيَمَنِيَّةِ وَمَعَهَا ابْنَتُهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَسَأَلَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا. فَقَالَ: هُمَا حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ. فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْ بِهِمَا. وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إِبَاحَةِ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، فَتَسَاءَلْتُ مُسْتَوْضِحًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَاذَا يُسَمَّى هَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكُوتُهُ عَنْ لُبْسِهِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَسُؤَالُهُ عَنْ زَكَاتِهِ، فَقَالَ: عَجَبًا إِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ وُجُودَ اللُّبْسِ عِنْدَ السُّؤَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ آنَذَاكَ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يَسْكُتَ عَلَى لُبْسِهَا إِيَّاهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَيَهْتَمُّ لِزَكَاتِهِ وَلَوْ أُعِيدَ طَبْعُ الْكِتَابِ لَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ رَغْمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَرَاجِعِ لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَهُوَ بِهَذَا يُلَقِّنُ طَلَبَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 الْعِلْمِ دَرْسًا فِي مَوْقِفِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَلَكَأَنِيٍّ بِكَلَامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ لِأَبِي مُوسَى رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَظَهَرَ لَكَ الْحَقُّ، أَنْ تَأْخُذَ بِهِ، فَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ قَبْلُ لِلشَّافِعِيِّ الْقَدِيمَ وَالْجَدِيدَ. وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ إِنْصَافُ الْعُلَمَاءِ وَأَمَانَةُ الْعِلْمِ. هَذَا مَا وَسِعَنِي ذِكْرُهُ عَنْ حَيَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ فِي نَشْأَتِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَعَنْ تُرَاثِهِ الْعِلْمِيِّ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ وَآثَارِهِ التَّرْبَوِيَّةِ فِي أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً. وَلَعَلَّ مِنْ أَبْنَائِهِ الْحُضُورِ أَوْ غَيْرِهِمْ مَنْ لَدَيْهِ الْمَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا النَّاحِيَةُ الشَّخْصِيَّةُ: فِي تَقْوِيمِهِ الشَّخْصِيِّ لِسُلُوكِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَآدَابِهِ، وَكَرْمِهِ، وَعِفَّتِهِ، وَزُهْدِهِ وَتَرَفُّعِ نَفْسِهِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ. فَهَذَا مَا يَسْتَحِقُّ أَنَّ يُفْرَدَ بِحَدِيثٍ، وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ تَصْوِيرَهُ وَلَا يَسَعُنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ تَفْصِيلُهُ. وَمَا كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ لَوْ أَنَّ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَكْرُمَاتِ وَالشِّيَمِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الرِّجَالِ عُنْوَانًا يَجْمَعُهَا لَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ. وَإِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ يُعَنْوِنُونَ لِأُصُولِ الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ بِالْمُرُوءَةِ فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ كَانَتْ شِعَارَهُ وَدِثَارَهُ. وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي تَحْكُمُهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ سَوَاءٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَعَ إِخْوَانِهِ وَطُلَّابِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ، مَنْ عَرَفَهُمْ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ. وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِ: إِنَّهُ لَا عَيْبَ فِيهِ سِوَى عَيْبٍ وَاحِدٍ، هُوَ أَنَّنَا نَفْقِدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِنَّ تَفْصِيلَ ذَلِكَ لَمَتْرُوكٌ لِمَنْ خَالَطَهُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدِ اسْتَعْصَى عَلَيَّ الْمُقَالُ فِي ذَلِكَ وَلِكَأَنِيٍّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: أَهَابُكَ إِجْلَالًا وَمَا بِكَ سُلْطَةٌ ... عَلَيَّ وَلَكِنْ مَلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا وَلَكِنْ قَدْ تَكْفِي الْإِشَارَةُ إِذَا لَمْ تُسْعِفِ الْعِبَارَةُ. وَأَقْرَبُ شَيْءٍ زُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا وَعِفَّتُهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَرَمُهُ بِمَا فِي يَدِهِ: لِأَنَّ هَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا لِمَنْ خَالَطَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَطَهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ مَنْ دَاخَلَهُ وَلَازَمَهُ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ تُسَاوِي عِنْدَهُ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ لَهَا. وَمُنْذُ وُجُودِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ وَصِلَتِهِ بِالْحُكُومَةِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا لَمْ يَطْلُبْ عَطَاءً وَلَا مُرَتَّبًا وَلَا تَرْفِيعًا لِمُرَتَّبِهِ وَلَا حُصُولًا عَلَى مُكَافَأَةٍ أَوْ عِلَاوَةٍ وَلَكِنْ مَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَخَذَهُ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 لِيَسْتَبْقِيَهُ بَلْ يُوَزِّعُ فِي حِينِهِ عَلَى الْمُعْوِزِينَ مِنْ أَرَامِلَ وَمُنْقَطِعِينَ، وَكُنْتُ أَتَوَلَّى تَوْزِيعَهُ وَإِرْسَالَهُ مِنَ الرِّيَاضِ إِلَى كُلٍّ مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَمَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَكَانَ مُسْتَغْنِيًا بِعِفَّتِهِ وَقَنَاعَتِهِ. بَلْ إِنَّ حَقَّهُ الْخَاصَّ لَيَتْرُكُهُ تَعَفُّفًا عَنْهُ كَمَا فَعَلَ فِي مُؤَلَفَّاتِهِ وَهِيَ فَرِيدَةٌ فِي نَوْعِهَا، لَمْ يَقْبَلِ التَّكَسُّبَ بِهَا وَتَرَكَهَا لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَقَدْ جِئْتُ مَعِي مِنَ الْبِلَادِ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ يَكْفِينِي مَدَى الْحَيَاةِ وَأَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْقَنَاعَةُ. وَكَانَ شِعَارُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: الْجُوعُ يُطْرَدُ بِالرَّغِيفِ الْيَابِسَهْ ... فَعَلَامَ تَكْثُرُ حَسْرَتِي وَوَسَاوِسِي وَكَانَ اهْتِمَامُهُ بِالْعِلْمِ عِنْدَهُ آلَةً وَوَسِيلَةً، وَعِلْمُ الْكِتَابِ وَحْدَهُ غَايَةٌ. وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِ الْأَدِيبِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الْحَسَنِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَسُؤْ بِالْحِلْمِ ظَنًّا يَا فَتَى ... إِنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ عَطَبْ لَا يُزَهِّدْكَ أَحَدٌ فِي الْعِلْمِ إِنْ ... غَمَرَ الْجُهَّالُ أَرْبَابَ الْأَدَبْ إِنْ تَرَ الْعَالِمَ نِضْوًا مِرْمَلًا ... صِفْرَ كَفٍّ لَمْ يُسَاعِدْهُ سَبَبْ وَتَرَى الْجَاهِلَ قَدْ حَازَ الْغِنَى ... مُحْرِزَ الْمَأْمُولِ مِنْ كُلِّ أَرَبْ قَدْ تَجُوعُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا ... وَالذِّئَابُ الْغُبْشُ تَعْتَامُ الْقَتَبْ جَرِّعِ النَّفْسَ عَلَى تَحْصِيلِهِ ... مَضَضَ الْمُرَّيْنِ ذُلٌّ وَسَغَبْ لَا نَهَابُ الشَّوْكَ قِطَافَ الْجَنَى ... وَإِبَارَ النَّحْلِ مُشْتَارَ الضَّرَبْ حَقَا إِنَّهُ لِمَ يُسِئْ بِالْعِلْمِ ظَنًّا، وَلَمْ يَهَبْ فِي تَحْصِيلِهِ شَوْكَ النَّخْلِ وَلَا إِبَارَ النَّحْلِ، فَنَالَ مِنْهُ مَا أَرَادَ وَاقْتَحَمَ الْحِمَى عَلَى عَذَارَى الْمَعَانِي وَأَبَاحَ حَرِيمَهَا جَبْرًا عَلَيْهَا وَمَا كَانَ الْحَرِيمُ بِمُسْتَبَاحٍ. أَمَّا مَكَارِمُ أَخْلَاقِهِ وَمُرَاعَاةُ شُعُورِ جُلَسَائِهِ، فَهَذَا فَوْقَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَمُذْ صَحِبْتُهُ لَمْ أَسْمَعَ مِنْهُ مُقَالًا لِأَيِّ إِنْسَانٍ وَلَوْ مُخْطِئٍ عَلَيْهِ يَكُونُ فِيهِ جَرْحٌ لِشُعُورِهِ، وَمَا كَانَ يُعَاتِبُ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّغَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَحِينَمَا كُنْتُ أُسَائِلُهُ فِي ذَلِكَ يَقُولُ: لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ ... لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي وَلَمْ يَكُنْ يَغْتَابُ أَحَدًا أَوْ يَسْمَحُ بِغَيْبَةِ أَحَدٍ فِي مَجْلِسِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ لِإِخْوَانِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 (اتكايسوا) أَيْ مِنَ الْكِيَاسَةِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ خَطَرِ الْغَيْبَةِ وَيَقُولُ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ يَأْتِي فِي صَحِيفَتِهِ، فَلَا يَأْتِي فِيهَا إِلَّا الشَّيْءُ الطَّيِّبُ. وَمِمَّا لُوحِظَ عَلَيْهِ فِي سَنَوَاتِهِ الْأَخِيرَةِ تَبَاعُدُهُ عَنِ الْفُتْيَا، وَإِذَا اضْطُرَّ يَقُولُ: لَا أَتَحَمَّلُ فِي ذِمَّتِي شَيْئًا، الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا. وَسَأَلْتُهُ مَرَّةً عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ فِي عَافِيَةٍ مَا لَمْ يُبْتَلَ وَالسُّؤَالُ ابْتِلَاءٌ، لِأَنَّكَ تَقُولُ عَنِ اللَّهِ وَلَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ أَمْ لَا. فَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَصٌّ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ التَّحَفُّظُ فِيهِ. وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا قَتَلْتَ الشَّيْءَ عِلْمًا فَقُلْ بِهِ ... وَلَا تَقُلِ الشَّيْءَ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ فَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا ... وَيَكْرَهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مُقَاتِلُهْ وَفِي الْجُمْلَةِ، فَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَيْرَ قُدْوَةٍ وَأَحْسَنَهَا فِي جَمِيعِ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ: فَكَانَ الْعَالِمَ الْعَامِلَ وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، وَقَدْ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ فَاضِلَيْنِ أَدِيبَيْنِ يَدْرُسَانِ بِكُلِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ، وَاللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يُسْكِنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ وَيُوَسِّعَ لَهُ فِي رِضْوَانِ رَحْمَتِهِ وَأَنْ يُعْلِيَ مَنْزِلَتَهُ وَيَرْفَعَ دَرَجَتَهُ مَعَ الْعُلَمَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَنَفَعَنَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَسَلَكَ بِنَا طَرِيقَةَ عَمَلِهِ بِمَا يُرْضِيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنَّا، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. . . . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 504